فصل: بَابُ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِمَوْلًى لَهُ أَرَقًا وَفِي رِوَايَةٍ (1) بَرَقًا: إنِّي أَحْلِفُ عَلَى قَوْمٍ أَنْ لَا أُعْطِيَهُمْ، ثُمَّ يَبْدُوَ لِي فَأُعْطِيَهُمْ، فَإِذَا أَنَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْلِفَ مُخْتَارًا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْمُتَشَفِّعَةُ: أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ}، وَلَكِنَّا نَقُولُ: قَدْ حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَانَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّهُ يُجَازِفُ فِي الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْبَرِّ وَالْحِنْثِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ إذَا رَأَى الْحِنْثَ خَيْرًا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يُحَمِّلَنَا، ثُمَّ رَجَعَ قَوْمٌ عِنْدَهُ بِخَمْسِ ذَوْدٍ، وَقَالُوا: حَمَلَنَا عَلَيْهَا.
فَقُلْتُ: لَعَلَّهُ نَسِيَ يَمِينَهُ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ.
قَالَ: إنِّي أَحْلِفُ ثُمَّ أَرَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَأَتَحَلَّلُ يَمِينِي، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ أَوَانَ التَّكْفِيرِ مَا بَعْدَ الْحِنْثِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَأَنَّ مَا رُوِيَ فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ثُمَّ يَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ؛ لِأَنَّ ثُمَّ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا}، أَيْ وَكَانَ {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ}، أَيْ وَاَللَّهُ شَهِيدٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالتَّكْفِيرِ جَائِزٌ.
بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: أَنَّهُ لَا تَوْكِيلَ فِي الْعِبَادَةِ أَصْلًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى}، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمَقْصُودُ فِيمَا هُوَ مَالِيُّ الِابْتِدَاءِ بِإِخْرَاجِ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ عَنْ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالنَّائِبِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْوَظِيفَةَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَذُكِرَ بَعْدَهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ مِثْلُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ دَقِيقَ الْحِنْطَةِ وَسَوِيقَهَا بِمَنْزِلَةِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لِلْفَقِيرِ بِهِمَا مَعَ سُقُوطِ مُؤْنَةِ الطَّحْنِ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ، سَوَاءٌ كَانَ خُبْزُ الْبُرِّ مَعَ الطَّعَامِ أَوْ بِغَيْرِ إدَامٍ، وَإِنْ أَعْطَى قِيمَةَ الطَّعَامِ يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ إنْ غَدَّاهُمْ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ الْعَشَاءِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَاحِدٌ، وَقَدْ أَتَى مِنْ كُلِّ وَظِيفَةٍ بِنِصْفِهِ، وَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ، وَفِيهِمْ صَبِيٌّ فُطِمَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يُجْزِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي كَمَالَ الْوَظِيفَةِ كَمَا يَسْتَوْفِيهِ الْبَالِغُ، وَعَلَيْهِ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ مَكَانَهُ، فَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِمْ مُدًّا مُدًّا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ اسْتَقْبَلَ الطَّعَامَ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِيصَالِ وَظِيفَةٍ كَامِلَةٍ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ، وَذَلِكَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ عَشَرَةُ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، فَغَدَّى الْوَصِيُّ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، ثُمَّ مَاتُوا قَبْلَ أَنْ يُعَشِّيَهُمْ، فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ؛ لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ فِي طَعَامِ الْإِبَاحَةِ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ، فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إلَّا بِاتِّصَالِ وَظِيفَةٍ كَامِلَةٍ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ، وَلَا يَكُونُ الْوَصِيُّ ضَامِنًا لِمَا أَطْعَمَ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا صَنَعَ كَانَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِهِ، وَكَانَ بَقَاؤُهُمْ إلَى أَنْ يُعَشِّيَهُمْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ عَشَرَةُ مَسَاكِينَ غَدَاءً وَعَشَاءً، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ فَغَدَّى الْوَصِيُّ عَشَرَةً فَمَاتُوا فَإِنَّهُ يُعَشِّي عَشَرَةً أُخْرَى، وَيَكْفِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ أَكْلَتَانِ فَقَطْ دُونَ إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ بِهِمَا، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ الظِّهَارِ أَنَّ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ فِي الْأَيَّامِ الْمُتَفَرِّقَةِ كَالْمَسَاكِينِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ تَفْرِيقِ الدَّفَعَاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ، فَكَذَلِكَ فِي الْيَمِينِ.
وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ إطْعَامَ فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْكَفَّارَةِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَنْذُورِ وَالْكَفَّارَةِ فَقَالَ: إذَا نَذَرَ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ فُقَرَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، إنَّمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ فِي الْكَفَّارَةِ فُقَرَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ اعْتِبَارًا لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ بِالزَّكَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الْكَفَّارَةِ إلَى مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ.
وَلَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، وَكَسَا خَمْسَةَ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ، إنْ كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ مِنْ الْكِسْوَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ مِنْ الطَّعَامِ لَمْ يُجْزِئْ مَا لَا يُجْزِئُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ، فَلَوْ جَوَّزْنَا إطْعَامَ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ وَكِسْوَةَ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ كَانَ نَوْعًا رَابِعًا، فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَنِصْفَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَاحِدٌ، وَهُوَ سَدُّ الْجَوْعَةِ، فَلَا يَصِيرُ نَوْعًا رَابِعًا، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ مِنْ الْكِسْوَةِ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الطَّعَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ تُجْزِئُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَوْ جَوَّزْنَا النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ نَوْعًا رَابِعًا، ثُمَّ مُرَادُهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّمْكِينِ دُونَ التَّمْلِيكِ، فَإِنَّ التَّمْلِيكَ فَوْقَ التَّمْكِينِ، وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ مِنْ الْكِسْوَةِ أَمْكَنَ إكْمَالُ التَّمْكِينِ بِالتَّمْلِيكِ، فَتَجُوزُ الْكِسْوَةُ مَكَانَ الطَّعَامِ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الطَّعَامِ مَقَامَ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَفِي الْكِسْوَةِ التَّمْلِيكُ مُعْتَبَرٌ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْكِسْوَةِ مَقَامَ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ، فَأَمَّا إذَا مَلَّكَ الطَّعَامَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، وَكَسَا خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ تُقَامُ الْكِسْوَةُ مَقَامَ الطَّعَامِ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ، يُقَامُ الطَّعَامُ مَقَامَ الْكِسْوَةِ لِوُجُودِ التَّمْلِيكِ فِيهَا، إلَيْهِ أَشَارَ فِي بَابِ الْكِسْوَةِ بَعْدَ هَذَا.
وَلَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ، ثُمَّ افْتَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الصِّيَامَ؛ لِأَنَّ إكْمَالَ الْأَصْلِ بِالْبَدَلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْمَسَاكِينِ الْخَمْسَةِ مَا أَعْطَاهُمْ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ قَدْ تَمَّتْ بِالْوُصُولِ إلَى يَدِ الْمَسَاكِينِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا أَوْ ثَوْبٌ يَلْبَسُهُ، وَلَا يَجِدُ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَسْكَنَ وَالثِّيَابَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ وَاجِدًا لِمَا يُكَفِّرُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ يَخْدُمُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَعَيَّشُ مِنْ غَيْرِ خَادِمٍ لَهُ؛ وَلِأَنَّ الرَّقَبَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَمَعَ وُجُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ لَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ، وَفِي الْكِتَابِ عِلَلٌ فَقَالَ: لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْأَمَالِي، أَنَّهُ إذَا كَانَ الْفَاضِلُ مِنْ حَاجَتِهِ دُونَ مَا يُسَاوِي مِائَتَيْنِ يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ، فَلَا يَكُونُ مُوسِرًا وَلَا غَنِيًّا، فَأَمَّا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَمْلِكُ فَضْلًا عَنْ حَاجَتِهِ مِقْدَارَ مَا يُكَفِّرُ بِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْوُجُودُ دُونَ الْغِنَى وَالْيَسَارِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} وَهَذَا وَاجِدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِعْتَاقِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ مِلْكُهُ مِقْدَارَ مَا يُؤَدِّي بِهِ الضَّمَانَ، وَإِنْ كَانَ الْيَسَارُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى، وَبَيَّنَّا فِي الظِّهَارِ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا عَنْ ظِهَارَيْنِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا عَنْ أَحَدِهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْكَفَّارَةِ، فَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ كِسْوَتُهُ وَهُوَ مَا يَصِيرُ بِهِ مُكْتَسِيًا، وَبِعُشْرِ الثَّوْبِ لَا يَكُونُ مُكْتَسِيًا، وَيُجْزِي مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَ الثَّوْبُ يُسَاوِيهِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُجْزِيهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْكِسْوَةَ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ، وَهُوَ إنَّمَا نَوَاهُ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ بَدَلًا عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِنِيَّةٍ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ نَاوٍ لِلتَّكْفِيرِ بِهِ وَذَلِكَ يَكْفِيهِ، كَمَا لَوْ أَدَّى الدَّرَاهِمَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ يُجْزِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: الدَّرَاهِمُ لَيْسَتْ بِأَصْلٍ فَأَدَاؤُهَا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ يَكُونُ قَصْدًا إلَى الْبَدَلِ، فَأَمَّا الْكِسْوَةُ أَصْلٌ فَأَدَاؤُهَا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ لَا يَكُونُ قَصْدًا إلَى جَعْلِهَا بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ عُشْرُ الثَّوْبِ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي الْكِسْوَةِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، فَهُوَ وَأَدَاءُ الدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ.
مُسْلِمٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ، فَحَنِثَ فِيهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ الْتَحَقَ بِالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَلِهَذَا حَبِطَ عَمَلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}.
وَكَمَا أَنَّ الْكُفْرَ الْأَصْلِيَّ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِلْيَمِينِ الْمُوجِبَةِ لِلْكَفَّارَةِ، فَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ تُنَافِي بَقَاءَ الْيَمِينِ الْمُوجِبَةِ لِلْكَفَّارَةِ.
وَإِذَا جَعَلَ الرَّجُلُ لِلَّهِ عَلَى نَفْسِهِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى مِنْ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ وَكَيْلِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، وَهُوَ شَيْءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ طَعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ اعْتِبَارًا لِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ إطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَأَدْنَى ذَلِكَ عَشَرَةُ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، إلَّا أَنَّهُ إنْ قَالَ فِي نَذْرِهِ: إطْعَامُ الْمَسَاكِينِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الْكُلَّ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ جُمْلَةً، وَإِنْ قَالَ: طَعَامُ الْمَسَاكِينِ، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ يَلْتَزِمُ مِقْدَارًا مِنْ الطَّعَامِ، وَبِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ يَلْتَزِمُ الْفِعْلَ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِعْلٌ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ عَشَرَةٍ، وَيُعْطِي مِنْ الْكَفَّارَةِ مَنْ لَهُ الدَّارُ وَالْخَادِمُ؛ لِأَنَّهُمَا يَزِيدَانِ فِي حَاجَتِهِ فَالدَّارُ تُسْتَرَمُّ، وَالْخَادِمُ يُسْتَنْفَقُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى مِثْلِهِ، فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ يَمِينُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَهُوَ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ، وَمَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ، ثُمَّ ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الصَّاعِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ الْكِسْوَةِ:

(قَالَ): رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالْكِسْوَةُ ثَوْبٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ إزَارٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ أَوْ قَبَاءٌ أَوْ كِسَاءٌ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ}.
أَنَّهُ الْإِزَارُ فَصَاعِدًا مِنْ ثَوْبٍ تَامٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبٌ وَيُعْطِي فِي الْكِسْوَةِ الْقَبَاءَ، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبَيْنِ، فَإِنَّمَا يَقْصِدُ التَّبَرُّعَ بِأَحَدِهِمَا، فَأَمَّا الْوَاحِدُ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: أَدْنَاهُ ثَوْبٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، وَأَعْلَاهُ مَا شِئْت وَهَكَذَا؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ مَا يَكُونُ الْمَرْءُ بِهِ مُكْتَسِيًا، وَبِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ يَكُونُ مُكْتَسِيًا حَتَّى يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَالنَّاسُ يُسَمُّونَهُ مُكْتَسِيًا لَا عَارِيًّا وَالْمُرَادُ بِالْإِزَارِ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ كَالرِّدَاءِ، فَأَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لَا يَتِمُّ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لَا يُجْزِي، وَلَوْ كَسَا كُلَّ مِسْكِينٍ سَرَاوِيلَ، ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِهِ مُكْتَسِيًا شَرْعًا حَتَّى تَجُوزَ صَلَاتُهُ فِيهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ لَابِسَ السَّرَاوِيلِ وَحْدَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا لَا مُكْتَسِيًا، إلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ الطَّعَامَ، فَحِينَئِذٍ يُجْزِئُهُ مِنْ الطَّعَامِ إذَا نَوَاهُ، وَلَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الِاكْتِسَاءَ بِهِ لَا يَحْصُلُ، وَلَكِنَّهُ يُجْزِي مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَ نِصْفُ ثَوْبٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَلَوْ كَسَا كُلَّ مِسْكِينٍ قَلَنْسُوَةً، أَوْ أَعْطَاهُ نَعْلَيْنِ أَوْ خُفَّيْنِ لَا يُجْزِيهِ مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الِاكْتِسَاءَ بِهِ لَا يَحْصُلُ، وَإِنْ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِمَامَةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَبْلُغُ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الْعِمَامَةَ كِسْوَةُ الرَّأْسِ كَالْقَلَنْسُوَةِ، وَلَكِنْ يُجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ تُسَاوِي قِيمَةَ الطَّعَامِ.
وَلَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا بَيْنَهُمْ، وَهُوَ ثَوْبٌ كَثِيرُ الْقِيمَةِ، يُصِيبُ كُلُّ مِسْكِينٍ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْتَسِي بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يُجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ رُبْعَ صَاعِ حِنْطَةٍ، وَذَلِكَ يُسَاوِي صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ مِنْ الطَّعَامِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُدُّ مِنْ الْحِنْطَةِ يُسَاوِي ثَوْبًا كَانَ يُجْزِئُ مِنْ الْكِسْوَةِ دُونَ الطَّعَامِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِمَا أَبْهَمَهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الطَّعَامِ مَقَامَ الْكِسْوَةِ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ التَّمْكِينُ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَلَوْ أَعْطَى مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُجْزِهِ كَمَا فِي الطَّعَامِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَوْبًا حَتَّى اسْتَكْمَلَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ أَجْزَأَهُ كَمَا فِي الطَّعَامِ.
(فَإِنْ قِيلَ): الْحَاجَةُ إلَى الطَّعَامِ تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْكِسْوَةِ لَا تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
(قُلْنَا): نَعَمْ الْحَاجَةُ إلَى الْمَلْبُوسِ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّا أَقَمْنَا التَّمْلِيكَ مَقَامَهُ فِي بَابِ الْكِسْوَةِ، وَالتَّمْلِيكُ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَإِذَا أَقَامَ الشَّيْءَ مَقَامَ غَيْرِهِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ نَفْسِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمِلْكِ لَا نِهَايَةَ لَهَا، إلَّا أَنَّا لَا نُجَوِّزُ أَدَاءَ الْكُلِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً لِلتَّنْصِيصِ عَلَى تَفْرِيقِ الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ بِتَفْرِيقِ الْأَيَّامِ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ، وَقَدْ يَحْصُلُ أَيْضًا بِتَفَرُّقِ الدَّفَعَاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَعْلُومٌ، فَقَدَّرْنَا بِالْأَيَّامِ، وَجَعَلْنَا تَجَدُّدَ الْأَيَّامِ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ كَتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ تَيْسِيرًا.
وَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً قِيمَتُهُ تَبْلُغُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ أَجْزَأَهُ مِنْ الْكِسْوَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ أَدَّى الدَّرَاهِمَ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ، وَبَلَغَتْ قِيمَةَ الطَّعَامِ أَجْزَأَهُ مِنْ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مَعْلُومٌ، وَهُوَ سُقُوطُ الْوَاجِبِ بِهِ عَنْهُ، فَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِالطَّرِيقِ الْمُمْكِنِ، وَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ، وَأَخَذَهُ، فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ التَّكْفِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِ الْمِسْكِينِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ، وَلَوْ كَسَا عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَجْزَأَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِ عَنْهُ ثَمَنًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ، وَالْمِسْكِينُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ لِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الطَّعَامِ مِثْلَهُ فِي الظِّهَارِ، وَلَوْ كَسَاهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَرَضِيَ بِهِ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ تَمَّتْ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَدِّي، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا عَنْ غَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ وَلَوْ أَعْطَى عَنْ كَفَّارَةِ أَيْمَانِهِ فِي أَكْفَانِ الْمَوْتَى، أَوْ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ، أَوْ فِي قَضَاءِ دَيْنِ مَيِّتٍ، أَوْ فِي عِتْقِ رَقَبَةٍ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِالتَّمْلِيكِ إلَى الْفَقِيرِ لَا يَحْصُلُ بِهَذَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ.
(فَإِنْ قِيلَ) فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ: التَّمْلِيكُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ عِنْدَكُمْ حَتَّى يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ مِنْ الطَّعَامِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ.
(قُلْنَا): لَا يُعْتَبَرُ التَّمْلِيكُ عَنْ وُجُودِ مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْإِطْعَامِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ التَّمْلِيكِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ أَعْطَى مِنْهَا ابْنَ السَّبِيلِ مُنْقَطِعًا بِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِصَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَصْرِفَ الْكَفَّارَةِ مَنْ هُوَ مَصْرِفُ الزَّكَاةِ.
وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ يَمِينَانِ، فَكَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ ثَوْبَيْنِ عَنْهُمَا أَجْزَأَهُ عَنْ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الطَّعَامِ.
وَإِذَا كَسَا مِسْكِينًا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمِسْكِينُ، فَوَرِثَهُ هَذَا مِنْهُ، أَوْ اشْتَرَاهُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ وَهَبَهُ لَهُ لَمْ يَفْسُدْ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَدْ تَأَدَّى بِوُصُولِ الثَّوْبِ إلَى يَدِ الْمِسْكِينِ، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِمَا اعْتَرَضَ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الزَّكَاةِ نَظِيرَهُ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا، وَتُهْدِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُ: هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ»، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَسْبَابِ الْمِلْكِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنَتِهِ بِحَدِيقَةٍ لَهُ، ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرِثَهَا مِنْهَا، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ اللَّهَ قَبِلَ مِنْك صَدَقَتَكَ، وَرَدَّ عَلَيْكَ حَدِيقَتَكَ».
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.