فصل: تفسير الآيات رقم (93- 95)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء الرابع

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏

ئناف وقع معتَرَضاً بين جملة ‏{‏إن الذين كفروا وماتوا وهم كفّار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏ الآية، وبين جملة ‏{‏كُلّ الطعام كانَ حِلاّ لبني إسرائيل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 93‏]‏‏.‏

وافتتاح الكلام ببيان بعض وسائل البرّ إيذَان بأنّ شرائع الإسلام تدور على مِحْور البرّ، وأنّ البرّ معنى نفساني عظيم لا يخرِم حقيقته إلاّ ما يفضى إلى نقض أصل من أصول الاستقامة النَّفسانيّة‏.‏ فالمقصود من هذه الآيَة أمران‏:‏ أوّلهما التَّحريض على الإنفاق والتّنويه بأنّه من البرّ، وثانيهما التنويه بالبرّ الَّذِي الإنفاق خصلة من خصاله‏.‏

ومناسبة موقع هذه الآية تِلْو سابقتها أنّ الآية السّابقة لمّا بينت أنّ الّذين كفروا لن يقبل من أحدهم أعظم ما ينفقه، بيّنت هذه الآية ما ينفع أهل الإيمان من بذل المال، وأنّه يبلغ بصاحبه إلى مرتبة البرّ، فبيْن الطرفيْن مراتب كثيرة قد علمها الفطناء من هذه المقابلة‏.‏ والخطاب للمؤمنين لأنَّهم المقصود من كُلّ خطاب لم يتقدّم قبله ما يعيِّن المقصود منه‏.‏

والبرّ كمال الخير وشموله في نوعه‏:‏ إذ الخير قد يعظم بالكيفية، وبالكميّة، وبهما معاً، فبذل النَّفس في نصر الدّين يعظم بالكيفية في ملاقاة العدوّ الكثير بالعدد القليل، وكذلك إنقاذ الغريق في حالة هوْل البحر، ولا يتصوّر في مثل ذلك تعدّد، وإطعام الجائع يعظم بالتعدّد، والإنفاق يعظم بالأمرين جميعاً، والجزاء على فعل الخير إذا بلغ كمال الجزاء وشموله كان برّاً أيضاً‏.‏

وروَى النَّوَّاسُ بن سِمْعان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «البرُّ حُسْن الخُلُق والإثممِ ما حاك في النفْس وكَرهتَ أن يَطَّلع عليه الناس» رواه مسلم‏.‏

ومُقابَلَة البرّ بالإثم تدلّ على أنّ البرّ ضدّ الإثم‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قِبل المَشرق والمغرب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏‏.‏

وقد جعل الإنفاق من نفس المال المُحَبّ غاية لانتفاء نوال البرّ، ومقتضى الغاية أنّ نوال البرّ لا يحصل بدونها، وهو مشعر بأنّ قبْل الإنفاق مسافاتتٍ معنوية في الطريق الموصلة إلى البرّ، وتلك هي خصال البرّ كلّها بقيتْ غير مسلوكة، وأنّ البرّ لا يحصل إلاّ بنِهايتها وهو الإنفاق من المحبوب، فظهر ل ‏(‏حتّى‏)‏ هنا موقع من البلاغة لا يخلفها فيه غيرها‏:‏ لأنَّه لو قيل إلاّ أن تنفقوا مِمَّا تحبّون، لتوهمّ السامع أنّ الإنفاق من المحَبِّ وحده يوجب نَوال البِرّ، وفاتت الدلالة على المسافات والدرجات الَّتي أشعرت بها ‏(‏حتَّى‏)‏ الغائية‏.‏

و ‏(‏تنالوا‏)‏ مشتقّ من النوال وهو التّحصيل على الشيء المعطي‏.‏

والتّعريف في البِرّ تعريف الجنس‏:‏ لأنّ هذا الجنس مركّب من أفعال كثيرة منها الإنفاق المخصوص، فبدونه لا تتحقَّق هذه الحقيقة‏.‏

والإنفاق‏:‏ إعطاء المال والقوتتِ والكسوة‏.‏

وما صدقُ ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مما تحبون‏}‏ المال‏:‏ أي المال النَّفيس العزيز على النَّفس، وسوّغ هذا الإبهام هنا وجود تنفقوا إذ الإنفاق لا يطلق على غير بذل المال ف ‏(‏من‏)‏ للتبعيض لا غير، ومن جوّز أن تكون ‏(‏من‏)‏ للتبيين فقد سها لأنّ التبيينية لا بدّ أن تُسبق بلفظ مبهم‏.‏

والمال المحبوب يختلف باختلاف أحوال المتصدّقين، ورغباتهم، وسعة ثرواتهم، والإنفاقُ منه أي التّصدق دليل على سخاءٍ لوجه الله تعالى، وفي ذلك تزكية للنّفس من بقية ما فيها من الشحّ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ وفي ذلك صلاح عظيم للأمّة إذ تجود أغنيَاؤها على فقرائها بما تطمح إليه نفوسهم من نفائس الأموال فتشتدّ بذلك أواصر الأخوّة، ويهنأ عيش الجميع‏.‏

روى مالك في «الموطأ»، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ كان أبو طلحة أكثر أنصاريّ بالمدينة مالاً، وكان أحبُّ أمواله بئرَ حاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب، فلما نزل قوله تعالى ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ جاء أبو طلحة، فقال‏:‏ «يا رسول الله إنّ الله قال‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البرّ حتَّى تنفقوا ممَّا تحبّون‏}‏، وإنّ أحبّ أموالي بئر حاء وإنها صدقة لله أرجو بِرّها وذُخْرَها عندَ الله، فَضَعْهَا يا رسول الله حيثُ أراك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فَبَخْ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ وإني أرَى أن تجعلها في الأقربين، فقال‏:‏ أفْعلُ يا رسول الله‏.‏ فجعلها لحسّان بن ثابت، وأبيّ بن كعب‏.‏

وقد بيَّن الله خصال البِرّ في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن البر من آمن باللَّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنَّبيّين وآتى المال على حُبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقامَ الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏‏.‏

‏(‏فالبرّ هو الوفاء بما جاء به الإسلام ممَّا يعرض للمرء في أفعاله، وقد جمع الله بينه وبين التَّقوى في قوله‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البِر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ فقابل البرّ بالإثم كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النّواس بن سِمْعان المتقدّم آنفاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم‏}‏ تَذْييل قُصد به تعميم أنواع الإنفاق، وتبيين أنّ الله لا يخفى عليه شيء من مقاصد المنفقين، وقد يكون الشيء القليل نفيساً بحسب حال صاحبه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين لا يجدون إلاّ جهدهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله به عليم‏}‏ مراد به صريحه أي يطّلع على مقدار وقعه ممَّا رغَّب فيه، ومرَاد به الكناية عن الجزاء عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 95‏]‏

‏{‏كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏94‏)‏ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

هذا يرتبط بالآي السَّابقة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 67‏]‏ وما بينهما اعتراضات وانتقالات في فنون الخطاب‏.‏

وهذه حجّة جزئية بعد الحجج الأصليّة على أنّ دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء، فإنّ الحنيفية لم يكن ما حرّم من الطّعام بنصّ التَّوراة محرّماً فيها، ولذلك كان بنو إسرائيل قبل التَّوراة على شريعة إبراهيم، فلم يكن محرّماً عليهم ما حُرّم من الطعام إلاّ طعاماً حرّمه يعقوب على نفسه‏.‏ والحجَّة ظاهرة ويدلّ لهذا الارتباط قوله في آخرها‏:‏ ‏{‏قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 95‏]‏‏.‏

ويحتمل أنّ اليهود مع ذلك طعنوا في الإسلام، وأنَّه لم يكن على شريعة إبراهيم، إذْ أباح للمسلمين أكل المحرّمات على اليهود، جهلاً منهم بتاريخ تشريعهم، أو تضليلاً من أحبارهم لعامّتهم، تنفيراً عن الإسلام، لأن الأمم في سذاجتهم إنَّما يتعلّقون بالمألوفات، فيعدّونها كالحقائق، ويقيمونها ميزاناً للقبول والنّقد، فبيّن لهم أنّ هذا ممّا لا يُلتفت إليه عند النّظر في بقيّة الأديان، وحسبكم أنّ ديناً عظيماً وهو دين إبراهيم، وزُمرة من الأنبياء من بنيه وحفدته، لم يكونوا يحرّمون ذلك‏.‏

وتعريف ‏(‏الطّعام‏)‏ تعريف الجنس، و‏(‏كُلّ‏)‏ للتنصيص على العموم‏.‏

وقد استدلّ القرآن عليهم بهذا الحكم لأنَّه أصرح ما في التَّوراة دلالة على وقوع النسخ فإنّ التوراة ذكرت في سفر التكوين ما يدلّ على أنّ يعقوب حرّم على نفسه أكل عِرق النَّسَا الَّذِي على الفخذ، وقد قيل‏:‏ إنَّه حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فقيل‏:‏ إنّ ذلك على وجه النذر، وقيل‏:‏ إنّ الأطبَّاء نهوه عن أكل ما فيه عرق النّسا لأنَّه كان مبتلى بوجع نَساه، وفي الحديث أنّ يعقوب كان في البدو فلم تستقم عافيته بأكل اللّحم الّذي فيه النّسا‏.‏ وما حرّمه يعقوب على نفسه من الطعام‏:‏ ظاهر الآية أنَّه لم يكن ذلك بوحي من الله إليه، بل من تلقاء نفسه، فبعضه أراد به تقرّباً إلى الله بحرمان نفسه من بعض الطيِّبات المشتهاة، وهذا من جهاد النَّفس، وهو من مقامات الزّاهدين، وكان تحريم ذلك على نفسه بالنذر أو بالعزم‏.‏ وليس في ذلك دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء في التشّريع لأنّ هذا من تصرّفه في نفسه فيما أبيح له، ولم يدع إليه غيرَه، ولعلّ أبناء يعقوب تأسَّوا بأبيهم فيما حرَّمه على نفسه فاستمرّ ذلك فيهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من قبل أن تنزل التوراة‏}‏ تصريح بمحلّ الحجَّة من الردّ إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنُزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى، وقال العصام‏:‏ يتعلّق قوله‏:‏ ‏{‏من قبل أن تنزل التوراة‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏حِلاًّ‏}‏ لئلاّ يلزم خلوّه عن الفائدة، وهو غير مُجد لأنّه لمّا تأخّر عن الاستثناء من قوله ‏{‏حلاّ‏}‏ وتبيّن من الاستثناء أنّ الكلام على زمن يعقوب، صار ذكر القيد لغواً لولا تنزيلهم منزلة الجاهل، وقصد إعلان التّسجيل بخطئهم والتعريض بغباوتهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قل فأتوا بالتوراة فأتلوها إن كنتم صادقين‏}‏ أي في زعمكم أنّ الأمر ليس كما قلناه أو إن كنتم صادقين في جميع ما تقدّم‏:‏ من قولكم إنّ إبراهيم كان على دين اليهودية، وهو أمر للتعجيز، إذ قد علم أنَّهم لا يأتون بها إذا استدلّوا على الصّدق‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأتوا‏}‏ فاء التفريع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ شرط حذف جوابه لدلالة التفريع الَّذي قبله عليه‏.‏ والتَّقدير‏:‏ إن كنتم صادقين فأتوا بالتَّوراة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فمن أفترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون‏}‏ نهاية لتسجيل كذبهم أي من استمرّ على الكذب على الله، أي فمن افترى منكم بعد أن جعلنا التَّوراة فيصلاً بيننا، إذ لم يبق لهم ما يستطيعون أن يدّعُوه شُبهة لهم في الاختلاق، وجُعل الافتراء على الله لتعلّقه بدين الله‏.‏ والفاء للتفريع على الأمْر‏.‏

والافتراء‏:‏ الكذب، وهو مرادف الاختلاق‏.‏ والافتراء مأخوذ من الفَرْي، وهو قطع الجلد قِطعاً ليُصلح به مثل أن يحْذى النعل ويصنع النطع أو القِربة‏.‏ وافترى افتعال من فرى لعلّهُ لإفادة المبالغة في الفَرْي، يقال‏:‏ افترى الجلد كأنَّه اشتدّ في تقطيعه أو قطعَه تقطيع إفساد، وهو أكثر إطلاق افترى‏.‏ فأطلقوا على الإخبار عن شيء بأنّه وقَعَ ولَم يقع اسم الافتراء بمعنى الكذب، كأنّ أصله كناية عن الكذب وتلميح، وشاع ذلك حتَّى صار مرادفاً للكذب، ونظيره إطلاق اسم الاختلاق على الكذب، فالافتراء مرادف للكذب، وإردَافه بقوله هنا‏:‏ «الكذب» تأكيد للافتراء، وتكرّرت نظائر هذا الإرداف في آيات كثيرة‏.‏

فانتصب «الكذب» على المفعول المطلق الموكِّد لفعله‏.‏ واللام في الكذب لتعريف الجنس فهو كقوله‏:‏ ‏{‏أفْتَرَى على اللَّه كَذِباً أمْ به جِنّة‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 8‏]‏

والكذب‏:‏ الخبر المخالف لما هو حاصل في نفس الأمر من غير نظر إلى كون الخَبر موافقاً لاعتقاد المُخبر أو هو على خلاف ما يعتقده، ولكنّه إذا اجتمع في الخبر المخالفة للواقع والمخالفة لاعتقاد المخبِر كان ذلك مذموماً ومسبَّة؛ وإن كان معتقداً وقوعه لشبهة أو سوء تأمّل فهو مذموم ولكنّه لا يُحقَّر المخبر به، والأكثر في كلام العرب أن يعنى بالكذب ما هو مذموم‏.‏

ثُمّ أعلنَ أن المتعيّن في جانبه الصّدق هو خبَر الله تعالى للجزم بأنهم لا يأتون بالتوراة، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏ولن يتمنّوه أبداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 95‏]‏ وبعد أن فرغ من إعلان كذبهم بالحجَّة القاطعة قال‏:‏ ‏{‏قل صدق الله‏}‏ وهو تعريض بكذبهم لأنّ صدق أحد الخبرين المتنافيين يستلزم كذب الآخر، فهو مستعمل في معناه الأصلي والكنائي‏.‏

والتَّفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوا ملة إبراهيم جنيفاً‏}‏ تفريع على ‏{‏صدق الله‏}‏ لأنّ اتّباع الصادق فيما أمر به مَنجاة من الخطر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 97‏]‏

‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏96‏)‏ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

هذا الكلام واقع موقع التّعليل للأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 95‏]‏ لأنّ هذا البيت المنوّه بشأنه كان مقاماً لإبراهيم ففضائل هذا البيتتِ تحقّق فضيلة شرع بانيه في متعارف النَّاس، فهذا الاستدلال خطابي، وهو أيضاً إخبار بفضيلة الكعبة، وحرمتها فيما مضى من الزّمان‏.‏

وقد آذن بكون الكلام تعليلاً موقع ‏(‏إنّ‏)‏ في أوّله فإنّ التأكيد بإنّ هنا لمجرّد الاهتمام وليس لردّ إنكار منكر، أو شكّ شاكّ‏.‏

ومن خصائص ‏(‏إنّ‏)‏ إذا وردت في الكلام لمجرّد الاهتمام، أن تغني غَناء فاء التفريع وتفيد التَّعليل والربط، كما في دلائل الإعجاز‏.‏

ولِمَا في هذه من إفادة الربط استغني عن العطف لكون ‏(‏إنّ‏)‏ مؤذنة بالربط‏.‏ وبيانُ وجه التعليل أن هذا البيت لمّا كان أوّل بيت وضع للهُدى وإعلان توحيد الله ليكون علماً مشهوداً بالحسّ على معنى الوحدانية ونفي الإشراك، فقد كان جامعاً لدلائل الحنيفية، فإذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممرّ العصور، دون غيره من الهياكل الدينية الَّتي نشأت بعده، وهو مائل، كان ذلك دلالة إلهية على أنَّه بمحلّ العناية من الله تعالى، فدلّ على أنّ الدّين الَّذي قارن إقامته هو الدّين المراد لله، وهذا يؤول إلى معنى قوله‏:‏ ‏{‏إن الدين عند اللَّه الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وهذا التَّعليل خطابي جار على طريقة اللُّزوم العرفي‏.‏

وقال الواحدي، عن مجاهد‏:‏ تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود‏:‏ بيت المَقْدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنَّه مُهَاجر الأنبياء وفي الأرض المقدّسة وقال المسلمون‏:‏ بل الكعبة أفضل، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

و ‏{‏أوَّل‏}‏ اسم للسابق في فِعللٍ مَّا فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدّث عنه‏.‏

والبيت بناء يأوِي واحداً أو جماعة، فيكون بيتَ سكنى، وبيت صلاة، وبيت ندوة، ويكون مبنياً من حَجَر أو من أثواببِ نسيج شعر أو صوف، ويكون من أدم فيسمّى قبَّة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏وُضع‏}‏ أسّسَ وأثْبِتَ، ومنه سمّي المكان موضعاً‏.‏ وأصل الوضع أنَّه الحطّ ضدّ الرفع، ولمَّا كان الشيء المرفوع بعيداً عن التناول، كان الموضوع هو قريب التناول، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول، والتَّهيئة للانتفاع‏.‏

و ‏(‏النَّاس‏)‏ تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن النَّاس من يقول آمنا باللَّه‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

‏(‏‏{‏وبكّة‏}‏ اسم مكَّة‏.‏ وهو لغة بإبدال الميم باء في كلمات كثيرة عدّت من المترادف‏:‏ مثل لازب في لازم، وأربد وأرمد أي في لون الرماد، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك‏:‏ أنّ بكة بالباء اسم موضع البيت، وأنّ مكَّة بالميم اسم بقية الموضع، فتكون باء الجرّ هنا لظرفية مكان البيت خاصّة‏.‏

لا لسائر البلد الَّذي فيه البيت، والظاهر عندي أنّ بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علماً على المكان الَّذي عيّنه لسكنى ولده بنيّة أن يكون بلداً، فيكون أصله من اللغة الكلدانية، لغة إبراهيم، ألا ترى أنَّهم سمّوا مدينة ‏(‏بعلبك‏)‏ أي بلد بَعل وهو معبود الكلدانيين، ومن إعجاز القرآن اختيار هذا اللَّفظ عند ذكر كونه أوّل بيت، فلاحظ أيضاً الاسم الأوّل، ويؤيّد ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ربّ هذه البلدة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 91‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ربّ اجعل هذا البلد آمناً‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ بكّة مشتقّ من البَكّ وهو الازدحام، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم‏.‏

وعدل عن تعريف البيت باسمه العلَم بالغلبة، وهو الكعبة، إلى تعريفه بالموصولية بأنَّه ‏(‏الَّذي ببكة‏)‏‏:‏ لأنّ هذه الصّلة صارت أشهر في تعيّنه عند السامعين، إذ ليس في مكّة يومئذ بيت للعبادة غيره، بخلاف اسم الكعبة‏:‏ فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الَّذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقّبوه الكعبة اليمانية‏.‏

والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها‏.‏ وظاهر الآية أنّ الكعبة أوّل البيوت المبنيّة في الأرض، فتمسّك بهذا الظَّاهر مجاهد، وقتادة، والسّدي، وجماعة، فقالوا‏:‏ هي أوّل بناء، وقالوا‏:‏ إنَّها كانت مبنيّة من عهد آدم عليه السلام ثُمّ درست، فجددها إبراهيم، قال ابن عطية‏:‏ ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتُها، وقد زعموا أنَّها كانت تسمّى الضُراح بوزن غراب ولكنّ المحقّقين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر، وتأوّلوا الآية‏.‏ قال عليّ رضي الله عنه‏:‏ «كان قبل البيت بيوت كثيرة» ولا شكّ أنّ الكعبة بناها إبراهيم وقد تعدّد في القرآن ذكر ذلك، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يكون أوّل بناء وقع في الأرض كان في عهد إبراهيم، لأنّ قبل إبراهيم أمماً وعصوراً كان فيها البناء، وأشهر ذلك برج بابل، بُنِي إثر الطوفان، وما بناه المصريّون قبل عهد إبراهيم، وما بناه الكلدان في بدل إبراهيم قبل رحلته إلى مصر، ومن ذلك بيت أصنامهم، وذلك قبل أن تصير إليه هاجَر الَّتي أهداها له ملك مصر، وقد حكى القرآن عنهم ‏{‏قالوا ابْنُوا له بنياناً فَألْقُوه في الجحيم‏}‏ ‏[‏الثافات‏:‏ 97‏]‏ فتعيّن تأويل الآية بوجه ظاهر، وقد سلك العلماء مسالك فيه‏:‏ وهي راجعة إلى تأويل الأوّل، أو تأويل البيت، أو تأويل فعل وُضع، أو تأويل النَّاس، أو تأويل نظم الآية، والَّذي أراه في التأويل أنّ القرآن كتاب دين وهُدى، فليس غرض الكلام فيه ضبط أوائل التَّاريخ، ولكن أوائل أسباب الهدى، فالأوَّلية في الآية على بابها، والبيت كذلك، والمعنى أنَّه أوّل بيت عبادة حقّة وضع لإعلان التَّوحيد، بقرينة المقام، وبقرينة قوله‏:‏ ‏{‏وُضع للنَّاس‏}‏ المقتضى أنَّه من وضععِ واضععٍ لمصلحة النَّاس، لأنَّه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه النَّاس، وبقرينة مجيء الحالين بعدُ؛ وهما قوله‏:‏ ‏{‏مباركاً وهدى للعالمين‏}‏‏.‏

وهذا تأويل في معنى بيت، وإذا كان أوّلَ بيتتِ عبادة حقَ، كان أوّل معهد للهدى، فكان كُلّ هدى مقتبساً منه فلا محيص لكلّ قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله، وذلك يوجب اتّباع الملّة المبنيّة على أسس ملّة بانيه، وهذا المفاد من تفريع قوله‏:‏ ‏{‏فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 95‏]‏‏.‏ وتأوّل الآية عليّ بن أبي طالب، فروى عنه أنّ رجلاً سأله‏:‏ أهو أوّل بيت‏؟‏ قال‏:‏ «لا، قد كان قبله بيوت، ولكنَّه أوّل بيت وضع للنَّاس مباركاً وهدى» فجعل مباركاً وهدى حالين من الضمير في ‏{‏وُضع‏}‏ لا من اسممِ الموصول، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلاّ على معنى أنَّه أوّل بيت من بيوت الهدى كما قلنا، وليس مراده أنّ قوله‏:‏ ‏{‏وضع‏}‏ هو الخبَر لتعيّن أن الخبر هو قوله‏:‏ ‏{‏للذي ببكة‏}‏ بدليل دُخول اللاّم عليه‏.‏

وعن مجاهد قالت اليهود‏:‏ بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنَّها مهاجَر الأنبياء، وقال المسلمون‏:‏ الكعبة، فأنزل الله هذه الآية، وهذا تأويل ‏{‏أول‏}‏ بأنَّه الأوّل من شيئين لا من جنس البيوت كلّها‏.‏

وقيل‏:‏ أراد بالأول الأشرف مجازاً‏.‏

وعندي أنَّه يجوز أن يكون المراد من النَّاس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنَّصارى والمسلمين، وكلّهم يعترف بأصالة دين إبراهيم عليه السلام، فأوّل معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنَّه أفضل ممَّا سواه من بيوت عبادتهم‏.‏

وإنَّما كانت الأوّلية موجِبة التّفضيل لأنّ مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة، إذ هي في ذلك سواء، ولكنَّها تتفاضل بما يحفّ بذلك من طول أزمان التعبّد فيها، وبنسبتها إلى بانيها، وبحسن المقصد في ذلك، وقد قال تعالى في مسجد قُبَاء‏:‏ ‏{‏لمَسجِدٌ أسِّسَ على التَّقوَى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏‏.‏

وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحقّ، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون‏.‏ فإنّ إبراهيم بنى الكعبة في حدود سنة 1900 قبل المسيح وسليمانَ بنى بيت المقدس سنة 1000 قبل المسيح، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول‏.‏ وأمَّا بيتُ المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره‏.‏ وروى في «صحيح مسلم»، عن أبي ذرّ رضي الله عنه أنَّه قال‏:‏ سألت رسول الله‏:‏ أيّ مسجد وُضِعَ أولُ‏؟‏ قال‏:‏ المسجدُ الحرام، قلت‏:‏ ثمّ أيّ‏؟‏ قال‏:‏ المسجدُ الأقصى، قلت‏:‏ كم كان بينهما‏؟‏ قال‏:‏ أربعون سنة‏.‏ فاستشكله العلماء بأنّ بين إبراهيم وسليمان قروناً فكيف تكون أربعين سنة، وأجاب بعضهم بإمكان أن يكون إبراهيم بنى مسجداً في موضع بيت المقدس ثُمّ درس فجدّده سليمان‏.‏

وأقول‏:‏ لا شكّ أنّ بيت المقدس من بناء سليمان كما هو نص كتاب اليهود، وأشار إليه القرآن في قوله‏:‏

‏{‏يعملون له ما يشاء من محاريب‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 13‏]‏ الآية، فالظاهر أنّ إبراهيم لمَّا مرّ ببلاد الشَّام ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسلهُ عيَّن الله له الوضع الَّذي سيكون به أكبر مسجدٍ تبنيه ذرّيّته، فأقام هنالك مسجداً صغيراً شكراً لله تعالى، وجعله على الصّخرة المجعولة مذبحاً للقربان‏.‏ وهي الصّخرة الَّتي بنى سليمان عليها المسجد، فلمَّا كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك البناء حتَّى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه، وهذا من العِلم الَّذي أهملتْه كتب اليهود، وقد ثبت في سفر التَّكوين أنّ إبراهيم بنى مذابح في جهات مرّ عليها من أرض الكنعانيين لأنّ الله أخبره أنَّه يعطي تلك الأرض لنسله، فالظاهر أنّه بنى أيضاً بموضع مسجد أرشليم مذبحاً‏.‏

و ‏{‏مباركاً‏}‏ اسم مفعول من بارك الشيء إذا جعل له بركة وهي زيادة في الخير‏.‏ أي جُعلت البركة فيه بجعل الله تعالى، إذ قَدّرَ أن يكون داخلُهُ مُثاباً ومحصّلا على خيْر يبلغه على مبلغ نيته، وقدّر لمجاوريه وسكّان بلده أن يكونوا ببركة زيادةِ الثَّواببِ ورفاهية الحال، وأمر بجعل داخله آمناً، وقدّر ذلك بين النَّاس فكان ذلك كلّه بركة‏.‏ وسيأتي معنى البركة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الَّذي بين يديه‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 92‏]‏‏.‏

‏(‏ووصفه بالمصدر في قوله‏:‏ وهُدى‏}‏ مبالغة لأنَّه سبب هدى‏.‏

وجُعل هدى للعالمين كلِّهم‏:‏ لأنّ شهرته وتسامع النَّاس به، يحملهم على التساؤل عن سبب وضعه، وأنَّه لتوحيد الله، وتطهير النُّفوس من خبث الشرك فيهتدي بذلك المهتدي، ويرعوي المتشكك‏.‏

ومن بركة ذاته أنّ حجارته وضعتْها عند بنائه يد إبراهيم، ويد إسماعيل، ثُمّ يدُ محمَّد صلى الله عليه وسلم ولا سيما الحجر الأسود‏.‏ وانتصب ‏{‏مباركاً وهدى‏}‏ على الحال من الخبر، وهو اسم الموصول‏.‏

وجملة ‏{‏فيه آيات بيِّنات‏}‏ استئناف ثناء على هذا البيت بما حفّ به من المناقب والمزايا فغيّر الأسلوب للاهتمام ولذلك لم تجعل الجملة حالاً، فتعطف على الحالين قبلها، لأنّ مباركاً وهدى وصفان ذاتيّان له، وحالان مقارنان، والآيات عوارض عرضت في أوقات متفاوتة، أو هي حال ثالثة ولم تعطف بالواو لأنّها جملة وما قبلها مفردان ولئلاّ يتوهم أن الواو فيها واو الحال، فتكون في صورتها جارية على غير صورة الأفصح في مثلها من عدم الاقتران بالواو، على ما حقَّقه الشَّيخ عبد القاهر، فلو قرنت بواو العطف لالتبست بواو الحال، فكرهت في السمع، فيكون هذا من القطع لدفع اللبس، أو نقول هي حال ولم تعطف على الأحوال الأخرى لأنّها جملة، فاستغنت بالضّمير عن رابط العطف‏.‏

ووصف الآيات ببيِّناتتٍ لظهورها في علم المخاطبين‏.‏ وجماع هذه الآيات هي ما يسّره الله لسكّان الحرم وزائريه من طرق الخير، وما دفع عنهم من الأضرار، على حالة اتّفق عليها سائر العرب، وقمعوا بها أنفسهم وشهواتهم، مع تكالبهم على إرضاء نفوسهم‏.‏

وأعظمها الأمن، الّذي وطن عليه نفوس جميع العرب في الجاهلية مع عدم تديّنهم، فكان الرجل يلاقي قاتل أبيه في الحرم فلا يناله بسوء، وتَواضُعُ مثل هذا بين مختلف القبائل، ذات اختلاف الأنساب والعوائد والأديان، آية على أنّ الله تعالى وقَر ذلك في نفوسهم‏.‏ وكذلك تأمين وحْشِه مع افتتان العرب بحبّ الصّيد‏.‏ ومنها ما شاع بين العرب من قصم كلّ من رامه بسوء، وما انصرافُ الأحباش عنه بعد امتلاكهم جميع اليمن وتهامة إلا آية من آيات الله فيه‏.‏ ومنها انبثاق الماء فيه لإسماعيل حين إشرافه على الهلاك‏.‏ وافتداء الله تعالى إيّاه بذبح عظيم حين أراد أبوه إبراهيم عليْه السّلام قربانه‏.‏ ومنها ما شاع بين العرب وتوارثوا خبره أباً عن جدّ من نزول الحجر الأسود من السَّماء على أبي قبيس بمرأى إبراهيم، ولعلَّه حجر كوكبي‏.‏ ومنها تيسير الرزق لساكنيه مع قُحولة أرضه، وملوحة مائه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مقام إبراهيم‏}‏ أصل المقام أنّه مَفْعَل من القيام، والقيام يطلق على المعنى الشَّائع وهو ضدّ القعُود، ويطلق على خصوص القيام للصّلاة والدعاء، فعلى الوجه الثَّاني فرفع مقام على أنّه خبر لضمير محذوف يعود على ‏{‏للذى ببكّة‏}‏، أي هو مقام إبراهيم، أي البيتُ الَّذى ببكّة‏.‏ وحذْفُ المسند إليه هنا جاء على الحذف الَّذي سمَّاه علماء المعاني، التَّابعين لاصطلاح السكاكي، بالحذف للاستعمال الجاري على تركه، وذلك في الرفع على المدح، أو الذم، أو الترحّم، بعد أن يجري على المسند إليه من الأوصاف قبل ذلك ما يبيّن المراد منه كقول أبي الطمحان القيني‏:‏

فإنّ بني لأممِ بن عمرو أرومة *** سَمَتْ فوق صعب لا تُنالُ مراقبه

نجوم سماءٍ كلّما انْقَضَّ كوكبٌ *** بَدَا كوكب تأْوِي إليه كواكبه

هذا هو الوجه في موقع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مقام إبراهيم‏}‏‏.‏

وقد عبّر عن المسجد الحرام بأنّه مقام إبراهيم أي محلّ قيامه للصلاة والطواف قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏ ويدل لذلك قول زيد بن عَمرو بن نُفَيل‏:‏

عُذْتُ بما عاذَ به إبْرَاهِمْ *** مستقبلَ الكَعْبَةِ وهو قائم

وعلى الوجه الأول يكون المراد الحجر الَّذى فيه أثر قَدَمي إبراهيم عليه السّلام في الصّخرة التي ارتقى عليها ليرفع جدران الكعبة، وبذلك فسر الزجّاج وتبعه على ذلك الزمخشري، وأجاب الزمخشري عمَّا يعترض به من لزوم تبيين الجمع بالمفرد بأنّ هذا المفرد في قوّة جماعة من الآيات لأنّ أثر القدم في الصّخرة آية، وغوصَه فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض الصّخر دون بعض آية، وأنا أقول‏:‏ إنَّه آيات لدلالته على نبوّة إبراهيم بمعجزة له وعلى علممِ الله وقدرته، وإنّ بقاء ذلك الأثر مع تلاشي آثار كثيرة في طيلة القرون آية أيضاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمناً‏}‏ عطف على مَزايا البيت وفضائله من الأمن فيه على العموم، وامتنان بما تقرّر في ماضِي العصور، فهو خبر لفظاً مستعمل في الامتنان، فإنّ الأمن فيه قد تقرّر واطّرد، وهذا الامتنان كما امتنّ الله على النَّاس بأنَّه خلق لهم أسماعاً وأبصَاراً فإنّ ذلك لا ينقض بمن ولد أكمه أو عرض له ما أزال بعض ذلك‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ هذا خبر عمّا كان وليس فيه إثبات حكم وإنّما هو تنبيه على آيات ونعم متعددات؛ أنّ الله سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته، وصرف الأيدي عن إذايتِه‏.‏ وروي هذا عن الحسن‏.‏ وإذا كان ذلك خبراً فهو خبر عمّا مضى قبل مجيء شريعة الإسلام حين لم يكن لهم في الجاهلية وازع فلا ينتقض بما وقع فيه من اختلال الأمن في القتال بين الحَجَّاج وابن الزبير وفي فتنة القرامطة‏.‏ وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخر متشابهات أوّل هذه السورة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏

ومن العلماء من حمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمناً‏}‏ أنَّه خبر مستعمل في الأمر بتأمين داخله من أن يُصاب بأذى، وروي عن ابن عبَّاس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي‏.‏

وقد اختلف الصائرون إلى هذا المعنى في محمل العمل بهذا الأمر؛ فقال جماعة‏:‏ هذا حكمٌ نُسخ يعنون نسختْه الأدلّة الَّتي دلّت على أنّ الحرم لا يُعيذ عاصياً‏.‏ روى البخاري، عن أبي شُريح الكعبي، أنَّه قال لعَمْرِو بن سعيد وهو يبعث البُعوث إلى مكّة أي لحرب ابن الزبير‏:‏ ائذن لى أيُّهَا الأمير أحدثْك قولاً قام به رسول الله الغدَ من يوم الفتح، سمعتْه أُذناي ووعاه قلبي وأبصرتْه عيناي حين تكلَّم به‏:‏ إنَّه حمد الله وأثنى عليه ثُمّ قال‏:‏ «إنّ مكَّة حرَّمها الله ولم يحرّمها النَّاس؛ لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة‏.‏ فإنْ أحَد تَرَخَّص لقتال رسول الله فيها فقولوا له‏:‏ إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنَّما أذِن لي فيها ساعة من نهار وقد عَادَتْ حُرْمَتُها اليَومَ كحرمتها بالأمس وليبلّغ الشاهدُ الغائبَ»‏.‏ قال‏:‏ فقال لي عَمْرو‏:‏ أنا أعلمَ بذلك منكَ يا أبا شُرَيح إنّ الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارّاً بدَم ولا فارّا بخَرْبة ‏(‏الخَربة بفتح الخاء وسكون الراء الجناية والبلية الَّتي تكون على النَّاس‏)‏ وبما ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم أمر بأن يُقْتل ابن خَطل وهو متعلِّق بأستار الكعبة يوم الفتح‏.‏

وقد قال مالك، والشَّافعى‏:‏ إنّ من أصاب جناية في الحرم أو خارجه ثُمّ عاذ بالحرم يقام عليه الحدّ في الحرم ويقاد منه‏.‏

وقال أبو حنيفة، وأصحابه الأربعة‏:‏ لا يقتصّ في الحرم من اللاجئ إليه من خارجه ما دام فيه؛ ولكنَّه لا يبايَع ولا يؤاكَلُ ولا يجالَسُ إلى أن يخرج من الحرم‏.‏

ويروون ذلك عن ابن عبَّاس، وابننِ عُمر، ومَنْ ذكرناه معهما آنفا‏.‏

وفي أحكام ابن الفرس أن عبد الله بن عمر قال‏:‏ «من كان خائفاً من الاحتيال عليه فليس بآمن ولا تجوز إذايته بالامتناع من مكالمته»‏.‏

وقال فريق‏:‏ هو حكم محكم غير منسوخ، فقال فريق منهم‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ومن دخله‏}‏ يفهم منه أنَّه أتى ما يوجب العقوبة خارجَ الحرم فإذا جنى في الحرم أقيد منه، وهذا قول الجمهور منهم، ولعلّ مستندهُم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والحرمات قصاص‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ أو استندوا إلى أدلّة من القياس، وقال شذوذ‏:‏ لا يقام الحدّ في الحرم، ولو كان الجاني جنى في الحرم وهؤلاء طردوا دليلهم‏.‏

وقد ألممنا بذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتَّى يقاتلوكم فيه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏‏.‏

وقد جعل الزجّاج جملة ‏{‏ومن دخله كان آمناً‏}‏ آية ثانية من الآيات البيّنات فهى بيان ل ‏(‏آيات‏)‏، وتبعه الزمخشري، وقال‏:‏ يجوز أن يطلق لفظ الجمع على المثنّى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد صغت قلوبكما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ‏(‏وإنَّما جاز بيان المفرد بجملة لأنّ هذه الجملة في معنى المفرد إذ التَّقدير‏:‏ مقامُ إبراهيم وأمْنُ مَن دخَله‏.‏ ولم ينظر ذلك بما استعمل من كلام العرب حتَّى يُقَرّب هذا الوجه‏.‏ وعندي في نظيره قول الحرث بن حلزة‏:‏

مَنْ لنا عنده من الخيْر آيا *** تٌ ثلاثٌ في كلهنّ القضاء

آيةٌ شارق الشقيقة إذ جا *** ءَت مَعَدّ لِكلّ حيّ لواء

ثم قال‏:‏

ثُمّ حُجْرا أعني ابن أم قَطامٍ *** وله فارسية خضراء

ثم قال‏:‏

وفككنا غُلّ امرئ القيس عنه *** بعد ما طال حَبسه والعَناء

فجعل ‏(‏وفككنا‏)‏ هي الآية الرابعة باتِّفاق الشرّاح إذ التقدير‏:‏ وفَكُّنا غُل امرئ القيس‏.‏

وجوّز الزمخشري أن يكون آيات باقياً على معنى الجمع وقد بُيّن بآيتين وتركت الثَّالثة كقول جرير‏:‏

كانَتْ حنيفةُ أثلاثا فثُلْثهُمُ *** من العبيدِ وثُلث من مواليها

أي ولم يذكر الثلث الثالث وهو تنظير ضعيف لأنّ بيت جرير ظهر منه الثُلث الثالث، فَهُم الصميم، بخلاف الآية فإنّ بقية الآيات لم يُعرف‏.‏ ويجوز أن نجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ إلخ متضمّناً الثالثة من الآيات البيّنات‏.‏

‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏‏.‏

حُكم أعقب به الامتنان‏:‏ لما في هذا الحكم من التَّنويه بشأن البيت فلذلك حسن عطفه‏.‏ والتَّقدير‏:‏ مباركاً وهدى، وواجباً حجّه‏.‏ فهو عطف على الأحوال‏.‏

والحجّ تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحجّ أشهر معلومات‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏، وفيه لغتان فتح الحاء وكسرها ولم يقرأ في جميع مواقعه في القرآن بكسر الحاء إلاّ في هذه الآية‏:‏ قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر بكسر الحاء‏.‏

ويتّجه أن تكون هذه الآية هي الَّتي فرض بها الحجّ على المسلمين، وقد استدلّ بها علماؤنا على فرضية الحجّ، فما كان يقع من حجّ النّبيء والمسلمين، قبل نزولها، فإنَّما كان تقرّباً إلى الله، واستصحاباً للحنيفية‏.‏

وقد ثبت أنّ النّبيء حجّ مرّتين بمكّة قبل الهجرة ووقف مع النَّاس‏.‏ فأمَّا إيجاب الحجّ في الشَّريعة الإسلاميَّة فلا دليل على وقوعه إلاّ هذه الآية وقد تمالأ علماء الإسلام على الاستدلال بها على وجوب الحجّ، فلا يعد ما وقع من الحجّ قبل نزولها، وبعد البعثة إلاّ تحنّثاً وتقرّباً، وقد صحّ أنَّها نزلت سنة ثلاث من الهجرة، عقب غزوة أحدُ، فيكون الحجّ فرض يومئذ‏.‏ وذكر القرطبي الاختلاف في وقت فرضية الحجّ على ثلاثة أقوال‏:‏ فقيل‏:‏ سنة خمس، وقيل‏:‏ سنة سبع، وقيل‏:‏ سنة تسع، ولم يعز الأقوال إلى أصحابها، سوى أنَّه ذكر عن ابن هشام، عن أبي عبيد الواقدي أنَّه فرض عام الخندق، بعد انصراف الأحزاب، وكان انصرافهم آخر سنة خمس‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وولى تلك الحجَّة المشركون‏.‏ وفي مقدّمات ابن رشد ما يقتضي أنّ الشافعي يقول‏:‏ إنّ الحجّ وجب سنة تسع، وأظهر من هذه الأقوال قول رابع تمالأ عليه الفقهاء وهو أنّ دليل وجوب الحجّ قوله تعالى‏:‏ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏‏.‏ وقد استدلّ الشَّافعي بها على أنّ وجوبه على التَّراخي، فيكون وجوبه على المسلمين قد تقرَّر سنة ثلاث، وأصبح المسلمون منذ يومئذ مُحْصَرين عن أداء هذه الفريضة إلى أن فتح الله مكّة ووقعت حجّة سنة تسع‏.‏

وفي هذه الآية من صيَغ الوجوب صِيغتان‏:‏ لام الاستحقاق، وحرف ‏(‏على‏)‏ الدال على تقرّر حقّ في ذمة المجرور بها‏.‏ وقد تعسّر أو تعذّر قيام المسلمين بأداء الحجّ عقب نزولها، لأنّ المشركين كانوا لا يسمحون لهم بذلك، فلعلّ حكمة إيجاب الحجّ يومئذ أن يكون المسلمون على استعداد لأداء الحجّ مهما تمكّنوا من ذلك، ولتقوم الحجَّة على المشركين بأنَّهم يمنعون هذه العبادة، ويصدّون عن المسجد الحرام، ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من استطاع إليه سبيلا‏}‏ بدل من النَّاس لتقييد حال الوجوب، وجوّز الكسائي أن يكون فاعل حَجّ، وردّ بأنَّه يصير الكلام‏:‏ لله على سائر النَّاس أن يحجّ المستطيع منهم، ولا معنى لتكليف جميع النَّاس بفعل بعضهم، والحقّ أنّ هذا الردّ لا يتّجه لأنّ العرب تتفنَّن في الكلام لعلم السامع بأنّ فرض ذلك على النَّاس فرض مجمل يبيِّنه فاعل حَجّ، وليس هو كقولك‏:‏ استطَاع الصّوم، أو استطاع حمل الثقل، ومعنى ‏{‏استطاع سبيلاً‏}‏ وجد سبيلاً وتمكّن منه، والكلام بأواخره‏.‏ والسَّبيل هنا مجاز فيما يتمكّن به المكلّف من الحجّ‏.‏

وللعلماء في تفسير السبيل أقوال اختلفت ألفاظها، واتَّحدت أغراضها، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتاً في كتب التَّفسير وغيرها، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جداً، وسبيل البعيد الراحلة والزاد، ولذلك قال مالك‏:‏ السبيل القدرة والنَّاس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم‏.‏

واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحْتِرَاف في طريقه‏:‏ فقال مالك‏:‏ إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه، وقال بمثله ابن الزبير، والشعبي، وعكرمة‏.‏ وعن مالك كراهية السفر في البحر للحجّ إلا لمن لا يجد طريقاً غيره كأهل الأندلس، واحتجّ بأنّ الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏يأتوك رجالاً وعلى كُلّ ضامر‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏ ولم أجد للبحر ذكراً‏.‏ قال الشيخ ابن عطية‏:‏ هذا تأنيس من مالك وليست الآية بالَّتي تقتضي سقوط سفر البحر‏.‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ناس من أمَّتِي عُرِضوا عليّ غُزاة في سبيل الله يركبون ثَبَج هذا البحر» وهل الجهادِ إلاّ عبادة كالحجّ، وكره مالك للمرأة السَّفر في البحر لأنَّه كشفة لها، وكلّ هذا إذا كانت السَّلامة هي الغالب وإلا لم يجز الإلقاء إلى التهلكة، وحال سفر البحر اليوم أسلم من سفر البرّ إلاّ في أحوال عارضة في الحروب إذا شملت البحارَ‏.‏

وظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من استاع إليه سبيلا‏}‏ أنّ الخطاب بالحجّ والاستطاعة للمرءِ في عمله لا في عمل غيره، ولذلك قال مالك‏:‏ لا تصحّ النِّيابة في الحجّ في الحياة لعذر، فالعاجز يسقط عنه الحجّ عنده ولم ير فيه إلاّ أنّ للرجل أن يوصي بأن يُحَجّ عنه بعد موته حجّ التَّطوع، وقال الشَّافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه‏:‏ إذا كان له عذر مانع من الحجّ وكان له من يطيعه لو أمره بأن يحجّ عنه، أو كان له مال يستأجر به من يحجّ عنه، صار قادراً في الجملة، فيلزمه الحجّ، واحتجّ بحديث ابن عبَّاس‏:‏ أنّ امرأة من خثعم سألت النّبيء صلى الله عليه وسلم يوم حجَّة الوداع فقالت‏:‏ إنّ فريضة الله على عباده في الحجّ أدركتْ أبي شيخاً كبيراً لا يثبُت على الراحلة أفيُجْزِئ أن أحجّ عنه‏؟‏ قال‏:‏ نعم، حُجِّي عنه أرَأيْتتِ لو كان على أبيككِ دَيْن أكُنْتتِ قاضيتَهُ‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، قال‏:‏ فَدَيْن الله أحقّ أن يقضى‏.‏ وأجاب عنه المالكية بأنّ الحديث لم يدلّ على الوجوب بل أجابها بما فيه حثّ على طاعة أبيها، وطاعة ربِّها‏.‏

وقال عليّ بن أبي طالب، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، وابن المبارك‏.‏ لا تجزئ إلاّ إنابة الأجرة دون إنابة الطَّاعة‏.‏

وظاهر الآية أنَّه إذا تحقّقت الاسْتطاعة وجب الحجّ على المستطيع على الفور، وذلك يندرج تحت مسألة اقتضاءِ الأمر الفورَ أو عدممِ اقتضائِه إيّاه، وقد اختلف علماء الإسلام في أنّ الحجّ واجب على الفور أو على التَّراخي‏.‏ فذهب إلى أنَّه على الفور البغداديون من المالكية‏:‏ ابنُ القصار، وإسماعيل بن حَماد، وغيرهما، وتأوّلوه من قول مالك، وهو الصّحيح من مذهب أبي حنيفة، وهو قول أحمد بن حنبل، وداوود الظاهري‏.‏ وذهب جمهور العلماء إلى أنّه على التَّراخي وهو الصحيح من مذهب مالك ورواية ابن نافع وأشهب عنه وهو قول الشَّافعي وأبي يوسف‏.‏

واحتجّ الشّافعي بأنّ الحجّ فرض قبل حجّ النّبيء صلى الله عليه وسلم بسنين، فلو كان على الفور لما أخّره لعُذْر لبيّنه أي لأنَّه قدوة للنَّاس‏.‏ وقال جماعة‏:‏ إذا بلغ المرء الستِّين وجب عليه الفور بالحجّ إن كان مستطيعاً خشية الموت، وحكاه ابن خويزَ مَنْدادَ عن ابن القاسم‏.‏

ومعنى الفور أن يوقعه المكلّف في الحجَّة الَّتي يحين وقتها أولاً عند استكمال شرط الاستطاعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن كفر فإن الله غني عن العالمين‏}‏ ظاهره أنَّه مقابل قوله ‏{‏من استطاع إليه سبيلاً‏}‏ فيكون المراد بمن كفر من لم يحجّ مع الاستطاعة، ولذلك قال جمع من المحقّقين‏:‏ إنّ الإخبار عنه بالكفر هنا تغليظ لأمر ترك الحجّ‏.‏ والمراد كفر النعمة‏.‏ ويجوز أيضاً أن يراد تشويه صنعه بأنَّه كصنيع من لا يؤمن بالله ورسله وفضيلة حَرمه‏.‏ وقال قوم‏:‏ أراد ومن كفر بفرض الحجّ، وقال قوم بظاهره‏:‏ إنّ ترك الحجّ مع القدرة عليه كفر‏.‏ ونسب للحسن‏.‏ ولم يلتزم جماعة من المفسِّرين أنّ يكون العطف للمقابلة وجعلوها جملة مستقلّة‏.‏ كالتذييل، بيّن بها عدم اكتراث الله بمن كفر به‏.‏

وعندي أنَّه يجوز أن يكون المراد بمن كفر من كفر بالإسلام، وذلك تعريض بالمشركين من أهل مكّة بأنَّه لا اعتداد بحجّهم عند الله وإنَّما يريد الله أن يحجّ المؤمنون به والموحّدون له‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏غني عن العالمين‏}‏ رمز إلى نزعه ولاية الحرم من أيديهم‏:‏ لأنَّه لمّا فرضَ الحجّ وهُم يصدّون عنه، وأعلمنا أنَّه غني عن النَّاس، فهو لا يعجزه من يصدّ النَّاس عن مراده تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ‏(‏98‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

ابتداء كرم رُجع به إلى مجادلة أهل الكتاب وموعظتهم فهو مرتبط بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل صدق اللَّه‏}‏ الآية‏.‏

أمر الرّسول عليه الصلاة والسّلام بالصدع بالإنكار على أهل الكتاب‏.‏ بعد أن مهّد بين يدي ذلك دلائل صحَّة هذا الدّين ولذلك افتتح بفعل ‏{‏قل‏}‏ اهتماماً بالمقول، وافتتح المقولُ بنداء أهل الكتاب تسجيلاً عليهم‏.‏ والمراد بآيات الله‏:‏ إمّا القرآن، وإمّا دلائل صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم والكفر على هذين الوجهين بمعناه الشَّرعي واضح، وإمَّا آيات فضيلة المسجد الحرام على غيره، والكُفر على هذا الوجه بمعناه اللُّغوي والاستفهام إنكار‏.‏

وجملة ‏{‏والله شهيد على ما تعملون‏}‏ في موضع الحال لأنّ أهل الكتاب يوقنون بعموم علم الله تعالى، وأنّه لا يخفى عليه شيء فجحدهم لآياته مع ذلك اليقين أشدّ إنكاراً، ولذلك لم يصحّ جعل ‏{‏والله شهيد‏}‏ مُجرّد خبر إلاّ إذا نُزّلوا منزلة الجاهل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب لم تصدون‏}‏ توبيخ ثان وإنكار على مجادلتهم لإضلالهم المؤمنين بعد أن أنكر عليهم ضلالهم في نفوسهم، وفُصِل بلا عطف للدلالة على استقلاله بالقصد، ولو عطف لصحّ العطف‏.‏

والصدّ يستعمل قاصراً ومتعدّياً‏:‏ يقال صدّه عن كذا فصدّ عنه‏.‏ وقاصرُه بمعنى الإعراض‏.‏ فمتعدّيه بمعنى جعل المصدود مُعرضاً أي صَرْفُه، ويقال‏:‏ أصدّه عن كذا، وهو ظاهر‏.‏

وسبيل الله مجاز في الأقوال والأدلّة الموصلة إلى الدّين الحقّ‏.‏ والمراد بالصدّ عن سبيل الله إمّا محاولة إرجاع المؤمنين إلى الكفر بإلقاء التشكيك عليهم‏.‏ وهذا المعنى يلاقي معنى الكفر في قوله‏:‏ ‏{‏لم تكفرون بآيات الله‏}‏ على وجهيه الراجعين للمعنى الشَّرعي‏.‏ وإمّا صدّ النّاس عن الحجّ أي صدّ أتباعهم عن حجّ الكعبة، وترغيبهم في حجّ بيت المقدس، بتفضيله على الكعبة، وهذا يلاقي الكفر بمعناه اللُّغوي المتقدّم، ويجوز أن يكون إشارة إلى إنكراهم القبلة في قولهم ‏{‏وما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏ لأنّ المقصود به صدّ المؤمنين عن استقبال الكعبة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تبغونها عوجاً‏}‏ أي تبغون السبيل فأنّث ضميره لأنّ السّبيل يذكّر ويؤنث‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏‏.‏ والبغي الطلب أي تطلبون‏.‏ والعوج بكسر العين وفتح الواو ضدّ الاستقامة وهو اسم مصدر عَوِج كفَرح، ومصدره العَوَج كالفرح‏.‏ وقد خصّ الاستعمال غالباً المصدر بالاعوجاج في الأشياء المحسوسة،، كالحائط والقناة‏.‏ وخصّ إطلاق اسم المصدر بالاعوجاج الّذي لا يشاهد كاعْوجاج الأرض والسطح، وبالمعنويات كالدِّين‏.‏

ومعنى ‏{‏تبغونها عوجاً‏}‏ يجوز أن يكون عوجاً باقياً على معنى المصدرية، فيكون ‏{‏عوجاً‏}‏ مفعول ‏{‏تبغونها‏}‏، ويكون ضمير النصب في تبغونها على نزع الخافض كما قالوا‏:‏ شكرتك وبعتُك كذا‏:‏ أي شكرت لك وبعتُ لك، والتقدير‏:‏ وتبغون لها عوجاً، أي تتطلبون نسبة العوج إليها، وتصوّرونها باطلة زائغة‏.‏

ويجوز أن يكون عوجاً، وصفاً للسبيل على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة، أي تبْغونها عوجاء شديدة العوج فيكون ضمير النصب في ‏{‏تبغونها‏}‏ مفعول ‏{‏تبغون‏}‏، ويكون عوجاً حالاً من ضمير النَّصب أي ترومُونها معوجَّة أي تبغون سبيلاً معوجّة وهي سبيل الشرك‏.‏

والمعنى‏:‏ تصدّون عن السَّبيل المستقيم وتريدون السَّبيل المعوجّ ففي ضمير ‏{‏تبغونها‏}‏ استخدام لأنّ سبيل الله المصدود عنها هي الإسلام، والسّبيل الَّتي يريدونها هي ما هم عليه من الدّين بعد نسخه وتحريفه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم شهداء‏}‏ حال أيضاً توازن الحال في قوله قبلها ‏{‏والله شهيد على ما تعملون‏}‏ ومعناه وأنتم عالمون أنّها سبيل الله‏.‏ وقد أحالهم في هذا الكلام على ما في ضمائرهم مِمَّا لا يعلمه إلاّ الله لأنّ ذلك هو المقصود من وخز قلوبهم، وانثنائهم باللائمة على أنفسهم، ولذلك عقّبه بقوله‏:‏ ‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ وهو وعيد وتهديد وتذكير لأنَّهم يعلمون أنّ الله يعلم ما تخفي الصدور وهو بمعنى قوله في موعظتهم السابقة ‏{‏والله شهيد على ما تعملون‏}‏ إلاّ أنّ هذا أغلظ في التَّوبيخ لما فيه من إبطال اعتقاد غفلته سبحانه، لأنّ حالهم كانت بمنزلة حال من يعتقد ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 101‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ‏(‏100‏)‏ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

إقبال على خطاب المؤمنين لتحذيرهم من كيد أهل الكتاب وسوء دعائهم المؤمنين، وقد تفضّل الله على المؤمنين بأن خاطبهم بغير واسطة خلاف خطابه أهل الكتاب إذ قال‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 98‏]‏ ولم يقل‏:‏ قل يأيُّها الّذين آمنوا‏.‏

والفريق‏:‏ الجماعة من النَّاس، وأشار به هنا إلى فريق من اليهود وهم شَاس بن قَيس وأصحابه، أو أراد شاساً وحده، وجعله فريقاً كما جعل أبا سفيان ناساً قي قوله‏:‏ «إنّ النّاس قد جمعوا لكم» وسياق الآية مؤذن بأنَّها جرت على حادثة حدثتْ وأنّ لنزولها سبباً‏.‏ وسبب نزول هذه الآية‏:‏ أنّ الأوس والخزرج كانوا في الجاهلية قد تخاذلوا وتحاربوا حتَّى تفانوا، وكانت بينهم حروب وآخرها يوم بُعاث الّتي انتهت قبل الهجرة بثلاث سنين، فلمَّا اجتمعوا على الإسلام زالت تلك الأحقاد من بينهم وأصبحوا عُدّة للإسلام، فساء ذلك يهودَ يثرب فقام شاس بن قيس اليهودي، وهو شيخ قديم منهم، فجلس إلى الأوس والخزرج، أو أرسل إليهم من جلس إليهم يذكِّرهم حروب بُعاث، فكادوا أن يقتتلوا، ونادى كُلّ فريق‏:‏ يا للأوس ويا للخزرج وأخذوا السلاح، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بينهم وقال‏:‏ أتَدْعُون الجاهليةَ وأنا بين أظهركم‏؟‏ وفي رواية‏:‏ أبدعوى الجاهلية‏؟‏ أي أتدعون بدعوى الجاهلية وقرأ هذه الآية، فما فرغ منها حتَّى ألقوا السِّلاح، وعانق بعضهم بعضاً، قال جابر بن عبد الله‏:‏ ما كان طالع أكره إلينا من طلوع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا أصلح الله بيننا ما كان شخص أحبّ إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت يوماً أقبحَ ولا أوْحَش أوّلا وأحسنَ آخراً من ذلك اليوم‏.‏

وأصل الردّ الصّرف والإرجاع قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏ وهو هنا مستعار لتغيّر الحال بعد المخالطة فيفيد معنى التصيير كقول الشَّاعر، فيما أنشده أهل اللّغة‏:‏

فَرَدّ شُعُورَهُنّ السُّود بِيضا *** وَرَدّ وُجُوهَهُنّ البِيض سُودا

و‏{‏كافرين‏}‏ مفعوله الثَّاني، وقوله ‏{‏بعد إيمانكم‏}‏ تأكيد لما أفاده قوله ‏{‏يردّوكم‏}‏ والقصد من التَّصريح به توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وكيف تكفرون‏}‏ استفهام مستعمل في الاستبْعَاد استبعاداً لكفرهم ونفياً له، كقول جرير‏:‏

كَيْفَ الهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكّ صَالِحَةٌ *** من آل لأممٍ بِظهْرِ الغَيْببِ تَأتينِي

وجملة ‏{‏وأنتم تتلى عليكم آيات الله‏}‏ حالية، وهي محطّ الاستبعاد والنَّفي لأنّ كلاّ من تلاوة آيات الله وإقامة الرّسول عليه الصّلاة والسَّلام فيهم وازع لهم عن الكفر، وأيّ وازع، فالآيات هنا هي القرآن ومواعظه‏.‏

والظرفية في قوله‏:‏ ‏{‏وفيكم رسوله‏}‏ حقيقيّة ومؤذنة بمنقبة عظيمة، ومنّة جليلة، وهي وجود هذا الرسول العظيم بينهم، تلك المزيّة الَّتي فاز بها أصحابه المخاطبون‏.‏

وبها يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدْري‏:‏ «لاَ تسبُّوا أصحابي فوالّذي نفسي بيده لَوْ أنّ أحدكم أنفق مثلَ أُحُد ذَهَباً مَا بَلَغ مُدّ أحدِهم ولا نصِيفه» النصيف نِصْف مدّ‏.‏

وفي الآية دلالة على عِظْم قدْر الصّحابة وأنّ لهم وازعين عن مواقعة الضّلال‏:‏ سماعُ القرآن، ومشاهدَة أنوار الرّسول عليه السَّلام فإنّ وجوده عصمة من ضلالهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ أمّا الرسول فقد مضى إلى رحمة الله، وأمَّا الكتاب فباققٍ على وجه الدّهر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم‏}‏ أي من يتمسّك بالدّين فلا يخش عليه الضّلال‏.‏ فالاعتصام هنا استعارة للتَّمسّك‏.‏

وفي هذا إشارة إلى التمسّك بكتاب الله ودينه لسائر المسلمين الَّذين لم يشهدوا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 103‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏102‏)‏ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

انتقل مِن تحذير المخاطبين من الانخداع لوساوس بعض أهل الكتاب، إلى تحريضهم على تمام التَّقوى، لأنّ في ذلك زيادة صلاح لهم ورسوخاً لإيمانهم، وهو خطاب لأصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم ويَسري إلى جميع من يكون بعدهم‏.‏

وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية‏.‏ والتَّقوى تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هدى للمتقين‏}‏‏.‏ وحاصلها امتثال الأمر، واجتناب المنهي عنه، في الأعمال الظَّاهرة، والنَّوايا الباطنة‏.‏ وحقّ التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتَّقوا الله ما استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ لأنّ الاستطاعة هي القدرة، والتَّقوى مقدورة للنَّاس‏.‏ وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ، وقيل‏:‏ هاته منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا اللَّه ما استطعتم‏}‏ لأنّ هاته دلّت على تقوى كاملة كما فسَّرها ابن مسعود‏:‏ أن يطاع فلا يعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويذكر فلا يُنْسى، ورووا أنّ هذه الآية لمَّا نزلت قالوا‏:‏ «يا رسول الله من يَقوىَ لهذا» فنزلت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتَّقوا الله ما استطعتم‏}‏ فنسَخَ هذه بناء على أنّ الأمر في الآيتين للوجوب، وعلى اختلاف المراد من التقويين‏.‏ والحقّ أنّ هذا بيان لا نسخ، كما حقَّقه المحقِّقون، ولكن شا عند المتقدّمين إطلاق النَّسخ على ما يشمل البيان‏.‏

والتُّقاة اسمُ مصدر‏.‏ اتَّقى وأصله وُقَيَة ثمّ وُقَاة ثُمّ أبدلت الواو تاء تبعاً لإبدالها في الافتعال إبدالاً قصدوا منه الإدغام‏.‏ كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن تتقوا منهم تقاة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون نهي عن أن يموتوا على حالة في الدِّين إلاّ على حالة الإسلام فمحطّ النَّهي هو القيد‏:‏ أعني المستثنى منه المحذوفَ والمستثنى وهو جملة الحال، لأنَّها استثناء من أحوال، وهذا المركّب مستعمل في غير معناه لأنَّه مستعمل في النَّهي عن مفارقة الدّين بالإسلام مدّة الحياة، وهو مجاز تمثيلي علاقته اللزوم، لما شاع بين النَّاس من أنّ ساعة الموت أمر غير معلوم كما قال الصدّيق‏:‏

كُلّ امرئ مصبَّح في أهلِهِ *** والموتُ أدنى من شراك نَعْلِه

فالنهي عن الموت على غير الإسلام يستلزم النَّهي عن مفارقة الإسلام في سائر أحيان الحياة، ولو كان المراد به معناه الأصلي، لكان ترخيصاً في مفارقة الإسلام إلاّ عند حضور الموت، وهو معنى فاسد وقد تقدّم ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا‏}‏ ثَنَّى أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم لأخراهم، بأمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدّين وعدم التَّفرّق ليكتسبوا باتّحادهم قوّة ونماء‏.‏ والاعتصام افتعال من عَصَم وهو طلب ما يعصم أي يمنع‏.‏

والحَبْل‏:‏ ما يشدّ به للارتقاء، أو التدلّي، أو للنَّجاة من غَرَق، أو نحوه، والكلام تمثيل لهيئة اجتماعهم والتفافهم على دين الله ووصاياه وعهوده بهيئة استمساك جماعة بحبل ألقى إليهم من مُنقذ لهم من غرق أو سقوط، وإضافة الحبل إلى الله قرينة هذا التَّمثيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ حال وهو الّذي رجّح إرادة التَّمثيل، إذ ليس المقصود الأمر باعتصام كُلّ مسلم في حال انفراده اعتصاماً بهذا الدّين، بل المقصود الأمر باعتصام الأمَّة كُلّها، ويحصل في ضِمن ذلك أمرُ كُلّ واحد بالتَّمسك بهذا الدّين، فالكلام أمر لهم بأن يكونوا على هاته الهيئة، وهذا هو الوجه المناسب لتمام البلاغة لكثرة ما فيه من المعاني، ويجوز أن يستعار الاعتصام للتَّوثيق بالدّين وعهوده، وعدم الانفصال عنه، ويستعار الحبل للدّين والعهود كقوله‏:‏ ‏{‏إلاّ بحَبْل من الله وحبْل من النَّاس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112‏]‏ ويكون كُلّ من الاستعارتين ترشيحاً للأخرى، لأنّ مبنى التَّرشيح على اعتبار تقوية التَّشبيه في نفس السامع، وذلك يحصل له بمجرد سماع لفظ ما هو من ملائمات المستعار، بقطع النَّظر عن كون ذلك الملائم معتبرة فيه استعارة أخرى، إذ لا يزيده ذلك الاعتبار إلاّ قُوّة‏.‏ وليست الاستعارة بوضع اللَّفظ في معنى جديد حتَّى يَتَوهّم متوهّم أنّ تلك الدّلالة الجديدة، الحاصلة في الاستعارة الثَّانية، صارت غير ملائمة لِمعنى المستعار في الاستعارة الأخرى، وإنَّما هي اعتبارات لطيفة تزيد كثرتها الكلام حسناً‏.‏ وقريب من هذا التوريةُ، فإنّ فيها حُسناً بإيهام أحد المعنيين مع إرادة غيره، ولا شكّ أنَّه عند إرادة غيره لا يكون المعنى الآخَر مقصوداً، وفي هذا الوجه لا يكون الكلام صريحاً في الأمر بالاجتماع على الدّين بل ظاهره أنّه أمر للمؤمنين بالتمسّك بالدّين فيؤول إلى أمر كُلّ واحد منهم بذلك على ما هو الأصل في معنى مثل هذه الصّيغة ويصير قوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ محتملاً لتأكيد العموم المستفاد من واو الجماعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تفرقوا‏}‏ تأكيد لمضمون اعتصموا جميعاً كقولهم‏:‏ ذممت ولم تُحْمَد‏.‏ على الوجه الأول في تفسير ‏{‏واعتصموا بحبل الله جميعاً‏}‏‏.‏ وأمّا على الوجه الثَّاني فيكون قوله‏:‏ ‏{‏ولا تفرّقوا‏}‏ أمراً ثانياً للدلالة على طلب الاتّحاد في الدّين، وقد ذكرنا أنّ الشيء قد يؤكّد بنفي ضدّه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد ضلوا وما كانوا مهتدين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 140‏]‏ وفي الآية دليل على أنّ الأمر بالشيء يستلزم النَّهي عن ضدّه‏.‏

وقوله‏:‏ واذكروا نعمت الله عليكم‏}‏ تصوير لحالهم الَّتي كانوا عليها ليحصل من استفظاعها انكشاف فائدة الحالة الَّتي أمروا بأن يكونوا عليها وهي الاعتصام جميعاً بجامعة الإسلام الَّذي كان سبب نجاتهم من تلك الحالة، وفي ضمن ذلك تذكير بنعمة الله تعالى، الّذي اختار لهم هذا الدّين، وفي ذلك تحريض على إجابة أمره تعالى إياهم بالاتِّفاق‏.‏ والتَّذكيرُ بنعمة الله تعالى طريق من طُرق مواعظ الرّسل‏.‏ قال تعالى حكاية عن هود‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح‏}‏

‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏ وقال عن شعيب‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثَّركم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 86‏]‏ وقال الله لموسى‏:‏ ‏{‏وذكرهم بأيام الله‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وهذا التَّذكير خاصّ بمن أسلم من المسلمين بعد أن كان في الجاهلية، لأنّ الآية خطاب للصّحابة ولكن المنّة به مستمرة على سائر المسلمين، لأن كُلّ جيل يُقَدّر أن لو لم يَسبق إسلام الجيل الَّذي قبله لكانوا هم أعداء وكانوا على شفا حفرة من النَّار‏.‏

والظرفية في قوله‏:‏ ‏{‏إذ كنتم أعداء‏}‏ معتبر فيها التَّعقيب من قوله‏:‏ ‏{‏فألف بين قلوبكم‏}‏ إذ النعمة لم تكن عند العداوة، ولكن عند حصول التأليف عقب تلك العداوة‏.‏

والخطاب للمؤمنين وهم يومئذ المهاجرون والأنصار وأفراد قليلون من بعض القبائل القريبة، وكان جميعهم قبل الإسلام في عداوة وحروب، فالأوس والخزرج كانت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة قبل الهجرة، ومنها كان يوم بعاث، والعرب كانوا في حروب وغارات بل وسائر الأمم الَّتي دعاها الإسلام كانوا في تفرّق وتخاذل فصار الّذين دخلوا في الإسلام إخواناً وأولياء بعضهم لبعض، لا يصدّهم عن ذلك اختلاف أنساب، ولا تباعد مواطن، ولقد حاولت حكماؤهم وأولو الرأي منهم التأليف بينهم، وإصلاح ذات بينهم، بأفانين الدّعاية من خطابة وجاه وشعر فلم يصلوا إلى ما ابتغوا حتَّى ألَّف الله بين قلوبهم بالإسلام فصاروا بذلك التَّأليف بمنزلة الإخوان‏.‏

والإخوان جمع الأخ، مثل الإخوة، وقيل‏:‏ يختصّ الإخوان بالأخ المجازي والإخوة بالأخخِ الحقيقي، وليس بصحيح قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو بيوت إخوانكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنَّما المؤمنون إخوة‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 10‏]‏ وليس يصحّ أن يكون للمعنى المجازي صيغة خاصّة في الجمع أو المفرد وإلا لبطل كون اللَّفظ مجازاً وصار مشتركاً، لكن للاستعمال أن يُغلّب إطلاق إحدى الصيغتين الموضوعتين لمعنى واحد فيغلّبها في المعنى المجازي والأخرى في الحقيقي‏.‏

وقد امتنّ الله عليهم بتغيير أحوالهم من أشنع حالة إلى أحسنها‏:‏ فحالة كانوا عليها هي حالة العداوة والتَّفاني والتقاتل، وحالة أصبحوا عليها وهي حالة الأخُوّة ولا يدرِك الفرقَ بين الحالتين إلا من كانوا في السُّوأى فأصبحوا في الحُسنى، والنَّاس إذا كانوا في حالة بُؤس وضنك واعتادوها صار الشقاء دأبهم، وذلّت له نفوسهم فلم يشعروا بما هم فيه، ولا يتفطّنوا لوخيم عواقبه، حتَّى إذا هُيّئ لهم الصّلاح، وأخذ يتطرّق إليهم استفاقوا من شقوتهم، وعلموا سوء حالتهم، ولأجل هذا المعنى جمعت لهم هذه الآية في الامتنان بين ذكر الحالتين وما بينهما فقالت‏:‏ ‏{‏إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بنعمته‏}‏ الباء فيه للملابسة بمعنى ‏(‏مع‏)‏ أي أصبحتم إخواناً مصاحبين نعمة من الله وهي نعمة الأخوَّة، كقول الفضل بن عبَّاس بن عتبة اللهبي‏:‏

كُلُّ له نية في بغض صاحبه *** بنعمة الله نَقْلِيكُم وتَقْلُونَا

وقوله‏:‏ ‏{‏وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها‏}‏ عطف على ‏{‏كنتم أعداء‏}‏ فهو نعمة أخرى وهي نعمة الإنقاذ من حالة أخرى بئيسة وهي حالة الإشراف على المهلكات‏.‏

والشَّفا مثل الشَّفَة هو حرف القليب وَطرفه، وألِفُه مبدلة من واو‏.‏ وأما واو شفة فقد حذفت وعوضت عنها الهاء مثل سنة وعِزّة إلاّ أنهم لم يجمعوه على شفوات ولا على شَفِينَ بل قالوا شفاه كأنَّهم اعتدوا بالهاء كالأصل‏.‏

فأرى أن شَفا حفرة النَّار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتَّفاني الَّذي عبَّر عنه زهير بقوله‏:‏

تفانَوا ودَقُّوا بينَهم عِطْر مَنْشَم *** بحال قوم بلغ بهم المشي إلى شفا حفير من النَّار كالأُخدُود فليس بينهم وبين الهلاك السَّريع التَّام إلا خطوة قصيرة، واختيار الحالة المشبَّه بها هنا لأن النَّار أشدّ المهلكات إهلاكاً، وأسرعُها، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما‏:‏ نعمة الأخوة بعد العداوة، ونعمة السلامة بعد الخطر، كما قال أبو الطيب‏:‏

نَجاة من البأساءِ بعدَ وقوع *** والإنقاذ من حالتين شنيعتين‏.‏ وقال جمهور المفسرين‏:‏ أراد نار جهنَّم‏.‏ وعلى قولهم هذا يكون قوله‏:‏ ‏{‏شفا حفرة‏}‏ مستعاراً للاقتراب استعارة المحسوس للمعقول‏.‏ والنَّارُ حقيقة، ويبعد هذا المحمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حفرة‏}‏ إذ ليست جهنّم حفرة بل هي عالم عظيم للعذاب‏.‏ وورد في الحديث «فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان» لكن ذلك رؤيا جاءت على وجه التمثيل وإلا فهي لا يحيط بها النّظر‏.‏ ويكون الامتنان على هذا امتناناً عليهم بالإيمان بعد الكفر وهم ليقينهم بدخول الكفرة النَّارَ علموا أنَّهم كانوا على شفاها‏.‏ وقيل‏:‏ أراد نار الحرب وهو بعيد جداً لأنّ نار الحرب لا توقد في حُفرة بل توقد في العلياء ليراها من كان بعيداً كما قال الحارث‏:‏

وبعينيك أوقدَتْ هند النَّارَ *** عِشاء تُلْوي بها العَليَاء

فتنورتَ نَارها من بعيد *** بخَزَازَى أيَّان منك الصِلاء

ولأنهم كانوا ملابسين لها ولم يكونوا على مقاربتها‏.‏

والضّمير في ‏{‏منها‏}‏ للنَّار على التَّقادير الثَّلاثة‏.‏ ويجوز على التَّقدير الأول أن يكون لشَفا حفرة وعاد عليه بالتأنيث لاكتسابه التَّأنيث من المضاف إليه كقول الأعشى‏:‏

وتَشْرَقَ بالقَوْللِ الذي قد أذعتَه *** كما شَرِقَتْ صَدْرُ القناة من الدم

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم آياته‏}‏ نعمة أخرى وهي نعمة التَّعليم والإرشاد، وإيضاح الحقائق حتَّى تكمل عقولهم، ويَتَبَيَّنوا مَا فيه صلاحهم‏.‏ والبيان هنا بمعنى الإظهار والإيضاح‏.‏ والآيات يجوز أن يكون المراد بها النعم، كقول الحرث بن حلزة‏:‏

مَنْ لنا عنده من الخَيْر آيا *** تٌ ثلاث في كلّهن القضاء

ويجوز أن يراد بها دلائل عنايته تعالى بهم وتثقيف عقولهم وقلوبهم بأنوار المعارف الإلهية‏.‏ وأن يراد بها آيات القرآن فإنها غاية في الإفصاح عن المقاصد وإبلاغ المعاني إلى الأذهان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 105‏]‏

‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏104‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏105‏)‏‏}‏

هذا مفرّع عن الكلام السَّابق‏:‏ لأنَّه لمّا أظهر لهم نعمة نقلهم من حالتي شقاء وشناعة إلى حالتي نعيم وكَمال، وكانوا قد ذاقوا بين الحالتين الأمَرّيْن ثُمّ الأَحْلَوَيْن، فحلبوا الدّهر أشطريه، كانوا أحرياء بأن يَسعوا بكل عزمهم إلى انتشال غيرهم من سُوء ما هو فيه إلى حُسنى ما هُم عليه حتَّى يكون النَّاس أمَّة واحدة خيِّرة‏.‏ وفي غريزة البشر حبّ المشاركة في الخير لذلك تجد الصّبي إذا رأى شيئاً أعجبه نادى من هو حوله ليراه معه‏.‏

ولذلك كان هذا الكلام حرياً بأن يعطف بالفاء، ولو عطف بها لكان أسلوباً عربياً إلاّ أنّه عُدل عن العطف بالفاء تنبيهاً على أن مضمون هذا الكلام مقصود لذاته بحيث لو لم يسبقه الكلام السابق لكان هو حريّاً بأن يؤمر به، فلا يكونُ مذكوراً لأجل التفرّع عن غيره والتبع‏.‏

وفيه من حسن المقابلة في التَّقسيم ضرب من ضروب الخطابة‏:‏ وذلك أنَّه أنكر على أهل الكتاب كفرهم وصدّهم النَّاس عن الإيمان، فقال‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 98، 99‏]‏ الآية‏.‏

وقابل ذلك بأن أمر المؤمنين بالإيمان والدعاء إليه إذ قال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير‏}‏ الآية‏.‏

وصيغة ‏{‏ولتكن منكم أمَّة‏}‏ صيغة وجوب لأنَّها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنَّها أصلها‏.‏ فإذا كان الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزوللِ هذه الآية، فالأمرُ لتشريع الوجوب، وإذا كان ذلك حاصلاً بينهم من قبل كما يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه، وفيه زيادة الأمر بالدّعوة إلى الخير وقد كان الوجوب مقرّراً من قبل بآيات أخرى مثل‏:‏ ‏{‏وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 3‏]‏، أو بأوامر نبويَّة‏.‏ فالأمر لتأكيد الوجوب أيضا للدلالة على الدّوام والثبات عليه، مثل ‏{‏يأيها الذين آمنوا آمنوا باللَّه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏

والأمَّة الجماعة والطائفة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما دخلت أمة لعنت أختها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وأصل الأمَّة في كلام العرب الطَّائفة من النَّاس الَّتي تؤمّ قصداً واحداً‏:‏ من نسب أو موطن أو دين، أو مجموع ذلك، ويتعيّن ما يجمعها بالإضافة أو الوصف كقولهم‏:‏ أمَّة العرب وأمّة غسان وأمّة النصارى‏.‏

والمخاطب بضمير ‏(‏منكم‏)‏ إن كان هم أصحابَ رسول الله كما هو ظاهر الخطابات السابقة آنِفاً جاز أن تكون ‏(‏مِن‏)‏ بَيانيَّة وَقُدّم البيانُ على المبيَّن ويكون ما صْدق الأمّة نفس الصّحابة، وهم أهل العصر الأول من المسلمين فيكون المعنى‏:‏ ولتكونوا أمَّة يدعون إلى الخير فهذه الأمَّة أصحاب هذا الوصف قد أمروا بأن يكوِّنوا من مجموعهم الأمَّة الموصوفة بأنهم يدعون إلى الخير، والمقصود تكوين هذا الوصف، لأنّ الواجب عليهم هو التَّخلق بهذا الخلق فإذا تخلّقوا به تكوّنت الأمَّة المطلوبة‏.‏

وهي أفضل الأمم‏.‏ وهي أهل المدينة الفاضلة المنشود للحكماء من قبل، فجَاءت الآية بهذا الأمر على هذا الأسلوب البليغ الموجز‏.‏

وفي هذا محسِّن التجريد‏:‏ جُرّدت من المخاطبين أمَّة أخرى للمبالغة في هذا الحكم كما يقال‏:‏ لِفلان من بنيه أنصار‏.‏ والمقصود‏:‏ ولتكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر حتَّى تكونوا أمَّة هذه صفتها، وهذا هو الأظهر فيكون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خوطبوا بأن يكونوا دعاة إلى الخير، ولا جرم فهم الَّذين تلقوا الشَّريعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فهم أولى النَّاس بتبليغها‏.‏ وأعلم بمشَاهِدها وأحوالها، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة‏:‏ «ليبلغ الشاهد الغائب أَلاَ هل بلّغت» وإلى هذا المحمل مال الزجاج وغير واحد من المفسّرين، كما قاله ابن عطية‏.‏

ويجوز أيضاً على اعتبار الضّمير خطابا لأصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم أن تكون ‏(‏من‏)‏ للتبعيض، والمراد من الأمّة الجماعة والفريق، أي‏:‏ وليكن بعضكم فريقاً يدعون إلى الخير فيكون الوجوب على جماعة من الصّحابة فقد قال ابن عطية‏:‏ قال الضّحاك، والطبري‏:‏ أمر المؤمنين أن تكون منهم جماعة بهذه الصّفة‏.‏ فهم خاصّة أصحاب الرسول وهم خاصّة الرواة‏.‏

وأقول‏:‏ على هذا يثبت حكم الوجوب على كلّ جيل بعدهم بطريق القياس لئلا يتعطّل الهدى‏.‏ ومن النَّاس من لا يستطيع الدّعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏ الآية‏.‏

وإن كان الخطاب بالضّمير لجميع المؤمنين تبعاً لكون المخاطب بيَأيها الّذين آمنوا إيَّاهم أيضاً، كانت ‏(‏مِنْ‏)‏ للتبعيض لا محالة، وكان المراد بالأمّة الطائفة إذ لا يكون المؤمنون كُلّهم مأمورين بالدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بل يكون الواجب على الكفاية وإلى هذا المعنى ذهب ابن عطية، والطبري، ومن تبعهم، وعلى هذا فيكون المأمور جماعة غير معيّنة وإنما المقصود حصول هذا الفعل الَّذى فُرض على الأمَّة وقُوعُه‏.‏

على أنّ هذا الاعتبار لا يمنع من أن تكون ‏(‏مِن‏)‏ بيانية بمعنى أن يكونوا هم الأمّة ويكون المراد بكونهم يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، إقامة ذلك فيهم وأن لا يخلُوا عن ذلك على حسب الحاجة ومقدار الكفاءة للقيام بذلك، ويكون هذا جارياً على المعتاد عند العرب من وصف القبيلة بالصّفات الشائعة فيها الغالبة على أفرادها كقولهم‏:‏ بَاهِلَة لِئَام، وعُذْرةُ عُشَّاق‏.‏

وعلى هذه الاعتبارات تجري الاعتبارات في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا‏}‏ كما سيأتي‏.‏

إنّ الدعوة إلى الخير تتفاوت‏:‏ فمنها ما هو بيّن يقوم به كلّ مسلم، ومنها ما يحْتاج إلى علم فيقوم به أهله، وهذا هو المسمّى بفرض الكفاية، يعني إذا قام به بعض النَّاس كفَى عن قيام الباقين، وتتعيَّن الطائفة الَّتي تقوم بها بتوفّر شروط القيام بمثل ذلك الفعل فيها‏.‏

كالقوة على السلاح في الحرب، وكالسباحة في إنقاذ الغريق، والعلم بأمور الدّين في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وكذلك تَعيّن العدد الَّذي يكفي للقيام بذلك الفعل مثل كون الجيش نصفَ عدد جيش العدوّ، ولمَّا كان الأمر يستلزم متعلِّقاً فالمأمور في فرض الكفاية الفريق الّذين فيهم الشروط، ومجموعُ أهل البلد، أو القبيلة، لتنفيذ ذلك، فإذا قام به العدد الكافي ممّن فيهم الشروط سقط التكليف عن الباقين، وإذا لم يقوموا به كان الإثم على البلد أو القبيلة، لسكوت جميعهم، ولتقاعس الصَّالحين للقيام بذلك، مع سكوتهم أيضا ثمّ إذا قام به البعض فإنَّما يُثاب البعض خاصّة‏.‏

ومعنى الدعاء إلى الخير الدعاء إلى الإسلام، وبثّ دعوة النّبيء صلى الله عليه وسلم فإنّ الخير اسم يجمع خصال الإسلام‏:‏ ففي حديث حذيفة بن اليَمان «قلت‏:‏ يا رسول الله إنّا كنّا في جاهلية وشَرّ فجاءَنا الله بهذا الخيْرِ فهل بعد هذا الخير من شرّ» الحديث، ولذلك يكون عطف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عليه من عطف الشيء على مغايره، وهو أصل العطف‏.‏ وقيل‏:‏ أريد بالخير ما يشمل جميع الخيرات، ومنها الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فيكون العطف من عطف الخاصّ على العامّ للاهتمام به‏.‏

وحذفت مفاعيل يَدعون ويأمرون وَيَنهَوْن لقصد التَّعميم أي يَدعون كلّ أحد كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللَّهُ يدعو إلى دار السَّلام‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 25‏]‏‏.‏

والمعروف هو ما يعرف وهو مجاز في المقبول المرضي به، لأنّ الشيء إذا كان معروفاً كان مألوفاً مقبولاً مرضيّاً به، وأريد به هنا ما يُقبل عند أهل العقول، وفي الشَّرائع، وهو الحقّ والصلاح، لأنّ ذلك مقبول عند انتفاء العوارض‏.‏

والمنكر مجاز في المكروه، والكُرْه لازم للإنكار لأنّ النكر في أصل اللِّسان هو الجهل ومنه تسمية غير المألوف نكرة، وأريد به هنا الباطل والفساد، لأنَّهما من المكروه في الجبلّة عند انتفاء العوارض‏.‏

والتَّعريف في ‏(‏الخير والمعروف والمنكر‏)‏ تعريف الاستغراق، فيفيد العموم في المعاملات بحسب ما ينتهي إليه العلم والمقدرة فيُشبه الاستغراق العرفي‏.‏

ومن المفسّرين من عيّن جعل ‏(‏مِن‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة‏}‏ للبيان، وتأوّل الكلام بتقدير تقديممِ البيان على المبيَّن فيَصِير المعنى‏:‏ ولتكن أمَّة هي أنتم أي ولتكونوا أمَّة يدعون محاولة للتسويَّة بين مضمون هذه الآية، ومضمون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ الآية‏.‏ ومساواة معنيي الآيتين غير متعيّنة لِجواز أن يكون المراد من خير أمَّة هاته الأمَّة، الَّتي قامت بالأمر بالمعروف، على ما سنبيِّنه هنالك‏.‏

والآية أوجبت أن تقوم طائفة من المسلمين بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ولا شكّ أن الأمر والنَّهي من أقسام القول والكلام، فالمكلّف به هو بيان المعروف، والأمر به، وبيان المنكر، والنَّهي عنه، وأمَّا امتثال المأمورين والمنهيين لذلك، فموكول إليهم أو إلى ولاة الأمور الَّذين يحملونهم على فعل ما أمروا به، وأمَّا ما وقع في الحديث‏:‏ «من رأى منكم منكراً فَلْيُغَيِّرْه بيدِه، فإنْ لم يَسْتَطِعْ فبِلِسانه فإن لم يستطع فبقلبه» فذلك مرتبةُ التغيير، والتَّغييرُ يكون باليد، ويكون بالقلب، أي تمنّى التَّغيير، وأمَّا الأمر والنَّهي فلا يكونان بهما‏.‏

والمعروف والمنكر إن كانا ضروريين كان لكلّ مسلم أن يأمر وينهى فيهما، وإن كانا نظريَّيْن، فإنَّما يقوم بالأمر والنَّهي فيهما أهل العلم‏.‏

وللأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر شروط مبيّنة في الفقه والآداب الشرعية، إلاّ أنِّي أنبِّه إلى شرط ساء فهم بعض النَّاس فيه وهو قول بعض الفقهاء‏:‏ يشترط أن لا يجرّ النَّهي إلى منكر أعظم‏.‏ وهذا شرط قد خرم مزيّة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، واتّخذه المسلمون ذريعة لترك هذا الواجب‏.‏ ولقد ساء فهمهم فيه إذا مراد مشترطِه أن يتحقَّق الآمر أنّ أمره يجرّ إلى منكر أعظم لاَ أن يخاف أو يتوهّم إذ الوجوب قطعي لا يعارضه إلاّ ظنّ أقوى‏.‏

ولمّا كان تعيين الكفاءة للقيام بهذا الفرض، في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، لتوقّفه على مراتب العلم بالمعروف والمنكر، ومراتب القدرة على التَّغيير، وإفهام النَّاس ذلك، رأَى أيمة المسلمين تعيين ولاة للبحث عن المناكر وتعيين كيفية القيام بتغييرها، وسمّوا تلك الولاية بالحسبة، وقد أولى عمر بن الخطَّاب في هاته الولاية أم الشَفاء، وأشهر من وليها في الدولة العبَّاسيَّة ابن عائشة، وكان رجلاً صلباً في الحق، وتسمّى هذه الولاية في المغرب ولاية السوق وقد وليها في قرطبة الإمام محمَّد بن خالد بن مَرْتَنِيل القرطبي المعروف بالأشجّ من أصحاب ابن القاسم توفِّي سنة 220‏.‏ وكانت في الدولة الحفصيَّة ولاية الحسبة من الولايات النبيهة وربَّما ضمّت إلى القضاء كما كان الحال في تونس بعد الدولة الحفصيَّة‏.‏

وجملة ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ معطوفة على صفات أمَّة وهي الَّتي تضمّنتها جُمَلُ ‏{‏يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ والتقدير‏:‏ وهم مفلحون‏:‏ لأن الفلاح لمّا كان مسبّباً على تلك الصفّات الثلاث جعل بمنزلة صفة لهم، ويجوز جعل جملة ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ حالاً من أمَّة، والواو للحال‏.‏

والمقصود بشارتهم بالفلاح الكامل إن فعلوا ذلك‏.‏ وكان مقتضى الظاهر فصل هذه الجملة عمّا قبلها بدون عطف، مثل فصل جملة ‏{‏أولئك على هدى من ربِّهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ لكن هذه عُطفت أو جاءت حالاً لأن مضمونها جزاء عن الجمل الَّتي قبلها، فهي أجدر بأن تُلحق بها‏.‏

ومفاد هذه الجملة قصر صفة الفلاح عليهم، فهو إمّا قصر إضافي بالنّسبة لمن لم يقم بذلك مع المقدرة عليه وإمّا قصر أريد به المبالغة لعدم الاعتداد في هذا المقام بفلاح غيرهم، وهو معنى قصد الدّلالة على معنى الكمال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة‏}‏ وهو يرجع إلى قوله قبلُ‏:‏ ‏{‏ولا تفرقوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏ لما فيه من تمثيل حال التفرّق في أبشع صوره المعروفة لديهم من مطالعة أحوال اليهود‏.‏ وفيه إشارة إلى أن ترك الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يفضي إلى التفرّق والاختلاف إذ تكثر النزعات والنزغات وتنشقّ الأمَّة بذلك انشقاقاً شديداً‏.‏

والمخاطب به يجري على الاحتمالين المذكورين في المخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة‏}‏ مع أنّه لا شكّ في أن حكم هذه الآية يعمّ سائر المسلمين‏:‏ إمَّا بطريق اللَّفظ، وإمَّا بطريق لَحْن الخطاب، لأن المنهي عنه هو الحالة الشبيهة بحال الَّذين تفرّقوا واختلفوا‏.‏

وأريد بالّذين تفرّقوا واختلفوا الَّذين اختلفوا في أصول الدّين، من اليهود والنَّصارى، من بعد ما جاءهم من الدلائل المانعة من الاختلاف والافتراق‏.‏ وقدّم الافتراق على الاختلاف للإيذان بأن الاختلاف علّة التفرّق وهذا من المفادات الحاصلة من ترتيب الكلام وذكر الأشياء مع مقارناتها، وفي عكسه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا اللَّه ويعلمكم اللَّه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏‏.‏

وفيه إشارة إلى أنّ الاختلاف المذموم والَّذي يؤدّي إلى الافتراق، وهو الاختلاف في أصول الدّيانة الَّذي يفضي إلى تكفير بعض الأمَّة بعضاً، أو تفسيقه، دون الاختلاف في الفروع المبنيّة على اختلاف مصالح الأمَّة في الأقطار والأعصار، وهو المعبّر عنه بالاجتهاد‏.‏ ونحن إذا تقصّينا تاريخ المذاهب الإسلاميَّة لا نجد افتراقاً نشأ بين المسلمين إلا عن اختلاف في العقائد والأصول، دون الاختلاف في الاجتهاد في فروع الشَّريعة‏.‏

والبيِّنات‏:‏ الدلائل الَّتي فيها عصمة من الوقوع في الاختلاف لو قيضت لها أفهام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأولئك لهم عذاب عظيم‏}‏ مقابل قوله في الفريق الآخر‏:‏ ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ فالقول فيه كالقول في نظيره، وهذا جزاء لهم على التفرّق والاختلاف وعلى تفريطهم في تجنّب أسبابه‏.‏