فصل: تفسير الآيات رقم (65- 66)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏65‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي للانتقال من دعائهم لكلمة الحق الجامعة لحق الدين، إلى الإنكار عليهم محاجتهم الباطلة للمسلمين في دين إبراهيم، وزعم كلّ فريق منهم أنهم على دينه توصّلاً إلى أنّ الذي خالف دينهم لا يكون على دين إبراهيم كما يدّعي النبي محمد صلى الله عليه وسلم فالمحاجة فرع عن المخالفة في الدعوى‏.‏ وهذه المحاجة على طريق قياس المساواة في النفي، أو في محاجتهم النبي في دعواه أنه على دين إبراهيم، محاجة يقصدون منها إبطال مساواة دينِه لدين إبراهيم، بطريقة قياس المساواة في النفي أيضاً‏.‏

فيجوز أن تكون هذه الجملة من مقول القول المأمور به الرسولُ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب تعالوا‏}‏ أي قل لهم‏:‏ يا أهل الكتاب لِمَ تحاجون‏.‏ ويجوز أن يكون الاستئناف من كلام الله تعالى عَقِبَ أمرِه الرسولَ بأن يقول ‏{‏تعالَوا‏}‏ فيكون توجيه خطاب إلى أهل الكتاب مباشرة، ويكون جعل الجملة الأولى من مقول الرسول دون هذه لأنّ الأولى من شُؤون الدعوة، وهذه من طرق المجاحّة، وإبطال قولهم، وذلك في الدرجة الثانِيَة مِن الدعوة‏.‏ والكلُ في النسبة إلى الله سواء‏.‏

ومناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى هذا الكلام نشأت من قوله‏:‏ ‏{‏فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏ لأنه قد شاع فيما نزل من القرآن في مكة، وبعدَها أنّ الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الحنيفية دين إبراهيم كما تقدم تقريره في سورة البقرة وكما في سورة النحل ‏(‏‏)‏‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وسيجيء أنّ إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، وقد اشتهر هذا وأعلن بين المشركين في مكة، وبني اليهود في المدينة، وبين النصارى في وَفد نجران، وقد علم أنّ المشركين بمكة كانوا يدّعون أنهم ورثة شريعة إبراهيم وسدنة بيته، وكان أهل الكتاب قد ادّعوا أنهم على دين إبراهيم، ولم يتبين لي أكان ذلك منهم ادّعاء قديماً أم كانوا قد تفطنوا إليه من دعوة محمد، فاستيقظوا لتقليده في ذلك، أم كانوا قالوا ذلك على وجه الإفحام للرسول حين حاجهم بأنّ دينه هو الحق، وأنّ الدين عند الله الإسلام فألْجَؤوه إلى أحد أمرين‏:‏ إما أن تكون الزيادةُ على دين إبراهيم غيرَ مخرجة عن اتِّباعه، فهو مشترَك الإلزام في دين اليهودية والنصرانية، وإما أن تكون مخرجة عن دين إبراهيم فلا يكون الإسلام تابعاً لدين إبراهيم‏.‏

وأحسب أنّ ادّعاءهم أنهم على ملة إبراهيم إنما انتحلوه لبثّ كل من الفريقين الدعوةَ إلى دينه بين العرب، ولا سيما النصرانية، فإنّ دعاتها كانوا يحاولون انتشارها بين العرب فلا يجدون شيئاً يروج عندهم سِوى أن يقولوا‏:‏ إنها ملة إبراهيم، ومن أجل ذلك اتُّبعت في بعض قبائل العرب، وهنالك أخبار في أسباب النزول تثير هذه الاحتمالات‏:‏ فروى أنّ وفد نجران قالوا للنبيء حين دعاهم إلى اتباع دينه‏:‏ على أي دين أنتَ قال‏:‏ على ملة إبراهيم قالوا‏:‏ فقد زدتَ فيه ما لم يكن فيه فعلى هذه الرواية يكون المخاطبُ بأهل الكتاب هنا خصوصَ النصارى كالخطاب الذي قبْله وروى‏:‏ أنه تنازعت اليهود ونصارى نجران بالمدينة، عند النبي، فأدّعي كل فريق أنه على دين إبراهيم دون الاخر، فيكون الخطاب لأهل الكتاب كلهم، من يهود ونصارى‏.‏

ولعل اختلاف المخاطبين هو الداعي لتكرير الخطاب‏.‏

وقوله‏:‏ وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده‏}‏ يكون على حسب الرواية الأولى مَنْعاً لقولهم‏:‏ فقد زدت فيه ما ليس مِنْه، المقصودِ منه إبطال أن يكون الإسلام هو دين إبراهيم‏.‏ وتفصيلُ هذا المنع‏:‏ إنكم لا قبل لكم بمعرفة دين إبراهيم، فمن أين لكم أنّ الإسلام زاد فيما جاء به على دين إبراهيم، فإنكم لا مستند لكم في علمكم بأمور الدين إلاّ التوراةُ والإنجيلُ، وهما قد نَزلا من بعد إبراهيم، فمن أين يعلم ما كانت شريعة إبراهيم حتى يعلمَ المزيد عليهَا، وذكر التوراة على هذا لأنها أصل الإنجيل‏.‏ ويكون على حسب الرواية الثانية نفياً لدعوى كلّ فريق منهما أنه على دين إبراهيم، بِأنّ دين اليهود هو التوراة، ودينَ النصارى هو الإنجيل، وكلاهما نزل بعد إبراهيم، فكيف يكون شريعةً له‏.‏ قال الفخر‏:‏ يعني ولم يُصرّح في أحد هذين الكتابين بأنه مطابقٌ لشريعة إبراهيم، فذكر التوراة والإنجيل على هذا نشرٌ بعد اللف‏:‏ لأنّ أهل الكتاب شَمِل الفريقين، فذكر التوراة لإبطال قول اليهود، وذكرَ الإنجيل لإبطاللِ قول النصارى، وذكر التوراة والإنجيل هنا لقصد جمع الفريقين في التخطئة، وإن كان المقصود بادئ ذي بدء هم النصارى الذين مَساقُ الكلام معهم‏.‏

والأظهر عندي في تأليف المحاجة ينتظم من مجموع قوله‏:‏ ‏{‏وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده‏}‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم‏}‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ فيبطل بذلك دعواهم أنهم على دين إبراهيم، ودعواهم أنّ الإسلام ليس على دين إبراهيم، ويَثْبُتُ عليهم أنّ الإسلام على دين إبراهيم، وذلك أنّ قوله‏:‏ ‏{‏وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده‏}‏ يدل على أنّ علمهم في الدين منحصر فيهما، وهما نزلا بعد إبراهيم فلا جائز أن يكونا عين صحف إبراهيم‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏{‏فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم‏}‏ يُبطل قولهم‏:‏ إنّ الإسلام زاد على دين إبراهيم، ولا يدل على أنهم على دين إبراهيم؛ لأنّ التوراة والإنجيل لم يَرد فيهما التصريح بذلك، وهذا هو الفارق بين انتساب الإسلام إلى إبراهيم وانتساب اليهودية والنصرانية إليه، فلا يقولون وكيف يُدّعَى أنّ الإسلام دين إبراهيم مع أنّ القرآن أنزل من بعد إبراهيم كما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم‏}‏ يدل على أنّ الله أنبأ في القرآن بأنه أرسل محمداً بالإسلام ديننِ إبراهيم وهو أعلم منكم بذلك، ولم يسبق أن امتنّ عليكم بمثل ذلك في التوراة والإنجيل فأنتم لا تعلمون ذلك، فلما جاء الإسلام وأنبأ بذلك أردتم أن تنتحلوا هذه المزية، واستيقظتم لذلك حَسداً على هذه النعمة، فنهضتْ الحجة عليهم، ولم يبق لهم معذرة في أن يقولوا‏:‏ إنّ مجيء التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم مشترَكُ الإلزام لنا ولكم؛ فإنّ القرآن أنزل بعد إبراهيم، ولولا انتظام الدليل على الوجه الذي ذكرنا لَكَانَ مشترك الإلزام‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏فلم تحاجون‏}‏ مقصود منه التنبيه على الغلط‏.‏

وقد أعرض في هذا الاحتجاح عليهم عن إبطال المنافاة بين الزيادة الواقعة في الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على الدين الذي جاء به إبراهيم، وبين وصف الإسلام بأنّه ملّة إبراهيم‏:‏ لأنّهم لم يكن لهم من صحة النظر ما يفرقون به بين زيادة الفروع، واتحاد الأصول، وأنّ مساواة الدينين منظور فيها إلى اتحاد أصولهما سنبينها عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنْ حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي للَّه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏ وعندَ قوله‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً‏}‏ فاكتُفي في المحاجّة بإبطال مستندهم في قولهم‏:‏ «فقد زدت فيه ما ليس فيه على طريقة المنع، ثم بقوله‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 67‏]‏ على طريقة الدعوى بناءً على أنّ انقطاع المعترِض كاففٍ في اتجاه دعوى المستدل‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء حاججتم‏}‏ تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ها أنتم بإثبات ألف هَا وبتخفيف همزة أنتم، وقرأه قالون، وأبو عمرو، ويعقوب‏:‏ بإثبات الألف وتسهيل همزة أنتم، وقرأه ورش بحذف ألف ها وبتسهيل همزة أنتم وبإبدالها ألفاً أيضاً مع المد، وقرأه قنبل بتخفيف الهمزة دون ألف‏.‏

ووقعت ما الاستفهامية بعد لام التعليل فيكون المسؤول عنه هو سبب المحاجة فما صدَق ‏(‏ما‏)‏ علةٌ من العلل مجهولة أي سبب للمحاجّة مجهول؛ لأنه ليس من شأنه أن يعلم لأنه لا وجود له، فلا يعلم، فالاستفهام عنه كناية عن عدمه، وهذا قريب من معنى الاستفهام الإنكاري، وليس عينيه‏.‏

وحذفت ألف ما الاستفهامية على ما هو الاستعمال فيها إذا وقعت مجرورة بحرف نحو ‏{‏عمّ يتساءلون‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1‏]‏ وقول ابننِ معد يكرب‏:‏

عَلاَمَ تَقولُ الرُمْحَ يُثقِلُ عَاتِقي *** والألفات التي تكتب في حروف الجر على صورة الياء‏.‏ إذا جر بواحد من تلك الحروف ‏(‏ما‏)‏ هذه يكتبون الألفات على صورة الألف‏:‏ لأنّ مَا صارت على حرف واحد فأشبهت جزء الكلمة فصارت الألفات كالتي في أواسط الكلمات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في إبراهيم‏}‏ معناه في شَيْء من أحْواله، وظاهر أنّ المراد بذلك هنا دينُه، فهذا من تعليق الحكم بالذات، والمرادُ حال من أحوال الذات يَتعين من المقام كما تَقَدّم في تفسير قوله تعالى‏:‏

‏{‏إنما حَرّم عليكم الميتةَ‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 173‏]‏‏.‏

و ‏(‏ها‏)‏ من قوله‏:‏ ها أنتم‏}‏ تنبيه، وأصل الكلام أنتم حاججتم، وإنما يجيء مثل هذا التركيب في محل التعجب والنكير والتنبيه ونحو ذلك، ولذلك يؤكد غالباً باسم إشارة بعده فيقال ها أناذا، وها أنتم أولاء أو هَؤلاء‏.‏

و ‏{‏حاججتم‏}‏ خبر ‏{‏أنتم‏}‏، ولك أن تجعل جملة حاججتم حالاً هي محل التعجيب باعتبار ما عطف عليها من قوله‏:‏ ‏{‏فلم تحاجون‏}‏‏:‏ لأنّ الاستفهام فيه إنكاري، فمعناه‏:‏ فلا تحاجون‏.‏

وسيأتي بيَان مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هاأنتم أولاء تحبونهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ تكميل للحجة أي إنّ القرآن الذي هومن عند الله أثبت أنه ملة إبراهيم، وأنتم لم تهتدوا لذلك لأنكم لا تعلمون، وهذا كقوله في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 140‏]‏‏:‏ ‏{‏أم تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباطَ كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم اللَّه‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

نتيجة للاستدلال إذ قد تحَصحَص من الحجّة الماضية أنّ اليهودية والنصرانية غير الحنيفية، وأنّ موسى وعيسى، عليهما السلام، لم يخبرا بأنهما على الحنيفية، فأنتج أنّ إبراهيم لم يكن على حال اليهودية أو النصرانية؛ إذ لم يؤْثَر ذلك عن موسى ولا عيسى، عليهما السلام، فهذا سنده خلوّ كتبهم عن ادّعاء ذلك‏.‏ وكيف تكون اليهودية أو النصرانية من الحنيفية مع خلوّها عن فريضة الحج، وقد جاء الإسلام بذكر فرضه لمن تمكن منه، ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن عطية في تفسير قوله تعالى في هذه السورة‏:‏ ‏{‏لا نفرّق بينَ أحد منهم ونحن له مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏ عن عكرمة قال‏:‏ «لما نزلت الآية قال أهل الملل‏:‏ «قد أسلمنا قبلك، ونحن المسلمون» فقال الله له‏:‏ فحُجهم يا محمد وأنزل الله‏:‏ ‏{‏وللَّه على الناس حجّ البيت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ الآية فحجّ المسلمون وقَعد الكفار»‏.‏ ثمّ تمم الله ذلك بقوله‏:‏ وما كان من المشركين، فأبطلت دعاوى الفرق الثلاث‏.‏

والحنيف تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏‏.‏

وقولُه‏:‏ ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين‏}‏ أفاد الاستدراكُ بعد نفي الضدّ حصرَا لحال إبراهيم فيما يوافق أصول الإسلام، ولذلك بُيِّن حنيفاً بقوله‏:‏ ‏{‏مسلماً‏}‏ لأنهم يعرفون معنى الحنيفية ولا يؤمنون بالإسلام، فأعلمهم أنّ الإسلام هو الحنيفية، وقال‏:‏ ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ فنفى عن إبراهيم موافقة اليهودية،‏.‏ وموافقة النصرانية، وموافقة المشركين، وإنه كان مسلماً، فثبتت موافقته الإسلام، وقد تقدم في سورة البقرة ‏[‏135‏]‏ في مواضع أنّ إبراهيم سأل أن يكون مسلماً، وأنّ الله أمره أن يكون مسلماً، وأنه كان حنيفاً، وأنّ الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي كان جاء به إبراهيم ‏{‏وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين‏}‏ وكلّ ذلك لا يُبقي شكاً في أنّ الإسلام هو إسلام إبراهيم‏.‏

وَقد بينتُ آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏ الأصولَ الداخلة تحت معنى ‏{‏أسلمتُ وجهي لله‏}‏ فلنفرضها في معنى قول إبراهيم‏:‏ ‏{‏إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏ فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وأعلنه إعلاناً لم يَترك للشرك مسلكاً إلى نفوس الغافلين، وأقام هيكلاً وهو الكعبة، أول بيت وضع للناس، وفرض حَجّه على الناس‏:‏ ارتباطاً بمغزاه، وأعلَن تمام العبودية لله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏ولا أخاف مَا تشركون به إلاّ أن يشاء ربّي شيئاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 80‏]‏ وأخلص القول والعمل لله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم يُنزِّل به عليكم سلطاناً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 81‏]‏ وتَطَلّب الهُدى بقوله‏:‏ ‏{‏ربنا واجعلنا مسلمَيْننِ لك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏ ‏{‏وأرنا مناسكنا وتُب علينا‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 128‏]‏ وكسر الأصنام بيده ‏{‏فجعلهم جذاذاً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 58‏]‏، وأظهر الانقطاع لله بقوله‏:‏ ‏{‏الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 78 81‏]‏، وتصَدّى للاحتجاج على الوحدانية وصفات الله ‏{‏قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ ‏{‏وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم على قومه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 83‏]‏ ‏{‏وحاجهُ قومه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 80‏]‏‏.‏

وعطف قوله‏:‏ ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ ليَيْأس مُشْرِكو العرب من أن يكونوا على ملّة إبراهيم، وحتى لا يتوهم متوهم أنّ القصر المستفاد من قوله‏:‏ ‏(‏ولكن حنيفاً مسلماً‏)‏ قصرٌ إضافي بالنسبة لليهودية والنصرانية، حيث كان العرب يزعمون أنهم على ملّلا إبراهيم لكنهم مشركون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

استئناف ناشيء عن نفي اليهودية والنصرانية عن إبراهيم، فليس اليهود ولا النصارى ولا المشركون بأولى الناس به، وهذا يدل على أنهم كانوا يقولون‏:‏ نحن أولى بدينكم‏.‏

و ‏(‏أولى‏)‏ اسم تفضيل أي أشد ولْياً أي قرباً مشتق من وَلِي إذا صار وَليّاً، وعدّي بالباء لتضمّنه معنى الاتصال أي أخصّ الناس بإبراهيم وأقربهم منه‏.‏ ومن المفسّرين من جعل أولى هنا بمعنى أجدر فيضطرّ إلى تقدير مضاف قبل قوله‏:‏ ‏{‏بإبراهيم‏}‏ أي بدين إبراهيم‏.‏

والذين اتبعوا إبراهيم هم الذين اتبعوه في حياته‏:‏ مثل لوط وإسماعيل وإسحاقَ، ولا اعتداد بمحاولة الذين حاولوا اتباع الحنيفية ولم يهتدوا إليها، مثل زيد بن عَمْرو بن نُفَيْل، وأميةَ ابن أبي الصّلْت، وأبيه أبي الصَّلت، وأبي قيْس صِرمَة بن أبي أنس من بني النجّار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كاد أمية بن أبي الصّلْت، أن يُسلم ‏"‏ وهو لم يدرك الإسلام فالمعنى كاد أن يكون حنيفاً، وفي «صحيح البخاري»‏:‏ أنّ زيد بن عَمرو بن نُفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين فلقي عالماً من اليهود، فسأله عن دينه فقال له‏:‏ إنّي أريد أن أكونَ على دينك، فقال اليهوديّ‏:‏ إنّك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله، قال زيد‏:‏ أفِرُّ إلاّ من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا‏؟‏ قال‏:‏ لا أعلمه إلاّ أن تكون حنيفاً، قال‏:‏ وما الحنيف‏؟‏ قال‏:‏ دين إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً وكان لا يعبد إلاّ الله، فخرج من عنده فلقي عالماً من النصارى فقاوله مثل مقاولة اليهودي، غير أنّ النصراني قال‏:‏ أن تأخذ بنصيبك من لَعنة الله، فخرج من عنده وقد اتفقا له على دين إبراهيم، فلم يزل رافعاً يديه إلى السماء وقال‏:‏ اللهم أشهَدْ أنّي على دين إبراهيم وهذا أمنية منه لا تصادف الواقع‏.‏ وفي «صحيح البخاري»، عن أسماء بنت أبي بكر‏:‏ قالت‏:‏ رأيت زيدَ بن عَمرو بن نُفيل قبل الإسلام مسنِداً ظهره إلى الكعبة وهو يقول‏:‏ «يا معشر قريش ليس منكم على دين إبراهيم غيري» وفيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيدَ بن عمرو بن نُفيل بأسفل بَلْدَح قبل أن يَنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فقُدِّمَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم سُفرة فأبى زيدُ بن عمرو أنْ يأكل منها وقال‏:‏ إنّي لست آكل ممّا تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه وهذا توهّم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كما تفعل قريش‏.‏ وإنّ زيداً كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول‏:‏ الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء أنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله‏.‏

واسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏وهذا النبي‏}‏ مستعمل مجازاً في المشتهر بوصف بين المخاطبين كقوله في الحديث‏:‏ ‏"‏ فجعل الفَرَاشُ وهذه الدّوَابُّ تقع في النار ‏"‏ فالإشارة استعملت في استحضار الدوابّ المعروفة بالتساقط على النار عند وقودها، والنبي ليس بمشاهد للمخاطبين بالآية، حينئذ، ولا قُصدت الإشارة إلى ذاته‏.‏ ويجوز أن تكون الإشارة مستعملة في حضور التكلم باعتبار كون النبي هو الناطق بهذا الكلام، فهو كقول الشاعر‏:‏ «نجوتتِ وهَذا تحملين طَليق» أي والمتكلّم الذي تحملينه‏.‏ والاسم الواقع بعد اسم الإشارة، بدلاً منه، هو الذي يعين جهة الإشارة مَا هي‏.‏ وعطف النبي على الذين اتبعوا إبراهيم للاهتمام به وفيه إيماء إلى أنّ متابعته إبراهيم عليه السلام ليست متابعة عامة فكون الإسلام من الحنيفية أنّه موافق لها في أصولها‏.‏ والمراد بالذين آمنوا المسلمون‏.‏ فالمقصود معناه اللقَبي، فإنّ وصف الذين آمنوا صار لقباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك كثر خطابهم في القرآن بيأيها الذين آمنوا‏.‏

ووجه كون هذا النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا أولى الناس بإبراهيم، مثل الذين اتبعوه، إنّهم قد تخلقوا بأصول شرعه، وعرفوا قدره، وكانوا له لسان صدق دائباً بذكره، فهؤلاء أحقّ به ممّن انتسبوا إليه لكنهم نقضوا أصول شرعه وهم المشركون، ومن الذين انتسبوا إليه وأنسوا ذكر شرعه، وهم اليهود والنصارى، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سَأل عن صوم اليهود، يوم عاشوراء فقالوا‏:‏ هو يوم نجّى الله فيه موسى فقال‏:‏ «نَحْن أحقّ بموسى منهم» وصامه وأمر المسلمين بصومه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله ولي المؤمنين‏}‏ تذييل أي هؤلاء هم أولى الناس بإبراهيم، والله ولي إبراهيم، والذين اتبعوه، وهذا النبي، والذين آمنوا؛ لأنّ التذييل يشمل المذيَّل قطعاً، ثم يشمل غيره تكميلاً كالعام على سبب خاص‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏والله ولي المؤمنين‏}‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏كان إبراهيم يهودياً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 67‏]‏ تعريض بأنّ الذين لم يكن إبراهيم منهم ليسوا بمؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

ئناف مناسبتُه قوله‏:‏ ‏{‏فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون إلى قوله ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64 68‏]‏ إلخ‏.‏ والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة، ولذلك عُبّر عنهم بطائفة من أهل الكتاب لئلاّ يتوهم أنهم أهل الكتاب الذين كانت المحاجة مَعهم في الآيات السابقة‏.‏

والمراد بالطائفة جماعة منهم من قريظة، والنضير، وقَينُقاع، دَعَوا عمَّار بن ياسر، ومعاذَ بن جبل، وحذيفةَ بن اليمان، إلى الرجوع إلى الشرك‏.‏

وجملة لو يضلونكم مبينة لمضمون جملة ودّت، على طريقة الإجمال والتفصيل‏.‏ فلو شرطية مستعملة في التمنّي مجازاً لأنّ التمنّي من لوازم الشرط الامتناعي‏.‏ وجواب الشرط محذوف يدل عليه فعل وَدّت تقديره‏:‏ لو يضلونكم لحصل مودودهم، والتحقيق أنّ التمنّي عارض من عوارض لَوْ الامتناعية في بعض المقامات‏.‏ وليس هو معنى أصلياً من معاني لو‏.‏ وقد تقدم نظير هذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 96‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لو يضلونكم‏}‏ أي ودّوا إضلالكم وهو يحتمل أنهم ودّوا أن يجعلوهم على غير هدى في نظر أهل الكتاب‏:‏ أي يذبذبوهم، ويحتمل أنّ المراد الإضلال في نفس الأمر، وإن كان وُدُّ أهل الكتاب أن يهوّدوهم‏.‏ وعلى الوجهين يحتمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يضلون إلا أنفسهم‏}‏ أن يكون معناه‏:‏ إنهم إذا أضلوا الناس فقد صاروا هم أيضاً ضالين؛ لأنّ الإضلال ضلال، وأن يكون معناه‏:‏ إنهم كانوا من قبل ضالين برضاهم بالبقاء على دين منسوخ وقوله‏:‏ ‏{‏وما يشعرون‏}‏ يناسب الاحتمالين لأنّ العلم بالحالتين دقيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

التفات إلى خطاب اليهود‏.‏ والاستفهامُ إنكاري‏.‏ والآيات‏:‏ المعجزات، ولذلك قال وأنتم تشهدون‏.‏ وإعادة ندائهم بقوله‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ ثانيةً لقصد التوبيخ وتسجيل باطلهم عليهم‏.‏ ولبس الحق بالباطل تلبيس دينهم بما أدخلوا فيه من الأكاذيب والخرافات والتأويلات الباطلة، حتى ارتفعت الثقة بجميعه‏.‏ وكتمان الحق يحتمل أن يراد به كتمانهم تصديق محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يراد به كتمانهم ما في التوراة من الأحكام التي أماتوها وعوّضوها بأعمال أحبارهم وآثار تأويلاتهم، وهم يعلمونها ولا يعملون بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏ودت طائفة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 69‏]‏‏.‏ فالطائفة الأولى حاوَلت الإضلال بالمجاهرة، وهذه الطائفة حاولتْه بالمخادعة‏:‏ قيل أشير إلى طائفة من اليهود منهم كَعْب بن الأشْرَف، ومالك بن الصيف، وغيرهما من يهود خيبر، أغواهم العجب بدينهم فتوهموا أنهم قدوة للناس فلما أعيتهم المجاهرة بالمكابرة دبروا للكيد مكيدة أخرى، فقالوا لطائفة من أتباعهم‏:‏ «آمِنوا بمحمد أولَ النهار مظهرين أنكم صدّقتموه ثم اكفُروا آخر النهار ليظهر أنكم كفرتم به عن بصيرة وتجربة فيقول المسلمون مَا صرف هؤلاء عنا إلاّ ما انكشف لهم من حقيقة أمر هذا الدين، وأنّه ليس هو الدين المبشر به في الكتب السالفة» ففعلوا ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏على الذين آمنوا‏}‏ يحتمل أنه من لفظ الحكاية بأن يكون اليهود قالوا آمِنوا بالذي أنزل على أتباع محمد فحوّله الله تعالى فقال على الذين آمنوا تنويهاً بصدق إيمانهم‏.‏ ويحتمل أنه من المحكيّ بأن يكون اليهود أطلقوا هذه الصلة على أتباع محمد إذ صارت علماً بالغلبة عليهم‏.‏ ووجهُ النهار أوله وتقدم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجيهاً في الدنيا والآخرة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ من كلام الطائفة من أهل الكتاب قصدوا به الاحتراس ألا يظنوا من قولهم آمِنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجهَ النهار أنه إيمان حَقُّ، فالمعنى ولا تؤمنوا إيماناً حقاً إلاّ لمن تَبع دينكم، فأما محمد فلا تؤمنوا به لأنه لم يتبِع دينكم فهذا تعليل للنهي‏.‏

وهذا اعتذار عن إلزامهم بأنّ كتبهم بشرت بمجيء رسول مقفّ فتوهموا أنه لا يجيء إلاّ بشريعة التوراة، وضلوا عن عدم الفائدة في مَجيئه بما في التوراة لأنه من تحصيل الحاصل، فينزّه فعلُ الله عنه، فالرسول الذي يجيء بعد موسى لا يكون إلاّ ناسخاً لبعض شريعة التوراة فجمعُهم بين مقالة‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا‏}‏ وبين مقالة‏:‏ ‏{‏ولا تؤمنوا‏}‏ مثل ‏{‏وما رميت إذ رميت‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏ كلام معترض، أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوله لهم‏.‏ كنايةً عن استبعاد حصول اهتدائهم، وأنّ الله لم يهدهم، لأنّ هدى غيره أي محاولته هدى الناس لا يحصل منه المطلوب، إذا لم يقدّره الله‏.‏ فالقصر حقيقي‏:‏ لأنّ ما لم يقدّره الله فهو صورة الهدى وليس بهُدى وهو مقابل قولهم‏:‏ آمنوا بالذي أنزل ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم، إذْ أرادوا صورة الإيمان، وما هو بإيمان، وفي هذا الجواب إظهار الاستغناء عن متابعتهم‏.‏

‏{‏أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ‏}‏‏.‏

أشكل موقعُ هذه الآية بعد سابقتها وصفَ نظمها، ومصرَف معناها‏:‏ إلى أي فريق‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ إنها أشكَلُ آية في هذه السورة‏.‏

وذكر ابن عطية وجوها ثمانية‏.‏ ترجع إلى احتمالين أصليين‏.‏

الاحتمال الأول أنها تكملة لمحاورة الطائفةِ من أهل الكتاب بعضهم بعضاً، وأن جملة ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏ معترضة في أثناء ذلك الحِوار، وعلى هذا الاحتمال تأتي وجوه نقتصر منها على وجهين واضحين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أرادوا تعليل قولهم‏:‏ ‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ على أن سياق الكلام يقتضي إرادتهم استحالة نسخ شريعة التوراة، واستحالة بعثة رسول بعد موسى، وأنه يُقدّر لام تعليل محذوف قبل ‏(‏أنْ‏)‏ المصدرية وهو حذف شائع مثلُه‏.‏ ثم إما أن يقدر حرف نفي بعد ‏(‏أنْ‏)‏ يدل عليه هذا السياق ويَقتضيه لفظ ‏(‏أحد‏)‏ المرادِ منه شمول كلّ أحد‏:‏ لأنّ ذلك اللفظَ لا يستعمل مراداً منه الشمول إلاّ في سياق النفي، ومَا في معنيّ النفي مثللِ استفهام الإنكار، فأما إذا استعمل ‏(‏أحَد‏)‏ في الكلام الموجَب فإنه يكون بمعنى الوصف بالوحْدة، وليس ذلك بمناسب في هذه الآية‏.‏

فتقدير الكلام لأن لا يوتى أحد مثل ما أوتيتم وحذفُ حرف النفي بعد لام التعليل، ظاهرةً ومقدّرةً، كثيرٌ في الكلام، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُبين اللَّه لكم أن تضلوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏، أي لئلاّ تضلوا‏.‏

والمعنى‏:‏ أنّ قصدهم من هذا الكلام تثبيتُ أنفسهم على ملازمة دين اليهودية، لأن اليهود لا يجوِّزون نسخَ أحكام الله، ويتوهمون أنّ النسخ يقتضي البَدَاء‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنهم أرادوا إنكار أن يوتَى أحد النبوءة كما أوتيها أنبياءُ بني إسرائيل فيكون الكلام استفهاماً إنكارياً حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة السياق؛ ويؤيده قراءةُ ابن كثير قوله‏:‏ ‏{‏أن يؤتى أحد‏}‏ بهمزتين‏.‏

وأما قوله‏:‏ أو يحَاجوكم عندَ ربكم فحَرْف ‏(‏أو‏)‏ فيه للتقسيم مثل ‏{‏ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 24‏]‏ ‏(‏أو‏)‏ معطوف على النفي، أو على الاستفهام الإنكاري‏:‏ على اختلاف التقديرين، والمعنى‏:‏ ولا يحاجوكم عند ربكم أو وكيف يحاجونكم عند ربكم، أي لا حجة لهم عليكم عند الله‏.‏

وواو الجمع في ‏{‏يحاجوكم‏}‏ ضمير عائد إلى ‏(‏أحد‏)‏ لدلالته على العموم في سياق النفي أو الإنكار‏.‏

وفائدة الاعتراض في أثناء كلامهم المبادرة بما يفيد ضلالهم لأنّ الله حرمهم التوفيق‏.‏

الاحتمال الثاني أن تكون الجملة مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم بقيةً لقوله‏:‏ «إنّ الهُدى هُدى الله»‏.‏

والكلام على هذا ردّ على قولهم‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار‏}‏ وقولهم ‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ على طريقة اللفّ والنشر المعكوس، فقوله‏:‏ ‏{‏أن يأتى أحد مثل ما أوتيتم‏}‏ إبطال لقولهم‏:‏ ‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏}‏ أي قلتم ذلك حسَداً من أنْ يؤتي أحدٌ مثلَ ما أوتيتم وقوله‏:‏ ‏{‏أو يحاجوكم‏}‏ ردّ لقولهم‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره‏}‏ على طريقة التهكم، أي مرادكم التنصّل من أن يحاجوكم أي الذين آمنوا عند الله يوم القيامة، فجمعتم بين الإيمان بما آمن به المسلمون، حتى إذا كان لهم الفوز يوم القيامة لا يحاجونكم عند الله بأنكم كافرون، وإذا كان الفوز لكم كنتم قد أخذتم بالحَزم إذ لم تبطلوا دين اليهودية، وعلى هذا فواو الجماعة في قوله‏:‏ ‏{‏أو يحاجوكم‏}‏ عائد إلى الذين آمنوا‏.‏

وهذا الاحتمال أنسب نظماً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن الفضل بيد اللَّه‏}‏، ليكون لِكلّ كلام حُكي عنهم تلقينُ جواببٍ عنه‏:‏ فجواب قولهم‏:‏ ‏{‏آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا‏}‏ الآية، قولُه‏:‏ ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏‏.‏ وجواب قولهم‏:‏ ‏{‏ولا تؤمنوا‏}‏ إلخ قولُه‏:‏ قل إنّ الفضل بيد الله إلخ‏.‏ فهذا مِلاك الوجوه، ولا نطيل باستيعابها إذْ ليس من غرضنا في هذا التفسير‏.‏

وكلمة ‏{‏أحد‏}‏ اسم نكرة غلب استعمالها في سياق النفي ومعناها شخص أو إنسان وهو معدود من الأسماء التي لا تقع إلاّ في حيّز النفي فيفيد العموم مثل عَرِيب ودَيَّار ونحوهما وندر وقوعه في حيّز الإيجاب، وهمزته مبدلة من الواو وأصلَه وَحَد بمعنى واحد ويرد وصفاً بمعنى واحد‏.‏ ‏[‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أن يُؤتَى أحد‏}‏ بهمزة واحدة هي جزء من حرف ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏ وقرأه ابن كثير بهمزتين مفتوحتين أولاهما همزة استفهام والثانية جزء من حرف ‏(‏أنْ‏)‏ وسهل الهمزة الثانية‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله واسع عَلِيمٌ‏}‏ ‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم‏}‏‏.‏

زيادة تذكير لهم وإبطال لإحالتهم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً من الله، وتذكير لهم على طرح الحسد على نعم الله تعالى أي كما أعطى الله الرسالة موسى كذلك أعطاها محمداً، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللَّه من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وتأكيد الكلام ب ‏(‏إنّ‏)‏ لتنزيلهم منزلة من ينكر أنّ الفضل بيد الله ومن يحسب أنّ الفضل تبع لشهواتهم وجملة ‏{‏والله واسع عليم‏}‏ عطف على جملة أنّ الفضل بيد الله إلخ أي أنّ الفضل بيد الله وهو لاَ يخفى عليه من هو أهل لنوال فضله‏.‏

و ‏{‏واسع‏}‏ اسم فاعل الموصوف بالسعة‏.‏

وحقيقة السعة امتداد فضاء الحَيِّز من مكاننٍ أو ظرففٍ امتداداً يكفي لإيواء ما يحويه ذلك الحيز بدون تزاحم ولا تداخل بين أجزاء المحويّ، يقال أرض واسعة وإناء واسع وثوب واسع، ويطلق الاتساع وما يشتقّ منه على وفاء شيء بالعمل الذي يعملَه نوعُه دون مشقة يقال‏:‏ فلان واسع البال، وواسع الصدر، وواسع العطاء‏.‏ وواسععِ الخُلُق، فتدلّ على شدّةِ أو كثرةِ ما يسند إليه أو يوصف به أو يعلق به من أشياء ومعاننٍ، وشاع ذلك حتى صار معنى ثانياً‏.‏

و ‏{‏وَاسع‏}‏ من صفات الله وأسمائِه الحسنى وهو بالمعنى المجازي لا محالة لاستحالة المعنى الحقيقي في شأنه تعالى، ومعنى هذا الاسم عدمُ تناهي التعلقات لصفاته ذاتتِ التعلق فهو واسع العلم، واسع الرحمة، واسع العطاء، فسعة صفاته تعالى أنها لا حدّ لتعلقاتها، فهو أحقّ الموجودات بوصف واسع، لأنه الواسع المطلق‏.‏

وإسناد وصف واسع إلى اسمه تعالى إسناد مجازي أيضاً لأنّ الواسع صفاتُه ولذلك يُؤتَى بعد هذا الوصف أو ما في معناه من فعل السعة بما يميز جهة السعة من تمييز نحو‏:‏ وَسِع كل شيء علماً، ربنا وسعت كلّ شيء رحمةً وعلماً‏.‏ فوصفه في هذه الآية بأنه واسع هو سعة الفضل لأنه وقع تذييلاً لقوله‏:‏ ذلكَ فضل الله يؤتيه من يشاء‏.‏

وأحسب أنّ وصف الله بصفة واسع في العربية من مبتكرات القرآن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عليم‏}‏ صفة ثانية بقوة علمه أي كثرة متعلّقات صفة علمه تعالى‏.‏

ووصفه بأنه عليم هنا لإفادة أنه عليم بمن يستأهل أن يؤتيه فضلَه ويدل على علمه بذلك ما يظهر من آثار إرادته وقدرته الجارية على وفق علمه متى ظهر للناس ما أودعه الله من فضائل في بعض خلقه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏يختص برحمته من يشاء‏}‏ بدل بعض من كل لجملة ‏{‏إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء‏}‏ فإنّ رحمته بعض مما هو فضله‏.‏

وجملة ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏ تذييل وتقدم تفسير نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللَّه يختص برحمته من يشاء واللَّه ذو الفضل العظيم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 105‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 72‏]‏ أو على قوله‏:‏ ‏{‏ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 69‏]‏ عطف القصة على القصة والمناسبة بيان دخائل أحوال اليهود في معاملة المسلمين الناشئة عن حسدهم وفي انحرافهم عن ملة إبراهيم مع ادّعائهم أنهم أولَى الناس به، فقد حكى في هذه الآية خيانة فريق منهم‏.‏

وقد ذكر الله هنا أنّ في أهل الكتاب فريقين‏:‏ فريقاً يؤدّي الأمانة تعففاً عن الخيانة وفريقاً لا يؤدّي الأمانة متعلّلين لإباحة الخيانة في دينهم، قيل‏:‏ ومن الفريق الأول عبد الله بن سلام، ومن الفريق الثاني فِنْحَاص بن عازوراء وكلاهما من يهود يثرب والمقصود من الآية ذمّ الفريق الثاني إذ كان من دينهم في زعمهم إباحة الخَون قال‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمين سبيل‏}‏ فلذلك كان المقصود هو قوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك‏}‏ إلخ ولذلك طُوِّل الكلام فيه‏.‏

وإنما قدّم عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار‏}‏ إنصافاً لحقّ هذا الفريق، لأنّ الإنصاف مما اشتهر به الإسلام، وإذ كان في زعمهم أنّ دينهم يبيح لهم خيانة غيرهم، فقد صار النعيُ عليهم، والتعبيرُ بهذا القول لازمَاً لجميعهم أمينهم وخائنهم، لأنّ الأمين حينئذ لا مزية له إلاّ في أنّه ترك حقاً يبيح له دينُه أخذه، فترفّع عن ذلك كما يترفع المتغالي في المروءة عن بعض المباحات‏.‏

وتقديم المسند في قوله‏:‏ ‏{‏ومن أهل الكتاب‏}‏ في الموضعين للتعجيب من مضمون صلة المسند إليهما‏:‏ ففي الأول للتعجيب من قوة الأمانة، مع إمكان الخيانة ووجود العذر له في عادة أهل دينه، وفي الثاني للتعجيب من أن يكون الخوْن خُلْقاً لمتبع كتاب من كتب الله، ثم يزيد التعجيبُ عند قوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا‏}‏ فيكسب المسند إليهما زيادة عجَب حاللٍ‏.‏

وعُدّي ‏{‏تأمنه‏}‏ بالباء مع أنّ مثله يتعدّى بعلي كقوله‏:‏ ‏{‏هل آمنكم عليه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 64‏]‏، لتضمينه معنى تُعامله بقنطار ليشمل الأمانة بالوديعة، والأمانةَ بالمعاملة على الاستيمان، وقيل الباء فيه بمعنى على كقول أبي ذرّ أو عباسسٍ بن مِرداس‏:‏

أربٌّ يَبولُ الثعْلُبَان بِرَأسه ***

وهو محمل بعيد، لأنّ الباء في البيت للظرفية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ببطن مكة‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يؤدّهِ‏}‏ إليك بكسر الهاء من يؤدّهِ على الأصل في الضمائر‏.‏

وقرأه أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وأبُو جعفر‏:‏ بإسكان هاء الضمير في يؤدّه، فقال الزجاج‏:‏ هذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيِّن لأنّ الهاء لا ينبغي أن تجزم وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تكسر في الوصل ‏(‏هكذا نقله ابن عطية ومعناه أنّ جزم الجواب لا يظهر على هاء الضمير بل على آخر حرف من الفعل ولا يجوز تسكينها في الوصل كما في أكثر الآيات التي سكنوا فيها الهاء‏)‏‏.‏

وقيل هو إجرَاء للوصل مُجرى الوقف وهو قليل، قال الزجاج‏:‏ وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسر فغلط عليه من نقله وكلام الزجاج مردود لأنه راعى فيه المشهور من الاستعمال المقيس، واللغة أوسع من ذلك، والقراءة حجة‏.‏ وقرأه هشام عن ابن عامر، ويعقوب باختلاس الكسر‏.‏

وحكى القرطبي عن الفرّاء‏:‏ أنّ مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرّك ما قبلها يقولون ضربته كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصله الرفع وهذا كما قال الراجز‏:‏

لَما رَأى ألاّ دَعَهْ ولاَ شِبَع *** مَالَ إلى أرْطَاةِ حقف فاضطجع

والقِنطار تقدم آنفاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والقَناطير المقنطرة من الذهب والفضة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏

والدينار اسم للمسكوك من الذهب الذي وزنه اثنتان وسبعون حبة من الشعير المتوسط وهو معرّب دِنَّار من الرومية‏.‏

وقد جعل القنطار والدينار مَثَلين للكثرة والقلة، والمقصود ما يفيده الفحوى من أداء الأمانة فيما هو دون القنطار، ووقوع الخيانة فيما هو فوق الدينار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا ما دمت عليه قائماً‏}‏ أطلق القيام هنا على الحرص والمواظبة‏:‏ كقوله‏:‏ ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ أي لا يفعل إلاّ العدل‏.‏

وعديّ «قائماً» بحرف ‏(‏على‏)‏ لأنّ القيام مجاز على الإلحاح والترداد فتعديته بحرف الاستعلاء قرينة وتجريد للاستعارة‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما دمت عليه قائماً‏}‏ حرف مصدري يصير الفعل بعده في تأويل مصدر، ويكثر أن يقدر معها اسم زمان ملتزَمٌ حذفه يدل عليه سياق الكلام فحينئذ يقال ما ظرفية مصدرية‏.‏ وليست الظرفية مدلولها بالأصالة ولا هي نائبة عن الظرف، ولكنها مستفادة من موقع ‏(‏مَا‏)‏ في سياق كلام يؤذن بالزمان، ويكثر ذلك في دخول ‏(‏ما‏)‏ على الفعل المتصرّف من مادة دَام ومرادفها‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ في هذه الآية كذلك فالمعنى‏:‏ لا يؤدّه إليك إلاّ في مدة دوام قيامك عليه أي إلحاحك عليه‏.‏ والدوام حقيقته استمرار الفعل وهو هنا مجاز في طول المدة، لتعذر المعنى الحقيقي مع وجود أداة الاستثناء، لأنه إذا انتهى العمر لم يحصل الإلحاح بعدَ الموت‏.‏

والاستثناء من قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما دمت عليه قائماً‏}‏ يجوز أن يكون استثناء مفرّغاً من أوقات يدل عليها موقع ‏(‏مَا‏)‏ والتقدير لا يؤدّه إليك في جميع الأزمان إلاّ زماناً تدوم عليه فيه قائماً فيكون ما بعد ‏(‏إلاّ‏)‏ نصباً على الظرففِ، ويجوز أن يكون مفرّغاً من مصادر يَدل عليها معنى ‏(‏ما‏)‏ المصدرية، فيكون ما بعده منصوباً على الحال لأنّ المصدر يقع حالاً‏.‏

وقدّم المجرور على متعلقه في قوله‏:‏ ‏{‏عليه قائماً‏}‏ للاهتمام بمعنى المجرور، ففي تقديمه معنى الإلحاح، أي إذا لم يكن قيامُك عليه لا يُرجعُ لك أمانتك‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا‏}‏ إلى الحكم المذكور وهو ‏{‏إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك‏}‏ وإنما أشير إليه لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الشأن العجيب‏.‏

والباء للسبب أي ذلك مُسَببٌ عن أقوال اختلقوها، وعبّر عن ذلك بالقول، لأنّ القول يصدر عن الاعتقاد، فلذا ناب منابه فأطلق على الظنّ في مواضع من كلام العرب‏.‏

وأرادوا بالأميين من ليسوا من أهل الكتاب في القديم، وقد تقدم بيان معنى الأمي في سورة البقرة‏.‏

وحرف ‏(‏في‏)‏ هنا للتعليل‏.‏ وإذ قد كان التعليل لا يتعلق بالذوات، تعيَّن تقدير مضاف مجرور بحرف ‏(‏في‏)‏ والتقدير في معاملة الأمّيّين‏.‏

ومعنى ليس علينا في الأميين سبيل ليس علينا في أكل حقوقهم حرج ولا إثم، فتعليق الحكم بالأميين أي ذواتِهم مراد منه أعلق أحوالهم بالغرض الذي سبق له الكلام‏.‏

فالسبيل هنا طريق المؤاخذة، ثم أطلق السبيل في كلام العرب مجازاً مشهوراً على المؤاخذة قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا على المحسنين من سبيل‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنما السبيل على الذين يستأذنوك‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 93‏]‏ وربما عبّر عنه العرب بالطريق قال حُميد بن ثور‏:‏

وهل أنا إن علّلتُ نفسي بسَرحة *** من السرْح موجود عليَّ طريق

وقصدهم بذلك أن يحقروا المسلمين، ويتطاولوا بما أوتوه من معرفة القراءة والكتابة مِنْ قبلهم‏.‏ أو أرادوا الأميين بمعرفة التوراة، أي الجاهلين‏:‏ كناية عن كونهم ليسوا من أتباع دِين موسى عليه السلام‏.‏

وأيَّاماً كان فقد أنْبَأ هذا عن خلق عجيب فيهم، وهو استخفافهم بحقوق المخالفين لهم في الدين، واستباحةُ ظلمهم مع اعتقادهم أنّ الجاهل أو الأمّي جدير بأن يدحَضُ حقُه‏.‏ والظاهر أنّ الذي جرّأهم علَى هذا سوء فهمهم في التوراة، فإنّ التوراة ذكرت أحكاماً فرّقت فيها بين الإسرائيلي وغيره في الحقوق، غير أنّ ذلك فيما يرجع إلى المؤاساة والمخالطة بين الأمة، فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الخامس عشر‏:‏ «في آخر سبع سنين تعمل إبراء يبرئ كلُ صاحب دين يدَه ممّا أقرض صاحبه‏.‏ الأجنبيَّ تُطالِب، وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئة» وجاء في «الإصحاح» 23 منه‏:‏ «لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام وللأجنبي تُقرض بربا» ولكن شَتان بين الحقوق وبين المؤاساة فإنّ تحريم الربا إنما كان لقصد المؤاساة، والمؤاساة غير مفروضة مع غير أهل الملّة الواحدة‏.‏ وعن ابن الكلبي قالت اليهود‏:‏ الأموال كلّها كانت لنا، فما في أيدي العرب منها فهو لنا، وإنهم ظلمونا وغصَبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم‏.‏ وهذا الخلقان الذميمان اللذان حكاهما الله عن اليهود قد اتصف بهما كثير من المسلمين، فاستحلّ بعضهم حقوق أهل الذمة، وتأوّلوها بأنهم صاروا أهل حرب، في حين لا حرب ولا ضرب‏.‏

وقد كذّبهم الله تعالى في هذا الزعم فقال‏:‏ ‏{‏ويقولون على الله الكذب‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إنهم ادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم‏.‏ وروى عن سعيد بن جبير أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أهل الكتاب من إن تأمنه‏}‏ إلى قوله ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم «كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلاّ وهو تحت قدميّ هاتين إلاّ الأمانة فإنها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر‏.‏

وقوله وهم يعلمون حال أي يعتمدون الكذب‏:‏ إما لأنهم علموا أنّ ما قاسوه على ما في كتابهم ليس القياس فيه بصحيح، وإما لأنّ التأويل الباطل بمنزلة العلم بالكذب، إذ الشبهة الضعيفة كالعهد‏.‏

و ‏(‏بَلى‏)‏ حرف جواب وهو مختص بإبطال النفي فهو هنا لإبطال قولهم‏:‏ ‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏‏.‏

و ‏(‏بلى‏)‏ غير مختصّة بجواب الاستفهام المنفي بل يجاب بها عند قصد الإبطال، وأكثر مواقعها في جواب الاستفهام المنفي، وجيء في الجواب بحكم عام ليشمل المقصود وغيره‏:‏ توفيراً للمعنى، وقصْداً في اللفظ، فقال‏:‏ ‏{‏من أوفى بعهده‏}‏ أي لم يخن، لأنّ الأمانة عهد، ‏{‏واتقى‏}‏» ربه فلم يدحَض حق غيره ‏{‏إنّ الله يحبّ المحسنين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏ أي الموصوفين بالتقوى، والمقصود نفي محبة الله عن ضدّ المذكور بقرينة المقام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

مناسبة هذه الآية لما قبلها أنّ في خيانة الأمانة إبطالاً للعهد، وللحلف الذي بينهم، وبين المسلمين، وقريششٍ‏.‏ والكلامُ استئناف قصد منه ذكر الخُلق الجامع لشتات مساوئ أهل الكتاب من اليهود، دعا إليه قوله وَدّت طائفة من أهل الكتاب وما بعده‏.‏

وقد جرت أمثال هذه الأوصاف على اليهود مفرّقة في سورة البقرة ‏(‏40‏)‏‏:‏ ‏{‏أوفوا بعهدي، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ ‏{‏ماله في الآخرة من خلاق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏ ‏{‏ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزيكهم‏}‏ ‏[‏البرة‏:‏ 174‏]‏‏.‏ فعلمنا أنهم المراد بذلك هنا‏.‏ وقد بينا هنالك وجه تسمية دينهم بالعهد وبالميثاق، في مواضع، لأنّ موسى عاهدهم على العمل به، وبينا معاني هذه الأوصاف والأخبار‏.‏

ومعنى ‏{‏ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة‏}‏ غَضَبُه عليهم إذ قد شاع نفي الكلام في الكناية عن الغضب، وشاع استعمال النظر في الإقبال والعناية، ونفي النظر في الغَضب فالنظر المنفي هنا نظر خاص‏.‏ وهاتان الكنايتان يجوز معهما إرادة المعنى الحقيقي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يزكيهم‏}‏ أي لا يطهرهم من الذنوب ولا يقلعون عن آثامهم، لأنّ من بلغ من رقّة الديانة إلى حدّ أن يشتري بعهد الله وأيمانه ثمناً قليلاً، فقد بلغ الغَاية القصوى في الجُرْأة على الله، فكيف يُرجى له صلاح بعد ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى ولا يُنْميهم أي لا يكثر حظوظهم في الخيْرات‏.‏

وفي مجيء هذا الوعيد، عقب الصلة، وهي يشترون بعهد الله الآية، إيذان بأنّ من شابههم في هذه الصفات فهو لاَحِقٌ بهم، حتى ظنّ بعض السلف أنّ هذه الآية نزلت فيمن حلَف يميناً باطلة، وكلّ يظنّ أنها نزلت فيما يَعرفه من قصةِ يَمين فاجرة، ففي «البخاري»، عن أبي وائِل، عن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من حلف يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ‏"‏ فأنزل الله تصديق ذلك‏:‏ ‏{‏إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم‏}‏ الآية فدخل الأشعث بن قيس وقال‏:‏ «ما يحدثكم أبو عبد الرحمان» قلنا‏:‏ كذا وكذا‏.‏ قال‏:‏ «فيّ أنزلت كانت لي بئر في أرض ابن عم لي» فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بينتك أو يمينه قلت‏:‏ إذن يحلف فقال رسول الله‏:‏ من حَلف على يمين صبر الحديث‏.‏

وفي «البخاري»، عن عبد الله بن أبي أوفى‏:‏ أنّ رجلاً أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي بها ما لم يُعْطَه ليُوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت‏:‏ ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً‏}‏ الآية‏.‏

وفيه عن ابن عباس أنه قرأ هاته الآية في قصّة وجبت فيها يمين لِردّ دعوى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

أي من اليهود طائفة تخيل للمسلمين أشياء أنها مما جاء في التوراة، وليست كذلك، إما في الاعتذار عن بعض أفعالهم الذميمة، كقولهم‏:‏ ليس علينا في الأميين سبيل، وإما للتخليط على المسلمين حتى يشككوهم فيما يخالف ذلك مما ذكره القرآن، أو لإدخال الشك عليهم في بعض ما نزل به القرآن، فاللَّيُّ مجمل، ولكنه مبين بقوله‏:‏ ‏{‏لتحسبوه من الكتاب‏}‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله‏}‏‏.‏

واللَّيُّ في الأصل‏:‏ الإراغة أي إدارة الجسم غير المتصلب إلى غير الصوْب الذي هو ممتدّ إليه‏:‏ فمن ذلك ليّ الحَبْل، وليّ العنان للفَرس لإدارته إلى جهة غير صوب سَيره، ومنه لَيّ العنق، وليّ الرأس بمعنى الالتفات الشزر والإعراض قال تعالى‏:‏ ‏{‏لووا رؤوسهم‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 5‏]‏‏.‏

واللّي في هذه الآية يحتمل أن يكون حقيقة بمعنى تحريف اللسان عن طريق حرف من حروف الهجاء إلى طريق حرف آخر يقاربه لتعطي الكلمة في أذن السامع جرس كلمة أخرى، وهذا مثل ما حكى الله عنهم في قولهم «راعنا» وفي الحديث من قولهم في السلام على النبي‏:‏ «السامُ عليكم» أي الموت أو «السِّلام بكسر السين عليك» وهذا اللّي يشابه الإشمام والاختلاس ومنه إمالة الألف إلى الياء، وقد تتغير الكلمات بالترقيق والتفخيم وباختلاف صفات الحروف‏.‏ والظاهر أنّ الكتاب هو التوراة فلعلهم كانوا إذا قرؤوا بعض التوراة بالعربية نطقوا بحروف من كلماتها بينَ بينَ ليوهموا المسلمين معنى غير المعنى المراد، وقد كانت لهم مقدرة ومِراس في هذا‏.‏

وقريب من هذا ما ذكره المبرّد في الكامل أنّ بعض الأزارقة أعاد بيت عُمر ابن أبي ربيعة في مجلس ابن عباس

‏.‏ *** رَأتْ رجلاً أما إذا الشمس عَارَضت

فيضْحَى وأما بالعشي فيخصر *** فجعل يضحى يَحْزَى وجعل يَخصر يخسر بالسين لِيشوّه المعنى لأنه غضب من إقبال ابن عباس على سماع شعره‏.‏ وفي الأحاجي والألغاز كثير من هذا كقولهم‏:‏ إنّ للاّهي إلهاً فوقَه فيقولها أحد بحضرة ناس ولا يشبع كسرة اللاّهي يخالها السامع لله فيظنه كَفَر‏.‏ أو لعلهم كانوا يقرؤون ما ليس من التوراة بالكيفيات أو اللحون التي كانوا يقرؤون بها التوراة ليخيلوا للسامعين أنهم يقرؤون التوراة‏.‏

ويحتمل أن يكون اللّي هنا مجازَاً عن صرف المعنى إلى معنى آخر كقولهم لوى الحجة أي ألقي بها على غير وجهها، وهو تحريف الكلم عن مواضعه‏:‏ بالتأويلات الباطلة، والأقيسة الفاسدة، والموضوعات الكاذبة، وينسبون ذلك إلى الله، وأياماً كان فهذااللَّيُّ يقصدون منه التمويه على المسلمين لغرض، حكما فعل ابن صوريا في إخفاء حكم رجم الزاني في التوراة وقوله‏:‏ نحَمم وجهه‏.‏

والمخاطب يتحسبوه المسلمون دون النبي صلى الله عليه وسلم أو هو والمسلمون في ظنّ اليهود‏.‏

وجيء بالمضارع في هاته الأفعال‏:‏ يلوون، ويَقُولون، للدلالة على تجدّد ذلك وأنه دأبهم‏.‏

وتكرير الكتاب في الآية مرتين، واسم الجلالة أيضاً مرتين، لقصد الاهتمام بالاسمين، وذلك يجر إلى الاهتمام بالخبر المتعلق بهما، والمتعلقين به، قال المرزوقي في شرح الحماسة في باب الأدب عند قول يحيى بن زياد‏:‏

لما رأيت الشيب لاح بياضه *** بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبا

كان الواجب أن يقول‏:‏ «قلت له مرحبا لكنهم يكرّرون الأعلام وأسماء الأجناس كثيراً والقصد بالتكرير التفخيم» قلت ومنه قول الشاعر‏:‏

لا أرى الموت يسبق الموت شيء *** قهر الموت ذا الغنى والفقيرا

وقد تقدم تفصيل ذلك عند قوله تعالى في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏‏:‏ ‏{‏واتقوا اللَّه ويعلمكم اللَّه واللَّه بكل شيء عليم‏}‏

والقراءة المعروفة يلوون‏:‏ بفتح التحتية وسكون اللام وتخفيف الواو مضارع لوى، وذكر ابن عطيّة أنّ أبا جعفر قرأه‏:‏ يُلَوون بضم ففتح فواو مشدّدة مضارع لوّى بوزن فعل للمبالغة ولم أر نسبة هذه القراءة إلى أبي جعفر في كتب القراءات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

اعتراض واستطراد‏:‏ فإنه لما ذكر لَيّ اليهودِ ألسنتَهم بالتوراة، وهو ضرب من التحريف، استطرد بذكر التحريف الذي عند النصارى لمناسبة التشابه في التحريف إذ تقَوّل النصارى على المسيح أنه أمرهم بعبادته فالمراد بالبشر عيسى عليه السلام، والمقصود تنزيه عيسى عن أن يكون قال ذلك، ردّاً على النصارى، فيكون رجوعاً إلى الغرض الذي في قوله‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء إلى قوله بأنا مسلمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏‏.‏

وفي «الكشاف» قيل نزلت لأنّ رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله نُسلمُ عليك كما يُسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ لا ينبغي أن يُسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيئكم واعرِفوا الحق لأهله ‏"‏ قلت‏:‏ أخرجه عبد بن حميد عن الحسن، فعلى تقدير كونه حديثاً مقبولاً فمناسبة ذكر هذه الآية أنها قص منها الردّ على جميع هذه المعتقدات‏.‏ ووقع في أسباب النزول للواحدي مِن رواية الكلبي، عن ابن عباس‏:‏ أنّ أبا رافع اليهودي والسيدَ مِن نصارى نجران قالا يا محمد‏:‏ «أتريد أن نعبدك» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ معاذ الله أن يُعبد غير الله ‏"‏ ونزلت هذه الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر‏}‏ نفي لاستحقاق أحد لذلك القول واللام فيه للاستحقاق‏.‏ وأصل هذا التركيب في الكلام ما كان فُلان فاعلاً كذا، فلما أريدت المبالغة في النفي عدل عن نفي الفعل إلى نفي المصدر الدال على الجنس، وجعل نفي الجنس عن الشخص بواسطة نفي الاستحقاق إذ لا طريقة لِحمل اسم ذات على اسم ذات إلاّ بواسطة بعض الحروف، فصار التركيب‏:‏ ما كان له أن يفعل، ويقال أيضاً‏:‏ ليس له أن يفعل، ومثل ذلك في الإثبات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 118‏]‏‏.‏

فمعنى الآية‏:‏ ليس قولُ ‏{‏كونوا عباداً لي‏}‏ حقاً لبشر أيِّ بشر كان‏.‏ وهذه اللام هي أصل لام الجحود التي في نحو ‏{‏وما كان الله ليعذّبهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏، فتراكيب لام الجحود كلّها من قبيل قلب مثل هذا التركيب لقصد المبالغة في النفي، بحيث ينفى أن يكون وجود المسند إليه مجعولاً لأجل فِعْل كذا، أي فهو بريء منه بأصل الخلقة ولذلك سميت جحوداً‏.‏

والمنفي في ظاهر هذه الآية إيتاء الحكم والنبوءة، ولكن قد علم أنّ مصبّ النفي هو المعطوف من قوله‏:‏ ‏{‏ثم يقول للناس كونوا عباداً لي‏}‏ أي ما كان له أن يقول كونوا عباداً لي إذا آتاه الله الكتاب إلخ‏.‏

والعباد جمع عبد كالعبيد، وقال ابن عطية‏:‏ «الذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع عبد لا يقصد معه التحقير، والعبيد يقصد منه، ولذلك قال تعالى‏:‏ «يا عبادي» وسمّت العرب طوائف من العرب سكنوا الحِيرة ودخلوا تحت حكم كِسرى بالعباد، وقيل لأنهم تنصّروا فسموْهم بالعباد، بخلاف جمعه على عَبيد كقولهم‏:‏ هم عبيد العَصا، وقال حمزةُ بنُ المطلب هل أنتم إلاّ عبيدٌ لأبي ومنه قول الله تعالى‏:‏

‏{‏وما ربك بظلام للعبيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏؛ لأنّه مكان تشفيق وإعْلام بقلة مقدرتهم وأنه تعالى ليس بظلاّم لهم مع ذلك، ولما كان لفظة العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك آنس بها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ فهذا النوع من النظر يُسلك به سُبل العجائب في ميزة فصاحة القرآن على الطريقة العربية السلبية»‏.‏ اه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ قيد قصد منه تشنيع القول بأن يكونوا عباداً للقائل بأنّ ذلك يقتضي أنهم انسلخوا عن العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر، لأنّ حقيقة العبودية لا تقبل التجزئة لمعبودين، فإنّ النصارى لما جعلوا عيسى ربّاً لهم، وجعلوه ابناً للَّه، قد لزمهم أنهم انخلعوا عن عبودية الله فلا جدوى لقولهم‏:‏ نحن عبد الله وعبيدُ عيسى، فلذلك جعلت مقالتُهم مقتضية أنّ عيسى أمرهم بأن يكونوا عباداً له دون الله، والمعنى أنّ لآمِر بأن يكون الناس عباداً له هو آمر بانصرافهم عن عبادة الله‏.‏ ‏{‏ولكن كونوا ربانيين‏}‏ أي ولكن يقول كونوا ربانيين أي كونوا منسوبين للربّ، وهو الله تعالى، لأنّ النسب إلى الشيء إنما يَكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه‏.‏

ومعنى ذلك أن يَكونوا مخلصين لله دون غيره‏.‏

والربّاني نسبة إلى الرب على غير قياس كما يقال اللِّحياني لعظيم اللحية، والشَّعراني لكثير الشعرَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بما كنتم تعلمون الكتاب‏}‏ أي لأنّ علمكم الكتاب من شأنه أن يصدّكم عن إشراك العبادة، فإنّ فائدة العلم العمل‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ بما كنتم تعلمون بفتح المثناة الفوقية وسكون العين وفتح اللام مضارع عَلِم‏.‏ وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف‏:‏ بضم ففتح فلاممٍ مشدّدة مكسورة مضارع عَلَّم المضاعف‏.‏

‏{‏وتدرسون‏}‏ معناه تقرؤون أي قراءة بإعادة وتكرير‏:‏ لأنّ مادّة درس في كلام العرب تحوم حول معاني التأثر من تكرّر عمل يُعمل في أمثاله، فمنه قولهم‏:‏ دَرَسَت الريحُ رسمَ الدار إذا عفته وأبلته، فهو دارس، يقال منزل دارس، والطريق الدارس العافي الذي لا يتبين‏.‏ وثوْب دارس خَلَقٌ، وقالوا‏:‏ دَرَس الكتاب إذا قرأه بتمهّل لحفظه، أو للتدبّر، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاّ نزلت عليهم السكينة إلخ ‏"‏ رواه الترمذي فعطَفَ التدارس على القراءة فعُلم أنّ الدراسة أخصّ من القراءة‏.‏ وسموا بيت قراءة اليهود مِدْرَاساً كما في الحديث‏:‏ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج في طائفة من أصحابه حتى أتى مدراس اليهود فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلخ‏.‏ ومادة درس تستلزم التمكن من المفعول فلذلك صار درس الكتاب مجازاً في فهمه وإتقانه ولذلك عطف في هذه الآية ‏{‏وبما كنتم تدرسون‏}‏ على ‏{‏بما كنتم تعلمون الكتاب‏}‏‏.‏

وفعله من باب نصر، ومصدره في غالب معانيه الدرس، ومصدر درس بمعنى قرأ يجيء على الأصل دَرْساً ومنه سمي تعليم العِلم درساً‏.‏

ويجيء على وزن الفِعالة دِراسة وهي زنة تدل على معالجة الفعل، مثل الكتابة والقراءة، إلحاقاً لذلك بمصادر الصناعات كالتجارة والخياطة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأمركم‏}‏ التفات من الغيبة إلى الخطاب‏.‏

وقرأ الجمهور «يأمُرُكم» بالرفع على ابتداء الكلام، وهذا الأصل فيما إذا أعيد حرف النفي، فإنه لما وقع بعد فعل منفي، ثم انتقض نفيه بلكن، احتيج إلى إعادة حرف النفي، والمعنى على هذه القراءة واضح‏:‏ أي ما كان لبشر أن يقول للناس كونوا إلخ ولا هو يأمُرهم أن يتخذوا الملائكة أرباباً‏.‏ وقرأه ابن عامر، وحمزة ويعقوب، وخلف‏:‏ بالنصب عطفاً على أن يقولَ ولا زائدة لتأكيد النفي الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر‏}‏، وليست معمولة لأنْ‏:‏ لاقتضاء ذلك أن يصير المعنى‏:‏ لا ينبغي لبشر أوتي الكتاب ألاّ يأمركم أن تتخذوا، والمقصود عكس هذا المعنى، إذ المقصود أنه لا ينبغي له أن يأمر، فلذلك اضطرّ في تخريج هذه القراءة إلى جعل لا زائدة لتأكيد النفي وليست لنفي جديد‏.‏ وقرأه الدُّوري عن أبي عمرو باختلاس الضمة إلى السكون‏.‏

ولعلّ المقصود من قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً‏}‏‏:‏ أنهم لما بالغوا في تعظيم بعض الأنبياء والملائكة، فصوّروا صور النبيئين، مثل يحيى ومريم، وعبدوهما، وصوّروا صور الملائكة، واقتران التصوير مع الغلوّ في تعظيم الصورة والتعبد عندها ضربٌ من الوثنية‏.‏

قال ابن عرفة‏:‏ «إن قيل نفي الأمر أعم من النهي فهلا قيل ويَنهاكم‏.‏ والجواب أنّ ذلك باعتبار دعواهم وتقوّلهم على الرسل»‏.‏ وأقول‏:‏ لعلّ التعبير بلا يأمركم مشاكلة لقوله‏:‏ ‏{‏ثم يقول للناس‏}‏ لأنهم زعموا أنّ المسيح قال‏:‏ إنه ابنُ الله فلما نفي أنه يقول ذلك نفي ما هو مثله وهو أن يأمرُهم باتخاذ الملائكة أرباباً، أو لأنهم لما كانوا يدّعون التمسك بالدين كان سائر أحوالهم محمولة على أنهم تلقوها منه، أو لأنّ المسيح لم ينههم عن ذلك في نفس الأمر، إذ هذا مما لا يخطر بالبال أن تتلبس به أمة متدينة فاقتصر، في الردّ على الأمة، على أنّ أنبياءهم لم يَأمروهم به ولذلك عقب بالاستفهام الإنكاري، وبالظرف المفيد مزيد الإنكار على ارتكابهم هذه الحالة، وهي قوله‏:‏ ‏{‏أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون‏}‏‏.‏

فهناك سببان لإنكار أن يكونَ ما هم عليه مُرضياً أنبياءهم؛ فإنه كفر، وهم لا يرضون بالكفر‏.‏ فما كان من حقّ من يتبعونهم التلبُّس بالكفر بعد أن خرجوا منه‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأمركم‏}‏ التفات من طريقة الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله‏}‏ فالمواجَه بالخطاب هم الذين زعموا أنّ عيسى قال لهم‏:‏ كونوا عباداً لي من دون الله‏.‏

فمعنى ‏{‏أنتم مسلمون‏}‏ يقتضي أنّهم كانوا مسلمين والخطاب للنصارى وليس دينهم يطلق عليه أنه إسلام‏.‏ فقيل‏:‏ أريد بالإسلام الإيمان أي غير مشركين بقرينة قوله ‏{‏بالكفر‏}‏‏.‏

وقيل الخطاب للمسلمين بناء على ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏إذ أنتم مسلمون‏}‏ لأنّ اليهود والنصارى لم يوصفوا بأنهم مسلمون في القرآن، فهذا الذي جرّأ من قالوا‏:‏ إنّ الآية نزلت لقول رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم «ألاَ نسجد لك»، ولا أراه لو كان صحيحاً أن تكون الآية قاصدة إياه؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل‏:‏ ثم يأمر الناس بالسجود إليه، ولما عرّج على الأمر بأن يكونوا عباداً له من دون الله ولا بأن يتّخذوا الملائكة والنبيين أرباباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 82‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

عطف ‏{‏وإذْ أخذ الله‏}‏ على ‏{‏ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 80‏]‏ أي ما أمركم الأنبياء بشيء مما تقوّلتم عليهم وقد أمروكم بغير ذلك فأضعتموه حين أخذ الله ميثاقهم لِيُبَلِّغوه إليكم، فالمعطوف هو ظرف ‏(‏إذْ‏)‏ وما تعلق به‏.‏

ويجوز أن يتعلق ‏(‏إذ‏)‏ بقوله‏:‏ ‏{‏أأقررتم‏}‏ مقدماً عليه‏.‏ ويصح أن تجعل ‏(‏إذ‏)‏ بمعنى زمان غير ظرف والتقدير‏:‏ واذْكر إذْ أخذ الله ميثاق النبيين، فالمقصود الحكاية عن ذلك الزمان وما معه فيكون ‏{‏قال أقررتم‏}‏ معطوفاً بحذف العاطف‏.‏ كما هو الشأن في جمل المحاورة وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏قالوا أقررنا‏}‏‏.‏

ويصح أن تكون جملة ‏{‏قال أأقررتم‏}‏ وما بعدها بياناً لجملة ‏{‏أخذ اللَّه ميثاق النبيين‏}‏ باعتبار ما يقتضيه فعل أخذ الله ميثاقَ النبيين‏:‏ من أنّ النبيين أعْطَوْا ميثاقاً لله فقال‏:‏ أأقررتم قالوا‏:‏ أقررنا إلخ‏.‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏لما آتينااكم‏}‏ إلى قوله ‏{‏ولتنصرنه‏}‏ هو صيغة الميثاق‏.‏

وهذا الميثاق أخذه الله على جميع الأنبياء، يؤذنهم فيه بأنّ رسولاً يجيء مصدّقاً لما معهم، ويأمُرُهم بالإيمان به وبنصره، والمقصود من ذلك إعلام أممهم بذلك ليَكون هذا الميثاق محفوظاً لدى سائر الأجيال، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏فمن تولّى بعد ذلك‏}‏ إلخ إذ لا يجوز على الأنبياء التولّي والفسق ولكنّ المقصود أممهم كقوله‏:‏ ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏‏.‏ وبدليل قوله قال‏:‏ ‏{‏فاشهدوا‏}‏ أي على أممكم‏.‏ وإلى هذا يرجع ما ورد في القرآن من دعوة إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏، وقد جاء في سفر التثنية قول موسى عليه السلام‏:‏ «قال لي الربّ أقيم لهم نبيئاً من وسط إخوتهم مثلَك وأجْعَلُ كلامي في فمه فيكلمهم بكلّ ما أوصيه به»‏.‏ وإخوَةُ بني إسرائيل هم بنو إسماعيل، ولو كان المراد نبيئاً إسرائيلياً لقال أقيم لهم نبيئاً منهم على ما في ترجمة التوراة من غموض ولعلّ النص الأصلي أصرح من هذا المترجم‏.‏

والبشارات في كتب أنبياء بني إسرائيل وفي الأناجيل كثيرة ففي متى قول المسيح «وتقوم أنبياء كذَبة كثيرون ويضلون كثيرين ولكنّ الذي يصبر أي يبقى أخيراً إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادةً لجميع الأمم ثم يَأتي المنتهَى» وفي إنجيل يوحنا قول المسيح «وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعَزِّياً آخر ليَمكث معكم إلى الأبد وأما المُعَزِّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلتُه لكم ومتى جاء المعزِّي روحُ الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي» إلى غير ذلك‏.‏

وفي أخذ العهد على الأنبياء زيادة تنويه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا المعنى هو ظاهر الآية، وبه فسر محققو المفسرين من السلف والخلف منهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وطاووس، والسدي‏.‏

ومن العلماء من استبعد أن يكون أخذ العهد على الأنبياء حقيقة نظراً إلى قوله‏:‏ ‏{‏فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون‏}‏ ‏(‏توهموه متعيناً لأن يكون المراد بمن تولّى من النبيين المخاطبين، وستعلم أنه ليس كذلك‏)‏ فتأوّلوا الآية بأنّ المراد أخذ العهد على أممهم، وسلكوا مسالك مختلفة من التأويل فمنهم من جعل إضافة الميثاق للنبيين إضافة تشبه إضافة المصدر إلى فاعله أي أخذ الله على الأمم ميثاق أنبيائهم منهم‏.‏ ومنهم من قدَّر حذف المضاف أي أمم النبيئين أو أولاد النبيئين وإليه مال قول مجاهد والربيع، واحتجوا بقراءة أبي، وابن مسعود، هذه الآية‏:‏ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيناكم من كتاب، ولم يقرأ ميثاق النبيئين، وزاد مجاهد فقال‏:‏ إن قراءة أبي هي القرآن، وإنّ لفظ النبيئين غلط من الكتَّاب، وردّه ابن عطية وغيره بإجماع الصحابة والأمة على مصحف عثمان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لما آتيناكم‏}‏ قرأ الجمهور «لَمَا» بفتح اللام وتخفيف الميم فاللام موطئة للقسم، لأنّ أخذ الميثاق في معنى اليمين وما موصوله مبتدأ ‏{‏وآتيناكم‏}‏ صلته وحذف العائد المنصوب جرى على الغالب في مثله ومِن كتاب بيان للموصول وصلتِه، وعُطف ‏{‏ثم جاءكم‏}‏ على ‏{‏آتيْناكم‏}‏ أي الذي آتيناكموه وجاءكم بعده رسول‏.‏ ولتؤمننّ اللام فيه لام جواب القسم والجواب سدّ مسد خبر المبتدأ كما هو المعروف وضمير به عائد على المذكور أي لتؤمنّن بما آتيناكم وبالرسول، أو هو عائد على الرسول وحذف ما يعود على ما آتيناكم لظهوره‏.‏

وقرأه حمزة‏:‏ بكسر لام لما فتكون اللام للتعليل متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏لتؤمننّ به‏}‏ أي شكراً على ما آتيتُكم وعلى أن بعثت إليكم رسولاً مصدّقاً لما كنتم عليه من الدين ولا يضرّ عمل مَا بعد لام القسم فيما قبلها فأخْذ الميثاق عليهم مطلقاً ثم علّل جواب القسم بأنه من شكر نعمة الإيتاء والتصديق، ولا يصح من جهة المعنى تعليق ‏{‏لما آتيتكم‏}‏ بفعل القسم المحذوف، لأنّ الشكر علة للجواب، لا لأخْذ العهد‏.‏

ولام ‏{‏لتؤمِننّ‏}‏ لام جواب القسم، على الوجه الأول، وموطئة للقسم على الوجه الثاني‏.‏

وقرأ نافع، وأبو جعفر‏:‏ آتيناكم بنون العظمة وقرأه الباقون ‏{‏آتيتكم‏}‏ بتاء المتكلم‏.‏

وجملة قال‏:‏ ‏{‏أأقررتم‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏أخذ الله ميثاق النبيين‏}‏‏.‏

والإقرار هنا مستعمل في معنى التحقيق بالوفاء مما أخذ من الميثاق‏.‏

والإصر‏:‏ بكسر الهمزة، العهد المؤكد الموثق واشتقاقه من الإصار بكسر الهمزة وهو ما يعقد ويسدّ به، وقد تقدم الكلام على حقيقته ومجازه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصراً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

‏(‏وقوله‏:‏ ‏{‏فاشهدوا‏}‏ إن كان شهادة على أنفسهم فهي بمعنى التوثق والتحقيق وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وأنا معكم من الشاهدين‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏شهد اللَّه أنه لا إله إلا هو‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ وإن كانت شهادة على أممهم بتبليغ ذلك الميثاق فالمعنى فاشهدوا على أممكم بذلك، والله شاهد على الجميع كما شهد النبيئون على الأمم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فمن تولى بعد ذلك‏}‏ أي من تولّى مِمن شهدتم عليهم، وهم الأمم، ولذلك لم يقل فمن تولّى بعد ذلك منكم كما قال في الآية التي خوطب فيها بنو إسرائيل في سورة ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏‏:‏ ‏{‏فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل‏}‏

ووجه الحَصر في قوله‏:‏ فأولئك هم الفاسقون‏}‏ أنه للمبالغة لأنّ فسقهم في هذه الحالة أشد فسق فجعل غيره من الفسق كالعدَم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

تفريع عن التذكير بما كان عليه الأنبياء‏.‏

والاستفهام للتوبيخ والتحذير‏.‏

وقرأه الجمهور ‏{‏تبغون‏}‏ بتاء الخطاب فهو خطاب لأهل الكتاب جارٍ على طريقة الخطاب في قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 80‏]‏ وقرأه أبو عَمرو، وحفص، ويعقوب‏:‏ بياء الغيبة فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة، إعراضاً عن مخاطبتهم إلى مخاطبة المسلمين بالتعجيب من أهل الكتاب‏.‏ وكله تفريع ذكر أحوال خلَف أولئك الأمم كيف اتبعوا غير ما أخذ عليهم العهد به‏.‏ والاستفهام حينئذ للتعجيب‏.‏

ودين الله هو الإسلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ وإضافته إلى الله لتشريفه على غيره من الأديان، أو لأنّ غيره يومئذ قد نسخ بما هو دين الله‏.‏

ومعنى ‏{‏تبغون‏}‏ وتطلبون يقال بَغى الأمرَ يبغيه بُغَاء بضم الباء وبالمد، ويقصر والبُغية بضم الباء وكسرها وهاء في آخره قيل مصدر، وقيل اسم، ويقال ابتغى بمعنى بغى، وهو موضوع للطلب ويتعدّى إلى مفعول واحد‏.‏ وقياس مصدره البغي، لكنه لم يسمع البغي إلاّ في معنى الاعتداء والجور، وذَلك فعلُه قاصر، ولعلهم أرادوا التفرقة بين الطلب وبين الاعتداء، فأماتوا المصدر القياسي لبَغَى بمعنى طلب وخصّوه ببغى بمعنى اعتدى وظلم‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 42‏]‏ ويقال تَبَغّى بمعنى ابتغى‏.‏

وجملة ‏{‏وله أسلَم‏}‏» حال من اسم الجلالة وتقدم تفسير معنى الإسلام لله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقل أسلمتُ وجهي للَّه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 20‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏طوعاً وكرهاً‏}‏ أنّ من العقلاء من أسلم عن اختيار لظهور الحق له، ومنهم من أسلم بالجبلّة والفطرة كالملائكة، أو الإسلام كرهاً هو الإسلام بعد الامتناع أي أكرهته الأدلة والآيات أو هو إسلام الكافرين عند الموت ورؤية سوء العاقبة، أو هو الإكراه على الإسلام قبل نزول آية لاَ إكراه في الدين‏.‏

والكرهُ بفتح الكاف هو الإكراه، والكُره بضم الكاف المكروه‏.‏

ومعنى ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ أنه يرجعكم إليه ففعل رجع المتعدّي أسند إلى المجهول‏.‏ لظهور فاعله، أي يرجعكم الله بعد الموت، وعند القيامة، ومناسبة ذكر هذا، عقب التوبيخ والتحذير، أنّ الربّ الذي لا مفر من حكمه لا يجوز للعاقل أن يعدل عن ديننٍ أمره به، وحقه أن يسلم إليه نفسه مختاراً قبل أن يسلمها اضطراراً‏.‏

وقد دل قوله‏:‏ ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ على المراد من قوله‏:‏ ‏{‏وكرهاً‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ وإليه تُرجعون بتاء الخطاب، وقرأه حفص بياء الغيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

المخاطب بفعل قل هو النبي صلى الله عليه وسلم ليقول ذلك بمسمع من الناس‏:‏ مسلمهم، وكافرهم، ولذلك جاء في هذه الآية قوله‏:‏ ‏{‏وما أنزل علينا‏}‏ أي أنزل عليّ لتبليغكم فجعل إنزاله على الرسول والأمة لاشتراكهم في وجوب العمل بما أنزل، وعدّى فعل ‏(‏أنزل‏)‏ هنا بحرف ‏(‏على‏)‏ باعتبار أنّ الإنزال يقتضي علوّاً فوصول الشيء المنزَل وصول استعلاء وعدّي في آية سورة البقرة بحرف ‏(‏إلى‏)‏ باعتبار أنّ الإنزال يتضمن الوصول وهو يتعدّى بحرف ‏(‏إلى‏)‏‏.‏ والجملة اعتراض‏.‏ واستئناف‏:‏ لتلقين النبي عليه السلام والمسلمين كلاماً جامعاً لمعنى الإسلام ليدوموا عليه، ويعلن به للأمم، نشأ عن قوله‏:‏ ‏{‏أفغير دين الله يبغون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 83‏]‏‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏لا نفرق بين أحد منهم‏}‏ أننا لا نعادي الأنبياء، ولا يحملنا حبّ نبيئنا على كراهتهم، وهذا تعريض باليهود والنصارى، وحذف المعطوف وتقديره لا نفرق بين أحد وآخر، وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة‏.‏ وهذه الآية شعار الإسلام وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وتؤمنون بالكتاب كله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏‏.‏

وهنا انتهت المجادلة مع نصارى نجران‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏أفغير دين الله يبغون‏}‏ وما بينهما اعتراض، كما علمت، وهذا تأييس لأهل الكتاب من النجاة في الآخرة، وردّ لقولهم‏:‏ نحن على ملة إبراهيم، فنحن ناجون على كلّ حال‏.‏ والمعنى من يبتغ غير الإسلام بعد مجيء الإسلام‏.‏ وقرأه الجميع بإظهار حرفي الغين من كلمة ‏{‏من يبتغ‏}‏ وكلمة ‏{‏غير‏}‏ وروى السُوسي عن أبي عمرو إدغام إحداهما في الأخرى وهو الإدغام الكبير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي يناسب ما سبقه من التنويه بشرف الإسلام‏.‏

‏(‏وكيف‏)‏ استفهام إنكاري والمقصود إنكار أن تحصل لهم هداية خاصة وهي إما الهداية الناشئة عن عناية الله بالعبد ولطفه به، وإسنادها إلى الله ظاهر؛ وإما الهداية الناشئة عن إعمال الأدلة والاستنتاج منها، وإسنادُها إلى الله لأنّه موجد الأسباب ومسبّباتها‏.‏ ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملاً في الاستبعاد، فإنهم آمنوا وعلموا ما في كتب الله، ثمّ كفروا بعد ذلك بأنبيائهم، إذ عبدَ اليهود الأصنام غير مرة، وعبد النصارى المسِيح، وقد شهدوا أنّ محمداً صادق لقيام دلائل الصدق، ثم كابروا، وشككوا الناس‏.‏ وجاءتهم الآيات فلم يتعظوا، فلا مطمع في هديهم بعد هذه الأحوال، وإنما تسري الهداية لمن أنصف وتهيّأ لإدراك الآيات دون القوم الذين ظلموا أنفسهم‏.‏ وقيل نزلت في اليهود خاصّة‏.‏ وقيل نزلت في جماعة من العرب أسلموا ثم كفروا ولحقوا بقريش ثم ندموا فراسلوا قومهم من المسلمين يسألونهم هل من توبة فنزلت، ومِنهم الحارث بن سويد، وأبو عامر الراهب، وطُعيمة بن أُبَيْرِق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وشهدوا‏}‏ عطف على ‏{‏إيمانهم‏}‏ أي وشهادتهم، لأنّ الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق يحسن عطفه على الفعل وعطفُ الفعل عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 89‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏‏}‏

الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما يَرد بعد اسم الإشارة من الحُكم عليهم‏.‏ وتقدم معنى ‏{‏لعنة الله والملائكة إلى قوله ‏{‏أجمعين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏161‏)‏‏.‏ وتقدم أيضاً معنى ‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏160‏)‏، ومعنى فإن الله غفور رحيم‏}‏ الكناية عن المغفرة لهم‏.‏ قيل نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري من بني عمرو بن عوف الذي ارتدّ ولحق بقريش وقيل بنصارى الشام، ثم كتب إلى قومه ليسألهم هل من توبة، فسألوا رسول الله فنزلت هذه الآية فأسلم ورجع إلى المدينة وقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏ علة لكلام محذوف تقديره الله يغفر لهم لأنه غفور رحيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قال قتادة، وعطاء، والحسن‏:‏ نزلت هذه الآية في اليهود، وعليه فالموصول بمعنى لام العهد، فاليهود بعد أن آمنوا بموسى كفروا بعيسى وازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم

وقيل أريد به اليهود والنصارى‏:‏ فاليهود كما علمتَ، والنصارى آمنوا بعيسى ثم كفروا فعبدوه وألهوه ثم ازدادوا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم

وتأويل ‏{‏لن تقبل توبتهم‏}‏ إما أنه كناية عن أنهم لا يتوبون فتقبَل توبتهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يقبل منها شفاعة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 48‏]‏ أي لا شفاعة لها فتقبل وهذا كقول امرئ القيس

‏.‏ *** على لاَ حب لا يُهتدَى بمناره

أي لا منار له، إذ قد علم من الأدلة أنّ التوبة مقبولة ودليله الحصر المقصود به المبالغة في قوله‏:‏ ‏{‏وأولئك هم الضالون‏}‏‏.‏ وإمَّا أنّ الله نهى نبيه عن الاغترَار بما يظهرونه من الإسلام نفاقاً، فالمراد بعدم القبول عدم تصديقهم في إيمانهم، وإما الإخبار بأنّ الكفر قد رسخ في قلوبهم فصار لهم سجية لا يحولون عنها، فإذا أظهروا التوبة فهم كاذبون، فيكون عدم القبول بمعنى عدم الاطمئنان لهم، وأسرارُهم موكولة إلى الله تعالى‏.‏ وقد أسلم بعض اليهود قبل نزول الآية‏:‏ مثل عبد الله بن سلام، فلا إشكال فيه، وأسلم بعضهم بعد نزول الآية‏.‏

وقيل المراد الذين ارتدّوا من المسلمين وماتوا على الكفر، فالمراد بالازدياد الاستمرار وعدم الإقلاع‏.‏ والقول في معنى لن تقبل توبتهم كما تقدم‏.‏ وعليه يكون قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا وماتوا‏}‏ توكيداً لفظياً بالمرادف، ولِيُبْنى عليه التفريع بقوله‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً‏}‏ وأياماً كان فتأويل الآية مُتعين‏:‏ لأنّ ظاهرها تعارضه الأدلة القاطعة على أنّ إسلام الكافر مقبول، ولو تكرّر منه الكفر، وأنّ توبة العُصاة مقبولة، ولو وقع نقضها على أصح الأقوال وسيجيء مثل هذه الآية في سورة النساء ‏(‏137‏)‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن اللَّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏.‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

استئناف لبيان حال الكافرين الذين ماتوا على كفرهم، نشأ عن حكم فريق من الكفار تكرّر منهم الكفر حتى رسخ فيهم وصار لهم ديدَناً‏.‏ وإن كان المراد في الآية السابقة من الذين ازدادوا كفراً الذين ماتوا على الكفر، كانت هذه الآية كالتوكيد اللفظي للأولى أعيدت ليبنى عليها قوله‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً‏}‏‏.‏ وأياً مّا كان فالمراد بالموصول هنا العموم مثل المعرّف بلام الاستغراق‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فلن يقبل‏}‏ مؤذنة بمعاملة الموصول معاملة اسم الشرط ليدل على أنّ الصلة هي علة عدم قبول التوبة، ولذلك لم يقترن خبر الموصول بالفاء في الجملة التي قبلها‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 90‏]‏ لأنّهم إذا فعلوا ذلك ولم يموتوا كافرين قبلت توبتهم، بخلاف الذين يموتون على الكفر فسبب عدم قبول التوبة منهم مصرّح به، وعليه فجملة فلن يقبل من أحدهم إلى آخرها في موضع خبر ‏(‏إن‏)‏ وجملة ‏{‏أولئك لهم عذاب أليم‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الإخبار بأنه لن يقبل من أحدهم فدية ويجوز أن تكون جملة ‏{‏فلن يقبل من أحدهم‏}‏ إلى آخرها معترضة بين اسم ‏(‏إنّ‏)‏ وخبرها مقترنة بالفاء كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم فذوقوه وأنّ للكافرين عذاب النار‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 14‏]‏ وتكون جملة ‏{‏أولئك لهم عذاب أليم‏}‏ خبر ‏(‏إنّ‏)‏‏.‏

ومعنى ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً‏}‏ لن يقبل منهم بشيء يفتدون به في الآخرة لظهور أن ليس المراد نفي قبول الافتداء في الدنيا؛ ضرورة أنهم وصفوا بأنهم ماتُوا وهم كفار‏.‏ والمِلْء بكسر الميم ما يملأ وعاءً، ومِلء الأرض في كلامهم كناية عن الكثرة المتعذّرة، لأنّ الأرض لا يملؤها شيء من الموجودات المقدّرة، وهذا كقولهم عدد رمال الدهناء، وعدد الحصى، ومُيز هذا المقدار بذَهباً لعزة الذهب وتنافس الناس في اقتنائه وقبول حاجة من بذله قال الحريري‏:‏

وقارنتْ نَجْحَ المساعي خَطْرتُه ***

وقوله‏:‏ ‏{‏ولو افتدى به‏}‏ جملة في موقع الحال، والواو واو الحال، أي لا يقبل منهم ولو في حال فرض الافتداء به، وحرف ‏(‏لو‏)‏ للشرط وحذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، ومثل هذا الاستعمال شائع في كلام العرب، ولكثرته قال كثير من النحاة‏:‏ إنّ لو وإن الشرطيتين في مثله مجرّدتان عن معنى الشرط لا يقصد بهما إلاّ المبالغة، ولَقبوهُما بالوصليتين‏:‏ أي أنّهما لِمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد‏.‏ وتردّدوا أيضاً في إعراب الجملة الواقعة هذَا الموقع، وفي الواو المقترنة بها، والمحققون على أنّها واو الحال وإليه مَال الزمخشري، وابنُ جنّي، والمرزوقي‏.‏ ومن النحاة من جعل الواو عاطفة على شرط محذوف هو ضدّ الشرط المذكور‏:‏ كقوله تعالى‏:‏

‏{‏كونوا قوّامين بالقسط شهداء للَّه ولو على أنفسكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏‏.‏ ومن النحاة من جعل الواو للاستئناف، ذكره الرضي رادّاً عليه، وليس حقيقاً بالردّ‏:‏ فإنّ للاستئناف البياني موقعاً مع هذه الواو‏.‏

هذا وإنّ مواقع هذه الواو تؤذن بأنّ الشرط الذي بعدها شرط مفروضٌ هو غاية ما يتوقّع معه انتفاء الحكم الذي قبلها، فيذكره المتكلم لقصد تحقق الحكم في سائر الأحوال كقول عمرو بن معد يكرب‏:‏

لَيْسَ الجمالُ بمِئْزَرٍ *** فاعْلَمْ وإنْ رُدِّيتَ بُرْدا

ولذلك جرت عادة النحاة أن يقدّروا قبلها شرطاً هو نقيض الشرط الذي بعدها فيقولون في مثل قوله‏:‏ وإنْ رُدّيت بُردا إنْ لم تُرَدَّ بُردا بل وإن رُدِّيتَ بردا وكذا قول النابغة‏:‏

سأكْعَمُ كَلبي أَن يَريبَك نبحُه *** ولو كنْتُ أرْعى مُسْحلاننِ فَحَامِرا

ولأجل ذلك، ورد إشكال على هذه الآية‏:‏ لأنّ ما بعد ‏{‏ولو‏}‏ فيها هو عين ما قبلها، إذ الافتداء هو عين بَذل مِلْءِ الأرض ذهباً، فلا يستقيم تقدير إن لم يفتد به بل ولَو افتدى به، ولذلك احتاج المفسرون إلى تأويلات في هذه الآية‏:‏ فقال الزجّاج المعنى لن يقبل من أحدهم مِلء الأرض ذهباً ينفقه في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة، أي لا يفديهم شيء من العذاب، وهذا الوجه بعيد، إذ لا يقدر أنّ في الآخرة افتداء حتى يبالغ عليه، وقال قوم‏:‏ الواو زائدة، وقال في «الكشاف»‏:‏ هو محمول على المعنى كأنه قيل‏:‏ فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى مِلء الأرض ذهباً، يريد أنّ كلمة بمِلء الأرض في قوة كلمة فدية واختُصر بعد ذلك بالضمير، قال ويجوز أن يقدر كلمة ‏(‏مثل‏)‏ قبل الضمير المجرور‏:‏ أي ولو افتدى بمثله أي ولو زاد ضعفَه كقوله‏:‏ ‏{‏ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وعندي أنّ موقع هذا الشرط في الآية جارٍ على استعمال غفل أهل العربية عن ذكره وهو أن يقع الشرط استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال، محقّق أو مقدّر، يتوهمه المتكلم من المخاطَب فيريد تقريره، فلا يقتضي أنّ شرطها هو غاية للحكم المذكور قبله، بل قد يكون كذلك، وقد يكون السؤال مجرّد استغراب من الحكم فيقع بإعادة ما تضمّنه الحكم تثبيتاً على المتكلم على حدّ قولهم‏:‏ «ادْرِ ما تقول» فيجيب المتكلم بإعادة السوال تقريراً له وإيذاناً بأنه تكلم عن بينة، نعم إنّ الغالب أن يكون السؤال عن الغاية وذلك كقول رؤبة، وهو من شواهد هذا‏:‏

قالت بناتُ العَمِّ يا سلمَى وإنْ *** كَان فَقيراً مُعْدِمَا قالتْ وإنْ

وقد يحذف السؤال ويبقى الجواب كقول كعب بن زهير‏:‏

لا تأخُذَنِّي بأقوال الوُشاة ولم *** أذْنِبْ وإنْ كَثُرَتْ فيّ الأقاويل

وقد يذكر السؤال ولا يذكر الجواب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أوَ لَوْ كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 43‏]‏ فلو ذكر الجواب من قبل المشركين لأجابوا بتقرير ذلك‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏ولو افتدى به‏}‏ جواب سؤاللِ متعجِّببٍ من الحكم وهو قوله‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم‏}‏ فكأنه قال ولو افتدى به فأجيب بتقرير ذلك على حدّ بيت كعب‏.‏ فمفاد هذا الشرط حينئذ مجرّد التأكيد‏.‏

ويجوز أن يكون الشرط عطفاً على محذوف دلّ عليه افتدى‏:‏ أي لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً يجعله رَهينة‏.‏ ولو بذلُه فدية، لأنّ من عادة العرب أن المطلوب بحق قد يعطي فيه رَهناً إلى أن يقع الصلح أو العفو، وكذلك في الديون، وكانوا إذا تعاهدوا على صلح أعطت القبائل رَهائن منهم كما قال الحارث‏:‏

واذْكروا حِلْف ذي المَجاز وما قُدِّ *** م فيه العُهُودُ والكُفَلاء‏:‏

وقع في حديث أبي رافع اليهودي أنّ مُحمد بن مَسلمة قال لأبي رافع‏:‏ «نرهنك السلاح واللاّمة»‏.‏ *** وجملة ‏{‏أولئك لهم عذاب أليم‏}‏ فذلكة للمراد من قوله‏:‏ ‏{‏إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 90‏]‏ الآيتين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ تكميل لنفي أحوال الغَناء عنهم وذلك أنّ المأخوذ بشيء قد يعطي فدية من مال، وقد يكفُله من يوثق بكفالتهم، أو يشفع له من هو مسموع الكلمة، وكلٌّ من الكفيل والشفيع ناصر‏.‏