فصل: تفسير الآيات رقم (140- 141)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏129‏)‏‏}‏

تذييل لقوله‏:‏ ‏{‏أو يتوب عليهم أو يعذبهم‏}‏ مشير إلى أن هذين الحالين على التوزيع بين المشركين، ولمَّا كان مظنّة التطلّع لمعرفة تخصيص فريق دون فريق، أو تعميم العذاب، ذيّله بالحوالة على إجمال حضرة الإطلاق الإلهية، لأنّ أسرار تخصيص كلّ أحد بما يعيَّن له، أسرار خفيّة لا يعلمها إلاّ الله تعالى، وكلّ ميسّر لما خلق له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 132‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏130‏)‏ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏131‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

ا أنّ الكلام على يوم أحُد لم يكمل، إذ هو سيعاد عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خَلت من قبلِكُم سنن‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يستبشرون بنعمة من الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 171‏]‏ الآية لقلنا إنّ قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا‏}‏ اقتضاب تشريع، ولكنّه متعيّن لأنْ نعتبره استطراداً في خلال الحديث عن يوم أحُد، ثمّ لم يظهر وجه المناسبة في وقوعه في هذا الأثناء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولا أحفظ سبباً في ذلك مروياً‏.‏ وقال الفخر‏:‏ من النّاس من قال‏:‏ لمّا أرشد الله المؤمنين إلى الأصلح لهم في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنَّهي فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا‏}‏ فلا تعلّق لها بما قبلها‏.‏

وقال القفّال‏:‏ لمّا أنفق المشركون على جيوشهم أموالاً جمعوها من الربا، خيف أن يدعُو ذلك المسلمين إلى الإقدام على الرّبا‏.‏ وهذه مناسبة مستبعدة‏.‏ وقال ابن عرفة‏:‏ لمّا ذكر الله وعيد الكفار عقّبه ببيان أن الوعيد لا يخصّهم بل يتناول العصاة، وذكر أحد صور العصيان وهي أكل الربا‏.‏ وهو في ضعف ما قبله، وعندي بادئ ذي بدء أن لا حاجة إلى اطّراد المناسبة، فإن مدّة نزول السورة قابلة، لأن تحدث في خلالها حوادث ينزل فيها قرآن فيكون من جملة تلك السورة، كما بيّناه في المقدّمة الثَّامنة، فتكون هاته الآية نزلت عقب ما نزل قبلها فكتبت هنا ولا تكون بَينهما مناسبة إذ هو ملحق إلحاقاً بالكلام‏.‏

ويتّجه أن يسأل سائل عن وجه إعادة النّهي عن الربا في هذه السورة بعد ما سبق من آيات سورة البقرة بما هو أوفى ممَّا في هذه السورة، فالجواب‏:‏ أنّ الظاهر أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول آية سورة البقرة فكانت هذه تمهيداً لتلك، ولم يكن النّهي فيها بالغاً ما في سورة البقرة وقد روي أن آية البقرة نزلت بعد أن حَرّم الله الربا وأن ثقيفاً قالوا‏:‏ كيف ننهى عن الربا، وهومثل البيع، ويكون وصف الربا ب ‏{‏أضعافاً مضاعفة‏}‏ نهياً عن الربا الفاحش وسَكت عمّا دون ذلك ممّا لا يبلغ مبلغ الأضعاف، ثمّ نزلت الآية الَّتي في سورة البقرة ويحتمل أن يكون بعض المسلمين داين بعضاً بالمراباة عقب غزوة أحُد فنزل تحريم الرّبا في مدّة نزول قصّة تلك الغزوة‏.‏ وتقدّم الكلام على معنى أكل الرّبا، وعلى معنى الربا، ووجه تحريمه، في سورة البقرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أضعافاً مضاعفة‏}‏ حال من ‏{‏الرّبا‏}‏ والأضعاف جمع ضعف بكسر الضّاد وهو معادل الشيء في المقدار إذا كان الشيء ومماثله متلازمين، لا تقول‏:‏ عندي ضعف درهمك، إذ ليس الأصل عندك، بل يحسن أن تقول‏:‏ عندي درهمان، وإنَّما تقول‏:‏ عندي درهم وضعفه، إذا كان أصل الدرهم عندك، وتقول‏:‏ لك درهم وضِعفه، إذا فعلت كذا‏.‏

والضعف يطلق على الواحد إذا كان غير معرّف بأل نحو ضِعفُه، فإذا أريد الجمع جيء به بصيغة الجَمع كما هنا، وإذا عُرف الضعف بأل صحّ اعتبار العهد واعتبارالجنس، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 37‏]‏ فإن الجزاء أضعاف، كما جاء في الحديث إلى سبعمائة ضعف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مضاعفة‏}‏ صفة للأضعاف أي هي أضعاف يدخلها التَّضعيف، وذلك أنّهم كانوا إذا دَاينوا أحداً إلى أجل داينوه بزيادة، ومتى أعسر عند الأجل أو رام التأخير زاد مثل تلك الزيادة، فيصير الضِعف ضعفاً، ويزيد، وهكذا، فيصدق بصورة أن يجعلوا الدّين مضاعفاً بمثله إلى الأجل، وإذا ازداد أجلاً ثانياً زاد مثل جميع ذلك، فالأضعاف من أوّل التداين للأجل الأوّل، ومضاعفتها في الآجال الموالية، ويصدُق بأن يداينوا بمراباة دون مقدار الدّين ثُمّ تزيد بزيادة الآجال، حتَّى يصير الدّين أضعافاً، وتصير الأضعاف أضعافاً، فإن كان الأوّل فالحال واردة لحكاية الواقع فلا تفيد مفهوماً‏:‏ لأنّ شرط استفادة المفهوم من القيود أن لا يكون القيد الملفوظ به جرَى لحكاية الواقع، وإن كان الثَّاني فالحال واردة لقصد التشنيع وإراءة هذه العاقبة الفاسدة‏.‏ وإذ قد كان غالب المدينين تستمرّ حاجتهم آجالاً طويلة، كان الوقوع في هذه العاقبة مطرّداً، وحينئذ فالحال لا تفيد مفهوماً كذلك إذ ليس القصد منها التقييدَ بل التشنيعَ، فلا يقتصر التَّحريم بهذه الآية على الربا البالغ أضعافاً كثيرة، حتَّى يقول قائل‏:‏ إذا كان الرّبا أقلّ من ضعف رأس المال فليس بمحرّم‏.‏ فليس هذا الحال هو مصبّ النَّهي عن أكل الربا حتَّى يَتَوهَّم متوهّم أنَّه إن كان دون الضعف لم يكن حرَاماً‏.‏ ويظهر أنَّها أوّل آية نزلت في تحريم الربا، وجاءت بعدها آية البقرة، لأن صيغة هذه الآية تناسب ابتداء التشريع، وصيغة آية البقرة تدلّ على أن الحكم قد تقرّر، ولذلك ذكر في تلك الآية عذابُ المستمرّ على أكل الرّبا‏.‏ وذُكر غرور من ظنّ الرّبا مثل البيع، وقيل فيها ‏{‏فمن جاءه موعظة من ربِّه فانتهى فله ما سلف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏ الآية، كما ذكرناه آنفاً، فمفهوم القيد معطَّل على كُلّ حال‏.‏

وحكمة تحريم الرّبا هي قصد الشَّريعة حملَ الأمَّة على مواساة غنيِّها محتاجَها احْتياجاً عارضاً موقّتاً بالقرض، فهو مرتبة دون الصدقة، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة، ومنها ندب كالصّدقة والسلففِ، فإن انتدب لها المكلّف حرّم عليه طلب عوض عنها، وكذلك المعروف كُلّه، وذلك أن العادة الماضية في الأمم، وخاصّة العرب، أنّ المرء لا يتداين إلاّ لضرورة حياته، فلذلك كان حقّ الأمَّة مواساته‏.‏ والمواساة يظهر أنَّها فرض كفاية على القادرين عليها، فهو غير الَّذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعيْن والمتقارضين‏:‏ للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين إلاّ أن الشرع ميّز هاته الواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية، لا باختلاف أحوال المتعاقدين، فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الرّبا في السلف، ولو كان المستسلف غير محتاج، بل كان طالبَ سعة وإثراءٍ بتحريك المال الَّذي يتسلّفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك، وسمَح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتِّجارة ودين السَّلَم، ولو كان الرّبح في ذلك أكثر من مقدار الرّبا تفرقة بين المواهي الشرعية‏.‏

ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الرّبا البعدَ بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا، فيكون تحريم الرّبا، ولو كان قليلاً، مع تجويز الربح من التِّجارة والشركات، ولو كان كثيراً تحقيقاً لهذا المقصد‏.‏

ولقد قضى المسلمون قروناً طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالرّبا، ولم تكن ثروتهم أيّامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم، أزمان كانت سيادة العالم بيدهم، أو أزمان كانوا مستقلّين بإدارة شؤونهم، فلمَّا صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية، وارتبط المسلمون بغيرهم في التِّجارة والمعاملة، وانتظمت سوق الثَّروة العالمية على قواعد القوانين الَّتي لا تتحاشى المراباة في المعاملات، ولا تعْرف أساليب مواساة المسلمين، دهش المسلمون، وهم اليوم يتساءلون، وتحريم الربا في الآية صريح، وليس لما حرّمه الله مبيح‏.‏ ولا مخلص من هذا المضيق إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تُبنى على أصول الشريعة في المصارف، والبيوع، وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمّال‏.‏ وحوالات الديون ومقاصّتها وبيعها‏.‏ وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كلّ فرقة كما أمر الله تعالى‏.‏

وقد تقدّم ذكر الربا والبيوع الربوية عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس الآيات الخمس‏}‏ من سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 275‏]‏‏.‏

‏(‏وقوله‏:‏ واتقوا النار التي أعدت للكافرين‏}‏ تحذير وتنفير من النَّار وما يوقع فيها، بأنَّها معدودة للكافرين وإعدادها للكافرين‏.‏ عَدل من الله تعالى وحكمة لأنّ ترتّب الأشياء على أمثالها من أكبر مظاهر الحكمة، ومَن أشركوا بالله مخلوقاته، فقد استحقّوا الحرمان من رحماته، والمسلمون لا يرضَون بمشاركة الكافرين لأنّ الإسلام الحقّ يوجب كراهية ما ينشأ عن الكفر‏.‏ وذاك تعريض واضح في الوعيد على أخذ الربا‏.‏

ومقابل هذا التنفير الترغيب الآتي في قوله‏:‏ ‏{‏وجنة عرضها السموات والأرض أُعدت للمتقين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 133‏]‏، والتَّقوى أعلى درجات الإيمان‏.‏

وتعريف النار بهذه الصّلة يُشعر بأنَّه قد شاع بين المسلمين هذا الوصف للنَّار بما في القرآن من نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وبرزت الجحيم للغاوين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 91‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 134‏]‏

‏{‏وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏133‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ‏{‏سارعوا‏}‏ دون واو عطف‏.‏

تتنزّل جملة ‏{‏سارعوا‏.‏‏.‏‏}‏ منزلة البيان، أو بدل الاشتمال، لِجملة ‏{‏وأطيعوا الله والرسول‏}‏ لأنّ طاعة الله والرّسول مسارعة إلى المغفرة والجنَّة فلذلك فُصلت‏.‏ ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنّة يؤول إلى الأمر بالأعمال الصّالحة جاز عطف الجملة على الجملة الأمر بالطّاعة، فلذلك قرأ بقية العشرة ‏{‏وسارعوا‏}‏‏.‏ بالعطف وفي هذه الآية ما ينبئنا بأنَّه يجوز الفصل والوصل في بعض الجمل باعتبارين‏.‏

والسرعة المشتقّ منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والفور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة، ويَجوز أن تكون السرعة حقيقة، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند النفير كقوله في الحديث‏:‏ «وإذا استُنْفِرْتُمْ فانفِرُوا»‏.‏

والمسارعة، على التقادير كلّها تتعلّق بأسباب المغفرة وأسباب دخول الجنة، فتعليقها بذات المغفرة والجنة من تعليق الأحكام بالذوات على إرادة أحوالها عند ظهور عدم الفائدة في التعلّق بالذات‏.‏

وجيء بصيغة المفاعلة، مجرّدة عن معنى حصول الفعل من جانبين، قصد المبالغة في طلب الإسراع، والعرب تأتي بما يدلّ في الوضع على تكرّر الفعل وهم يريدون التأكيد والمبالغة دون التكرير، ونظيره التثنية في قولهم‏:‏ لبيك وسعديك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم ارجع البصر كرتين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وتنكير ‏(‏مغفرة‏]‏ ووصلها بقوله‏:‏ ‏{‏من ربكم‏}‏ مع تأتّي الإضافة بأن يقال إلى مغفرة ربّكم، لقصد الدّلالة على التَّعظيم، ووصف الجنة بأنّ عرضها السماوات والارض على طريقة التشبيه البليغ، بدليل التَّصريح بحرف التَّشبيه في نظيرتها في آية سورة الحديد‏.‏ والعَرض في كلام العرب يطلق على ما يقابل الطول، وليس هو المراد هنا، ويطلق على الاتِّساع لأنّ الشيء العريض هو الواسع في العرف بخلاف الطويل غير العريض فهو ضيق، وهذا كقول العُديل‏:‏

ودونَ يدِ الحَجَّاج منْ أنْ تنالني *** بساط بأيدِي الناعِجاتتِ عرِيضُ

وذِكر السماوات والأرض جار على طريقة العرب في تمثيل شدّة الاتّساع‏.‏ وليس المراد حقيقة عرض السماوات والارض ليوافق قول الجمهور من علمائنا بأن الجنَّة مخلوقة الآن، وأنَّها في السماء، وقيل‏:‏ هو عرضها حقيقة، وهي مخلوقة الآن لكنّها أكبر من السماوات وهي فوق السماوات تحت العرش، وقد رُوي‏:‏ العرش سقف الجنة‏.‏ وأما من قال‏:‏ إن الجنّة لم تخلق الآن وستخلق يوم القيامة، وهو قول المعتزلة وبعض أهل السنّة منهم مُنذر بن سعيد البَلُّوطي الأندلسي الظاهري، فيجوز عندهم أن تكون كعرض السماوات والأرض بأن تخلق في سعة الفضاء الَّذي كان يملؤه السماوات والأرض أو في سعة فضاء أعظم من ذلك‏.‏ وأدلّة الكتاب والسنّة ظاهرة في أنّ الجنَّة مخلوقة، وفي حديث رؤيا رآها النَّبيء صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الطويل الذي فيه قوله‏:‏ «إنّ جبريل وميكاييل قالا له‏:‏ ارفع رأسك، فرفع فإذا فوقه مثل السحاب، قالا‏:‏ هذا منزلك، قال‏:‏ فقلت‏:‏ دَعاني أدخُل منزلي، قالا‏:‏ إنَّه بقي لك عُمُر لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك»‏.‏

أعقب وصف الجنَّة بذكر أهلها لأنّ ذلك ممَّا يزيد التَّنويه به، ولم يزل العقلاء يتخيّرون حسن الجوار كما قال أبو تمام‏:‏

مَنْ مُبْلِغُ أفْنَاءَ يعرُب كلّها *** أني بَنيت الجارَ قبل المنزلِ

وجملةُ ‏{‏أعدّت للمتّقين‏}‏ استئناف بياني لأنّ ذكر الجنَّة عقب ذكر النَّار الموصوفة بأنَّها أعدّت للكافرين يثير في نفوس السامعين أن يتعرّفوا مَن الذين أعدّت لهم‏:‏ فإن أريد بالمتَّقين أكمل ما يتحقّق فيه التَّقوى، فإعدادها لهم لأنَّهم أهلها فضلاً من الله تعالى الّذين لا يلجون النار أصلاً عدلاً من الله تعالى فيكون مقابلَ قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا النار التي أُعدت للكافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 131‏]‏، ويكون عصاة المؤمنين غير التَّائبين قد أخذوا بحظّ من الدارين، لمشابهة حالهم حالَ الفريقين عدلاً من الله وفضلاً، وبمقدار الاقتراب من أحدهما يكون الأخذ بنصيب منه، وأريد المتّقون في الجملة فالإعداد لهم باعتبار أنَّهم مقدّرون من أهلها في العاقبة‏.‏

وقد أجرى على المتَّقين صفات ثناءٍ وتنويه، هي ليست جماع التَّقوى، ولكن اجتماعها في محلّها مؤذن بأنّ ذلك المحلّ الموصوف بها قد استكمل ما به التقوى، وتلك هي مقاومة الشحّ المُطاع، والهوَى المتَّبع‏.‏

الصفة الأولى‏:‏ الإنفاق في السَّراء والضّراء‏.‏ والإنفاق تقدّم غير مرّة وهو الصدقة وإعطاء المال والسلاح والعُدة في سبيل الله‏.‏ والسرّاء فَعْلاء، اسم لمصدر سرّه سَرّاَ وسُروراً‏.‏ والضّراء كذلك من ضَرّه، أي في حالي الاتّصاف بالفرح والحزن، وكأنّ الجمعَ بينهما هنا لأنّ السرّاء فيها ملهاة عن الفكرة في شأن غيرهم، والضرّاء فيها ملهاة وقلّة مَوجدة‏.‏ فملازمة الإنفاق في هذين الحالين تَدلّ على أنّ محبَّة نفع الغير بالمال، الَّذي هو عزيز على النَّفس، قد صارت لهم خلقاً لا يحجبهم عنه حاجب ولا ينشأ ذلك إلاّ عن نفس طاهرة‏.‏

الصفة الثَّانية‏:‏ الكاظمين الغيظ‏.‏ وكظم الغيظ إمساكه وإخفاؤه حتَّى لا يظهر عليه، وهو مأخوذ من كظم القربة إذا ملأها وأمسك فمها، قال المبرّد‏:‏ فهو تمثيل للإمساك مع الامتلاء، ولا شكّ أن أقوى القوى تأثيراً على النَّفس القوّة الغاضبة فتشتهي إظهار آثار الغضب، فإذا استطاع إمساكَ مظاهرها، مع الامتلاء منها، دلّ ذلك على عزيمة راسخة في النَّفس، وقهرِ الإرادةِ للشهوة، وهذا من أكبر قوى الأخلاق الفاضلة‏.‏

الصفّة الثالثة‏:‏ العفو عن النَّاس فيما أساؤوا به إليهم‏.‏ وهي تكملة لصفة كظم الغيظ بمنزلة الاحتراس لأنّ كظم الغيظ قد تعترضه ندامة فيستعدي على من غاظه بالحقّ، فلمَّا وصفوا بالعفو عمّن أساء إليهم دلّ ذلك على أنّ كظم الغيظ وصف متأصّل فيهم، مستمرّ معهم‏.‏ وإذا اجتمعت هذه الصفّات في نفسسٍ سهل ما دونها لديها‏.‏

وبجماعها يجتمع كمال الإحسان ولذلك ذيل الله تعالى ذكرها بقوله‏:‏ ‏{‏والله يحب المحسنين‏}‏ لأنه دال على تقدير أنهم بهذه الصفات محسنون والله يحبّ المحسنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

إن كان عطفَ فريققٍ آخر، فهم غيرُ المتّقين الكاملين، بل هم فريق من المتّقين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً، وإن كان عطفَ صفات، فهو تفضيل آخر لحال المتَّقين بأن ذُكر أوّلاً حال كمالهم، وذكر بعده حال تداركهم نقائصهم‏.‏

والفاحشة الفَعلة المتجاوزة الحدّ في الفساد، ولذلك جمعت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏ واشتقاقها من فَحُش بمعنى قال قولاً ذميماً، كما في قول عائشة‏:‏ «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحّشاً»، أو فعلَ فعلاً ذميماً، ومنه ‏{‏قل إن الله لا يأمر بالفحشاء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

ولا شك أنّ التَّعريف هنا تعريف الجنس، أي فعلوا الفواحش، وظلمُ النفس هو الذنوب الكبائر، وعطفها هنا على الفواحش كعطف الفواحش عليها في قوله‏:‏ ‏{‏الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏‏.‏ فقيل‏:‏ الفاحشة المعصية الكبيرة، وظلم النَّفس الكبيرة مطلقاً، وقيل‏:‏ الفاحشة هي الكبيرة المتعدية إلى الغير، وظلم النَّفس الكبيرة القاصرة على النَّفس، وقيل‏:‏ الفاحشة الزنا، وهذا تفسير على معنى المثال‏.‏

والذكر في قوله‏:‏ ‏{‏ذكروا الله‏}‏ ذكر القلب وهو ذِكر ما يجب لله على عبده، وما أوصاه به، وهو الَّذي يتفرّع عنه طلب المغفرة؛ وأمّا ذكر اللّسان فلا يترتّب عليه ذلك‏.‏ ومعنى ذكر الله هنا ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده‏.‏

والاستغفار‏:‏ طلب الغَفْر أي الستر للذنوب، وهو مجاز في عدم المؤاخذة على الذنب، ولذلك صار يعدّي إلى الذنب باللام الدالة على التَّعليل كما هنا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفر لذنبك‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏‏.‏ ولمَّا كان طلب الصفح عن المؤاخذة بالذنب لا يصدر إلا عن ندامة، ونية إقلاع عن الذنب، وعدم العودة إليه، كان الاستغفار في لسان الشارع بمعنى التوبة، إذ كيف يطلب العفو عن الذنب من هو مستمرّ عليه، أو عازم على معاودته، ولو طلب ذلك في تلك الحالة لكان أكثر إساءة من الذنب، فلذلك عدّ الاستغفار هنا رتبة من مراتب التَّقوى‏.‏ وليس الاستغفار مجرّد قول ‏(‏أستغفر الله‏)‏ باللّسان والقائلُ ملتبس بالذنوب‏.‏ وعن رابعة العدوية أنَّها قالت‏:‏ «استغفارنا يحتاج إلى الاستغفار» وفي كلامها مبالغة فإنّ الاستغفار بالقول مأمور به في الدّين لأنَّه وسيلة لتذكّر الذنب والحيلة للإقلاع عنه‏.‏

وجملة ‏{‏ومن يغفر الذنوب إلاّ الله‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏فاستغفروا‏}‏ وجملة ‏{‏ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا‏}‏‏.‏

والاستفهام مستعمل في معنى النَّفي، بقرينة الاستثناء منه، والمقصود تسديد مبادرتهم إلى استغفار الله عقب الذنب، والتعريض بالمشركين الَّذين اتّخذوا أصنامهم شفعاء لهم عند الله، وبالنَّصارى في زعمهم أنّ عيسى رفع الخطايا عن بني آدم ببلية صَلبه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولم يصروا‏}‏ إتمام لركْني التَّوبة لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ يشير إلى الندم، وقوله‏:‏ ‏{‏ولم يصروا‏}‏ تصريح بنفي الإصرار، وهذان ركنا التَّوبة‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ النَّدم توبة ‏"‏، وأما تدارك ما فرّط فيه بسبب الذنب فإنَّما يكون مع الإمكان، وفيه تفصيل إذا تعذّر أو تعسّر، وكيف يؤخذ بأقصى ما يمكن من التدارك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولم يصروا على ما فعلوا‏}‏ حال من الضّمير المرفوع في «ذكروا» أي‏:‏ ذكروا الله في حال عدم الإصرار‏.‏ والإصرار‏:‏ المُقام على الذنب، ونفيُه هو معنى الإقلاع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ حال ثانية، وحذف مفعول يعلمون لظهوره من المقام أي يعلمون سوء فعلهم، وعظم غضب الربّ، ووجوبَ التوبة إليه، وأنَّه تفضّل بقبول التَّوبة فمحا بها الذنوب الواقعة‏.‏

وقد انتظم من قوله‏:‏ ‏{‏ذكروا الله فاستغفروا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولم يصروا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ الأركان الثلاثة الَّتي ينتظم منها معنى التَّوبة في كلام أبي حامد الغزالي في كتاب التَّوبة من «إحياء علوم الدّين» إذ قال‏:‏ «وهي عِلْم، وحال، وفعل‏.‏ فالعلم هو معرفة ضرّ الذنوب، وكونها حجاباً بين العبد وبين ربِّه، فإذا علم ذلك بيقين ثار من هذه المعرفة تألّم للقلب بسبب فوات ما يحبّه من القرب من ربِّه، ورضاه عنه، وذلك الألم يسمّى ندماً، فإذا غلب هذا الألم على القلب انبعثت منه في القلب حالة تسمّى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلّق بالحال والماضي والمستقبل، فتعلّقه بالحال هو ترك الذنب ‏(‏الإقلاع‏)‏، وتعلّقه بالمستقبل هو العزم على ترك الذنب في المستقبل ‏(‏نفي الإصرار‏)‏، وتعلّقه بالماضي بتلافي ما فات»‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذكروا الله‏}‏ إشارة إلى انفعال القلب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولم يصروا‏}‏ إشارة إلى الفعل وهو الإقلاع ونفي العزم على العودة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ إشارة إلى العلم المثير للانفعال النفساني‏.‏ وقد رتّبت هاته الأركان في الآية بحسب شدّة تعلّقها بالمقصود‏:‏ لأنّ ذكر الله يحصل بعد الذنب، فيبعث على التَّوبة، ولذلك رتّب الاستغفار عليه بالفاء، وأمَّا العلم بأنَّه ذنب، فهو حاصل من قبل حصول المعصية، ولولا حصوله لما كانت الفعلة معصية‏.‏ فلذلك جيء به بعد الذكر ونفي الإصرار، على أنّ جملة الحال لا تدلّ على ترتيب حصول مضمونها بعد حصول مضمون ما جيء به قبلَها في الأخبار والصّفات‏.‏

ثُمّ إن كان الإصرار، وهو الاستمرار على الذنب، كما فُسِّر به كان نفيه بمعنى الإقلاع لأجل خَشية الله تعالى، فلم يدلّ على أنَّه عازم على عدم العود إليه، ولكنَّه بحسب الظاهر لا يرجع إلى ذنب ندِمَ على فعله، وإن أريد بالإصرار اعتقاد العود إلى الذنب فنفيه هو التَّوبة الخالصة، وهو يستلزم حصول الإقلاع معه إذ التلبّس بالذنب لا يجتمع مع العزم على عدم العود إليه، فإنَّه متلبّس به من الآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

استئناف للتنويه بسداد عملهم‏:‏ من الاستغفار، وقبول الله منهم‏.‏

وجيء باسم الإشارة لإفادة أنّ المشار إليهم صاروا أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة، لأجل تلك الأوصاف الَّتي استوجبوا الإشارة لأجلها‏.‏

وهذا الجزاء وهو المغفرة وعد من الله تعالى، تفضّلا منه‏:‏ بأن جعل الإقلاع عن المعاصي سبباً في غفران ما سلف منها‏.‏ وأمَّا الجنّات فإنَّما خلصت لهم لأجل المغفرة، ولو أخذوا بسالف ذنوبهم لما استحقّوا الجنَّات فالكلّ فضل منه تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويعم أجر العالمين‏}‏ تذييل لإنشاء مدح الجزاء‏.‏ والمخصوص بالمدح محذوف تقديره هو‏.‏ والواو للعطف على جملة ‏{‏جزاؤهم مغفرة‏}‏ فهو من عطف الإنشاء على الإخبار، وهو كثير في فصيح الكلام، وسمِّي الجزاء أجراً لأنَّه كان عن وعد للعامل بما عمل‏.‏ والتَّعريف في ‏(‏العاملين‏)‏ للعهد أي‏:‏ ونعم أجر العاملين هذا الجزاء، وهذا تفضيل له والعمل المجازي عليه أي إذا كان لأصناف العاملين أجور، كما هو المتعارف، فهذا نعم الأجر لعامل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي‏:‏ تمهيد لإعادة الكلام على ما كان يوم أحُد، وما بينهما استطراد، كما علمت آنفاً، وهذا مقدّمة التَّسلية والبشارة الآيتين‏.‏ ابتدئت هاته المقدّمة بحقيقة تاريخية‏:‏ وهي الاعتبار بأحوال الأمم الماضية‏.‏

وجيء ب ‏(‏قد‏)‏، الدّالة على تأكيد الخبر، تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك لما ظهر عليهم من انكسار الخواطر من جراء الهزيمة الحاصلة لهم من المشركين، مع أنّهم يقاتلون لنصر دين الله، وبعد أن ذاقوا حلاوة النَّصر يوم بدر، فبيّن الله لهم أنّ الله جعل سنّة هذا العامل أن تكون الأحوال فيه سجالاً ومداولة، وذكّرهم بأحوال الأمم الماضية، فقال‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏‏.‏ والله قادر على نصرهم، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلاّ يغترّ من يأتي بعدهم من المسلمين، فيحسب أنّ النَّصر حليفهم‏.‏ ومعنى خلت مضت وانقرضت‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبله الرسل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏‏.‏

والسنن جمع سنة وهي السيرة من العمل أو الخلق الذي يلازم المرءُ صدور العمل على مثالها قال لبيد‏:‏

من معشر سنَّت لهم آباؤهم *** ولكُلّ قوم سْنَّة وإمَامُهَا

وقال خالد الهذلي يخاطب أبا ذؤيب الهذلي‏:‏

فَلاَ تَجْزَعَنْ من سُنّة أنتَ سرْتها *** فأوّلُ راضضٍ سنّةً من يَسيرها

وقد تردّد اعتبار أيمّة اللّغة إيّاها جامداً غير مشتقّ، أو اسم مصْدر سَنّ، إذ لم يرد في كلام العرب السَّنُّ بمعنى وضْع السنّة، وفي «الكشاف» في قوله‏:‏ ‏{‏سنة اللَّه في الذين خلوا من قبل‏}‏ في سورة ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38‏]‏‏:‏ سنة الله اسم موضوع موضع المصدر كقولهم تُرْباً وَجَنْدَلاً، ولعلّ مراده أنَّه اسم جامد أقيم مقام المصدر كما أقيم تُربا وجندلاً مُقام تَبَّاً وسُحْقاً في النصب على المفعولية المطلقة، الَّتي هي من شأن المصادر، وأنّ المعنى تراب له وجندل له أي حُصِب بتراب ورُجم بجندل‏.‏ ويظهر أنَّه مختار صاحب القاموس‏}‏ لأنَّه لم يذكر في مادّة سَنّ ما يقتضي أنّ السنّة اسم مصدر، ولا أتى بها عقب فعل سَنّ، ولا ذكر مصدراً لفعل سنّ‏.‏ وعلى هذا يكون فعل سنّ هو المشتقّ من السنّة اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة، وهو اشتقاق نادر‏.‏ والجاري بكثرة على ألسنة المفسّرين والمعربين‏:‏ أنّ السنّة اسم مصدر سَنّ ولم يذكروا لِفعل سَنّ مصدراً قياسياً‏.‏ وفي القرآن إطلاق السنّة على هذا المعنى كثيراً‏:‏ ‏{‏فلن تجد لسنة اللَّه تبديلاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 43‏]‏ وفسّروا السنن هنا بسنن الله في الأمم الماضية‏.‏

والمعنى‏:‏ قد مضت من قبلكم أحوال للأمم، جارية على طريقة واحدة، هى عادة الله في الخلق، وهي أنّ قوّة الظالمين وعتّوهم على الضعفاء أمر زائل، والعاقبة للمتّقين المحقّين، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ أي المكذّبين بِرسل ربّهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقّق ما بلغ من أخبارهم، أو السؤال عن أسباب هلاكهم، وكيف كانوا أولي قوة، وكيف طغوا على المستضعفين، فاستأصلهم الله أو لتطمئنّ نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدةَ عيان، فإنّ للعيان بديع معنى لأنّ بَلَغتهم أخبار المكذّبين، ومن المكذّبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرسّ، وكلّهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم‏.‏

وفي الآية دلالة على أهميِّة علم التَّاريخ لأنّ فيه فائدة السير في الأرض، وهي معرفة أخبار الأوائل، وأسباب صلاح الأمم وفسادها‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ «السير في الأرض حسّي ومعنوي، والمعنوي هو النظر في كتب التَّاريخ بحيث يحصل للنَّاظر العلم بأحوال الأمم، وما يقرب من العلم، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لِعجز الإنسان وقصوره»‏.‏

وإنَّما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب لأنّ في المخاطبين مَن كانوا أمِّيين، ولأنّ المشاهدة تفيد من لم يقرأ علماً وتقوّي عِلْم من قرأ التَّاريخ أو قصّ عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

‏{‏هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

تذييل يعمّ المخاطبين الحاضرين ومن يجيء بعدهم من الأجيال، والإشارة إمَّا إلى ما تقدّم بتأويل المذكور، وإمَّا إلى حاضر في الذهن عند تلاوة الآية وهو القُرآن‏.‏

والبيانُ‏:‏ الإيضاح وكشف الحقائق الواقعة‏.‏ والهدى‏:‏ الإرشاد إلى ما فيه خير النَّاس في الحال والاستقبال‏.‏ والموعظة‏:‏ التحذير والتخويف‏.‏ فإن جعلت الإشارة إلى مضمون قوله‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏ الآية فإنَّها بيان لما غفلوا عنه من عدم التَّلازم بين النَّصر وحسن العاقبة، ولا بين الهزيمة وسوء العاقبة، وهي هدى لهم لينتزعوا المسببات من أسبابها، فإن سبب النجاح حقاً هو الصلاح والاستقامة، وهي موعظة لهم ليحذروا الفساد ولا يغترّوا كما اغترّت عاد إذ قالوا‏:‏ «مَنْ أشَدّ مِنَّا قوّة»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا ولا تحزنوا‏}‏ نهي للمسلمين عن أسباب الفشل‏.‏ والوهن‏:‏ الضعف، وأصله ضعف الذات‏:‏ كالجسم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربِّ إنِّي وهَن العظم منِّي‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 4‏]‏، والحبْل في قول زهير‏:‏

فأصبح الحَبْل منها خَلَقا ***

وهو هنا مجاز في خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأساً، والشَّجاعة جبناً، واليقين شكّاً، ولذلك نهوا عنه‏.‏ وأمَّا الحزن فهو شدّة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار‏.‏ والوهنُ والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتّب عليهما الاستسلام وترك المقاومة‏.‏ فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما وهو الاعتقاد، كما يُنهى عن النسيان، وكما يُنهى أحد عن فعل غيره في نحو لا أرَيَنّ فلاناً في موضع كذا أي لا تَتْركْه يحلّ فيه، ولذلك قدّم على هذا النَّهي قوله‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏ إلخ‏.‏‏.‏‏.‏ وعقب بقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين‏}‏، الواو للعطف وهذه بشارة لهم بالنَّصر المستقبل، فالعلوّ هنا علوّ مجازيّ وهو علوّ المنزلة‏.‏

والتَّعليق بالشرط في قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ قصد به تهييج غيرتهم على الإيمان إذ قد علِم الله أنَّهم مؤمنون ولكنَّهم لمّا لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة، كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم‏:‏ إن علمتم من أنفسكم الإيمان، وجيء بإن الشرطية الَّتي من شأنها عدم تحقيق شرطها، إتماماً لِهذا المقصد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏140- 141‏]‏

‏{‏إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الايام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس‏}‏‏.‏

تسلية عمَّا أصاب المسلمين يوم أُحُد من الهزيمة بأن ذلك غير عجيب في الحرب، إذ لا يخلو جيش من أن يغلب في بعض مواقع الحرب، وقد سبق أنّ العدوّ غُلب‏.‏ والمسّ هنا الإصابة كقوله في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ ‏{‏مستهم البأساء والضراء‏}‏ والقَرح بفتح القاف في لغة قريش الجرح، وبضمِّها في لغة غيرهم، وقرأه الجمهور‏:‏ بفتح القاف، وقرأه حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف‏:‏ بضمّ القاف، وهو هنا مستعمل في غير حقيقته، بل هو استعارة للهزيمة الَّتي أصابتهم، فإنّ الهزيمة تشبّه بالثلمة وبالانكسار، فشبّهت هنا بالقرح حين يصيب الجسد، ولا يصحّ أن يراد به الحقيقة لأنّ الجراح الَّتي تصيب الجيش لا يعبأ بها إذا كان معها النصر، فلا شكّ أنّ التسلية وقعت عمّا أصابهم من الهزيمة‏.‏

والقوم هم مشركو مكة ومن معهم‏.‏

والمعنى إن هُزِمتم يوم أُحُد فقد هزم المشركون يوم بدر وكنتم كفافاً‏.‏ ولذلك أعقبه بقوله‏:‏ وتلك الأيام نداولها بين الناس‏}‏‏.‏ والتَّعبير عمَّا أصاب المسلمين بصيغة المضارع في ‏{‏يمسسكم‏}‏ لقُربه من زمن الحال، وعمّا أصاب المشركين بصيغة الماضِي لبعده لأنَّه حصل يوم بدر‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏فقد مس القوم قرح‏}‏ ليس هو جواب الشرط في المعنى ولكنّه دليل عليه أغنى عنه على طريقة الإيجاز، والمعنى‏:‏ إن يمسكم قرح فلا تحْزنوا أو فلا تهنوا وهَناً بالشكّ في وعد الله بنصر دينه إذ قد مسّ القومَ قرح مثله فلم تكونوا مهزومين ولكنّكم كنتم كفافاً، وذلك بالنِّسبة لقلّة المؤمنين نصر مبين‏.‏ وهذه المقابلة بما أصاب العدوّ يوم بدر تعيِّن أن يكون الكلام تسلية وليس إعلاماً بالعقوبة كما قاله جمع من المفسّرين‏.‏ وقد سأل هرقل أبا سفيان‏:‏ كيف كان قتالكم له قال «الحرب بيننا سِجَال يَنَالُ مِنَّا وننال منه، فقال هرقل‏:‏ وكذلك الرسل تبتلَى وتكون لهم العاقبة»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وتلك الأيام نداولها بين الناس‏}‏ الواو اعتراضية، والإشارة بتلك إلى ما سيُذكر بعدُ، فالإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن لقصد الاهتمام بالخبر وهذا الخبر مكنّى به عن تعليل للجواب المحذوف المدلول عليه بجملة‏:‏ ‏{‏فقد مس القوم قرح مثله‏}‏‏.‏

و ‏{‏الأيَّام‏}‏ يجوز أن تكون جمع يوم مراد به يوم الحرب، كقولهم‏:‏ يوم بدر ويوم بُعاث ويوم الشَّعْثَمَيْن، ومنه أيّام العرب، ويجوز أن يكون أطلق على الزّمان كقول طرفة‏:‏

وما تَنْقُصصِ الأيَّامُ والدهرُ يَنْفَدِ ***

أي الأزمان‏.‏

والمداولة تصريفها غريب إذ هي مصدر دَاول فلان فلاناً الشيء إذا جعله عنده دُولة ودوُلة عند الآخر أي يَدُولُه كُلٌّ منهما أي يلزمه حتَّى يشتهر به، ومنه دال يَدُول دَوْلاً اشتهر، لأنّ الملازمة تقتضِي الشهرة بالشيء، فالتداول في الأصل تفاعل من دال، ويكون ذلك في الأشياء والكلام، يقال‏:‏ كلام مُدَاوَل، ثُمّ استعملوا داولت الشيء مجازاً، إذا جعلت غيرك يتداولونه، وقرينة هذا الاستعمال أن تقول‏:‏ بينهم‏.‏

فالفاعل في هذا الإطلاق لا حظّ له من الفعل، ولكن له الحظّ في الجعل، وقريب منه قولهم‏:‏ اضطررته إلى كذا، أي جعلته مضطرّاً مع أنّ أصل اضطرّ أنَّه مطاوع ضَرّه‏.‏

و ‏{‏النَّاس‏}‏ البشر كلهم لأنّ هذا من السنن الكونية، فلا يختصّ بالقوم المتحدّث عنهم‏.‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ ‏{‏وَلِيُمَحِّصَ الله الذين ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الكافرين‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏وتلك الأيام نداولها بين الناس‏}‏، فمضمون هذه علّة ثانية لجواب الشرط المحذوف المدلول عليه بقوله‏:‏ ‏{‏فقد مس القوم قرح مثله‏}‏ وعلم الله بأنّهم مؤمنون متحقق من قبل أن يمسهم القرح‏.‏

فإن كان المراد من ‏{‏الَّذين آمنوا‏}‏ هنا معنى الَّذين آمنوا إيماناً راسخاً كاملاً فقد صار المعنى‏:‏ أنّ علم الله برسوخ إيمانهم يحصل بعد مَسِّ القرح إيّاهم، وهو معنى غير مستقيم، فلذلك اختلف المفسّرون في المراد من هذا التَّعليل على اختلاف مذاهبهم في صفة العِلم، وقد تقرّر في أصول الدّين أن الفلاسفة قالوا‏:‏ إنّ الله عالم بالكلّيات بأسرها، أي حقائق الأشياء على ما هي عليه، علماً كالعِلم المبحوث عنه في الفلسفة لأنّ ذلك العلم صفة كمال، وأنَّه يعلم الجزئيات من الجواهر والأعراض علماً بوجه كلّي‏.‏ ومعنى ذلك أنَّه يعلمها من حيث إنَّها غير متعلّقة بزمان، مِثالُه‏:‏ أن يعلم أنّ القمر جسم يوجد في وقت تكوينه، وأنّ صفته تكون كذا وكذا، وأنّ عوارضه النورانية المكتسبة من الشَّمس والخسوف والسَّير في أمد كذا‏.‏ أمَّا حصوله في زمانه عندما يقع تكوينه، وكذلك حصول عوارضه، فغير معلوم لله تعالى، قالوا‏:‏ لأنّ الله لو علم الجزئيات عند حصولها في أزمنتها للزم تغيّر علمه فيقتضي ذلك تغيّر القديم، أو لزم جهل العالِم، مثاله‏:‏ أنَّه إذا علم أنّ القمر سيخسف ساعة كذا علماً أزلياً، فإذا خسف بالفعل فلا يخلو إمّا أن يزول ذلك العلم فيلزم تغيّر العلم السابق فيلزم من ذلك تغيّر الذات الموصوفةِ به من صفة إلى صفة، وهذا يستلزم الحدوث إذ حدوث الصّفة يستلزم حدوث الموصوف، وإمّا أن لا يزول العلم الأول فينقلب العلمُ جهلاً، لأنّ الله إنَّما علم أنّ القمر سيخسف في المستقبل والقمر الآن قد خسف بالفعل‏.‏ ولأجل هذا قالوا‏:‏ إنّ علم الله تعالى غير زماني‏.‏ وقال المسلمون كلّهم‏:‏ إنّ الله يعلم الكلّيات والجزئيات قبل حصولها، وعند حصولها‏.‏ وأجابوا عن شبهة الفلاسفة بأن العلم صفة من قبيل الإضافة أي نسبة بين العالِم والمعلوم، والإضافات اعتباريات، والاعتباريات عدميات، أو هو من قبيل الصّفة ذات الإضافة‏:‏ أي صفة وجودية لها تعلّق، أي نسبة بينها وبين معلومها‏.‏

فإن كان العلم إضافة فتغيّرها لا يستلزم تغيّر موصوفها وهو العالم، ونظَّروا ذلك بالقديم يوصف بأنَّه قبل الحادث ومعه وبعده، من غير تغيّر في ذات القديم، وإن كان العلم صفة ذات إضافة أي ذات تعلّق، فالتغيّر يعتري تعلّقها ولا تتغيّر الصّفة فضلاً عن تغيّر الموصوف، فعلمُ اللَّهِ بأن القمر سيخسف، وعلمُه بأنَّه خاسف الآن، وعلمُه بأنَّه كان خاسفاً بالأمس، علم واحد لا يتغيّر موصوفة، وإن تغيّرت الصّفة، أو تغيّر متعلّقها على الوجهين، إلاّ أن سلف أهل السنّة والمعتزلة أبوا التَّصريح بتغيّر التعلُّق ولذلك لم يقع في كلامهم ذكر تعلقين للعلم الإلهي أحدهما قديم والآخر حادث، كما ذكروا ذلك في الإرادة والقدرة، نظراً لكون صفة العلم لا تتجاوز غيرَ ذات العالم تجاوزاً محسوساً‏.‏ فلذلك قال سلفهم‏:‏ إنّ الله يعلم في الأزل أنّ القمر سيخسف في سنتنا هذه في بلد كذا ساعة كذا، فعند خسوف القمر كذلك عَلِم اللَّه أنَّه خسف بذلك العلم الأوّل لأنّ ذلك العلم مجموع من كون الفعل لم يحصل في الأزل، ومن كونه يحصل في وقته فيما لا يزال، قالوا‏:‏ ولا يقاس ذلك على علمنا حين نعلم أنّ القمر سيخسف بمقتضى الحساب ثمّ عند خسوفه نعلم أنَّه تحقّق خسوفه بعلم جديد، لأنّ احتياجنا لعلم متجدّد إنَّما هو لطريان الغفلة عن الأول‏.‏ وقال بعض المعتزلة مثل جَهْم بن صَفْوَان وهِشام بن الحَكم‏:‏ إنّ الله عالم في الأزل بالكلّيات والحقائق، وأمَّا علمه بالجزئيات والأشخاص والأحوال فحاصل بعد حدوثها لأنّ هذا العلم من التصديقات، ويلزمه عَدم سبق العلم‏.‏

وقال أبو الحُسين البصري من المعتزلة، رادّاً على السلف‏:‏ لا يجوز أن يكون علم الله بأنّ القمر سيخسف عين علمه بعد ذلك بأنَّه خسف لأمور ثلاثة‏:‏ الأوّل التغايُر بينهما في الحقيقة لأنّ حقيقة كونه سيقع غيرُ حقيقة كونه وقع، فالعلمُ بأحدهما يغاير العلم بالآخر، لأنّ اختلاف المتعلّقين يستدعي اختلاف العالم بهما‏.‏ الثَّاني التغاير بينهما في الشرط فإنّ شرط العلم بكون الشيء سيقع هو عدم الوقوع، وشرط العلم بكونه وقَع الوقوعُ، فلو كان العلمان شيئاً واحداً لم يختلف شرطاهُما‏.‏ الثَّالث أنّه يمكن العلم بأنَّه وقع الجهل بأنَّه سيقع وبالعكس وغير المعلوم غير المعلوم ‏(‏هكذا عبّر أبو الحسين أي الأمر الغير المعلوم مغاير للمعلوم‏)‏ ولذلك قال أبو الحسين بالتزام وقوع التَّغير في علم الله تعالى بالمتغيِّرات، وأنّ ذاته تعالى تقتضي اتّصافه بكونه عالماً بالمعلومات الَّتي ستقع، بشرط وقوعها، فيحدث العلم بأنَّها وجدت عند وجودها، ويزول عند زوالها، ويحصل علم آخر، وهذا عين مذهب جهم وهشام‏.‏ ورُدّ عليه بأنَّه يلزم أن لا يكون الله تعالى في الأزل عالماً بأحوال الحوادث، وهذا تجهيل‏.‏ وأجاب عنه عبد الحكيم في «حاشية المواقف» بأنّ أبا الحسين ذهب إلى أنَّه تعالى يعلم في الأزل أنّ الحادث سيقع على الوصف الفلاني، فلا جهل فيه، وأنّ عدم شهوده تعالى للحوادث قبل حدوثها ليس بجهل، إذ هي معدومة في الواقع، بل لو علمها تعالى شهودياً حينَ عدمها لكان ذلك العلم هو الجهل، لأنّ شهود المعدوم مخالف للواقع، فالعلم المتغيّر الحادث هو العلم الشهودي‏.‏

فالحاصل أنّ ثمة علمين‏:‏ أحدهما قديم وهو العلم المشروط بالشروط، والآخر حادث وهو المعلوم الحاصلة عند حصول الشروط وليست بصفة مستقلّة، وإنَّما هي تعلّقات وإضافات، ولذلك جرى في كلام المتأخّرين، من علمائنا وعلماء المعتزلة، إطلاق إثباتتِ تعلّققٍ حادثثٍ لعلم الله تعالى بالحوادث‏.‏ وقد ذكر ذلك الشَّيخ عبد الحكيم في «الرسالة الخاقانية» الَّتي جعلها لِتحقيق علم الله تعالى غير منسوب لقائل، بل عبّر عنه بقيل، وقد رأيت التفتزاني جرى على ذلك في «حاشية الكشّاف» في هذه الآية فلعل الشَّيخ عبد الحكيم نسي أن ينسبه‏.‏

وتأويل الآية على اختلاف المذاهب‏:‏ فأمَّا الّذين أبو إطلاق الحدوث على تعلّق العلم فقالوا في قوله‏:‏ ‏{‏وليعلم الله الذين آمنوا‏}‏ أطلق العلم على لازمه وهو ثبوت المعلوم أي تميّزه على طريقة الكناية لأنَّها كإثبات الشيء بالبرهان، وهذا كقول إياس بن قبيصة الطائي‏:‏

وأقبلت والخطيّ يخطِر بينا *** لأَعْلَمَ مَن جَبَانَها مِنْ شجاعها

أي ليظهر الجبان والشُّجاع فأطلق العلم وأريد ملزومه‏.‏

ومنهم من جعل قوله‏:‏ ‏{‏وليعلم الله‏}‏ تمثيلاً أي فعل ذلك فِعْلَ من يريد أن يعلم وإليه مال في «الكشاف»، ومنهم من قال‏:‏ العلّة هي تعلّق علم الله بالحادث وهو تعلّق حادث، أي ليعلم الله الَّذين آمنوا موجودين‏.‏ قاله البيضاوي والتفتزاني في «حاشية الكشّاف»‏.‏ وإن كان المراد من قوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ ظاهرَهُ أي ليعلم من اتَّصف بالإيمان، تعيّن التأويل في هذه الآية لاَ لأجل لزوم حدوث علم الله تعالى، بل لأنّ علم الله بالمؤمنين من أهل أُحُد حاصل من قبللِ أن يمسّهم القرح، فقال الزجاج‏:‏ أراد العِلمَ الَّذي يترتّب عليه الجزاء وهو ثباتهم على الإيمان، وعدم تزلزلهم في حال الشدّة، وأشار التفتزاني إلى أنّ تأويل صاحب «الكشاف» ذلك بأنَّه وارد مورد التمثيل، ناظر إلى كون العلم بالمؤمنين حاصلاً من قبل، لا لأجل التحرّز عن لزوم حدوث العلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويتخذ منكم شهداء‏}‏ عطف على العلّة السابقة‏.‏ وجعل القتل في ذلك اليوم الَّذي هو سبب اتِّخاذ القتلى شهداء علَّة من علل الهزيمة، لأنّ كثرة القتلى هي الَّتي أوقعت الهزيمة‏.‏

والشهداء هم الَّذين قُتلوا يوم أُحُد، وعبّر عن تقدير الشهادة لهم بالاتّخاذ لأنّ الشهادة فضيلة من الله، واقتراب من رضوانه، ولذلك قوبل بقوله‏:‏ ‏{‏والله لا يحب الظالمين‏}‏ أي الكافرين فهو في جانب الكفّار، أي فقتلاكم في الجنَّة، وقتلاهم في النَّار، فهو كقوله‏:‏ ‏{‏قل هل تربّصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 52‏]‏‏.‏

والتَّمحيص‏:‏ التنقية والتخليص من العيوب‏.‏

والمحق‏:‏ الإهلاك‏.‏ وقد جعل الله تعالى مسّ القرح المؤمنين والكفار فاعلاً فِعلاً واحداً‏:‏ هو فضيلة في جانب المؤمنين، ورزّية في جانب الكافرين، فجعله للمؤمنين تمحيصاً وزيادة في تزكية أنفسهم، واعتباراً بمواعظ الله تعالى، وجعله للكافرين هلاكاً، لأنّ ما أصابهم في بدر تناسوه، وما انتصروه في أحُد يزيدهم ثقة بأنفسهم فيتواكلون؛ يظنون المسلمين قد ذهب بأسهم، على أنّ المؤمنين في ازدياد، فلا ينقصهم من قُتل منهم، والكفّار في تناقض فمن ذهب منهم نفد‏.‏ وكذلك شأن المواعظ والنذر والعبر قد تكسب بعض النُّفوس كمالاً وبَعْضها نقصاً قال أبو الطيب‏:‏

فحُبّ الجبان العيش أورده التُّقى *** وحبّ الشجاع العيش أورده الحربا

ويختلف القصدَان والفعل واحد *** إلى أن نَرى إحسانَ هذا لنا ذنبا

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124، 125‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وننزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏ وهذا من بديع تقدير الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏‏}‏

‏{‏أم‏}‏ هنا منقطعة، هي بمعنى ‏(‏بل‏)‏ الانتقالية، لأنّ هذا الكلام انتقال من غرض إلى آخر، وهي إذا استعملت منقطعة تؤذن بأنّ ما بعدها استفهام، لملازمتها للاستفهام، حتَّى قال الزمخشري والمحقّقون‏:‏ إنَّها لا تفارق الدلالة على الاستفهام بعدها، وقال غيره‏:‏ ذلك هو الغالب وقد تفارقه، واستشهدوا على مفارقتها للاستفهام بشواهد تقبل التَّأويل‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏أم حسبتم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ولا تهنوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏ وذلك أنَّهم لمّا مسّهم القرح فحزنوا واعتراهم الوهن حيث لم يشاهدوا مثل النَّصر الَّذي شاهدوه يوم بدر، بيّن الله أنّ لا وجه للوهن للعلل الَّتي تقدّمت، ثُمّ بيّن لهم هنا‏:‏ أن دخول الجنَّة الَّذي هو مرغوبهم لا يحصل إذا لم يبذلوا نفوسهم في نصر الدّين فإذا حسبوا دخول الجنَّة يحصل دون ذلك، فقد أخطأوا‏.‏

والاستفهام المقدّر بعد ‏(‏أم‏)‏ مستعمل في التَّغليط والنَّهي، ولذلك جاء ب ‏(‏أم‏)‏ للدلالة على التغليط‏:‏ أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنَّة دون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد‏.‏

ومن المفسّرين من قدّر لِ ‏(‏أمْ‏)‏ هنا معادِلاً محذوفاً، وجعلها متَّصلة، فنقل الفخر عن أبي مسلم الأصفهاني أنَّه قال‏:‏ عادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً لأنَّه لمّا قال‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا ولا تحزنوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏ كأنَّه قال‏:‏ أفتعلمون أنّ ذلك كما تؤمرون أم حسبتم أن تدخلوا الجنَّة‏.‏

وجملة ‏{‏ولما يعلم الله‏}‏ إلخ في موضع الحال، وهي مصبّ الإنكار، أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنَّة حين لا يعلم الله الَّذين جاهدوا‏.‏

و ‏(‏لَمَّا‏)‏ حرف نفي أختُ ‏(‏لم‏)‏ إلاّ أنَّها أشدّ نفياً من ‏(‏لم‏)‏، لأنّ ‏(‏لم‏)‏ لِنفي قول القائل فَعَل فلان، و‏(‏لمّا‏)‏ لنفي قوله قد فعل فلان‏.‏ قاله سيبويه، كما قال‏:‏ إنّ ‏(‏لا‏)‏ لنفي يفعل و‏(‏لن‏)‏ لنفي سيفعل و‏(‏ما‏)‏ لنفي لقد فعل و‏(‏لا‏)‏ لنفي هو يفعل‏.‏ فتدلّ ‏(‏لَمَّا‏)‏ على اتِّصال النَّفي بها إلى زمن التكلّم، بخلاف ‏(‏لم‏)‏، ومن هذه الدلالة استفيدت دلالة أخرى وهي أنّها تؤذن بأنّ المنفي بها مترقّب الثبوت فيما يستقبل، لأنَّها قائمة مقام قولك استمرّ النَّفي إلى الآن، وإلى هذا ذهب الزمخشري هنا فقال‏:‏ و‏(‏لمّا‏)‏ بمعنى ‏(‏لم‏)‏ إلاّ أنّ فيها ضرباً من التوقُّع وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏}‏ سورة ‏[‏الحجرَات‏:‏ 14‏]‏‏:‏ فيه دلالة على أنّ الأَعراب آمنوا فيما بعد‏.‏

والقول في علم الله تقدّم آنفاً في الآية قبل هذه‏.‏

وأريد بحالة نفي علم الله بالَّذين جاهدوا والصَّابرين الكناية عن حالة نفي الجهاد والصّبر عنهم، لأنّ الله إذا علم شيئاً فذلك المعلوم محقّق الوقوع فكما كنّى بعلم الله عن التّحقق في قوله‏:‏ ‏{‏وليعلم الله الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏ كنّى بنفي العلم عن نفي الوقوع‏.‏ وشرط الكناية هنا متوفّر وهو جواز إرادة المعنى الملزوم مع المعنى اللازم لِجواز إرادة انتفاء علم الله بجهادهم مع إرادة انتفاء جهادهم‏.‏

ولا يرد ما أورده التفتزاني، وأجاب عنه بأنّ الكناية في النفي بنيت على الكناية في الإثبات، وهو تكلّف، إذ شأن التراكيب استقلالها في مفادها ولوازمها‏.‏

وعقّب هذا النفي بقوله‏:‏ ‏{‏ويعلم الصابرين‏}‏ معطوفاً بواو المعية فهو في معنى المفعول معه، لتنتظم القيود بعضها مع بعض، فيصير المعنى‏:‏ أتحسبون أن تدخلوا الجنَّة في حال انتفاء علم الله بجهادكم مع انتفاء علمه بصبركم، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يجتمع العلمان‏.‏ والجهاد يستدعي الصّبر، لأنّ الصّبر هو سبب النَّجاح في الجهاد، وجالب الانتصار، وقد سئل عليّ عن الشَّجاعة، فقال‏:‏ صبر ساعة‏.‏ وقال زفر بن الحارث الكلابي، يعتذر عن انتصار أعدائهم عليهم

*** سَقَيْنَاهُمُ كأْساً سَقَوْنا بمثلها

ولكنَّهم كانُوا على الموْتتِ أصبرا *** وقد تسبّب في هزيمة المسلمين يومَ أُحُد ضعفُ صبر الرماة، وخفّتهم إلى الغنيمة، وفي الجهاد يُتطلّب صبر المغلوب على الغلب حتَّى لا يهن ولا يستسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز، ليكون جامعاً بين الموعظة، والمعذرة، والملام، والواو عاطفة أو حالية‏.‏

والخطاب للأحياء، لا محالة، الَّذين لم يذوقوا الموت، ولم ينالوا الشهادة، والَّذين كان حظّهم في ذلك اليوم هو الهزيمة، فقوله‏:‏ ‏{‏كنتم تمنّون الموت‏}‏ أريد به تمنّي لقاء العدوّ يوم أُحُد، وعدم رضاهم بأن يتحصّنوا بالمدينة، ويقفوا موقف الدّفاع، كما أشار به الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنّهم أظهروا الشجاعة وحبّ اللِّقاء، ولو كان فيه الموت، نظراً لقوة العدوّ وكثرته، فالتمنّي هو تمنّي اللِّقاء ونصر الدّين بأقصى جهدهم، ولمَّا كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كُلّ واحد منهم بتلف نفسه في الدّفاع، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدوّ، وهيّأ النَّصر لمن بقي بعده، جعل تمنّيهم اللِّقاء كأنَّه تمنّي الموت من أوّل الأمر، تنزيلاً لِغاية التمنّي منزلة مبدئه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من قبل أن تلقوه‏}‏ تعريض بأنَّهم تمنّوا أمراً مع الإغضاء عن شدّته عليهم، فتمنّيهم إيّاه كتمنّي شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فقد رأيتموه‏}‏ أي رأيتم الموت، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحقّقة، الَّتي رؤيتها كمشاهدة الموت، فيجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏فقد رأيتموه‏}‏ تمثيلاً، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدّة التوقّع، كإطلاق الشمّ على ذلك في قول الحارث بن هشام المخزومي‏:‏

وشممتُ ريح الموت من تلقائهم *** في مأزق والخيل لم تتبدّد

وكإطلاقه في قول ابن معد يكرب يوم القادسية‏:‏ فضمّني ضمّة وَجَدْت منها ريحَ الموت‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فقد رأيتموه‏}‏ فاء الفصيحة عن قوله‏:‏ ‏{‏كنتم تمنون‏}‏ والتقدير‏:‏ وأجبتم إلى ما تمنّيتم فقد رأيتموه، أو التقدير‏:‏ فإن كان تمنّيكم حقّاً فقد رأيتموه، والمعنى‏:‏ فأين بلاء من يتمنّى الموت، كقول عباس بن الأحنف‏:‏

قالُوا خُراسانُ أقصى ما يُراد بنا *** ثُمّ القُفول فقدْ جِئْنا خُراسانا

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد كذّبوكم بما تقولون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 19‏]‏ وقوله في سورة الروم ‏(‏56‏)‏‏:‏ ‏{‏فهذا يوم البعث‏}‏

‏{‏وجملة وأنتم تنظرون‏}‏ حال مؤكّدة لمعنى ‏{‏رأيتُموه‏}‏، أو هو تفريع أي‏:‏ رأيتم الموت وكان حظّكم من ذلك النظر، دون الغَناء في وقت الخطر، فأنتم مبهوتون‏.‏ ومحلّ الموعظة من الآية‏:‏ أنّ المرء لا يطلب أمراً حَتَّى يفكِّر في عواقبه، ويسبر مقدار تحمّله لمصائبه‏.‏ ومحلّ المعذرة في قوله‏:‏ ‏{‏من قبل أن تلقوه‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فقد رأيتموه‏}‏ ومحلّ الملام في قوله‏:‏ ‏{‏وأنتم تنظرون‏}‏‏.‏

ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏تمنون الموت‏}‏ بمعنى تتمنَّوْن موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت، وكأنَّه تعريض بهم بأنَّهم ليسوا بمقام من يتمنّى الشهادة‏.‏ إذ قد جبنوا وقت الحاجة، وخفّوا إلى الغنيمة، فالكلام ملام محض على هذا، وليس تمنّي الشهادة بملوم عليه، ولكن اللَّوم على تمنّي ما لا يستطيع كما قيل‏:‏ ‏(‏إذا لم تستطع شيئاً فدعه‏)‏‏.‏

كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله، ثُمّ أُحيا ثُمّ أقتل ثمّ أحيا، ثمّ أقْتل ‏"‏ وقال عمر‏:‏ «اللَّهم إنّي أسألك شهادة في سبيلك» وقال ابن رواحة‏:‏

لكنّني أسأل الرّحمانَ مغفرة *** وضربةً ذات فرغ تقذِف الزبدا

حتَّى يقولوا إذا مَرّوا على جَدثي *** أرشدَك الله من غازٍ وقد رشدا

وعلى هذا الاحتمال فالضّمير راجع إلى الموت، بمعنى أسبابه، تنزيلاً لرؤية أسبابه منزلة رؤيته، وهو كالاستخدام، وعندي أنَّه أقرب من الاستخدام لأنَّه عاد إلى أسباب الموت باعتبار تنزيلها منزلة الموت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

عطف الإنكار على الملام المتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 142‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 143‏]‏ وكُلّ هاته الجمل ترجع إلى العتاب والتقريع على أحوال كثيرة، كانت سبب الهزيمة يوم أُحُد، فيأخذ كُلّ من حضر الوقعة من هذا الملام بنصِيبه المناسب لما يعلمه من حاله ظاهراً كان أم باطناً‏.‏

والآية تشير إلى ما كان من المسلمين من الاضطراب حين أرجَف بموت الرّسول صلى الله عليه وسلم فقال المنافقون‏:‏ لو كان نبيّاً ما قتل، فارجعوا إلى دينكم القديم وإخوانكم من أهل مكَّة ونكلّم عبد الله بن أبَي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، فهمّوا بترك القتال والانضمام للمشركين، وثبت فريق من المسلمين، منهم‏:‏ أنس بن النضر الأنصاري، فقال‏:‏ إن كان قُتل محمد فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعده، فقاتلوا على ما قاتل عليه‏.‏

ومحمد اسم رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم سمَّاه به جدّه عبد المطلب وقيل له‏:‏ لِمَ سَمّيتَه محمّداً وليس من أسماء آبائك‏؟‏ فقال‏:‏ رجوت أن يحمده النَّاس‏.‏ وقد قيل‏:‏ لم يسمّ أحد من العرب محمداً قبل رسول الله‏.‏ ذكر السهيلي في «الروض» أنّه لم يُسمّ به من العرب قبل ولادة رسول الله إلاّ ثلاثة‏:‏ محمد بن سفيان بن مجاشع، جدّ جدّ الفرزدق، ومحمد بن أحَيْحَةَ بن الجُلاَح الأوسي‏.‏ ومحمد بن حمران مِن ربيعة‏.‏

وهذا الاسم منقول من اسم مفعول حَمَّده تحميداً إذا أكثر من حمده، والرسول فَعول بمعنى مَفعول مثل قولهم‏:‏ حَلُوب ورَكوب وجَزور‏.‏

ومعنى ‏{‏خلت‏}‏ مضت وانقرضت كقوله‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏ وقول امرئ القيس‏:‏ ‏(‏مَن كان في العصر الخالي‏)‏ وقَصر محمداً على وصف الرسالة قَصْرَ موصوف على الصفة‏.‏ قصراً إضافياً، لردّ ما يخالف ذلك ردّ إنكار، سواء كان قصر قلب أو قصر إفراد‏.‏

والظاهر أنّ جملة ‏{‏قد خلت من قبله الرسل‏}‏ صفة «لرسول»، فتكون هي محطّ القصر‏:‏ أي ما هو إلاّ رسول موصوف بخلوّ الرسل قبله أي انقراضهم‏.‏ وهذا الكلام مسوق لردّ اعتقاد من يعتقد انتفاء خلوّ الرسللِ مِن قبله، وهذا الاعتقاد وإن لم يكن حاصلاً لأحد من المخاطبين، إلاّ أنَّهم لمّا صدر عنهم ما من شأنه أن يكون أثراً لهذا الاعتقاد، وهو عزمهم على ترك نصرة الدّين والاستسلام للعدوّ كانوا أحرياء بأن ينزلوا منزلة من يعتقد انتفاء خلوّ الرسل مِن قبله، حيث يجدون أتباعهم ثابتين على مللهم حتّى الآن فكان حال المخاطبين حال من يتوهّم التلازم بين بقاء الملّة وبقاء رسولها، فيستدلّ بدوام الملّة على دوام رسولها، فإذا هلك رسول ملّة ظنّوا انتهاء شرعه وإبطال اتّباعه‏.‏

فالقصر على هذا الوجه قصر قلب، وهو قلب اعتقادهم لوازم ضدّ الصّفة المقصور عليها، وهي خلوّ الرسل قبله، وتلك اللوازم هي الوهَن والتردّد في الاستمرار على نشر دعوة الإسلام، وبهذا يشعر كلام صاحب «الكشّاف»‏.‏

وجعَل السكاكي المقصور عليه هو وصف الرسالة فيكون محطّ القصر هو قوله‏:‏ «رسول» دون قوله‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبله الرسل‏}‏ ويكون القصر قصرَ إفْراد بتنزيل المخاطبين منزلة من اعتقد وصفه بالرسالة مع التنزّه عن الهلاك، حين رتَّبوا على ظنّ موته ظنوناً لا يفرضها إلاّ من يعتقد عصمته من الموت، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبله الرسل‏}‏ على هذا الوجه استئنافاً لا صفة، وهو بعيد، لأنّ المخاطبين لم يصدر منهم ما يقتضي استبعاد خبر موته، بل هم ظنّوه صدقاً‏.‏

وعلى كلا الوجهين فقد نُزّل المخاطبون منزلَة من يَجهل قصر الموصوف على هذه الصفة وينكره، فلذلك خوطبوا بطريق النَّفي والاستثناء، الَّذي كثر استعماله في خطاب من يجهل الحكم المقصورَ عليه وينكره دون طريق، إنَّما كما بيّنه صاحب «المفتاح»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أفإين مات أو قتل اتقلبتم على أعقابكم‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول‏}‏ إلخ‏.‏‏.‏‏.‏ والفاء لتعقيب مضمون الجملة المعطوف عليها بمضمون الجملة المعطوفة، ولمَّا كان مضمون الجملة المعطوفة إنشاء الاستفهام الإنكاري على مضمونها، وهو الشرط وجزاؤه، لم يكن للتعقيب المفاد من فاء العطف معنى إلاّ ترتّب مضمون المعطوفة على المعطوف عليها، ترتّب المسبّب على السبب، فالفاء حينئذ للسببية، وهمزة الاستفهام مقدّمة من تأخير، كشأنها مع حروف العطف، والمعنى ترتّب إنكار أن ينقبلوا على أعقابهم على تحقّق مضمون جملة القصر‏:‏ لأنّه إذا تحقّق مضمون جملة القصر، وهو قلب الاعتقاد أو إفرادُ أحد الاعتقادين، تسبّب عليه أن يكون انقلابهم على الأعقاب على تقدير أن يموت أو يقتل أمراً منكراً جديراً بعدم الحصول، فكيف يحصل منهم، وهذا الحكم يؤكِّد ما اقتضته جملة القصر، من التعريض بالإنكار عليهم في اعتقادهم خلاف مضمون جملة القصر، فقد حصل الإنكار عليهم مرتين‏:‏ إحداهما بالتَّعريض المستفاد، من جملة القصر، والأخرى بالتَّصريح الواقع في هاته الجملة‏.‏

وقال صاحب «الكشاف»‏:‏ الهمزة لإنكار تسبّب الانقلاب على خلوّ الرسول، وهو التسّبب المفاد من الفاء أي إنكار مجموع مدلول الفاء ومدلول مدخولها مثل إنكار الترتّب والمهلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أثم إذا ما وقع آمَنْتم به‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 51‏]‏ وقول النابغة‏:‏

أثُمّ تَعَذّراننِ إلَيّ منهَا *** فإنّي قد سمِعْتُ وقد رأيتُ

بأن أنكر عليهم جعلهم خلوّ الرسل قبله سبباً لارتدادهم عند العلم بموته‏.‏ وعلى هذا فالهمزة غير مقدّمة من تأخير لأنَّها دخلت على فاء السَّببية‏.‏ ويَرِد عليه أنَّه ليس علمهم بخلوّ الرسل من قبله مع بقاء أتباعهم متمسكين سبباً لانقلاب المخاطبين على أعقابهم، وأجيب بأنّ المراد أنَّهم لمَّا علموا خلوّ الرسل من قبله مع بقاء مللهم، ولم يَجْروا على موجَب علمهم، فكأنَّهم جعلوا علمهم بذلك سبباً في تحصيل نقيض أثره، على نحو ما يعرض من فساد الوضع في الاستدلال الجدلي، وفي هذا الوجه تكلّف وتدقيق كثير‏.‏

وذهب جماعة إلى أنّ الفاء لِمجرّد التَّعقيب الذكري، أو الاستئناف، وأنَّه عطف إنكار تصريحي على إنكار تعريضي، وهذا الوجه وإن كان سهلاً غير أنَّه يفيت خصوصية العطف بالفاء دون غيرها، على أنّ شأن الفاء المفيدة للترتيب الذكري المحض أن يعطف بها الأوصاف نحو ‏{‏والصافات صفا فالزاجرات زجراً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 1، 2‏]‏ أو أسماء الأماكن نحو قوله‏:‏

بَيْنَ الدّخول فحَوْمَل *** فتُوضِحَ فالمقراة‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ

والانقلاب‏:‏ الرجوع إلى المكان، يقال‏:‏ انقلب إلى منزله، وهو هنا مجاز في الرجوع إلى الحال الَّتي كانوا عليها، أي حال الكفر‏.‏ و‏{‏على‏}‏ للاستعلاء المجازي لأنّ الرجوع في الأصل يكونُ مُسبَّباً على طريق‏.‏ والأعقاب جمع عقب وهو مؤخّر الرّجل، وفي الحديث «وَيْل للأعقاب من النَّار» والمراد منه جهة الأعقاب أي الوراء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ومن ينقلب على عاقبيه فلن يضر الله شيئاً‏}‏ أي شيئاً من الضر، ولو قليلاً، لأنّ الارتداد عن الدّين إبطال لما فيه صلاح النَّاس، فالمرتدّ يضرّ بنفسه وبالنَّاس، ولا يضرّ الله شيئاً، ولكن الشاكر الثَّابت على الإيمان يجازي بالشكر لأنَّه سعى في صلاح نفسه وصلاح النَّاس، والله يحبّ الصلاح ولا يحبّ الفساد‏.‏

والمقصود من الآية العتاب على ما وقع من الاضطراب، والثناءُ على الَّذين ثبتوا ووعظوا النَّاس، والتحذيرُ من وقوع الارتداد عند موت الرسول عليه السَّلام، وقد وقع ما حذّرهم الله منه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ارتد كثير من المسلمين، وظنّوا اتِّباعَ الرسول مقصوراً على حياته، ثُمّ هداهم الله بعد ذلك، فالآية فيها إنباء بالمستقبل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كتابا مُّؤَجَّلاً‏}‏‏.‏

جملة معترضة، والواو اعتراضية‏.‏

فإن كانت من تتمة الإنكار على هلعهم عند ظنّ موت الرسول، فالمقصود عموم الأنفس لا خصوص نفس الرسول عليه السلام، وتكون الآية لوماً للمسلمين على ذهولهم عن حفظ الله رسولَه من أن يسلّط عليه أعداؤُه، ومن أن يخترم عمره قبل تبليغ الرسالة‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏والله يعصمك عن الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ عقب قوله‏:‏ ‏{‏بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ الدالّ على أنّ عصمته من النَّاس لأجل تبليغ الشَّلايعة‏.‏ فقد ضمن الله له الحياة حتَّى يبلّغ شرعه، ويتمّ مراده، فكيف يظنّون قتله بيد أعدائه، على أنَّه قبل الإعلان بإتمام شرعه، ألا ترى أنَّه لمّا أنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ الآية‏.‏ بكى أبو بكر وعلم أنّ أجل النَّبيء صلى الله عليه وسلم قد قرب، وقال‏:‏ ما كمُل شيء إلاّ نقص‏.‏ فالجملة، على هذا، في موضع الحال، والواو واو الحال‏.‏

وإن كان هذا إنكاراً مستأنفاً على الَّذين فزعوا عند الهزيمة وخافوا الموت، فالعموم في النفس مقصود أي ما كان ينبغي لكم الخوف وقد علمتم أنّ لكلّ نفس أجلاً‏.‏

وجيء في هذا الحكم بصيغة الجحود للمبالغة في انتفاء أن يكون موت قبل الأجل، فالجملة، على هذا، معترضة، والواو اعتراضية، ومثل هذه الحقائق تلقى في المقامات الَّتي يقصد فيها مداواة النُّفوس من عاهات ذميمة، وإلاّ فإنّ انتهاء الأجل منوط بعلم الله لا يعلم أحد وقته، ‏{‏وما تدري نفس بأي أرض تموت‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏، والمؤمن مأمور بحفظ حياته، إلاّ في سبيل الله، فتعيّن عليه في وقت الجهاد أن يرجع إلى الحقيقة وهي أنّ الموت بالأجل، والمراد ‏{‏بإذن الله‏}‏ تقديره وقت الموت، ووضعه العلامات الدالة على بلوغ ذلك الوقت المقدّر، وهو ما عبّر عنه مرّة ب ‏(‏كن‏)‏، ومرة بقدر مقدُور، ومرّة بالقلم، ومرّة بالكتاب‏.‏

والكتاب في قوله‏:‏ ‏{‏كتاباً مؤجلاً‏}‏ يجوز أن يكون اسماً بمعنى الشيء المكتوب، فيكون حالاً من الإذن، أو من الموت، كقوله‏:‏ ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏ و«مؤجّلاً» حالاً ثانية، ويجوز أن يكون ‏{‏كتاباً‏}‏ مصدر كاتب المستعمل في كتب للمبالغة، وقوله‏:‏ ‏{‏مؤجلاً‏}‏ صفة له، وهو بدل من فِعله المحذوف، والتَّقدير‏:‏ كُتِب كتاباً مؤجّلاً أي مؤقتاً‏.‏ وجعله صاحب «الكشاف» مصدراً مؤكّداً أي لِمضمون جملة ‏{‏وما كان لنفس‏}‏ الآية، وهو يريد أنَّه مع صفته وهي ‏{‏مؤجّلاً‏}‏ يؤكِّد معنى ‏{‏إلاّ بإذن الله‏}‏ لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏بإذن الله‏}‏ يفيد أنّ له وقتاً قد يكون قريباً وقد يكون بعيداً فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب الله عليكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ الآية‏.‏

‏{‏وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين‏}‏‏.‏

عطف على الجملة المعترضة‏.‏

أي من يرد الدنيا دون الآخرة، كالَّذي يفضّل الحياة على الموت في سبيل الله أو كالَّذين استعجلوا للغنيمة فتسبّبوا في الهزيمة، وليس المراد أنّ من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يُحرم من ثواب الآخرة وحظوظها، فإنّ الأدلّة الشرعية دلّت على أنّ إرادة خير الدنيا مقصد شرعي حسن، وهل جاءت الشريعة إلاّ لإصلاح الدنيا والإعداد لِحياة الآخرة الأبدية الكاملة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 148‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين‏}‏ أي الغنيمة أو الشَّهادة، وغيرُ هذا من الآيات والأحاديث كثير‏.‏ وجملة ‏{‏وسنجزي الشاكرين‏}‏ تذييل يعمّ الشاكرين ممّن يريد ثواب الدنيا ومن يريد ثواب الآخرة‏.‏ ويعمّ الجزاء كلّ بحسبه، أي يجزي الشاكرين جزاء الدنيا والآخرة أو جزاء الدنيا فقط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 148‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏ومن ينقلب على عقبيه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏ الآية وما بينهما اعتراض، وهو عطف العبرة على الموعظة فإنّ قوله‏:‏ ‏{‏ومن ينقلب عقبيه‏}‏ موعظة لمن يَهِمّ بالانقلاب، وقولَه‏:‏ ‏{‏وكأين من نبي قاتل‏}‏ عبرة بما سلف من صبر أتباع الرسل والأنبياء عند إصابة أنبيائهم أو قتلهم، في حرب أو غيره، لمماثلة الحالين‏.‏ فالكلام تعريض بتشبيه حال أصحاب أحُد بحال أصحاب الأنبياء السالفين لأنّ مَحَلّ المثل ليس هو خصوص الانهزام في الحرب بل ذلك هو الممثل‏.‏ وأمَّا التَّشبيه فهو بصير الأتباع عند حلول المصائب أو موت المتبوع‏.‏

«وكأيّن» كلمة بمعنى التكثير، قيل‏:‏ هي بسيطة موضوعة للتكثير، وقيل‏:‏ هي مركّبة من كاف التَّشبيه وأي الاستفهامية وهو قول الخليل وسيبويه، وليست ‏(‏أيّ‏)‏ هذه استفهاماً حقيقيّاً، ولكنّ المراد منها تذكير المستفهم بالتكثير، فاستفهامها مجازي، ونونها في الأصل تنوين، فلمّا ركّبت وصارت كلمة واحدة جعل تنوينها نوناً وبُنيت‏.‏ والأظهر أنَّها بسيطة وفيها لغات أرْبع، أشهرها في النثر كأيِّن بوزن كعَيِّن ‏(‏هكذا جرت عادة اللغويين والنحاة إذا وزنوا الكلمات المهموزة أن يعوّضوا عن حرف الهمزة بحرف العين لئلا تلتبس الهمزة بالألف أو الياء الَّتي تكتب في صورة إحداهما‏)‏، وأشهرها في الشِعْر كائن بوزن اسم فاعل كان، وليست باسم فاعل خلافاً للمبرّد، بل هي مخفّف كأيِّن‏.‏

ولهم في كيفية تخفيفها توجيهات أصلها قول الخليل لمّا كثر استعمالها تصرّف فيها العرب بالقلب والحذف في بعض الأحوال‏.‏ قلت‏:‏ وتفصيله يطول‏.‏ وأنا أرى أنَّهم لمّا راموا التَّخفيف جعلوا الهمزة ألفاً، ثمّ التقى ساكنان على غير حدّه، فحذفوا الياء الساكنة فبقيت الياء المكسورة فشابهت اسم فاعل ‏(‏كان‏)‏ فجعلوها همزة كالياء الَّتي تقع بعد ألف زائدة، وأكثر ما وقع في كلام العرب هو كاين لأنَّها أخف في النظم وأسعد بأكثر الموازين في أوائل الأبيات وأواسطها بخلاف كائن، قال الزجاج‏:‏ اللغتان الجيّدتان كايِّن وكائن‏.‏ وحكى الشَّيخ ابن عرفة في تفسيره عن شيخه ابن الحباب قال‏:‏ أخبرنا شيخنا أحمد بن يوسف السلمي الكناني، قال‏:‏ قلت لشيخنا ابن عصفور‏:‏ لِم أكثرت في شرحك للإيضاح من الشواهد على كائن‏؟‏ فقال‏:‏ لأنِّي دخلت على السلطان الأمير المستنصر ‏(‏يعني محمد المستنصر ابن أبي زكرياء الحفصي والظاهر أنَّه حينئذ ولّي العهد‏)‏ فوجدت ابن هشام ‏(‏يعني محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي نزيل تونس ودفينها المتوفّى سنة 646‏)‏ فأخبرني أنَّه سأله عمَّا يحفظ من الشواهد على قراءة كايِّن فلم يستحضر غير بيت الإيضاح‏:‏

وكائن بالأباطح من صديق *** يراني لو أُصِبت هو المصابا

قال ابن عصفور‏:‏ فلمَّا سألني أنا قلت‏:‏ أحفظ فيها خمسين بيتاً فلمَّا أنشدته نحو عشرة قال‏:‏ حسبك، وأعطاني خمسين ديناراً، فخرجت فوجدت ابن هشام جالساً بالباب فأعطيته نصفها‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏وكأيِّن‏}‏ بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء تحتية مشدّدة بعد الهمزة، على وزن كلمة ‏{‏كصَيِّب‏}‏ وقرأه ابن كثير ‏{‏كَائن‏}‏ بألف بعد الكاف وهمزة مكسورة بعد الألف بوزن كَاهِن‏.‏

والتكثير المستفاد من ‏{‏كأيّن‏}‏ واقع على تمييزها وهو لفظ ‏(‏نبيء‏)‏ فيحتمل أن يكون تكثيراً بمعنى مطلق العدد، فلا يتجاوز جمع القلّة، ويحتمل أن يكون تكثيراً في معنى جمع الكثرة، فمنهم من علمناه ومنهم من لم نعلمه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من لم نقصص عليك‏}‏، ويحضرني أسماء ستة مِمَّن قتل من الأنبياء‏:‏ أرمياء قتلته بنو إسرائيل، وحزقيال قتلوه أيضاً لأنَّه وبّخهم على سوء أعمالهم، وأشعياء قتله منسا بن حزقيال ملك إسرائيل لأنَّه وبّخه ووعظه على سوء فعله فنشره بمنشار، وزكرياء، ويحيى، قتلتهما بنو إسرائيل لإيمانهما بالمسيح، وقتل أهلُ الرسّ من العرب نبيئهم حنظلة بن صفوان في مدّة عدنان، والحواريّون اعتقدوا أنّ المسيح قُتل ولم يهنوا في إقامة دينه بعده، وليس مراداً هنا وإنَّما العبرة بثبات أتباعه على دينه مع مفارقته لهم إذ العبرة في خلوّ الرسول وبقاء أتباعه، سواء كان بقتل أو غيره‏.‏ وليس في هؤلاء رسول إلاّ حنظلة بن صفوان، وليس فيهم أيضاً من قُتِل في جِهادٍ، قال سعيد بن جبير‏:‏ ما سمعنا بنبيء قتل في القتال‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏(‏قُتل‏)‏ بصيغة المبنى للمجهول، وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف، وأبو جعفر‏:‏ ‏(‏قَاتَلَ‏)‏ بصيغة المفاعلة فعلى قراءة ‏(‏قُتل‏)‏ بالبناء للمجهول فمرفوع الفعل هو ضمير نبيء، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون مرفوع الفعلين ضميرَ نبيء فيكون قوله‏:‏ ‏{‏معه ربيون‏}‏ جملة حاليَّة من ‏(‏نبيء‏)‏ ويجوز أن يكون مرفوع الفعلين لفظ ‏(‏ربّيّون‏)‏ فيكون قوله ‏(‏معه‏)‏ حالاً من ‏(‏ربّيّون‏)‏ مقدّماً‏.‏

وجاءت هذه الآية على هذا النظم البديع الصالح لحمل الكلام على تثبيت المسلمين في حال الهزيمة وفي حال الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الوجهين في موقع جملة ‏{‏ومعه ربّيّون‏}‏ يختلف حُسن الوقف على كلمة ‏(‏قتل‏)‏ أو على كلمة ‏(‏كثير‏)‏‏.‏

و ‏(‏الرّبيُّون‏)‏ جمع ربيّ وهو المتّبع لشريعة الرّب مثل الربّاني، والمراد بهم هنا أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء‏.‏ ويجوز في رَائه الفتح، على القياس، والكسر، على أنَّه من تغييرات النسب وهو الذي قرئ به في المتواتر‏.‏

ومحلّ العبرة هو ثبات الربّانيّين على الدّين مع موت أنبيائهم ودعاتهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كثير‏}‏ صفة ‏{‏ربّيّون‏}‏ وجيء به على صيغة الإفراد، مع أنّ الموصوف جمع، لأنّ لفظ كثير وقليل يعامل موصوفهما معاملة لفظ شيءٍ أو عدد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ود كثير من أهل الكتاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏اذكروا إذ أنتم قليل‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 26‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فما وهنوا‏}‏ أي الربّيّون إذ من المعلوم أنّ الأنبياء لا يهنون فالقدوة المقصودة هنا، هي الاقتداء بأتباع الأنبياء، أي لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء، أجدر بالعزم من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم

وجمع بين الوهن والضّعف، وهما متقاربان تقارباً قريباً من الترادف؛ فالوهن قلَّة القدرة على العمل، وعلى النُّهوض في الأمر، وفعله كوعَد وورِث وكرُم‏.‏ والضّعف بضم الضّاد وفتحها ضدّ القوّة في البدن، وهما هنا مجازان، فالأوّل أقرب إلى خور العزيمة، ودبيب اليأس في النُّفوس والفكر، والثَّاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة‏.‏ وأمّا الاستكانة فهي الخضوع والمذلّة للعدوّ‏.‏ ومن اللطائف ترتيبها في الذّكر على حسب ترتيبها في الحصول‏:‏ فإنَّه إذا خارت العزيمة فَشِلت الأعضاء، وجاء الاستسلام، فتبعته المذلّة والخضوع للعدوّ‏.‏

واعلموا أنَّه إذا كان هذا شأن أتباع الأنبياء، وكانت النُّبوءة هدياً وتعليماً، فلا بدع أن يكون هذا شأن أهل العلم، وأتباع الحقّ، أن لا يوهنهم، ولا يضعفهم، ولا يخضعهم، مقاومة مقاوم، ولا أذى حاسد، أو جاهل، وفي الحديث الصّحيح، في «البخاري»‏:‏ أن خَبَّاباً قال للنَّبيء صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لقد لقينا من المشركين شدّة ألاَ تدعُو الله ‏"‏ فقعد وهو محمّر وجهه فقال‏:‏ ‏"‏ لقد كان مَن قبلكم لَيُمشَط بِمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضَع المنشار على مَفْرِق رأسه فيُشَقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه ‏"‏ الحديث‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا‏}‏ الآية عطف على ‏{‏فما وهنوا‏}‏ لأنَّه لمّا وصفهم برباطة الجأش، وثبات القلب، وصفهم بعد ذلك بما يدلّ على الثبات من أقوال اللِّسان الَّتي تجري عليه عند الاضطراب والجزع، أي أنّ ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردّد في صدق وعد الله، ولا بَدَر منهم تذمّر، بل علموا أنّ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه، أو لعلَّه كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه، أو في الوفاء بأمانة التكليف، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم‏:‏ ‏{‏ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا‏}‏ خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم، ثُمّ سألوه النصر وأسبابه ثانياً فقالوا‏:‏ ‏{‏وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏ فلم يصُدّهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النَّصر، وفي «الموطأ»، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل يقول‏:‏ دعوت فلم يُستجب لي ‏"‏ فقصر قولهم في تلك الحالة الَّتي يندر فيها صدور مثل هذا القول، على قولهم‏:‏ ‏{‏ربنا اغفر لنا‏}‏ إلى آخره، فصيغة القصر في قوله‏:‏ ‏{‏وما كان قولهم إلا أن قالوا‏}‏ قصر إضافي لردّ اعتقاد من قد يتوهمّ أنَّهم قالوا أقوالاً تنبئ عن الجزع، أو الهلع، أو الشكّ في النَّصر، أو الاستسلام للكفار‏.‏

وفي هذا القصر تعريض بالَّذين جزِعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم‏:‏ لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان‏.‏

وقدّم خبر ‏(‏كان‏)‏ على اسمها في قوله‏:‏ ‏{‏وما كان قولهم إلا أن قالوا‏}‏ لأنَّه خبر عن مبتدأ محصور، لأنّ المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة ‏{‏ربنا اغفر لنا ذنوبنا‏}‏ فالقصر حقيقي لأنَّه قصر لقولهم الصّادر منهم، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله، فذلك القيد ملاحظ من المقام، نظير القصر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 51‏]‏ فهو قصر حقيقي مقيّد بزمان خاص، تقييداً منطوقاً به، وهذا أحسن من توجيه تقديم الخبر في الآية بأنّ المصدر المنسبك المؤوّل أعرف من المصدر الصّريح لدلالة المؤوّل على النسبة وزمان الحدث، بخلاف إضافة المصدر الصّريح، وذلك جائز في باب ‏(‏كان‏)‏ في غير صيغ القصر، وأمَّا في الحصر فمتعيّن تقديم المحصور‏.‏

والمراد من الذنوب جميعها، وعطف عليه بعض الذنوب وهو المعبّر عنه هنا بالإسراف في الأمر، والإسراف هو الإفراط وتجاوز الحدّ، فلعلّه أريد به الكبائر من الذنوب كما نقل عن ابن عبَّاس وجماعة، وعليه فالمراد بقوله‏:‏ أمرْنا، أي ديننا وتكليفنا، فيكون عطف خاص للاهتمام بطلب غفرانه، وتمحّض المعطوف عليه حينئذ لبقية الذنوب وهي الصّغائر‏.‏ ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسْراف في الأمر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال، والاستعداد له، أو الحذر من العدوّ، وهذا الظاهر من كلمة أمْر، بأن يكونوا شكُّوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوّهم ناشئاً عن سببين‏:‏ باطننٍ وظاهر، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب، والظاهرُ هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر، وهذا أولى من الوجه الأول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة‏}‏ إعلام بتعجيل إجابة دعوتهم لِحصول خيري الدنيا والآخرة، فثواب الدّنيا هو الفتح والغنيمة، وثواب الآخرة هو ما كتب لهم حينئذ من حسن عاقبة الآخرة، ولذلك وصفه بقوله‏:‏ ‏{‏وحسن ثواب الآخرة‏}‏ لأنَّه خيرٌ وأبقى‏.‏ وتقدّم الكلام على الثّواب عند قوله تعالى في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 103‏]‏ ‏{‏لمثوبة من عند اللَّه خير‏}‏

وجملة والله يحب المحسنين‏}‏ تذييل أي يحبّ كلّ محسن، وموقع التذييل يدلّ على أنّ المتحدّث عنهم هم من الَّذين أحسنوا، فاللام للجنس المفيد معنى الاستغراق، وهذه من أكبر الأدلّة على أنّ ‏(‏أل‏)‏ الجنسية إذا دخلت على جمع أبطلت منه معنى الجمعية، وأنّ الاستغراق المفاد من ‏(‏أل‏)‏ إذا كان مدخولها مفرداً وجملة سواء‏.‏