فصل: بَابُ الشَّهَادَةِ فِي اللِّعَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الشَّهَادَةِ فِي اللِّعَانِ:

(قَالَ): رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا شَهِدَ الزَّوْجُ، وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالزِّنَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَأُمْضِيَ عَلَيْهَا الْحَدُّ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالزِّنَا لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَاذِفًا لَهَا مُسْتَوْجِبًا لِلِّعَانِ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ، وَلِأَنَّهُ شَاهِدٌ طُعِنَ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَغِيظُهُ زِنَاهَا فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا لَا بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهَا الْجِنَايَةَ فِي أَمَانَتِهِ فَالْفِرَاشُ أَمَانَةُ الزَّوْجِ عِنْدَهَا، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُدَّعِي، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا بِحَقِّ آخَرَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ لِظُهُورِ الْعَدَالَةِ، وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ بِالزِّنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ التُّهْمَةِ هُنَا أَظْهَرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّوْجَ يَسْتُرُ الزِّنَا عَلَى امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشِينُهُ وَمَعْنَى الْغَيْظِ الَّذِي قَالَ يَبْطُلُ بِالْأَبِ إذَا شَهِدَ عَلَى ابْنَتِهِ بِالزِّنَا تُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ يَغِيظُهُ زِنَاهَا، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ إنَّهُ خَصْمٌ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَهُ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ كَوْنَهُ خَصْمًا مُسْتَوْجِبًا لِلِّعَانِ كَالْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّ قَذْفَ الْأَجْنَبِيِّ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، ثُمَّ إذَا أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْجِبًا لِلْحَدِّ، وَكَانَ مُحْتَسِبًا فِي الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَهَا أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْجِبًا لِلِّعَانِ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِالشَّهَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ إسْقَاطَ اللِّعَانِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْحَدُّ الْوَاجِبُ بِزِنَاهَا يُخَلِّصُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَكُونُ الزَّوْجُ مُدَّعِيًا إذَا قَصَدَ بِشَهَادَتِهِ إثْبَاتَ حَقٍّ لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إثْبَاتُ حَقٍّ لَهُ وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ بِأَنْ لَمْ يُعَدَّلُوا لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجِ، كَمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْأَجَانِبِ لِتَكَامُلِ عَدَدِ الشُّهُودِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ: لَوْ قَذَفَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ جَاءَ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا فَلَمْ يُعَدَّلُوا لَاعَنَهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ اللِّعَانَ بِقَذْفِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِثُبُوتِ الزِّنَا عَلَيْهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُهَا؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَأَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُحَدَّ، وَكَذَلِكَ لَا يُلَاعِنُهَا الزَّوْجُ.
وَلَوْ شَهِدَ مَعَ الزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْعُمْيَانِ بِالزِّنَا عَلَيْهَا يُحَدُّ الْعُمْيَانُ، وَيُلَاعِنُهَا الزَّوْجُ؛ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ الْعُمْيَانِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا، فَإِنَّ تَحَمُّلَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُعَايَنَةٍ وَلَيْسَ لِلْعُمْيَانِ تِلْكَ الْآلَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُمْ، وَيَلْزَمُهُمْ الْحَدُّ بِالْقَذْفِ، وَيُلَاعِنُهَا الزَّوْجُ بِقَذْفِهِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْفُسَّاقِ فَإِنَّ لَهُمْ فِي الزِّنَا شَهَادَةً؛ لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِمْ فِيهِ.
(قَالَ): وَإِذَا شَهِدَ لِلْمَرْأَةِ ابْنَاهَا عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأُمِّهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَبُ الْمَرْأَةِ، وَابْنٌ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ لَهَا رَجُلٌ، وَامْرَأَتَانِ بِالْقَذْفِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدٌّ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ فِي كِلَا النَّوْعَيْنِ ضَرْبَ شُبْهَةٍ، وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَلَكِنْ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ كَلَامٌ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى-: اللِّعَانُ شَهَادَةٌ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَمِينٌ فِيهِ مَعْنَى الْحَدِّ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِيمَا إذَا عُزِلَ الْقَاضِي أَوْ مَاتَ بَعْدَ اللِّعَانِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي الثَّانِي يَسْتَقْبِلُ اللِّعَانَ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْحُكْمُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَقْبِلُهُ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ فِي مَعْنَى الْحَدِّ، وَالْيَمِينُ، وَالْحَدُّ إذَا أَمْضَاهُمَا الْقَاضِي لَا يَسْتَقْبِلُهُمَا قَاضٍ آخَرَ.
وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَوْلَا الْأَيْمَانُ الَّتِي سَبَقَتْ لَكَانَ لِي، وَلَهَا شَأْنٌ»؛ وَلِأَنَّ فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ قَوْلُهُ بِاَللَّهِ، وَهَذَا يَمِينٌ وَيَسْتَوِي فِي اللِّعَانِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} وَلِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَفْظِ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ شَهَادَةً فِيهَا مَعْنَى الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ بِاَللَّهِ وَلِهَذَا سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينًا، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ (لَوْلَا الشَّهَادَاتُ الَّتِي سَبَقَتْ) وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ، وَاحِدَةٍ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ فَهُنَا كَذَلِكَ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا التَّعْلِيلُ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ فِي اللِّعَانِ مَعْنَى الْحَدِّ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا مَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ قَذْفَ زَوْجَتِهِ قَدْ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ إذَا تَعَذَّرَ اللِّعَانُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِالْحُجَّةِ الَّتِي فِيهَا شُبْهَةٌ.
(قَالَ): وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لِوَلَدِهَا: هَذَا مِنْ الزِّنَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا، وَمَعْنًى فَإِنَّ نِسْبَةَ الْوَلَدِ إلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِالزِّنَا غَيْرُ قَذْفِهَا بِالزِّنَا، وَالْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُعْتَبَرَةٌ وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَهَا: زَنَى بِك فُلَانٌ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا زَنَى بِك فُلَانٌ لِرَجُلٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا بِالزِّنَا هُوَ التَّمْكِينُ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ إذَا كَانَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلَيْنِ زِنًا فَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِيمَا لَا حَاجَةَ بِهِمَا إلَى ذِكْرِهِ وَلَوْ كَانَ قَذْفُهَا بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ حَدَّهُ جُلِدَ الْحَدَّ، وَدُرِئَ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَ الْإِمَامِ حَدَّانِ فَإِنَّ قَذْفَهُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ، وَفِي حَقِّهَا مُوجِبٌ لِلِّعَانِ، وَمَتَى اجْتَمَعَ حَدَّانِ، وَفِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرُ يُبْدَأُ بِذَلِكَ.
(قَالَ): وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الزَّوْجِ بِالْقَذْفِ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَمْ يَكْفُلْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ، وَهَذَا فِي مَعْنَى الْحَدِّ، فَإِنْ قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، وَأُمَّنَا فِي كَلِمَةٍ، وَاحِدَةٍ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهَا بَطَلَتْ فِي حَقِّ أُمِّهِمَا فَإِنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لَهَا، وَمَتَى بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ فِي بَعْضِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ بَطَلَ فِي كُلِّهَا، وَإِنْ شَهِدَ ابْنَاهُ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى قَذْفِهِ إيَّاهَا، وَأُمُّهُمَا عِنْدَهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ لِمَا فِيهَا مِنْ نَفْعِ أُمِّهِمَا، فَإِنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ فَيَخْلُصُ الْفِرَاشُ لِأُمِّهِمَا، وَهُوَ كَمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا قَالَ إلَّا أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ، وَلَا يُضْرَبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِالْحَدِّ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأُمِّهِمَا.
(قَالَ)، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِقَذْفِ امْرَأَتِهِ فَعُدِّلَا، ثُمَّ غَابَا أَوْ مَاتَا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِاللِّعَانِ فَإِنَّ الْمَوْتَ، وَالْغَيْبَةَ لَا تَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمَا بِخِلَافِ مَا لَوْ عَمِيَا أَوْ ارْتَدَّا أَوْ فَسَقَا، وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ حَدٍّ مَا خَلَا الرَّجْمَ، فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ أَوْ فِسْقِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ أَنْ يَبْدَأَ الشُّهُودُ، وَذَلِكَ يَفُوتُ.
(قَالَ): وَيُقْبَلُ تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا يُقْبَلُ تَوْكِيلُ الْمَقْذُوفِ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ فَإِذَا جَاءَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالنَّائِبِ.
(قَالَ): وَإِذَا أَقَامَ الزَّوْجُ الْقَاذِفُ شَاهِدَيْنِ عَلَى إقْرَارِ الْمَرْأَةِ بِالزِّنَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهَا، وَبِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَلَا يَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ مَرَّةً، وَاحِدَةً فَإِنَّ الْأَقَارِيرَ الْأَرْبَعَةَ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا لِإِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا، وَتَمْتَنِعُ الْإِقَامَةُ بِإِنْكَارِهَا بَعْدَ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا رَجُلٌ، وَامْرَأَتَانِ بِذَلِكَ دَرَأْتُ اللِّعَانَ أَيْضًا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يُلَاعِنُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي بَابِ الزِّنَا، فَلَا يَكُونُ لَهُنَّ شَهَادَةً أَيْضًا فِي إثْبَاتِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الْمَقْصُودُ هُنَا دَرْءُ الْحَدِّ لَا إثْبَاتُهُ، وَدَرْءُ الْحَدِّ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، فَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ، وَلَوْ عَفَّتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْقَذْفِ كَانَ لَهَا أَنْ تُخَاصِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتُطَالِبَ بِاللِّعَانِ كَمَا فِي الْحُدُودِ فِي قَذْفِ الْأَجَانِبِ عِنْدَنَا.
(قَالَ): وَإِنْ شَهِدَ لِلزَّوْجِ ابْنَاهُ مِنْهَا أَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا بِإِسْقَاطِ اللِّعَانِ عَنْهُ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ: أَنَّهُ قَذَفَهَا، وَقَذَفَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ قَبْلَهُ فِي كَلَامٍ مُتَفَرِّقٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا مُدَّعِيَانِ، وَفِي حَقِّ الْمَرْأَةِ شَاهِدَانِ فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُتَفَرِّقًا فَبُطْلَانُ شَهَادَتِهِمَا فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ لَا يُبْطِلُ شَهَادَتَهُمَا فِي الْكَلَامِ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي كَلَامٍ، وَاحِدٍ.
(قَالَ): وَإِذَا صَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عِنْدَ الْإِمَامِ فَقَالَتْ صَدَقَ، وَلَمْ تَقُلْ زَنَيْت فَأَعَادَتْ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا: صَدَقَ- كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ، وَمَا لَمْ تُفْصِحْ بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا لَا يَلْزَمُهَا الْحَدُّ وَلَكِنْ يَبْطُلُ اللِّعَانُ، وَلَا يُحَدُّ مِنْ قَذْفِهَا بَعْدَ هَذَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا صَدَّقَتْهُ فِي نِسْبَتِهَا إلَى الزِّنَا، وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِإِسْقَاطِ إحْصَانِهَا.
(قَالَ): وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْقَذْفِ فَقَالَ الزَّوْجُ: يَوْمئِذٍ كَانَتْ أَمَةً أَوْ كَافِرَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ اللِّعَانِ عَلَيْهِ، وَهِيَ تَدَّعِي وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ، وَلَا يَمِينَ فِي الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لَوْ اُسْتُحْلِفَ إنَّمَا يُسْتَحْلَفُ لِيُتَوَصَّلَ إلَى اللِّعَانِ بِنُكُولِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةَ الْأَصْلِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ فَعَرَفَ ذَلِكَ الْقَاضِي لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يَدَّعِي، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ: الْمَرْأَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا، وَالزَّوْجُ عَلَى كُفْرِهَا، وَرِقِّهَا وَقْتَ الْقَذْفِ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُدَّعِيَةُ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ اللِّعَانَ بِبَيِّنَتِهَا، وَالزَّوْجُ يَنْفِي ذَلِكَ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهَا أَوْلَى إلَّا أَنْ يُثْبِتَ شُهُودُ الزَّوْجِ رِدَّتَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهَا، فَحِينَئِذٍ بَيِّنَتُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ فِي بَيِّنَتِهِ أَظْهَرُ.
(قَالَ): وَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ بِأَنَّهَا زَانِيَةٌ أَوْ قَدْ وَطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ إحْصَانَهَا مَعْلُومٌ لِلْقَاضِي بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ.
وَالزَّوْجُ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ إحْصَانَهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ كَمَا لَوْ عَلِمَ الْقَاضِي حُرِّيَّتَهَا وَإِسْلَامَهَا، فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهَا كَمَا قَالَ، أُجِّلَ إلَى قِيَامِ الْقَاضِي فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ وَإِلَّا لَاعَنَ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ اللِّعَانِ قَدْ ظَهَرَ، وَلَكِنْ يُمَكَّنُ الزَّوْجُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الدَّفْعِ بِقَدْرِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَذَلِكَ إلَى قِيَامِ الْقَاضِي، وَلَا يُؤَجِّلُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهَا.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ قَذَفْتهَا، وَهِيَ صَغِيرَةٌ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ قَذَفَهَا بَعْدَ مَا أَدْرَكَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُدَّعِيَةُ وَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَذَفَهَا مَرَّتَيْنِ.
(قَالَ): وَإِذَا ادَّعَتْ عَلَى الزَّوْجِ الْقَذْفَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا بَيِّنَةٌ فَلَا يَمِينَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ، وَلَا يَمِينَ فِي الْحُدُودِ.
وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهَا صَدَّقَتْهُ، وَأَرَادَ يَمِينَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَمِينٌ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِالزِّنَا، وَلَا يَمِينَ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا.
(قَالَ): فَإِنْ ادَّعَتْ قَذْفًا مُتَقَادِمًا، وَأَقَامَتْ عَلَيْهِ شُهُودًا جَازَ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْقَذْفِ لَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ كَالْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجَانِبِ، فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا، وَلَا حَدَّ؛ لِأَنَّ مَا يُثْبِتُهُ الزَّوْجُ بِالْبَيِّنَةِ كَالْمُعَايَنِ.
وَالْفُرْقَةُ بَعْدَ الْقَذْفِ مُسْقِطَةٌ لِلِّعَانِ فَيَتَمَكَّنُ الزَّوْجُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى فُرْقَةٍ بِرِدَّتِهَا بَعْدَ الْقَذْفِ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَإِذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ، وَهُوَ يُنْكِرُ، وَقَدْ نَفَاهُ لَزِمَهُ الْوَلَدُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا: إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ، وَمَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ، وَإِذَا نَفَاهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ لَاعَنَهَا؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا أَثْبَتَ وِلَادَتَهَا يَكُونُ هُوَ بِنَفْيٍ الْوَلَدِ قَاذِفًا لَهَا بِالزِّنَا فَإِنْ قِيلُ: لَا كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ، وَلَدُهَا مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ قُلْنَا الْوَلَدُ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ إنْسَانٍ، وَاَلَّذِي لَا يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَحَدٍ لَا يَكُونُ مِنْ زِنَا، وَلَا نَسَبَ لِهَذَا الْوَلَدِ مِنْهُ فَإِذَا نَفَاهُ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا نَسَبَ لِوَلَدِهَا هَذَا فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهَا بِالزِّنَا، ثُمَّ كَيْفِيَّةُ اللِّعَانِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ: أَشْهَدُ أَنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِهَا، وَهِيَ تَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ: يَقُولُ الزَّوْجُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَنَفْيِ وَلَدِهَا وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا وَنَفْيِ وَلَدِي، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَجَوَابُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا، وَنَفْيِ وَلَدِهَا وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا نَفَى، وَلَدَهَا فَقَطْ.
(قَالَ): وَإِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ اللِّعَانِ يَلْزَمُ الْوَلَدُ أُمَّهُ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي: فَرَّقْت بَيْنَكُمَا، وَقَطَعْت نَسَبَ هَذَا الْوَلَدِ مِنْهُ حَتَّى، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَا يَنْتَفِي النَّسَبُ عَنْهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّفْرِيقِ بِاللِّعَانِ نَفْيُ النَّسَبِ كَمَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ، وَلَا يَنْتَفِي نَسَبُهُ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُصَرِّحَ الْقَاضِي بِنَفْيِ النَّسَبِ لِهَذَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
(قَالَ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هَذَا آخِرُ شَرْحِ كِتَابِ الطَّلَاقِ بِالْمُؤْثَرَةِ مِنْ الْمَعَانِي الدِّقَاقِ، أَمْلَاهُ الْمَحْصُورُ عَنْ الِانْطِلَاقِ، الْمُبْتَلَى بِوَحْشَةِ الْفِرَاقِ، مُصَلِّيًا عَلَى صَاحِبِ الْبُرَاقِ وَآلِهِ، وَصَحْبِهِ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالسِّبَاقِ، صَلَاةً تَتَضَاعَفُ وَتَدُومُ إلَى يَوْمِ التَّلَاقِ كَتَبَهُ الْعَبْدُ الْبَرِيُّ مِنْ النِّفَاقِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
(وَبِهِ نَسْتَعِينُ وَعَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ).

.كِتَابُ الْعَتَاقِ:

(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اعْلَمْ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لُغَةً هُوَ إحْدَاثُ الْقُوَّةِ يُقَالُ: عَتَقَ الْفَرْخُ إذَا قَوِيَ فَطَارَ عَنْ وَكْرِهِ.
وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إحْدَاثِ الْمَالِكِيَّةِ وَالِاسْتِبْدَادِ لِلْآدَمِيِّ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ، انْتِفَاءُ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَالرِّقِّ وَلِهَذَا يَتَعَقَّبُهُ الْوَلَاءُ الَّذِي هُوَ كَالنَّسَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ سَبَبٌ لِإِيجَادِ، وَلَدِهِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ.
وَالْعِتْقُ مُسَبِّبٌ لِإِحْدَاثِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي اخْتَصَّ الْآدَمِيُّ بِهَا فَصَارَ الْمُعْتَقُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ، وَلِهَذَا نَدَبَ الشَّرْعُ إلَيْهِ بَيَانَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ»، وَلِهَذَا اسْتَحَبُّوا لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْتِقَ الْعَبْدَ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتِقَ الْأَمَةَ لِيَتَحَقَّقَ مُقَابَلَةُ الْأَعْضَاءِ بِالْأَعْضَاءِ وَالتَّحْرِيرُ لُغَةً التَّخْلِيصُ يُقَالُ: طِينٌ حُرٌّ- أَيْ خَالِصٌ عَمَّا يَشُوبُهُ- وَأَرْضٌ حُرَّةٌ- أَيْ خَالِصَةٌ- لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا، وَلَا عُشْرَ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الرَّقَبَةِ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنِّي نَذَرْت لَك مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} وَلِهَذَا شُرِعَ التَّحْرِيرُ فِي التَّكْفِيرِ لِأَجْلِ التَّطْهِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، وَلِهَذَا نَدَبَ الشَّرْعُ إلَى فَكِّ الرَّقَبَةِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ}، وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَئِنْ أَوْجَزْت الْخُطْبَةَ فَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، فَكُّ الرَّقَبَةِ وَعِتْقُ النَّسَمَةِقَالَ: أَوْ لَيْسَا وَاحِدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا» وَسَأَلَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ «أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» فَهَذِهِ الْآثَارُ تُبَيِّنُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ، وَالْإِرْفَاقِ، وَأَنَّ أَفْضَلَ الرِّقَابِ أَعَزُّهَا عِنْدَ صَاحِبِهَا ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَعِبِ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ» وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}، وَقَالَ عَمْرٌو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ تَكَلَّمَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ أَيْ نَافِذٌ لَازِمٌ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهَزْلَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ جَدٌّ كَمَا قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثُ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ» وَالْهَزْلُ، وَاللَّعِبُ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِكَلَامٍ يَكُونُ عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الصِّبْيَانِ لَا يُرَادُ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَنُفُوذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِوُجُودِ التَّكَلُّمِ بِهَا مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَصْدِهِ إلَى حُكْمِهَا؛ لِأَنَّ بِانْعِدَامِ الْقَصْدِ إلَى الْحُكْمِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَوْ قُرِنَ بِهَا شَرْطُ الْخِيَارِ.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} الْأَحْكَامُ، وَالْهُزْءُ اللَّعِبُ فَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ لَا لَعِبَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِعَبْدٍ فَسَاوَمَ بِهِ، وَلَمْ يَشْتَرِهِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاشْتَرَاهُ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَخُوك، وَمَوْلَاك فَإِنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ شَرٌّ لَهُ، وَخَيْرٌ لَك، وَإِنْ مَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ، وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْمُسَاوَمَةِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ هَذَا اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ.
فَإِنَّ فِيهِ فَائِدَةً، وَهُوَ تَرْغِيبُ الْغَيْرِ فِي شِرَائِهِ، وَالرَّجُلُ تَفَرَّسَ فِيهِ خَيْرًا حِينَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاوَمَ بِهِ فَلِهَذَا اشْتَرَاهُ، وَأَعْتَقَهُ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَخُوك أَيْ فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ بِالْعِتْقِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُعْتِقُ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ شَكَرَك أَيْ بِالْمُجَازَاةِ عَلَى مَا صَنَعْت إلَيْهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ انْتَدَبَ إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَزَلْت إلَيْهِ نِعْمَةً فَلِيَشْكُرْهَا، وَشَرٌّ لَك؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْك بَعْضُ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا فَيُنْتَقَصُ بِقَدْرِهِ مِنْ ثَوَابِك فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى ثَوَابُ الْعَمَلِ كُلُّهُ لَكَ فِي الْآخِرَةِ، وَشَرٌّ لَهُ؛ لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ مَذْمُومٌ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ يَكُونُ عَصَبَةً لِلْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ، وَيُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ مَنْ يُؤَخِّرُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا، وَذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ، وَلَكِنْ عِنْدَنَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَمْ يَتْرُكْ، وَارِثًا، هُوَ عَصَبَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَالْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ التَّوْثِيقُ فَلْيَكْتُبْ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ، وَيَتَحَرَّزْ فِيهِ عَنْ طَعْنِ كُلِّ طَاعِنٍ، وَلِهَذَا ذَكَرَ فِيهِ أَنِّي أَعْتِقُك لِوَجْهِ اللَّهِ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْمُعْتِقُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهَذَا حَتَّى لَوْ قَالَ: أَعْتِقُك لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الشَّيْطَانِ نَفَذَ الْعِتْقُ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُذْكَرُ هَذَا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ جَهْلِ بَعْضِ الْقُضَاةِ، وَكَذَلِكَ يَكْتُبُ وَلِي وَلَاؤُك، وَوَلَاءُ عِتْقِك مِنْ بَعْدِك؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ إلَّا بِالشَّرْطِ فَيَذْكُرُهُ فِي الْكِتَابِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا، ثُمَّ الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْعِتْقُ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ فَالصَّرِيحُ لَفْظُ الْعِتْقِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالْوَلَاءِ وَيَسْتَوِي إنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، أَوْ الْوَصْفِ، أَوْ النِّدَاءِ، إمَّا بِصِيغَةِ الْخَبَرِ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَعْتَقْتُك أَوْ حَرَّرْتُك؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ، وَوَجْهُ الصِّحَّةِ هُنَا مُتَعَيَّنٌ، وَهُوَ الْإِنْشَاءُ، وَصِيغَةُ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الْعِتْقِ، وَاحِدٌ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوَصْفِ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ حُرٌّ أَنْتَ عَتِيقٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَهُ بِمَا يَمْلِكُ إيجَابَهُ فِيهِ جُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ مِنْهُ لِتَحْقِيقِ وَصْفِهِ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْت الْكَذِبَ، وَالْخَبَرَ بِالْبَاطِلِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلِاحْتِمَالِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الظَّاهِرِ مَوْضُوعٌ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ وَالْقَاضِي يَتْبَعُ الظَّاهِرَ؛ لِأَنَّ مَا، وَرَاءَ ذَلِكَ غَيْبٌ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى، وَذَلِكَ بِذَكَرِ، وَصْفٍ لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّدَاءِ فَهَذَا، وَوَصْفُهُ إيَّاهُ بِالْعِتْقِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: هَذَا مَوْلَايَ أَوْ لِأَمَتِهِ: هَذِهِ مَوْلَاتِي؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يُذْكَرُ بِمَعْنَى النَّاصِرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ}، وَلَكِنَّ الْمَالِكَ لَا يَسْتَنْصِرُ بِمَمْلُوكِهِ عَادَةً، وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى ابْنِ الْعَمِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي خِفْت الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} وَلَكِنَّ نَسَبَ الْعَبْدِ مَعْرُوفٌ فَلَا احْتِمَالَ لِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا، وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمُوَالَاةِ فِي الدِّينِ، وَلَكِنَّهُ نَوْعُ مَجَازٍ، وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ، وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمَوْلَى الْأَعْلَى وَذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَى الْعَبْدِ فَيَتَعَيَّنُ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلِهَذَا عَتَقَ بِهِ فِي الْقَضَاءِ.
وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِهِ الْوِلَايَةَ فِي الدِّينِ أَوْ الْكَذِبَ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلِاحْتِمَالِ، وَلَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَإِنْ قَالَ يَا مَوْلَايَ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَعْتِقُ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ يُقْصَدُ بِهِ الْإِكْرَامُ دُونَ التَّحْقِيقِ يُقَالُ: يَا سَيِّدِي، وَيَا مَوْلَايَ وَلَوْ قَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي، وَيَا مَالِكِي لَا يَعْتِقُ بِهِ بِدُونِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ يَا مَوْلَايَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَا أَمْكَنَ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ يَا مَوْلَايَ لَا يَكُونُ إلَّا بِوَلَاءٍ لَهُ عَلَيْهِ، وَالْعِتْقُ مُتَعَيَّنٌ لِذَلِكَ فَهَذَا، وَقَوْلُهُ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا سَيِّدِي، وَيَا مَالِكِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ مَا يَخْتَصُّ بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهُ، وَمِمَّا يَلْحَقُ بِالصَّرِيحِ هُنَا قَوْلُهُ لِمَمْلُوكِهِ، وَهَبْت نَفْسَك مِنْك أَوْ بِعْت نَفْسَك مِنْك فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ إزَالَةُ مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَهُ لِإِنْسَانٍ آخَرَ يَكُونُ مُزِيلًا لِمِلْكِهِ إلَيْهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ.
وَإِذَا أَوْجَبَهُ لِلْعَبْدِ يَكُونُ مُزِيلًا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لَا إلَيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولِهِ، وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ.
فَأَمَّا بَيَانُ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ: قَوْلُهُ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك فِي اللَّوْمِ، وَالْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّك وَفَيْت بِمَا أَمَرْتُك بِهِ، وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك؛ لِأَنِّي كَاتَبْتُك وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك؛ لِأَنِّي أَعْتَقْتُك، وَالْمُحْتَمَلُ لَا تَتَعَيَّنُ جِهَةٌ فِيهِ بِدُونِ النِّيَّةِ فَلَا يَعْتِقُ بِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْعِتْقَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك يُحْتَمَلُ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لِأَنِّي بِعْتُك، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ قَدْ خَرَجْت مِنْ مِلْكِي يُحْتَمَلُ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَعْتِقُ بِهِ مَا لَمْ يَنْوِ، وَيَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ لَهُ أَطْلَقْتُك يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى التَّحْرِيرِ يُقَالُ: أَطْلَقْتُهُ مِنْ السِّجْنِ، وَحَرَّرْته إذَا خَلَّى سَبِيلَهُ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْإِطْلَاقَ مِنْ الرِّقِّ الَّذِي عَلَيْهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَا رِقَّ لِي عَلَيْك فَأَمَّا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَدْ طَلَّقْتُك، وَنَوَى بِهِ الْعِتْقَ لَمْ تَعْتِقْ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَعْتِقْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ قَدْ بِنْتِ مِنِّي أَوْ حُرِّمْت عَلَيَّ، أَوْ أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيَّةٌ، أَوْ بَائِنٌ، أَوْ بَتَّةٌ، أَوْ اُخْرُجِي أَوْ اُغْرُبِي، أَوْ اسْتَبْرِي، أَوْ تَقَنَّعِي أَوْ اذْهَبِي أَوْ قُومِي أَوْ اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ، فَهُوَ كُلُّهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَرِيحَ مَا يَسْرِي كِنَايَةٌ فِيمَا يَسْرِي كَلَفْظِ التَّحْرِيرِ فِي الطَّلَاقِ مَعْنَى صَرِيحِ مَا يَسْرِي مَا وُضِعَ لِمَا يَسْرِي بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ كِنَايَةً لِمَا هُوَ وَصْفٌ، وَهُوَ كَوْنُهُ حُرًّا لِمَعْنَى آخَرَ هُوَ مُسَمًّى لِلَفْظٍ آخَرَ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لِلِاتِّصَالِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعْنَى طَرِيقٍ صَحِيحٍ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: لِلْبَلِيدِ حِمَارٌ وَلِلشُّجَاعِ أَسَدٌ لِلِاتِّصَالِ مَعْنًى، وَهُوَ الشَّجَاعَةُ وَالْبَلَادَةُ، وَبَيْنَ الْمِلْكَيْنِ اتِّصَالٌ مِنْ حَيْثُ الْمُشَابَهَةِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ مَعْنَى الرِّقِّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «النِّكَاحُ رِقٌّ».
وَلِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِكُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَطْءُ فِي مَحَلِّهِ، وَبَيْنَ الْإِزَالَتَيْنِ الِاتِّصَالُ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ كُلَّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ وَيَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ يُنَبِّئُ عَنْ السِّرَايَةِ، وَيَلْزَمُ عَلَى، وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَإِذَا ثَبَّتَتْ الْمُشَابَهَةُ مَعْنًى قُلْنَا مَا كَانَ صَرِيحًا فِي إزَالَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَهُوَ لَفْظُ التَّحْرِيرِ كَانَ كِنَايَةً فِي مِلْكِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ يُجْعَلُ كِنَايَةً صَحِيحَةً فِي إزَالَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّحْرِيرِ فَإِنَّ الْأَمَةَ إذَا أَعْتَقَتْ حُرِّمَتْ عَلَى مَوْلَاهَا وَذِكْرُ الْمُوجَبِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عَنْ الْمُوجِبِ صَحِيحٌ كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ اعْتَدِّي بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ (وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا كُلِي، وَاشْرَبِي وَنَوَى الْعِتْقَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ فَقَدْ تَجَرَّدَتْ النِّيَّةُ عَنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْعِتْقِ، وَالطَّلَاقِ صُورَةً، وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْ الِانْطِلَاقِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ حُرَّةٌ مَحْبُوسَةٌ عِنْدَ الزَّوْجِ فَبِالْفُرْقَةِ- يَزُولُ الْمَانِعُ مِنْ الِانْطِلَاقِ.
وَالْإِعْتَاقُ إحْدَاثُ قُوَّةِ الِانْطِلَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الرَّقِيقِ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ وَبِالْعِتْقِ يَحْدُثُ لَهُ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ إحْدَاثِ الْقُوَّةِ، وَبَيْنَ إزَالَةِ الْمَانِعِ كَمَا لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ إحْيَاءِ الْمَيِّتِ وَبَيْنَ رَفْعِ الْقَيْدِ عَنْ الْمُقَيَّدِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي الْمَعْنَى طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ، وَلَكِنْ لَا فِي كُلِّ وَصْفٍ بَلْ فِي الْوَصْفِ الْخَاصِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْوَصْفُ الْخَاصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا بَيَّنَّا دُونَ مَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعَارُ الْأَسَدُ لِلْجَبَانِ، وَالْحِمَارُ لِلذَّكِيِّ، وَبَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ فِي أَوْصَافٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيَوَانٌ مَوْجُودٌ، وَلَكِنْ لَمَّا انْعَدَمَتْ الْمُشَابَهَةُ فِي الْوَصْفِ الْخَاصِّ لَمْ تَجُزْ الِاسْتِعَارَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ فَأَمَّا إذَا اسْتَعْمَلَ لَفْظَ التَّحْرِيرِ فِي الطَّلَاقِ فَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا لِلْمُشَابِهَةِ مَعْنًى بَلْ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ النِّكَاحِ مِلْكُ الْمُتْعَةَ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي مَحَلِّ الْمُتْعَةِ يُوجِبُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ فَمَا يُزِيلُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَكُونُ سَبَبًا لِإِزَالَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْهُ فَأَمَّا مَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِزَالَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَلَا يَصْلُحُ كِنَايَةً عَنْهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي طَرَفِ الِاسْتِجْلَابِ أَنَّ مَا وُضِعَ لِاسْتِجْلَابِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ لَفْظُ النِّكَاحِ، وَالتَّزْوِيجِ لَا يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَمَا وُضِعَ لِاسْتِجْلَابِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ لَفْظُ الْهِبَةِ، وَالْبَيْعِ يَصْلُحُ لِإِيجَابِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْبَيْعُ فَإِنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجَارَةُ عَلَى مَا قَالَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ إذَا بَاعَ سُكْنَى دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ، لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ ثَبَتَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا: الْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْحُرَّ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْت نَفْسِي مِنْك شَهْرًا بِدِرْهَمٍ لِعَمَلِ كَذَا يَكُونُ إجَارَةً صَحِيحَةً فَأَمَّا بَيْعُ السُّكْنَى إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ مَوْضُوعٌ لِلتَّمْلِيكِ، وَالْمَنَافِعُ مَعْدُومَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّمْلِيكَ.
وَلِهَذَا لَوْ أَضَافَ لَفْظَةَ الْإِجَارَةِ إلَى الْمَنْفَعَةِ وَقَالَ أَجَّرْتُك مَنْفَعَةَ هَذِهِ الدَّارِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا أَضَافَ لَفْظَ الْبَيْعِ إلَى عَيْنِ الدَّارِ فَهُوَ عَامِلٌ بِحَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَابِلٌ لِلْبَيْعِ فَلَا تُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ الْإِجَارَةِ لِهَذَا وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ: إنَّهُ ذَكَرَ الْمُوجَبَ، وَعَنَى بِهِ الْمُوجِبَ؛ لِأَنَّ الْمُوجَبَ حُكْمٌ، وَالْحُكْمُ لَا يَصْلُحُ كِنَايَةً عَنْ السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ بِدُونِ السَّبَبِ، وَالسَّبَبُ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْحُكْمِ فَكَانَ الْحُكْمُ كَالتَّبَعِ، وَالْأَصْلُ يُسْتَعَارُ لِلتَّبَعِ، وَلَا يُسْتَعَارُ التَّبَعُ لِلْأَصْلِ لِافْتِقَارِ التَّبَعِ إلَى الْأَصْلِ وَاسْتِغْنَاءِ الْأَصْلِ عَنْ التَّبَعِ.
وَفِي قَوْلِهِ اعْتَدِّي، وُقُوعُ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَلْ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَذَلِكَ اللَّفْظُ عَامِلٌ بِحَقِيقَتِهِ عِنْدَنَا لَا أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً بِطَرِيقِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُوجَبَ وَعَنَى بِهِ الْمُوجِبَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً، وَبَقَاءً، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا فَإِنَّ حُرْمَةَ الْأَمَةِ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي الْمِلْكَ ابْتِدَاءً، وَبَقَاءً كَمَا فِي الْمَجُوسِيَّةِ، وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك وَنَوَى الْعِتْقَ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ سُلْطَانِهِ عَنْهُ انْتِفَاءُ الْمِلْكِ، كَالْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ لَا سُلْطَانَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا: سَبِيلَ لِي عَلَيْك فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ السَّبِيلِ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ- الْعِتْقَ؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ سَبِيلًا مِنْ حَيْثُ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ حَتَّى إذَا انْتَفَى ذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَتَقَ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ لِلَّهِ لَمْ يَعْتِقْ، وَإِنْ نَوَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ.
فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَعْتِقُ بِهِ إذَا نَوَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ: أَنْتَ خَالِصٌ لِلَّهِ بِانْتِفَاءِ مِلْكِهِ عَنْهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ يَا بُنَيَّ، أَوْ لِأَمَتِهِ يَا بُنَيَّةُ لَمْ تَعْتِقْ؛ لِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ، وَلُطْفٌ مِنْهُ، مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِحْضَارُ الْمُنَادَى وَإِكْرَامُهُ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ يَا بُنَيَّ تَصْغِيرُ الِابْنِ، وَلَوْ قَالَ يَا ابْنٌ لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ، فَإِنَّهُ ابْنٌ لِأَبِيهِ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِهِ يَا ابْنِي وَلَا يَعْتِقُ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ كَقَوْلِهِ يَا حُرُّ، وَلَكِنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى وَتَفْهِيمِهِ لِيَحْضُرَ، وَذَلِكَ بِصُورَةِ اللَّفْظِ لَا بِمَعْنَاهُ، وَوُقُوعُ الْعِتْقِ بِهَذَا اللَّفْظِ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْبُنُوَّةِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ بِهِ عِنْدَ النِّدَاءِ حَتَّى لَوْ جَعَلَ اسْمَ عَبْدِهِ حُرًّا، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْدَ النَّاسِ ثُمَّ نَادَاهُ بِهِ فَقَالَ يَا حُرُّ لَمْ يَعْتِقْ أَيْضًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْمِ مَعْرُوفًا لَهُ يَعْتِقُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَادَاهُ بِوَصْفٍ يَمْلِكُ إيجَابَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا ابْنِي فَإِنَّهُ نَادَاهُ بِوَصْفٍ لَا يَمْلِكُ إيجَابَهُ فَيُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِ فِيهِ، وَهُوَ الْإِكْرَامُ دُونَ التَّحْقِيقِ، وَإِنْ قَالَ هَذَا ابْنِي، وَمِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَتَقَ، وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ دَعْوَةُ النَّسَبِ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى فِي مَمْلُوكِهِ.
فَإِذَا كَانَ الْمَحَلُّ مَحَلًّا قَابِلًا لِلنَّسَبِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَالنَّسَبُ لَا يَثْبُتُ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ بَلْ يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَلَكَ وَلَدَهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا جَلِيبًا، أَوْ مُوَلَّدًا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ دَعْوَةِ الْمَوْلَى شَرْعًا بِوَصْلَةِ الْمِلْكِ وَحَاجَةِ الْمَمْلُوكِ إلَى النَّسَبِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هَذَا أَبِي أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَقَالَ: هَذِهِ أُمِّي، وَمِثْلُهُمَا يَلِدُ مِثْلَهُ عِتْقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ مَعْرُوفَانِ، وَصَدَّقَاهُ فِي ذَلِكَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا فَقَدْ اُعْتُبِرَ تَصْدِيقُهُمَا فِي دَعْوَى الْأُبُوَّةِ، وَالْأُمُومَةِ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي دَعْوَى الْبُنُوَّةِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ يَشْرُفُ بِهِ فَمُدَّعِي الْبُنُوَّةِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَحْمُولِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَصْدِيقِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ بِنَفْسِهِ فَأَمَّا مُدَّعِي الْأُبُوَّةِ، وَالْأُمُومَةِ يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ نَسَبَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ مُدَّعِيًا، وَمُجَرَّدُ الدَّعْوَى لَا يَلْزَمُ شَيْئًا بِدُونِ الْحُجَّةِ فَلِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِهِمَا؛ وَلِأَنَّ مُدَّعِي الْأُبُوَّةِ، وَالْأُمُومَةِ يُخْبِرُ أَنَّهُ عَلِقَ مِنْ مَائِهِمَا، وَهُوَ غَيْبٌ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِمَا، وَمُدَّعِي الْبُنُوَّةِ يُخْبِرُ أَنَّهُ عَلِقَ مِنْ مَائِهِ وَقَدْ يَعْرِفُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ عَاقِلًا عِنْدَ عُلُوقِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْغُلَامِ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ هَذَا ابْنِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ فِيمَا قَالَ شَرْعًا حِينَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْغَيْرِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّكْذِيبِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ دُونَ الْعِتْقِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا نَسَبَ لَهُ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا قَالَ هَذَا أَبِي أَوْ أُمِّي، وَكَذَّبَاهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ تَكْذِيبِهِمَا فِي حُكْمِ النَّسَبِ دُونَ الْعِتْقِ: تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَمْلُوكَ مُسْتَغْنٍ عَنْ النَّسَبِ إذَا كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْحُرِّيَّةِ فَيَثْبُتُ بِكَلَامِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَمْلُوكُ دُونَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: هَذِهِ ابْنَتِي وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ صَارَ مُكَذَّبًا فِي حُكْمِ النَّسَبِ شَرْعًا، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ: غَلِطْت لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا، وَهُنَا لَوْ أَكْذَبَ الْمَوْلَى نَفْسَهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا نَسَبَ لَهُ كَانَ الْعِتْقُ ثَابِتًا فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُكَذَّبًا فِي النَّسَبِ شَرْعًا.
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ ابْنَتِي غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ، وَلَكِنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى الْمَحَلِّ بِصِفَةِ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِلنَّسَبِ فِي مِلْكِهِ مِنْ حَيْثُ الْإِزَالَةِ، وَإِنَّمَا مُوجِبُهُ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ ثُمَّ يَنْتَفِي بِهِ الْمِلْكُ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً، وَلَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارَهُ فِي حُرْمَةِ الْمَحَلِّ هُنَا لَمَّا كَانَتْ مَعْرُوفَةَ النَّسَبِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِعَبْدِهِ: هَذَا ابْنِي إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ لِلْبُنُوَّةِ مُوجَبًا فِي مِلْكِهِ، وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ بِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ابْنَهُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ يَعْتِقُ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ عِتْقُهُ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِ الْمَوْلَى فَقَالَ: هَذَا ابْنِي لَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَعَتَقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ كَلَامَهُ مُحَالٌ فَيَلْغُو كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، وَبَيَانُ الِاسْتِحَالَةِ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا ابْنِي أَيْ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِي، وَابْنُ خَمْسِينَ سَنَةً يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَاءِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً، وَبِهِ فَارَقَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ فَإِنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ هُنَاكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا أَوْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ بِالشُّبْهَةِ وَقَدْ اشْتَهَرَ نَسَبُهُ مِنْ الْغَيْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ الْغُلَامِ لَوْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ هُنَاكَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُنَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تُكَذِّبُهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَيَلْغُو خَبَرُهُ كَمَا لَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ فِي يَدِهِ هَذَا جَدِّي أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذِهِ ابْنَتِي، أَوْ لِأَمَتِهِ هَذَا غُلَامِي، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ لَوْ قَالَ: قَطَعْت يَدَ فُلَانٍ، وَلَهُ عَلَيَّ الْأَرْشُ فَأَخْرَجَ فُلَانٌ يَدَهُ صَحِيحَةً لَمْ يَسْتَوْجِبْ شَيْئًا بِخِلَافِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تُكَذِّبُهُ هُنَاكَ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَمْلُوكِهِ طَائِعًا فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ: هَذَا ابْنِي وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ صَرِيحَ كَلَامِهِ مُحَالٌ كَمَا قَالَ، وَلَكِنْ لَهُ مَجَازٌ صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ سَبَبٌ لِهَذَا فَإِنَّهُ إذَا مَلَكَ ابْنَهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ هَذَا السَّبَبُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ مَجَازًا، وَتَصْحِيحُ كَلَامِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ، وَلِلْعَرَبِ لِسَانَانِ: حَقِيقَةٌ، وَمَجَازٌ فَإِذَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ يُصَحَّحُ بِاعْتِبَارِ الْمَجَازِ.
، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ إذَا أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ يُجْعَلُ إبْرَاءً مِنْهُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَجَازِ إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرًا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَجَازُ خَلَفًا عَنْهُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُكَاتَبِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرًا لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْهُ، وَهُنَا لَا تَصَوُّرَ لِلْأَصْلِ بِخِلَافِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ، فَإِنَّ هُنَاكَ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرٌ فَيَجُوزُ إثْبَاتُ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْهُ وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ فِي إقَامَةِ كَلَامٍ مَقَامَ كَلَامٍ وَالْمَقْصُودُ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي تَصْحِيحِ الْمَجَازِ تَصَوُّرُ الْحُكْمِ لِإِثْبَاتِ الْخِلَافَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِحُرَّةٍ: اشْتَرَيْتُك بِكَذَا كَانَ نِكَاحًا صَحِيحًا، وَالْحُرَّةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِأَصْلِ حُكْمِ الْبَيْعِ، وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا إنَّ أُمَّ الْغُلَامِ لَوْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ لَا تَعْتِقُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا صَارَ مَجَازًا لِغَيْرِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ، وَهَذَا مَجَازٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِحُرِّيَّتِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لِهَذَا اللَّفْظِ مُوجِبٌ فِي الْأُمِّ فَأَمَّا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ هَذِهِ ابْنَتِي فَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِشْهَادِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى، وَمِنْ عَادَتِهِ الِاسْتِشْهَادُ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فَلَا نُسَلِّمُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَالْعِبْرَةُ لِلْمُسَمَّى كَمَا لَوْ بَاعَ فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالذُّكُورُ، وَالْإِنَاثُ مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ مَعْدُومٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ إيجَابًا، وَلَا إقْرَارًا فِي الْمَعْدُومِ، وَكَذَا قَوْلُهُ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ هَذَا جَدِّي فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِشْهَادِ هُنَا وَقَدْ مَنَعُوهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ: لَا مُوجِبَ لِذَلِكَ الْكَلَامِ فِي مِلْكِهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ، وَتِلْكَ الْوَاسِطَةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ وَبِدُونِهَا لَا مُوجِبَ لِكَلَامِهِ حَتَّى يُجْعَلَ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ مَجَازًا، فَأَمَّا لِلْبُنُوَّةِ، وَالْأُبُوَّةِ مُوجَبٌ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَيُجْعَلُ كَلَامُهُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ، وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ قَطَعْت يَدَك؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِلْجُرْحِ بَعْدَ الْبُرْءِ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ عَلَى أَنْ يُجْعَل كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ فَلِهَذَا كَانَ لَغْوًا.
وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا أَخِي لَمْ يَعْتِقْ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ لِلْإِخْوَةِ فِي مِلْكِهِ مُوجِبًا، وَهُوَ الْعِتْقُ فَيُجْعَلُ هَذَا اللَّفْظُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأُخُوَّةَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُرَادُ بِهِ: الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ}، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الِاتِّحَادُ فِي الْقَبِيلَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْأُخُوَّةُ فِي النَّسَبِ.
وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِدُونِ الْبَيَانِ حَتَّى لَوْ قَالَ هَذَا أَخِي لِأَبِي أَوْ لِأُمِّي نَقُولُ: يَعْتِقُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ قِيلُ: فَالْبُنُوَّةُ وَالْأُبُوَّةُ قَدْ تَكُونُ بِالرَّضَاعَةِ ثُمَّ أَثْبَتُّمْ الْعِتْقَ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مِنْ الرَّضَاعِ مَجَازٌ وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ.
فَأَمَّا الْأُخُوَّةُ مُشْتَرَكَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَمَا بَيَّنَّا؛ وَلِأَنَّ الْأُخُوَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَاوَرَةٍ فِي صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ، وَهَذِهِ الْوَاسِطَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ، وَلَا مُوجِبَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بِدُونِ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ.
فَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ فَرْجُك حُرٌّ أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ رَأْسُك حُرٌّ يَعْتِقُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ إنْ ذَكَرَ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، كَذِكْرِ الْبَدَنِ بِخِلَافِ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ فَهُوَ فِي الْعَتَاقِ كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ: نَوَيْت الْكَذِبَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ، أَنْتَ حُرٌّ، وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ لِأَمَتِهِ مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ أَوْ مَا أَنْتِ إلَّا حُرَّةٌ، فَإِنَّهُمَا يَعْتِقَانِ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ اشْتَمَلَ عَلَى النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ وَهَذَا آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْإِثْبَاتِ، دَلِيلُهُ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ فَكَانَ هَذَا كَقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَنْتَ مِثْلُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِلْمُشَابَهَةِ، وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُون عَامًّا فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِهِ بِدُونِ النِّيَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بَدَنُك حُرٌّ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بَدَنُك بَدَنٌ حُرٌّ.
وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ لَوْ نَوَى فَقَالَ بَدَنُك بَدَنٌ حُرٌّ يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِلْإِيجَابِ لَا لِلتَّشْبِيهِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ فِي الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَتَخْصِيصُهُ وَقْتًا أَوْ عَمَلًا لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ مَا وَصَفَهُ بِهِ وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ الْعِتْقَ، فَهُوَ عَبْدُهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا أُكَلِّفُك الْيَوْمَ هَذَا الْعَمَلَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْحُرِّيَّةَ صِفَةً لَهُ فِي الظَّاهِرِ فَلِهَذَا لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ.