فصل: بَابُ الصِّيَامِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الصِّيَامِ:

(قَالَ): وَإِذَا حَنِثَ الرَّجُلُ، وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ، فَإِنْ أَصْبَحَ فِي يَوْمٍ مُفْطِرًا، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ؛ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ صَوْمُ يَوْمٍ تَوَقَّفَ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النِّيَّةَ تَسْتَنِدُ إلَيْهِ، وَهَذَا فِيمَا يَكُونُ عَيْنًا فِي الْوَقْتِ دُونَ مَا يَكُونُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَإِذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ فِي هَذَا الصَّوْمِ لِمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَقْبِلَ؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَالِيَةً عَنْ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ، فَلَا تُعْذَرُ فِيهَا بِالْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الْحَيْضِ، بِخِلَافِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الصَّوْمِ، وَلَا يُجْزِي الصَّوْمُ عَنْ هَذَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، وَالصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ نَاقِصٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ مَا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، فَإِنْ كَانَ لِهَذَا الْمُعْسِرِ مَالٌ غَائِبٌ عَنْهُ، أَوْ دَيْنٌ، وَهُوَ لَا يَجِدُ مَا يُطْعِمُ أَوْ يَكْسُو وَلَا مَا يُعْتِقُ أَجْزَأَهُ أَنْ يَصُومَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قُدْرَتُهُ عَلَى الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ، فَمَا يَكُونُ دَيْنًا عَلَى مُفْلِسٍ، أَوْ غَائِبًا عَنْهُ، فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى التَّكْفِيرِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ الْغَائِبِ عَبْدٌ، فَحِينَئِذٍ لَا يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ فَإِنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ آبِقًا، وَهُوَ يَعْلَمُ حَيَاتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ بَعْدَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ، وَهَذَا غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَالٍ يُكَفِّرُ بِهِ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِيمَا إذَا كَفَّرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِالْمَالِ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَقُولُ: بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَيَسْتَدِلُّ بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا الْوُجُودُ دُونَ الْغِنَى، وَمَا لَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ بِالْمَالِ، فَهُوَ وَاجِدٌ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لِهَذَا، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَبَعْدَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مُسْتَحَقٌّ بِدَيْنِهِ، فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ، وَهُوَ يَخَافُ الْعَطَشَ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُسْتَحَقٌّ لِعَطَشِهِ فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّيَمُّمِ، وَإِنْ صَامَ الْعَبْدُ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ، فَعَتَقَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ، وَأَصَابَ مَالًا لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي الْحُرِّ الْمُعْسِرِ إذَا أَيْسَرَ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنْ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ كَانَ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ فَكَانَ هُوَ وَالْحُرُّ سَوَاءً.
وَلَوْ صَامَ رَجُلٌ سِتَّةَ أَيَّامٍ عَنْ يَمِينَيْنِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ دُونَ نِيَّةِ التَّمْيِيزِ، فَإِنَّ التَّمْيِيزَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ شَرْعًا مَا يَكُونُ مُفِيدًا، وَالصَّوْمُ فِي نَفْسِهِ أَنْوَاعٌ، فَلَا يَتَعَيَّنُ نَوْعٌ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَأَمَّا كَفَّارَاتُ الْأَيْمَانِ نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ فِيمَا بَيْنَهُمَا كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الْقَضَاءَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ نِيَّةُ تَعْيِينِ يَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ، ثُمَّ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ مِنْ حَيْثُ إنْ يَكُونَ هُنَاكَ، لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا أَوْ ثَوْبَيْنِ عَنْ يَمِينَيْنِ لَمْ يُجْزِ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَكُونُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَهُنَا الصَّوْمُ سِتَّةُ أَيَّامٍ عَنْ يَمِينَيْنِ، لَا يُتَصَوَّرُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنْ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُتَصَوَّرُ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ أُخْرَى، فَلِهَذَا جَازَ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَنْ كَفَّارَةٍ، وَوِزَانُ هَذَا مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ مَا لَوْ فَرَّقَ فِعْلَ الدَّفْعِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ، فَصَامَ لِإِحْدَاهُمَا، ثُمَّ أَطْعَمَ لِلْأُخْرَى لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فِي حَالِ وُجُودِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ مِنْ الْمَالِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّوْمَ بَعْدَ التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ عَنْ يَمِينٍ فَقَدْ صَارَ غَيْرَ وَاجِدٍ فِي حَقِّ الْيَمِينِ الْأُخْرَى، وَهُوَ نَظِيرُ مُحْدِثَيْنِ فِي سَفَرٍ، وَجَدَا مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارَ مَا يَكْفِي لِوُضُوءِ أَحَدِهِمَا، فَتَيَمَّمَ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ الْآخَرُ بِهِ، فَعَلَى مَنْ تَيَمَّمَ إعَادَةُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ مَا تَوَضَّأَ بِهِ الْآخَرُ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ فِي كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الصَّوْمِ الِابْتِدَاءُ بِمَا هُوَ شَاقٌّ عَلَى بَدَنِهِ، وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ زَيْدٍ بِأَدَاءِ عَمْرٍو.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابٌ مِنْ الْأَيْمَانِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى أَمْرٍ لَا يَفْعَلُهُ أَبَدًا، ثُمَّ حَلَفَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَا يَفْعَلُهُ أَبَدًا، ثُمَّ فَعَلَهُ، كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ يُبَاشِرُهُ بِمُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَهُوَ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَالثَّانِي فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَهُمَا عَقْدَانِ، فَبِوُجُودِ الشَّرْطِ مَرَّةً وَاحِدَةً يَحْنَثُ فِيهِمَا، وَهَذَا إذَا نَوَى يَمِينًا أُخْرَى، أَوْ نَوَى التَّغْلِيظَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّغْلِيظِ بِهَذَا يَتَحَقَّقُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ صِيغَةُ الْكَلَامِ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ الْكَفَّارَاتُ لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ خُصُوصًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَلَا تَتَدَاخَلُ، وَأَمَّا إذَا نَوَى بِالْكَلَامِ الثَّانِي الْيَمِينَ الْأَوَّلَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّكْرَارَ، وَالْكَلَامُ الْوَاحِدُ قَدْ يُكَرَّرُ فَكَانَ الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَذَا إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ صَدَقَةٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْنَا مِنْهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ مَذْكُورٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاَللَّهِ هَذَا إيجَابُ تَعْظِيمِ الْمُقْسَمِ بِهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، فَكَانَ الثَّانِي إيجَابًا كَالْأَوَّلِ فَلَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّكْرَارِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْإِخْبَارِ دُونَ الْإِيقَاعِ وَالْإِيجَابِ، وَإِذَا كَانَتْ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ بِحَجَّةٍ، وَالْأُخْرَى بِاَللَّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَحَجَّةٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَكْرَارِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ هُنَا فَانْعَقَدَتْ يَمِينَانِ وَقَدْ حَنِثَ فِيهِمَا بِإِيجَادِ الْفِعْلِ مَرَّةً فَيَلْزَمُهُ مُوجِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا إلَى وَقْتِ كَذَا، وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْصِيَةٌ يَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَرْتَفِعُ النَّهْيُ بِيَمِينِهِ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ مُنْعَقِدَةٌ فَإِذَا ذَهَبَ الْوَقْتُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْحِنْثُ فِيهَا بِفَوْتِ شَرْطِ الْبِرِّ فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ لَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا، وَذَلِكَ الْفِعْلُ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَنَحْوِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَى أَنْ يَمُوتَ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ بِفَوْتِ شَرْطِ الْبَرِّ، وَشَرْطُ الْبَرِّ بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْهُ فِي عُمْرِهِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْحِنْثُ بِفَوْتِ شَرْطِ الْبَرِّ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِتُقْضَى بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ بِسَائِرِ مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا.
وَإِذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ مُتَّصِلَةٍ مَعْطُوفَةٍ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَاسْتَثْنَى فِي آخِرِهَا كَانَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الْمَعْطُوفَةَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ، فَيُؤَثِّرُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي إبْطَالِهَا كُلِّهَا اعْتِبَارًا لِلْأَيْمَانِ بِالْإِيقَاعَاتِ، وَقِيلَ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَهُمَا لِإِبْطَالِ الْكَلَامِ، وَحَاجَةُ الْيَمِينِ الْأُولَى كَحَاجَةِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِثْنَاءُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ، فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّةً كَمَا لَوْ ذَكَرَ شَرْطًا آخَرَ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْأُولَى تَامَّةٌ بِمَا ذَكَرَ لَهَا مِنْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، فَلَا يَنْصَرِفُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ آخِرًا إلَيْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْجَامِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي أَوْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ إلَّا أَنْ أَرَى خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْكَلَامُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَإِيجَابًا، وَإِنْ قَالَ: إلَّا أَنْ لَا أَسْتَطِيعَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي مَا سَبَقَ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ فَهُوَ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ، وَأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي قَدْ اسْتَثْنَى بِهَا لَمْ تُوجَدْ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ فَإِنَّ مُوجِبَهُ الْكَفَّارَةُ، وَذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ فَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لَا يَدِينُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ النَّاسَ يُرِيدُونَ بِهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ ارْتِفَاعَ الْمَوَانِعِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: أَنَا مُسْتَطِيعٌ لِكَذَا وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَمْنَعُنِي مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا}.
وَفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، فَإِذَا كَانَ الظَّاهِرُ هَذَا، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ لَا يُدِينُهُ فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا يَعْرِضُ مِنْ الْبَلَايَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ يَمِينُهُ مَا لَمْ يَعْرِضْ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةُ الِاسْتِطَاعَةِ، فَهُوَ عَلَى أَمْرٍ يَعْرِضُ لَهُ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مَا لَمْ يَنْوِهِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ وَالْمُتَعَارَفُ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا رَجُلًا آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْنِي بِالِاسْتِثْنَاءِ الْيَمِينَيْنِ جَمِيعًا، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهِمَا لِكَوْنِهِ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ مَعْطُوفَةً عَلَى الْأُخْرَى، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ، وَلَكِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ هَذِهِ الْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ، وَذَلِكَ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْكُتْ بَيْنَ الْيَمِينَيْنِ كَانَ الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، أَوْ يَجْعَلُ الْوَاوَ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي لِلْعَطْفِ دُونَ الْقَسَمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ حَجَّةٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، وَعَلَيَّ عُمْرَةٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَكَلَّمَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا، عَبْدِي الْآخَرُ حُرٌّ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ كَلَّمَهُ عَبْدُهُ الْأَوَّلُ حُرٌّ فِي الْقَضَاءِ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ حَرْفَ الْعَطْفِ، فَانْعِدَامُ الِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا حُكْمًا، وَوُجِدَ الِاتِّصَالُ صُورَةً حِينَ لَمْ يَسْكُتْ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ نَوَى صَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَيْهِمَا كَانَ مَدِينًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلِاحْتِمَالِ وَلَا يَدِينُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى الْأَوَّلِ فَيَصِيرُ فَاصِلًا بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْكَلَامِ الْأَوَّلِ.
وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِكِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَهَذِهِ يَمِينٌ بِالْعِتْقِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْرَفُ بِالْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ عِتْقُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَا يَتَعَقَّبُ حَرْفَ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْفَاءُ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَحْلِفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ: إنْ حَلَفْت بِعِتْقِك فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَإِنَّ عَبْدَهُ يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ بِالْكَلَامِ الثَّانِي حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، يَذْكُرُ الشَّرْطَ، وَالْجَزَاءُ طَلَاقُهَا فَوُجِدَ بِهِ الشَّرْطُ فِي الْيَمِينِ الْأَوَّلِ، فَلِهَذَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ، وَلَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِعِتْقِ الْعَبْدِ كَانَ سَابِقًا عَلَى الْحَلِفِ بِطَلَاقِهَا، وَمَا يَكُونُ سَابِقًا عَلَى الْيَمِينِ لَا يَكُونُ شَرْطًا؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا يَقْصِدُ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا كَانَ سَابِقًا عَلَى يَمِينِهِ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى فَتَطْلُقُ وَاحِدَةً، ثُمَّ بِالْيَمِينِ الثَّالِثَةِ يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فَتَطْلُقُ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى لَا إلَى عِدَّةٍ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ لَا يُوجَدُ بِالْيَمِينِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْحَلِفُ بِطَلَاقِهَا، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِدُونِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ، فَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً.
وَلَوْ قَالَ: عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ، وَلَيْسَ هَذَا بِيَمِينٍ، وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ صُورَةً بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ أَوْ اخْتَارِي، فَقَدْ خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُنَّ مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ مِنْهَا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَوْ كَانَ يَمِينًا لَمْ يَتَوَقَّفْ بِالْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: إذَا حِضْت حَيْضَةً لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْتَقُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِيقَاعٍ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَامَعَهَا فِي الْحَيْضِ، ثُمَّ طَهُرَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَقَوْلِهِ لِلسُّنَّةِ لَمْ يَقَعْ، قُلْنَا: هُوَ سُنِّيٌّ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَحْنَثُ بِالْحَيْضِ وَتَطْلُقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا إذَا قَالَ لَهَا: إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ عَتَقَ عَبْدُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعْتَقُ قَالَ: لِأَنَّ الْحَالِفَ يَكُونُ مَانِعًا نَفْسَهُ مِنْ إيجَادِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْكَلَامُ يَمِينًا بِذِكْرِ شَرْطٍ يُتَصَوَّرُ الْمَنْعُ عَنْهُ، فَأَمَّا بِذِكْرِ شَرْطٍ لَا يُتَصَوَّرُ الْمَنْعُ عَنْهُ لَا يَصِيرُ حَالِفًا بِطَلَاقِهَا فَلَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْكَلَامُ يُعْرَفُ بِصِيغَتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ صِيغَةُ الْيَمِينِ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَكَانَ يَمِينًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا؛ لِأَنَّهُ مَا ذَكَرَ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ، إنَّمَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ، وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت أَوْ إذَا حِضْت حَيْضَةً؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ كَمَا بَيَّنَّا، وَبِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ مَنْعُ هَذَا الشَّرْطِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا، كَمَا لَوْ جَعَلَ الشَّرْطَ فِعْلَ إنْسَانٍ آخَرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابُ الْمُسَاكَنَةِ:

(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَسَاكَنَهُ فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَقْصُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ، فَشَرْطُ حِنْثِهِ وُجُودُ السُّكْنَى مَعَ فُلَانٍ، وَالسُّكْنَى الْمُكْثُ فِي مَكَان عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ، فَتَكُونُ الْمُسَاكَنَةُ بِوُجُودِ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُقَارَنَةِ، وَذَلِكَ إذَا سَكَنَا بَيْتًا وَاحِدًا أَوْ سَكَنَا فِي دَارٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الدَّارِ مَقَاصِيرُ وَحُجَرُ، فَكُلُّ مَقْصُورَةٍ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُسَاكِنًا فُلَانًا فَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَكَنَا فِي مَحَلَّةٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى الْمَقَاصِيرِ، كُلُّ مَقْصُورَةٍ مِنْهَا حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ، حَتَّى لَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ مِنْ مَقْصُورَةٍ، فَأَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ يُقْطَعُ، وَلَوْ سَرَقَ مَنْ يَسْكُنُ إحْدَى الْمَقْصُورَتَيْنِ مِنْ الْمَقْصُورَةِ الْأُخْرَى يُقْطَعُ، وَالدَّارُ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى بُيُوتٍ حِرْزٌ وَاحِدٌ حَتَّى لَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ مِنْ بَيْتٍ، وَأَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ لَا يُقْطَعُ، وَمَنْ كَانَ مَأْذُونًا فِي الدُّخُولِ فِي أَحَدِ الْبُيُوتِ مِنْ الدَّارِ إذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ الْآخَرِ لَا يُقْطَعُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ كَبِيرَةً نَحْوَ دَارِ الْوَلِيدِ بِالْكُوفَةِ، وَنَظِيرُهُ دَارُ نُوحٍ بِبُخَارَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّارُ تَشْتَمِلُ عَلَى مَقَاصِيرَ، أَوْ عَلَى بُيُوتٍ؛ لِأَنَّ فِي عُرْفِ النَّاسِ هَذَا مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَيُعَدُّ الْحَالِفُ مُسَاكِنًا لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَقْصُورَةٍ، وَإِنْ كَانَ نَوَى حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي حُجْرَةٍ أَوْ فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَكُونَا فِيهِ جَمِيعًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُسَاكِنَهُ فِيمَا نَوَى؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، (فَإِنْ قِيلَ): الْمَسْكَنُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ، فَكَيْفَ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي تَخْصِيصِ الْمَسْكَنِ، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيمَا لَا لَفْظَ لَهُ بَاطِلٌ؟ (قُلْنَا): نَحْنُ لَا نَعْتَبِرُ تَخْصِيصَ الْمَسْكَنِ حَتَّى لَوْ نَوَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ، لَا تُعْمَلُ نِيَّتُهُ، وَلَكِنَّ الْفِعْلَ يَقْتَضِي الْمَصْدَرَ لَا مَحَالَةَ، فَبِذِكْرِ الْفِعْلِ يَصِيرُ الْمَصْدَرُ كَالْمَذْكُورِ لُغَةً، وَهُوَ إنَّمَا نَوَى أَكْمَلَ مَا يَكُونُ مِنْ السُّكْنَى؛ لِأَنَّ أَكْمَلَ ذَلِكَ أَنْ يَجْمَعَهَا بَيْتٌ وَاحِدٌ، وَمَا دُونَ هَذَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِهَذَا يَكُونُ قَاصِرًا، فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ نِيَّةَ نَوْعٍ مِنْ السُّكْنَى، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، نَظِيرُهُ مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ: إنْ خَرَجْت وَنَوَى السَّفَرَ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى نَوْعًا مِنْ الْخُرُوجِ، وَالْخُرُوجُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ كَالْمَذْكُورِ بِذِكْرِ الْفِعْلِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ فِي نَوْعٍ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الْخُرُوجَ إلَى بَغْدَادَ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَسَمَّى ذَلِكَ، فَإِنْ سَاكَنَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ، وَلَا تَكُونُ الْمُسَاكَنَةُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَسْكُنَا بَيْتًا وَاحِدًا أَوْ دَارًا وَاحِدَةً مِنْ دَارِ الْبَلْدَةِ أَوْ الْقَرْيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسَاكَنَةَ فِعْلٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُقَارَنَةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ، وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ الْبَلْدَةَ أَوْ الْقَرْيَةَ إخْرَاجُ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ عَنْ يَمِينِهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَحْنَثُ إذَا جَمَعَهُمَا الْمَكَانُ الَّذِي سَمَّى فِي السُّكْنَى، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لِأَجْلِ الْعُرْفِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: فُلَانٌ يُسَاكِنُ فُلَانًا قَرْيَةَ كَذَا وَبَلْدَةَ كَذَا، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ، فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، فَحِينَئِذٍ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ فِي بَيْتٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِيهِ زَائِرًا أَوْ ضَيْفًا، وَأَقَامَ فِيهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسَاكَنَةٍ إنَّمَا الْمُسَاكَنَةُ بِالِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ، وَذَلِكَ بِمَتَاعِهِ وَثُقْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ فِي الْمَسْجِدِ كُلَّ يَوْمٍ مِرَارًا، وَلَا يُسَمَّى سَاكِنًا فِيهِ، وَيَدْخُلُ عَلَى الْأَمِيرِ، وَيَكُونُ فِي دَارِهِ يَوْمًا، وَلَا يُسَمَّى مُسَاكِنًا لَهُ فِي دَارِهِ، فَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي دَخَلَ عَلَى فُلَانٍ زَائِرًا أَوْ ضَيْفًا لَا يَكُونُ سَاكِنًا مَعَهُ فِيهِ، فَلَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، فَحِينَئِذٍ فِي نِيَّتِهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ عَامِلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَمُرُّ بِالْقَرْيَةِ فَيَبِيتُ فِيهَا، وَيَقُولُ: مَا سَاكَنْتهَا قَطُّ فَيَكُونُ صَادِقًا فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ سَاكِنًا فِي دَارٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَهَا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ، ثُمَّ أَقَامَ فِيهَا يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لَزِمَهُ الْحِنْثُ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ مُسْتَدَامٌ حَتَّى يَضْرِبَ لَهُ الْمُدَّةَ، وَيُقَالُ: سَكَنَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا، وَالِاسْتِدَامَةُ عَلَى مَا يُسْتَدَامُ كَالْإِنْشَاءِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى}.
أَيْ لَا تَمْكُثْ قَاعِدًا، فَيَجْعَلُ اسْتِدَامَةَ السُّكْنَى بَعْدَ يَمِينِهِ كَإِنْشَائِهِ، وَكَذَلِكَ اللُّبْسُ وَالرُّكُوبُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَامُ كَالسُّكْنَى، فَأَمَّا إذَا أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ، أَوْ فِي نَزْعِ الثَّوْبِ أَوْ فِي النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ عَنْهُ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، فَيَصِيرُ مُسْتَثْنًى لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ، وَهُوَ الْبَرُّ دُونَ الْحِنْثِ، وَلَا يَتَأَتَّى الْبَرُّ إلَّا بِهَذَا؛ وَلِأَنَّ السُّكْنَى هُوَ الِاسْتِقْرَارُ وَالدَّوَامُ فِي الْمَكَانِ، وَالْخُرُوجُ ضِدُّهُ، فَالْمَوْجُودُ مِنْهُ بَعْدَ الْيَمِينِ مَا هُوَ ضِدُّ السُّكْنَى حِينَ أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ فِي الْحَالِ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْهَا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِنَقْلِ الْأَمْتِعَةِ يَحْنَثُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى سُكْنَاهُ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَنْعَدِمُ بِخُرُوجِهِ عَقِيبَ الْيَمِينِ، وَحُكِيَ عَنْهُ فِي التَّعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، قَالَ: خَرَجْت مِنْ مَكَّةَ، وَخَلَّفْت فِيهَا دُفَيْتِرَاتٍ أَفَأَكُونُ سَاكِنًا بِمَكَّةَ؟ (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَاكِنٌ فِيهَا بِثَقَلِهِ وَعِيَالِهِ، فَمَا لَمْ يَنْقُلْهُمْ فَهُوَ سَاكِنٌ فِيهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالثَّقَلِ وَالْمَتَاعِ، وَالْعُرْفُ شَاهِدٌ لِذَلِكَ فَإِنَّك تَسْأَلُ السُّوقِيَّ، أَيْنَ تَسْكُنُ؟ فَيَقُولُ: فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَهُوَ فِي تِجَارَتِهِ يَكُونُ فِي السُّوقِ، ثُمَّ يُشِيرُ إلَى مَوْضِعِ ثَقَلِهِ وَعِيَالِهِ وَمَتَاعِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ السُّكْنَى بِذَلِكَ بِخِلَافِ الدُّفَيْتِرَاتِ، فَإِنَّ السُّكْنَى لَا تَتَأَتَّى بِهَا، مَعَ أَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَقُولُ: إذَا كَانَ يَمِينُهُ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَ بَلْدَةَ كَذَا فَخَرَجَ مِنْهَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ خَلَّفَ ثَقَلَهُ بِهَا، وَقَدْ رُوِيَ بَعْضُ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ السُّكْنَى فِي الدَّارِ، فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الْمِصْرِ فِي السُّوقِ يُسَمَّى سَاكِنًا فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا ثَقَلُهُ وَمَتَاعُهُ وَعِيَالُهُ، فَأَمَّا الْمُقِيمُ بِأُوزَجَنْدَ لَا يُسَمَّى سَاكِنًا بِبُخَارَى، وَإِنْ كَانَ بِهَا عِيَالُهُ وَثَقَلُهُ، وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَهُ الْعِبْرَةَ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَالْعَادَةُ بِخِلَافِهَا فَلَا تُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ وَعِنْدَنَا الْعَادَةُ الظَّاهِرَةُ اصْطِلَاحٌ طَارِئٌ عَلَى حَقِيقَةِ اللُّغَةِ، وَالْحَالِفُ يُرِيدُ ذَلِكَ ظَاهِرًا فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ يَقُولُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ: وَاَللَّهِ لَأُجْرِيَنَّكَ عَلَى الشَّوْكِ فَيُحْمَلُ عَلَى شِدَّةِ الْمَطْلِ دُونَ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: أَلْفَاظُ الْيَمِينِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَهَذَا بَعِيدٌ أَيْضًا فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْتَضِيءُ بِالسِّرَاجِ فَاسْتَضَاءَ بِالشَّمْسِ لَا يَحْنَثُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الشَّمْسَ سِرَاجًا.
وَمَنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْبِسَاطِ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَحْنَثْ، وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْأَرْضَ بِسَاطًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ وَتَدًا، فَمَسَّ جَبَلًا لَا يَحْنَثُ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْجِبَالَ أَوْتَادًا، فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قُلْنَا، فَإِنْ نَقَلَ بَعْضَ الْأَمْتِعَةِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ يَحْنَثُ إذَا تَرَكَ بَعْضَ أَمْتِعَةٍ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَاكِنًا فِيهَا بِجَمِيعِ الْأَمْتِعَةِ، فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ بَعْضِ الْأَمْتِعَةِ فِيهَا، وَهُوَ أَصْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى جَعَلَ بَقَاءَ صِفَةِ السُّكُونِ فِي الْعَصِيرِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا، وَبَقَاءُ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ مِنَّا فِي بَلْدَةٍ ارْتَدَّ أَهْلُهَا مَانِعًا مِنْ أَنْ تَصِيرَ دَارَ حَرْبٍ، إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا: هَذَا إذَا كَانَ الْبَاقِي يَتَأَتَّى بِهَا السُّكْنَى، أَمَّا بِبَقَاءِ مِكْنَسَةٍ أَوْ وَتَدٍ أَوْ قِطْعَةِ حَصِيرٍ فِيهَا، فَيَبْقَى سَاكِنًا فِيهَا فَلَا يَحْنَثُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَالَ: إنْ بَقِيَ فِيهَا مَا يَتَأَتَّى لِمِثْلِهِ السُّكْنَى بِهِ يَحْنَثُ وَإِلَّا فَلَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إنْ نَقَلَ إلَى الْمَسْكَنِ الثَّانِي مَا يَتَأَتَّى لَهُ السُّكْنَى بِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ بِهَذَا صَارَ سَاكِنًا فِي الْمَسْكَنِ الثَّانِي فَلَا يَبْقَى سَاكِنًا فِي الْمَسْكَنِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ فِي طَلَبِ مَسْكَنٍ آخَرَ، فَبَقِيَ فِي ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَحْنَثْ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ طَرْحُ الْأَمْتِعَةِ فِي السِّكَّةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِهِ إذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الطَّلَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ بَقِيَ فِي نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ أَيَّامًا لِكَثْرَةِ أَمْتِعَتِهِ وَلِبُعْدِ الْمَسَافَةِ، وَلَمْ يَسْتَأْجِرْ لِذَلِكَ جَمَّالًا بَلْ جَعَلَ يَنْقُلُ بِنَفْسِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ بَقِيَ فِي ذَلِكَ شَهْرًا إذَا لَمْ يُفَرِّطْ؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْأَمْتِعَةِ ضِدُّ الِاسْتِقْرَارِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَاشْتِغَالُهُ بِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهِ فَلَا يَحْنَثُ لِهَذَا.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا فِي دَارٍ قَدْ سَمَّاهَا بِعَيْنِهَا، وَاقْتَسَمَا وَضَرَبَا بَيْنَهُمَا حَائِطًا، وَفَتَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَابًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ سَكَّنَ الْحَالِفُ طَائِفَةً، وَالْآخَرُ طَائِفَةً لَزِمَهُ الْحِنْثُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَاكَنَهُ فِيهَا بِعَيْنِهَا، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ حِينَ عَقَدَ الْيَمِينَ أَنْ يَجْمَعَهُمَا فِعْلُ السُّكْنَى فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَضَرْبِ الْحَائِطِ كَمَا قَبِلَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي مَنْزِلٍ، وَلَمْ يُسَمِّ دَارًا بِعَيْنِهَا، وَلَمْ يَنْوِهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِالْقِسْمَةِ وَضَرْبِ الْحَائِطِ صَارَ كُلُّ جَانِبٍ مَنْزِلًا عَلَى حِدَةٍ؛ وَلِأَنَّ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ، وَفِي الْعَيْنِ يُعْتَبَرُ الْعَيْنُ دُونَ الْوَصْفِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ شَابًّا فَكَلَّمَ شَيْخًا، كَانَ شَابًّا وَقْتَ يَمِينِهِ لَمْ يَحْنَثْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ يَحْنَثُ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي الدَّارِ الْمُعَيَّنَةِ أَظْهَرَ بِيَمِينِهِ التَّبَرُّمَ مِنْهَا لَا مِنْ فُلَانٍ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ إنَّمَا أَظْهَرَ التَّبَرُّمَ مِنْ مُسَاكَنَةِ فُلَانٍ، وَلَا يَكُونُ مُسَاكِنًا لَهُ إذَا لَمْ يَجْمَعْهُمَا مَنْزِلٌ وَاحِدٌ.
وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ، وَهُوَ يَنْوِي فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَسَاكَنَهُ فِي مَنْزِلٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ نَوَى أَكْمَلَ مَا يَكُونُ مِنْ الْمُسَاكَنَةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَيَصِيرُ الْمَنْوِيُّ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَ دَارًا بِعَيْنِهَا، فَهُدِمَتْ وَبُنِيَتْ بِنَاءً آخَرَ فَسَكَنَهَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهَا تِلْكَ الدَّارُ بِعَيْنِهَا، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ، وَرَفْعُ الْبِنَاءِ الْأَوَّلِ، وَإِحْدَاثُ بِنَاءٍ آخَرَ يُغَيِّرُ الْوَصْفَ، وَفِي الْعَيْنِ لَا مُعْتَبَرَ بِالْوَصْفِ، وَاسْمُ الدَّارِ يَبْقَى بَعْدَ هَدْمِ الْبِنَاءِ حَتَّى لَوْ سَكَنَهَا، كَذَلِكَ صَارَ حَانِثًا؛ وَهَذَا لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِرَفْعِ الْبِنَاءِ أَمَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ تُطَلِّقُ اسْمَ الدَّارِ عَلَى الْخَرَابَاتِ الَّتِي لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إلَّا الْآثَارُ، قَالَ الْقَائِلُ: عَفَتْ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا وَقَالَ آخَرُ: يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا عَيَّنَهُ، فَهُدِمَ حَتَّى تُرِكَ صَحْرَاءَ، ثُمَّ بُنِيَ بَيْتٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَسَكَنَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ يَزُولُ بِهَدْمِ الْبِنَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكَنَهُ حِينَ كَانَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ صَالِحًا لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ، وَالصَّحْرَاءُ غَيْرُ صَالِحٍ لِذَلِكَ.
وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ بِاسْمٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ الِاسْمِ، ثُمَّ إنَّمَا حَدَثَ اسْمُ الْبَيْتِ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِالْبِنَاءِ الَّذِي أُحْدِثَ، فَكَانَ هَذَا اسْمًا غَيْرَ مَا عَقَدَ بِهِ الْيَمِينَ، وَوِزَانُهُ مِنْ الدَّارِ أَنْ لَوْ جَعَلَهَا بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا، ثُمَّ بَنَى دَارًا فَسَكَنَهَا لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ زَالَ.
جَعَلَهَا بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا ثُمَّ حَدَثَ اسْمُ الدَّارِ بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاسْمُ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ الْيَمِينُ.
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ، فَبَاعَهَا فَسَكَنَ الْحَالِفُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالثَّوْبُ، وَكُلُّ مَا يُضَافُ إلَى إنْسَانٍ بِالْمِلْكِ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ جَمَعَ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَالْإِضَافَةِ، فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّهَا أَبْلُغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْإِضَافَةِ، فَإِنَّهَا تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، وَالْإِضَافَةُ لَا تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا أَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَوْجَةَ فُلَانٍ هَذِهِ صَدِيقِ فُلَانٍ هَذَا، فَكَلَّمَ بَعْدَمَا عَادَاهُ، وَفَارَقَهَا يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ، فَكَلَّمَ بَعْدَ مَا بَاعَ الطَّيْلَسَانَ يَحْنَثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مِلْكٍ يُضَافُ إلَى مَالِكٍ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ، كَمَا لَوْ كَانَ أَطْلَقَ دَارَ فُلَانٍ، وَتَحْقِيقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الدَّارَ لَا يُقْصَدُ هَجْرُهَا لِعَيْنِهَا، بَلْ لِأَذًى حَصَلَ مِنْ مَالِكِهَا، وَالْيَمِينُ تَتَقَيَّدُ بِمَقْصُودِ الْحَالِفِ فَصَارَ بِمَعْرِفَةِ مَقْصُودِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: مَادَامَ لِفُلَانٍ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ، فَإِنَّهُ يَقْصِدُ هِجْرَانَهُمَا لِعَيْنِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِصَاحِبِ الطَّيْلَسَانِ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ هِجْرَانَهُ لِعَيْنِهِ لَا لِطَيْلَسَانِهِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِلتَّعْرِيفِ لَا لِتَقْيِيدِ الْيَمِينِ.
(فَإِنْ قِيلَ) فِي الْعَبْدِ: هُوَ آدَمِيٌّ، فَيُقْصَدُ هِجْرَانُهُ لِعَيْنِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ قُلْتُمْ: إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ هَذَا، فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا بَاعَهُ لَا يَحْنَثُ.
(قُلْنَا): ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ بِهَذَا فِي الْعَبْدِ.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ سَاقِطُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْأَحْرَارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَذَى مِنْهُ لَا يُقْصَدُ هِجْرَانُهُ بِالْيَمِينِ، فَلَا يُجْعَلُ لَهُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَحْلِفُ إذَا كَانَ الْأَذَى مِنْ مِلْكِهِ؛ وَلِأَنَّ إضَافَةَ الْمَمْلُوكِ إلَى الْمَالِكِ حَقِيقَةً كَالِاسْمِ، ثُمَّ لَوْ جَمَعَ فِي يَمِينِهِ بَيْنَ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالْعَيْنِ، وَزَالَ الِاسْمُ لَمْ يَبْقَ الْيَمِينُ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ بِعَيْنِهَا، فَجُعِلَتْ بُسْتَانًا فَدَخَلَ لَمْ يَحْنَثْ لِزَوَالِ الِاسْمِ، فَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْيِينِ فَزَالَتْ الْإِضَافَةُ لَا يَبْقَى الْيَمِينُ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ، فَالْإِضَافَةُ هُنَاكَ لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَعْرِيفٌ كَالنِّسْبَةِ، وَكَمَا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِالْعَيْنِ دُونَ النِّسْبَةِ، فَكَذَلِكَ هُنَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ دُونَ الْإِضَافَةِ، فَإِنْ نَوَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا وَإِنْ زَالَتْ الْإِضَافَةُ فَلَهُ مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْ نَوَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا مَا دَامَتْ لِفُلَانٍ فَلَهُ مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ.
وَإِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَ دَارَ فُلَانٍ أَوْ دَارًا لِفُلَانٍ، وَلَمْ يُسَمِّ دَارًا بِعَيْنِهَا، وَلَمْ يَنْوِهَا فَسَكَنَ دَارًا لَهُ قَدْ بَاعَهَا بَعْدَ يَمِينِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودَ السُّكْنَى فِي دَارٍ مُضَافَةٍ إلَى فُلَانٍ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: زَوْجَةُ فُلَانٍ أَوْ صَدِيقُ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَقْصِدُ هِجْرَانَهُمَا لِعَيْنِهِمَا، فَيَتَعَيَّنُ مَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ يَمِينِهِ بِنَاءً عَلَى مَقْصُودِهِ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا، وَوَجَّهَ أَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِالْإِضَافَةِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ فِيمَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا بُدَّ أَنْ يُقَالَ: إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْيِينِ يَبْقَى الْيَمِينُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا إذَا سَكَنَ دَارًا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِفُلَانٍ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ إلَى وَقْتِ السُّكْنَى، فَهُوَ حَانِثٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ سَكَنَ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ بَعْدَ يَمِينِهِ حَنِثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالدَّابَّةُ وَالثَّوْبُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ فُلَانٍ، أَوْ لَا يُشْرِبُ شَرَابَ فُلَانٍ، فَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِمَّا اسْتَحْدَثَهُ فُلَانٌ لِنَفْسِهِ، فَهُوَ حَانِثٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ سِمَاعَةَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى الْإِضَافَةِ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ حَقِيقَةً وَقْتَ الْيَمِينِ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْيَمِينُ، فَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِمَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَعَرَفْنَا أَنْ مَقْصُودَ الْحَالِفِ وُجُودُ الْإِضَافَةِ إلَى فُلَانٍ وَقْتَ التَّنَاوُلِ، فَأَمَّا الدَّارُ وَالْعَبْدُ وَالدَّابَّةُ فَلَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ دُونَ مَا يُسْتَحْدَثُ فِيهِ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مِلْكٍ مُضَافٍ إلَى الْمَالِكِ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ كَانَ حَانِثًا كَمَا فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ وُجُودُ السُّكْنَى فِي دَارٍ مُضَافَةٍ إلَى فُلَانٍ بِالْمِلْكِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْيَمِينِ أَذًى دَخَلَهُ مِنْ فُلَانٍ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْيَمِينِ، وَمَا اُسْتُحْدِثَ الْمِلْكُ فِيهِ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: دَارًا لِفُلَانٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا سَكَنَ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ بَعْدَ يَمِينِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: دَارَ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ اللَّامَ دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ، فَصَارَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا أَسْكُنُ دَارًا هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِفُلَانٍ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَوْجُودُ فِي مِلْكِهِ دُونَ مَا يَسْتَحْدِثُهُ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: دَارَ فُلَانٍ.
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى عَكْسِ هَذَا قَالَ: إذَا قَالَ: دَارَ فُلَانٍ لَا يَتَنَاوَلُ مَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: دَارًا لِفُلَانٍ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: دَارَ فُلَانٍ تَمَامَ الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْإِضَافَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ فُلَانًا كَانَ كَلَامًا مُخْتَلًّا، فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمِلْكِ لِفُلَانٍ وَقْتَ الْيَمِينِ لِيَتَنَاوَلَهُ الْيَمِينُ، وَفِي قَوْلِهِ: دَارًا لِفُلَانٍ.
الْكَلَامُ تَامٌّ بِدُونِ ذِكْرِ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا أَسْكُنُ دَارًا كَانَ مُسْتَقِيمًا، فَذِكْرُ فُلَانٍ لِتَقْيِيدِ الْيَمِينِ بِمَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى فُلَانٍ وَقْتَ السُّكْنَى، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا لِفُلَانٍ، فَسَكَنَ دَارًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ، قَلَّ نَصِيبُ الْآخَرِ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودَ السُّكْنَى فِي دَارٍ يَمْلِكُهَا فُلَانٌ، وَالْمَمْلُوكُ لِفُلَانٍ بَعْضُ هَذِهِ الدَّارِ، وَبَعْضُ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ، فَسَكَنَ دَارًا اشْتَرَاهَا لِغَيْرِهِ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ كَالْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى الشِّرَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا رَتَّبَ الْحَالِفُ يَمِينَهُ عَلَى الشِّرَاءِ دُونَ الْمِلْكِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت مَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ، دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ إذَا كَانَ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ.
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَسَكَنَ بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ أَوْ فُسْطَاطًا أَوْ خَيْمَةً، لَمْ يَحْنَثْ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَحَنِثَ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ يُبَاتُ فِيهِ، وَالْيَمِينُ يَتَقَيَّدُ بِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ، فَأَهْلُ الْأَمْصَارِ إنَّمَا يَسْكُنُونَ الْبُيُوتَ الْمَبْنِيَّةَ عَادَةً، وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ يَسْكُنُونَ الْبُيُوتَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْ الشَّعْرِ، فَإِذَا كَانَ الْحَالِفُ بَدْوِيًّا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا مَقْصُودُهُ بِيَمِينِهِ، فَيَحْنَثُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، وَاسْمُ الْبَيْتِ لِلْمَبْنِيِّ حَقِيقَةً، فَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْبَادِيَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ يُسَمُّونَ الْبَيْتَ لِلْمَبْنِيِّ حَقِيقَةً، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إنَّ صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ بَدَنَةً.
أَفَتُجْزِي الْبَقَرُ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ صَاحِبُكُمْ؟ فَقَالَ: مِنْ بَنِي رِيَاحٍ.
قَالَ: وَمَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رِيَاحٍ الْبَقَرَ؟ إنَّمَا وُهِمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ.
فَدَلَّ أَنَّ عِنْدَ إطْلَاقِ الْكَلَامِ يُعْتَبَرُ عُرْفُ الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا يَتَقَيَّدُ بِهِ كَلَامُهُ.
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا لِفُلَانٍ، فَسَكَنَ صُفَّةً لَهُ حَنِثَ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ بَيْتٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الْبُيُوتَ دُونَ الصِّفَافِ، فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ اللَّفْظِ الْعَامِّ.
مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِبَيْتٍ يَسْكُنُونَهُ يُسَمَّى صَفًّا، وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِنَا يُسَمَّى كَشَأْنِهِ، فَأَمَّا الصِّفَةُ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا غَيْرُ الْبَيْتِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْتِ، بَلْ يُنْفَى عَنْهُ، فَيُقَالُ: هَذَا صِفَةٌ وَلَيْسَ بِبَيْتٍ فَلَا يَحْنَثُ.
قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ مُرَادَهُ حَقِيقَةُ مَا نُسَمِّيهِ الصِّفَةَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَبْنًى مُسَقَّفٍ مَدْخَلُهُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الصِّفَةِ، إلَّا أَنَّ مَدْخَلَهُ أَوْسَعُ مِنْ مَدْخَلِ الْبُيُوتِ الْمَعْرُوفَةِ فَكَانَ اسْمُ الْبَيْتِ مُتَنَاوِلًا لَهُ، فَيَحْنَثُ بِسُكْنَاهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الْبُيُوتَ دُونَ الصِّفَافِ، فَحِينَئِذٍ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ خَصَّ الْعَامَّ بِنِيَّتِهِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ، فَسَكَنَ مَنْزِلًا مِنْهَا حَنِثَ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الدَّارِ هَكَذَا تَكُونُ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ أَنَا سَاكِنٌ فِي دَارِ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا يَسْكُنُ فِي بَعْضِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْكُنُ تَحْتَ السُّوَرِ، وَعَلَى الْغُرَفِ وَالْحُجَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ يَسْكُنَهَا كُلَّهَا، فَلَا يَحْنَثُ حِينَئِذٍ حَتَّى يَسْكُنَهَا كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُتَعَارَفِ فَنِيَّةُ الْحَقِيقَةِ تَصِحُّ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: يَوْمَ يَقْدُمُ فُلَانٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ حُمِلَ عَلَى الْوَقْتِ لِلْعُرْفِ، فَإِنْ نَوَى حَقِيقَةَ بَيَاضِ النَّهَارِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ، فَهَذَا مِثْلُهُ حَتَّى لَوْ كَانَ حَلَفَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا لِفُلَانٍ، وَهُوَ يَنْوِي بِأَجْرٍ أَوْ عَارِيَّةً، وَسَكَنَهَا عَلَى غَيْرِ مَا عُنِيَ، وَلَمْ يَجْرِ قَبْلَ ذَلِكَ كَلَامٌ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَمَا نُوِيَ لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِيمَا لَيْسَ مِنْ لَفْظِهِ، فَإِنَّ فِي لَفْظِهِ فِعْلَ السُّكْنَى، وَهُوَ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي السَّبَبِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ السُّكْنَى، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ هَذَا كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِأَنْ اسْتَعَارَهُ فَأَبَى فَحَلَفَ، وَهُوَ يَنْوِي الْعَارِيَّةَ، ثُمَّ سَكَنَ بِأَجْرٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.