فصل: بَابُ عِتْقِ ذَوِي الْأَرْحَامِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ عِتْقِ ذَوِي الْأَرْحَامِ:

ذِكْر عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ».
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ قَرِيبَهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَهُوَ حُرٌّ جَزَاءً لِقَوْلِهِ مَنْ مَلَكَ مَعَ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ حُرِّيَّةَ الْمَمْلُوكِ دُونَ الْمَالِكِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: عَتَقَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ سَبَبَ الْعِتْقِ الْمِلْكُ مَعَ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَعْنَى بَيَانِ السَّبَبِ كَمَا قَالَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَلِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إذَا مَلَكَ أَبَاهُ، أَوْ أُمَّهُ، أَوْ ابْنَهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتِقَهُ، وَلَكِنْ لَا يَعْتِقُ قَبْلَ إعْتَاقِهِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» فَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ عَلَيْهِ إعْتَاقَهُ، وَلَوْ عَتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ فَيُعْتِقُهُ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً فَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمَّا مَنَعَتْ بَقَاءَ مِلْكِ النِّكَاحِ مَنَعَتْ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} فَقَدْ نَفَى الْبُنُوَّةَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْخَلْقِ بِإِثْبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا، وَالْمُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِذَا كَانَتْ الْبُنُوَّةُ مُتَقَرِّرَةً انْتَفَتْ الْعُبُودِيَّةُ، وَمُرَادُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ فَيُعْتِقُهُ بِذَلِكَ الشِّرَاءُ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا يُقَالُ: أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ، وَضَرَبَ فَأَوْجَعَ، وَكَتَبَهُ فَقَرْمَطَ وَإِنَّمَا أَثْبَتِنَا لَهُ الْمِلْكَ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ لَا يَعْتِقُ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَى ابْنَتِهِ ثُمَّ إزَالَتِهِ؛ لِأَنَّهَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ صِلَةٌ، وَمُجَازَاةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ.
فَأَمَّا انْتِفَاءُ النِّكَاحِ بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِمِلْكِ الْحِلِّ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ، وَالْأُمُّ وَالِابْنَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ، وَلَا تَصَوُّرَ لِلْمَلِكِ بِدُونِ الْمَحَلِّ فَأَمَّا هَذَا مِلْكُ مَالٍ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ، فَيَثْبُتُ لَهُ نَسَبُهُ أَيْضًا إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِهِ- الِاسْتِدَامَةُ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا قَالَ عُلَمَاؤُنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى-: إذَا مَلَكَ أَخَاهُ، أَوْ أُخْتَهُ، أَوْ أَحَدًا مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَعْتِقُ إلَّا الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةٌ فَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَبَنِي الْأَعْمَامِ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَالْعِتْقُ هُنَاكَ لِلْبَعْضِيَّةِ، وَالْجُزْئِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَضْعُ زَكَاةِ مَالِهِ فِي صَاحِبِهِ، وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الطَّرَفَيْنِ، وَيَحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَلِيلَةُ صَاحِبِهِ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّفَقَةَ عَلَى صَاحِبِهِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، وَلَا يَتَكَاتَبُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودَيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُنَاكَحَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِاسْمِ الْأُخْتِيَّةِ، وَالْبِنْتِيَّةِ لَا بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ، وَلَا تَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ بِهَا، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُرْمَةِ مَعْنَى قُرْبِ الْقَرَابَةِ وَبُعْدِهَا.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ إنِّي وَجَدْت أَخِي يُبَاعُ فِي السُّوقِ فَاشْتَرَيْته، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَعْتِقَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ أَعْتَقَهُ اللَّهُ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَيِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ عِلَّةُ الْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ، كَمَا فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ لِهَذَا الْعِتْقِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالْقَرَابَةِ الْمُتَأَيِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ؛ لِأَنَّهُ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا، وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ مِنْ الْمَلَاعِنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ} وَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثَلَاثٌ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ، مِنْهَا الرَّحِمُ يَقُولُ: قُطِعْت، وَلَمْ تُوصَلْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُنَاكَحَةِ تَثْبُتُ بِهَذِهِ الْقَرَابَةِ بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ ذُلِّ الِاسْتِفْرَاشِ، وَالِاسْتِخْدَامِ قَهْرًا، فَمِلْكُ الْيَمِينِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِذْلَالِ مِنْ الِاسْتِفْرَاشِ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا صِيَانَةً لِلْقَرَابَةِ مِنْ الْقَطِيعَةِ بِسَبَبِ الْمُنَافَرَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ وَمَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فِي اسْتِدَامَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ أَكْثَرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلْمِلْكِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ فَيَثْبُتُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ: أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هَذَانِ الْوَصْفَانِ، وَبَعْدَ هَذَا لَا يَضُرُّ انْتِفَاءُ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُمَا، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هَذَا دُونَ الْجُزْئِيَّةِ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ مُسْتَقِيمٌ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ فِي مَعْنَى الْقَرَابَةِ بَيْنَ الْجَدِّ، وَالنَّافِلَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ أَحَدِ الْأَخَوَيْنِ بِالْآخَرِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ كَمَا أَنَّ اتِّصَالَ النَّافِلَةِ بِالْجَدِّ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ وَلِهَذَا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْمِيرَاثِ.
وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِشَجَرَةٍ انْشَعَبَ مِنْهَا غُصْنٌ وَمِنْ ذَلِكَ الْغُصْنِ غُصْنٌ وَالْأَخَوَيْنِ بِغُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِوَادٍ تَشَعَّبَ مِنْهُ نَهْرٌ، وَمِنْ النَّهْرِ جَدْوَلٌ، وَالْأَخَوَيْنِ بِنَهْرَيْنِ تَشَعَّبَا مِنْ وَادٍ فَيَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبِ بَيْنَهُمَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ تَفَرُّقَهُمَا بِشِعْبٍ، وَاحِدٍ، وَالْأَوَّلُ بِشِعْبَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ قَرَابَةِ الْجَدِّ مَعَ النَّافِلَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ، إلَّا أَنَّ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ لَمْ يُجْعَلْ الْأَخُ كَالْجَدِّ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الشَّفَقَةُ مَعَ الْقَرَابَةِ، وَشَفَقَةُ الْأَخِ لَيْسَتْ كَشَفَقَةِ الْجَدِّ، وَفِي حُكْمِ الْإِرْثِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ وِلَايَةٍ فَإِنَّهُ خِلَافَةٌ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، وَبِهِ فَارَقَ بَنِي الْأَعْمَامِ فَالْوَاسِطَاتُ هُنَاكَ قَدْ كَثُرَتْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَكَانَتْ الْقَرَابَةُ بَعِيدَةً بَيْنَهُمَا، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهَا حُرْمَةُ النِّكَاحِ وَلَا حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ.
فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا مِلْكَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهَذِهِ الْقَرَابَةُ مَعَ الْمِلْكِ عِلَّةٌ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَلَكَ أَبَاهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ، وَإِذَا مَلَكَ أَخَاهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَهُ كَسْبٌ وَلَيْسَ لَهُ مِلْكٌ حَقِيقَةً، وَحَقُّ الْآبَاءِ، وَالْأَوْلَادِ يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَبِيهِ إذَا كَانَ مُكْتَسِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا.
فَأَمَّا حَقُّ الْأَخِ لَا يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَخِيهِ الزَّمِنَ إذَا كَانَ هُوَ مُعْسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالِكُ صَغِيرًا فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ لِتَمَامِ عِلَّةِ الْعِتْقِ وَهُوَ الْمِلْكُ مَعَ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ الصَّغِيرَ يَمْلِكُ حَقِيقَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ صِفَةُ الْغِنَى بِمِلْكِهِ حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالِكُ كَافِرًا وَالْمَمْلُوكُ مُسْلِمًا، أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَعَ الْقَرَابَةِ يَتَحَقَّقُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ، وَبِهِمَا تَمَامُ عِلَّةِ الْعِتْقِ بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ ذَلِكَ بِصِفَةِ الْوِرَاثَةِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} مَعْنَاهُ: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ مَعْنَاهُ: وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ يَنْعَدِمُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَالِاسْتِحْقَاقُ هُنَاكَ بِالْوِلَادِ قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ لَا يَنْعَدِمُ الْوِلَادُ، فَهَذَا بَيَانُ مَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ فَإِنْ مَلَكَهُ الرَّجُلُ مَعَ آخَرَ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُ وَسَعَى الْعَبْدُ لَلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَتَقَ مِنْ قِبَلِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَيَسْعَى الْعَبْدُ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَاهُ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْقَرِيبَ بِالشِّرَاءِ صَارَ مُعْتِقًا لِنَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ، وَلِهَذَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْمُعْتِقُ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَاشْتَرَى قَرِيبُ الْعَبْدِ نَصِيبَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْهُ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الشَّرِيكِ مَعَهُ رِضًا مِنْهُ بِاَلَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعِتْقُ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ وَالْإِفْسَادِ، وَالرِّضَا بِالسَّبَبِ يَمْنَعُ وُجُوبَ مِثْلِ هَذَا الضَّمَانِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ، وَفِي إثْبَاتِ الرِّضَا هُنَا نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا سَاعَدَ شَرِيكَهُ عَلَى الْقَبُولِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ قَبُولَ شَرِيكِهِ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِعِتْقِهِ عَلَى شَرِيكِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْذَنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ فِي أَنْ يَعْتِقَ نَصِيبَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَيْنِ صَارَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ الْإِيجَابِ مِنْ الْبَائِعِ، وَلِهَذَا لَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ نَصِيبَهُ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاضٍ بِالتَّمْلِيكِ فِي نَصِيبِهِ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِالتَّمْلِيكِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَيْضًا لِمَا سَاعَدَهُ عَلَى الْقَبُولِ بَلْ يَصِيرُ مُشَارِكًا لَهُ فِي السَّبَبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي السَّبَبِ فَوْقَ الرِّضَا بِهِ إلَّا أَنَّ بِهَذَا السَّبَبِ تَتِمُّ عِلَّةُ الْعِتْقِ فِي الْحَقِّ الْقَرِيبِ، وَهُوَ الْمِلْكُ لَا تَتِمُّ عِلَّةُ الْعِتْقِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَكَانَ الْقَرِيبُ مُعْتِقًا دُونَ الْأَجْنَبِيِّ وَلَكِنْ بِمُعَاوَنَةِ الْأَجْنَبِيِّ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي تَضْمِينِهِ لَمَّا عَاوَنَهُ عَلَى السَّبَبِ، وَفِي هَذَا يَتَّضِحُ الْكَلَامُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الشِّرَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِرَجُلٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ مِنْ قَرِيبِهِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إيجَابَ الْبَائِعِ رِضًا مِنْهُ بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي، وَمَا يَنْبَنِي عَلَى قَبُولِ الْمُشْتَرِي يُحَالُ بِهِ عَلَى إيجَابِ الْبَائِعِ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ جَمِيعُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْمَهْرُ، وَهُوَ الْبَائِعُ فَأَمَّا فِي الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ كِلَاهُمَا أَوْضَحُ؛ لِأَنَّ قَبُولَ أَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِهِ صَحِيحٌ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ، وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ: قَبُولُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ صَحِيحٌ.
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ قَرِيبِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الشَّرِيكِ الْآخَرِ مَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ، أَوْ مُعَاوَنَةً عَلَى السَّبَبِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ إنْ ضَرَبْته الْيَوْمَ سَوْطًا فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ سَوْطًا فَإِنَّ الْحَالِفَ يَضْمَنُ لِلضَّارِبِ إنْ كَانَ مُوسِرًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مَوْضُوعُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّرِيكَ قَالَ أَيْضًا إنْ لَمْ أَضْرِبْهُ الْيَوْمَ سَوْطًا فَهُوَ حُرٌّ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الضَّرْبِ بَعْدَ هَذَا يَكُونُ لِدَفْعِ الْعِتْقِ عَنْ نَصِيبِهِ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ رَاضِيًا بِعِتْقِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَعْتِقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ بِقَوْلِهِ هُوَ حُرٌّ، وَذَلِكَ تَمَّ بِالْحَالِفِ مِنْ غَيْرِ رِضًا كَانَ مِنْ الضَّارِبِ فَأَمَّا الضَّرْبُ شَرْطٌ لِلْعِتْقِ، وَالرِّضَا بِالشَّرْطِ لَا يَكُونُ رِضًا بِأَصْلِ السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالسَّبَبِ حِينَ شَارَكَهُ فِيهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ حُكْمِ الْفِرَارِ، فَإِنَّ الرِّضَا بِالشَّرْطِ مِنْ الْمَرْأَةِ كَالرِّضَا بِالسَّبَبِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا عَنْ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهَا قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ فِي مَالِهِ.
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ دَفْعًا لِقَصْدِ الزَّوْجِ الْإِضْرَارَ بِهَا، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالرِّضَا بِالشَّرْطِ كَمَا يَنْعَدِمُ بِالرِّضَا مِنْ السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَمْ يُفَصِّلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكُ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَعَهُ قَرِيبُ الْعَبْدِ، أَوْ لَا يَكُونَ عَالِمًا، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرِّضَا يَتَحَقَّقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَهُوَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: كُلْ هَذَا الطَّعَامَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ طَعَامُهُ فَأَكَلَهُ الْمُخَاطَبُ فَلَيْسَ لِلْآذِنِ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِشَرِيكِهِ: أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ رِضَاهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ عَالِمًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ نَصِيبَهُ بِالْعَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ رِضَاهُ، وَقَبُولُهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ شَرِيكَهُ مُعْتِقٌ، وَبِدُونِ تَمَامِ الْقَبُولِ لَا يَعْتِقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي نَصِيبِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ.
وَاسْتَشْهَدَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الشَّرِيكِ فِي التَّضْمِينِ بِالْإِذْنِ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ عِنْدَهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ فَإِنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عَلَى قَوْلِهِ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْقُطُ بِالْإِذْنِ، كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ سَبَبُهُ الْإِفْسَادُ، وَالْإِتْلَافُ فَسَقَطَ بِالْإِذْنِ كَضَمَانِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ، وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فَأَمَّا إذَا، وَرِثَ مَعَ قَرِيبِهِ غَيْرَهُ عَتَقَ نَصِيبُهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ قَبُولِهِ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الصُّنْعِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ وَرِثَ قَرِيبَهُ لَمْ يُجْزِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ وَرِثَهَا مَعَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُسْتَوْلِدَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَعْتَمِدُ الصُّنْعَ، وَلِهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ، وَالْإِعْسَارِ هُنَاكَ وَلَوْ مَلَكَ مَحْرَمًا لَهُ بِرَضَاعٍ، أَوْ مُصَاهَرَةٍ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا، وَالْعِتْقُ صِلَةٌ تُسْتَحَقُّ بِالْقَرَابَةِ، وَالرَّضَاعُ إنَّمَا جُعِلَ كَالنَّسَبِ فِي الْحُرْمَةِ خَاصَّةً، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ، وَالنَّفَقَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْعِتْقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ كَالْوَثَنِيَّةِ، وَالْمَجُوسِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَرَابَةِ لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُرْمَةُ الْمُنَاكَحَةِ، وَحُرْمَةُ الْجَمْعِ فِي النِّكَاحِ، وَلَوْ مَلَكَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ؛ وَلِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الزَّوْجِيَّةِ يَرْتَفِعُ بِالْمِلْكِ، وَإِذَا اشْتَرَى أَمَةً، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ أَبِيهِ عَتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ أَخَاهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَمَةَ حَتَّى تَضَعَ؛ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا حُرًّا كَمَا لَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ، وَهَذَا الْوَلَدُ يَصِيرُ مُسْتَثْنَى بِالْعِتْقِ، وَلَوْ اسْتَثْنَاهُ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ بَطَلَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَثْنَى بِالْعِتْقِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ مَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلِابْنِ فَإِنَّ الْمُسْتَوْلِدَ أَبُوهُ، وَلَا يَصِيرُ الْأَبُ مُتَمَلِّكًا لَهَا عَلَى الِابْنِ؛ لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلِابْنِ حِينَ عَلِقَتْ مِنْ الْأَبِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانه، وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

.بَابٌ لِوُجُوهٍ مِنْ الْعِتْقِ:

(قَالَ): رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ذُكِرَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَهُ، وَاسْتَسْعَاهُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ»، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ: أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ يَكُونُ وَصِيَّةً وَأَنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِهِ وَأَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ يُسْتَسْعَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ بِحَالٍ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ يُسْتَدَامُ الرِّقُّ فِيمَا بَقِيَ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَسْأَلَةٍ تَجْزِيءِ الْعِتْقِ، وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَرَدَّ أَرْبَعَةً فِي الرِّقِّ» وَبِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ فِي مَرَضِهِ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ، وَقِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُجَزِّئُهُمْ الْقَاضِي ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ فَيُعْتِقُ اثْنَيْنِ بِالْقُرْعَةِ، وَيَرُدُّ أَرْبَعَةً فِي الرِّقِّ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَرَجَّحَ مَذْهَبَهُ بِأَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ مِنْ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَهُ تَعَجَّلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ، وَتَأَخَّرَ اتِّصَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ إلَيْهِمْ، بَلْ فِي هَذَا إبْطَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ فِي مَعْنَى التَّاوِي فَإِنَّ الْمَالَ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ يَكُونُ تَاوِيًا فَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ جَمِيعُ الْعِتْقِ فِي شَخْصَيْنِ وَتَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَكَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}، وَقَالَ: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ»، وَالْقَاضِي إذَا قَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ؛ لِأَنَّ فِي الْقِمَارِ تَعْلِيقُ أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقَدَحِ وَفِي هَذَا تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ فَأَمَّا أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ ثَابِتٌ بِإِيجَابِ الْمُعْتِقِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَبِيدَ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْمُسَاوَاةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْبَعْضِ، وَحِرْمَانُ الْبَعْضِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِرِقَابِهِمْ لِغَيْرِهِمْ لِكُلِّ رَجُلٍ بِرَقَبَةٍ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَصِيَّةِ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ مِنْ الْمُوصِي وَالرَّدَّ مِنْ الْمُوصَى لَهُ، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ حِرْمَانُ الْبَعْضِ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى، ثُمَّ فِيمَا قَالَهُ الْخَصْمُ ضَرَرُ الْإِبْطَالِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُوصَى لَهُمْ وَفِيمَا قُلْنَا ضَرَرُ التَّأْخِيرِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَضَرَرُ التَّأْخِيرِ مَتَى قُوبِلَ بِضَرَرِ الْإِبْطَالِ كَانَ ضَرَرُ التَّأْخِيرِ أَهْوَنَ، وَإِذَا لَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ نَوْعِ ضَرَرٍ رَجَّحْنَا أَهْوَنَ الضَّرَرَيْنِ عَلَى أَعْظَمِهِمَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا تَعْجِيلُ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْتَسْعَى مُكَاتَبٌ فَلَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُمْ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْوَرَثَةِ السِّعَايَةُ.
وَعَلَى قَوْلِهِمَا، وَإِنْ تَعَجَّلَ الْعِتْقَ لِلْعَبِيدِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِصُنْعٍ مِنَّا بَلْ بِإِعْتَاقِ الْمُوصِي، وَلُزُومِ تَصَرُّفِهِ شَرْعًا، وَلَوْ أَبْطَلْنَا حَقَّ بَعْضِ الْعَبِيدِ كَانَ ذَلِكَ بِإِيجَابٍ مِنَّا، ثُمَّ كَلَامُهُ يُشْكَلُ بِمَا لَوْ كَانَ مَالُهُ دَيْنًا عَلَى مُفْلِسٍ فَأَوْصَى بِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ نَصِيبُهُ، وَالْبَاقِي دَيْنٌ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَدَائِهِ، وَلَا وَجْهَ لِتَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي الْمَجْهُولِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَكَمَا أَنَّ تَعْلِيقَ ابْتِدَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ يَكُونُ قِمَارًا فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ عِنْدَنَا فِيمَا يَجُوزُ الْفِعْلُ فِيهِ بِغَيْرِ الْقُرْعَةِ كَمَا فِي الْقِسْمَةِ.
فَإِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَيِّنَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ فَإِنَّمَا يُقْرِعُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ يُقْرِعُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نِسَائِهِ إذَا أَرَادَ سَفَرًا؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ إذْ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي الْقَسَمِ فِي حَالِ سَفَرِ الزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ يُونُسُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَرَفَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ، وَلَكِنَّهُ أَقْرَعَ كَيْ لَا يُنْسَبَ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَحَقَّ بِضَمِّ مَرْيَمَ إلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ خَالَتَهَا كَانَتْ تَحْتَهُ وَلَكِنَّهُ أَقْرَعَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ الْأَحْبَارِ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ مُعْجِزَةً لَهُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَقْلَامَهُمْ كَانَتْ مِنْ الْحَدِيدِ، وَكَانَ الشَّرْطُ أَنَّ مَنْ طَفَا قَلَمُهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقَصَبِ، وَكَانَ الشَّرْطُ أَنَّ مَنْ اسْتَقْبَلَ قَلَمُهُ جَرْيَ الْمَاءِ، وَلَمْ يَجْرِ مَعَ الْمَاءِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بَقِيَ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الْحَدِيثِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ لَهُ سِتَّةُ أَعْبُدٍ قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَهُمْ شَيْءٌ آخَرُ، وَهَذَا مِنْ أَنْدَرِ مَا يَكُونُ.
وَلَوْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّجُلَ أَوْصَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتِقَهُمْ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فَأَعْتِقْ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتِقَ أَيَّ الِاثْنَيْنِ شَاءَ مِنْهُمْ فَأَقْرَعَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَعْتِقْ اثْنَيْنِ أَيْ قَدْرَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَبِهِ نَقُولُ، فَإِنَّا إذَا أَعْتَقْنَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثِهِ فَقَدْ أَعْتَقْنَا قَدْرَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَأَقْرَعَ أَيْ دَقَّقَ النَّظَرَ يُقَالُ: فُلَانٌ قَرِيعُ دَهْرِهِ أَيْ دَقِيقُ النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ وَدَقَّقَ الْحِسَابَ بِأَنْ جَعَلَ قَدْرَ الرَّقَبَتَيْنِ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا، هَذَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ إنْ صَحَّ، وَعَنْ إسْمَاعِيل بْنِ خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ قَالَ عَامِرٌ: قَالَ مَسْرُوقٌ هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ لَا أَرُدُّهُ، وَقَالَ شُرَيْحٌ يَعْتِقُ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ فَقُلْت لِعَامِرٍ أَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَحَبُّ إلَيْك قَالَ: فُتْيَا مَسْرُوقٍ، وَقَضَاءُ شُرَيْحٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- وَفِي هَذَا إشَارَةٌ أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ فِي الْحُكْمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ يَجِبُ إتْمَامُهُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِدَامَةُ الرِّقِّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ كَمَا هُوَ فَتْوَى مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ قَالَ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ، وَعَنْ أَبِي يَحْيَى الْأَعْرَجِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ»، وَالْمُرَادُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: تَسْعَى الْأَمَةُ فِي ثَمَنِهَا يَعْنِي فِي قِيمَتِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ فَوَجَبَ رَدُّهُ لِقِيَامِ الدَّيْنِ، وَلَكِنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالرِّقُّ بَعْدَ سُقُوطِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ فَكَانَ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إذَا كَانَ وَصِيَّةٌ، وَعِتْقٌ بُدِئَ بِالْعِتْقِ، وَهَكَذَا عَنْ شُرَيْحٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى سَبَبًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالرُّجُوعَ عَنْهُ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ السَّبَبِ أَصْلٌ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا يُدْعَى بُجَيْسُ، وَقَالَ: لَوْ كُنْت عَلَى دِينِنَا لَاسْتَعَنَّا بِك عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِنَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إعْتَاقَ النَّصْرَانِيِّ قُرْبَةٌ، وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ: مُرْ كَاتِبَك لِيَكْتُبَ لَنَا كَذَا قَالَ: إنَّ كَاتِبِي لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَالَ أَجُنُبٌ هُوَ قَالَ لَا، وَلَكِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا فَمَاتَ الْعَبْدُ فَجَعَلَ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، وَإِنْ مَاتَ، وَلَا وَارِثَ لَهُ فَحِصَّةُ مَالِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَمَةً فَجَرَتْ فَوَلَدَتْ مِنْ الزِّنَا فَأَعْتَقَهَا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَعْتَقَ وَلَدَهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ أَوْصَى بِوَلَدِ الزِّنَا خَيْرًا، وَأَوْصَى بِهِمْ أَنْ يُعْتَقُوا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِسَائِرِ بَنِي آدَمَ وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِآبَائِهِمْ كَمَا ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَتَأَوَّلُ فِي أَوْلَادِ الزِّنَا {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَعَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا لَا يُجْزِئُ وَلَدُ الزِّنَا فِي النَّسَمَةِ الْوَاجِبَةِ، وَكَأَنَّهُمَا تَأَوَّلَا فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ» وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ، وَأَكْثَرُ الْمَمَالِيكُ لَا تُعْرَفُ آبَاؤُهُمْ عَادَةً، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ: شَرُّ الثَّلَاثَةِ نَسَبًا فَإِنَّهُ لَا نَسَبَ لَهُ أَوْ قَالَ ذَلِكَ فِي، وَلَدِ زِنًا بِعَيْنِهِ نَشَأَ مَرِيدًا فَكَانَ أَخْبَثَ مِنْ أَبَوَيْهِ.
وَإِذْ قَالَ الرَّجُلُ لِأَمَتِهِ: أَمْرُك بِيَدِك يَعْنِي فِي الْعِتْقِ فَإِنْ أَعْتَقَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا عَتَقَتْ، وَإِنْ قَامَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تَعْتِقَ نَفْسَهَا فَهِيَ أَمَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا أَمْرَهَا، وَأَهَمُّ أُمُورِهَا الْعِتْقُ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي الْعِتْقِ، وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الطَّلَاقِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا لَمْ يَنْوِ الْعِتْقَ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ أَمْرَهَا فِي يَدِ غَيْرِهَا، وَإِنْ قَالَ لَهَا أَعْتِقِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ، وَالْمَوْلَى مَا خَيَّرَهَا، إنَّمَا مَلَّكَهَا أَمْرَهَا، وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي لَا يَصْلُحُ لِلتَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَرْتُك مِنْ نَفْسِي، أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي مِنْك لَا تَعْتِقُ فَكَذَلِكَ قَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَعْتِقِي نَفْسَك إقَامَةٌ مِنْهُ إيَّاهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي إيقَاعِ الْعِتْقِ فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِاللَّفْظِ الَّذِي كَانَ الْمَوْلَى مَالِكًا لِلْإِيقَاعِ بِهِ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ شِئْت فَإِنْ قَالَتْ فِي مَجْلِسِهَا قَدْ شِئْت كَانَتْ حُرَّةً، وَلَوْ قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا، فَهِيَ أَمَةٌ، وَالتَّفْوِيضُ إلَى مَشِيئَتِهَا بِمَنْزِلَةِ التَّمْلِيكِ مِنْهَا فَتَقْتَصِرُ عَلَى الْجَوَابِ فِي الْمَجْلِسِ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ أَرَدْت، أَوْ هَوَيْت، أَوْ أَحْبَبْت، أَوْ قَالَ أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ كُنْت تُحِبِّينَنِي، أَوْ تَبْغَضِينَنِي فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهَا مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا كَمَا فِي الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهَا إلَّا بِإِخْبَارِهَا فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالْإِخْبَارِ بِذَلِكَ.
وَإِنْ قَالَتْ فِي ذَلِكَ لَسْت أُحِبُّك ثُمَّ قَالَتْ: أَنَا أُحِبُّك لَمْ تُصَدَّقْ لِلتَّنَاقُضِ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ قَدْ تَمَّ بِقَوْلِهَا الْأَوَّلِ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا قَوْلٌ مَقْبُولٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إنْ كُنْت تُحِبِّينَ الْعِتْقَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ إذَا حِضْت كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهَا اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْحَيْضِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ صَادِقَةً فِيهِ إلَّا بَعْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ، وَرُبَّمَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَمَتَى قَالَتْ حِضْت عَتَقَتْ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ، وَفُلَانَةُ إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت نَفْسِي لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت لَيْسَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهِ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ إنْ شِئْت عِتْقَكُمَا فَلَا يَتِمُّ الشَّرْطُ بِمَشِيئَتِهَا عِتْقَ نَفْسِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ: أَنْتُمَا حُرَّتَانِ إنْ شِئْتُمَا فَشَاءَتْ إحْدَاهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ إنْ شِئْتُمَا عِتْقَكُمَا فَلَا يَتِمُّ الشَّرْطُ بِمَشِيئَةِ إحْدَاهُمَا وَلَا بِمَشِيئَتِهِمَا عِتْقَ إحْدَاهُمَا، وَلَوْ قَالَ: أَيَّتُكُمَا شَاءَتْ الْعِتْقَ فَهِيَ حُرَّةٌ فَشَاءَتَا جَمِيعًا عَتَقَتَا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَيٍّ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَإِنْ شَاءَتْ إحْدَاهُمَا عَتَقَتْ الَّتِي شَاءَتْ؛ لِأَنَّ مَشِيئَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِهَذَا اللَّفْظِ شَرْطُ عِتْقِهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: أَيَّتُكُمَا شَاءَتْ، وَلَمْ يَقُلْ شَاءَتَا جَمِيعًا عَتَقَتَا فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت إحْدَاهُمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ فَإِنْ كَانَ نَوَى إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا عَتَقَتْ هِيَ، وَإِنْ نَوَى إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ إحْدَاهُمَا فَيُعْتِقَهَا، وَيُمْسِكَ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا.
وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ، وَلَهُ عَبِيدٌ، وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادٍ وَمُدَبَّرُونَ، وَمُكَاتَبُونَ عَتَقُوا جَمِيعًا إلَّا الْمُكَاتَبِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتِقُونَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ تُوجِبُ التَّعْمِيمَ، وَقَدْ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِكُلِّ مَمْلُوكٍ مُضَافٍ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ لِي، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَبِيدِ، وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُدَبَّرِينَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُمْ رِقًّا، وَيَدًا حَتَّى يَمْلِكَ اسْتِغْلَالَهُمْ وَاسْتِكْسَابَهُمْ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْمُكَاتَبِينَ؛ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُمْ رِقًّا لَا يَدًا بَلْ الْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ يَدًا حَتَّى كَانَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إكْسَابَهُ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مُطْلَقًا فَلِهَذَا لَا يَدْخُلُونَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ، فَإِنْ نَوَاهُمْ فَنَقُولُ: الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُضِيفُ إلَى نَفْسِهِ مَا يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ نَوَيْت السُّودَ مِنْهُمْ دُونَ الْبِيضِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نَوَى التَّخْصِيصَ بِوَصْفٍ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ، وَلَا عُمُومَ لِمَا لَا لَفْظَ لَهُ، فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ وَهُنَا نَوَى التَّخْصِيصَ فِيمَا فِي لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ حَقِيقَةٌ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَإِنَّ الْأُنْثَى يُقَالُ لَهَا: مَمْلُوكَةٌ وَلَكِنْ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْهِمْ لَفْظُ التَّذْكِيرِ عَادَةً فَإِذَا نَوَى الذَّكَرَ فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْمُسْتَعْمَلِ، فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَلِهَذَا قِيلُ: لَوْ قَالَ: نَوَيْت النِّسَاءَ دُونَ الرِّجَالِ كَانَتْ نِيَّتُهُ لَغْوًا.
(قَالَ): وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، وَفِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ يَقُولُ: إذَا قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ لَمْ يَدِنْ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا فِي الْقَضَاءِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ بِمَا لَيْسَ فِي لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ، وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ فَلَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي إضَافَتِهِ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ، وَالْيَدِ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْمَوْلَى بِرِقِّهِ، وَالتَّدْبِيرُ يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ نُقْصَانٍ فِي رَقِّهِ، وَلِهَذَا قِيلُ: الْمُدَبَّرُ مِنْ، وَجْهٍ كَالْحُرِّ حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ الْبَيْعَ فَكَانَ هُوَ كَالْمُكَاتَبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الْمَوْلَى بِمُطْلَقِ الْمِلْكِ، وَالرِّقِّ إلَّا أَنَّ النُّقْصَانَ هُنَا فِي الْإِضَافَةِ بِمَعْنًى خَفِيٍّ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْقَضَاءِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْكَلَامِ بِدُونِ النِّيَّةِ.
وَفِي الْمُكَاتَبِ النُّقْصَانُ بِسَبَبِ ظَاهِرٍ، وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ لَهُ فِي مَكَاسِبِهِ فَلَا يَدْخُلُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ إنْشَاءُ الْعِتْقَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِتْقَ الْمُدَبَّرِ مِنْ وَجْهِ تَعْجِيلٍ لِمَا اسْتَحَقَّهُ مُؤَجَّلًا فَلَا يَكُونُ إنْشَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِذَا قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ نَوَى مَا يَكُونُ إنْشَاءً مِنْ كُلِّ، وَجْهٍ خَاصَّةً، وَذَلِكَ أَمْرٌ فِي ضَمِيرِهِ خَاصَّةً فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ أَنْتُمْ أَحْرَارٌ إلَّا فُلَانًا كَانَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُقَيَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِعَبْدَيْنِ أَنْتُمَا حُرَّانِ إلَّا سَالِمًا، وَهُوَ اسْمُ أَحَدِهِمَا كَانَ سَالِمٌ عَبْدًا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ عِبَارَةٌ عَمَّا، وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى وَقَدْ بَقِيَ سِوَى الْمُسْتَثْنَى عَبْدٌ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُهُ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَلَوْ قَالَ: سَالِمٌ حُرٌّ، وَمَرْزُوقٌ حُرٌّ إلَّا سَالِمًا عَتَقَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ بِمَا ذُكِرَ لَهُ مِنْ الْخَبَرِ فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا سَالِمًا اسْتِثْنَاءً لِجَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ أَحَدُ كَلَامَيْهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْطِيلٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ لِلتَّحْصِيلِ، وَالْبَيَانِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَبْقَى سِوَى الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ الْكَلَامُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ سَالِمٌ، وَمَرْزُوقٌ حُرَّانِ إلَّا سَالِمًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ هُنَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ وَاحِدٌ هُنَا مَعْنًى حِينَ أَخَّرَ ذِكْرَ الْخَبَرِ حَتَّى عَطَفَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَذَكَرَ مَا يَصْلُحُ خَبَرًا لِلْمُسْتَثْنَى فَعَرَفْنَا بِهِ أَنَّ كَلَامَهُ وَاحِدٌ مَعْنًى فَكَأَنَّهُ قَالَ هُمَا حُرَّانِ إلَّا سَالِمًا فَإِنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا يَمْلِكُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَبَدًا وَلَيْسَ لِلْأَبَدِ نِهَايَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَفِي الْعُرْفِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَى مَوْتِهِ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعِتْقَ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْمِلْكِ كَالطَّلَاقِ فَبِأَيِّ سَبَبٍ يَمْلِكُ الْمَمْلُوكَ مِنْ شِرَاءٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى وَقْتٍ أَوْ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ عِنْدَ، وُجُودِهِ كَالْمُنْجِزِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ، وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْحُكْمِ صَحِيحٌ فَإِنْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَاشْتَرِي مَمْلُوكًا لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ شِرَاءً بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ، وَالْعَاقِدُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْآمِرِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يَشْتَرِيَ هُوَ، وَلَا غَيْرُهُ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ فَإِنَّهُ نَوَى الْحُكْمَ، وَهُوَ الْمِلْكَ بِمَا ذَكَرَ مِنْ سَبَبِهِ، وَهُوَ الشِّرَاءُ قَالُوا: وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يُبَاشِرُ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ لَا يُبَاشِرُ الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ عَادَةً فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ مَنَعَ نَفْسَهُ عَمَّا يُبَاشِرُهُ عَادَةً، فَإِذَا كَانَ عَادَتُهُ الشِّرَاءُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا، وَلَيْسَ لَهُ مَمْلُوكٌ ثُمَّ اشْتَرَى مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْلِكُهُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الِاسْتِقْبَالِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْحَالُ فِي الِاسْتِعْمَالِ يُقَالُ: فُلَانٌ يَمْلِكُ كَذَا، وَأَنَا أَمْلِكُ كَذَا يَعْنِي فِي الْحَالِ فَمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ فِي الْحَالِ لَا يَتَنَاوَلُهُ كَلَامُهُ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى وَقْتٍ، وَالْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْمُنَجَّزُ فَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ الْمُنَجِّزُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَا يَمْلِكُهُ فِي الْحَالِ فَكَذَا الْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ هُنَا فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْحُرِّيَّةِ فَلِهَذَا يَتَنَاوَلُ مَا يَمْلِكُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَإِنْ كَانَ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي يَوْمئِذٍ حُرٌّ عَتَقُوا؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِمَا يَكُونُ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْكَلَامِ، وَمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ، وَقْتَ الْيَمِينِ، وَمَا اسْتَحْدَثَ الْمِلْكُ فِيهِ مَوْصُوفٌ؛ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ وَقْتَ الْكَلَامِ فَيَعْتِقُونَ جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ: يَوْمَ أُكَلِّمُهُ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَى مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ، وَقَوْلُهُ: يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا شَرْطٌ، وَقَوْلُهُ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا حُرٌّ فَيَصِيرُ عِنْدَ وُجُودِ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا، وَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا يَمْلِكُهُ بَعْدَ الْكَلَامِ دُونَ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ قَبْلَ الْكَلَامِ وَالْمُشْتَرَى قَبْلَ الْكَلَامِ مَمْلُوكٌ لَهُ وَقْتَ الْكَلَامِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ إيجَابُهُ، وَإِنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا، وَهُوَ يُرِيدُ مَا يَمْلِكُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ فَاشْتَرَى مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ أَمْلِكُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَلَكِنْ يَعْتِقُ فِي الْقَضَاءِ مَنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ يَتَنَاوَلُ الْمَمْلُوكَ لَهُ فِي الْحَالِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّ مَا نَوَى مِنْ حَقِيقَةِ كَلَامِهِ مُسْتَعْمَلٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا لَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إذَا كَانَ الْمَنْوِيُّ خِلَافَ الْمُسْتَعْمَلِ وَإِنْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ، وَلَهُ عَبْدٌ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِمَمْلُوكٍ مُضَافٍ إلَيْهِ بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا، وَالْمَمْلُوكُ اسْمٌ لِلْعَبْدِ، وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِلَى شَرِيكِهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ، فَإِنْ نَوَاهُ عَتَقَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ لَا يُسَمَّى عَبْدًا، وَلَا مَمْلُوكًا فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الْمَلْفُوظِ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقُولُ جُزْءٌ مِنْ الْعَبْدِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ كَالْكُلِّ، وَلِهَذَا صَحَّ إضَافَةُ التَّصَرُّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمِلْكِ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ، وَبِدُونِ نِيَّتِهِ إنَّمَا لَمْ نُدْخِلْهُ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ اسْمٌ لِلْعَبْدِ الْكَامِلِ عُرْفًا، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا الْعُرْفِ حِينَ نَوَى بِخِلَافِهِ: تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكِ مُضَافٌ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَكُونُ كَالْمُكَاتَبِ يَدْخُلُ بِنِيَّتِهِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ تَاجِرٌ لَهُ مَمَالِيكٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ عَتَقَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ رَقَبَةً، وَيَدًا فَيَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ الْإِضَافَةِ فَأَمَّا مَمَالِيكُهُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَمْ يَعْتِقْ مَمَالِيكَهُ نَوَاهُمْ، أَوْ لَمْ يَنْوِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَعْتِقْ مَمَالِيكَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ نَوَاهُمْ عَتَقُوا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِمْ لَا يَعْتِقُونَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْتِقُونَ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُمْ بِنِيتَةِ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الْمَأْذُونِ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ مُسْتَغْرِقًا بِالدَّيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُهُ وَالثَّانِي- فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَكُونُ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارَ عَبْدِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِلْمِلْكِ، وَكَسْبُ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ وَعِنْدَهُمَا: الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى مَجَازٌ، وَإِلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ بَاعَ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ».
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ تَنْفِيَ عَنْ الْمَوْلَى فَيُقَالُ: هَذِهِ لَيْسَتْ بِدَارِهِ بَلْ هِيَ دَارُ عَبْدِهِ، وَالْعِبْرَةُ لِلْإِضَافَةِ لَا لِلْمِلْكِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا فُلَانٌ عَارِيَّةً، أَوْ إجَارَةً كَانَ حَانِثًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْعَبْدِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ بِعَيْنِهِ لَمْ يَعْتِقْ فَكَذَلِكَ بِمُطْلَقِ كَلَامِهِ، وَإِنْ نَوَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ مُطْلَقًا فَلَا يَعْتِقُ بِمُطْلَقِ كَلَامِهِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ فَإِنْ نَوَاهُ عَتَقَ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مَالِكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ مُطْلَقًا فَلَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِضَافَةُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَيَعْتِقُ بِإِيجَابِهِ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ بِنِيَّةٍ فَيَعْمَلُ اسْتِثْنَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْمُضَافَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا مُضَافٌ إلَيْهِ مِلْكًا، وَلَكِنَّهُ مُضَافٌ إلَى عَبْدِهِ كَسْبًا، أَوْ نَوَى تَخْصِيصَ لَفْظِهِ الْعَامِّ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِذَا دَعَا عَبْدَهُ سَالِمًا فَأَجَابَهُ مَرْزُوقٌ فَقَالَ: أَنْتَ حُرٌّ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَتَقَ الَّذِي أَجَابَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ الْإِيقَاعُ الْجَوَابَ فَيَصِيرُ مُخَاطِبًا لِلْمُجِيبِ، وَإِنْ قَالَ عَنَيْت سَالِمًا عَتَقَ سَالِمٌ بِنِيَّتِهِ لِكَوْنِ الْمَنْوِيِّ مِنْ مُحْتَمِلَاتِ كَلَامِهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي صَرْفِ الْعِتْقِ عَنْ مَرْزُوقٍ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ تَنَاوَلَهُ فِي الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي صَرْفِهِ عَنْهُ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ: يَا سَالِمٌ أَنْتَ حُرٌّ، وَأَشَارَ إلَى شَخْصٍ ظَنَّهُ سَالِمًا، فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ آخَرُ لَهُ، أَوْ لِغَيْرِهِ عَتَقَ عَبْدُهُ سَالِمٌ؛ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ الْإِيقَاعُ النِّدَاءَ فَتَنَاوَلَ الْمُنَادَى خَاصَّةً، وَلَا مُعْتَبَرَ لِظَنِّهِ فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا، وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ، أَوْ أَمَتَهُ ثُمَّ جَحَدَ الْعِتْقَ حَتَّى أَصَابَ مِنْ الْخِدْمَةِ وَالْغَلَّةِ مَا أَصَابَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ أَوَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْخِدْمَةِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا تَتَقَوَّمُ الْمَنْفَعَةُ إلَّا بِعَقْدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ حُرًّا فَاسْتَخْدَمَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى الْمَأْثَمِ عِنْدَنَا فَهَذَا مِثْلُهُ بَلْ عَيْنُهُ.
؛ لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ أَنَّهَا كَانَتْ حُرَّةً حِينَ اسْتَخْدَمَهَا، وَيَرُدُّ عَلَيْهَا مَا أَصَابَ مِنْ غَلَّتِهَا، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَجَّرَتْ نَفْسَهَا، أَوْ اكْتَسَبَتْ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ حُرَّةً مَالِكَةً لِكَسْبِهَا فَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا مَا أَخَذَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَجَّرَهَا فَمَا أَخَذَ مِنْ الْغَلَّةِ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بَعْدِهِ، وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ، وَعَلَيْهِ فِي الْوَطْءِ لَهَا- مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ فِي حَدٍّ، أَوْ مَهْرٍ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ يَوْمئِذٍ فِي الظَّاهِرِ فَوَجَبَ الْمَهْرُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ، وَلِهَذَا يَخْتَصُّ إبَاحَةُ تَنَاوُلِهِ بِالْمِلْكِ، وَلَا يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ إلَّا مُؤَبَّدًا وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيٌّ جَنَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى إلْزَامِ الْجَانِي حُكْمَ أَرْشِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْجَانِي، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً، فَمَا وَجَبَ مِنْ أَرْشِ الْمَمَالِيكِ يَكُونُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حَوَّلَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ إلَيْهَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مُقِرًّا بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ لَزِمَ الْجَانِي حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَالثَّابِتُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ بِهَا قَبْلَ الْجِنَايَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً عَلَى الْحُرِّ.
وَلَمْ يَجُزْ عِتْقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي حَالِ جُنُونِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا هَدَرَ شَرْعًا خُصُوصًا فِيمَا يَضُرُّهُمَا، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفُذُ إلَّا بِقَوْلٍ مُلْزِمٍ لَا أَنَّهُ مُلْزِمٌ فِي نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُمَا غَيْرُ مُلْزِمٍ شَرْعًا، وَإِنْ أَعْتَقَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطِبٌ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْعَبْدَ حَقِيقَةً فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ وَإِنْ قَالَ أَعْتَقْت عَبْدِي، وَأَنَا صَبِيٌّ، وَأَنَا نَائِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إقْرَارَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي إعْتَاقَهُ فَكَانَ إنْكَارًا لِلْعِتْقِ مَعْنًى، وَإِقْرَارًا صُورَةً وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَعْتَقْته قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي تَصَوُّرَ الْإِعْتَاقِ فَيَكُونُ هَذَا أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى حَالَةٍ تُنَافِي الْإِعْتَاقَ شَرْعًا، وَإِذَا وَجَبَ تَصْدِيقُهُ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى وَإِذَا قَالَ: لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ مَتَى شِئْت، أَوْ كُلَّمَا شِئْت، أَوْ مَا شِئْت فَقَالَ الْعَبْدُ إلَّا أَشَاءُ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ شَاءَ الْعِتْقَ، فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِوُجُودِ مَشِيئَتِهِ فِي عُمْرِهِ، وَلَمْ يَفُتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْمَشِيئَةُ بَعْدَهُ، وَقَوْلُهُ لَا أَشَاءُ كَسُكُوتِهِ، أَوْ قِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَلَا يُجْعَلُ قَوْلُهُ لَا أَشَاءُ رَدًّا لِأَصْلِ كَلَامِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ يَتِمُّ بِالْمَوْلَى فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْعَبْدِ، وَإِذَا بَقِيَ التَّعْلِيقُ نَزَلَ الْعِتْقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بِمَشِيئَتِهِ.
(قَالَ): أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ يَعْتِقُ وَهَذَا مَذْهَبُنَا فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ كَمَا يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهَا، وَبِالْبَيْعِ زَالَ مِلْكُهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْمِلْكُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ، وُجُودُ الْمَحْلُوفِ بِهِ فَلِهَذَا صَحَّحْنَا إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى الْمِلْكِ، وَالْمَحْلُوفُ بِهِ هُوَ الْعِتْقُ وَمَحَلِّيَّةُ الْعَبْدِ لِلْعِتْقِ بِصِفَةِ الرِّقِّ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالْبَيْعِ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْمِلْكُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِنُزُولِ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ يَتَّصِلُ بِالْمَحَلِّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ بَقَاءُ الْيَمِينِ بِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ وَبَقَاءُ الْمَحْلُوفِ بِهِ لِكَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمِلْكِ فِيهِ.
وَإِنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ حَيْثُ شِئْت فَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ بَطَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَيْثُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ أَيْ أَنْتَ حُرٌّ فِي أَيِّ مَكَان شِئْت فَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يُوجِبُ تَعْمِيمًا فِي الْوَقْتِ فَيَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ، إنْ شِئْت وَإِنْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْت عَتَقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِهِمَا مَا لَمْ يَشَأْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ، وَالْعِتْقُ قِيَاسُهُ، وَقَوْلُهُ كَيْفَ شِئْت فِي الْعِتْقِ لَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّ بَعْدَ نُزُولِ الْعِتْقِ لَا مَشِيئَةَ لِأَحَدٍ فِي تَغْيِيرِهِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ، وَلِهَذَا لَوْ شَاءَ الْعَبْدُ عَتَقَا عَلَى مَالٍ، أَوْ إلَى أَجَلٍ، أَوْ بِشَرْطٍ أَوْ شَاءَ التَّدْبِيرَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ كُلُّهُ، وَهُوَ حُرٌّ، وَإِنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ، وَاحِدٌ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ مَحَلَّ الْعِتْقِ بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ، فَكَأَنَّهُ عَرَفَهُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ أَوْجَبَ مَا لَا يَتِمُّ إيجَابُهُ إلَّا فِي مِلْكِهِ فَتَعَيَّنَ مِلْكُهُ لَهُ فَإِنْ قَالَ لِي عَبْدٌ آخَرُ، وَإِيَّاهُ عَنَيْت لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ تَنَاوَلَ ذَلِكَ الْعَبْدَ الَّذِي ظَهَرَ مِلْكُهُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَيَكُونُ هُوَ مُتَّهَمًا فِي صَرْفِهِ عَنْهُ إلَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي إلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَوْ قَالَ: أَبِيعُك عَبْدًا بِكَذَا، وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهُ فِي مَجْهُولٍ، وَإِيجَابُ الْبَيْعِ فِي الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ اتَّفَقَا أَنَّهُ هَذَا، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ، وَالْمُنَازَعَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَكَانَ بَيَانُهُمَا فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ قَالَ: أَبِيعُك عَبْدِي بِكَذَا، وَلَمْ يُسَمِّ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْرِيفِ بِالْإِشَارَةِ إلَى مَكَانِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مُسَمًّى بِذَلِكَ الِاسْمِ إلَّا وَاحِدٌ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ.
(قَالَ): وَلَيْسَ هَذَا كَالْعِتْقِ وَظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ مُرَادُهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي إثْبَاتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ هُوَ الْفَرْقُ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْعِتْقِ فِي الْمَجْهُولِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ إيجَابِ الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ قَالَ أَعْتَقْت عَبْدًا، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ يَعْتِقُ ذَلِكَ الْعَبْدُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك عَبْدًا؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ تَتَمَكَّنُ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ فِي الْبَيْعِ دُونَ الْعِتْقِ، وَالْبَيَانُ مِنْ الْمَوْلَى مَقْبُولٌ فِي الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَا يُقَابِلُهُ اسْتِيجَابٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَلَوْ قَالَ: أَحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ، أَوْ أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ، وَاحِدٌ عَتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ مَحَلَّ الْعِتْقِ بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ بِالْمِلْكِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ وَاحِدًا كَانَ مُتَعَيَّنًا لِإِيجَابِهِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُ كَمَا حُرٌّ عَتَقَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ كَالطَّلَاقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ إنَّمَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْإِيجَابُ فِي الْمَجْهُولِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِشَرْطِ الْبَيَانِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ قُتِلَ تَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الَّذِي مَاتَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِإِيقَاعِ الْعِتْقِ عَلَيْهِ، وَالْعِتْقُ الْمُبْهَمُ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ كَالنَّازِلِ عِنْدَ الْبَيَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءٍ لِمَحَلٍّ؛ لِيَبْقَى خِيَارُهُ فِي الْبَيَانِ، وَعَدَمُ التَّعَيُّنِ فِي الْبَاقِي مِنْهُمَا كَانَ لِمُزَاحَمَةِ الْآخَرِ إيَّاهُ وَقَدْ زَالَتْ هَذِهِ الْمُزَاحَمَةُ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ فَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ فِي الْآخَرِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا، وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِي الْهَالِكِ، وَهُنَا يَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْقَائِمِ قَالَ عَلِيٌّ الْقُمِّيُّ: وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ هُنَاكَ حِينَ أَشْرَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْهَلَاكِ تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ كَمَا قَبَضَ فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلْبَيْعِ، وَهُوَ حَيٌّ لَا مَيِّتٌ، وَهُنَا لَوْ تَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِيهِ تَعَيَّنَ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِشْرَافِ عَلَى الْهَلَاكِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعِتْقِ فَيَتَعَيَّنُ فِي الْقَائِمِ ضَرُورَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا أَوْ وَهَبَهُ؛ لِأَنَّهُ اكْتَسَبَ فِيهِ سَبَبَ التَّمْلِيكِ، وَالْمُعْتَقُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ فَمِنْ ضَرُورَةِ اكْتِسَاب سَبَبِ التَّمْلِيكِ فِيهِ نَفْيُ الْعِتْقِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ مِنْ مُزَاحَمَةِ الْآخَرِ فِي ذَلِكَ الْعِتْقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ هَذَا، انْتِفَاءُ ذَلِكَ الْعِتْقِ عَنْ هَذَا الْمَحَلِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَّرَ أَحَدَهُمَا صَحَّ تَدْبِيرُهُ؛ لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَاهُ فِي الظَّاهِرِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ التَّدْبِيرِ انْتِفَاءُ ذَلِكَ الْعِتْقِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ لَا يُدَبَّرُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقٌ لِلْعِتْقِ بِالشَّرْطِ، وَالْعِتْقُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فَمِنْ ضَرُورَةِ تَنَجُّزِهِ، بُطْلَانُ التَّعَلُّقِ بِالْمَوْتِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ انْتِفَاءُ تَنَجُّزِ الْعِتْقِ فِيهِ قَبْلَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا أَمَتَيْنِ فَوَطِئَ إحْدَاهُمَا فَعَلِقَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ، وَلَدٍ لَهُ فَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ بِهَا انْتِفَاءُ الْعِتْقِ الْمُنَجَّزِ عَنْهَا، وَإِذَا انْتَفَى عَنْ إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَ فِي الْأُخْرَى لِزَوَالِ الْمُزَاحَمَةِ، وَلَوْ، وَطِئَ إحْدَاهُمَا، وَلَمْ تَعْلَقْ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْأُخْرَى بَلْ يَبْقَى خِيَارُهُ فِي الْبَيَانِ: وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَطْءَ تَصَرُّفٌ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ فِي إحْدَاهُمَا دَلِيلُ تَعْيِينِ الْمِلْكِ فِيهَا، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ ذَلِكَ الْعِتْقِ عَنْهَا فَتَعَيَّنَ فِي الْأُخْرَى، وَقَاسَا بِمَا بَيَّنَّا فِي التَّصَرُّفَاتِ وَبِمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَ إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَ الطَّلَاقُ فِي الْأُخْرَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحِلِّ مَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُ، وَدِينَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْحَرَامِ، وَوَطْؤُهُمَا جَمِيعًا لَيْسَ بِحَلَالٍ لَهُ حَتَّى لَا يُفْتَى لَهُ بِذَلِكَ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ حِلِّ الْوَطْءِ فِي إحْدَاهُمَا انْتِفَاءُ الْعِتْقِ عَنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ، وَطِئَهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَصِيرُ فَاسِخًا لِلْبَيْعِ، وَهُنَاكَ الْجَارِيَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ، وَوَطْؤُهَا حَلَالٌ لَهُ ثُمَّ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ انْتِفَاءُ سَبَبِ الْمُزِيلِ عَنْهَا فَهُنَا أَوْلَى، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ إحْدَى الْأَمَتَيْنِ، وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ وَطِئَ إحْدَاهُمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْبَيْعَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فَوَطِئَ إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِيهَا لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْحِلِّ لِفِعْلِهِ فَهَذَا قِيَاسُهُ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ، وَطْؤُهُمَا جَمِيعًا مَمْلُوكٌ لَهُ، وَالْوَطْءُ فِي الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِخْدَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ لَيْسَ فِي الْوَطْءِ إلَّا اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْمُفَارَقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ فِي الْمِلْكِ الْوَطْءُ نَظِيرُ الِاسْتِخْدَامِ، وَبَيَانُ أَنَّ وَطْأَهُمَا مَمْلُوكٌ لَهُ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ؛ فَلِأَنَّهُمَا لَوْ وَطِئَهُمَا بِالشُّبْهَةِ كَانَ الْوَاجِبُ عَقْرَ الْمَمْلُوكَتَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْبَدَلَ الْأَصْلُ، وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ؛ فَلِأَنَّهُمَا كَانَتَا مَمْلُوكَتَيْنِ لَهُ قَبْلَ إيجَابِ الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْعِتْقَ فِي نَكِرَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا مَعْرِفَةٌ، وَالْمُنْكَرُ غَيْرُ الْمَعْرُوفِ فَلَا يَجُوزُ إيجَابُ الْعِتْقِ فِي الْمُعَيَّنِ قَبْلَ بَيَانِهِ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ، وَلَا يَقُولُ هُوَ فِي الذِّمَّةِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَهُ فِي الذِّمَّةِ وَلَكِنْ يَقُولُ هُوَ فِي الْمُنْكَرِ كَمَا أَوْجَبَهُ، وَعَدَمُ التَّعَيُّنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيجَابِ فِيمَا هُوَ أَضْيَقُ مِنْ هَذَا مَعْنًى حَتَّى لَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ جَازَ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ صِحَّةَ الْإِيجَابِ هُنَا أَوْلَى، وَلَكِنَّ الْإِيجَابَ فِي الْمُنْكَرِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِشَرْطِ الْبَيَانِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ الْوُصُولَ إلَى الْمَحَلِّ، وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالْبَيْعِ الْمُعْتَبَرِ انْتِفَاءُ مَعْنَى الْمُنَازَعَةِ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ، فَإِذَا بَقِيَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَمْلُوكَةً لَهُ عَيْنًا بَقِيَ، وَطْءُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَمْلُوكًا لَهُ وَلَكِنْ لَا يُفْتَى بِالْحِلِّ؛ لِأَنَّ الْمُنَكَّرَ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الْعِتْقُ فِيهِمَا، وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا لَا يُفْتَى بِحِلِّ، وَطْئِهِمَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ وَطْؤُهُمَا مَمْلُوكًا لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ إلَّا مِلْكُ الْحِلِّ.
وَالطَّلَاقُ مُوجِبُهُ الْأَصْلِيُّ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْوَصْفَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ بَاقِيًا لَهُ فِي الْمَوْطُوءَةِ انْتِفَاءُ التَّطْلِيقَاتِ عَنْهَا فَيَتَعَيَّنُ فِي الْأُخْرَى، وَأَمَّا الْعِتْقُ يُزِيلُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، وَحِلُّ الْوَطْءِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لَا بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّ انْتِفَاءِ الْعِتْقِ عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَلَا يُقَالُ: هُنَا لَا سَبَبَ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ إلَّا مِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ انْتِفَاءُ مِلْكِ الْمُتْعَةِ الثَّابِتِ بِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ طَرِيقَ الضَّرُورَةِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْجُمْلَةُ، لَا الْأَحْوَالُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقُطِعَتْ يَدُ الْوَلَدِ وَأَخَذَ الْمُشْتَرِي الْأَرْشَ ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَ الْوَلَدِ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَحُكِمَ بِحُرْمَةِ الْأَصْلِ لِلْوَلَدِ، وَبَقِيَ الْأَرْشُ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي، وَلَا سَبَبَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِمِلْكِهِ الْأَرْشَ سِوَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ ثُمَّ نُظِرَ إلَى الْجُمْلَةِ دُونَ الْأَحْوَالِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى لَحْمًا فَأَخْبَرَهُ عَدْلٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ، وَسَبَبُ الْمِلْكِ هُنَا مِلْكُ الْعَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ حِلُّ التَّنَاوُلِ يَثْبُتُ فِي الطَّعَامِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ نُظِرَ إلَى الْجُمْلَةِ دُونَ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ حِلِّ الْوَطْءِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَالْحُرِّيَّةِ فِي مَحَلِّ، وَاحِدٍ ابْتِدَاءً، وَبَقَاءً فِي الْجُمْلَةِ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ إقْدَامُهُ عَلَى الْوَطْءِ دَلِيلُ بَقَاءِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لَهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ مُنَافَاةَ الْحُرِّيَّةِ عَنْهُ ضَرُورَةً: تَوْضِيحُهُ أَنَّ وَطْءَ إحْدَاهُمَا دَلِيلُ الْحُرْمَةِ فِي الْأُخْرَى، وَالتَّصْرِيحُ بِالْحُرْمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ بِأَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُرْمَةِ فِي الْأُخْرَى يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ فَأَمَّا التَّصْرِيحُ بِالْحُرْمَةِ لَا يَنْزِلُ بِهِ الْعِتْقُ فَكَذَلِكَ الْبَيَانُ لَا يَحْصُلُ بِمَا يَكُونُ دَلِيلَ الْحُرْمَةِ فِي إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ كَالْإِيجَابِ ابْتِدَاءً، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَمَّا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْهُ فَاسِخًا لِلْبَيْعِ بِالْوَطْءِ لَكَانَ إذَا جَازَ الْبَيْعُ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ كَانَ الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْبَائِعَ، وَطِئَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ بَيَانًا وَهُنَا لَوْ عَيَّنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَوْطُوءَةِ لَا يَتَبَيَّنُ انْعِدَامُ مِلْكِهِ فِيهَا سَابِقًا عَلَى الْوَطْءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ يَكُونُ الْأَرْشُ سَالِمًا لِلْمَوْلَى، وَإِنْ عَيَّنَ الْعِتْقَ فِيهَا مَعَ أَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ هُنَاكَ يَحْصُلُ بِالْجِنَايَةِ، وَهُنَا لَا يَحْصُلُ بِجِنَايَتِهِ عَلَى إحْدَاهُمَا بِالْبَيَانِ فَكَذَلِكَ بِالْوَطْءِ، وَكَذَلِكَ فِي بَيْعِ إحْدَى الْأَمَتَيْنِ، أَمَّا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي؛ فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إحْدَاهُمَا إلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ الْبَيْعِ فِيهَا، وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ الْبَيْعَ فِيهَا بَعْدَ الْوَطْءِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِي الْأُخْرَى ضَرُورَةً، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ لَوْ قَبَّلَ إحْدَاهُمَا، أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تَحِلُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ كَالْوَطْءِ، وَلَوْ أَعْتَقَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا ثُمَّ قَالَ: إيَّاهَا كُنْت عَنَيْت بِذَلِكَ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ كَانَ مُصَدَّقًا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-؛ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ الْأَوَّلَ فِي حَقِّ الْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ نَازِلًا حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَوْقِعْ، فَكَانَ هَذَا إيقَاعًا لِذَلِكَ الْعِتْقِ فِي الْعَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ نَازِلٌ فِي إحْدَاهُمَا حَتَّى يُقَالَ لَهُ: بَيِّنْ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ، وَلَكِنَّ لَفْظَهُ فِي الْإِيقَاعِ، وَالْبَيَانِ يَتَقَارَبُ، وَالْبَيَانُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَيُحْمَلُ فِعْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ.
وَإِنْ قَالَ أَرَدْت بِهِ الْإِيقَاعَ ابْتِدَاءً صَحَّ إيقَاعُهُ؛ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ مَحَلًّا قَابِلًا لِتَصَرُّفِهِ، وَبِتَقَرُّرِ إيقَاعِهِ تَخْرُجُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِذَلِكَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فَيَتَعَيَّنُ فِي الْأُخْرَى كَمَا لَوْ دَبَّرَ إحْدَاهُمَا، وَلَوْ فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَ إحْدَاهُمَا فَالْمَوْلَى عَلَى خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ الْمَفْقُوءَ عَيْنُهَا مَحَلٌّ لِلْعِتْقِ كَالْأُخْرَى وَسَوَاءٌ أَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَيْهَا، أَوْ عَلَى الْأُخْرَى فَالْوَاجِبُ عَلَى الْفَاقِئِ أَرْشُ عَيْنِ الْأَمَةِ لِلْمَوْلَى، أَمَّا إذَا أَوْقَعَ عَلَى الْأُخْرَى فَلَا إشْكَالَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْقَعَ عَلَى الْمَفْقُوءِ عَيْنُهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً حِينَ فُقِئَتْ عَيْنُهَا فَصَارَ أَرْشُ عَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ مُسْتَحَقًّا لِلْمَوْلَى، ثُمَّ إيقَاعُ الْعِتْقِ عَلَيْهَا يَعْمَلُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا دُونَ مَا فَاتَ، وَنَظِيرُهُ أَرْشُ الْيَدِ فِي، وَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَهُ أَنَّهُ يَبْقَى سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي.
وَإِنْ قَالَ: كُنْت عَنَيْتهَا حِينَ أَوْقَعْت الْعِتْقَ، أَوْ قَالَ: كُنْت أَوْقَعْت الْعِتْقَ عَلَيْهَا قَبْلَ فَقْءِ الْعَيْنِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي حَقِّ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَرْشُ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ بِهَذَا الْكَلَامِ يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُ أَرْشُ عَيْنِ حُرَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يُصَدَّقُ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الْأَرْشُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْأَرْشِ ظَاهِرًا، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ لَهَا، فَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَوْ قَتَلَهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَإِنْ قَتَلَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْأُولَى لِلْمَوْلَى، وَدِيَةُ الْأُخْرَى لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّ بِقَتْلِ إحْدَاهُمَا يَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْأُخْرَى ضَرُورَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتَلَهَا، وَهِيَ حُرَّةٌ، وَإِنْ قَتَلَهُمَا مَعًا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ أَمَةٍ، وَدِيَةُ حُرَّةٍ إنْ اسْتَوَتْ الْقِيمَتَانِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَنِصْفُ دِيَةِ حُرَّةٍ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ قَتَلَ حُرَّةً، وَأَمَةً.
وَقَتْلُ الْحُرِّ يُوجِبُ الدِّيَةَ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَنِصْفُ دِيَتِهَا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فَاتَ حِينَ قُتِلَتَا، وَعِنْدَ فَوْتِ الْبَيَانِ يَشِيعُ الْعِتْقُ فِيهِمَا: (فَإِنْ قِيلُ): إذَا لَمْ يَكُنْ الْعِتْقُ نَازِلًا فِي إحْدَاهُمَا كَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةُ حُرَّةٍ؟ (قُلْنَا): هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْعِتْقَ نَازِلٌ فِي الذِّمَّةِ، وَنَحْنُ قُلْنَا: إنَّ الْعِتْقَ نَازِلٌ فِي الْمُنَكَّرِ وَذَلِكَ الْمُنَكَّرُ فِيهِمَا لَا يَعْدُوهُمَا فَعِنْدَ اتِّحَادِ الْقَاتِلِ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَاتِلٌ لِلْمُنَكَّرِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْعِتْقُ.
وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ: لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَحَدِ عَبْدَيْهِ ثُمَّ مَاتَ فَأَعْتَقَهُمَا الْمُوصَى لَهُ ثُمَّ عَيَّنَ الْوَارِثُ، وَصِيَّتَهُ فِي إحْدَاهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ مِنْ قِبَلِهِ ثُمَّ نِصْفُ مَا وَجَبَ فِي بَدَلِ نَفْسِ كُلِّ، وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَكُونُ لِمَوْلَاهَا، وَالنِّصْفُ لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً فَبَدَلُ نَفْسِهَا لِوَارِثِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَبَدَلُ نَفْسِهَا لِمَوْلَاهَا فَيَتَوَزَّعُ نِصْفَيْنِ لِلْمُسَاوَاةِ وَلَوْ قَتَلَهُمَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَتَلَ إحْدَاهُمَا فَإِنْ كَانَ عَلَى التَّعَاقُبِ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْأَوَّلِ قِيمَةُ الْأُولَى لِمَوْلَاهَا، وَعَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي دِيَتُهَا لِوَرَثَتِهَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ تَعَيَّنَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ مَعًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةُ أَمَةٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلَيْنِ إنَّمَا قَتَلَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا، وَالْعِتْقُ فِي حَقِّ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَمْلُوكَةً عَيْنًا، وَإِنَّمَا نُزُولُ الْعِتْقِ فِي الْمُنَكَّرِ، وَلَا يَتَيَقَّنُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلٌ لِذَلِكَ الْمُنَكَّرِ فَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى أَوْ لِوَرَثَتِهَا، وَقِيلُ: هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ النِّصْفُ لِلْمَوْلَى مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَالنِّصْفُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ فِي إحْدَاهُمَا فَلَا يَسْتَحِقُّ بَدَلَ نَفْسِهَا فَيَتَوَزَّعُ ذَلِكَ نِصْفَيْنِ لِهَذَا، وَلَوْ قَطَعَ أَيْدِيَهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ جَمِيعًا مَعًا، أَوْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجُلَانِ كَانَ الْوَاجِبُ أَرْشَ يَدَيْ مَمْلُوكَتَيْنِ، وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ يَبْقَى خِيَارُ الْمَوْلَى لِبَقَاءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِلْعِتْقِ، وَمَا بَقِيَ خِيَارُ الْمَوْلَى لَا يَكُونُ الْعِتْقُ نَازِلًا فِي عَيْنِ إحْدَاهُمَا فَإِنَّمَا أُبِينَتْ يَدُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ بِخِلَافِ الرِّقِّ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى خِيَارُ الْمَوْلَى فِي الْبَيَانِ بَعْدَمَا قُتِلَتْ أَوْ إحْدَاهُمَا، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ خِيَارُهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْحُكْمِ بِشُيُوعِ الْعِتْقِ فِيهِمَا.
وَإِذَا كَانَ قَاتِلُهُمَا وَاحِدًا نَتَيَقَّنُ، بِأَنَّهُ قَتَلَ حُرَّةً، وَأَمَةً، وَإِنْ لَمْ يَجْنِ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ، وَلَكِنَّ الْمَوْلَى مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ، عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا وَسَعَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ فَاتَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَإِنَّ وَارِثَهُ لَا يَخْلُفهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَقِفُ عَلَى مُرَادِهِ؛ وَلِأَنَّ مُجَرَّدَ الْخِيَارِ لَا يُورَثُ، وَلَمَّا فَاتَ الْبَيَانُ شَاعَ الْعِتْقُ فِيهِمَا إذْ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، وَبَعْدَمَا عَتَقَ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَجِبُ إخْرَاجُ النِّصْفِ الْبَاقِي إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى عِنْدَ الْمَوْتِ إحْدَاهُمَا عَتَقَتْ كُلُّهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ ثُلُثُ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ كَانَ مِنْهُ فِي الصِّحَّةِ وَقَدْ تَمَّ الِاسْتِحْقَاقُ بِهِ فِي حَقِّهِ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنْكِيرَ فِي جَانِبِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ عَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى؛ لِأَنَّ إحْدَاهُنَّ قَدْ بَانَتْ فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ لَا تَنْكِيرَ فِي جَانِبِهِ، وَلَوْ جَنَتْ إحْدَاهُمَا جِنَايَةً قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى ثُمَّ اخْتَارَ إيقَاعَ الْعِتْقِ عَلَيْهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ كَانَ مُخْتَارًا لِلْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُوقِعَ الْعِتْقَ عَلَى الْأُخْرَى فَإِيقَاعُهُ عَلَى هَذِهِ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقٍ مُبْتَدَأٍ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِهِ دَفْعُهَا فَيَصِيرُ مُخْتَارًا لِلدِّيَةِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّهِمْ أَنَّهُ كَانَ أَرَادَهَا بِذَلِكَ الْعِتْقِ السَّابِقِ، وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا، وَسَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى، وَكَانَ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الَّتِي جَنَتْ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ دَفْعُهَا حِينَ عَتَقَ نِصْفُهَا عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ الْمَوْلَى مُخْتَارًا بَلْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِتَرْكِ الْبَيَانِ فِي الْأُخْرَى حَتَّى مَاتَ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا كَمَا لَوْ أَعْتَقَ الْجَانِيَةَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْجِنَايَةِ.
وَلَوْ بَاعَ إحْدَاهُمَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ وَقَعَ الْعِتْقُ عَلَى الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالْبَيْعِ فِي إحْدَاهُمَا نَافِذٌ، وَمِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِهِ خُرُوجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِذَلِكَ الْعِتْقِ فَيَتَعَيَّنُ فِي الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ إحْدَاهُمَا بَيْعًا فَاسِدًا، وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي وَهَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ قَدْ مَلَكَهَا فَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَيُّنِ الْعِتْقِ فِي الْأُخْرَى، وَلَكِنْ قِيلُ: لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فَسَوَاءٌ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا تَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِي الْأُخْرَى، لِأَنَّ الْبَيْعَ اسْمٌ خَاصٌّ لِتَمْلِيكِ مَالٍ بِمَالٍ فَفِي قَوْلِهِ بِعْت هَذَا بِكَذَا إقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهَا فِي ذَلِكَ الْعِتْقِ فَيَتَعَيَّنُ فِي الْأُخْرَى، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْبَيْعِ تُعَيَّنُ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا بَاعَ إحْدَاهُمَا بَيْعًا فَاسِدًا أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْبَيَانِ مِمَّنْ لَهُ خِيَارٌ كَصَرِيحِ الْبَيَانِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَمَا خَيَّرَ بَرِيرَةَ قَالَ لَهَا: إنْ وَطِئَك زَوْجُك فَلَا خِيَارَ لَك» وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ عَتَقَتْ الْبَاقِيَةُ وَهَذَا أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لَوْ أَعْتَقَهَا عَتَقَتْ مِنْ قِبَلِهِ فَمِنْ ضَرُورَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ خُرُوجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُزَاحِمَةً فِي ذَلِكَ الْعِتْقِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ يُوجِبُ لَهَا مِلْكَ الْيَدِ فِي نَفْسِهَا، وَمَكَاسِبِهَا بِعِوَضٍ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعِتْقِ فَكَانَ انْتِفَاءُ الْعِتْقِ عَنْهَا مِنْ ضَرُورَةِ تَصَرُّفِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْمُرْتَهِنِ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ فِي مَالِيَّتِهَا بِتَصَرُّفِهِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْعِتْقِ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُسْتَأْجَرِ بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ انْتِفَاءُ الْعِتْقِ عَنْهَا، وَإِنْ اسْتَخْدَمَهَا لَمْ تَعْتِقْ الْبَاقِيَةُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اسْتِخْدَامِهِ إيَّاهَا انْتِفَاءُ الْعِتْقِ عَنْهَا فَالْإِنْسَانُ قَدْ يَسْتَخْدِمُ الْحُرَّةَ خُصُوصًا إذَا كَانَتْ مَوْلَاةً لَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ شَرْعًا بِرِضَاهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلُ الْبَيَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ الصَّبِيِّ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إذَا احْتَلَمْت فَهُوَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِقَوْلٍ مُلْزِمٍ وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ قَوْلٌ مُلْزِمٍ شَرْعًا خُصُوصًا فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ، وَالْمَجْنُونُ كَالصَّبِيِّ، وَإِذَا قَالَ الصَّحِيحُ: عَبْدِي حُرٌّ يَوْمَ أَفْعَلُ كَذَا فَفَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ مَعْتُوهٌ عَتَقَ عَبْدُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجِزِ، وَالْمَعْتُوهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ تَنْجِيزِ الْعِتْقِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْعَتَهُ لَا يُعْدِمُ مِلْكَهُ، وَلَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ مِنْهُ إنَّمَا يُهْدَرُ قَوْلُهُ، وَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجِزِ بِذَلِكَ التَّعْلِيقِ السَّابِقِ، وَقَدْ صَحَّ مِنْهُ وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ صَارَ ذِمِّيًّا، أَوْ أَسْلَمَ، وَعَبْدُهُ مَعَهُ فِي يَدِهِ فَهُوَ عَبْدُهُ وَعِتْقُهُ، وَتَدْبِيرُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ-.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: عِتْقُهُ نَافِذٌ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْإِبْطَالِ فَيَصِحُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالطَّلَاقِ ثُمَّ مِلْكُ الْحَرْبِيِّ أَضْعَفُ مِنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِ فَإِذَا كَانَ مِلْكُ الْمُسْلِمِ يَزُولُ بِالْعِتْقِ مَعَ تَأَكُّدِهِ بِالْإِحْرَازِ، فَمِلْكُ الْحَرْبِيِّ أَوْلَى، وَهُمَا يَقُولَانِ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَقٌ بِلِسَانِهِ مُسْتَرَقٌّ بِيَدِهِ، وَهُوَ مَحَلٌّ لِلِاسْتِرْقَاقِ.
وَالدَّارُ دَارُ الْقَهْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ شَيْئًا.
وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إحْدَاثُ قُوَّةٍ، وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ حَرْبِيًّا لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى إحْدَاثُ الْقُوَّةِ؛ لِأَنَّهُ عُرْضَةٌ لِلتَّمَلُّكِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى-: أَهْلُ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَرِقَّاءِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا كَانَ الْعِتْقُ نَافِذًا، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ لَا خِلَافَ فِي نُفُوذِ الْعِتْقِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ حُكْمِ مِلْكِهِمْ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْمُعْتِقُ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْمُعْتَقِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ الْعِتْقُ.
وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي إثْبَاتِ الْوَلَاءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحْطَاوِيُّ: أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-: لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِلْمُعْتَقِ، وَلَهُ أَنْ يُوَالِي مَنْ شَاءَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُسْتَأْمَنُ لِغِلْمَانٍ فِي يَدِهِ: هَؤُلَاءِ أَوْلَادِي أَوْ لِجِوَارٍ فِي يَده هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ يَتَأَكَّدُ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَبْطُلُ.
وَهُمَا يَقُولَانِ: ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ عَلَى الْمُعْتَقِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَ بِدَارِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ أَثَرُ مِلْكٍ مُحْتَرَمٍ، وَلَا حُرْمَةَ لِمِلْكِ الْكَافِرِ ثُمَّ لَوْ أَحْرَزَ الْمَمْلُوكُ نَفْسَهُ بِدَارِنَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وَلَاءٌ فَكَذَلِكَ الْمُعْتَقُ وَالْأَصْلُ فِيهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سِتَّةً مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ خَرَجُوا حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مُحَاصِرًا لَهُمْ ثُمَّ خَرَجَ مَوَالِيهِمْ يَطْلُبُونَ وَلَاءَهُمْ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ» إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَوَالِي اكْتِسَابُ سَبَبِ الْوَلَاءِ وَإِنَّمَا زَالَ مِلْكُهُمْ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ، وَهُنَا مِنْ الْمَوْلَى قَدْ وُجِدَ اكْتِسَابُ سَبَبِ الْوَلَاءِ بِالْعِتْقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.، وَإِلَيْهِ الْمُرْجِعُ وَالْمَآبُ.