فصل: تفسير الآيات رقم (32- 33)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

عُقب تحريضُ جميعهم على الاستجابة، المستلزمُ تحذيرهم من ضدها بتحذير المستجيبين من إعراض المعرضين، ليعلموا أنهم قد يلحقهم أذى من جراء فعل غيرهم إذا هم لمُ يُقَوّموا عِوَج قومهم، كَيلا يحسبوا أن امتثالهم كاف إذا عصى دهماؤهم، فحذّرهم فتنة تلحقهم فتعم الظالم وغيره‏.‏

فإن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة لله وللرسول عليه الصلاة والسلام دب بينهم الاختلاف واضطربت أحوالهم واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة‏.‏

وحاصل معنى الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء، واختلال السير، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفتنّاك فتوناً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 40‏]‏ وقد تقدم ذكر الفتنة في قوله‏:‏ ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏‏.‏

فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم، وأن يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا، فإن هم تركوا ذلك، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره، حتى يعم أو يكاد، فيعسر اقتلاعه من النفوس، وذلك الاختلالُ يفسد على الصالحين صلاحَهم وينكد عيشهم على الرغم من صلاحهم واستقامتهم، فظهر أن الفتنة إذا حلّت بقوم لا تصيب الظالم خاصة بل تعمه والصالح، فمن أجل ذلك وجب اتقاؤها على الكل، لأن إضرار حلولها تصيب جميعهم‏.‏

وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقاباً من الله تعالى في الدنيا، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم، فإن من سُنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد، لأنها عقوبات تحصل بحوادث كونية يستتب في نظام العالم الذي سنه الله تعالى في خلق هذا العالم أن يوزع على الأشخاص كما ورد في حديث النهي عن المنكر في الصحيح‏:‏ أن النبي قال‏:‏ مثل القائِم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على مَن فوقهم فقالوا‏:‏ لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ مَن فوقنا فإنْ يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعاً وفي صحيح مسلم‏}‏ عن زينب بنت جحش أنها قالت‏:‏ «يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال‏:‏ نعم إذا كثر الخبث ثم يحشْرون على نياتهم»‏.‏

وحرف ‏{‏لا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لا تصيبن‏}‏ نهي بقرينة اتصال مدخولها بنون التوكيد المختصة بالإثبات في الخبر وبالطلب، فالجملة الطلبية‏:‏ إما نعت ل ‏{‏فتنة‏}‏ بتقدير قول محذوف، ومثله وارد في كلام العرب كقول العجاج‏:‏

حتى إذا جَن الظلام واختلط *** جاءوا بِمَذْق هَلْ رأيتَ الذئب قط

أي مقول فيه‏.‏ وباب حذف القول باب متسع، وقد اقتضاه مقام المبالغة في التحذير هنا والاتقاء من الفتنة فأكد الأمر باتقائها بنهيها هي عن إصابتها إياهم، لأن هذا النهي من أبلغ صيغ النهي بأن يُوجه النهي إلى غير المراد نهيه تنبيهاً له على تحذيره من الأمر المنهي عنه في اللفظ، والمقصودُ تحذير المخاطب بطريق الكناية لأن نهي ذلك المذكور في صيغة النهي يستلزم تحذير المخاطب فكأنّ المتكلم يجمع بين نهيين، ومنه قول العرب‏:‏ لا أعرِفَنّك تفعل كذا، فإنه في الظاهر المتكلممِ نفسَه عن فعل المخاطب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يفتننكم الشيطان‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ ويسمى هذا بالنهي المحول، فلا ضمير في النعت بالجملة الطلبية‏.‏

ويجوز أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏لا تصيبن‏}‏ نهياً مستأنفاً تأكيداً للأمر باتقائها مع زيادة التحذير بشمولها مَن لم يكن من الظالمين‏.‏

ولا يصح جعل جملة‏:‏ ‏{‏لا تصيبن‏}‏ جواباً للأمر في قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا فتنة‏}‏ لأنه يمنع منه قوله‏:‏ ‏{‏الذين ظلموا منكم خاصة‏}‏ وإنما كان يجوز لو قال‏:‏ «لا تصيبنكم» كما يظهر بالتأمل، وقد أبطل في «مغني اللبيب» جعل ‏(‏لا‏)‏ نافية هنا، ورَد على الزمخشري تجويزه ذلك‏.‏

و ‏{‏خاصة‏}‏ اسم فاعل مؤنث لجريانه على ‏{‏فتنة‏}‏ فهو منتصب على الحال من ضمير ‏{‏تصيبن‏}‏ وهي حال مفيدة لأنها المقصود من التحذير‏.‏

وافتتاح جملة‏:‏ ‏{‏واعلموا أن الله شديد العقاب‏}‏ بفعل الأمر بالعلم للإهتمام لقصد شدة التحذير، كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلْبه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏ والمعنى أنه شديد العقاب لمن يخالف أمره، وذلك يشمل من يخالف الأمر بالاستجابة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

عُطف على الأمر بالاستجابة لله فيما يدعوهم إليه، وعلى إعلامهم بأن الله لا تخفى عليه نياتُهم، وعلى التحذير من فتنة الخلاف على الرسول صلى الله عليه وسلم تذكيرُهم بنعمة الله عليهم بالعزة والنصر، بعد الضعف والقلة والخوف، ليذكروا كيف يسر الله لهم أسباب النصر من غير مظانها، حتى أوصلهم إلى مكافحة عدوهم وأن يتقيَ أعداؤُهم بأسَهم، فكيف لا يستجيبون لله فيما بعد ذلك، وهم قد كثروا وعزوا وانتصروا، فالخطاب للمؤمنين يومئذٍ، ومجيء هذه الخطابات بعد وصفهم بالذين آمنوا إيماء إلى أن الإيمان هو الذي ساقَ لهم هذه الخيرات كلها، وأنه سيكون هذا أثَرَه فيهم كلما احتفظوا عليه كُفُوه من قبللِ سُؤالهم، ومن قبل تسديد حالهم، فكيف لا يكونون بعد ترفّه حالهم أشد استجابة وأثبت قلوباً‏.‏

وفعل ‏{‏واذكروا‏}‏ مشتق من الذكر بضم الدال وهو التذكر لا ذكر اللسان، أي تَذَكروا‏.‏

و ‏{‏إذْ‏}‏ اسم زمان مجرد عن الظرفية، فهو منصوب على المفعول به، أي اذكروا زمن كنتم قليلاً‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏أنتم قليل‏}‏ مضاف إليها ‏{‏إذْ‏}‏ ليحصل تعريف المضاف، وجيء بالجملة اسمية للدلالة على ثبات وصف القلة والاستضعاف فيهم‏.‏

وأخبر ب ‏{‏قليل‏}‏ وهو مفرد عن ضمير الجماعة لأن قليلاً وكثيراً قد يجيئان غير مطابقين لما جريا عليه، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏معه ربيون كثيرٌ‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏‏.‏

والأرض يراد بها الدنيا كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏ فالتعريف شبيه بتعريف الجنس، أو أريد بها أرض مكة، فالتعريف للعهد، والمعنى تذكير المؤمنين بأيام إقامتهم بمكة قليلاً مستضعفين بين المشركين، فإنهم كانوا حينئذٍ طائفة قليلة العدد قد جفاهم قومهم وعادوهم فصاروا لا قوم لهم وكانوا على دين لا يعرفه أحد من أهل العالم فلا يطمعون في نصرِ موافق لهم في دينهم وإذا كانوا كذلك وهم في مكة فهم كذلك في غيرها من الأرض فآواهم الله بأن صرف أهل مكة عن استيصالهم ثم بأن قيّض الإنصار أهلَ العقبة الأولى وأهلَ العقبة الثانية، فأسْلموا وصاروا أنصاراً لهم بيثرب، ثم أخرجهم من مكة إلى بلاد الحبشة فئاواهم بها، ثم أمرهم بالهجرة إلى يثرب فئاواهم بها، ثم صار جميع المؤمنين بها أعداء للمشركين فنصرهم هنالك على المشركين يوم بدر، فالله الذي يسّر لهم ذلك كله قبل أن يكون لهم فيه كسب أو تعمّل، أفلا يكون ناصراً لهم بعد أن ازدادوا وعزوا وسعَوا للنصر بأسبابه، وأفلا يستجيبونهم له إذا دعاهم لما يحييهم وحالهم أقرب إلى النصر منها يوم كانوا قليلاً مستضعفين‏.‏

والتخطف شدة الخطف، والخطف‏:‏ الأخذ بسرعة، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يكاد البرق يخطف أبصارهم‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏ وهو هنا مستعار للغلبة السريعة لأن الغلبة شبه الأخذ، فإذا كانت سريعة أشبهت الخطف، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويتخطف الناس من حولهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 27‏]‏ أي يأخذكم أعداؤكم بدون كبرى مشقة، ولا طول محاربة إذ كنتم لقمة سَايغة لهم، وكانوا أشد منكم قوة، لولا أن الله صرفهم عنكم، وقد كان المؤمنون خائفين في مكة، وكانوا خائفين في طرق هجرتيْهم، وكانوا خائفين يوم بدَر، حتى أذاقهم الله نعمة الأمن من بعد النصر يوم بدر‏.‏

و ‏{‏الناس‏}‏ مراد بهم ناس معهودون وهم الأعداء، المشركون من أهل مكة وغيرهم، أي طائفة معروفة من جنس الناس من العراب الموالين لهم‏.‏

وما رزقهم الله من الطيبات‏:‏ هي الأموال التي غنموها يوم بدر‏.‏

والإيواء‏:‏ جعل الغيْر ءاوياً، أي راجِعاً إلى الذي يجعله، فيؤول معناه إلى الحفظ والرعاية‏.‏

والتأييد‏:‏ التقوية أي جعل الشيء ذا أيد، أي ذا قدرة على العمل، لأن اليد يكنى بها عن القدرة قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذْكر عبدنا داود ذا الأيد‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ إدماج بذكر نعمة توفير الرزق في خلال المنة بنعمة النصر وتوفير العَدد بعد الضعف والقلة، فإن الأمن ووفرة العدد يجلبان سعة الرزق‏.‏

ومضمون هذه الآية صادق أيضاً على المسلمين في كل عصر من عصور النبوة والخلافة الراشدة، فجماعتهم لم تزل في ازدياد عزة ومنعة، ولم تزل منصورة على الأمم العظيمة التي كانوا يخافونها من قبل أن يؤمنوا، فقد نصرهم الله على هوازن يوم حُنين، ونصرهم على الروم يوم تَبوك ونصرهم على الفرس يوم القادسية، وعلى الروم في مصر، وفي برقة، وفي إفريقية، وفي بلاد الجلالقة، وفي بلاد الفرنجة من أوروبا، فلما زاغ المسلمون وتفرقوا أخذ أمرهم يقِف ثم ينقبض ابتداء من ظهور الدعوة العباسية، وهي أعظم تفرق وقع في الدولة الإسلامية‏.‏

وقد نبههم الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏ فلما أعطوا حق الشكر دام أمرهم في تصاعد، وحين نَسوه أخذ أمرهم في تراجع ولله عاقبة الأمور‏.‏

ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم ينبه المسلمين بالموعظة أن لا يحيدوا عن أسباب بقاء عزهم، وفي الحديث، عن حذيفة بن اليمان قال‏:‏ «قلت يا رسول الله إنّا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخَيْر من شَر» قال‏:‏ نعم «قلت‏:‏ وهل بعد ذلك الشر من خير‏؟‏ قال‏:‏ نعم وفيه دَخَن» الحديث، وفي الحديث الآخر «بُدئ هذا الدين غريباً وسيَعْود كما بُدئ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏27‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

استئناف خطاب للمؤمنين يحذرهم من العصيان الخفي‏.‏ بعد أن أمرهم بالطاعة والاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم حذرهم من أن يظهروا الطاعة والاستجابة في ظاهر أمرهم ويبطنوا المعصية والخلاف في باطنه، ومناسبته لما قبله ظاهرة وإن لم تسبق من المسلمين خيانة وإنما هو تحذير‏.‏

وذكر الواحدي في «أسباب النزول» وروى جمهور المفسرين وأهل السير، عن الزهري والكلبي، وعبد الله بن أبي قتادة، أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري لما حَاصر المسلمون بني قريظة، فسألت بنو قريظة الصلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تَنزلون على حكم سعد بن مُعاذ ‏"‏ فأبوا وقالوا‏:‏ «أرسل إلينا أبا لُبابة» فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أبا لُبابة وكان ولده وعيالُه وماله عندهم، فلما جاءهم قالوا له ما ترى أننزل على حكم سعد، فأشار أبو لُبابة بيده على حَلْقِه‏:‏ أنّه الذبْح، ثم فطن أنه قد خان الله ورسوله فنزلت فيه هذه الآية، وهذا الخبر لم يثبت في الصحيح، ولكنه اشتهر بين أهل السير والمفسرين، فإذا صح، وهو الأقرب كانت الآية مما نزل بعد زمن طويل من وقت نزول الآيات التي قبلها، المتعلقة باختلاف المسلمين في أمر الأنفال فإن بين الحادثتين نحواً من ثلاث سنين ويقرب هذا ما أشرنا إليه آنفاً من انتفاء وقوع خيانة لله ورسوله بين المسلمين‏.‏

والخَوْن والخيانة‏:‏ إبطال ونقضُ ما وقع عليه تعاقد من دون إعلان بذلك النقض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإمّا تخافَن من قوممٍ خيانةً فانبِذْ إليهم على سواءٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏ والخيانة ضد الوفاء قال الزمخشري‏:‏ «وأصل معنى الخَون النقصُ، كما أن أصل الوفاء التمام، ثم استعمل الخَون في ضد الوفاء لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه» أي واستعمل الوفاء في الإتمام بالعهد، لأن من أنجز بما عاهد عليه فقد أتم عهده فلذلك يقال‏:‏ أوفى بما عاهد عليه‏.‏

فالإيمان والطاعة لله ورسوله عهد بين المؤمن وبين الله ورَسوله، فكما حُذروا من المعصية العلنية حذروا من المعصية الخفية‏.‏

وتشمل الخيانة كل معصية خفية، فهي داخلة في ‏{‏لا تخونوا‏}‏، لأن الفعل في سياق النهي يعم، فكل معصية خفية فهي مراد من هذا النهي، فتشمل الغلول الذي حاموا حوله في قضية الأنفال، لأنهم لما سأل بعضهم النفل وكانوا قد خرجوا يتتبعون آثار القتلى ليتنفلوا منهم، تعين تحذيرهم من الغلول، فذلك مناسبة وقع هذه الآية من هذه الآيات سواء صح ما حكي في سبب النزول أم كانت متصلة النزول بقريناتها‏.‏

وفعل «الخيانة» أصله أن يتعدى إلى مفعول واحد وهو المخون، وقد يعدى تعدية ثانية إلى ما وقع نقضه، يقال‏:‏ خان فلاناً أمانتَه أو عهدَه، وأصله أنه نصب على نزع الخافض، أي خانه في عهده أو في أمانته، فاقتصر في هذه الآية على المخوف ابتداء، واقتصر على المخون فيه في قوله‏:‏ ‏{‏وتخونوا أماناتكم‏}‏ أي في أماناتكم أي وتخونوا الناس في أماناتكم‏.‏

والنهي عن خيانة الأمانة هنا‏:‏ إن كانت الآية نازلة في قضية أبي لبابة‏:‏ إن ما صدر منه من إشارة إلى ما في تحكيم سعد بن معاذ مِن الضر عليهم يعتبر خيانة لمن بعثه مستفسراً، لأن حقه أن لا يشير عليهم بشيء، إذ هو مبعوث وليس بمستشار‏.‏

وإن كانت الآية نزلت مع قريناتها فنهي المسلمين عن خيانة الأمانة استطراد لاستكمال النهي عن أنواع الخيانة، وقد عدل عن ذكر المفعول الأصلي، إلى ذكر المفعول المتْسَع فيه، لِقصد تِبشيع الخيانة بأنها نقض للأمانة، فإن الأمانة وصف محمود مشهور بالحسن بين الناس، فما يكون نقضاً له يكون قبيحاً فظيعاً، ولأجل هذا لم يقل‏:‏ وتخونوا الناسَ في أماناتهم فهذا حذف من الإيجاز‏.‏

والأمانة اسم لما يحفظه المرء عند غيره مشتقة من الأمن؛ لأنه يأمنه من أن يضيعها، والأمين الذي يحفظ حقوق من يواليه، وإنما أضيفت الأمانات إلى المخاطبين مبالغة في تفظيع الخيانة، بأنها نقض لأمانة منسوبة إلى ناقضها، بمنزلة قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ دون‏:‏ ولا تقتلوا النفس‏.‏

وللأمانة شأن عظيم في استقامة أحوال المسلمين، ما ثبتوا عليها وتخلقوا بها، وهي دليل نزاهة النفس واعتدال أعمالها، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إضاعتها والتهاون بها، وأشار إلى أن في إضاعتها انحلال أمر المسلمين، ففي «صحيح البخاري» عن حذيفة بن اليَمَان قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين‏:‏ رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلتْ على جَذْر قلوب الرجال ثم عَلمِوا من القرآن ثم علَموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال‏:‏ ينام الرجل النومة فَتُقبض من قلبه فيظل أثرها مثل الوكْت، ثم ينام النّومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المَجْل كجَمْر دَحُرَجْتَه على رِجْلِك فَنفِط فتراه مُنْتَبِراً وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل ما أعْقَلَه وما أظْرَفَه ومَا أجْلَدَه، وما في قلبه مثقال حَبّهِ خَرْدَل من إيمان»‏.‏

‏(‏الوكت سواد يكون في البُسْر إذا قارب أن يصير رُطَباً، والمَجْل غِلَظ الجلد من أثر العمل والخدمة، ونَفِط تَقَرَّح ومُنْتَبِراً منتفخاً‏)‏، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان إذ قال في آخر الأخبار عنها وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، وحسبك من رفع شأن الأمانة‏:‏ أن كان صاحبها حقيقاً بولاية أمر المسلمين لأن ولاية أمر المسلمين، أمانة لهم ونصح، ولذلك قال عمر بن الخطاب حين أوصى بأن يكون الأمر شورى بين ستة «ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً لعهدت إليه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له إنه أمين هذه الأمة»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وتخونوا‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏لا تخونوا‏}‏ فهو في حَيز النهي، والتقدير‏:‏ ولا تخونوا أماناتكم، وإنما أعيد فعل ‏{‏تخونوا‏}‏ ولم يُكتف بحرف العَطف، الصالح للنيابة عن العامل في المعطوف، للتنبيه على نوع آخر من الخيانة فإن خيانتهم الله ورسوله نقضُ الوفاءِ لهما بالطاعة والامتثال، وخيانة الأمانة نقض الوفاء بأداء ما ائتمنوا عليه‏.‏

وجملة ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏تَخونوا‏}‏ الأول والثاني، وهي حال كاشفة والمقصود منها تشديد النهي، أو تشنيع المنهي عنه لأن النهي عن القبيح في حال معرفة المنهي أنه قبيح يكون أشد، ولأن القبيح في حال علم فاعله بقبحه يكون أشنَعَ، فالحال هنا بمنزلة الصفة الكاشفة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَن يَدْعُ مع الله إلهاً آخر لا بُرهان له به فإنما حِسابُه عند ربه‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 117‏]‏ وقوله ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏ وليس المراد تقييد النهي عن الخيانة بحالة العلم بها، لأن ذلك قليل الجدوى، فإن كل تكليف مشروط بالعلم وكون الخيانة قبيحة أمر معلوم‏.‏

ولك أن تجعل فعل ‏{‏تَعْلمون‏}‏ منزلاً منزلة اللازم، فلا يُقدّر له مفعول، فيكون معناه «وأنتم ذَوُو عِلم» أي معرفة حقائق الأشياء، أي وأنتم عُلماء لا تجهلون الفرق بين المَحاسن والقبائح، فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏22‏)‏‏.‏

ولك أن تقدر له هنا مفعولاً دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وتخونوا أماناتكم‏}‏ أي وأنتم تعلمون خيانة الأمانة أي تعلمون قبحها فإن المسلمين قد تقرر عندهم في آداب دينهم تقبيح الخيانة، بل هو أمر معلوم للناس حتى في الجاهلية‏.‏

وابتداء جملة‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة‏}‏ بفعل ‏{‏اعلموا‏}‏ للاهتمام كما تقدم آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏ وقوله ‏{‏واعلموا أن الله شديد العقاب‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ وهذا تنبيه على الحذر من الخيانة التي يحمل عليها المرءَ حبُ المال وهي خيانة الغلول وغيرها، فتقديم الأموال لأنها مظنة الحمل على الخيانة في هذا المقام‏.‏

وعطف الأولاد على الأموال لاستيفاء أقوى دواعي الخيانة، فإن غرض جمهور الناس في جمع الأموال أن يتركوها لابنائهم من بعدهم، وقد كثر قرن الأموال والأولاد في التحذير، ونجده في القرآن، قيل إن هاته الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة‏.‏

وجيء في الإخبار عن كون الأموال والأولاد فتنة بطريق القصر قصراً ادعائياً لقصد المبالغة في إثبات أنهم فتنة‏.‏

وجُعل نفس «الأموال والأولاد» فتنة لكثرة حدوث فتنة المرء من جراء أحوالهما، مبالغة في التحذير من تلك الأحوال وما ينشأ عنها، فكأن وجود الأموال والأولاد نفس الفتنة‏.‏

وعطف قوله‏:‏ ‏{‏وأن الله عنده أجر عظيم‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏أنما أموالكم وأولادكم فتنة‏}‏ للإشارة إلى أن ما عند الله من الأجر على كف النفس عن المنهيات هو خير من المنافع الحاصلة عن اقتحام المناهي لأجل الأموال والأولاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

استيناف ابتدائي متصل بالآيات السابقة ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 20‏]‏ الآية وما بعده من الآيات إلى هُنا‏.‏

وافتتح بالنداء للاهتمام، كما تقدم آنفاً‏.‏

وخوطب المؤمنون بوصف الإيمان تذكيراً لهم بعهد الإيمان وما يقتضيه كما تقدم آنفاً في نظائِره، وعقب التحذير من العصيان والتنبيه على سوء عواقبه، بالترغيب في التقوى وبيان حسن عاقبتها وبالوعد بدوام النصر واستقامة الأحوال إن هم داموا على التقوى‏.‏

ففعل الشرط مراد به الدوام، فإنهم كانوا متقين، ولكنهم لما حُذروا من المخالفة والخيانة ناسب أن تفرض لهم الطاعة في مقابل ذلك‏.‏

ولقد بَدَا حُسنُ المناسبة إذ رُتبتتِ على المنهيات تحذيراتٌ من شرور وأضرار من قوله‏:‏ ‏{‏إن شر الدواب عند الله الصم البكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 22‏]‏ وقوله ‏{‏واتقوا فتنة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ الآية، ورتب على التقوى‏:‏ الوعد بالنصر ومغفرة الذنوب وسعة الفضل‏.‏

والفرقان أصله مصدر كالشكران والغُفران والبُتان، وهو ما يَفرِق أي يميَز بين شيئين متشابهين، وقد أطلق بالخصوص على أنواع من التفرقة فأطلق على النصر، لأنه يفرق بين حاليْن كانا محتَمَلَيْن قبلَ ظهور النصر، ولُقب القرآنُ بالفرقان؛ لأنه فَرّقَ بين الحق والباطل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان على عبده‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ ولعل اختياره هنا لقصد شموله ما يصلح للمقام من معانيه، فقد فُسّر بالنصر، وعن السدي، والضحاك، ومجاهد، الفرقانُ المَخْرَج، وفي «أحكام ابن العربي»، عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب أنهم سألوا مالكاً عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجعل لكم فرقاناً‏}‏ قال مَخَرجاً ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ومن يَتَققِ الله يَجْعَلْ له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏، وفسر بالتمييز بينهم وبين الكفار في الأحوال التي يُستحب فيها التمايز في أحوال الدنيا، فيشمل ذلك أحوالَ النفس‏:‏ من الهداية، والمعرفة، والرضى، وانشراح القلب، وإزالةِ الحِقد والغل والحسد بينهم، والمكرِ والخداععِ وذميممِ الخلائق‏.‏

وقد أشعر قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ أن الفرقان شيء نافع لهم فالظاهر أن المراد منه كل ما فيه مخرج لهم ونجاة من التباس الأحوال وارتباك الأمور وانبهام المقاصد، فيؤول إلى استقامة أحوال الحياة، حتى يكونوا مطمئني الباللِ منشرحي الخاطر وذلك يستدعي أن يكونوا‏:‏ منصورين، غالبين، بُصراء بالأمور، كَمَلة الأخلاق سائرين في طريق الحق والرشد، وذلك هو ملاك استقامة الأمم، فاختيار الفرقان هنا، لأنه اللفظ الذي لا يؤدي غيرُه مُؤداه في هذا الغرض وذلك من تمَام الفصاحة‏.‏

والتقوى تشمل التوبة، فتكفير السيئات يصح أن يكون المراد به تكفير السيئات الفارطة التي تعقبها التقوى‏.‏ ومفعول ‏{‏يغفر لكم‏}‏، محذوف وهو ما يستحق الغفران وذلك هو الذنب، ويتعين أن يحمل على نوع من الذنوب‏.‏ وهو الصغائر التي عبر عنها باللمم، ويجوز العكس بأن يراد بالسيئات الصغائِر وبالمغفرة مغفرة الكبائر بالتوبة المعقبَة لها، وقيل التكفير الستر في الدنيا، والغفران عدم المؤاخذة بها في الآخرة، والحاصل أن الإجمال مقصود للحث على التقوى وتحقق فائِدتها والتعريض بالتحذير من التفريط فيها، فلا يحصل التكفير ولا المغفرة بأي احتمال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏ تذييل وتكميل وهو كناية عن حصول منافع أخرى لهم من جراء التقوى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون عطف قصة على قصة من قصص تأييد الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين فيكون ‏{‏إذْ‏}‏ متعلقاً بفعل محذوف تقديره واذْكر إذ يمكر بك الذين كفروا، على طريقة نظائِره الكثيرة في القرآن‏.‏

ويجوز أن يكون عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏إذْ أنتم قليل مستضعفون في الأرض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 26‏]‏ فهو متعلق بفعل ‏(‏اذكروا‏)‏ من قوله ‏{‏واذكروا إذ أنتم قليل‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 26‏]‏، فإن المكر بالرسول عليه الصلاة والسلام مكر بالمسلمين ويكون ما بينهما اعتراضاً‏.‏ فهذا تعداد لنعم النصر، التي أنعم الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، في أحوال ما كان يظن الناس أن سيجدوا منها مخلصاً، وهذه نعمة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم والإنعام بحياته وسلامته نعمة تشمل المسلمين كلهم، وهذا تذكير بأيام مُقامهم بمكة، وما لاقاه المسلمون عموماً وما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً وأن سلامة النبي صلى الله عليه وسلم سلامة لأمته‏.‏

والمكر إيقاع الضر خُفية، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏، وعند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأمنوا مكرَ الله‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 99‏]‏‏.‏

والإتيان بالمضارع في موضع الماضي الذي هو الغالب مع ‏{‏إذ‏}‏ استحضار للحالة التي دبروا فيها المكر، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله الذي أرسل الرياح فتُثير سحاباً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏ليُثبتوك‏}‏ ليحبسوك يقال أثبته إذا حبَسه ومنعه من الحركة وأوثقه، والتعبير بالمضارع في ‏{‏يثبتوك‏}‏، و‏{‏يقتلوك‏}‏، و‏{‏يخرجوك‏}‏، لأن تلك الأفعال مستقبلة بالنسبة لفعل المكر إذ غاية مكرهم تحصيل واحد من هذه الأفعال‏.‏

وأشارت الآية إلى تردد قريش في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا للتشاور في ذلك بدار الندوة في الأيام الأخيرة قُبيل هجرته، فقال أبو البختري‏:‏ إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق وسُدوا عليه باب بيت غير كَوة تُلْقون إليه منها الطعام، وقال أبو جهل‏:‏ أرى أن نأخذ من كل بَطن في قريش فتىً جَلْداً فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفاً ويأتون محمداً في بيته فيضربونه ضربة رجل واحد فلا تقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها فيأخذون العقل ونستريح منه، وقال هشام بن عَمرو‏:‏ الرأي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظْهُرِكُم فلا يضركم ما صنع‏.‏

وموقع الواو في قوله ‏{‏ويمكرون‏}‏ لم أر أحداً من المفسرين عرج على بيانه وهي تحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن تكون واو الحال، والجملة حال من ‏{‏الذين كفروا‏}‏ وهي حال مؤسسة غيرُ مؤكدة، باعتبار ما اتصل بها من الجملة المعطوفة عليها، وهي جملة‏:‏ ‏{‏ويمكرُ الله‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏ويمكر الله‏}‏ هو مناط الفائِدة من الحال ومَا قبله تمهيد له وتنصيص على أن مكرهم يقارنه مكر الله بهم، والمضارع في ‏{‏يمكرون‏}‏ و‏{‏يمكر‏}‏ الله لاستحضار حالة المكر‏.‏

وثانيهما‏:‏ أن تكون وَاو الاعتراض أي العطف الصوري، ويكون المراد بالفعل المعطوف الدوامَ أي هم مكروا بك لثبِتوك أو يقتلوك أو يخرجوك وهم لا يزالون يمكرون كقول كعب بن الأشرف لمحمد بن مَسلمة «وأيضاً لتَمَلّنَه» يعني النبي، فتكون جملة ‏{‏ويمكرون‏}‏ معترضة ويكون جملة‏:‏ ‏{‏ويمكر الله‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا‏}‏ والمضارع في جملة‏:‏ ‏{‏ويمكرون‏}‏ للاستقبال والمضارع في ‏{‏ويَمكر الله‏}‏ لاستحضار حالة مكر الله في وقت مكرهم مثل المضارع المعطوف هو عليه‏.‏

وبيان معنى إسناد المكر إلى الله تقدم‏:‏ في آية سورة آل عمران ‏[‏54‏]‏ وآية سورة الأعراف ‏[‏99‏]‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏والله خير الماكرين‏}‏‏.‏

والذين تولوا المكر هم سادة المشركين وكبراؤهم وأعوان أولئك الذين كان دأبهم الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي نزول القرآن عليه، وإنما أسند إلى جميع الكافرين لأن البقية كانوا أتباعاً للزعماء يأتمرون بأمرهم، ومن هؤلاء أبو جهل، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأمية بن خلف، وأضرابهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

انتقال إلى ذكر بهتان آخر من حجاج هؤلاء المشركين، لم تزل آيات هذه السورة يتخللها أخبار كفرهم من قوله‏:‏ ‏{‏ويقطع دابر الكافرين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏ وقوله ‏{‏ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 13‏]‏ وقوله ‏{‏فلَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏ وقوله ‏{‏ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 21‏]‏ ثم بقوله ‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وهذه الجمل عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وهذا القول مقالة المتصدين للطعن على الرسول صلى الله عليه وسلم ومحاجته، والتشغيب عليه‏:‏ منهم النضر بن الحارث، وطُعمية بن عدي، وعقبة بن أبي مُعَيْط‏.‏

ومعنى ‏{‏قد سمعنا‏}‏‏:‏ قد فهمنا ما تحتوي عليه، لو نشاء لقلنا مثلها وإنما اهتموا بالقصص ولم يتَبيّنوا مغزاها ولا ما في القرآن من الآداب والحقائق، فلذلك قال الله تعالى عنهم ‏{‏كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 21‏]‏ أي لا يفقهون ما سمعوا‏.‏

ومن عجيب بهتانهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدّاهم بمعارضة سورة من القرآن، فعجزوا عن ذلك وأفحموا، ثم اعتذروا بأن ما في القرآن أساطير الأولين وأنهم قادرون على الإتيان بمثل ذلك قيل‏:‏ قائِل ذلك هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، كان رجلاً من مردة قريش ومن المستهزئين، وكان كثيرَ الأسفار إلى الحِيره وإلى أطراف بلاد العجم في تجارته، فكان يلقى بالحِيرة ناساً من العِبَاد ‏(‏بتخفيف الباء اسم طائفة من النصارى‏)‏ فيحدثونه من أخبار الإنجيل ويلقَى من العرب من ينقل أسطورة حروب ‏(‏رُسْتُم‏)‏ و‏(‏أسْفندياذ‏)‏ من مُلوك الفرس في قصصهم الخُرافي، وإنما كانت تلك الأخبار تترجم للعرب باللسان ويستظهرها قصاصهم وأصحاب النوادر منهم ولم يذكر أحد أن تلك الأخبار كانت مكتوبة بالعربية، فيما أحسب، إلاّ ما وقع في «الكشاف» أن النضر بن الحارث جاء بنسخة من خبر ‏(‏رُستم‏)‏ و‏(‏اسفندياذَ‏)‏ ولا يبعد أن يكون بعض تلك الأخبار مكتوباً بالعربية كتبها القصاصون من أهل الحِيرة والأنبار تذكرة لأنفسهم، وإنما هي أخبار لا حكمة فيها ولا موعظة، وقد أطال فيها الفردوسي في كتاب «الشاهنامه» تطويلاً مُملاً على عادة أهل القصص، وقال الفخر‏:‏ اشترى النضر من الحِيرة أحاديث كليلة ودمنة، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين، فإسناد قول النضر بن الحارث إلى جماعة المشركين‏:‏ من حيث إنهم كانوا يؤيدونه ويَحكونه ويُحاكونه، ويحسبون فيه معذرة لهم عن العجز الذي تلبسوا به في معارضة القرآن، وأنه نفّس عليهم بهذه الأغلوطة، فإذا كان الذي ابتكره هو النضر بن الحارث فليس يمتنع أن تصدر أمثال هذا القول من أمثاله وأتباعه، فمن ضمنهم مجلسه الذي جاء فيه بهذه النزاقة‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏لو نشاء لقلنا مثل هذا‏}‏ إيهام بأنهم ترفعوا عن معارضته، وأنهم لو شاءوا لنقلوا من أساطير الأولين إلى العربية ما يوازي قصص القرآن وهذه وقاحة، وإلاّ فما منعهم أن يشاءوا معارضة من تحداهم وقرعهم بالعجز بقوله‏:‏ ‏{‏فإنْ لم تفعلوا ولنْ تفعلوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ مع تحيزهم وتآمرهم في إيجاد معذرة يعتذرون بها عن القرآن وإعجازه إياهم وتحديه لهم، وما قاله الوليد بن المغيرة في أمر القرآن‏.‏

و«الأساطير» جمع أسطورة بضم الهمزة وهي القصة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلاّ أساطير الأولين‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏‏.‏

والمخالفة بين شرط ‏{‏لو‏}‏ وجوابها إذ جعل شرطها مضارعاً والجزاء ماضياً جرى على الاستعمال في ‏(‏لو‏)‏ غالباً، لأنها موضوعة للماضي فلزم أن يكون أحد جزَأيْ جملتها ماضياً، أو كلاهما‏.‏ فإذا أريد التفنن خولف بينهما، فالتقدير‏:‏ لو شئنا لقلنا، ولا يبعد عندي في مثل هذا التركيب أن يكون احتباكاً قائماً مقام شرطين وجزاءين فإحدى الجملتين مستقبلة والأخرى ماضية، فالتقدير لو نشاء أن نقول نقولُ، ولو شئنا القول في الماضي لقلنا فيه، فذلك أوعب للأزمان، ويكون هذا هو الفرق بين قوله‏:‏ ‏{‏ولَوْ شئنا لآتينا كل نفسسٍ هداها‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أنْ لَو يشاء الله لهدى الناس جميعاً‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ فهم لما قالوا‏:‏ ‏{‏لو نشاء لقلنا مثل هذا‏}‏ ادعوا القدرة على قول مثله في الماضي وفي المستقبل إغراقاً في النفَاجة والوقاحة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏32‏)‏ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏ أو على ‏{‏قالوا قد سمعنا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 31‏]‏ وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث صاحب المقالة السابقة، وقالها أيضاً أبو جهل وإسناد القول إلى جميع المشركين للوجه الذي أسند له قولُ النضر ‏{‏قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 31‏]‏ فارجع إليه، وكذلك طريق حكاية كلامهم إنما هو جار على نحو ما قررته هنالك من حكاية المعنى‏.‏

وكلامهم هذا جار مجرى القَسَم، وذلك أنهم يقسمون بطريقة الدعاء على أنفسهم إذا كان ما حصل في الوجود على خلاف ما يحكونه أو يعتقدونه، وهم يحسبون أن دعوة المرء على نفسه مستجابة، وهذه طريقة شهيرة في كلامهم قال النابغة‏:‏

ما إنْ أتيتُ بشيء أنتَ تكرهه *** إذَنْ فلا رَفَعَتْ سَوطي إِليَّ يدي

وقال معدان بنُ جَواس الكِندي، أو حُجَيّة بن المضرب السَّكوني‏:‏

إن كان ما بُلِّغْت عني فلامني *** صديقي وشَلَّتْ من يديّ الأنامل

وكَفّنْتُ وحدي مُنذراً برِدائِه *** وصادَفَ حَوْطاً من أعاديّ قاتل

وقال الأشتر النّخَعي‏:‏

بُقَّيْتُ وفْري وانحرفتُ عن العلا *** ولقيتُ أضيافي بوجهِ عبوسِ

إنْ لم أَشُنّ على ابن حرب غارة *** لم تخلُ يوماً من نهاب نفوس

وقد ضَمّن الحريري في «المقامة العاشرة» هذه الطريقة في حكاية يمين وجّهها أبو زيد السروجي على غُلامه المزعوم لدى والي رَحبة مالك بن طوْق حتى اضطرَّ الغلامَ إلى أن يقول‏:‏ «الاصطلاء بالبلية، ولا الابتلاءُ بهذه الإِلِيّة»‏.‏

فمعنى كلامهم‏:‏ إن هذا القرآن ليس حقاً من عندك فإن كان حقاً فأصبنا بالعذاب، وهذا يقتضي أنهم قد جزموا بأنه ليس بحق وليسَ الشرط على ظاهره حتى يفيد ترددهم في كونه حقاً ولكنه كناية عن اليمين وقد كانوا لجهلهم وضلالهم يحسبون أن الله يتصدى لمخاطرتهم، فإذا سألوه أن يمطر عليهم حجارة إن كان القرآن حقاً منه أمطر عليهم الحجارة وأرادوا أن يظهروا لقومهم صحة جزمهم بعدم حقية القرآن فأعلنوا الدعاء على أنفسهم بأن يصيبهم عذاب عاجل إن كان القرآن حقاً من الله ليستدلوا بعدم نزول العذاب على أن القرآن ليس من عند الله، وذلك في معنى القسم كما علمت‏.‏

وتعليق الشرط بحرف ‏{‏إن‏}‏ لأن الأصل فيها عدم اليقين بوقوع الشرط، فهم غير جازمين بأن القرآن حق ومنزل من الله بل هم موقنون بأنه غير حق واليقين بأنه غير حق أخص من عدم اليقين بأنه حق‏.‏

وضمير ‏{‏هو‏}‏ ضميرُ فصل فهو يقتضي تقوي الخبر أي‏:‏ إن كان هذا حقاً ومن عندك بلا شك‏.‏

وتعريف المسند بلام الجنس يقتضي الحصر فاجتمع في التركيب تقو وحصر وذلك تعبيرهم يحكون به أقوال القرآن المنوهة بصدقه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هذا لَهو القصص الحق‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 62‏]‏ وهم إنما أرادوا إن كان القرآن حقاً ولا داعي لهم إلى نفي قوة حقيته ولا نفي انحصار الحقية فيه، وإن كان ذلك لازماً لكونه حقاً، لأنه إذا كان حقاً كان ما هم عليه باطلاً فصح اعتبار انحصار الحقية فيه انحصاراً إضافياً، إلاّ أنه لا داعي إليه لولا أنهم أرادوا حكاية الكلام الذي يبطلونه‏.‏

وهذا الدعاء كناية منهم عن كون القرآن ليس كما يوصف به، للتلازم بين الدعاء على أنفسهم وبين الجزم بانتفاء ما جعلوه سبب الدعاء بحسب عرف كلامهم واعتقادهم‏.‏

و ‏{‏من عندك‏}‏ حال من الحق أي منزلاً من عندك فهم يطْعنون في كونه حقاً وفي كونه منزلاً من عند الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏ وصف لحجارة أي حجارةَ مخلوقة لعذاب مَن تصيبه لأن الشأن أن مطر السماء لا يكون بحجارة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فصَب عليهم ربك سوط عذابٍ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 13‏]‏ ‏(‏والصب قريب من الأمطار‏)‏‏.‏

وذكروا عذاباً خاصاً وهو مطر الحجارة ثم عمموا فقالوا‏:‏ ‏{‏أو ائِتنا بعذاب أليم‏}‏ ويريدون بذلك كله عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالآخرة‏.‏ ووصفوا العذاب بالأليم زيادة في تحقيق يقينهم بأن المحلوف عليه بهذا الدعاء ليس منزلاً من عند الله فلذلك عرضوا أنفسهم لخَطر عظيم على تقدير أن يكون القرآن حقاً ومنزلاً من عند الله‏.‏

وإذ كان هذا القول إنما يلزم قائله خاصة ومن شاركه فيه ونطقَ به مثل النضر وأبي جهل ومَن التزم ذلك وشارك فيه من أهل ناديهم، كانوا قد عرضوا أنفسهم به إلى تعذيب الله إياهم انتصاراً لنبيه وكتابه، وكانت الآية نزلت بعد أن حق العذاب على قائلي هذا القول وهو عذاب القتل المُهين بأيدي المسلمين يومَ بدر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُعذبْهُم الله بأيديكم ويُخْزِهم وينْصُرْكم عليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏ وكان العذاب قد تأخر عنهم زمناً اقتضته حكمة الله، بين الله لرسوله في هذه الآية سبب تأخر العذاب عنهم حين قالوا ما قالوا، وأيقظ النفوس إلى حلوله بهم وهم لا يشعرون‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليعذبهم وأنتَ فيهم‏}‏ كناية عن استحقاقهم، وإعلام بكرامة رسوله صلى الله عليه وسلم عنده، لأنه جَعل وجوده بين ظهراني المشركين مع استحقاقهم العقاب سبباً في تأخير العذاب عنهم، وهذه مكرمة أكرم الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فجعل وجوده في مكان مانعاً من نزول العذاب على أهله، فهذه الآية إخبار عما قدره الله فيما مضى‏.‏

وقال ابن عطية قالت فرقه نزلت هذه الآية كلها بمكة، وقال ابن أَبزى نزل قوله‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم‏}‏ بمكة إثر قولهم‏:‏ ‏{‏أو ائِتنا بعذاب أليم‏}‏، ونزل قوله‏:‏ ‏{‏وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏}‏ عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، ونزل قوله‏:‏ ‏{‏وما لهم أن لا يُعذبهم الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 34‏]‏ بعد بدر‏.‏

وفي توجيه الخطاب بهذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم واجتلاب ضمير خطابه بقوله‏:‏ ‏{‏وأنتَ فيهم‏}‏ لطيفة من التكرمة إذ لم يقل‏:‏ وما كان الله ليعذبهم وفيهم رسوله، كما قال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليعذبهم وأنتَ فيهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏ وهو ارتقاء في بيان أنهم أحقاء بتعذيب الله إياهم، بياناً بالصراحة‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ استفهامية، والاستفهام إنكاري، وهي في محل المبتدأ و‏{‏لهم‏}‏ خبره، واللام للاستحقاق والتقدير ما الذي ثبت لهم لأن ينتفي عنهم عذاب الله فكلمة ‏(‏ما‏)‏ اسم استفهام إنكاري، والمعنى‏:‏ لم يثبت لهم شيء‏.‏

و ‏{‏أنْ لا يعذبهم‏}‏ مجرور بلام جر محذوفة بعد ‏(‏إن‏)‏ على الشائِع من حذف الجر مع ‏(‏أنْ‏)‏ والتقدير‏:‏ أي شيء كان لهم في عدم تعذيبهم أي لم يكن شيء في عدم تعذيبهم أو مِن عدم تعذيبهم أي أنهم لا شيء يمنعهم من العذاب، والمقصود الكناية عن استحقاقهم العذاب وحلوله بهم، أوْ توقع حلوله بهم، تقول العرب‏:‏ مَالك أنْ لا تُكْرِمَ، أي‏:‏ أنت حقيق بأن تكَرم ولا يمنعك من الإكرام شيء، فاللفظ نفي لمانع الفعل، والمقصود أن الفعل توفرت أسبابه ثم انتفت موانعه، فلم يبق ما يحول بينك وبينه‏.‏

وقد يتركون ‏(‏أن‏)‏ ويقولون‏:‏ مالك لا تفعل فتكون الجملة المنفية بعد الاستفهام في موضع الحال وتكون تلك الحال هي مُثير الاستفهام الإنكاري، وهذا هو المعنى الجاري على الاستعمال‏.‏

وجوزوا أن تكون ‏{‏ما‏}‏ في الآية نافية فيكون ‏{‏أن لا يعذبهم‏}‏ اسمها و‏{‏لهم‏}‏ خبرها والتقدير وما عدم التعذيب كائناً لهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وهم يصدون عن المسجد الحرام‏}‏ في موضع الحال على التقديرين‏.‏

والصد الصرف، ومفعول ‏{‏يصدون‏}‏ محذوف دل عليه السياق، أي يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏إنْ أولياؤه إلاّ المتقون‏}‏ فكان الصد عن المسجد الحرام جريمة عظيمة يستحق فاعلوه عذاب الدنيا قبيل عذاب الآخرة، لأنه يؤول إلى الصد عن التوحيد لأن ذلك المسجد بنَاه مُؤسسه ليكون علَماً على توحيد الله ومأوى للموحدين، فصدهم المسلمين عنه، لأنهم آمنوا بإله واحد، صرف له عن كونه علَماً على التوحيد، إذ صار الموحدون مَعدودين غيرَ أهل لزيادته، فقد جعلوا مضادين له، فلزم أن يكون ذلك المسجد مضاداً للتوحيد وأهلِه، ولذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتقون‏}‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏ومن يُرد فيه بإلحادٍ بظلممٍ نذقه من عذاببٍ أليمٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏، والظلم الشرك لقوله‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلمٌ عظيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وهذا الصد الذي ذكرتْه الآية‏:‏ هو عزمهم على صدّ المسلمين المهاجرين عن أن يحجوا ويعْتمروا، ولعلهم أعلنوا بذلك بحيث كان المسلمون لا يدخلون مكة‏.‏ وفي «الكشاف»‏:‏ «كانوا يقولون نحن وُلاَة البيت والحرم فنصد من نشاء ونُدخل من نشاء»‏.‏

قلت‏:‏ ويشهد لذلك قضية سعد بن معاذ مع أبي جهل ففي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن مسعود، أنه حدث عن سعد بن معاذ‏:‏ «أنه كان صديقاً لأمية بن خلف، وكان أمية إذا مرَّ بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مرَّ بمكة نزل على أمية، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انطلق سعد معتمراً فنزل على أمية بمكة فقال لأمية انظُرْ لي ساعة خلوة لعليَ أطوف بالبيت فخرج قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال‏:‏ يا أبا صفوان مَن ‏(‏كنية أمية بن خلف‏)‏ هذا معك فقال‏:‏ هذا سعد، فقال له أبو جهل‏:‏ ألا أراك تطوف باليبت آمناً وقد آوَيْتُم الصباة أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعتَ إلى أهلك سالماً» الحديث‏.‏

وقد أفادت الآية‏:‏ أنهم استحقوا العذاب فنبهت على أن ما أصابهم يوم بدر، من القتل والأسر، هو من العذاب، ولكن الله قد رحم هذه الأمة تكرمة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤاخذ عامتهم بظلم الخاصة بل سلط على كل أحد من العذاب ما يُجازي كفره وظُلمه وإذايته النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولذلك عذب بالقتل والأسر والإهانة نفراً عُرفوا بالغلو في كفرهم وأذاهم، مثل النضر بن الحارث، وطعيمة بن عدي، وعُقبة بن أبي مُعَيط، وأبي جهل، وعذب بالخوف والجوع من كانوا دون هؤلاء كفراً واستبقاهم وأمهلهم فكان عاقبة أمرهم أن أسلموا بقرب أو بُعد وهؤلاء مثل أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وخالد بن الوليد، فكان جزاؤه إياهم على حسب علمه، وحقق بذلك رجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ ‏"‏ لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده ‏"‏ وجملة‏:‏ ‏{‏وما كانوا أولياءه‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يصُدون‏}‏ والمقصود من هذه الحال إظهار اعتدائهم في صدهم عن المسجد الحرام، فإن مَن صدّ عما هو له من الخير كان ظالماً، ومَن صدّ عما ليس من حقه كان أشدّ ظلماً، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومَن أظْلَم ممن منعَ مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏ أي لا أظلمَ منه أحد لأنه منع شيئاً عن مستحقه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن أولياؤه إلاّ المتقون‏}‏ تعيين لأوليائه الحق، وتقرير لمضمون ‏{‏وما كانوا أولياءه‏}‏ مع زيادة ما أفاده القصر من تعيين أوليائِه، فهي بمنزلة الدليل على نفي ولاية المشركين، ولذلك فصلت‏.‏

وإنما لم يُكتف بجملة القصر مع اقتضائه أن غير المتقين ليسوا أولياء المسجد الحرام، لقصد التصريح بظلم المشركين في صدهم المسلمين عن المسجد الحرام بأنهم لا ولاية لهم عليه، فكانت جملة‏:‏ ‏{‏وما كانوا أولياءه‏}‏ أشد تعلقاً بجملة‏:‏ ‏{‏وهم يصدون عن المسجد الحرام‏}‏ من جملة‏:‏ ‏{‏إِن أولياؤه إلاّ المتقون‏}‏ وكانت جملة‏:‏ ‏{‏إن أولياءه إلا المتقون‏}‏ كالدليل، فانتظم الاستدلال أبدع انتظام، ولما في إناطة ولاية المسجد الحرام بالمتقين من الإشارة إلى أن المشركين الذين سلبت عنهم ولايته ليسوا من المتقين، فهو مذمة لهم وتحقيق للنفي بحجة‏.‏

والاستدراك الذي أفاده ‏{‏لكن‏}‏ ناشئ عن المقدمتين اللتين تضمنتهما جملتا ‏{‏وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلاّ المتقون‏}‏ لأن ذلك يثير فرض سائل يسأل عن الموجب الذي أقحمهم في الصد عننِ المسجد الحرام، ويحسبون أنهم حقيقون بولايته لما تقدم عن «الكشاف»، فحذف مفعول ‏{‏يعلمون‏}‏ لدلالة الاستدراك عليه لتعلق الاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا أولياءه‏}‏‏.‏

وإنما نفَى العلم عن أكثرهم دون أن يقال ولكنهم لا يعلمون فاقتضى أن منهم من يعلم أنهم ليسوا أولياء المسجد الحرام، وهم من أيقنوا بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم واستفاقوا من غفلتهم القديمة، ولكن حملهم على المشايعة للصادين عن المسجد الحرام، العنادُ وطلبُ الرئاسة، وموافقة الدهماء على ضلالهم، وهؤلاء هم عقلاء أهل مكة ومن تهيأ للإيمان منهم مثل العباسسِ وعَقيل بن أبي طالب وأبي سفيان بن حرب وحَكيم بن حزم وخالد بن الوليد، ومن استبقاهم الله للإسلام فكانوا من نصرائه من بعد نزول هذه الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

معطوفة على جملة ‏{‏وهم يصدون عن المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 34‏]‏ فمضمونها سبب ثان لاستحقاقهم العذاب، وموقعها، عقب جملة‏:‏ ‏{‏وما كانوا أولياءه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 34‏]‏ يجعلها كالدليل المقرر لانتفاء ولايتهم للمسجد الحرام، لأن من كان يفعل مثل هذا عند مَسجد الله لم يكن من المتقين، فكان حقيقاً بسلب ولاية المسجد عنه، فعطفت الجملة باعتبارها سبباً للعذاب، ولو فصلت باعتبارها مقررة لسلب أهلية الولاية عنهم لصحَ ذلك، ولكن كان الاعتبار الأول أرجح؛ لأن العطف أدل عليه مع كون موقعها يفيد الاعتبار الثاني‏.‏

والمُكآء على صيغة مصادر الأصوات كالرغاء والثغاء والبُكاء والنواح، يقال‏:‏ مكَا يمْكُو إذا صَفّر بفيه، ومنه سمي نوع من الطْير المَكّاء بفتح الميم وتشديد الكاف، وجمعه مَكَاكِيء بهمزة في آخره بعد الياء، وهو طائر أبيضُ يكون بالحجاز‏.‏

وعن الأصمعي قلت لمنتجع بن نبهان «ما تَمكُو» فشبك بين أصابعه ثم وضعها على فمه ونفخ‏.‏

والتصدية التصفيق مشتقاً من الصدى وهو الصوت الذي يرده الهواء محاكياً لصوت صالح في البراح من جهة مقابلة‏.‏

ولا تعرف للمشركين صلاة، فتسمية مكائهم وتصديتهم صلاة مشاكلة تقديرية؛ لأنهم لما صدوا المسلمين عن الصلاة وقراءة القرآن في المسجد الحرام عند البيت‏.‏ كان من جملة طرائق صدهم إياهم تشغيبهم عليهم وسخريتهم بهم يحاكون قراءة المسلمين وصلاتهم بالمُكاء والتصدية، قال مجاهد‏:‏ «فَعَل ذلك نفر من بني عبد الدار يخلطون على محمد صلاته» وبنو عبد الدار هم سدنة الكعبة وأهل عمارة المسجد الحرام فلما فعلوا ذلك للاستسخار من الصلاة سمي فعلهم ذلك صلاة على طريقة المشاكلة التقديرية، والمشاكلة ترجع إلى استعارة علاقتها المشاكلة اللفظية أو التقديرية فلم تكن للمشركين صلاة بالمكاء والتصدية، وهذا الذي نحاه حذاق المفسرين‏:‏ مجاهد، وابن جبير، وقتادة، ويؤيد هذا قوله‏:‏ ‏{‏فذُوقوا العذاب بما كنتم تكفُرون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 34‏]‏ لأن شأن التفريع أن يكون جزاء على العمل المحكي قبله، والمكاء والتصدية لا يعدان كفراً إلاّ إذا كانا صادرين للسخرية بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالدين، وأما لو أريد مجرد لهو عملوه في المسجد الحرام فليس بمقتض كونَه كفراً إلاّ على تأويله بأثر من آثار الكفر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما النسيء زيادة في الكفر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 37‏]‏‏.‏

ومن المفسرين من ذكر أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويمكّون ويصفقون روي عن ابن عباس كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفقون ويصغرون، وعليه فإطلاق الصلاة على المكاء والتصدية مجاز مرسل، قال طلحة بن عمرو‏:‏ أراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكّون فيه نحو أبي قبيس، فإذا صح الذي قاله طلحة بن عمرو فالعندية في قوله‏:‏ ‏{‏عند البيت‏}‏ بمعنى مطلق المقاربة وليست على حقيقة ما يفيده ‏(‏عند‏)‏ من شدة القرب‏.‏

ودل قوله‏:‏ ‏{‏فذوقوا العذاب‏}‏ على عذاب وَاقع بهم، إذ الأمر هنا للتوبيخ والتغليظ وذلك هو العذاب الذي حل بهم يوم بدر، من قتل وأسر وحَرَب ‏(‏بفتح الراء‏)‏‏.‏

‏{‏بما كنتم تكفرون‏}‏ أي بكفركم ف ‏(‏ما‏)‏ مصدرية، و‏{‏كان‏}‏ إذا جعل خبرها جملة مضارعية أفادت الاستمرار والعادة، كقول عايشة، «فكانوا لا يقطعون السارق في الشيء التافه» وقول سعيد بن المسيب في «الموطأ»‏:‏ «كانوا يعطون النفَل من الخُمس»‏.‏

وعبر هنا ب ‏{‏تكفرون‏}‏ وفي سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 39‏]‏ ب ‏{‏تكسبون‏}‏ لأن العذاب المتحدث عنه هنال لأجل الكُفر‏.‏ والمتحدث عنه في الأعراف لأجل الكفر والإضلال ومَا يجره الإضلال من الكبرياء الروئاسة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ‏(‏36‏)‏ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ‏}‏‏.‏

لما ذُكر صدهم المسلمين عن المسجد الحرام الموجب لتعذيبهم، عُقب بذكر محاولتهم استيصال المسلمين وصدهم عن الإسلام وهو المعني ب ‏{‏سبيل الله‏}‏ وجعلت الجملة مستأنفة، غير معطوفة، اهتماماً بها أي أنهم ينفقون أموالهم وهي أعز الأشياء عليهم للصد عن الإسلام، وأتى بصيغة المضارع في ‏{‏ينفقون‏}‏ للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وأن الإنفاق مستمر لإعداد العُدد لغزو المسلمين، فإنفاقهم حصل في الماضي ويحصل في الحال والاستقبال، وأشعرت لام التعليل بأن الإنفاق مستمر لأنه منوط بعلة ملازمة لنفوسهم وهي بغض الإسلام وصدهم الناس عنه‏.‏

وهذا الإنفاق‏:‏ أنهم كانوا يطعمون جيشهم يوم بدر اللحم كل يوم، وكان المطعمون اثني عشر رجلاً وهم أبو جهل، وأمية بن خلف، والعباس بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعمية بن عدي بن نوفل، وأبو البَخْترِي والعاصي بن هاشم، وحكيم بن حزام، والنضر بن الحارث، ونُبَيْه بنُ حجاج السهمي، وأخوه مُنَبه، وسهيل بن عَمرو العامري، كانوا يطعمون في كل يوم عشر جزائر‏.‏ وهذا الإنفاق وقع يوم بدر، وقد مضى، فالتعبير عنه بصيغة المضارع لاستحضار حالة الإنفاق وأنها حالة عجيبة في وفرة النفقات‏.‏

وهو جمع بالإضافة يجعله من صيغ العموم، فكأنه قيل ينفقون أموالهم كلها مبالغة، وإلاّ فإنهم ينفقون بعض أموالهم‏.‏

والفاء في ‏{‏فسينفقونها‏}‏ تفريع على العلة لأنهم لما كان الإنفاق دأبهم لتلك العلة المذكورة، كان مما يتفرع على ذلك تكرر هذا الانفاق في المستقبل، أي ستكون لهم شدائد من بأس المسلمين تضطرهم إلى تكرير الانفاق على الجيوش لدفاع قوة المسلمين‏.‏

وضمير ‏{‏ينفقونها‏}‏ راجع إلى الأموال لا بقيد كونها المنفَقة بل الأموال الباقية أو بما يكتسبونه‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الحقيقي والرتبي، أي وبعد ذلك تكون تلك الأموال التي ينفقونها حسرة عليهم، والحسرة شدة الندامة والتلهفُ على ما فات، وأسندت الحسرة إلى الأموال لأنها سبب الحسرة بإنفاقها‏.‏ ثم إن الإخبار عنها بنفس الحسرة مبالغة مثل الإخبار بالمصادر، لأن الأموال سبب التَحَسر لا سبب الحسرة نفسها‏.‏

وهذا إنذار بأنهم لا يحصلون من إنفاقهم على طائِل فيما أنفقوا لأجله، لأن المنفق إنما يتحسر ويندم إذا لم يحصُل له المقصود من إنفاقه‏.‏ ومعنى ذلك أنهم ينفقون ليغلبوا فلا يغلِبون، فقد أنفقوا بعد ذلك على الجيش يومَ أُحُد‏:‏ استأجر أبو سفيان ألفين من الأحابيش لقتال المسلمين يوم أُحُد‏.‏ والأحابيش‏:‏ فِرَق من كنانة تجمعت من أفذاذ شتى وحالفوا قريشاً وسكنوا حول مكة سمّو أحابيش جمع أحبوش وهو الجماعة أي الجماعات فكان ما أحرزوه من النصر كِفاءً لنصر يوم بدر، بل كان نصر يوم بدر أعظمَ‏.‏

ولذلك اقتنع أبو سيفيان يوم أُحُد أن يقول «يوم بيوم بدر والحرب سجال» وكان يحسب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتل وأن أبا بكر وعمر قتلا فخاب في حسابه، ثم أنفقوا على الأحزاب حين هاجموا المدينة ثم انصرفوا بلا طائِل، فكان إنفاقهم حسرة عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثم يُغلبون‏}‏ ارتقاء في الإنذار بخيبتهم وخذلانهم، فإنهم بعد أن لم يحصلوا من إنفاقهم على طائِل تُوعدوا بأنهم سيغلبهم المسلمون بعد أن غلبوهم أيضاً يومَ بدر، وهو إنذار لهم بغلب فتح مكة وانقطاععِ دابر أمرهم، وهذا كالإنذار في قوله‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 12‏]‏ وإسناد الفعل إلى المجهول لكون فاعل الفعل معلوماً بالسياق فإن أهل مكة ما كانوا يقاتلون غير المسلمين وكانت مكة لَقاحاً‏.‏ /

و ‏{‏ثم‏}‏ للتراخي الحقيقي والرتبي مثل التي قبلها‏.‏

كان مقتضى الظاهر أن يقال وإلى حهنم يحشرون كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 12‏]‏ فعدل عن الإضمار هنا إلى الإظهار تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر، للإفصاح عن التشنيع بهم في هذا الإنذار حتى يعاد استحضار وصفهم بالكفر بإصرح عبارة، وهذا كقول عويف القوافي‏:‏

اللؤْم أكرم من وَبْرٍ ووالِده *** واللؤْم أكرمُ من وَبْر ومَا وَلدَا

لقصد زيادة تشنيع وَبْرٍ المهجو بتقرير اسمه واسم اللؤم الذي شبه به تشبيهاً بليغاً‏.‏

وعرّفوا بالموصولية إيماء إلى أن علة استحقاقهم الأمرين في الدنيا والآخرة هو وصف الكفر، فيعلم أن هذا يحصل لمن لم يقلعوا عن هذا الوصف قبل حلول الأمرين بهم‏.‏

و ‏{‏ليَميز‏}‏ متعلق ب ‏{‏يحشرون‏}‏ لبيان أن من حكمة حشرهم إلى جهنم أن يتميز الفريق الخبيث من الناس من الفريق الطيب في يوم الحشر، لأن العلة غيرَ المؤثرة تكون متعددة، فتمييز الخبيث من الطيب من جملة الحِكَم لحشر الكافرين إلى جهنم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ليَميز‏}‏ بفتح التحتية الأولى وكسر الميم وسكون التحتية الثانية مضارع ماز بمعنى فرز وقرأ حمزة والكسائي، ويعقوب، وخلف‏:‏ بضم التحتية الأولى وفتح الميم التحتية وتشديد الثانية‏.‏ مضارع ميّز إذا محص الفرز وإذ أسند هذا الفعل إلى الله تعالى استوت القراءتان‏.‏

والخبيث الشيء الموصوف بالخُبث والخباثة وحقيقة ذلك أنه حالة حشية لشيء تجعله مكروهاً مثل القذر، والوسخ، ويطلق الخبث مجازاً على الحالة المعنوية من نحو ما ذكرنا تشبيهاً للمعقول بالمحسوس، وهو مجاز مشهور، والمراد به هنا خسة النفوس الصادرة عنها مفاسد الأعمال، والطيّب الموصوف بالطيب ضد الخُبث بإطلاقيه فالكفر خبث لأن أساسه الاعتقاد، الفاسد، فنفس صاحبه تتصور الأشياء على خلاف حقايقها فلا جرم أن تأتي صاحبها بالأفعال على خلاف وجهها، ثم إن شرائع أهل الكفر تأمر بالمفاسد والضلالات وتصرف عن المصالح والهداية بسبب السلوك في طرائق الجهل وتقليببِ حقائق الأمور، وما من ضلالة إلاّ وهي تفضي بصاحبها إلى أخرى مثلها، والإيمان بخلاف ذلك‏.‏

و ‏(‏مِنْ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الطيب‏}‏ للفصل، وتقدم بيانها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 220‏]‏

وجَعْل الخبيث بعضِه على بعض‏:‏ علة أخرى لحشر الكافرين إلى حهنم ولذلك عطف بالواو فالمقصود جمع الخبيث وإن اختلفت أصنافه في مجمع واحد، لزيادة تمييزه عن الطيب، ولتشهير من كانوا يُسرون الكفر ويظهرون الإيمان، وفي جمعه بهذه الكيفية تذليل لهم وإيلام، إذ يجعل بعضهم على بعض حتى يصيروا رُكاماً‏.‏

والركْم‏:‏ ضم شيء أعلى إلى أسفل منه، وقد وصف السحاب بقوله‏:‏ ‏{‏ثم يجعله ركاماً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43‏]‏ واسم الإشارة ب ‏{‏أولئك هم الخاسرون‏}‏ للتنبيه على أن استحقاقهم الخبَر الواقع عن اسم الإشارة كان بسبب الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة، فإن من كانت تلك حاله كان حقيقاً بأنه قد خسر أعظم الخسران، لأنه خسر منافع الدنيا ومنافع الآخرة‏.‏

فصيغة القصر في قوله‏:‏ ‏{‏هم الخاسرون‏}‏ هي للقصر الادعائي، للمبالغة في اتصافهم بالخسران، حتى يعد خسران غيرهم كلا خسران وكأنهم انفردوا بالخسران من بين الناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

جرى هذا الكلام على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب، والوعيد بالوعد، والعكس، فأنذرهم بما أنذر، وتَوعّدَهم بما توعد ثم ذكّرهم بأنهم متمكنون من التدارك وإصلاح ما أفسدوا، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما يفتح لهم باب الإنابة‏.‏

والجملة استيناف يصح جعله بيانياً لأن ما تقدم بين يديه من الوعيد وقلة الاكتراث بشأنهم، وذكر خيبة مساعيهم، مما يثير في أنفُس بعضَهم والسامعين أن يتساءلوا عما إذا بقي لهم مخلص ينجيهم من ورطتهم التي ارتبقوا فيها، فأمر الرسول بأن يقول لهم هذا المقال ليريهم أن باب التوبة مفتوح، والإقلاع في مكنتهم‏.‏

وأسند الفعل في الجملة المحكية بالقول إلى ضمير الغائبين لأنه حكاية بالمعنى روعي فيها جانب المخاطب بالأمر تنبيهاً على أنه ليس حَظه مجرد تبليغ مقالة، فجُعل حَظه حظ لمخبر بالقضية الذي يُراد تقررها لديه قبل تبليغها، وهو إذا بلغ إليهم يبلغ إليهم ما أعلم به وبُلغ إليه، فيكون مخبراً بخبر وليس مجرد حامل لرسالة‏.‏

والمراد بالانتهاء‏:‏ الانتهاء عن شيء معلوم دَل عليه وصف الكفر هنا وما تقدمه من أمثاله وآثاره من الانفاق للصد عن سبيل الله، أي إن ينتهوا عن ذلك، وإنما يكون الانتهاء عن ذلك كله بالإيمان‏.‏

و ‏{‏ما قد سلف‏}‏ هو ما أسلفوه من الكفر وآثاره، وهذا، وإن كان قضية خاصة بالمشركين المخاطبين، فهو شامل كل كافر لتساوي الحال‏.‏

ولفظ الغفران حقيقة شرعية في العفو عن جزاء الذنوب في الآخرة، وذلك مهيع الآية فهو معلوم منها بالقصد الأول لا محالة، ويلحق به هنا عذاب الله في الدنيا لقوله‏:‏ ‏{‏فقد مضت سنة الأولين‏}‏‏.‏

وَاستنبط أيمتنا من هذه الآية أحكاماً للأفعال والتبعات التي قد تصدر من الكافر في حال كفره فإذا هو أسلم قبل أن يؤاخذ بها هل يُسقط عنه إسلامُه التبعات بها‏.‏

وذلك يرجع إلى ما استقريته وأصّلته في دلالة آي القرآن على ما يصح أن تدل عليه ألفاظها وتراكيبها في المقدمة التاسعة من هذا التفسير، فروى ابن العربي في «الأحكام» أن ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب، رووا عن مالك في هذه الآية‏:‏ أن من طلّق في الشرك ثم أسلم فلا طلاق عليه، ومن حلف يميناً ثم أسلم فلا حنث عليه فيها، وروى عن مالك‏:‏ إنما يعني عز وجل ما قد مضى قبل الإسلام من مال أو دم أو شيء، قال ابن العربي وهو الصواب لعموم قوله‏:‏ ‏{‏إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏}‏، وإن ابن القاسم، وابن وهب، رويا عن مالك أن الكافر إذا افترى على مسلم أو سرق ثم أسلم يقام عليه الحد، ولو زنى ثم أسلم أو اغتصب مسلمة ثم أسلم لسقط عنه الحد تفرقة بين ما كان حقاً لله محْضاً وما كان فيه حق للناس‏.‏

وذكر القرطبي عن ابن المنذر‏:‏ أنه حكى مثل ذلك عن الشافعي، وأنه احتج بهذه الآية، وفي «المدونة» تسقط عنه الحدود كلها‏.‏

وذكر في «الكشاف» عن أبي حنيفة أن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة، وأما الذميّ فلا يلزمه قضاء حقوق الله وتبقى عليه حقوق الآدميين، واحتج بهذه الآية، وفي كتب الفتوى لعلماء الحنفية بعض مخالفة لهذا، وحَكوا في المرتد إذا تاب وعاد إلى الإسلام أنه لا يلزمه قضاء ما فَاته من الصلاة ولا غرْم ما أصاب من جنايات ومتلفات‏.‏ وعن الشافعي يلزم ذلك كله وهو ما نسبه ابن العربي إلى الشافعي بخلاف ما نسبه إليه ابن المنذر كما تقدم وعن أبي حنيفة يسقط عنه كل حق هو لله ولا يسقط عنه حق الناس وحجة الجميع هذه الآية تعميماً وتخصيصاً بمخصصات أخرى‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏}‏ مُحسَن بديعي وهو الاتزان لأنه في ميزان الرجز‏.‏

والمراد بالعَود الرجوع إلى ما هم فيه من مناوأة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، والتجهز لحربهم، مثل صنعهم يوم بدر، وليس المراد عودهم إلى الكفر بعد الانتهاء لأن مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏إن ينتهوا‏}‏ تقتضي أنه ترديد بين حالتين لبيان ما يترتب على كل واحدة منهما وهذا كقول العرب بعضهم لبعض‏:‏ «أسلِمْ أنتَ أم حرب» ولأن الذين كفروا لما يفارقوا الكفَر بعدُ فلا يكون المراد بالعود عودَهم إلى الكفر بعد أن يسلموا‏.‏

والسنة العادة المألوفة والسيرة‏.‏ وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏مضت‏}‏ تقدمت وعَرَفَها الناس‏.‏

وهذا الخبر تعريض بالوعيد بأنهم سيلقون ما لقيه الأولون، والقرينةُ على إرادة التعريض بالوعيد أن ظاهر الإخبار بمضي سنة الأولين، وهو من الإخبار بشيء معلوم للمخبَرين به، وبهذا الاعتبار حسن تأكيده بقدْ إذ المراد تأكيد المعنى التعريضي‏.‏

وبهذا الاعتبار صح وقوع قوله‏:‏ ‏{‏فقد مضت سنة الأولين‏}‏ جزاء للشرط‏.‏ ولولا ذلك لما كان بين الشرط وجوابه ملازمة في شيء‏.‏

والأولون‏:‏ السابقون المتقدمون في حالة، والمراد هنا الأمم التي سبقت وعرفوا أخبارهم أنهم كذبوا رسل الله فلقوا عذاب الاستيصال مثل عاد وثمود قال تعالى‏:‏ ‏{‏فهل يَنظرون إلاّ سُنّة الأولين‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 43‏]‏‏.‏

ويجوز أن المراد بالأولين أيضاً السابقون للمخاطبين من قومهم من أهل مكة الذين استأصلهم السيف يوم بدر، وفي كل أولئك عبرة للحاضرين الباقين، وتهديد بأن يصيروا مصيرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏39‏)‏ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏إن الذين كفروا ينفقون أموالَهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏ الآية، ويجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏فقد مضتْ سنة الأولين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏ فتكون مما يدخل في حكم جَواب الشرط‏.‏ والتقدير‏:‏ فإن يعودوا فقاتلوهم، كقوله‏:‏ ‏{‏وإن عدتم عدنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 8‏]‏ وقوله ‏{‏وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏ والضمير عائِد إلى مشركي مكة‏.‏

والفتنة اضطراب أمر الناس ومَرَجهم، وقد تقدم بيانها غير مرة، منها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما نحن فتنةٌ فلا تكفر‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وحسبوا أن لا تكون فتنة‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 71‏]‏‏.‏

والمراد هنا أن لا تكون فتنة من المشركين لأنه لما جُعل انتفاء والفتنة غاية لقتالهم، وكان قتالهم مقصوداً منه إعدامُهم أوْ إسلامهم، وبأحَد هذين يكون انتفاء الفتنة، فنتج من ذلك أن الفتنة المرادَ نفيُها كانت حاصلة منهم وهي فتنتهم المسلمين لا محالة، لأنهم إنما يفتِنون مَن خالفهم في الدين فإذا أسلموا حصل انتفاء فتنتهم وإذا أعدمهم الله فكذلك‏.‏

وهذه الآية دالة على ما ذهب إليه جمهور علماء الأمة من أن قتال المشركين واجب حتى يسلموا، وأنهم لا تقبل منهم الجزية، ولذلك قال الله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏حتى لا تكون فتنة‏}‏ وقال في الآية الأخرى ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وهي أيضاً دالة على ما رآه المحققون من مؤرخينا‏:‏ من أن قتال المسلمين المشركين إنما كان أوله دفاعاً لأذى المشركين ضعفاء المسلمين، والتضييققِ عليهم حيثما حلوا، فتلك الفتنة التي أشار إليها القرآن ولذلك قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 191‏]‏‏.‏

والتعريف في ‏{‏الدين‏}‏ للجنس وتقدم الكلام على نظيرها في سورة البقرة، إلاّ أن هذه الآية زيد فيها اسم التأكيد وهو ‏{‏كله‏}‏ وذلك لأن هذه الآية أسبق نزولاً من آية البقرة فاحتيج فيها إلى تأكيد مفاد صيغة اختصاص جنس الدين بأنه لله تعالى، لئلا يتوهم الاقتناع بإسلام غالب المشركين فلما تقرر معنى العموم وصار نصاً من هذه الآية عُدل عن إعادته في آية البقرة تطلباً للإيجاز‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله بما يعملون بصير‏}‏ أي عليم كناية عن حسن مجازاته إياهم لأن القادر على نفع أوليائه ومطيعيه لا يحُول بينه وبين إِيصال النفع إليهم الإخفاء حال من يُخلص إليه، فلما أخبروا بأن الله مطلع على انتهائهم عن الكفر إن انتهوا عنه وكان ذلك لا يظن خلافه علم أن المقصود لازم ذلك‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يعلمون‏}‏ بياء الغائب وقرأه رُوَيْس عن يعقوب بتاء الخطاب‏.‏

والتولي‏:‏ الإعراض وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 92‏]‏‏.‏

والمَوْلى الذي يتولى أمر غيره ويدفع عنه وفيه معنى النصر‏.‏

والمعنى وإن تولوا عن هاته الدعوة فالله مغن لكم عن وَلائهم، أي لا يضركم توليهم فقوله‏:‏ ‏{‏أن الله مولاكم‏}‏ يؤذن بجواب محذوف تقديره‏:‏ فلا تخافوا تَوليهم فإن الله مولاكم وهو يقدر لكم ما فيه نفعكم حتى لا تكون فتنة‏.‏ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة الكذاب «ولئن توليتَ ليعْفِرنك الله» وإنما الخسارة عليهم إذْ حُرِموا السلامة والكرامة‏.‏

وافتتاح جملة جواب الشرط ب ‏{‏اعلموا‏}‏ لقصد الاهتمام بهذا الخبر وتحقيقه، أي لا تغفلوا عن ذلك، كما مر آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏نعم المولى ونعم النصير‏}‏ مستأنفة لأنها إنشاء ثناء على الله فكانت بمنزلة التذييل‏.‏

وعطف على ‏{‏نعم المولى‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏ونعم النصير‏}‏ لما في المولى من معنى النصر كما تقدم وقد تقدم بيان عطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونعم الوكيل‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏حسبنا الله‏}‏ سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏