فصل: كِتَابُ الْحَجْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.كِتَابُ الْحَجْرِ:

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءٌ: اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْوَرَى، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الْحِجَا، فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ أُولُو الرَّأْيِ، وَالنُّهَى وَمِنْهُمْ أَعْلَامُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُبْتَلًى بِبَعْضِ أَصْحَابِ الرَّدَى فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مُعَامَلَاتِ الدُّنْيَا كَالْمَجْنُونِ الَّذِي هُوَ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي هُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ، فَأَثْبَتَ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ نَظَرًا مِنْ الشَّرْعِ لَهُمَا وَاعْتِبَارًا بِالْحَجْرِ الثَّابِتِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي حَالِ الطُّفُولِيَّةِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْعَقْلِ بَعْدَمَا صَارَ مُمَيِّزًا بِسَبَبِ نُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فَيَثْبُتُ الْحَجْرُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ، وَالْمَجْنُونِ اسْتِدْلَالًا بِالنُّصُوصِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ؛ لِأَنَّ حَالَهُمَا دُونَ حَالِ الصَّبِيِّ فَالصَّبِيُّ عَدِيمُ الْعَقْلِ إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً، وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُ الصَّبِيِّ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ دُونَ الْمَجْنُونِ، فَأَمَّا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا، فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ بَاطِلٌ، وَمُرَادُهُ إذَا بَلَغَ عَاقِلًا، وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ إلَّا عَلَى ثَلَاثَةٍ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَعَلَى الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِلِ، وَعَلَى الْمُكَارِي الْمُفْلِسِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ إذَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِمْ، فَالْمُفْتِي الْمَاجِنُ يُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ وَالْمُتَطَبِّبُ الْجَاهِلُ يُفْسِدُ أَبْدَانَهُمْ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ يُتْلِفُ أَمْوَالَهُمْ فَيَمْتَنِعُونَ مِنْ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ.
فَإِنَّ الْحَجْرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَنْعُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَرَأَى هَذَا فِي فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ، وَالْآخَرُ الْحَجْرُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ، وَالسَّفَهُ هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَتَرْكُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، وَالْحِجَى، وَأَصْلُ الْمُسَامَحَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ شَرْعًا، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ مَذْمُومٌ شَرْعًا وَعُرْفًا، وَلِهَذَا لَا تَنْعَدِمُ الْأَهْلِيَّةُ بِسَبَبِ السَّفَهِ، وَلَا يُجْعَلُ السَّفَهُ عُذْرًا فِي إسْقَاطِ الْخِطَابِ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ، وَلَا فِي إهْدَارِ عِبَارَتِهِ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ بِسَبَبِ السَّفَهِ أَيْضًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُحْتَمَلَةِ لِلْفَسْخِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ لَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ، وَالْعُقُوبَةِ لَهُ، وَيَتَبَيَّنُ هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا كَانَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ كَالْفَاسِقِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَسَادِ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ، وَالْعُقُوبَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ الْفَاسِقُ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ، فَالْفَاسِقُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَعَلَى غَيْرِهِ إذَا وُجِدَ شَرْطٌ، تُعَدَّى وِلَايَتُهُ لِغَيْرِهِ أَمَّا مَنْ جَوَّزَ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ، فَقَدْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} وَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ إثْبَاتَ الْوِلَايَةِ عَلَى السَّفِيهِ، وَأَنَّهُ مُوَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} إلَى أَنْ قَالَ {وَاكْسُوهُمْ} وَهَذَا أَيْضًا تَنْصِيصٌ عَلَى إثْبَاتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي يُبَاشِرُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْهُ لَهُ وَرُوِيَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ لِآمَّةٍ أَصَابَتْ رَأْسَهُ، فَسَأَلَ أَهْلُهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إنِّي لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا بَايَعْت، فَقُلْ لَا خِلَابَةَ، وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَجْرُ بِسَبَبِ التَّبْذِيرِ فِي الْمَالِ مَشْرُوعًا عُرْفًا لَمَا سَأَلَ أَهْلُهُ ذَلِكَ، وَلَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُفْنِي مَالَهُ فِي اتِّخَاذِ الضِّيَافَاتِ حَتَّى اشْتَرَى دَارًا لِلضِّيَافَةِ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَآتِيَنَّ عُثْمَانَ وَلَأَسْأَلَنَّهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَاهْتَمَّ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَاءَ إلَى الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ أَشْرَكَنِي فِيهَا فَأَشْرَكَهُ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكِيَاسَةِ فِي التِّجَارَةِ، فَاسْتَدَلَّ بِرَغْبَتِهِ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا غَبْنَ فِي تَصَرُّفِهِ، فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ التَّبْذِيرِ، فَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اشْتَغَلَ بِبَيَانِ الْعُذْرِ، وَاهْتَمَّ لِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاحْتَالَ الزُّبَيْرُ لِدَفْعِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالشَّرِكَةِ، فَيَكُونُ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ بِهَذَا السَّبَبِ.
وَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَتَصَدَّقُ بِمَالِهَا حَتَّى رُوِيَ أَنَّهَا كَانَ لَهَا رِبَاعٌ، فَهَمَّتْ بِبَيْعِ رِبَاعِهَا لِتَتَصَدَّق بِالثَّمَنِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِهَا، أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُبَذِّرٌ فِي مَالِهِ، فَيَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إنَّمَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِتَوَهُّمِ التَّبْذِيرِ مِنْهُ، وَقَدْ تَحَقَّقَ التَّبْذِيرُ، وَالْإِسْرَافُ هُنَا فَلَأَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْلَى، وَتَحْقِيقُهُ، وَهُوَ أَنَّ لِلصَّبِيِّ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: حَالُ عَدَمِ الْعَقْلِ، وَحَالُ نُقْصَانِ الْعَقْلِ بَعْدَ مَا صَارَ مُمَيِّزًا وَحَالُ السَّفَهِ، وَالتَّبْذِيرِ بَعْدَ مَا كَمُلَ عَقْلُهُ بِأَنْ قَارَبَ أَوَانَ بُلُوغِهِ، ثُمَّ عَدَمُ الْعَقْلِ، وَنُقْصَانِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ يُسَاوِي عَدَمَ الْعَقْلِ وَنُقْصَانِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ بِهِ، فَكَذَلِكَ السَّفَهُ، وَالْبُلُوغُ يُسَاوِي السَّفَهَ قَبْلَ الْبُلُوغِ بَعْدَ كَمَالِ الْعَقْلِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ بِهِ، وَكَانَ هَذَا الْحَجْرُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ، وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا، فَهُوَ مُسْتَحِقُّ النَّظَرِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ دِينِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ نَظَرًا لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي حَقِّ مَنْعِ الْمَالِ يُجْعَلُ السَّفَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ كَالسَّفَهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالْقِيَاسِ عَلَى عَدَمِ الْعَقْلِ، وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ، وَكَانَ مَنْعُ الْمَالِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ، فَكَذَلِكَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِبْقَاءِ مِلْكِهِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ مَا لَمْ يُقْطَعْ لِسَانُهُ عَنْ مَالِهِ تَصَرُّفًا فَإِذَا كَانَ هُوَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ لَا يُفِيدُ مَنْعَ الْمَالِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ مُؤْنَةٍ، وَتَكَلُّفٍ عَلَى الْمَوْلَى فِي حِفْظِ مَالِهِ إلَى أَنْ يُتْلِفَهُ بِتَصَرُّفِهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا}، فَقَدْ نَهَى الْوَلِيَّ عَنْ الْإِسْرَافِ فِي مَالِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرَ، فَلَا يَبْقَى لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى زَوَالِ وِلَايَتِهِ عَنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْكِبَرِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْحَاجَةُ إذَا صَارَ هُوَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ وَلَمَّا سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اسْتَدَلَّ بِآيَاتِ الْكَفَّارَاتِ مِنْ الظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ، وَغَيْرِهَا، فَفِي هَذِهِ الْعُمُومَاتِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَسْبَابُهَا شَرْعًا سَفِيهًا كَانَ أَوْ غَيْرَ سَفِيهٍ، وَارْتِكَابُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ اخْتِيَارًا نَوْعٌ مِنْ السَّفَهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ مَعَ السَّفَهِ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ.
وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ شَرْعًا وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحَجْرَ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إتْلَافِ جَمِيعِ مَالِهِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حُرٌّ مُخَاطَبٌ، فَيَكُونُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ وَفِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ وَالْمَحَلِّيَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا نُثْبِتُ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ كَلَامٌ مُلْزِمٌ وَأَهْلِيَّةُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُمَيِّزًا، وَالْكَلَامُ الْمُمَيِّزُ بِنَفْسِهِ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَالْمَحَلِّيَّةُ تَثْبُتُ بِكَوْنِهِ خَالِصَ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ حُرِّيَّةِ الْمَالِكِ وَبَعْدَ مَا صَدَرَ التَّصَرُّفُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ إلَّا لِمَانِعٍ، وَالسَّفَهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلْحُرِّيَّةِ، وَالْخِطَابُ فِي الْمَنْعِ مِنْ نُفُوذِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ السَّفَهِ لَا يَظْهَرُ نُقْصَانُ عَقْلِهِ، وَلَكِنَّ السَّفِيهَ يُكَابِرُ عَقْلَهُ، وَيُتَابِعُ هَوَاهُ وَهَذَا لَا يَكُونُ مُعَارِضًا فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ كَمَا لَا يَكُونُ مُعَارِضًا فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ، وَكَوْنُهُ مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهِ أَنَّ زَوَالَ الْحَجْرِ، وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ فِي الْأَصْلِ يَنْبَنِي عَلَى اعْتِدَالِ الْحَالِ إلَّا أَنَّ اعْتِدَالَ الْحَالِ بَاطِنًا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَقَامَ الشَّرْعُ السَّبَبَ الظَّاهِرَ الدَّالَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلِ أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ تُقَامُ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ مَقَامَهَا كَمَا أُقِيمَ السَّيْرُ الْمَدِيدُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ فِي جَوَازِ التَّرَخُّصِ، وَأُقِيمَ حُدُوثُ مِلْكِ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ مَقَامَ حَقِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الرَّحِمِ بِالْمَاءِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ، ثُمَّ هَذَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ، فَيَدُورُ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا، وَعَدَمًا فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ الرُّشْدُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَصَابَ ذَلِكَ فِي زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ السَّفَهُ، وَالتَّبْذِيرُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي إثْبَاتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ اُعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى، فَدَارَ مَعَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ بَلْ أَوْلَى.
؛ لِأَنَّ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ شَرْعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ بَاطِنِهِ، وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْعِبَادِ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي بَاطِنِهِ حَقِيقَةً فَلَمَّا أُقِيمَ هُنَاكَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ، فَهُنَا أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ جَوَازُ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ، وَإِقَامَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ الْعُقُوبَاتُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَلَوْ بَقِيَ السَّفَهُ مُعْتَبَرًا بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَوْ جَازَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي هَذَا أَكْثَرُ، فَإِنَّ الضَّرَرَ هُنَا يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ، وَالْمَالُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ، فَإِذَا لَمْ يُنْظَرْ لَهُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَعَنْ مَالِهِ أَوْلَى، وَمَا قَالَا مِنْ أَنَّ النَّظَرَ لَهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ دِينِهِ يُضَعَّفُ بِهَذَا الْفَصْلِ ثُمَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ النَّظَرِ جَائِزٌ لَا، وَاجِبٌ كَمَا فِي الْعَفْوِ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَمِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ يَجِبُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ النَّظَرُ لَهُ بِطَرِيقٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرِ، وَفِي إهْدَارِ قَوْلِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ إلْحَاقٌ لَهُ بِالْبَهَائِمِ، وَالْمَجَانِينِ فَيَكُونُ الضَّرَرُ فِي هَذَا أَعْظَمُ مِنْ النَّظَرِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ فِي الْحَجْرِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ إنَّمَا بَايَنَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَأَمَّا مَنْعُ الْمَالِ مِنْهُ، فَعَلَى طَرِيقِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ هُوَ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُ عَنْ التَّبْذِيرِ، وَالْعُقُوبَاتُ مَشْرُوعَةٌ بِالْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ.
فَأَمَّا إهْدَارُ الْقَوْلِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَمَعْنًى حُكْمِيٌّ، وَالْعُقُوبَاتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ كَالْحُدُودِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ، فَإِنَّهُ مُتَمِّمٌ لِحَدِّهِ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ تَابِعًا لِمَا هُوَ حِسِّيٌّ، وَهُوَ إقَامَةُ الْجَلْدِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ، وَلَئِنْ ثَبَتَ جَوَازُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْعُقُوبَةِ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالنَّصِّ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِمَنْعِ الْمَالِ إلَى أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ، وَلَا نَصَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، فَلَا يُثْبِتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إنَّ الْبِكْرَ إذَا كَانَتْ مَخُوفًا عَلَيْهَا فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْغُلَامُ الْبَالِغُ إذَا كَانَ مَخُوفًا عَلَيْهِ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ، وَبِأَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ نَفْسِهِ فِي التَّفَرُّدِ بِالسُّكْنَى لِمَعْنَى الزَّجْرِ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ نِكَاحًا، أَوْ مُنِعَ الْمَالُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ أَثَرِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ أَثَرَ الصَّبِيِّ يَبْقَى زَمَانًا فِي أَوَائِلِ الْبُلُوغِ، وَلِهَذَا لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا، ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَا يُمْنَعُ الْمَالُ مِنْهُ، وَبِأَنْ جَعَلَ أَثَرَ الصَّبِيِّ كَنَفْسِ الصِّبَا فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ، فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ كَذَلِكَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَعْمَلُ عَمَلَ النِّكَاحِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ دُونَ إيفَاءِ الْحِلِّ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ، وَإِطْلَاقُ اللِّسَانِ فِي التَّصَرُّفَاتِ نِعْمَةٌ أَصْلِيَّةٌ، فَبَانَ جَوَازُ إلْحَاقِ ضَرَرٍ يَسِيرٍ بِهِ فِي مَنْعِ نِعْمَةٍ زَائِدَةٍ لِتَوَفُّرِ النَّظَرِ عَلَيْهِ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ بِهِ بِتَفْوِيتِ النِّعْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ، فَأَمَّا الْآيَاتُ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّفِيهِ الصَّغِيرُ، أَوْ الْمَجْنُونُ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِفَّةِ وَذَلِكَ بِانْعِدَامِ الْعَقْلِ وَنُقْصَانِهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا} أَيْ صَبِيًّا، أَوْ مَجْنُونًا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الصِّبْيَانَ أَوْ الْمَجَانِينَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ وِلَايَةُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ، وَمَنْ يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ يَقُولُ: إنَّ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ تَزُولُ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ عَلَى مَا بَيَّنَهُ، أَوْ الْمُرَادُ نَهْيُ الْأَزْوَاجِ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَى النِّسَاءِ، وَجَعْلُ التَّصَرُّفِ إلَيْهِنَّ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَالَ، وَأَمْوَالَكُمْ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ أَمْوَالَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا النَّهْيِ لَا أَمْوَالَ السُّفَهَاءِ، وَحَدِيثُ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ دَلِيلُنَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرُ لِقَوْلِهِ لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ وَمَنْ يَجْعَلُ السَّفَهَ مُوجِبًا لِلْحَجْرِ لَا يَقُولُ يُطْلَقُ عَنْهُ الْحَجْرُ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَجْرًا لَازِمًا.
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَلِيلُنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْتَنَعَ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَعَ سُؤَالِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي التَّصَرُّفِ غَبْنٌ ذَلِكَ حِينَ رَغِبَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الشَّرِكَةِ وَلَكِنَّ الْمُبَذِّرَ، وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا وَاحِدًا عَلَى وَجْهٍ لَا غَبْنَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ فَلَمَّا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْوِيفِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دَلِيلُنَا، فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَلَفَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا، فَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمَا اسْتَجَازَتْ هَذَا الْحَلِفُ مِنْ نَفْسِهَا مُجَازَةً عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الزُّبَيْرَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْنَى مَالُهَا، فَتُبْتَلَى بِالْفَقْرِ، فَتَصِيرُ عِيَالًا عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ مَا كَانَ يَعُولُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَصِيرُ إلَى هَذَا أَوْلَى لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ نِسْبَةِ السَّفَهِ، وَالتَّبْذِيرِ إلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ دُفِعَ الْمَالَ إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ-: لَمْ يُدْفَعْ الْمَالُ إلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}، فَهَذِهِ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ، فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ قَبْلَ إينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ لَا يُدْفَعُ الْمَالُ إلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَكَذَلِكَ إذَا بَلَغَ خَمْسًا، وَعِشْرِينَ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ يَسْتَحْكِمْ بِمُطَاوَلَةِ الْمُدَّةِ وَلِأَنَّ السَّفَهَ فِي حُكْمِ مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُونِ، وَالْعَتَهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً كَمَا قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ السَّفَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} مَعْنَاهُ أَنْ يَكْبَرُوا يَلْزَمُكُمْ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}، وَالْمُرَادُ الْبَالِغِينَ، فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ، وَهُوَ مَا تَلَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ، فَيَكُونُ بَيْنَ إنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ عَقِيبَ الْبُلُوغِ بِشَرْطِ إينَاسِ الرُّشْدِ، وَمَا يَقْرَبُ مِنْ الْبُلُوغِ فِي مَعْنَى حَالَةِ الْبُلُوغِ، فَأَمَّا إذَا بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ فَوُجُوبُ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ مُطْلَقٌ بِمَا تَلَوْنَا غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ وَمُدَّةُ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً فَقَدَّرْنَا مُدَّةَ الْقُرْبِ مِنْهُ بِسَبْعِ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِمُدَّةِ التَّمْيِيزِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَثَرَ الصِّبَا يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانٌ، وَبَقَاءُ أَثَرِ الصِّبَا كَبَقَاءِ عَيْنِهِ فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ، وَلَا يَبْقَى أَثَرُ الصِّبَا بَعْدَ مَا بَلَغَ خَمْسًا، وَعِشْرِينَ سَنَةً لِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ بِهِ مُنْذُ بَلَغَ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمَالُ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ أَوْ مَنْعُ الْمَالَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ لَهُ وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّأْدِيبِ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ، فَقَدْ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ جَدًّا؛ لِأَنَّ الْبُلُوغَ بِالْإِنْزَالِ بَعْدَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً يَتَحَقَّقُ، فَإِذَا أَحْبَلَ جَارِيَتَهُ، وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ إنَّ وَلَدَهُ أَحْبَلَ جَارِيَتَهُ بَعْدَ اثْنَتَيْ عَشَرَ سَنَةٍ وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ صَارَ الْأَوَّلُ جَدًّا بَعْدَ تَمَامِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمَنْ صَارَ فَرْعُهُ أَصْلًا، فَقَدْ تَنَاهَى فِي الْأَصْلِيَّةِ، فَإِذَا لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ انْقَطَعَ مِنْهُ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ فَلَا مَعْنَى لِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْكِتَابِ، فَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ، وَصَارَ وَلَدُهُ قَاضِيًا، أَوْ نَافِلَتُهُ أَكَانَ يُحْجَرُ عَلَى أَبِيهِ وَحْدَهُ، وَيَمْتَنِعُ الْمَالُ مِنْهُ هَذَا قَبِيحٌ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَفِيدَ رُشْدًا إمَّا بِطَرِيقِ التَّجْرِبَةِ، أَوْ الِامْتِحَانِ، فَإِنْ كَانَ مَنْعُ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ فَقَدْ تَمَكَّنَتْ شُبْهَةٌ بِإِصَابَةِ نَوْعٍ مِنْ الرُّشْدِ، وَالْعُقُوبَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا بِالنَّصِّ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَقَوْلُهُ رُشْدًا مُنَكَّرًا فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ، وَلَا تَعُمُّ، فَإِذَا وُجِدَ رُشْدٌ مَا فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ، فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} أَيْ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْلِ يَحْصُلُ لَهُ رُشْدٌ مَا وَفِي الْكِتَابِ تَتَبُّعٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ مَعَ إطْلَاقِ التَّصَرُّفِ وَفِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ زَمَانًا ثُمَّ الدَّفْعُ إلَيْهِ قَبْلَ إينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْفَرْقَ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ السَّفِيهُ إنَّمَا يُبَذِّرُ مَالَهُ عَادَةً فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ مِنْ اتِّخَاذِ الضِّيَافَةِ، أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ، فَإِذَا كَانَتْ يَدُهُ مَقْصُورَةً عَنْ الْمَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَنْفِيذِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِدُونِ حَجْرِ الْقَاضِي، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا، ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا فَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ بِهِ نَظِيرَ الْجُنُونِ، وَالْعَتَهِ وَالْحَجْرُ يَثْبُتُ بِهِمَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، فَكَذَلِكَ فِي السَّفَهِ وَقَاسَ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَالرِّقِّ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّظَرِ وَالضَّرَرِ، فَفِي إبْقَاءِ الْمِلْكِ لَهُ نَظَرٌ، وَفِي إهْدَارِ قَوْلِهِ ضَرَرٌ، وَبِمِثْلِ هَذَا لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي: تَوْضِيحُهُ أَنَّ السَّفَهَ لَيْسَ بِشَيْءٍ مَحْسُوسٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَنْ يُغْبَنَ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِلسَّفَهِ، وَقَدْ تَكُونُ جِبِلَّةٌ لِاسْتِجْلَابِ قُلُوبِ الْمُجَاهِرِينَ فَإِذَا كَانَ مُخْتَبَلًا مُتَرَدِّدًا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الصِّغَرِ، وَالْجُنُونِ وَالْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الْحَجْرَ بِهَذَا السَّبَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَالْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ.
وَالْكَلَامُ فِي الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ إذَا خِيفَ أَنْ يُلْجِئَ مَالَهُ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ، فَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَعِنْدَهُمَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ، وَبَعْدَ الْحَجْرِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ عِنْدَ الْحَجْرِ، وَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ فِيمَا يَكْتَسِبُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَهُ، وَفِي هَذَا الْحَجْرِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا جَازَ عِنْدَهُمَا الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ، فَكَذَلِكَ يُحْجَرُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُحْجَرُ عَلَى الْمَدْيُونِ نَظَرًا لَهُ، فَكَذَلِكَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ، وَلِمَا فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ النَّظَرُ لِغُرَمَائِهِ بِطَرِيقٍ لَا يَكُونُ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ إلَّا بِقَدْرِ مَا، وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَهُوَ الْحَبْسُ فِي الدَّيْنِ لِأَجْلِ ظُلْمِهِ الَّذِي تَحَقَّقَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ، وَخَوْفُ التَّلْجِئَةِ ظُلْمٌ مَوْهُومٌ مِنْهُ، فَلَا يُجْعَلُ كَالْمُتَحَقِّقِ، ثُمَّ الضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ فَوْقَ الضَّرَرِ فِي حَبْسِهِ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الْأَدْنَى عَلَى ثُبُوتِ الْأَعْلَى كَمَا فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْ السَّفِيهِ مَعَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ هَذَا الْحَجْرُ عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ الْأَوَّلِ، فَيَقُولُ: هُنَا الْحَجْرُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْغُرَمَاءِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِمْ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ، وَالْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ لِأَجْلِ النَّظَرِ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى طَلَبِ أَحَدٍ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ بِدُونِ الْقَضَاءِ.
وَالْفَصْلُ الثَّانِي- أَنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعُرُوض، وَالْعَقَارُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لَا مُبَادَلَةَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَبِيعُ عَلَيْهِ مَالَهُ، فَيَقْضِي دَيْنَهُ بِثَمَنِهِ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «فَإِنَّهُ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ، فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ، وَقَسَّمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ»، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إيَّاكُمْ، وَالدَّيْنُ، فَإِنْ أَوَّلُهُ هَمٌّ، وَآخِرُهُ حُزْنٌ، وَإِنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ: سَبَقَ الْحَاجُّ، فَادَّانَ مُعْرِضًا، فَأَصْبَحَ، وَقَدْ دِينَ بِهِ أَلَا إنِّي بَائِعٌ عَلَيْهِ مَالَهُ فَقَاسِمٌ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلْيَفْدِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ هَذَا اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالَهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنْ بَيْعَ الْمَالِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُحْبَسُ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ وَهُوَ مَا يَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَالْأَصْلُ إنْ امْتَنَعَ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا يَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ نَابَ الْقَاضِي فِيهِ مَنَابَهُ كَاَلَّذِي إذَا أَسْلَمَ عَبْدَهُ، فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهُ بَاعَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِهَذَا وَالتَّعْيِينُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ إذَا أَبَى أَنْ يُفَارِقَهَا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُؤَاجِرُهُ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ أُجْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ مَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَحْبِسُهُ لِأَجْلِهِ وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ إذَا وَجَبَ عَلَى امْرَأَةٍ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُزَوِّجُهَا لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ مِنْ صَدَاقِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تُحْبَسُ لِتُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا فَلَا يَنُوبُ الْقَاضِي فِيهِ مَنَابَهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وَبَيْعُ الْمَالِ عَلَى الْمَدْيُونِ بِغَيْرِ رِضَاهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ».
وَنَفْسُهُ لَا تَطِيبُ بِبَيْعِ الْقَاضِي مَالَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ لِهَذَا الظَّاهِرِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ بَيْعَ الْمَالِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ: بَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَجِهَةُ بَيْعِ الْمَالِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، فَقَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالِاسْتِيهَابِ، وَالِاسْتِقْرَاضِ وَسُؤَالِ الصَّدَقَةِ مِنْ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي تَعْيِينُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَيْهِ بِمُبَاشَرَةِ بَيْعِ مَالِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِهِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَحَبَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ، وَضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ»، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ مَا حَبَسَهُ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِيَسَارِهِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُعْتَقِ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ وَمَعَ ذَلِكَ اشْتَغَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَبْسِهِ حَتَّى بَاعَ بِنَفْسِهِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَدْيُونَ يُحْبَسُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَوْ جَازَ لِلْقَاضِي بَيْعُ مَالِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِحَبْسِهِ لِمَا فِي الْحَبْسِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ وَبِالْغُرَمَاءِ فِي تَأْخِيرِ وُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ، فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَيْهِ بِدُونِ الْحَاجَةِ وَفِي اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى حَبْسِهِ فِي الدَّيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ بَيْعِ مَالِهِ فِي دَيْنِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ عَبْدِ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ عِنْدَ إصْرَارِ الْمَوْلَى عَلَى الشِّرْكِ إخْرَاجُ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ.
وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعِنِّينِ لَمَّا تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فَالتَّسْرِيحُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ، فَأَمَّا مُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ وَمَالُهُ دَنَانِيرَ، فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُبَاشِرَ هَذِهِ الْمُصَارَفَةَ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ صُورَةً وَجِنْسٌ، وَاحِدٌ مَعْنَى، وَلِهَذَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ صُورَةً كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ مَعْنًى، فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا لَوْ ظَفِرَ بِحَبْسِ حَقِّهِ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قُلْنَا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ صُورَةً، وَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا حُكْمًا، فَلِانْعِدَامِ الْمُجَانَسَةِ صُورَةً لَا يَنْفَرِدُ صَاحِبُ الدَّيْنِ، فَيَأْخُذُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ مِنْ وَجْهٍ، وَلِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ مَعْنًى قُلْنَا لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَلَا رِضًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْقَاضِي مُجْتَهِدٌ، فَجَعَلْنَا لَهُ وِلَايَةَ الِاجْتِهَادِ هُنَا فِي مُبَادَلَةِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالْمَدْيُونِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالِ حَقِّهِ عَنْ عَيْنِ مِلْكِهِ، وَلِلنَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ أَغْرَاضٌ، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لِغُرَمَائِهِ عَلَى وَجْهٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِهِ، فَوْقَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي النُّقُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ الْمَالِيَّةُ دُونَ الْعَيْنِ.
وَأَمَّا تَأْوِيلُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَنَقُولُ إنَّمَا بَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ بِسُؤَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ، وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَ مَالِهِ لِيَنَالَ مَالُهُ بَرَكَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَصِيرُ فِيهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَأْمُرُ الْقَاضِي الْمَدْيُونَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوَّلًا، فَإِذَا امْتَنَعَ، فَحِينَئِذٍ يَبِيعُ مَالَهُ وَلَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْبَى أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ بِبَيْعِ مَالِهِ حَتَّى يَحْتَجَّ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، فَإِنَّهُ كَانَ سَمْحًا جَوَادًا لَا يَمْنَعُ أَحَدًا شَيْئًا، وَلِأَجْلِهِ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ بِمَالِهِ بَعْدَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ.
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَشْهُورُ فِي حَدِيث أُسَيْفِعَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إنِّي قَاسِمٌ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَإِنْ ثَبَتَ الْبَيْعُ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي لَا يَبِيعُهُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْغُرَمَاءَ طَالَبُوهُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ أَنَّهُ ابْتَدَأَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَفِدُوا إلَيْهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ.
ثُمَّ قَدْ تَمَّ الْكِتَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا التَّفْرِيعُ بَعْدَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ، فَنَقُولُ بَيْنَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ بِسَبَبِ السَّفَهِ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ الْحَجْرِ، فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْحَجْرُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ حَتَّى لَا يَنْفُذُ بَعْدَ الْحَجْرِ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ سِوَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِالْتِزَامِ الْعُقُوبَةِ بِاللِّسَانِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِهَا، أَوْ بِالْإِقْرَارِ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّقِّ، فَكَمَا أَنَّ بَعْدَ الرِّقِّ لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ سِوَى الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْحَجْرِ بِسَبَبِ السَّفَهِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ السَّفَهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَالْهَازِلِ يُخْرِجُ كَلَامَهُ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ، فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ يُخْرِجُ كَلَامَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا نَظِيرُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَجْرَ لِحَقِّ الْغَيْرِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ تَصَرُّفُهُ حَتَّى فِيمَا لَا حَقَّ لِلْغَيْرِ فِيهِ يَكُونُ تَصَرُّفُهُ نَافِذًا، وَهُنَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ تَصَرُّفُهُ، ثُمَّ عَلَى مَذْهَبِهِمَا الْقَاضِي يَنْظُرُ فِيمَا بَاعَ وَاشْتَرَى هَذَا السَّفِيهُ.
فَإِنْ رَأَى إجَازَتَهُ أَجَازَهُ، وَكَانَ جَائِزًا لِانْعِدَامِ الْحَجْرِ قَبْلَ الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلِإِجَازَةِ الْقَاضِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ لَا يَكُونُ دُونَ حَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا كَانَ عَاقِلًا، وَهُنَاكَ إذَا بَاعَ وَاشْتَرَى، وَأَجَازَهُ الْقَاضِي جَازَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ النَّظَرُ لَهُ فِي إجَازَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَلِهَذَا نَفَذَ بِإِجَازَةِ الْقَاضِي سَوَاءٌ بَاشَرَهُ السَّفِيهُ، أَوْ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ قَالَ: وَهُمَا سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إلَّا فِي خِصَالٍ أَرْبَعٍ أَحَدُهَا: لَا يَجُوزُ لِوَصِيِّ الْأَبِ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ هَذَا الَّذِي بَلَغَ، وَهُوَ سَفِيهٌ إلَّا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، وَيَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِالْإِذْنِ لَهُ، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي ذَلِكَ، وَلِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَى وَلَدِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ فَأَمَّا بَعْدَ مَا بَلَغَ عَاقِلًا لَا يَبْقَى لِلْوَصِيِّ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ صَارَ وَلِيَّ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ وَلِيَّ نَفْسِهِ انْتِفَاءُ وِلَايَةِ الْوَصِيِّ عَنْهُ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْبُلُوغَ عَنْ عَقْلِ مُخْرِجٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْلًى عَلَيْهِ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِثْلُ ذَلِكَ النَّظَرِ فِي إبْقَاءِ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَأْثِيرَ السَّفَهِ كَتَأْثِيرِ الْهَزْلِ، وَلَا أَثَرَ لِلْهَزْلِ فِي إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ لِلْوَصِيِّ، وَلِلْهَزْلِ تَأْثِيرٌ فِي إبْطَالِ تَصَرُّفِهِ، فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَقُومُ هُوَ فِي التَّصَرُّفِ لَهُ مَقَامَ الْقَاضِي وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا حَجَرَ عَلَيْهِ لَا يَتْرُكُهُ لِيَمُوتَ جُوعًا، وَلَكِنْ يَتَصَرَّفُ لَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ فِيهِ مَقَامَهُ وَالثَّانِي- أَنَّ السَّفِيهَ إذَا أَعْتَقَ مَمْلُوكًا لَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ بِخِلَافِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَأْثِيرَ السَّفَهِ كَتَأْثِيرِ الْهَزْلِ، ثُمَّ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخِرِ لَيْسَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَعَى إنَّمَا يَسْعَى لِمُعْتِقِهِ، وَالْمُعْتِقُ لَا تَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ قَطُّ لِحَقِّ مُعْتَقِهِ بِحَالٍ إنَّمَا تَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ لِحَقِّ غَيْرِهِ وَالثَّانِي- أَنَّ تَأْثِيرَ السَّفَهِ كَتَأْثِيرِ الْهَزْلِ، وَمَنْ أَعْتَقَ مَمْلُوكَهُ هَازِلًا لَا تَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ فَهَذَا قِيَاسُهُ: وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِغُرَمَائِهِ، وَوَرَثَتِهِ، ثُمَّ هُنَاكَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا، وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِغُرَمَائِهِ أَوْ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِوَرَثَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَا مَالٌ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْعِتْقِ وَاجِبٌ لِمَعْنَى النَّظَرِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ، فَهُنَا أَيْضًا رَدُّ الْعِتْقِ وَاجِبٌ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ، فَيَكُونُ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ، فَهُنَا أَيْضًا وَاجِبٌ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ، فَكَانَ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فِي حُكْمِ الْحَجْرِ بِمَنْزِلَةِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ السِّعَايَةِ.
وَالثَّالِثُ- أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ لَا يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ وَهَذَا السَّفِيهُ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ تَدْبِيرُهُ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ لِلْمُدَبَّرِ، فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ، وَهُنَا لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ التَّدْبِيرِ فِي مَالِ مَمْلُوكٍ لَهُ يَسْتَخْدِمُهُ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ نُقْصَانِ التَّدْبِيرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَمْلُوكِهِ دَيْنًا تَعَذَّرَ إيجَابُ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ بِمَالٍ وَقَبِلَهُ الْعَبْدُ كَانَ التَّدْبِيرُ صَحِيحًا، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَ، فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ، وَإِنَّمَا لَاقَاهُ الْمُعْتِقُ، وَهُوَ مُدَبَّرٌ، فَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا (أَلَا تَرَى) أَنَّ مُصْلِحًا لَوْ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهِ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِغُرَمَائِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ نَفَذَ عِتْقُهُ، وَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ؛ لِمَا قُلْنَا.
وَالرَّابِعُ أَنَّ، وَصَايَا الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً، وَاَلَّذِي بَلَغَ مُفْسِدًا إذَا أَوْصَى بِوَصَايَا فَالْقِيَاسُ فِيهِ كَذَلِكَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ بِمَنْزِلَةِ تَبَرُّعَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنَّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْفِسْقِ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَاتِ، وَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ سَرَفٌ، وَلَا أَمْرٌ يَسْتَقْبِحُهُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ يَنْفُذُ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ حَتَّى لَا يَتْلَفَ مَالُهُ فَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الْأَحْمَرُ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي وَصَايَاهُ؛ لِأَنَّ أَوَانَ وُجُوبِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَبَعْدَ مَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْمَالِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ، فَإِذَا حَصَلَتْ وَصَايَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ نَظَرٌ مِنْهُ لِأَمْرٍ أَضَرَّ بِهِ أَوْ لِاكْتِسَابِ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِنَفْسِهِ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لَهُ فِي تَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصَايَا وَالتَّدْبِيرُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَيُعْتَقُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِهَذَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُدَبَّرِ السِّعَايَةُ وَلَكِنَّهُ، أَوْجَبَ السِّعَايَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى إبْطَالِ الْمَالِيَّةِ، فَكَلَامُ أَبِي يُوسُفَ يَتَّضِحُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَلَفُوا فِي، وَصِيَّةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُجَوِّزُونَ مِنْ وَصَايَاهُ مَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ الْآثَارُ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ غُلَامٍ يَفَاعٍ، وَفِي رِوَايَةِ يَافِعٍ، وَهُوَ الْمُرَاهِقُ، وَأَنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ عَنْ وَصِيَّةِ غُلَامٍ لَمْ يَبْلُغْ، فَقَالَ إنْ أَصَابَ الْوَصِيَّةَ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَحَالُ هَذَا الَّذِي بَلَغَ وَصَارَ مُخَاطَبًا بِالْأَحْكَامِ أَقْوَى مِنْ حَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، فَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي وَصِيَّةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ يَكُونُ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ فِي وَصِيَّةِ السَّفِيهِ أَنَّهُ إذَا وَافَقَ الْحَقَّ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ، فَهَذَا وَجْهٌ آخَرَ لِلِاسْتِحْسَانِ.
، ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ السَّفَهَ لَا يُجْعَلُ كَالْهَزْلِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ، وَلَا كَالصِّبَا، وَلَا كَالْمَرَضِ، وَلَكِنَّ الْحَجْرَ بِهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ تَوَفُّرُ النَّظَرِ عَلَيْهِ، وَبَحْثُهُ يُلْحَقُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ، فَإِنْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، فَإِنْ مَاتَ كَانَتْ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ تَوَفُّرِ النَّظَرِ فِي إلْحَاقِهِ بِالْمُصْلِحِ فِي حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ، وَصِيَانَةِ مَائِهِ، وَيَلْحَقُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ كَانَ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالصَّحِيحِ حَتَّى أَنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ بِمَوْتِهِ، وَلَا تَسْعَى هِيَ، وَلَا وَلَدُهَا فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غُرَمَائِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ، وَقَالَ هَذِهِ أُمُّ وَلَدٍ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا، فَإِنْ مَاتَ سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ إذَا قَالَ لِجَارِيَتِهِ وَلَيْسَ مَعَهَا وَلَدٌ: هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ، فَثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ لَهَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَكَذَلِكَ فِي دَفْعِ حُكْمِ الْحَجْرِ عَنْ تَصَرُّفِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ، فَإِنَّهُ لَا شَاهِدَ لَهُ هُنَا فَإِقْرَارُهُ لَهَا بِحَقِّ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ لَمْ يُولَدْ فِي مِلْكِهِ، فَقَالَ: هَذَا ابْنِي، وَمِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَهُوَ ابْنُهُ يَعْتِقُ، وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْعُلُوقِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ كَانَتْ دَعْوَاهُ دَعْوَى تَحْرِيرٍ، فَيَكُونُ كَالْإِعْتَاقِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَدْيُونَ إذَا قَالَ لِعَبْدٍ لَمْ يُولَدْ فِي مِلْكِهِ هَذَا ابْنِي عَتَقَ، وَسَعَى فِي قِيمَتِهِ، وَلَوْ اشْتَرَى هَذَا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ابْنَهُ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَقَبَضَهُ كَانَ شِرَاؤُهُ، فَاسِدًا، وَيَعْتِقُ الْغُلَامُ حِينَ قَبَضَهُ، وَيُجْعَلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْمُكْرَهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ابْنَهُ ثُمَّ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِلْبَائِعِ وَلَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ فِي مَالِ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَالْتِزَامُ الثَّمَنِ، أَوْ الْقِيمَةِ بِالْعَقْدِ مِنْهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالصَّبِيِّ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَحْجُورِ شَيْءٌ لَا يُسَلَّمُ لَهُ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْ سِعَايَتِهِ فَتَكُونُ السِّعَايَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِلْبَائِعِ، وَلَوْ وُهِبَ لَهُ ابْنُهُ الْمَعْرُوفُ، أَوْ وُهِبَ لَهُ غُلَامٌ، فَقَبَضَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ، وَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَدْيُونَ لَوْ وُهِبَ لَهُ ابْنُهُ الْمَعْرُوفُ، أَوْ وُهِبَ لَهُ غُلَامٌ فِي مَرَضِهِ، فَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ، ثُمَّ مَاتَ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ لِغُرَمَائِهِ وَلَوْ أَنَّ هَذَا الَّذِي بَلَغَ مُفْسِدًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهُ، وَيُنْظَرُ إلَى مَا تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ، وَإِلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، فَيَلْزَمُهُ أَقَلُّهُمَا وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا مِمَّا سَمَّى، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّ التَّزَوُّجَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ النِّكَاحِ وُجُوبُ مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَالْتِزَامٌ بِالتَّسْمِيَةِ، وَلَا نَظَرَ لَهُ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ كَالْمَرِيضِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْمُسَمَّى مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَتَنَصُّفُ الْمَفْرُوضِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ.
وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ، أَوْ تَزَوَّجَ كُلَّ يَوْمٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْسَدُّ بَابُ إتْلَافِ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ يُتْلِفُ مَالَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ إذَا أُعْجِزَ عَنْ إتْلَافِهِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَهُوَ يَكْتَسِبُ الْمَحْمَدَةَ فِي الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَالْمَذَمَّةَ فِي التَّزَوُّجِ، وَالطَّلَاقِ قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَعَنْ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ»، وَلَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ نَذَرَ نُذُورًا مِنْ هَدْيٍ، أَوْ صَدَقَةٍ لَمْ يُنَفِّذْ لَهُ الْقَاضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَدَعْهُ يُكَفِّرُ أَيْمَانَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَجَرَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ، وَلَوْ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ إذَا، أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِالْحَجْرِ؛ لِأَنَّهُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ النَّذْرُ بِالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ لِكُلِّ يَمِينٍ حَنِثَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَالِكًا لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ مَقْصُورَةٌ عَنْ مَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ السَّبِيلِ الْمُنْقَطِعِ عَنْ مَالِهِ وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَكُونُ مَالُهُ دَيْنًا عَلَى إنْسَانٍ، أَوْ غَصْبًا فِي يَدِهِ، وَهُوَ يَأْبَى أَنْ يُعْطِيَهُ، فَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ كَذَلِكَ هُنَا.
وَلَوْ ظَاهَرَ هَذَا الْمُفْسِدُ مِنْ امْرَأَتِهِ صَحَّ ظِهَارُهُ كَمَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ، وَيُجْزِيهِ الصَّوْمُ فِي ذَلِكَ لِقُصُورِ يَدِهِ عَنْ مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا عَنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: هُنَاكَ لَوْ كَانَ فِي مَالِهِ عَبْدٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَقْدِرُ عَلَى إعْتَاقِهِ عَنْ ظِهَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، وَهُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ، وَمَعَ وُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ عَنْ الظِّهَارِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَرِيضًا مُصْلِحًا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِهِ، أَوْ قَتَلَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ، ثُمَّ مَاتَ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِلسِّعَايَةِ الَّتِي وَجَبَتْ فَلِهَذَا، أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ فَإِنْ قِيلَ: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ إعْتَاقُهُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَيَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ عَنْ ذِمَّتِهِ، فَالنَّظَرُ لَهُ فِي تَنْفِيذِهِ قُلْنَا لَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابَ لَكَانَ إذَا شَاءَ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ، وَقِيلَ: لَهُ إنَّ عِتْقَكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالسِّعَايَةِ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ أَعْتَقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، أَوْ حَلَفَ بِيَمِينٍ، وَحَنِثَ فِيهَا، ثُمَّ أَعْتَقَ ذَلِكَ، فَيَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ مِنْ التَّبْذِيرِ بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ هَذَا الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ، فَلِزَجْرِهِ عَنْ هَذَا الْقَصْدِ، أَوْجَبْنَا السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أَعْتَقَهُ، وَعَيَّنَّا عَلَيْهِ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ، فَإِنْ صَامَ الْمُفْسِدُ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ، ثُمَّ صَارَ مُصْلِحًا لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْعِتْقَ بِمَنْزِلَةِ مُعْسِرٍ أَيْسَرَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعْسِرًا ابْتِدَاءً، وَقَدْ وَصَلَتْ يَدُهُ إلَى الْمَالِ قَبْلَ سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ بِالصَّوْمِ، فَعَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ.
، وَأَمَّا مَا وَجَبَ عَلَى الْمُفْسِدِ مِنْ أَمْرٍ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ، أَوْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ، وَالْمُصْلِحُ فِيهِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ، وَإِنْ كَانَ مُفْسِدًا، وَبِسَبَبِ الْفَسَادِ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فِي إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَاسِقِ الَّذِي يُقَصِّرُ فِي أَدَاءِ بَعْضِ الْفَرَائِضِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّخْفِيفَ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْتِزَامِهِ، فَيُمْكِنُ فِيهِ مَعْنَى التَّبْذِيرِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي مُبَاشَرَةِ التَّصَدُّقِ، فَأَمَّا فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ مَعْنَى التَّبْذِيرِ فَهُوَ، وَالْمُصْلِحُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنَفِّذَ لَهُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إذَا طَلَبه مِنْ أَدَاءِ زَكَاةِ مَالِهِ وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ، وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؛ لِأَنَّهُ يَصْرِفُهُ إلَى شَهَوَاتِ نَفْسِهِ، وَلَكِنْ لَا يُخَلِّي بَيْنَهُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ حَتَّى يُعْطِيَهُ الْمَسَاكِينَ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِيتَاءُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ هُوَ عِبَادَةٌ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِنِيَّتِهِ، فَلِهَذَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ لِيُعْطِيَهُ الْمَسَاكِينَ مِنْ زَكَاتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَمِينِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي مَالًا يَصِلُ بِهِ قَرَابَتَهُ الَّذِي يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهِمْ أَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِ يَكُونُ شَرْعًا لَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِي لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ بَلْ يَدْفَعُهُ بِنَفْسِهِ إلَى ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى فِعْلِهِ وَنِيَّتِهِ حَتَّى أَنَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَلِكَ الْقَاضِي يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْقَرَابَةِ، وَعِشْرَةِ الْقَرَائِبِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ لَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ شَيْئًا إلَّا فِي الْوَالِدِ، فَإِنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا عَلَى النَّسَبِ قُبِلَ قَوْلُهُمَا فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي تَصْدِيقِ صَاحِبِهِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّسَبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّفَهَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَلَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي عُسْرَةِ الْمُقَرِّ لَهُ حَتَّى يَعْرِفَ أَنَّهُ كَذَلِكَ كَمَا عُسْرَةِ سَائِرِ الْأَقَارِبِ.
وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ التَّزَوُّجِ فَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ، وَيَجِبُ لَهَا مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا وَيُعْطِيَهَا الْقَاضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ حُكْمًا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى بَعْدَ إقْرَارِهِ أَشْهُرٌ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ فُرِضَ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ فِي أَوَّلِ تِلْكَ الشُّهُورِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لَهَا، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ لِزَوْجَةٍ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَإِقْرَارُهُ لَهَا بِالدَّيْنِ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَلْزَمُهُ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ مِنْ جِهَتِهِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ مَعْنَى التَّبْذِيرِ فِيهِ ثُمَّ لَا يُمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ شَرْعًا، وَيُعْطَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ، وَإِنْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا أَيْضًا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُعْطَى نَفَقَةَ السَّفَرِ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ عِنْدَنَا تَطَوُّعٌ كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَا حَجّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي، فَرِيضَةِ الْعُمْرَةِ، وَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَلِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، فَهَذَا مِنْهُ أَخْذٌ بِالِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ النَّظَرِ لَهُ لَيْسَ مِنْ التَّبْذِيرِ فِي شَيْءٍ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِنَ عُمْرَةً وَحَجًّا، وَسَوْقَ بَدَنَةٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ فَضْلٌ عِنْدَنَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ إنْشَاءِ سَفَرٍ لِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ، فَلَأَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرٍ أَوْلَى، ثُمَّ الْقَارِنُ يَلْزَمُهُ هَدْيٌ، وَيُجْزِيهِ فِيهِ الشَّاةُ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّ الْبَدَنَةَ فِيهِ أَفْضَلُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا بَقَرَةٌ، أَوْ جَزُورٌ، فَهُوَ حِينَ سَاقَ الْبَدَنَةَ قَدْ قَصَدَ بِهِ التَّحَرُّزَ عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَأَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الدِّينِ، وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ أَقْرَبَ إلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ فِي سَوْقِ الْبَدَنَةِ مِنْ مَعْنَى الْفَسَادِ شَيْءٌ، فَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِأَدَاءِ ذَلِكَ نَظَرَ الْحَاكِمُ إلَى ثِقَةِ مَنْ يُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِ مَا يَكْفِي الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِلْكِرَاءِ، وَالنَّفَقَةُ، وَالْهَدْيُ فَيَلِي ذَلِكَ الرَّجُلُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ، وَمَا أَرَادَ مِنْ الْهَدْيِ وَغَيْرِهِ بِأَمْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَلَا يَدْفَعُ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ مَخَافَةَ أَنْ يُتْلِفَهُ فِي شَهَوَاتِ نَفْسِهِ، ثُمَّ يَقُولُ ضَاعَ مِنِّي، فَأَعْطُونِي مِثْلَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الْحَضَرِ كَانَ مَالُهُ فِي يَدِ وَلِيِّهِ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ، وَإِذَا وَلَّاهُ الْقَاضِي ذَلِكَ كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ، وَلِيِّهِ فِي الْهَدْيِ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَمْرِهِ وَنِيَّتِهِ لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ فَإِمَّا أَنْ يُبَاشِرَهُ، أَوْلَى بِأَمْرِهِ، أَوْ يَدْفَعَ إلَيْهِ لِيُبَاشِرَ بِحَضْرَتِهِ مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتَهُ، فَإِنْ اصْطَادَ فِي إحْرَامِهِ صَيْدًا، أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ مِنْ أَذًى أَوْ صَنَعَ شَيْئًا يَجِبُ فِيهِ الصَّوْمُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَصُومَ لِذَلِكَ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْ مَالِهِ لِمَا صَنَعَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ جِنَايَةٌ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ فَيُؤْمَرُ بِالصَّوْمِ لِذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ السَّفَهِ.
فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَأْمُرَ الرَّجُلُ إنْ اُبْتُلِيَ بِأَذًى فِي رَأْسِهِ، أَوْ أَصَابَهُ وَجَعٌ احْتَاجَ فِيهِ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَنْ يُذْبَحَ عَنْهُ، أَوْ يَتَصَدَّقَ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا بَأْسٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ النَّظَرِ لَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ وَلِهَذَا جَوَّزَ الشَّرْعُ ذَلِكَ لِلْمُضْطَرِّ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ الْقَاضِي لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَأْمُرُهُ بِالْأَدَاءِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ الْوَكِيلُ إلَّا بِأَمْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ، فَإِنَّ الْوِلَايَةَ الثَّابِتَةَ عَلَيْهِ لِوَلِيِّهِ لَمْ تَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِمِثْلِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرِهِ وَنِيَّتِهِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَإِنْ تَطَيَّبَ الْمَحْجُورُ فِي إحْرَامِهِ بِطِيبٍ كَثِيرٍ، أَوْ قَبَّلَ لِلشَّهْوَةِ أَوْ صَنَعَ مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ الدَّمُ، أَوْ الطَّعَامُ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّوْمُ، فَهَذَا لَازِمٌ لَهُ يُؤَدَّى إذَا صَارَ مُصْلِحًا وَلَا يُؤَدَّى عَنْهُ فِي حَالِ فَسَادِهِ، وَأَنَّهُ لَزِمَهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ، وَلَكِنْ سَبَبُ هَذَا الِالْتِزَامُ مِنْهُ، فَلَا يُؤَدَّى مِنْ مَالِهِ فِي حَالِ فَسَادِهِ بَلْ يَتَأَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا بِمَنْزِلَةِ الْمُعْسِرِ الَّذِي لَا يَجِدُ شَيْئًا إذَا صَنَعَ ذَلِكَ، أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ إذَا، فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى عَنْهُ الْحَاكِمُ هَذَا فَعَلَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَيَفْنَى مَالُهُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ يَتَأَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا، وَإِنْ جَامَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يُمْنَعْ نَفَقَةَ الْمُضِيِّ فِي إحْرَامِهِ إلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ وَلَا يُمْنَعُ نَفَقَةَ الْعَوْدِ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ عَلَيْهِ شَرْعًا وَيُمْنَعُ مِنْ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ وَفِي هَذَا السَّبَبِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْعُمْرَةُ فِي هَذَا كَالْحَجِّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَحُجَّ غَيْرَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَإِذَا خَرَجَتْ لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ جُومِعَتْ فِي إحْرَامِهَا مُطَاوِعَةً، أَوْ مُكْرَهَةً مَضَتْ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ، وَلَمْ تُمْنَعْ مِنْ الْعَوْدِ لِلْقَضَاءِ مَعَ الْمَحْرَمِ، فَإِذَا كَانَتْ لَا تُمْنَعُ هِيَ لِحَقِّ الزَّوْجِ لَمْ يُمْنَعْ الْمَحْجُورُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَجْلِ الْحَجْرِ.
وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ قَضَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إلَّا طَوَافَ الزِّيَارَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ يَطُفْ طَوَافَ الصَّدْرِ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ لَهُ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ لِلطَّوَافِ وَيَصْنَعُ فِي الرُّجُوعِ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ مَا لَمْ يَطُفْ لِلزِّيَارَةِ، فَالرُّجُوعُ لِلطَّوَافِ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِلتَّحَلُّلِ، وَلَكِنْ يَأْمُرُ الَّذِي يَلِي النَّفَقَةَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ رَاجِعًا حَتَّى يَحْضُرَهُ، وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ لِسَفَهِهِ رُبَّمَا يَرْجِعُ وَلَا يَطُوفُ، ثُمَّ يَطْلُبُ النَّفَقَةَ مَرَّةً أُخْرَى، وَهَكَذَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى يَفْنَى مَالُهُ، فَلِلزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ رَاجِعًا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِحَضْرَتِهِ، وَإِنْ طَافَ جُنُبًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لَمْ يُطْلَقْ لَهُ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ لِلطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ لِلطَّوَافِ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَشَاةٌ لِطَوَافِ الصَّدْرِ يُؤَدِّيهِمَا إذَا صَلَحَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا كَانَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَذَلِكَ السَّبَبُ مِنْ الْغَشَيَانِ يَعْنِي طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا وَتَرْكَ طَوَافِ الصَّدْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَإِنْ أَحْصَرَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلَّذِي أَعْطَى نَفَقَتَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ، فَيَحِلَّ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ وَمَالُهُ مُعَدٌّ لِذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْعَبْدَ إذَا حَجَّ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، فَأُحْصِرَ وَجَبَ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ لِيَحِلَّ بِهِ، وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمَحْجُورَ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ تَطَوُّعًا لَمْ يُنْفَقْ عَلَيْهِ فِي قَضَائِهَا نَفَقَةَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِيهِ فِي مَنْزِلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ إذَا أَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ وَلَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ، وَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ بِسَبَبِ إحْرَامِهِ وَلَا يُزَادُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ فِي السَّفَرِ مِنْ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ، وَالرَّاحِلَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إنْ شِئْت، فَاخْرُجْ مَاشِيًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَعْطُونِي مِنْ مَالِي شَيْئًا أَتَصَدَّقُ بِهِ لَمْ يُعْطَ ذَلِكَ فَاَلَّذِي يَخْرُجُ بِالْحَجِّ تَطَوُّعًا فِي الْمَعْنَى مُلْتَمِسٌ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ نَفَقَتِهِ فِي مَنْزِلِهِ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إلَى رَبِّهِ، فَلَا يُعْطَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا كَثِيرَ الْمَالِ وَقَدْ كَانَ الْحَاكِمُ يُوَسِّعُ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ بِذَلِكَ، فَكَانَ فِيمَا يُعْطِيهِ مِنْ النَّفَقَةِ، فَضْلٌ عَنْ قُوتِهِ، فَقَالَ أَنَا أَتَكَارَى بِذَلِكَ، وَأُنْفِقُ عَلَى نَفْسِي بِالْمَعْرُوفِ أَطْلَقَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ النَّفَقَةَ وَلَكِنْ يَدْفَعُهَا إلَى ثِقَةٍ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ عَلَى مَا أَرَادَ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّدْبِيرَ دَلِيلُ الرُّشْدِ، وَالصَّلَاحِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لَهُ، فَلَا يَمْنَعُهُ الْقَاضِي مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مَاشِيًا وَمَكَثَ حَرَامًا، فَطَالَ بِهِ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَهُ مِنْ إحْرَامِهِ ذَلِكَ ضَرُورَةٌ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَرَضًا، أَوْ غَيْرَهُ، فَلَا بَأْسَ إذَا جَاءَتْ الضَّرُورَةُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ حَتَّى يَقْضِيَ إحْرَامَهُ، وَيَرْجِعَ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ مَالِهِ لِتَوْفِيرِ النَّظَرِ لَهُ لَا لِلْإِضْرَارِ بِهِ، وَمِنْ النَّظَرِ هُنَا لَهُ أَنْ يُعْطِيَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ مَا الْتَزَمَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ إحْرَامِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُحْصِرَ فِي إحْرَامِ التَّطَوُّعِ لَمْ يَبْعَثْ الْهَدْيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِسَبَبٍ الْتَزَمَهُ بِاخْتِيَارِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ مِنْ نَفَقَتِهِ وَإِنْ شَاءَ ذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّظَرِ، وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفَقَتِهِ مَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ بِذَلِكَ مِنْهُ تَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ حَتَّى تَأْتِيَ الضَّرُورَةُ الَّتِي وَصَفْت لَكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ عَنْهُ بِهَدْيٍ مِنْ مَالِهِ يَحِلُّ بِهِ.
وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي هَذَا إلَى مَا يُصْلِحُهُ، وَيُصْلِحُ مَالَهُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِصِيَانَةِ مَالِهِ، فَالْمَقْصُودُ إصْلَاحُ نَفْسِهِ، فَيَنْظُرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى مَا يُصْلِحُهُ وَيُصْلِحُ مَالَهُ، فَإِذَا بَلَغَتْ الْمَرْأَةُ مُفْسِدَةً، فَاخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا جَازَ الْخُلْعُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْخُلْعِ يَعْتَمِدُ وُجُوبَ الْقَبُولِ لَا وُجُوبَ الْمَقْبُولِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْقَبُولُ مِنْهَا، وَكَأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِقَبُولِهَا الْجُعْلَ، فَإِذَا قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا الْمَالُ، وَإِنْ صَارَتْ مَصْلَحَةً؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ لَا بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ، وَلَا لِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ لَهَا فِي ذَلِكَ فَكَانَ النَّظَرُ فِي أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ كَالصَّغِيرَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ لَا كَالْمَرِيضَةِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ، فَهُوَ يَمْلِكُ رَجَعْتهَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ لَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ إلَّا عِنْدَ وُجُوبِ الْبَدَلِ، وَلَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ هُنَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ، فَإِنَّ مُقْتَضَى لَفْظِ الْخُلْعِ الْبَيْنُونَةُ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ الَّتِي يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْأَمَةِ الْمَالَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهَا حَتَّى يَلْزَمَهَا الْمَالُ إذَا أُعْتِقَتْ، فَلِوُجُوبِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَفِي الْمُفْسِدَةِ، وَالصَّغِيرَةِ الْمَالُ لَا يَجِبُ بِقَبُولِهَا أَصْلًا حَتَّى إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ مَعَ رِقِّهَا مُفْسِدَةً مِمَّنْ لَوْ كَانَتْ حُرَّةً لَمْ يُجِزْ أَمْرَهَا فِي مَالِهَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهَا الْمَالَ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ نَفْسِهَا حَتَّى لَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ إذَا أُعْتِقَتْ.
وَلَوْ أَنَّ غُلَامًا أَدْرَكَ مُفْسِدًا، فَلَمْ يَرْفَعْ أَمْرَهُ إلَى الْقَاضِي حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ وَالِدِهِ، وَأَقَرَّ بِدُيُونٍ، وَوَهَبَ هِبَاتٍ، وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ، ثُمَّ رُفِعَ أَمْرُهُ إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ مِنْهُ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ بِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْوَصِيَّ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي لَمَا مُنِعَ الْمَالُ مِنْهُ، وَمَنْ يَقُولُ: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ لَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي لَمَا مُنِعَ، وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ جَائِزًا، فَقَدْ دَخَلَ فِيمَا قَالَ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا الْحَجْرَ شَيْئًا، فَإِنَّا مَا احْتَجَجْنَا عَلَيْهِمْ إلَّا بِهَذَا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذَا الْقَائِلِ وَبَيْنَهُمْ افْتِرَاقٌ فِي رَدِّ الْآيَةِ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}، فَإِنَّمَا عَرَضَ فِي هَذَا الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إنَّهُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ جَاوَزَ حَدَّ نَفْسِهِ، وَلَمْ يُرَاعِ حَقَّ الِاسْتِنَادِ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ حَتَّى لَمْ يُكْثِرْ لَهُ تَفْرِيعُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَلَا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَلَوْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَحْيَاءِ لَدَمَّرَ عَلَيْهِ، وَكُلَّ مَجْرَى فِي الْحَلَائِسِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُفْسِدُ قَبَضَ ثَمَنَ مَا بَاعَ بِبَيِّنَةٍ، ثُمَّ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ رَأَى مَا بَاعَ بِهِ رَغْبَةً أَجَازَهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا جَازَ بِإِجَازَتِهِ.
وَإِنْ كَانَ ضَاعَ فِي يَدِهِ لَمْ يُجِزْهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لِلسَّفِيهِ فِي التِّجَارَةِ إذَا رَآهُ أَهْلًا لِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ تَصَرُّفُهُ، وَإِذَا رَأَى النَّظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، وَالْبَيْعُ بَيْعُ رَغْبَةٍ، فَالنَّظَرُ فِي إجَازَتِهِ، فَإِذَا ضَاعَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ، فَلَا نَظَرَ لَهُ فِي هَذِهِ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَجَازَهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُسَلَّمُ لَهُ فِي الْحَالِ فَإِنَّ إجَازَةَ الْبَيْعِ إجَازَةٌ مِنْهُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ الْفُضُولِيُّ مَالَ إنْسَانٍ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ كَانَ ذَلِكَ إجَازَةً مِنْهُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ، فَهَذَا كَذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِجَازَةِ نَظَرٌ لَهُ فَلَا يَشْتَغِلُ الْقَاضِي بِهِ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي ضَاعَ فِي يَدِ الْمُفْسِدِ سَبِيلٌ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ كَانَ بِتَسْلِيمٍ مِنْهُ، وَتَسْلِيطُهُ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَدْخُلُ بِهِ الْمَقْبُوضُ فِي ضَمَانِهِ، وَهُوَ فِي هَذَا كَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ- يَدْفَعُ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ، فَاسْتَهْلَكَهُ بَيْنَ يَدَى الشُّهُودِ، ثُمَّ رَفَعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَنْقُضُ بَيْعَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمَحْجُورَ مِنْ الثَّمَنِ شَيْءٌ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَيَكُونُ هُوَ ضَامِنًا لِمَا اُسْتُهْلِكَ مِنْ الثَّمَنِ.
وَلِلْقَاضِي أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ إنْ رَأَى النَّظَرَ فِيهِ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ، أَوْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا اشْتَرَاهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْجُورُ حِينَ قَبَضَ الثَّمَنَ أَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ نَفَقَةَ مِثْلِهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَوْ حَجَّ بِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَدَّى مِنْهُ زَكَاةَ مَالِهِ، أَوْ صَنَعَ فِيهِ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصْنَعَهُ عِنْدَ طَلَبِهِ، ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ نَظَرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ فِيهِ رَغْبَةً، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ أَجَازَ الْبَيْعَ، وَأَبْرَأَ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفَسَادِ شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَوْ طَلَبَهُ مِنْ الْقَاضِي وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُنَفِّذَهُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى الْفَسَادِ، فَفِيمَا لَا فَسَادَ فِيهِ، هُوَ كَغَيْرِهِ، وَالنَّظَرُ لَهُ فِي تَنْفِيذِ هَذَا التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فِي كُلِّ حَاجَةٍ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَرْحِ الْبَيِّنِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي تَصَرُّفِهِ مُحَابَاةٌ، فَأَبْطَلَ الْقَاضِي ذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ الثَّمَنُ عَنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِيهِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِيمَا صُرِفَ الْمَالُ إلَيْهِ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَفِيمَا لَا فَسَادَ فِيهِ هُوَ كَالرَّشِيدِ، فَيَصِيرُ الْمَقْبُوضِ دَيْنًا عَلَيْهِ يَصْرِفُهُ لَهُ فِي حَاجَتِهِ، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ مَالِهِ إلَّا أَنْ يَرَى أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا، فَقَضَى بِهِ مَهْرَ مِثْلِ الْمَرْأَةِ قَضَى الْقَاضِي الْقَرْضَ مِنْ مَالِهِ.
فَإِنْ كَانَ اسْتَقْرَضَهُ لِذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَهُ حَالَ فَسَادِهِ، وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ الْمَالَ إلَى وَجْهِ التَّبْذِيرِ، وَالْفَسَادِ وَهُوَ كَانَ مَحْجُورًا عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، فَأَمَّا مَا صَرَفَهُ إلَى مَهْرِ مِثْلِ امْرَأَتِهِ فَإِنَّمَا صَرَفَهُ إلَى مَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ، وَهُوَ إسْقَاطُ الصَّدَاقِ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ مَحْبُوسًا فِيهِ، أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَمْنَعُ نَفْسَهَا مِنْهُ لِذَلِكَ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُقْرِضَ مَمْنُوعٌ مِنْ دَفْعِ مَالِ نَفْسِهِ إلَيْهِ لِيَصْرِفَهُ إلَى تَبْذِيرِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهُ عَلَى الْفَسَادِ، فَيَكُونُ مُضَيِّعًا مَالَهُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يُقْرِضَهُ لِيَصْرِفَهُ إلَى مَهْرِ مِثْلِ امْرَأَتِهِ، فَلَا يَكُونُ بِهِ مُضَيِّعًا مَالَهُ، وَلَوْ اسْتَقْرَضَ مَالًا، فَأَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ نَفَقَةَ مِثْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ الْقَاضِي أَنْفَقَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَجَازَ ذَلِكَ لَهُ، وَقَضَاهُ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِيمَا صَنَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَهُ بِإِسْرَافٍ حَسَبِ الْقَاضِي لِلْمُقْرِضِ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ نَفَقَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَقَضَاهُ مِنْ مَالِهِ، وَأَبْطَلَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي مَقْدُورِ نَفَقَةِ مِثْلِهِ لَا فَسَادَ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَعْنَى الْفَسَادِ وَالْإِسْرَافِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ هُوَ كَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ فِيمَا فِيهِ الْفَسَادُ.
فَأَمَّا فِيمَا لَا فَسَادَ فِيهِ فَهُوَ كَالرَّشِيدِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ كَانَ مُؤَاخَذًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِي إقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا بِهِ يَحْصُلُ التَّطْهِيرُ لِنَفْسِهِ، وَآثَرَ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا عَلَى عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ أَحَدِ الْوَرَثَةِ إذَا أَسْرَفَ فِي جَهَازِ الْمَيِّتِ، وَكَفَنِهِ، فَإِنَّهُ يَحْسِبُ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ مِقْدَارَ جِهَازِ مِثْلِهِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إسْرَافٌ يَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ دُونَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَلَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ مَالًا، فَأَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ أَبَدًا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ غَيْرُ مُلْزِمٌ إيَّاهُ الْمَالَ، وَهُوَ فِيهِ كَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ مَا دَامَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِنْ صَلَحَ سُئِلَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فِي حَالِ فَسَادِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ فِي حَالِ فَسَادِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالْمُعَايَنَةِ، وَلَوْ عَايَنَاهُ اسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ فِي حَالِ فَسَادِهِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا أَبَدًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ ضَامِنٌ فَكَذَلِكَ هُنَا.
، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا، أَوْدَعَهُ رَجُلٌ مَالًا وَاسْتَهْلَكَهُ، وَعَلَّلَ فِي هَذَا بِمَا عَلَّلَ بِهِ هُنَاكَ، فَقَالَ: لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى مَالِهِ حِينَ دَفَعَهُ إلَيْهِ، وَإِذَا أَوْدَعَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً، فَقَتَلَهُ خَطَأً كَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ فِي الْأَفْعَالِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَالْأَفْعَالُ حِسِّيَّةٌ تَحَقُّقُهَا بِوُجُودِهَا، وَأَصْلُهُ فِي الصَّبِيِّ إذَا أُودِعَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً، فَقَتَلَهُ قَالَ: فَإِنْ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا دَامَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَدَرٌ فِي الْتِزَامِ الْمَالِ بِنَفْسِهِ، أَوْ الْإِلْزَامُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِنْ صَلَحَ، فَيُسْأَلُ عَمَّا كَانَ أَقَرَّ بِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فِي حَالِ صَلَاحِهِ أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ مِنْ مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهِ فِي حَالِ صَلَاحِهِ يَظْهَرُ هَذَا الْفِعْلُ فِي حَقِّهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الظَّاهِرِ بِالْمُعَايَنَةِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّهِمْ فَتَكُونُ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِفِعْلِ الْقَتْلِ، وَابْتَدَأَ الْأَجَلُ مِنْ حِينِ يُقْضَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا الْآنَ وَالْأَجَلُ يَكُونُ فِي الدَّيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِ جِنَايَتِهِ إذَا كَانَ عَمْدًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ خَطَأً فَهُوَ، وَإِنْ أَقَرَّ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّمَا أَقَرَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَذَلِكَ لَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَمُخَاطَبٌ، وَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ عَمْدًا كَانَ هُوَ كَالرَّشِيدِ فِي مُوجِبِهِ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ خَطَأً يَكُونُ هُوَ كَالرَّشِيدِ فِي أَنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ، وَإِذَا أَقَرَّ بَعْدَ مَا صَلَحَ، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ فِي حَقِّهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ، فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَحْجُورًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَلَحَ سُئِلَ عَمَّا كَانَ أَقَرَّ بِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ حَقًّا أُخِذَ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ وَلَكِنْ أَقَرَّ بَعْدَمَا صَلُحَ ابْتِدَاءً أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَالَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ سِوَى الْإِقْرَارِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بَعْدَمَا صَلُحَ: إنِّي قَدْ كُنْت أَقْرَرْت، وَأَنَا مَحْجُورٌ عَلَيَّ أَنِّي اسْتَهْلَكْت لَك أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَقْرَرْت لِي بِذَلِكَ فِي حَالِ صَلَاحِكَ، أَوْ قَالَ قَدْ أَقْرَرْت بِهِ فِي حَالَ فَسَادِك، وَلَكِنَّهُ حَقٌّ وَقَالَ الْمُقِرُّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَقًّا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي صِحَّةَ إقْرَارِهِ، فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرًا لَا مُقِرًّا، فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ، وَلَوْ قَالَ بَعْدَمَا صَلُحَ قَدْ كُنْت أَقْرَرْت بِذَلِكَ فِي حَالِ الْفَسَادِ، وَكَانَ ذَلِكَ حَقًّا فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا صَارَ مُقِرًّا لَهُ بِوُجُوبِ الْمَالِ الْآنَ، فَيُلْزِمُهُ الْقَاضِي ذَلِكَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ، أَوْ أَقْرَضَهُ مَالًا، ثُمَّ كَبِرَ، فَأَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: اسْتَهْلَكْتَهُ بَعْدَ الْكِبَرِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ اسْتِهْلَاكَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ هُوَ مُنْكِرًا لِلضَّمَانِ، وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَنَا أَقْرَضْتُكَ، أَوْ أَوْدَعْتُكَ بَعْدَ الْكِبَرِ فَاسْتَهْلَكْته، وَقَالَ الْغُلَامُ اسْتَهْلَكْته قَبْلَ الْكِبَرَ كَانَ الْغُلَامُ ضَامِنًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ يَدَّعِي إسْنَادَ الْإِيدَاعِ، وَالْإِقْرَاضِ إلَى حَالَةِ الصِّغَرِ لِيَثْبُتَ بِهِ تَسْلِيطُهُ إيَّاهُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ مُطْلَقًا، وَرَبُّ الْمَالِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِذَا قَبِلَ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ بَقِيَ اسْتِهْلَاكُهُ لِلْمَالِ، وَهُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ، وَقَالَ أَتْلَفْته بِإِذْنِكَ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْمَالِ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَإِذَا بَلَغْت الْمَرْأَةُ مَحْجُورًا عَلَيْهَا لِفَسَادِهَا، فَزُوِّجَتْ كُفُؤًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا، أَوْ بِأَقَلَّ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِيمَا صَنَعَ، وَالْحَجْرُ بِسَبَبِ الْفَسَادِ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ، فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِهَا وَالْغَبْنُ الْيَسِيرُ مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إلَّا بِحَرَجٍ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ، وَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فِيمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا قِيلَ: لِزَوْجِهَا إنْ شِئْت، فَأَتِمَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْفَسَادِ يَتَمَكَّنُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُحَابَاةِ فَلَا يُسَلَّمُ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ وَلَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّهُ يُلْزِمُهُ زِيَادَةً لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا، فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَالْتَزَمَهُ.
وَإِنْ شَاءَ أَبَى فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِدَامَةِ إمْسَاكِهَا إلَّا بِالْمَعْرُوفِ إلَّا بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَإِذَا أَبَاهَا كَانَ رَاضِيًا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَعَلَيْهِ لَهَا تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قِيمَةُ بُضْعِهَا مُسْتَحَقٌّ بِالدُّخُولِ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ إلَّا إذَا تَقَدَّمَهُ تَسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ تَمَكَّنَ الْفَسَادُ فِي تَسْمِيَتِهَا فَكَأَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَدَخَلَ هُوَ بِهَا، فَيَلْزَمُهُ تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ كَانَ لِلنُّقْصَانِ عَنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ وَقَدْ انْعَدَمَ حِينَ قَضَى لَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا بِالدُّخُولِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا مَحْجُورًا عَلَيْهِ، فَالْجَوَابُ مَا بَيَّنَّا إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ إنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا بَطَلَ الْفَضْلُ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا عَنْ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ إلْزَامَ الْمُفْسِدِ لِلزِّيَادَةِ بِالتَّسْمِيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ فِي الْتِزَامِ مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا مَعْنَى الْفَسَادِ، ثُمَّ لَا خِيَارَ لِلْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ إنْ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي قِيمَةِ الْبُضْعِ، وَقَدْ سُلِّمَ لَهَا ذَلِكَ، وَانْعِدَامُ الرِّضَا مِنْهَا لِتَمَلُّكِ الْبُضْعِ عَلَيْهَا بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ النِّكَاحِ إيَّاهَا كَمَا لَوْ أُكْرِهَتْ هِيَ، وَوَلِيُّهَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا فُلَانًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِمَهْرِ مِثْلِهَا غَيْرَ كُفُؤٍ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْكَفَاءَةِ فِيهِ حَقُّهَا، وَحَقُّ الْوَلِيِّ، وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا مِنْ الْوَلِيِّ بِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ، وَرِضَاهَا بِذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إبْطَالِ حَقِّهَا لِمَا تَمَكَّنَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفَسَادِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، فَلِهَذَا كَانَ لَهَا أَنْ تُخَاصِمَ، وَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا لِخُصُومَتِهَا وَخُصُومَةُ أَوْلِيَائِهَا، وَلَوْ أَنَّ غُلَامًا أَدْرَكَ، وَهُوَ مُصْلِحٌ قَدْ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ فَدَفَعَ إلَيْهِ وَصِيُّهُ، أَوْ لِلْقَاضِي مَالَهُ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفْسَدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَصَارَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ، فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُرْ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ مَعْتُوهًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي فَتَصَرُّفُهُ نَافِذٌ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي يَسْتَرِدُّ الْمَالَ مِنْهُ، وَيَجْعَلُهُ فِي يَدِ، وَلِيِّهِ كَمَا لَوْ بَلَغَ مُفْسِدًا؛ لِأَنَّ إينَاسَ الرُّشْدِ مِنْهُ شَرْطٌ لِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بِالنَّصِّ، فَيَكُونُ شَرْطًا لِإِبْقَاءِ الْمَالِ فِي يَدِهِ اسْتِدْلَالًا بِالنَّصِّ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَخْرُجُ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ شَرْطَ بَقَائِهِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ مُنِعَ الْمَالُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا، وَفَسَادُهُ عِنْدَ الْبُلُوغِ دَلِيلُ أَثَرِ الصِّبَا، فَمُنِعَ الْمَالِ مِنْهُ إلَى أَنْ يَزُولَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِعَرْضِ الزَّوَالِ فَأَمَّا فَسَادُهُ بَعْدَمَا بَلَغَ مُصْلِحًا، فَلَيْسَ بِدَلِيلِ أَثَرِ الصِّبَا، فَلَا يُوجِبُ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَالِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جِنَايَةً مِنْهُ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْجِنَايَةِ فِي قَطْعِ يَدِهِ عَنْ مَالِهِ وَلَا فِي قَطْعِ لِسَانِهِ عَنْ الْمَالِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ بَاعَ عَبْدًا، وَلَمْ يَدْفَعْهُ، وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ وَهُوَ حَالٌّ، أَوْ مُؤَجَّلٌ حَتَّى فَسَدَ فَسَادًا اسْتَحَقَّ الْحَجْرَ بِهِ، ثُمَّ دَفَعَ الْغَرِيمُ إلَيْهِ الْمَالَ فَدَفْعُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ، وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ دَفْعُ الثَّمَنِ إلَيْهِ بَعْدَمَا صَارَ سَفِيهًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا، وَسَلَّمَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ حَتَّى صَارَ مَعْتُوهًا إلَّا أَنَّ مِثْلَهُ يُقْبَضُ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ لِلثَّمَنِ هُنَاكَ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ هُنَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَاعَ شَيْئًا، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَبْرَأْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْوَلِيِّ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْبَيْعُ وَالصَّبِيُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الصَّبِيِّ إنَّمَا يَكُونُ مُبْرِئًا لِلْمُشْتَرِي إذَا تَأَيَّدَ رَأْيُهُ بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَيْهِ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَهُنَا قَبْضُهُ إنَّمَا كَانَ مُبَرِّئًا لِلْمُشْتَرِي بِكَوْنِهِ رَشِيدًا حَافِظًا لِمَالِهِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِفَسَادِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُ، وَهُوَ مُصْلِحٌ، فَبَاعَهُ، ثُمَّ صَارَ الْبَائِعُ مُفْسِدًا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، فَقَبَضَ الثَّمَنَ بَعْد ذَلِكَ لَمْ يَبْرَأْ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يُوصِلَهُ الْقَابِضُ إلَى الْآمِرِ، فَإِنْ أَوْصَلَهُ الْمُشْتَرِي بَرِئَ الْمُشْتَرِي بِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْآمِرِ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ، وَالْآمِرِ فِيهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْآمِرَ إنَّمَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ لِلثَّمَنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُصْلِحٌ حَافِظٌ لِلْمَالِ، فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ بَعْدَمَا صَارَ سَفِيهًا، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْبَيْعِ قَبْضَ الثَّمَنَ فَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْبَرَاءَةَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَيْهِ، فَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهَا لِنَهْيِ الْآمِرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، وَأَمَّا الْفَسَادُ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ بِهِ، فَمَعْنًى- حُكْمِيٌّ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ الْمُفْسِدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِقَبْضِ الثَّمَنِ، فَيَعْمَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْمُشْتَرِي.
وَهَذَا لِأَنَّ الْآمِرَ بِالنَّهْيِ قَصَدَ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِهِمَا، وَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي إثْبَاتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ الْقَبْضِ بَعْدَمَا صَارَ مُفْسِدًا دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْآمِرِ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَرْضَ الْآمِرُ بِالْتِزَامِهِ، فَيَجِبُ دَفْعُهُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْآمِرُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ وَالْمَأْمُورُ مُفْسِدٌ فِيمَا بَاعَ وَقَبَضَ الثَّمَنَ جَازَ بَيْعُهُ وَقَبْضُهُ؛ لِأَنَّهُ رَاضٍ بِالْتِزَامِ ذَلِكَ الضَّرَرِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَمَرَ صَبِيًّا مَحْجُورًا، أَوْ مَعْتُوهًا يَعْقِلُ الْبَيْعَ، وَالشِّرَاءَ بِبَيْعِ مَا لَهُ، فَبَاعَهُ جَازَ، وَلَوْ أَمَرَهُ وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ، ثُمَّ صَارَ مَعْتُوهًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْآمِرُ يَعْلَمُ بِفَسَادِهِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِالرِّضَى بِتَصَرُّفِهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا، وَمَعَ التَّصْرِيحِ لَا مُعْتَبَرَ بِعِلْمِهِ وَجَهْلِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلَوْ بَاعَ الْمُفْسِدُ مَتَاعَهُ بِثَمَنٍ صَالِحٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُجِيزُ الْبَيْعَ، وَيَنْهَى الْمُشْتَرِي عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي إجَازَةِ الْبَيْعِ نَظَرًا لَهُ، فَإِنَّهُ لَوْ نَقَضَهُ احْتَاجَ إلَى إعَادَةِ مِثْلِهِ وَلَيْسَ فِي مُبَاشَرَتِهِ قَبْضُ الثَّمَنِ نَظَرًا لَهُ بَلْ فِيهِ تَعْرِيضُ مَالِهِ لِلْهَلَاكِ، فَيَنْهَى الْمُشْتَرِي عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ مِنْهُ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَإِنْ دَفَعَهُ بَعْدَ مَا نَهَاهُ، فَضَاعَ فِي يَدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَمْ يَبْرَأْ الْمُشْتَرِي مِنْهُ، وَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ ثَمَنٍ آخَرَ إلَى الْقَاضِي؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ لَمَّا صَحَّ صَارَ حَقُّ قَبْضِ الثَّمَنِ لِلْقَاضِي، أَوْ لِأَمِينِهِ، فَدَفْعُهُ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَدَفْعِهِ إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَكَدَفْعِ ثَمَنِ مَا بَاعَهُ الْقَاضِي، أَوْ أَمِينُهُ مِنْ مَالِهِ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ مَالَهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ بَعْد مَا نَهَاهُ الْقَاضِي، وَأَسَاءَ الْأَدَبَ بِمُخَالَفَةِ الْقَاضِي فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ لِسَعْيِهِ تَخْفِيفًا، وَلَا خِيَارًا وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي حِينَ أَجَازَ الْبَيْعَ لَمْ يَنْهَهُ عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَيْهِ، فَدَفَعَهُ إلَيْهِ، فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ بَيْعِهِ إجَازَةٌ لَدَفْعِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَمُطْلَقُ الْإِذْنِ لَهُ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ تَسْلِيطًا عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ مُطْلَقُ الْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ إلَّا أَنْ يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى وَجْهٍ فَيَقُولُ: قَدْ أَجَزْت الْبَيْعَ، وَلَا أُجِيزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ مِنْهُ.
، وَحُكْمُ الْقَاضِي يُقَيَّدُ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ، وَلَوْ أَجَازَ الْبَيْعَ فِي الِابْتِدَاءِ جُمْلَةً، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ نَهَيْت الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ كَانَ نَهْيُهُ بَاطِلًا وَكَانَ دَفْعُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ جَائِزًا حَتَّى يَبْلُغَهُ مَا قَالَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ بِإِجَازَتِهِ الْبَيْعَ جُمْلَةً، ثُمَّ نَهْيُهُ إيَّاهُ عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَيْهِ خِطَابٌ نَاسِخٌ، أَوْ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِ الْإِجَازَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ حُكْمُهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ، وَفِي إلْزَامِهِ إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ إضْرَارٌ، فَإِذَا بَلَغَهُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الثَّمَنَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْمَنْسُوخِ بَعْدَمَا بَلَغَهُ النَّاسِخُ، وَهَذَا نَظِيرُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْدَمَا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا، وَلَمْ يُعَاتَبْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ، وَفِي قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}، وَمَنْ أَعْلَمُهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ خَبَرُهُ حَقًّا، فَهُوَ إعْلَامٌ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ حُجَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ مُلْتَزِمًا، أَوْ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ كَانَ الْمُخْبِرُ رَسُولًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَاسِقًا كَانَ، أَوْ عَدْلًا بَعْدَ أَنْ يَكُون الْخَبَرُ حَقًّا.
(أَلَا تَرَى) لَوْ أَنْ مُفْسِدًا قَالَ لَهُ الْقَاضِي بِعْ عَبْدَك هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ، فَبَاعَهُ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ، وَضَاعَ عِنْدَهُ كَانَ جَائِزًا، وَلَوْ قَالَ: بِعْهُ، وَلَا تَقْبِضْ الثَّمَنَ لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ وَأُجْبِرَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَدَائِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي نَقْضِ الْبَيْعِ عَلِمَ بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا بَاعَ فَلَا يَقْبِضُ الثَّمَنَ، فَإِنَى نَهَيْته عَنْ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ، وَيَقْبِضَ الثَّمَنَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ نَهْيُ الْقَاضِي، وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِشْهَادُ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِذَا أَدْرَكَ الْيَتِيمُ مُفْسِدًا، فَحَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَحْجُرْ فَسَأَلَ، وَصِيَّهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ، فَضَاعَ فِي يَدِهِ، أَوْ أَتْلَفَهُ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَالِ إلَى مَنْ هُوَ مُفْسِدٌ يَكُونُ تَضْيِيعًا لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ طَرَحَ الْوَصِيُّ مَالَهُ فِي مُهْلِكَةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَصِيُّ أَوْدَعَهُ الْمَالَ إيدَاعًا؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَى إتْلَافِهِ حِينَ مَكَّنَهُ مِنْهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْوَصِيِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ لِمَالِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَدَفْعِ الْوَصِيِّ مَالَ يَتِيمٍ مُصْلِحٍ لَمْ يَبْلُغْ إلَيْهِ وَدِيعَةً، أَوْ لِيَبِيعَ بِهِ وَيَشْتَرِي بِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا ضَاعَ مِنْهُ، أَوْ ضَيَّعَهُ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ الْمُصْلِحَ مَأْمُونٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَالِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، فَلَا يَكُونُ دَفْعُ الْمَالِ إلَى مِثْلِهِ تَضْيِيعًا لَهُ، وَأَمَّا الْكَبِيرُ الْمُفْسِدُ، فَدَفْعُ مَالِهِ إلَيْهِ مَا دَامَ هُوَ عَلَى فَسَادِهِ يَكُونُ تَضْيِيعًا لَهُ وَلِهَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَهُوَ عَالَمٌ بِأَنَّهُ فَاسِدٌ، وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ لَمْ يَجُزْ إذْنُهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالنَّظَرُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمُصْلِحِ اخْتِبَارُهُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}، وَالنَّظَرُ فِي حَقِّ الْكَبِيرِ الْمُفْسِدِ مَنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ، وَمَنَعَ الْمَالَ مِنْهُ فَيَكُونُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ، وَالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ خِلَافُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حَقِّهِ، فَلَا يَنْفُذُ مِنْ الْوَصِيِّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْغُلَامَ الْمُصْلِحَ لِمَالِهِ لَوْ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَكَانَ مِمَّنْ يَشْتَرِي، وَيَبِيعُ وَيَرْبَحُ كَانَ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، وَلَوْ رَفَعَ هَذَا الْمُفْسِدُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حَالُ الْوَصِيِّ فِيهِمَا، وَلَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ أَمَرَ هَذَا الْمُفْسِدَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، وَيَشْتَرِي بِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ جَازَ، وَكَانَ هَذَا إخْرَاجًا مِنْ الْقَاضِي لَهُ مِنْ الْحَجْرِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لِيَنْفُذَ مِنْهُ، وَلَا يَنْفُذُ مِثْلُهُ مِنْ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحُكْمِ، فَإِنْ وَهَبَ، أَوْ تَصَدَّقَ هَذَا الْمُفْسِدُ بِذَلِكَ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا دَفَعَ الْحَجْرَ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ خَاصَّةً.
، وَحُكْمُ الْقَاضِي يَتَقَيَّدُ تَنْفِيذُهُ، فَبَقِيَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ هَذَا الْإِذْنِ حَتَّى إذَا أَعْتَقَ الْغُلَامَ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ، وَإِنْ اشْتَرَى، وَبَاعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ، وَلَا أَنْ يَبِيعَ إلَّا الَّذِي أُذِنَ لَهُ فِيهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِذْنِ يُنِيبُهُ مَنَابَ نَفْسِهِ وَلَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ التَّصَرُّفِ إلَى رَأْيِهِ، وَلَكِنْ رَأَى فِيهِ رَأْيَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْحَجْرِ عَنْهُ.
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ الْبُرِّ، وَبَيْعِهِ خَاصَّةً دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ التِّجَارَاتِ كَانَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِذْنَ إطْلَاقٌ لِلْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ فِي نَوْعٍ مُفَوِّضًا إلَى رَأْيِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْلَى يَأْذَنُ لِعَبْدِهِ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ فِي حَقِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ.
وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْفَاسِدَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ يَقْدِرُ عَلَى إفْسَادِ مَالِهِ فِيمَا أَذِنَ لَهُ مِنْ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ بِطَرِيقِ التِّجَارَاتِ فِي الضَّرَرِ دُونَ إتْلَافِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ مِثْلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، فَلَيْسَ فِي تَقْيِيدِ الْإِذْنِ بِنَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ مَعْنَى النَّظَرِ بِخِلَافِ التَّبَرُّعِ، فَلَا يَكُونُ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ فَكًّا لِلْحَجْرِ عَنْهُ فِي التَّبَرُّعِ، فَإِنْ قَالَ الْقَاضِي فِي السُّوقِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ بِمَحْضَرٍ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: قَدْ أَذِنْتُ لِهَذَا فِي التِّجَارَةِ، وَلَا أُجِيزَ لَهُ مِنْهَا إلَّا مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَى، أَوْ بَاعَ بِبَيِّنَةٍ، فَأَمَّا مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ، فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَيْهِ، فَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ فَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ فِي حَقِّ السَّفِيهِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ تَوْفِيرُ النَّظَرِ عَلَيْهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بَعْدَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَابِعًا إذَا لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِخِلَافِ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ تِجَارَتِهِ، وَلَهُ وِلَايَةُ هَذَا التَّصْرِيحِ مَعَ بَقَاءِ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا إنَّمَا لَا يُعْتَبَرُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَالْغُرُورِ عَمَّنْ يُعَامِلُهُ.
وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ حِينَ جَعَلَ الْقَاضِي هَذَا الْقَيْدَ مَشْهُورًا كَإِشْهَارِ الْإِذْنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْغُلَامِ الْمُصْلِحِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ يَأْذَنُ لَهُ أَبُوهُ، أَوْ وَصِيُّهُ فِي التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْ الْعَبْدُ يَأْذَنُ لَهُ مَوْلَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُمْ، وَمَا أَقَرُّوا بِهِ مِثْلَ مَا يَلْزَمُهُمْ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ، وَلَا لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ تَقْيِيدِ الْإِذْنِ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ الْإِذْنِ فَيَلْغُو بِقَيْدِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ، وَفِي التَّقْيِيدِ تَوْفِيرُ النَّظَرِ، فَيَسْتَقِيمُ مِنْ الْقَاضِي.
وَفِي حَقِّ مَنْ كَانَ مَأْمُونًا عَلَى مَالِهِ، أَوْ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لَيْسَ فِي هَذَا التَّقْيِيدِ مَعْنَى التَّطْوِيلِ بَلْ هُوَ تَقْيِيدٌ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى لِتَتَعَلَّقَ دُيُونُهُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتُهُ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الدَّيْنِ الَّذِي يَثْبُتُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارٍ، أَوْ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْفَاسِدُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ- كُلُّ مَنْ كَانَ مُضَيِّعًا مَالَهُ مُفْسِدًا لَهُ لَا يُبَالِي مَا صَنَعَهُ مُنْتَفِعًا بِالسَّرَفِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ عَلَى جِهَةِ الْمُجُونِ، فَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فِي دَيْنِهِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ فُجُورِهِ، وَلَا غَيْرَهُ إلَّا أَنَّهُ حَافِظٌ لِمَالِهِ حَسَنُ التَّدْبِيرِ لَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ لِإِبْقَاءِ الْمَالِ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْفَاسِدِ الَّذِي هُوَ حَسَنُ التَّدْبِيرِ فِي مَالِهِ إنَّمَا الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُبَذِّرِ الْمُتْلِفِ لِمَالِهِ.
وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا حَجَرَ عَلَى فَاسِدٍ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ وَأَجَازَ مَا كَانَ بَاعَ، أَوْ اشْتَرَى، وَلَمْ يَرَ حَجْرَ الْأَوَّلِ شَيْئًا، فَأَبْطَلَ حَجْرَهُ جَازَ إطْلَاقُ هَذَا عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ فَأَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ جَازَ فَكَذَلِكَ الثَّانِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَنَفْسُ الْقَضَاءِ مَتَى كَانَ مُجْتَهَدًا فِيهِ يُوقَفُ عَلَى إمْضَاءِ غَيْرِهِ فَإِذَا أَبْطَلَهُ بَطَلَ، ثُمَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي مَقْضِيًّا لَهُ وَمَقْضِيًّا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لَهُ، وَقَدْ رَأَى الْآخَرُ النَّظَرَ لَهُ فِي الْإِطْلَاقِ عَنْهُ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ بُيُوعِهِ، أَوْ شِرَائِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي الَّذِي يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ، أَوْ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى الْحَجْرَ، فَأَبْطَلَ مُبَايَعَاتِهِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى هَذَا الْقَاضِي الْآخَرِ فَأَبْطَلَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ، وَأَجَازَ مَا كَانَ أَبْطَلَهُ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى الْحَجْرَ، أَوْ لَا يَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجِيزَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ بِإِبْطَالِ مَا أَبْطَلَ مِنْ بُيُوعِهِ، وَأَشْرِيَتِهِ وَيَبْطُلُ قَضَاءُ الثَّانِي فِيمَا أَبْطَلَهُ مِنْ قَضَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً تَامًّا بِوُجُودِ الْمَقْضِيِّ لَهُ، وَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ الْإِبْطَالُ مِنْ الثَّانِي حَصَلَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ قَضَاءً أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نُفُوذِهِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ، فَهَذَا يَبْطُلُ، الثَّالِثُ- قَضَاءُ الْقَاضِي بِإِبْطَالِ قَضَاءِ الْأَوَّلِ، وَيَمْضِي قَضَاءُ الْأَوَّلِ بِإِبْطَالِ مَا أَبْطَلَ مِنْ بُيُوعِهِ، أَوْ أَشْرِيَتِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.