فصل: تفسير الآيات رقم (13- 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ‏}‏‏.‏

يجوز أن يكون جملة ‏{‏وابتلوا‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏ لتنزيلها منها منزلة الغاية للنهي‏.‏ فإن كان المراد من السفهاء هنالك خصوص اليتامى فيتّجه أن يقال‏:‏ لماذا عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وعن الاسم الظاهر المساوي للأوّل إلى التعبير بآخر أخصّ وهو اليتامى، ويجاب بأنّ العدول عن الإضمار لزيادة الإيضاح والاهتمام بالحكم، وأنّ العدول عن إعادة لفظ السفهاء إيذان بأنّهم في حالة الابتلاء مرجو كمال عقولهم، ومتفاءل بزوال السفاهة عنهم، لئلاّ يلوح شبه تناقض بين وصفهم بالسفه وإيناس الرشد منهم، وإن كان المراد من السفهاء هنالك أعمّ من اليتامى، وهو الأظهر، فيتّجه أن يقال‏:‏ ما وجه تخصيص حكم الابتلاء والاستيناس باليتامى دون السفهاء‏؟‏ ويجاب بأنّ الإخبار لا يكون إلاّ عند الوقت الذي يرجى فيه تغيّر الحال، وهو مراهقة البلوغ، حين يرجى كمال العقل والتنقّل من حال الضعف إلى حال الرشد، أمّا من كان سفهه في حين الكبر فلا يعرف وقت هو مظنّة لانتقال حاله وابتلائه‏.‏

ويجوز أن تكون جملة ‏{‏وابتلوا‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ لبيان كيفية الإيتاء ومقدّماته، وعليه فالإظهار في قوله‏:‏ ‏{‏اليتامى‏}‏ لبعد ما بين المعاد والضمير، لو عبّر بالضمير‏.‏

والابتلاء‏:‏ الاختبار، وحتّى ابتدائية، وهي مفيدة للغاية، لأنّ إفادتها الغاية بالوضع، وكونَها ابتدائية أو جارّة استعمالاتٌ بحسب مدخولها، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا فشلتم‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏‏.‏ و‏(‏إذا‏)‏ ظرف مضمّن معنى الشرط، وجمهور النحاة على أنّ ‏(‏حتّى‏)‏ الداخلة على ‏(‏إذا‏)‏ ابتدائية لا جارّة‏.‏

والمعنى‏:‏ ابتلوا اليتامى حتّى وقت إن بلغوا النكاح فادفعوا إليهم أموالهم وما بعد ذلك ينتهي عنده الابتلاء، وحيث علم أنّ الابتلاء لأجل تسليم المال فقد تقرّر أنّ مفهوم الغاية مراد منه لازمه وأثره، وهو تسليم الأموال‏.‏ وسيصرّح بذلك في جواب الشرط الثاني‏.‏

والابتلاء هنا‏:‏ هو اختبار تصرّف اليتيم في المال باتّفاق العلماء، قال المالكية‏:‏ يدفع لليتيم شيء من المال يمكنه التصرّف فيه من غير إجحاف، ويردّ النظر إليه في نفقة الدار شهراً كاملاً، وإن كانت بنتاً يفوّض إليها ما يفوّض لربّة المنزل، وضبط أموره، ومعرفة الجيّد من الرديء، ونحو ذلك، بحسب أحوال الأزمان والبيوت‏.‏ وزاد بعض العلماء الاختبار في الدين، قاله الحسن، وقتادة، والشافعي‏.‏ وينبغي أن يكون ذلك غير شرط إذ مقصد الشريعة هنا حفظ المال، وليس هذا الحكم من آثار كليّة حفظ الدين‏.‏

وبلوغ النكاح على حذف مضاف، أي بلوغ وقت النكاح أي التزوّج، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى، وللبلوغ علامات معروفة، عبّر عنها في الآية ببلوغ النكاح بناء على المتعارف عند العرب من التبكير بتزويج البنت عن البلوغ‏.‏

ومن طلب الرجل الزواج عند بلوغه، وبلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوّة والضعف، والمزاج الدموي والمزاج الصفراوي، فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح، والغالب في بلوغ البنت أنّه أسبق من بلوغ الذكر، فإن تخلّفت عن وقت مظنّتها فقال الجمهور‏:‏ يستدلّ بالسنّ الذي لا يتخلّف عنه أقصى البلوغ عادة، فقال مالك، في رواية ابن القاسم عنه‏:‏ هو ثمان عشرة سنة للذكور والإناث، وروي مثله عن أبي حنيفة في الذكور، وقال‏:‏ في الجاري سَبْع عشرة سنة، وروى غيْر ابن القاسم عن مالك أنّه سبع عشرة سنة‏.‏ والمشهور عن أبي حنيفة‏:‏ أنّه تسع عشرة سنة للذكور وسبع عشرة للبنات، وقال الجمهور‏:‏ خمس عشرة سنة‏.‏ قاله القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بننِ عُمر، وإسحاق، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وابن الماجشون، وبه قال أصبغ، وابن وهب، من أصحاب مالك، واختاره الأبهري من المالكية، وتمسّكوا بحديث ابن عمر أنّه عرضَه رسولُ الله يوم بدر وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزه، وعرضه يوم أحُد وهو ابن خمس عشرة فأجازه‏.‏ ولا حجّة فيه إذ ليس يلزم أن يكون بلوغ عبد الله بن عمر هو معيار بلوغ عموم المسلمين، فصادف أن رآه النبي وعليه ملامح الرجال، فأجازه، وليس ذكر السنّ في كلام ابن عمر إيماء إلى ضبط الإجازة‏.‏ وقد غفل عن هذا ابن العربي في أحكام القرآن، فتعجّب من ترك هؤلاء الأيمّة تحديد سنّ البلوغ بخمس عشرة سنة، والعجبُ منه أشدّ من عجبه منهم، فإنّ قضية ابن عمر قضية عَين، وخلاف العلماء في قضايا الأعيان مَعلوم، واستدلّ الشافعية بما روى أنّ النبي قال‏:‏ إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ما لَه وما عليه، وأقيمت عليه الحدود‏.‏ وهو حديث ضعيف لا ينبغي الاستدلال به‏.‏

ووقت الابتلاء يكون بعد التمييز لا محالة، وقبل البلوغ‏:‏ قاله ابن الموّاز عن مالك، ولعلّ وجهه أنّ الابتلاء قبل البلوغ فيه تعريض بالمال للإضاعة لأنّ عقل اليتيم غير كامل، وقال البغداديون من المالكية‏:‏ الابتلاء قبل البلوغ‏.‏ وعبّر عن استكمال قوّة النماء الطبيعي ببلغوا النكاح‏}‏، فأسند البلوغ إلى ذواتهم لأنّ ذلك الوقت يدعو الرجل للتزوّج ويدعو أولياء البنت لتزويجها، فهو البلوغ المتعارف الذي لا متأخّر بعده، فلا يشكل بأنّ الناس قد يزوّجون بناتهم قبل سنّ البلوغ، وأبناءهم أيضاً في بعض الأحوال، لأنّ ذلك تعجّل من الأولياء لأغراض عارضة، وليس بلوغاً من الأبناء أو البنات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً‏}‏ شرط ثان مقيّد للشرط الأول المستفاد من ‏{‏إذا بَلغوا‏}‏‏.‏ وهو وجوابه جواب ‏(‏إذا‏)‏، ولذلك قرن بالفاء ليكون نصّاً في الجواب، وتكون ‏(‏إذا‏)‏ نصّاً في الشرط، فإنّ جواب ‏(‏إذا‏)‏ مستغن عن الربط بالفاء لولا قصد التنصيص على الشرطية‏.‏

وجاءت الآية على هذا التركيب لتدلّ على أنّ انتهاء الحجر إلى البلوغ بالأصالة، ولكن بشرط أن يُعرف من المحجور الرشد، وكلّ ذلك قطع لمعاذير الأوصياء من أن يمسكوا أموال محاجيرهم عندهم مدّة لزيادة التمتّع بها‏.‏

ويتحصّل من معنى اجتماع الشرطين في الكلام هنا، إذ كان بدون عطف ظاهر أو مقدّر بالقرينة، أنّ مجموعهما سبب لتسليم المال إلى المحجور، فلا يكفي حصول أحدهما ولا نظر إلى الذي يحصل منهما ابتداء، وهي القاعدة العامّة في كلّ جملة شرط بنيت على جملة شرط آخر، فلا دلالة لهما إلاّ على لزوم حصول الأمرين في مشروط واحد، وعلى هذا جرى قول المالكية، وإماممِ الحرمين‏.‏ ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين يفيد كون الثاني منهما في الذكر هو الأوّل في الحصول‏.‏ ونسبه الزجّاجي في كتاب «الأذكار» إلى ثعلب، واختاره ابن مالك وقال به من الشافعية‏:‏ البغوي، والغزالي في الوسيط، ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين في الحصول يكون على نحو ترتيبهما في اللفظ، ونسبه الشافعية إلى القفّال، والقاضي الحسين، والغزالي في «الوجيز»، والإمام الرازي في «النهاية»، وبنوا على ذلك فروعاً في تعليق الشرط على الشرط في الإيمان، وتعليق الطلاق والعتاق، وقال إمام الحرمين‏:‏ لا معنى لاعتبار الترتيب، وهو الحقّ، فإنّ المقصود حصولها بقطع النظر عن التقدّم والتأخّر، ولا يظهر أثر للخلاف في الإخبار وإنشاء الأحكام، كما هنا، وإنّما قد يظهر له أثر في إنشاء التعاليق في الأيمان، وأيمان الطلاق والعتاق، وقد علمت أنّ المالكية لا يرون لذلك تأثيراً‏.‏ وهو الصواب‏.‏

واعلم أنّ هذا إذا قامت القرينة على أنّ المراد جعل الشرطين شرطاً في الجواب، وذلك إذا تجرّد عن العطف بالواو ولو تقديراً، فلذلك يتعيّن جعل جملة الشرط الثاني وجوابه جواباً للشرط الأول، سواء ارتبطت بالفاء كما في هذه الآية أم لم ترتبط، كما في قوله‏:‏ ‏{‏ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وأمّا إذا كان الشرطان على اعتبار الترتيب فلكلّ منهما جواب مستقلّ نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيّها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله‏:‏ وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء إن أراد النبي أن يستنكحها‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏إن وهبت‏}‏ شرط في إحلال امرأة مؤمنة له، وقوله‏:‏ ‏{‏إنْ أرَادَ النَّبِىُّ‏}‏ شرط في انعقاد النكاح، لئلاّ يتوهّم أنّ هبة المرأة نفسها للنبي تعيِّن عليه تزوّجها، فتقدير جوابه‏:‏ إن أراد فله ذلك، وليسا شرطين للإحلال لظهور أنّ إحلال المرأة لا سبب له في هذه الحالة إلاّ أنّها وهبت نفسها‏.‏

وفي كلتا حالتي الشرط الوارد على شرط يجعل جواب أحدهما محذوفاً دلّ عليه المذكور، أو جواب أحدهما جواباً للآخر‏:‏ على الخلاف بين الجمهور والأخفش، إذ ليس ذلك من تعدّد الشروط وإنَّما يتأتَّى ذلك في نحو قولك‏:‏ «إن دخلت دار أبي سفيان، وإن دخلت المسجد الحرام، فأنت آمن» وفي نحو قولك‏:‏ «إن صليت إن صمت أُثْبِت» من كلّ تركيب لا تظهر فيه ملازمة بين الشرطين، حتَّى يصير أحدهما شرطاً في الآخر‏.‏

هذا تحقيق هذه المسألة الذي أطال فيه كثير وخصّها تقيّ الدين السبكي برسالة وهي مسألة سأل عنها القاضي ابنُ خلكان الشيخ ابن الحاجب كما أشار إليه في ترجمته من كتاب «الوفيات»، ولم يفصّلها، وفصّلها، الدماميني في «حاشية مغني اللبيب»‏.‏

وإيناس الرشد هنا علمه، وأصل الإيناس رؤية الإنسي أي الإنسان، ثمّ أطلق على أوّل ما يتبادر من العلم، سواء في المبصرات، نحو‏:‏ ‏{‏آنس من جانب الطُّور ناراً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 29‏]‏ أم في المسموعات، نحو قول الحارث بن حلزة في بقرة وحشية‏:‏

ءانَسَتْ نَبْأةً وأفْزَعَهَا القُن *** اصُ عَصْراً وقد دَنا الإمْساء

وكأنّ اختيار ‏{‏آنستم‏}‏ هنا دون علمتم للإشارة إلى أنّه إن حصل أوّل العلم برشدهم يدفع إليهم مالهم دون تراخ ولا مطل‏.‏

والرشد بضم الراء وسكون الشين، وتفتح الراء فيفتح الشين، وهما مترادفان وهو انتظام تصرّف العقل، وصدور الأفعال عن ذلك بانتظام، وأريد به هنا حفظ المال وحسن التدبير فيه كما تقدّم في ‏{‏ابتلوا اليتامى‏}‏‏.‏

والمخاطب في الآية الأوصياء، فيكون مقتضى الآية أنّ الأوصياء هم الذين يتولَّون ذلك، وقد جعله الفقهاء حكماً، فقالوا‏:‏ يتولّى الوصيّ دفع مال محجوره عندما يأنس منه الرشد، فهو الذي يتولّى ترشيد محجوره بتسليم ماله إليه‏.‏

وقال اللخمي‏:‏ من أقامه الأب والقاضي لا يقبل قوله بترشيد المحجور إلاّ بعد الكشف لفساد الناس اليوم وعدم أمنهم أن يتواطئوا مع المحاجير ليرشِّدوهم فيسمحوا لهم بما قبلَ ذلك‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والصواب في أوصياء زماننا أن لا يستغنى عن رفعهم إلى السلطان وثبوت الرشد عنده لما عرف من تواطؤ الأوصياء على أن يرشّد الوصيّ محجوره ويبرئ المحجور الوصيّ لسفهه وقلّة تحصيله في ذلك الوقت‏.‏ إلاّ أنّ هذا لم يجر عليه عمل، ولكن استحسن الموثّقون الإشهاد بثبوت رشد المحجور الموصى عليه من أبيه للاحتياط، أمّا وصيّ القاضي فاختلفت فيه أقوال الفقهاء، والأصحّ أنّه لا يرشّد محجوره إلاّ بعد ثبوت ذلك لدى القاضي، وبه جرى العمل‏.‏

وعندي أنّ الخطاب في مثله لعموم الأمّة، ويتولّى تنفيذه مَن إليه تنفيذ ذلك الباب من الولاة، كشأن خطابات القرآن الواردة لجماعة غير معيّنين، ولا شك أنّ الذي إليه تنفيذ أمور المحاجير والأوصياء هو القاضي، ويحصل المطلوب بلا كلفة‏.‏

والآية ظاهرة في تقدّم الابتلاء والاستيناس على البلوغ لمكان ‏(‏حتّى‏)‏ المؤذنة بالانتهاء، وهو المعروف من المذهب، وفيه قول أنّه لا يُدفع للمحجور شيء من المال للابتلاء إلا بعد البلوغ‏.‏

والآية أيضاً صريحة في أنّه إذا لم يحصل الشرطان معاً‏:‏ البلوغ والرشد، لا يدفع المال للمحجور‏.‏ واتّفق على ذلك عامّة علماء الإسلام، فمن لم يكن رشيداً بعد بلوغه يستمرّ عليه الحجر، ولم يخالف في ذلك إلاّ أبو حنيفة‏.‏ قال‏:‏ ينتظر سبعَ سنين بعد البلوغ فإن لم يؤنس منه الرشد أطلق من الحجر‏.‏ وهذا يخالف مقتضى الشرط من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً‏}‏ لأنّ أبا حنيفة لا يعتبر مفهوم الشرط، وهو أيضاً يخالف القياس إذ ليس الحجر إلاّ لأجل السفه وسوء التصرّف فأي أثر للبلوغ لولا أنّه مظنّة الرشد، وإذا لم يحصل مع البلوغ فما أثر سبع السنين في تمام رشده‏.‏

ودلّت الآية بحكم القياس على أنّ من طرأَ عليه السفه وهو بالغ أو اختلّ عقله لأجل مرض في فكره، أو لأجل خرف من شدّة الكبر، أنّه يحجّر عليه إذ علّة التحجير ثابتة، وخالف في ذلك أيضاً أبو حنيفة‏.‏ وقال‏:‏ لا حجر على بالغ‏.‏

وحكم الآية شامل للذكور والإناث بطريق التغليب‏:‏ فالأنثى اليتيمة إذا بلغت رشيدة دُفع مالها إليها‏.‏

والتنكير في قوله‏:‏ ‏{‏رشداً‏}‏ تنكير النوعية، ومعناه إرادة نوع الماهية لأنّ المواهي العقلية متّحدة لا أفراد لها، وإنّما أفرادها اعتبارية باعتبار تعدد المحَال أو تعدّد المتعلّقات، فرشد زيد غير رشد عمرو، والرشد في المال غير الرشد في سياسة الأمّة، وفي الدعوة إلى الحقّ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أمر فرعون برشيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 97‏]‏، وقال عن قوم شعيب ‏{‏إنك لأنت الحليم الرشيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏‏.‏ وماهية الرشد هي انتظام الفكر وصدور الأفعال على نحوه بانتظام، وقد علم السامعون أنّ المراد هنا الرشد في التصرّف المالي، فالمراد من النوعية نحو المراد من الجنس، ولذلك ساوى المعرّف بلام الجنس النكرةَ، فمن العجائب توهّم الجصّاص أنّ في تنكير ‏(‏رشداً‏)‏ دليلاً لأبي حنيفة في عدم اشتراط حسن التصرّف واكتفائه بالبلوغ، بدعوى أنّ الله شرط رشداً مَّا وهو صادق بالعقل إذ العقل رشد في الجملة، ولم يشترط الرشّد كلّه‏.‏ وهذا ضعف في العربية، وكيف يمكن العموم في المواهي العقلية المحضة مع أنّها لا أفراد لها‏.‏ وقد أُضيفت الأموال هنا إلى ضمير اليتامى‏:‏ لأنّها قَوي اختصاصها بهم عندما صاروا رشداء فصار تصرّفهم فيها لا يخاف منه إضاعة ما للقرابة ولعموم الأمّة من الحقّ في الأموال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوها إسرافاً‏}‏ عطف على ‏{‏وابتلوا اليتامى‏}‏ باعتبار ما اتّصل به من الكلام في قوله‏:‏ ‏{‏فإن آنستم منهم رشداً‏}‏ إلخ وهو تأكيد للنهي عن أكل أموال اليتامى الذي تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ وتفضيح لحيلة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشُدّهم‏:‏ وهي أن يتعجّل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهّيئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق، وذلك أنّ أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعياناً من أنعام وتمر وحبّ وأصواف فلم يكن شأنها ممّا يكتم ويختزن، ولا ممّا يعسر نقل الملك فيه كالعقار، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم، فإذا وجد الوليّ مال محجوره جَشِع إلى أكله بالتوسّععِ في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه ممّا لم يكن ينفق فيه مال نفسه، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه بالإسراف، فإنّ الإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسّع في شؤون اللذات‏.‏

وانتصب ‏(‏إسرافاً‏)‏ على الحال‏:‏ أو على النيابة عن المفعول المطلق، وأيّا ما كان، فليس القصد تقييد النهي عن الأكل بذلك، بل المقصود تشويه حالة الأكل‏.‏

والبدار مصدر بادره، وهو مفاعلة من البَدْر، وهو العجلة إلى الشيء، بَدَره عجله، وبادره عاجله، والمفاعلة هنا قصد منها تمثيل هيئة الأولياء في إسرافهم في أكل أموال محاجيرهم عند مشارفتهم البلوغ، وتوقّع الأولياء سرعة إبَّانه، بحال من يبدر غيره إلى غاية والآخر يبدر إليها فهما يتبادرانها، كأنّ المحجور يسرع إلى البلوغ ليأخذ ماله، والوصي يسرع إلى أكله لكيلا يجد اليتيم ما يأخذ منه، فيذهب يدّعي عليه، ويقيم البيّنات حتّى يعجز عن إثبات حقوقه، فقوله‏:‏ ‏{‏أن يكبروا‏}‏ في موضع المفعول لمصدر المفاعلة‏.‏ ويكبر بفتح الموحدة مضارع كبر كعَلِم إذا زاد في السنّ، وأمّا كبُر بضم الموحدة فهو إذا عظم في القدر، ويقال‏:‏ كبر عليه الأمر بضم الموحدة شَقّ‏.‏

عطف على ‏{‏ولا تأكلوها إسرافاً‏}‏ الخ المقرّر به قوله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ ليتقرّر النهي عن أكل أموالهم‏.‏ وهو تخصيص لعموم النهي عن أكل أموال اليتامى في الآيتين السابقتين للترخيص في ضرب من ضروب الأكل، وهو أن يأكل الوصيّ الفقير من مال محجوره بالمعروف، وهو راجع إلى إنفاق بعض مال اليتيم في مصلحته، لأنّه إذا لم يُعْط وصيّه الفقير بالمعروف ألهاه التدبير لقوته عن تدبير مال محجوره‏.‏

وفي لفظ المعروف ‏(‏حوالة على ما يناسب حال الوصيّ ويتيمه بحسب الأزمان والأماكن وقد أرشد إلى ذلك حديث أبي داوود‏:‏ أنّ رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إني فقير وليس لي شيء» قال‏:‏ ‏"‏ كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متاثل ‏"‏‏.‏ وفي «صحيح مسلم» عن عائشة‏:‏ نزلت الآية في ولي اليتيم إذا كان محتاجاً أن يأكل منه بقدر ماله بالمعروف، ولذلك قال المالكية‏:‏ يأخذ الوصي بقدر أجرة مثله، وقال عمر بن الخطاب، وابن عباس، وأبو عبيدة، وابن جبير، والشعبي، ومجاهد‏:‏ إنّ الله أذن في القرض لا غير‏.‏ قال عمر‏:‏ «إني نزّلت نفسي من مال الله منزلة الوصيّ من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت وإن احتجت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت» وقال عطاء، وإبراهيم‏:‏ لا قضاء على الوصيّ إن أيسر‏.‏

وقال الحسن، والشعبي، وابن عباس، في رواية‏:‏ إنّ معناه أن يشرب اللبن ويأكل من الثمر ويهنأ الجربي من إبله ويلوط الحوض‏.‏ وقيل‏:‏ إنّما ذلك عند الاضطرار كأكل الميتة والخنزير‏:‏ روي عن عكرمة، وابن عباس، والشعبي، وهو أضعف الأقوال لأنّ الله ناط الحكم بالفقر لا بالاضطرار، وناطه بمال اليتيم، والاضطرار لا يختصّ بالتسليط على مال اليتيم بل على كلّ مال‏.‏ وقال أبو حنيفة وصاحباه‏:‏ لا يأخذ إلاّ إذا سافر من أجل اليتيم يأخذ قوته في السفر‏.‏ واختلف في وصيّ الحاكم هل هو مثل وصيّ الأب‏.‏ فقال الجمهور‏:‏ هما سواء، وهو الحقّ، وليس في الآية تخصيص‏.‏

ثم اختلفوا في الوصيّ الغنيّ هل يأخذ أجر مثله على عمله بناء على الخلاف في أنّ الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فليستعفف‏}‏ للوجوب أو للندب، فمن قال للوجوب قال‏:‏ لا يأكل الغني شيئاً، وهذا قول كلّ من منعه الانتفاع بأكثر من السلف والشيء القليل، وهم جمهور تقدّمت أسماءهم‏.‏ وقيل‏:‏ الأمر للندب فإذا أراد أن يأخذ أجر مثله جاز له إذا كان له عمل وخدمة، أمّا إذا كان عمله مجرّد التفقّد لليتيم والإشراف عليه فلا أجر له‏.‏

وهذا كله بناء على أنّ الآية محكمة‏.‏ ومن العلماء من قال‏:‏ هي منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 188‏]‏ وإليه مال أبو يوسف، وهو قول مجاهد، وزيد بن أسلم‏.‏

ومن العلماء من سلك بالآية مسلك التأويل فقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن‏:‏ المراد فمن كان غنياً أي من اليتامى، ومن كان فقيراً كذلك، وهي بيان لكيفية الإنفاق على اليتامى فالغنيّ يعطى كفايته، والفقير يعطى بالمعروف، وهو بعيد، فإنّ فعل ‏(‏استعفف‏:‏ يدلّ على الاقتصاد والتعفّف عن المسألة‏.‏

وقال النخعي، وروي عن ابن عباس‏:‏ من كان من الأوصياء غنيّا فليستعفف بماله ولا يتوسّع بمال محجوره ومن كان فقيراً فإنّه يقتّر على نفسه لئلا يمدّ يده إلى مال يتيمه‏.‏ واستحسنه النحاس والكِيَا الطبري في أحكام القرآن‏.‏

‏{‏فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً‏}‏ وهو أمر بالإشهاد عند الدفع، ليظهر جليّا ما يسلمه الأوصياء لمحاجيرهم، حتى يمكن الرجوع عليهم يوماً ما بما يطّلع عليه ممّا تخلّف عند الأوصياء، وفيه براءة للأوصياء أيضاً من دعاوي المحاجير من بعدُ‏.‏ وحسبك بهذا التشريع قعطا للخصومات‏.‏

والأمر هنا يحتمل الوجوب ويحتمل الندب، وبكلّ قالت طائفة من العلماء لم يسمّ أصحابها‏:‏ فإن لوحظ ما فيه من الاحتياط لحقّ الوصيّ كان الإشهاد مندوباً لأنّه حقّه فله أن لا يفعله، وإن لوحظ ما فيه من تحقيق مقصد الشريعة من رفع التهارج وقع الخصومات، كان الإشهاد واجباً نظير ما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وللشريعة اهتمام بتوثيق الحقوق لأنّ ذلك أقوم لنظام المعاملات‏.‏ وأياما كان فقد جعل الله الوصيّ غير مصدّق في الدفع إلاّ ببينة عند مالك قال ابن الفرس‏:‏ لولا أنّه يَضمن إذا أنكره المحجور لم يكن للأمر بالتوثّق فائدة، ونقل الفخر عن الشافعي موافقة قول مالك، إلاّ أنّ الفخر احتجّ بأنّ ظاهر الأمر للوجوب وهو احتجاج واه لأنّه لا أثر لكون الأمر للوجوب أو للندب في ترتّب حكم الضمان، إذ الضمان من آثار خطاب الوضع، وسببه هو انتفاء الإشهاد، وأمّا الوجوب والندب فمن خطاب التكليف وأثرهما العقاب والثواب‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ هو مصدّق بيمينه لأنّه عدّه أمينا، وقيل‏:‏ لأنّه رأى الأمر للندب‏.‏ وقد علمت أنّ محمل الأمر بالإشهاد لا يؤثّر في حكم الضمان‏.‏ وجاء بقوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله حسيباً تذييلا لهذه الأحكام كلها، لأنّها وصيّات وتحريضات فوكل الأمر فيها إلى مراقبة الله تعالى‏.‏ والحسيب‏:‏ المحاسب‏.‏ والباء زائدة للتوكيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي، وهو جار مجرى النتيجة لحكم إيتاء أموال اليتامى، ومجرى المقدّمة لأحكام المواريث التي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏‏.‏

ومناسبة تعقيب الآي السابقة بها‏:‏ أنّهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشدّاء بالأموال، وحرمان الضعفاء، وإبقاءهم عالة على أشدّائهم حتّى يكونوا في مقادتهم، فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم، وكان أكبر العائلة يَحرم إخوته من الميراث معه فكان أولئك لضعفهم يصبرون على الحرمان، ويقنعون بالعيش في ظلال أقاربهم، لأنّهم إن نازعوهم أطردوهم وحرموهم، فصاروا عالة على الناس‏.‏

وأخصّ الناس بذلك النساءُ فإنّهن يجدن ضعفاً من أنفسهنّ، ويخشين عار الضيعة، ويتّقين انحراف الأزواج، فيتّخذن رضى أوليائهُنّ عدّة لهنّ من حوادث الدهر، فلمّا أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم، أمر عقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيباً ممّا ترك الوالدان والأقربون‏.‏

فإيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه ممّا ترك له الوالدان والأقربون، وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم ممّا ترك الوالدان والأقربون، وذُكر النساءُ هناك تمهيداً لشرع الميراث، وقد تأيّد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8‏]‏ فإنّ ذلك يناسب الميراث، ولا يناسب إيتاءَ أموال اليتامى‏.‏

ولا جرم أنّ من أهمّ شرائع الإسلام شرع الميراث، فقد كان العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصيّة لعظماء القبائل ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة، وتجمعهم بهم صلات الحلف أو الاعتزاز والودّ، وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بلا وصية يُصرف لأبْناء الميّت الذكور، فإن لم يكن له ذكور فقد حكي أنّهم يصرفونه إلى عصبته من إخوة وأبناء عمّ، ولا تعطى بناته شيئاً، أمّا الزوجات فكنّ موروثات لا وارثات‏.‏

وكانوا في الجاهلية لا يورثون بالبنوّة إلاّ إذا كان الأبناء ذكوراً، فلا ميراث للنساء لأنّهم كانوا يقولون إنّما يرث أموالنا من طاعن بالرمح، وضرب بالسيف‏.‏ فإن لم تكن الأبناءُ الذكورُ وَرِث أقربُ العصبة‏:‏ الأبُ ثمّ الأخُ ثمّ العمّ وهكذا، وكانوا يورثون بالتبنيّ وهو أن يتّخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبنِّي والمتبنَّى جميع أحكام الأبوّة‏.‏

ويورثون أيضاً بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلّة بينهما فيتعاقدا على أنّ دمهما واحد ويتوارثا، فلمّا جاء الإسلام لم يقع في مكّة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذّر تنفيذ ما يُخالف أحكام سكّانها، ثمّ لمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكّة صار التوريث‏:‏ بالهجرة، فالمهاجر يرث المهاجر، وبالحلف، وبالمعاقدة، وبالأخوّة التي آخاها الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار، ونزل في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 33‏]‏ الآية من هاته السورة‏.‏ وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين، فشرع الله الميراث بالقرابة، وجعل للنساء حظوظاً في ذلك فأتمّ الكلمة، وأسبغ النعمة، وأومأ إلى أنّ حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها‏.‏

وقد كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ أوّل إعطاء لحقّ الإرث للنساء في العرب‏.‏

ولكون هذه الآية كالمقدّمة جاءت بإجمال الحقّ والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله، لقصد تهيئة النفوس، وحكمة هذا الإجمال حكمةُ ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقلَ لتسكن النفوس إليها بالتدريج‏.‏

روى الواحدي، في أسباب النزول، والطبري، عن عكرمة، وأحَدُهما يزيد على الآخر ما حاصله‏:‏ إنّ أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كُحَّة فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ «إنّ زوجي قُتِل معك يوم أُحد وهاتان بنتاه وقد استوفى عمّهما مالَهما فما ترى يا رسول الله‏؟‏ فواللَّهِ ما تَنْكحان أبداً إلاّ ولهما مال» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يقضي الله في ذلك ‏"‏‏.‏ فنزلت سورة النساء وفيها‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏‏.‏ قال جابر بن عبد الله‏:‏ فقال رسول الله ‏"‏ ادع لي المرأة وصاحبَها ‏"‏ فقال لعمتهما ‏"‏ أعطهما الثلثين وأعط أمّهما الثمن وما بقي فلَك ‏"‏‏.‏ ويروى‏:‏ أنّ ابني عمّه سويد وعرفطة، وروى أنّهما قتادة وعرفجة، وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا دعا العَمّ أو ابني العمّ قال، أو قالا له «يا رسول الله لا نعطي من لا يركب فرساً ولا يحمل كَلا ولا يَنكي عدوّا» فقال ‏"‏ انصرف أوْ انصرفا، حتّى أنظرَ ما يحدث الله فيهنّ ‏"‏ فنزلت آية ‏{‏للرجال نصيب‏}‏ الآية‏.‏ وروي أنّه لمّا نزلت هاته الآية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى وليّ البنتين فقال‏:‏ ‏"‏ لا تفرّق من مال أبيهما شيئاً فإنّ الله قد جعل لهنّ نصيباً ‏"‏ والنصيب تقدّم عند قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏23‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ بيان لمما ترك‏}‏ لقصد تعميم ما ترك الوالدان والأقربون وتنصيص على أنّ الحقّ متعلّق بكلّ جزء من المال، حتّى لا يستأثر بعضهم بشيء، وقد كان الرجل في الجاهلية يعطي أبناءه من ماله على قدر ميله كما أوصى نزار بن مَعِّد بن عدنان لأبنائه‏:‏ مضر، وربيعة، وإياد، وأنْمارِ، فجعل لمضر الحمراء كلّها، وجعل لربيعة الفرسَ، وجعل لإياد الخادم، وجعل لأنمار الحمار، ووكَلهم في إلحاق بقية ماله بهاته الأصناف الأربعة إلى الأفعى الجُرْهُمي في نَجْران، فانصرفوا إليه، فقسم بينهم، وهو الذي أرسل المثَل‏:‏ إنّ العَصَا من العُصَيَّة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نصيباً مفروضاً‏}‏ حال من ‏(‏نصيب‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب‏}‏ ‏{‏وللنساء نصيب‏}‏ وحيث أريد بنصيب الجنس جاء الحال منه مفرداً ولم يراع تعدّده، فلم يُقَل‏:‏ نصيبين مفروضين، على اعتبار كون المذكور نصيبين، ولا قيل‏:‏ أنصباء مفروضة، على اعتبار كون المذكور موزّعا للرجال وللنساء، بل روعي الجنس فجيء بالحال مفرداً و‏{‏مفروضا‏}‏ وصف، ومعنى كونه مفروضاً أنّه معيّن المقدار لكلّ صنف من الرجال والنساء، كما قال تعالى في الآية الآتية ‏{‏فريضة من الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وهذا أوضح دليل على أنّ المقصود بهذه الآية تشريع المواريث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

جملة معطوفة على جملة ‏{‏للرجال نصيب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏ إلى آخرها‏.‏ وهذا أمر بعطية تعطى من الأموال الموروثة‏:‏ أمر الورثة أن يسهموا لمن يحضر القسمة من ذوي قرابتهم غير الذين لهم حقّ في الإرث، ممّن شأنهم أن يحضروا مجالس الفصل بين الأقرباء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وللنساء نصيب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏ يقتضيان مقسوماً، فالتعريف في قوله‏:‏ ‏{‏القسمة‏}‏ تعريف العهد الذِكري‏.‏

والأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فارزقوهم منه‏}‏ محمول عند جمهور أهل العلم على الندب من أوّل الأمر، إذ ليس في الصدقات الواجبة غير الزكاة، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي لمّا قال له‏:‏ هل عليّ غيرها‏؟‏ «لا إلاّ أنّ تطَّوّع» وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وفقهاء الأمصار، وجعلوا المخاطب بقوله‏:‏ ‏{‏فارزقوهم‏}‏ الورثة المالكين أمر أنفسهم، والآية عند هؤلاء محكمة غير منسوخة، وذهب فريق من أهل العلم إلى حمل الأمر بقوله‏:‏ ‏{‏فارزقوهم‏}‏ على الوجوب، فعن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والزهري، وعطاء، والحسن، والشعبي‏:‏ أن ذلك حقّ واجب على الورثة المالكين أمر أنفسهم فهم المخاطبون بقوله‏:‏ ‏{‏فارزقوهم‏}‏‏.‏

وعن ابن عباس، وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيّب، وأبي صالح‏:‏ أنّ ذلك كان فرضا قبل نزول آية المواريث، ثم نسخ بآية المواريث، ومآل هذا القول إلى موافقة قول جمهور أهل العلم‏.‏

عن ابن عباس أيضاً‏.‏ وزيد بن أسلم‏:‏ أنّ الأمر موجّه إلى صاحب المال في الوصيّة التي كانت مفروضة قبل شرع الميراث واجب عليه أن يجعل في وصيّنه شيئاً لمن يحضر وصيّته من أولى القربى واليتامى والمساكين غير الذين أوصى لهم، وأنّ ذلك نسخ تَبعا لنسخ وجوب الوصية، وهذا يقتضي تأويل قوله‏:‏ ‏{‏القسمة‏}‏ بمعنى تعيين ما لكل موصى له من مقدار‏.‏

وعن سعيد بن جبير‏:‏ أنّ الآية في نفس الميراث وأنّ المقصود منها هو قوله‏:‏ ‏{‏وقولوا لهم قولاً معروفاً‏}‏ قال‏:‏ فقوله‏:‏ ‏{‏فارزقوهم منه‏}‏ هو الميراث نفسه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وقولوا لهم قولاً معروفاً‏}‏ أي قولوا لغير الورثة بأن يقال لهم إنّ الله قسم المواريث‏.‏

وقد علمت أنّ موقع الآية تمهيد لتفصيل الفرائض، وأنّ ما ذهب إليه جمهور أهل العلم هو التأويل الصحيح للآية، وكفاك باضطراب الرواية عن ابن عباس في تأويلها توهينا لتأويلاتهم‏.‏

والأمر بأن يقولوا لهم قولاً معروفاً أي قولاً حسناً وهو ضدّ المنكر تسلية لبعضهم على مَا حرموا منه من مال الميّت كما كانوا في الجاهلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏(‏وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا قول سديدا ‏[‏9‏]‏‏)‏ موعظة لكل من أمر أو نهي أو حذر أو رغب في الآي السابقة في شأن أموال اليتامى وأموال الضعفاء من النساء والصبيان فابتدئت الموعظة بالأمر بخشية الله تعالى أي خشية عذابه ثم أعقب بإثارة شفقة الآباء على ذريتهم بأن ينزلوا أنفسهم منزلة الموروثين الذين اعتدوا هم على أموالهم وينزلوا ذرياتهم منزلة الذرية الذين أكلوا هم حقوقهم وهذه الموعظة مبنية على قياس قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وزاد إثارة الشفقة التنبيه على أن المعتدى عليهم خلق ضعاف بقوله ‏(‏ضعافا‏)‏ ثم أعقب بالرجوع إلى الغرض المنتقل منه وهو حفظ أموال اليتامى بالتهديد على أكله بعذاب الآخرة بعد التهديد بسوء الحال في الدنيا‏.‏ فيفهم من الكلام تعريض بالتهديد بأن نصيب أبناءهم مثلما فعلوه بأبناء غيرهم والأظهر أن مفعول ‏(‏يخش‏)‏ حذف لتذهب نفس السامع في تقديره كل مذهب محتمل فينظر كل سامع بحسب الأهم عنده مما يخشاه أن يصيب ذريته

وجملة ‏(‏لو تركوا‏)‏ إلى ‏(‏خافوا عليهم‏)‏ صلة الموصول وجملة ‏(‏خافوا عليهم‏)‏ جواب ‏(‏لو‏)‏

وجيء بالموصول لأن الصلة لما كانت وصفا مفروضا حسن التعريف بها إذ المقصود تعريف من هذه حاله وذلك كاف في التعريف للمخاطبين بالخشية إذ كل سامع يعرف مضمون هذه الصلة لو فرض حصولها له إذ هي أمر يتصوره كل الناس

ووجه اختيار ‏(‏لو‏)‏ هنا من بين أدوات الشرط أنها هي الأداة الصالحة لفرض الشرط من غير تعرض لإمكانه فيصدق معها الشرط المتعذر الوقوع والمستبعده والممكنه‏:‏ فالذين بلغوا اليأس من الولادة ولهم أولاد كبار أو لا أولاد لهم يدخلون في فرض هذا الشرط لأنهم لو كان لهم أولاد صغار لخافوا عليهم والذين لهم أولاد صغار أمرهم أظهر

وفعل ‏(‏تركوا‏)‏ ماض مستعمل في مقاربة حصول الحدث مجازا بعلاقة الأول كقوله تعالى ‏(‏والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم‏)‏ وقوله تعالى ‏(‏لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم‏)‏ وقول الشاعر‏:‏

إلى ملك الجبال لفقده *** تزول زوال الراسيات من الصخر أي وقاربت الراسيات الزوال إذ الخوف إنما يكون عند مقاربة الموت لا بعد الموت‏.‏ فالمعنى‏:‏ لو شارفوا أن يتركوا ذرية ضعافا لخافوا عليهم من أولياء السوء

صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام والمخاطب بالأمر من يصلح له من الأصناف المتقدمة‏:‏ من الأوصياء ومنن الرجال الذين يحرمون النساء ميراثهم ويحرمون صغار اخوتهم أو أبناء اخوتهم وأبناء أعمامهم من ميراث آبائهم كل أولئك داخل في الأمر بالخشية والتخويف بالموعظة ولا يتعلق هذا الخطاب بأصحاب الضمير في قوله ‏(‏فارزقوهم منه‏)‏ لأن تلك الجملة وقعت كالاستطراد ولأنه لا علاقة لمضمونها بهذا التخويف

وفي الآية ما يبعث الناس كلهم على أن يبغضوا للحق من الظلم وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء وأن يحرسوا أموال اليتامى ويبلغوا حقوق الضعفاء اليهم لأنهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك وأن يأكل قويهم ضعيفهم فإن اعتياد السوء ينسي الناس شناعته ويكسب النفوس ضراوة على عمله‏.‏ وتقدم تفسير الذرية عند قوله تعالى ‏(‏ذرية بعضها من بعض‏)‏ في سورة آل عمران

وقوله ‏(‏فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا‏)‏ فرع الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين‏:‏ لأن الأمر الأول لما عضد بالحجة اعتبر كالحاصل فصح التفريع عليه والمعنى‏:‏ فليتقوا الله في أموال الناس وليحسنوا إليهم القول

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

جملة معترضة تفيد تكرير التحذير من أكل مال اليتامى، جرّتهُ مناسبة التعرّض لقسمة أموال الأموات، لأنّ الورثة يكثر أن يكون فيهم يتامى لكثرة تزوّج الرجال في مدّة أعمارهم، فقلّما يخلو ميِّت عن ورثة صغار، وهو مؤذن بشدّة عناية الشارع بهذا الغرض، فلذلك عاد إليه بهذه المناسبة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ظلماً‏}‏ حال من ‏{‏يأكلون‏}‏ مقيِّدة ليخرج الأكلُ المأذون فيه بمثل قوله‏:‏ ‏{‏ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏، فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

ثم يجوز أن يكون ‏(‏نارا‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏إنما يأكلون في بطونهم ناراً‏}‏ مراداً بها نار جهنّم، كما هو الغالب في القرآن، وعليه ففِعْلُ ‏{‏يأكلون‏}‏ ناصب ‏(‏ناراً‏)‏ المذكور على تأويل يأكلون ما يفضي بهم إلى النار، فأطلق النار مجازاً مرسلاً بعلاقة الأَوْل أو السببية أي ما يفضي بهم إلى عذاب جهنّم، فالمعنى أنّهم حين يأكلون أموال اليتامى قد أكلوا ما يفضي بهم إلى جهنّم‏.‏

وعلى هذا فعطف جملة‏:‏ ‏{‏وسيصلون سعيراً‏}‏ عَطْف مرادف لمعنى جملة ‏{‏يأكلون في بطونهم ناراً‏}‏‏.‏

ويجوز أن يكون اسم النار مستعاراً للألم بمعنى أسباب الألم فيكون تهديداً بعذاب دنيوي أو مستعاراً للتلف لأنّ شأن النار أن تلتهم ما تصيبه، والمعنى إنّما يأخذون أموالاً هي سبب في مصائب تعتريهم في ذواتهم وأموالهم كالنار إذا تدنو من أحد فتؤلمه وتتلف متاعه، فيكون هذا تهديداً بمصائب في الدنيا على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يمحق اللَّه الربا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 276‏]‏ ويكون عطف جملة ‏{‏وسيصلون سعيراً‏}‏ جارياً على ظاهر العطف من اقتضاء المغايرة بين المتعاطفين، فالجملة الأولى تهديد بعذاب في الدنيا، والجملة الثانية وعيد بعذاب الآخرة‏.‏

وذِكْرُ ‏{‏في بطونهم‏}‏ على كلا المعنيين مجرّد تخييل وترشيح لاستعارة ‏{‏يأكلون‏}‏ لمعنى يأخذون ويستحوذون‏.‏

والسين في ‏{‏سيصلون‏}‏ حرف تنفيس أي استقبال، أي أنها تدخل على المضارع فتمحّضه للاستقبال، سوءا كان استقبالاً قريباً أو بعيداً، وهي مرادفة سوف، وقيل‏:‏ إنّ سوف أوسع زمانا‏.‏ وتفيدان في مقام الوعد تحقيقَ الوعد وكذلك التوعّد‏.‏

ويَصْلَوْن مضارع صَلِي كرضي إذا قاسى حرّ النار بشدّة، كما هنا، يقال‏:‏ صلى بالنار، ويكثر حذف حرف الجرّ مع فعل صَلي ونصب الاسم بعده على نزع الخافض، قال حُمَيْد بن ثور‏:‏

لا تَصْطَلي النارَ إلاّ يَجْمَرا أَرجَا *** قد كسَّرَت مِن يلجوج له وَقَصَا

وهو الوارد في استعمال القرآن باطراد‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ وسيَصلونَ بفتح التحتية مضارع صَلي، وقرأه ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية مضارع أصلاه إذا أحرقه ومبنيا للنائب‏.‏

‏{‏والسعير‏}‏ النار المسعَّرة أي الملتهبة، وهو فعيل بمعنى مفعول، بني بصيغة المجرّد، وهو من المضاعف، كما بنى السميع من أَسْمَع، والحكيم من أَحْكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏يُوصِيكُمُ الله فى أولادكم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثيين فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف‏}‏‏.‏

تتنزّل آية ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ منزلة البيان والتفصيل لقوله ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏ وهذا المقصد الذي جعل قوله‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏ إلخ بمنزلة المقدّمة له فلذلك كانت جملة‏:‏ ‏{‏يوصيكم‏}‏ مفصولة لأنّ كلا الموقعين مقتض للفصل‏.‏

ومن الاهتمام بهذه الأحكام تصدير تشريعها بقوله‏:‏ ‏{‏يوصيكم‏}‏ لأنّ الوصاية هي الأمر بما فيه نفع المأمور وفيه اهتمام الآمر لشدّة صلاحه، ولذلك سمّي ما يعهد به الإنسان، فيما يصنع بأبنائه وبماله وبذاته بعد الموت، وصية‏.‏

وقد رويت في سبب نزول الآية أحاديث كثيرة‏.‏ ففي «صحيح البخاري»، عن جابر بن عبد الله‏:‏ أنّه قال‏:‏ «مرضت فعادني رسول الله وأبو بكر في بني سلمة فوجداني لا أعقل فدعا رسول الله بماء فتوضّأ، ثم رشّ عليّ منه فأفقت فقلت «كيف أصنع في مالي يا رسول الله» فنزلت ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏‏.‏

وروى الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، عن جابر، قال‏:‏ جاءت امرأة سعد بن الربيع فقالت لرسول الله «إنّ سعداً هلك وترك ابنتين وأخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنّما تنكح النساء على أموالهنّ» فلم يجبها في مجلسها ذلك، ثمّ جاءته فقالت «يا رسول الله ابنتَا سعد» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ادعُ لي أخاه ‏"‏ فجاء، فقال‏:‏ ‏"‏ ادفع إلى ابنتيه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي ‏"‏ ونزلت آية الميراث‏.‏

بيَّن الله في هذه الآيات فروض الورثة، وناط الميراث كلّه بالقرابة القريبة، سواء كانت جبلّية وهي النسب، أو قريبة من الجبلّية، وهي عصمة الزوجية، لأنّ طلب الذكر للأنثى جبليّ، وكونُها المرأةَ المعيَّنة يحصل بالإلف، وهو ناشئ عن الجبلّة‏.‏ وبيَّن أهل الفروض ولم يبيّن مرجع المال بعد إعطاء أهل الفروض فروضَهم، وذلك لأنّه تركه على المتعارف عندهم قبل الإسلام من احتواء أقرب العصبة على مال الميّت، وقد بيّن هذا المقصد قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أَلِحقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا فما بَقِي فلأوْلىَ رَجُلٍ ذَكَرٍ ‏"‏‏.‏ ألا ترى قوله تعالى بعد هذا ‏{‏فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمِّه الثلث‏}‏ فلم يبيّن حظّ الأب، لأنّ الأب في تلك الحالة قد رجع إلى حالته المقرّرة، وهي احتواء المال فاحتيج إلى ذكر فرض الأم‏.‏

وابتدأ الله تعالى بميراث الأبناء لأنّهم أقرب الناس‏.‏

والأولاد جمع ولد بوزن فَعَل مثل أسَد ووثَن، وفيه لغة ولِدْ بكسر الواو وسكون اللام وكأنه حينئذ فِعْل الذي بمعنى المفعول كالذِّبْح والسِّلخ‏.‏ والولد اسم للابن ذكرا كان أو أنثى، ويطلق على الواحد وعلى الجماعة من الأولاد، والوارد في القرآن بمعنى الواحد وجمعه أولاد‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ هنا للظرفية المجازية، جعلت الوصية كأنّها مظروفة في شأن الأولاد لشدّة تعلّقها به كاتّصال المظروف بالظرف، ومجرورها محذوف قام المضاف إليه مقامه، لظهور أنّ ذوات الأولاد لا تصلح ظرفاً للوصيّة، فتعيّن تقدير مضاف على طريقة دلالة الاقتضاء، وتقديره‏:‏ في إرثثِ أولادكم، والمقام يدلّ على المقدّر على حدّ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ فجعل الوصيّة مظروفة في هذا الشأن لشدّة تعلقها به واحتوائه عليها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ بيان لجملة ‏{‏يوصيكم‏}‏ لأنّ مضمونها هو معنى مضمون الوصية، فهي مثل البيان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم‏}‏ وتقديم الخبر على المبتدأ في هذه الجملة للتنبيه من أوّل الأمر على أنّ الذكر صار له شريك في الإرث وهو الأنثى لأنّه لم يكن لهم به عهد من قبل إذ كان الذكور يأخذون المال الموروث كلّه ولاحظّ للإناث، كما تقدّم آنفاً في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ جعل حظّ الأنثيين هو المقدار الذي يقدّر به حظّ الذكر، ولم يكن قد تقدّم تعيين حظّ للأنثيين حتّى يقدّر به، فعُلم أنّ المراد تضعيف حظّ الذكر من الأولاد على حظّ الأنثى منهم، وقد كان هذا المراد صالحاً لأن يؤدّى بنحو‏:‏ للأنثى نصف حظّ ذكر، أو للأنثيين مثلّ حظّ ذكر، إذ ليس المقصود إلاّ بيان المضاعفة‏.‏ ولكن قد أوثر هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيماء إلى أن حظّ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهَمّ من حظّ الذكر، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظّها في أول ما يقرع الأسماع قد عُلم أنّ قسمة المال تكون باعتبار عدد البنين والبنات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كن نساء فوق اثنتين‏}‏ إلخ معاد الضمير هو لفظ الأولاد، وهو جمع ولد فهو غير مؤنّث اللفظ ولا المدلول لأنّه صالح للمذكّر والمؤنث، فلمّا كان ما صدَقُه هُنا النساء خاصّة أعيد عليه الضمير بالتأنيث‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏فوق اثنتين‏}‏ أكثر من اثنتين، ومن معاني ‏(‏فوق‏)‏ الزيادة في العدد، وأصل ذلك مجاز، ثم شاع حتّى صار كالحقيقة، والآية صريحة في أنّ الثلثين لا يعطيان إلاّ للبنات الثلاث فصاعداً لأنّ تقسيم الأنصباء لا يُنتقل فيه من مقدار إلى مقدار أزيدَ منه إلاّ عند انتهاء من يستحقّ المقدار الأول‏.‏

والوصف ب ‏{‏فوق اثنتين‏}‏ يفيد مفهوما وهو أنّ البنتين لا تعطيان الثلثين، وزاد فقال‏:‏ ‏{‏وإن كانت واحدة فلها النصف‏}‏ فبقي ميراث البنتين المنفردتين غير منصوص في الآية فألحقهما الجمهور بالثلاث لأنّهما أكثر من واحدة، وأحسن ما وجِّه به ذلك ما قاله القاضي إسماعيل بن إسحاق «إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها إذا انفرد الثلث فأحرى أن تأخذ الثلثَ مع أختها» يعني أنّ كلّ واحدة من البنتين هي مقارنة لأختها الأخرى فلا يكون حظّها مع أخت أنثى أقلّ من حظّها مع أخ ذكر، فإنّ الذكر أولى بتوفير نصيبه، وقد تلقّفه المحقّقون من بعده، وربما نسب لبعض الذين تلقّفوه‏.‏

وعلَّله ووَجَّهه آخرون‏:‏ بأنّ الله جعل للأختين عند انفرادهما الثلثين فلا تكون البنتان أقلّ منهما‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ للبنتين النصف كالبنت الواحدة، وكأنّه لم ير لتوريثهما أكثر من التشريك في النصف محمَلا في الآية، ولو أريد ذلك لما قال ‏{‏فوق اثنتين‏}‏‏.‏ ومنهم من جعل لفظ ‏(‏فوق‏)‏ زائداً، ونظّره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاضربوا فوق الأعناق‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وشتَّان بين فوق التي مع أسماء العدد وفوق التي بمعنى مكان الفعل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقد أجمع الناس في الأمصار والأعصار على أنّ للبنتين الثلثين، أي وهذا الإجماع مستند لسنّة عرفوها‏.‏ وردّ القرطبي دعوى الإجماع بأنّ ابن عباس صحّ عنه أنّه أعطى البنتين النصف‏.‏ قلت‏:‏ لعلّ الإجماع انعقد بعدما أعطى ابن عباس البنتين النصف على أنّ اختلال الإجماع لمخالفة واحد مختلف فيه، أمّا حديث امرأة سعد بن الربيع المتقدّم فلا يصلح للفصل في هذا الخلاف، لأنّ في روايته اختلافا هل ترك بنتين أو ثلاثاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلهن‏}‏ أعيد الضمير إلى نساء، والمراد ما يصدق بالمرأتين تغليبا للجمع على المثنى اعتمادا على القرينة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «وإن كانت واحدة» بنصب واحدة على أنّه خبر كانت، واسم كانت ضمير عائد إلى ما يفيده قوله‏:‏ ‏{‏في أولادكم‏}‏ من مفرد ولد، أي وإن كانت الولد بنتا واحدة، وقرأ نافع، وأبو جعفر بالرفع على أنّ كان تامّة، والتقدير‏:‏ وإن وجدت بنت واحدة، لما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإن كن نساء‏}‏‏.‏

وصيغة ‏{‏أولادكم‏}‏ صيغة عموم لأنّ أولاد جمع معرّف بالإضافة، والجمع المعرّف بالإضافة من صيغ العموم، وهذا العموم، خصّصه أربعة أشياء‏:‏

الأوّل‏:‏ خصّ منه عند أهل السنّة النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه عنه أبو بكر أنّه قال‏:‏ ‏"‏ لا نورث ما تركنا صدقة ‏"‏ ووافقه عليه عمر بن الخطاب وجميع الصحابة وأمَّهات المؤمنين‏.‏ وصحّ أنّ علياً رضي الله عنه وافق عليه في مجلس عمر بن الخطاب ومن حضر من الصحابة كما في «الصحيحين»‏.‏

الثاني‏:‏ اختلاف الدين بالإسلام وغيره، وقد أجمع المسلمون على أنّه لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ‏.‏

الثالث‏:‏ قاتل العمد لا يرث قريبه في شيء‏.‏

الرابع‏:‏ قاتل الخطأ لا يرث من الدية شيئاً‏.‏

الضمير المفرد عائد إلى الميّت المفهوم من قوله‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏ إذ قد تقرّر أنّ الكلام في قسمة مال الميّت‏.‏ وجاء الكلام على طريقة الإجمال والتفصيل ليكون كالعنوان، فلذلك لم يقل‏:‏ ولكلّ من أبويه السدس، وهو كقوله السابق‏:‏

‏{‏في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وورثه أبواه‏}‏ زاده للدلالة على الاقتصار أي‏:‏ لا غيرهما، ليعلم من قوله‏:‏ ‏{‏فلأمه الثلث‏}‏ أنّ للأب الثلثين، فإن كان مع الأمّ صاحب فرض لا تحجبه كان على فرضه معها وهي على فرضها‏.‏ واختلفوا في زوجة وأبوين وزوج وأبوين‏:‏ فقال ابن عباس‏:‏ للزوج أو الزوجة فرضهما وللأمّ ثلثها وما بقي للأب، حملا على قاعدة تعدّد أهل الفروض، وقال زيد بن ثابت‏:‏ لأحد الزوجين فرضه وللأمّ ثلث ما بَقي وما بقي للأب، لئلا تأخذ الأمّ أكثر من الأب في صورة زوج وأبوين، وعلى قول زيد ذهب جمهور العلماء‏.‏ وفي «سنن ابن أبي شيبة»‏:‏ أنّ ابن عباس أرسل إلى زيد «أين تجد في كتاب الله ثلث ما بقي» فأجاب زيد «إنما أنت رجل تقول برأيك وأنا أقول برأيي»‏.‏

وقد علم أنّ للأب مع الأمّ الثلثين، وترك ذكره لأنّ مبني الفرائض على أنّ ما بقي بدون فرض يرجع إلى أصل العصابة عند العرب‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ فلأمَّه بضمّ همزة أمّه، وقرأه حمزة، والكسائي بكسر الهمزة اتّباعاً لكسرة اللام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإن كان له إخوة فلأمة السدس‏}‏ أي إن كان إخوة مع الأبوين وهو صريح في أنّ الإخوة يحجبون الأمّ فينقلونها من الثلث إلى السدس‏.‏ والمذكور في الآية صيغة جمع فهي ظاهرة في أنّها لا ينقلها إلى السدس إلاّ جماعة من الإخوة ثلاثة فصاعداً ذكوراً أو مختلطين‏.‏ وقد اختلف فيما دون الجمع، وما إذا كان الإخوة إناثاً‏:‏ فقال الجمهور الأخوان يحجبان الأمّ، والأختان أيضاً، وخالفهم ابن عباس أخذا بظاهر الآية‏.‏ أمّا الأخ الواحد أو الأخت فلا يحجب الأمّ والله أعلم بحكمة ذلك‏.‏ واختلفوا في السدس الذي يحجب الإخوة عنه الأمّ‏:‏ هل يأخذه الإخوة أم يأخذه الأب، فقال بالأوّل ابن عباس رضي الله عنه وهو أظهر، وقال بالثاني الجمهور بناء على أنّ الحاجب قد يكون محجوباً‏.‏ وكيفما كان فقد اعتبر الله للأخوة حظّا مع وجود الأبوين في حالة خاصّة، ولو كان الإخوة مع الأمّ ولم يكن أب لكان للأمّ السدس وللأخوة بقية المال باتّفاق، وربما كان في هذا تعضيد لابن عباس‏.‏

المجرور في موضع الحال، فهو ظرف مستقرّ، وهو قيد يرجع إلى الجمل المتقدّمة‏:‏ أي تقتسمون المال على حسب تلك الأنصباء لكلّ نصيبه حالة كونه من بعد وصيّة أو دين‏.‏

وجيء بقوله‏:‏ ‏{‏من بعد وصية يوصي بها أو دين‏}‏ بعد ذكر صنفين من الفرائض‏:‏ فرائض الأبناء، وفرائض الأبوين، لأنّ هذين الصنفين كصنف واحد إذ كان سببهما عمود النسب المباشر‏.‏ والمقصد هنا التنبيه على أهمّية الوصيَّة وتقدّمها‏.‏ وإنَّما ذكر الدين بعدها تتميماً لما يتعيّن تقديمه على الميراث مع علم السامعين أنّ الدين يتقدّم على الوصيّة أيضاً لأنّه حقّ سابق في مال الميّت، لأنّ المدين لا يملك من ماله إلاّ ما هو فاضل عن دين دائنه‏.‏

فموقع عطف ‏{‏أو دين‏}‏ موقع الاحتراس، ولأجل هذا الاهتمام كرّر الله هذا القيد أربع مرات في هذه الآيات‏.‏

ووصف الوصية بجملة ‏{‏يوصي بها‏}‏ لئلا يُتوهّم أنّ المراد الوصيّة التي كانت مفروضة قبل شرع الفرائض، وهي التي في قوله‏:‏ ‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يوصي بها‏}‏ في الموضعين في هذه الآية بكسر الصاد والضمير عائد إلى معلوم من الكلام وهو الميّت، كما عاد ضمير ‏{‏ما ترك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 7‏]‏ وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، في الموضعين أيضاً‏:‏ يوصَى بفتح الصاد مبنيا للنائب أي يوصى بها موصٍ‏.‏

ختم هذه الفرائض المتعلّقة بالأولاد والوالدين، وهي أصول الفرائض بقوله‏:‏ ‏{‏آباؤكم وأبناؤكم‏}‏ الآية، فهما إمّا مسند إليهما قُدّ ما للاهتمام، وليتمكّن الخبر في ذهن السامع إذ يُلقي سمعه عند ذكر المسند إليهما بشراشره، وإمّا أن تجعلهما خبرين عن مبتدأ محذوف هو المسند إليه، على طريقة الحذف المعبّر عنه عند علماء المعاني بمتابعة الاستعمال، وذلك عندما يتقدّم حديث عن شيء ثم يراد جمع الخبر عنه كقول الشاعر‏:‏

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهر الشكوى إذا النعل وزلّت

بعد قوله‏:‏

سأشكر عمرا إن تدانت منيّتي *** أيادي لم تُمنن وإن هي جلَّت

أي‏:‏ المذكورون آباؤكم وأبناؤكم لا شكّ في ذلكّ‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً‏}‏ فهو إما مبتدأ وإما حال، بمعنى أنهم غير مستوين في نفعكم متفاوتون تفاوتاً يتبع تفاوت الشفقة الجبلية في الناس ويتبع البرور ومقدار تفاوت الحاجات‏.‏ فربّ رجل لم تعرض له حاجة إلى أن ينفعه أبواه وأبناؤه، وربما عرضت حاجات كثيرة في الحالين، وربما لم تعرض فهم متفاوتون من هذا الأعتبار الذي كان يعتمده أهل الجاهلية في قسمة أموالهم، فاعتمدوا أحوالاً غير منضبطه ولا موثوقاً بها، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً‏}‏ فشرع الإسلام ناط الفرائض بما لا يقبل التفاوت وهي الأبوة والبنوة، ففرض الفريضة لهم نظراً لصلتهم الموجبة كونهم أحقّ بمال الأبناء أو الآباء‏.‏

والتذييل بقوله‏:‏ ‏{‏الله كان عليماً حكيماً‏}‏ واضح المناسبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ‏}‏‏.‏

هذه فريضة الميراث الذي سببه العصمة، وقد أعطاها الله حقّها المهجور عند الجاهلية إذ كانوا لا يورّثون الزوجين‏:‏ أمّا الرجل فلا يرث امرأته لأنّها إن لم يكن لها أولاد منه، فهو قد صار بموتها بمنزلة الأجنبي عن قرابتها من آباء وإخوة وأعمام، وإن كان لها أولاد كان أولادها أحقّ بميراثها إن كانوا كباراً، فإن كانوا صغاراً قبض أقرباؤهم مالهم وتصرّفوا فيه، وأمّا المرأة فلا ترث زوجها بل كانت تعدّ موروثة عنه يتصرّف فيها ورثته كما سيجيء في قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 19‏]‏‏.‏ فنوّه الله في هذه الآيات بصلة العصمة، وهي التي وصفها بالميثاق الغليظ في قوله‏:‏ ‏{‏وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 21‏]‏‏.‏

والجمع في ‏{‏أزواجكم‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏مما تركتم‏}‏ كالجمع في الأولاد والآباء، مراد به تعدّد أفراد الوارثين من الأمّة، وههنا قد اتّفقت الأمّة عى أنّ الرجل إذا كانت له زوجات أنهنّ يشتركن في الربع أو في الثمن من غير زيادة لهنّ، لأنّ تعدّد الزوجات بيد صاحب المال فكان تعددّهنّ وسيلة لإدخال المضرّة على الورثة الآخرين بخلاف تعدّد البنات والأخوات فإنّه لا خيار فيه لربّ المال‏.‏ والمعنى‏:‏ ولكلّ واحد منكم نصف ما تركت كلّ زوجة من أزواجه وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏فلكم الربع مما تركن‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولهن الربع مما تركتم‏}‏ أي لمجموعهنّ الربع ممّا ترك زوجهنّ‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏فلهن الثمن مما تركتم‏}‏ وهذا حذق يدلّ عليه إيجاز الكلام‏.‏

وأعقبت فريضة الأزواج بذكر ‏{‏من بعد وصية يوصين بها أو دين‏}‏ لئلا يتوهّم متوهّم أنّهنّ ممنوعات من الإيصاء ومن التداين كما كان الحال في زمان الجاهلية‏.‏ وأمّا ذكر تلك الجملة عقب ذكر ميراث النساء من رجالهنّ فجريا على الأسلوب المتّبع في هذه الآيات، وهو أن يعقب كلّ صنف من الفرائض بالتنبيه على أنّه لا يُستحقّ إلاّ بعد إخراج الوصيّة وقضاء الدين‏.‏

بعد أن بيّن ميراث ذي الأولاد أو الوالدَيْن وفصّله في أحواله حتّى حالة ميراث الزوجين، انتقل هنا إلى ميراث من ليس له ولد ولا والد، وهو الموروث كلالة، ولذلك قابل بها ميراث الأبوين‏.‏

والكلالةُ اسم للكلال وهو التعب والإعياء قال الأعشى‏:‏

فآليتُ لا أرثي لَها مِن كلالة *** ولا من حفى حتّى أُلاقي مُحَمَّدا

وهو اسم مصدر لا يثنيّ ولا يجمع‏.‏

ووصفت العرب بالكلالة القرابةَ غيرَ القربى، كأنّهم جعلوا وصوله لنسب قريبه عن بُعد، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسمّوه‏:‏

فإنّ أبا المرءِ أحمى له *** ومَوْلى الكلالة لا يُغْضَبُ

ثم أطلقوه على إرث البعيد، وأحسب أنّ ذلك من مصطلح القرآن إذ لم أره في كلام العرب إلاّ ما بعد نزول الآية‏.‏ قال الفرزدق‏:‏

ورثتم قَنَاةَ المجد لا عن كلالة *** عن ابنَيْ مناف عبدِ شمس وهاشمِ

ومنه قولهم‏:‏ ورِث المجدَ لاعن كلالة‏.‏ وقد عدّ الصحابة معنى الكلالة هنا من مشكل القرآن حتّى قال عُمر بن الخطاب‏:‏ «ثلاث لأن يكون رسول الله بَيّنهن أحبّ إليّ من الدنيا‏:‏ الكلالةُ، والربا، والخلافةُ»‏.‏ وقال أبو بكر‏:‏ «أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان والله منه بريء، الكلالة ما خلا الولدَ والوالدَ»‏.‏ وهذا قول عمر، وعلي، وابن عباس، وقال به الزهري، وقتادة والشعبي، وهو قول الجمهور، وحكي الإجماع عليه، وروي عن ابن عباس «الكلالة من لا ولد له» أي ولو كان له والد وينسب ذلك لأبي بكر وعمر أيضاً ثم رجعا عنه، وقد يستدلّ له بظاهر الآية في آخر السورة‏:‏ ‏{‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 176‏]‏ وسياق الآية يرجّح ما ذهب إليه الجمهور لأنّ ذكرها بعد ميراث الأولاد والأبوين مؤذن بأنّها حالة مخالفة للحالين‏.‏

وانتصب قوله‏:‏ ‏{‏كلالة‏}‏ على الحال من الضمير في ‏{‏يورث‏}‏ الذي هو كلالة من وارثه أي قريب غير الأقرب لأنّ الكلالة يصحّ أن يوصف بها كلا القريبين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أو امرأة‏}‏ عطف على ‏{‏رجل‏}‏ الذي هو اسم ‏(‏كان‏)‏ فيشارك المعطوف المعطوف عليه في خبر ‏(‏كان‏)‏ إذ لا يكون لها اسم بدون خبر في حال نقصانها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وله أخ أو أخت‏}‏ يتعيّن على قول الجمهور في معنى الكلالة أن يكون المراد بهما الأخ والأخت للأمّ خاصّة لأنَّه إذا كان الميّت لا ولد له ولا والد وقلنا له أخ أو أخت وجعلنا لكلّ واحد منهما السدس نعلم بحكم ما يُشْبه دلالةَ الاقتضاء أنّهما الأخ والأخت للأم لأنّهما لمّا كانت نهاية حظّهما الثلث فقد بقي الثلثان فلو كان الأخ والأخت هما الشقيقين أو اللذين للأب لاقتضى أنّهما أخذا أقلّ المال وترك الباقي لغيرهما وهل يكون غيرهما أقرب منهما فتعيّن أنّ الأخ والأخت مراد بهما اللذان للأمّ خاصّة ليكون الثلثان للإخوة الأشقّاء أو الأعمام أو بني الأعمام‏.‏ وقد أثبت الله بهذا فرضاً للإخوة للأمّ إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من إلغاء جانب الأمومة أصلاً، لأنّه جانب نساء ولم يحتج للتنبيه على مصير بقيّة المال لما قدّمنا بيانه آنفاً من أنّ الله تعالى أحال أمر العصابة على ما هو متعارف بين من نزل فيهم القرآن‏.‏

وعلى قول ابن عباس في تفسير الكلالة لا يتعيّن أن يكون المراد بالأخ والأخت اللذين للأمّ إذ قد يفرض للإخوة الأشقّاء نصيب هو الثلث ويبقى الثلثان لعاصب أقوى وهو الأب في بعض صور الكلالة غير أنّ ابن عباس وافق الجمهور على أنّ المراد بالأخ والأخت اللذان للأمّ وكان سبب ذلك عنده أنّ الله أطلق الكلالة وقد لا يكون فيها أب فلو كان المراد بالأخ والأخت الشقيقين أو اللذين للأب لأعطيناهما الثلث عند عدم الأب وبقي معظم المال لمن هو دون الإخوة في التعصيب فهذا فيما أرى هو الذي حدا سائر الصحابة والفقهاء إلى حمل الأخ والأخت على الذين للأمّ‏.‏

وقد ذكر الله تعالى الكلالة في آخر السورة بصورة أخرى سنتعرّض لها‏.‏

‏{‏غير مضار‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يوصى‏}‏ الأخير، ولمّا كان فعل يوصي تكريراً، كان حالا من ضمائر نظائره‏.‏

و ‏{‏مضارّ الأظهر أنّه اسم فاعل بتقدير كسر الراء الأولى المدغمة أي غير مضارّ ورثته بإكثار الوصايا، وهو نهي عن أن يقصد الموصي من وصيته الإضرارَ بالورثة‏.‏ والإضرارُ منه ما حدّده الشرع، وهو أن يتجاوز الموصي بوصيّته ثلث ماله وقد حدّده النبي بقوله لسعد بن أبي وقّاص الثلثُ والثلث كثير‏.‏ ومنه ما يحصل بقصد الموصي بوصيته الاضرار بالوارث ولا يقصد القربة بوصيّته، وهذا هو المراد من قوله تعالى‏:‏ غير مضار‏}‏‏.‏ ولمّا كانت نيَّة الموصي وقصدُه الإضرار لا يُطلع عليه فهو موكول لدينه وخشية ربّه، فإن ظهر ما يدلّ على قصده الإضرار دلالة واضحة، فالوجه أن تكون تلك الوصيّة باطلة لأنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير مضار‏}‏ نهي عن الإضرار، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه‏.‏

ويتعيّن أن يكون هذا القيد مقيِّدا للمطلق في الآي الثلاث المتقدّمة من قوله ‏{‏من بعد وصية‏}‏ إلخ، لأنّ هذه المطْلقات متّحدة الحكم والسبب‏.‏ فيحمِل المطْلَق منها على المقيّد كما تقرّر في الأصول‏.‏

وقد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم مسألة قصد المعطي من عطيّته الإضرار بوارثه في الوصيّة وغيرها من العطايا، والمسألة مفروضة في الوصيّة خاصّة‏.‏ وحكى ابن عطية عن مذهب مالك وابن القاسم أنّ قصد المضارّة في الثلث لا تردّ به الوصيّة لأنّ الثلث حقّ جعله الله له فهو على الإباحة في التصرّف فيه‏.‏ ونازعه ابن عرفة في التفسير بأنّ ما في الوصايا الثاني من «المدوّنة»، صريح في أنّ قصد الإضرار يوجب ردّ الوصيّة وبحث ابن عرفة مكين‏.‏ ومشهور مذهب ابن القاسم أن الوصية تردّ بقصد الإضرار إذا تبيّن القصد غير أنّ ابن عبد الحكم لا يرى تأثير الإضرار‏.‏ وفي شرح ابن ناجي على تهذيب المدوّنة أنّ قصد الإضرار بالوصيّة في أقلّ من الثلث لا يوهن الوصيّة على الصحيح‏.‏ وبه الفتوى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وصية‏}‏ منصوب على أنّه مفعول مطلق جاء بدلا من فعله، والتقدير‏:‏ يوصيكم الله بذلك وصيّة منه فهو ختم للأحكام بمثل ما بدئت بقوله‏:‏

‏{‏يوصيكم الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ وهذا من ردّ العجز على الصدر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله عليم حليم‏}‏ تذييل، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أنّ الأحكام المتقدّمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعاً مثاره الجهل والقساوة‏.‏ فإنّ حرمان البنت والأخ للأمّ من الإرث جهل بأنّ صلة النسبة من جانب الأمّ مماثلة لصلة نسبة جانب الأب‏.‏ فهذا ونحوه جهل، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم‏.‏

وقد بيّنت الآيات في هذه السورة الميراث وأنصباءه بين أهل أصول النسب وفروعه وأطرافه وعصمة الزوجية، وسكتت عمّا عدا ذلك من العصبة وذوي الأرحام وموالي العتاقة وموالي الحلف، وقد أشار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏75‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏ في سورة الأحزاب ‏(‏6‏)‏ إلى ما أخذ منه كثير من الفقهاء توريث ذوي الأرحام‏.‏ وأشار قوله الآتي قريباً ‏{‏ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 33‏]‏ إلى ما يؤخذ منه التوريث بالولاء على الإجمال كما سنبيّنه، وبَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم توريث العصبة بما رواه رواة أهل الصحيح عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألحِقُوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأوْلى رَجُللٍ ذَكَر» وما رواه الخمسة غير النسائي عن أبي هريرة‏:‏ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لمَوالي العصبة ومن ترك كَلا أو ضَياعا فأنا وليّه» وسنفصّل القول في ذلك في مواضعه المذكورة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏

الإشارة إلى المعاني والجمل المتقدّمة‏.‏

والحدود جمع حَدّ، وهو ظرف المكان الذي يميز عن مكان آخر بحيث يمنع تجاوزه، واستُعمل الحدود هنا مجازاً في العمل الذي لا تحلّ مخالفته على طريقة التمثيل‏.‏

ومعنى ‏{‏ومن يطع الله ورسوله‏}‏ أنّه يتابع حدوده كما دلّ عليه قوله في مقابله ‏{‏ويتعد حدوده‏}‏‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏{‏خالداً فيها‏}‏ استُعمل الخلود في طول المدّة‏.‏ أو أريد من عصيان الله ورسوله العصيان الأتمُّ وهو نبذ الإيمان، لأنّ القوم يومئذ كانوا قد دخلوا في الإيمان ونبذوا الكفر، فكانوا حريصين على العمل بوصايا الإسلام، فما يخالف ذلك إلاّ من كان غير ثابت الإيمان إلاّ من تاب‏.‏

ولعلّ قوله‏:‏ ‏{‏وله عذاب مهين‏}‏ تقسيم، لأنّ العصيان أنواع‏:‏ منه ما يوجب الخلود، ومنه ما يوجب العذاب المهين، وقرينة ذلك أنّ عطف ‏{‏وله عذاب مهين‏}‏ على الخلود في النار لا يُحتاج إليه إذا لم يكن مراداً به التقسيم، فيضطرّ إلى جعله زيادةَ توكيد، أو تقول إنّ محط العطف هو وصفه بالمهين لأنّ العرب أباة الضيم، شمّ الأنوف، فقد يحذرون الإهانة أكثر ممّا يحذرون عذاب النار، ومن الأمثال المأثورة في حكاياتهم ‏(‏النار ولا العار‏)‏‏.‏ وفي كتاب «الآداب» في أعجاز أبياته «والحرّ يصبر خوف العار للنار»‏.‏

وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر ‏{‏ندخله‏}‏ في الموضعين هنا بنون العظمة، وقرأه الجمهور بياء الغيبة والضمير عائد إلى اسم الجلالة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ‏(‏15‏)‏ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

موقع هذه الآية في هذه السورة معضل، وافتتاحها بواو العطف أعضل، لاقتضائه اتّصالها بكلام قبلها‏.‏ وقد جاء حدّ الزنا في سورة النور، وهي نازلة في سنة ست بعد غزوة بني المطلق على الصحيح، والحكم الثابت في سورة النور أشدّ من العقوبة المذكورة هنا، ولا جائز أن يكون الحدّ الذي في سورة النور قد نسخ بما هنا لأنّه لا قائل به‏.‏ فإذا مضينا على معتادنا في اعتبار الآي نازلة على ترتيبها في القراءة في سورها، قلنا إنّ هذه الآية نزلت في سورة النساء عقب أحكام المواريث وحراسة أموال اليتامى، وجعلنا الواو عاطفة هذا الحكم على ما تقدّم من الآيات في أوّل السورة بما يتعلّق بمعاشرة النساء، كقوله‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صدقاتهن نحلة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 4‏]‏ وجزمنا بأنّ أوّل هذه السورة نزل قبل أوّل سورة النور، وأنّ هذه العقوبة كانت مبدأ شرع العقوبة على الزنا فتكون هاته الآية منسوخة بآية سورة النور لا محالة، كما يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏أو يجعل الله لهن سبيلاً‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ أجمع العلماء على أنّ هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور‏.‏ ا ه، وحكى ابن الفرس في ترتيب النسخ أقوالاً ثمانية لا نطيل بها‏.‏ فالواو عاطفة حكم تشريع عقب تشريع لمناسبة‏:‏ هي الرجوع إلى أحكام النساء، فإنّ الله لمّا ذكر أحكاماً من النكاح إلى قوله‏:‏ ‏{‏وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة‏}‏ وما النكاح إلاّ اجتماع الرجل والمرأة على معاشرة عمادها التأنّس والسكون إلى الأنثى، ناسب أن يعطف إلى ذكر أحكام اجتماع الرجل بالمرأة على غير الوجه المذكور فيه شرعاً، وهو الزنا المعبّر عنه بالفاحشة‏.‏

فالزنا هو أن يقع شيء من تلك المعاشرة على غير الحال المعروف المأذون فيه، فلا جرم أن كان يختلف باختلاف أحوال الأمم والقبائل في خرق القوانين المجعولة لإباحة اختصاص الرجل بالمرأة‏.‏

ففي الجاهلية كان طريق الاختصاص بالمرأة السبي أو الغَارة أو التعويض أو رغبة الرجل في مصاهرة قوم ورغبتهم فيه أو إذن الرجل امرأته بأن تستبضع من رجل ولداً كما تقدّم‏.‏

وفي الإسلام بطلت الغارة وبطل الاستبضاع، ولذلك تجد الزنا لا يقع إلاّ خفية لأنّه مخالفة لقوانين الناس في نظامهم وأخلاقهم‏.‏ وسمّي الزنا الفاحشة لأنّه تجاوز الحدّ في الفساد وأصل الفحش الأمر الشديد الكراهية والذمّ، من فعللٍ أو قوللٍ، أو حاللٍ ولم أقف على وقوع العمل بهاتين الآيتين قبل نسخهما‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏يأتين‏}‏ يَفْعَلْن، وأصل الإتيان المجيء إلى شيء فاستعير هنا الإتيان لفعل شيء لأنّ فاعل شيء عن قصد يُشبه السائر إلى مكان حتّى يَصله، يقال‏:‏ أتى الصلاة، أي صَلاها، وقال الأعشى‏:‏

لِيَعْلَمَ كلُّ الورى أنّني *** أتَيْتُ ا لمُرُوءَةَ من بابها

وربما قالوا‏:‏ أَتى بفاحشة وبمكروه كأنّه جاء مُصَاحباً له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من نسائكم‏}‏ بيان للموصول وصلته‏.‏ والنساء اسم جمععِ امرأة، وهي الأنثى من الإنسان، وتطلق المرأة على الزوجة فلذلك يطلق النساء على الإناث مطلقاً، وعلى الزوجات خاصّة ويعرف المراد بالقرينة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ ثم قال ‏{‏ولا نساء من نساء‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ فقابل بالنساء القومَ‏.‏ والمراد الإناث كلهنّ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كن نساء فوق اثنتين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ الآية المتقدّمة آنفاً والمراد هنا مطلق النساء فيشمل العذارى العَزَبَاتتِ‏.‏

وضمير جمع المخاطبين في قوله‏:‏ ‏{‏من نسائكم‏}‏ والضمائر المُوالية له، عائدة إلى المسلمين على الإجمال، ويتعيّن للقيام بما خوطبوا به مَنْ لهم أهلية القيام بذلك‏.‏ فضمير ‏{‏نسائكم‏}‏ عامّ مراد به نساء المسلمين، وضمير ‏{‏فاستشهدوا‏}‏ مخصوص بمن يهمّه الأمر من الأزواج، وضمير ‏{‏فأمسكوهن‏}‏ مخصوص بولاة الأمور، لأنّ الإمساك المذكور سجن وهو حكم لا يتولاّه إلاّ القضاة، وهم الذين ينظرون في قبول الشهادة فهذه عمومها مراد به الخصوص‏.‏

وهذه الآية هي الأصل في اشتراط أربعة في الشهادة على الزنى، وقد تقرّر ذلك بآية سورة النور‏.‏

ويعتبر في الشهادة الموجبة للإمساك في البيوت ما يعتبر في شهادة الزنى لإقامةِ الحدّ سواء‏.‏

والمراد بالبيوت البيوت التي يعيّنها ولاة الأمور لذلك‏.‏ وليس المراد إمساكهن في بيوتهنّ بل يُخرجن من بيوتهنّ إلى بيوت أخرى إلاّ إذا حُوّلت بيت المسجونة إلى الوضع تحت نظر القاضي وحراسته، وقد دلّ على هذا المعنى قوله تعالى في آية سورة الطلاق عند ذكر العدّةِ ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏يتوفاهن الموت‏}‏ يتقاضاهن‏.‏ يقال‏:‏ تَوَفَّى فلان حقَّه من فلان واستوفاه حقّه‏.‏ والعرب تتخيّل العمر مجزّءاً‏.‏ فالأيام والزمانُ والموتُ يستخلصه من صاحبه منجَّما إلى أن تتوفّاه‏.‏ قال طرفة‏:‏

أرى العمر كَنزا ناقصا كلّ ليلة *** وما تَنْقُصْ الأيامُ والدهرُ ينفَدِ

وقال أبو حيّة النميري‏:‏

إذا ما تقاضى المرءَ يومٌ وليلة *** تَقاضاه شيء لا يَمَلُّ التقاضيا

ولذلك يقولون تُوفيِّ فلان بالبناء للمجهول أي توفَّى عُمُرَهُ فجعل الله الموت هو المتقاضي لأعمار الناس على استعمالهم في التعبير، وإن كان الموت هو أثَرُ آخر أنفاس المرء، فالتوفيّ في هذه الآية وارِد على أصل معناه الحقيقي في اللغة‏.‏

ومعنى ‏{‏أو يجعل الله لهن سبيلاً‏}‏ أي حكماً آخر‏.‏ فالسبيل مستعار للأمر البيّن بمعنى العقاب المناسب تشبيها له بالطريق الجادّة‏.‏ وفي هذا إشارة إلى أنّ إمساكهنّ في البيوت زجر موقّت سيعقبه حكم شاف لما يَجده الناس في نفوسهم من السخط عليهنّ ممّا فَعَلْنَ‏.‏

ويشمل قوله‏:‏ ‏{‏والّاتي يأتين الفاحشة‏}‏ جميع النساء اللائي يأتين الفاحشة من محصنات وغيرهنّ‏.‏

وأمّا قوله ‏{‏والذان يأتيانها‏}‏ فهو مقتض نوعين من الذكور فإنّه تثنية الذي وهو اسم موصول للمذكّر، وقد قوبل به اسمُ موصول النساء الذي في قوله‏:‏ ‏{‏واللاّتي يأتين الفاحشة‏}‏ ولا شكّ أنّ المراد ب ‏{‏اللذان‏}‏ صنفان من الرجال‏:‏ وهما صنف المحصنين، وصنف غير المحصنين منهم، وبذلك فسّره ابن عباس في رواية مجاهد، وهو الوجه في تفسير الآية، وبه يتقوّم معنى بيِّن غير متداخل ولا مُكَرّر‏.‏

ووجه الإشعار بصنفي الزناة من الرجال التحرّز من التماس العذر فيه لغير المحصنين‏.‏ ويجوز أن يكون أطلق على صنفين مختلفين أي الرجال والنساء على طريقة التغليب الذي يكثر في مثله، وهو تفسير السدّي وقتادة، فعلى الوجه الأول تكون الآية قد جعلت للنساء عقوبة واحدة على الزنى وهي عقوبة الحبس في البيوت، وللرجال عقوبة على الزنى، هي الأذى سواء كانوا محصنين بزوجات أم غير محصنين، وهم الأعزبون‏.‏ وعلى الوجه الثاني تكون قد جعلت للنساء عقوبتين‏:‏ عقوبة خاصّة بهنّ وهي الحبس، وعقوبة لهنّ كعقوبة الرجال وهي الأذى، فيكون الحبس لهنّ مع عقوبة الأذى‏.‏ وعلى كلا الوجهين يستفاد استواء المحصن وغير المحصن من الصنفين في كلتا العقوبتين، فأمّا الرجال فبدلالة تثنية اسم الموصول المراد بها صنفان اثنان، وأمّا النساء فبدلالة عموم صيغة ‏{‏نسائكم‏}‏‏.‏

وضمير النصب في قوله‏:‏ ‏{‏يأتيانها‏}‏ عائد إلى الفاحشة المذكورة وهي الزنا‏.‏ ولا التفات لكلام من توهّم غير ذلك‏.‏ والإيذاء‏:‏ الإيلام غير الشديد بالفعل كالضرب غير المبرح، والإيلام بالقول من شتم وتوبيخ، فهو أعمّ من الجلد، والآية أجملته، فهو موكول إلى اجتهاد الحاكم‏.‏

وقد اختلف أيمّة الإسلام في كيفية انتزاع هذين العقوبتين من هذه الآية‏:‏ فقال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ اللاتي يأتين الفاحشة يعمّ النساء خاصّة فشمل كلّ امرأة في سائر الأحوال بكراً كانت أم ثيّبا، وقوله‏:‏ ‏{‏والذان‏}‏ تثنية أريد بها نوعان من الرجال وهم المحصن والبكر، فيقتضي أنّ حكم الحبس في البيوت يختصّ بالزواني كلّهنّ، وحكم الأذى يختصّ بالزناة كلّهم، فاستفيد التعميم في الحالتين إلاّ أن استفادته في الأولى من صيغة العموم، وفي الثانية من انحصار النوعين، وقد كان يغني أن يقال‏:‏ واللاتي يأتين، والذين يأتون، إلاّ أنّه سلك هذا الأسلوب ليحصل العموم بطريقين مع التنصيص على شمول النوعين‏.‏

وجُعل لفظ ‏(‏اللاتى‏)‏ للعموم ليستفاد العموم من صيغة الجمع فقط‏.‏

وجعل لفظ و‏{‏الذان‏}‏ للنوعين لأنّ مفرده وهو الذي صالح للدلالة على النوع، إذ النوع يعبّر عنه بالمذكَّر مثل الشخص، ونحو ذلك، وحصل مع ذلك كلّه تفنّن بديع في العبارة فكانت بمجموع ذلك هاته الآية غاية في الإعجاز، وعلى هذا الوجه فالمراد من النساء معنى ما قابل الرجال وهذا هو الذي يجدر حمل معنى الآية عليه‏.‏

والأذى أريد به هنا غير الحبس لأنّه سبق تخصيصه بالنساء وغير الجلد، لأنّه لم يشرع بعدُ، فقيل‏:‏ هو الكلام الغليظ والشتم والتعيير‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو النيل باللسان واليد وضرب النعال، بناء على تأويله أنّ الآيةَ شرعت عقوبة للزنا قبل عقوبة الجلد‏.‏

واتّفق العلماء على أنّ هذا حكم منسوخ بالجلد المذكور في سورة النور، وبما ثبت في السنّة من رجم المحصنين وليس تحديد هذا الحكم بغايةِ قوله‏:‏ ‏{‏أو يجعل الله لهن سبيلاً‏}‏ بصارف معنى النسخ عن هذا الحكم كما توهّم ابن العربي، لأنّ الغاية جعلت مبهمة، فالمسلمون يترقّبون ورود حكم آخر، بعد هذا، لا غِنى لهم عن إعلامهم به‏.‏

واعلَمْ أنّ شأن النسخ في العقوبات على الجرائم التي لم تكن فيها عقوبة قبل الإسلام، أن تنسخ بأثقل منها، فشرع الحبس والأذى للزناة في هذه السورة، وشرع الجلد بآية سورة النور، والجلد أشدّ من الحبس ومن الأذى، وقد سوّي في الجلد بين المرأة والرجل، إذ التفرقة بينهما لا وجه لبقائها، إذ كلاهما قد خرق حكماً شرعياً تبعا لشهوة نفسية أو طاعة لغيره‏.‏

ثم إنّ الجلد المعيَّن شرع بآية سورة النور مطلقاً أو عامّا على الاختلاف في محمل التعريف في قوله‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏؛ فإن كان قد وقع العمل به كذلك في الزناة والزواني‏:‏ محصنين أو أبكاراً، فقد نسخه الرجم في خصوص المحصنين منهم، وهو ثابت بالعمل المتواتر، وإن كان الجلد لم يعمل به إلاّ في البكرين فقد قيّد أو خصّص بغير المحصنين، إذ جعل حكمهما الرجم‏.‏ والعلماء متّفقون على أنّ حكم المحصنين من الرجال والنساء الرجم‏.‏ والمحصن هو من تزوّج بعقد شرعي صحيح ووقع البناء بعد ذلك العقد بناء صحيحاً‏.‏ وحكم الرجم ثبت من قبل الإسلام في شريعة التوراة للمرأة إذا زنت وهي ذات زوج، فقد أخرج مالك، في «الموطأ»، ورجال الصحيح كلّهم، حديث عبد الله بن عمر‏:‏ أنّ اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلاً وامرأة زنيا، فقال رسول الله ‏"‏ ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ‏"‏ فقالوا «نفضحهم ويجلدون» فقال عبد الله بن سلام «كذبتم إنّ فيها الرجم» فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام «ارفع يدك» فرفع يده فإذا فيها آية الرجم‏.‏ فقالوا‏:‏ «صدق يا محمد فيها آية الرجم» فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما وقد ذكر حكم الزنا في سفر التثنية ‏(‏22‏)‏ فقال ‏"‏ إذا وجد رجل مضطجعاً مع امرأة زوجةِ بعللٍ يُقتل الاثنان، وإذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فاضطجع معها فوُجدا، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين من الفضّة وتكون هي له زوجة ولا يقدر أن يطلّقها كلّ ايّامه ‏"‏‏.‏ وقد ثبت الرجم في الإسلام بما رواه عبادة بن الصامت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ خذوا عني خذوا عني‏.‏ قد جعل الله لهنّ سبيلاً، البكر بالبكر ضرب مائة وتغريب عام، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم ‏"‏‏.‏

ومقتضاه الجمع بين الرجم والجلد، ولا أحسبه إلاّ توهّما من الراوي عن عبادة أو اشتبه عليه، وأحسب أنّه لذلك لم يعمل به العلماء فلا يجمع بين الجلد والرجم‏.‏ ونسب ابن العربي إلى أحمد بن حنبل الجمع بين الرجم والجلد‏.‏ وهو خلاف المعروف من مذهبه‏.‏ وعن علي بن أبي طالب أنه جمع بين الجلد والرجم‏.‏ ولم يصحّ‏.‏ ثم ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء بالرجم ثلاثة أحاديث‏:‏ أوّلها قضيّة ماعز بن مالك الأسلمي، أنّه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه ثلاث مرّات ثم بعث إلى إهله فقال‏:‏ به جنون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، وأبكر هو أم ثيّب‏؟‏ قالوا‏:‏ بل ثيِّب‏.‏ فأمر به فرجم‏.‏

الثاني‏:‏ قضيّة الغامدية، أنّها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا وهي حبلى فأمرها أن تذهب حتّى تضع، ثم حتّى ترضعه، فلمّا أتمّت رضاعه جاءت فأمر بها فرجمت‏.‏

الثالث‏:‏ حديث أبي هريرة، وخالد الجهني، أنّ رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما‏:‏ يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله‏.‏ وقال الآخر وهو أفقههما‏:‏ أجَلْ يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله واذَنْ لي في أن أتكلّم‏؟‏ قال‏:‏ تكَلَّمْ‏.‏ قال‏:‏ إنّ ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إنّي سألت أهلَ العلم فأخبروني أنَمَّا على ابني جلدُ مائة وتغريب عام، وأخبروني أنّما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَا والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله، أمَّا غنمك وجاريتك فرَدٌّ عليك وجلَد ابنه مائة وغربه عاما واغْدُ يا أُنَيْسُ ‏(‏هو أُنيْس بن الضَّحاك ويقال ابن مرثد الأَسلَمي‏)‏ على زوجةِ هذا، فإن اعترفت فارجُمها، فاعترفت فرَجَمَها‏.‏ قال مالك والعسيف الأجير‏.‏ هذه الأحاديث مرسل منها اثنان في «الموطأ»، وهي مسندة في غيره، فثبت بها وبالعمل حكم الرجم للمحصنَيْن، قال ابن العربي‏:‏ هو خبر متواتر نسخ القرآن‏.‏ يريد أنّه متواتر لدى الصحابة فلتواتره أجمعوا على العمل به‏.‏ وأمّا ما بلغ إلينا وإلى ابن العربي وإلى من قبله فهو أخبار آحاد لا تبلغ مبلغ متواتر، فالحقّ أنّ دليل رجم المحصنين هو ما نقل إلينا من إجماع الصحابة وسنتعرّض إلى ذلك في سورة النور، ولذلك قال بالرجم الشافعي مع أنّه لا يقول بنسخ القرآن بالسّنة‏.‏

والقائلون بأنّ حكم الرجم ناسخ لحكم الحبْس في البيوت قائلون بأنّ دليل النسخ هو حديث قد‏:‏ ‏{‏جعل الله لهن سبيلاً‏}‏ وفيه ‏(‏والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام‏)‏ فتضمنّ الجلد، ونسب هذا القول للشافعي وجماعة، وأورد الجصّاص على الشافعي أنّه يلزمه أنّ القرآن نُسخ بالسنّة، وأنّ السنّة نسخت بالقرآن، وهو لا يرى الأمرين، وأجاب الخطابي بأنّ آية النساء مغياة، فالحديث بيَّن الغاية، وأنّ آية النور نزلت بعد ذلك، والحديث خصّصها من قبللِ نزولها‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا تكون آية النور نزلت تقريراً لبعض الحكم الذي في حديث الرجم، على أنّ قوله‏:‏ إنّ آية النساء مغيّاة، لا يُجدي لأنّ الغاية المبهمة لمّا كان بيانها إبطالا لحكم المغيَّي فاعتبارُها اعتبارُ النسخ، وهل النسخ كلّه إلاّ إيذان بوصول غاية الحكم المرادة لله غير مذكورة في اللفظ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسو النزول غير شعار النسخ‏.‏ وقال بعضهم شُرع الأذى ثم نسخ بالحبس في البيوت وإن كان في القراءة متأخّرا‏.‏ وهذا قول لا ينبغي الالتفات إليه فلا مخلص من هذا الإشكال إلاّ بأن نجعل إجماع الصحابة على ترك الإمساك في البيوت، وعلى تعويضه بالحدّ في زمان النبوءة فيؤول إلى نسخ القرآن بالسنّة المتواترة، ويندفع ما أورده الجصَّاص على الشافعي، فإنّ مخالفة الإجماع للنصّ تتضمّن أنّ مستند الإجماع ناسخ للنصّ‏.‏

ويتعيّن أن يكون حكم الرجم للمحصَن شرع بعد الجلد، لأنّ الأحاديث المروية فيه تضمّنت التغريب مع الجَلد، ولا يتصوّر تغريب بعد الرجم، وهو زيادة لا محالة لم يذكرها القرآن، ولذلك أنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه زيادة على النصّ فهو نسخ عنده‏.‏ قال ابن العربي في الأحكام‏:‏ أجمع رأي خيار بني إسماعيل على أنّ من أحدث حدثا في الحرم يغرّب منه، وتمادى ذلك في الجاهلية فكان كلّ من أحدث حدثاً غرّب من بلده إلى أن جاء الإسلام فأقرّه في الزنا خاصَّة‏.‏ قلت‏:‏ وكان في العرب الخَلع وهو أن يُخلع الرجل من قبيلته، ويشهدون بذلك في الموسم، فإن جرّ جريرة لا يطالب بها قومه، وإن اعتدي عليه لا يطلب قومه دية ولا نحوها، وقد قال امرؤ القيس‏:‏

به الذيب يَعْوِي كالخَليع المُعَيَّلِ *** واتّفقوا على أنّ المرأة لا تغرّب لأنّ تغريبها ضيعة، وأنكر أبو حنيفة التغريب لأنّه نقْل ضرّ من مكان إلى آخر وعوّضه بالسجن ولا يعرف بين أهل العلم الجمع بين الرجم والضرب ولا يظنّ بشريعة الإسلام ذلك ورُوي أنّ عليّا جَلد شراحة الهمْدانية ورجمها بعد الجلد، وقال‏:‏ جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله‏.‏

وقرن بالفاء خبر الموصولين من قوله‏:‏ ‏{‏فاستشهدوا‏}‏ وقوله ‏{‏فآذوهما‏}‏ لأنّ الموصول أشرب معنى الشرط تنبيها على أنّ صلة الموصول سبب في الحكم الدالّ عليه خبره، فصار خبر الموصول مثل جواب الشرط ويظهر لي أنّ ذلك عندما يكون الخبر جملة، وغير صالحة لمباشرة أدوات الشرط، بحيث لو كانت جزَاء للزم اقترانها بالفاء‏.‏ هكذا وجدنا من استقراء كلامهم، وهذا الأسلوب إنّما يقع في الصلات التي تُومِئ إلى وجه بناء الخبر، لأنّها التي تعطي رائحة التسبّب في الخبر الوارد بعدها‏.‏

ولك أن تجعل دخول الفاء علامة على كون الفاء نائبة عن ‏(‏أَمَّا‏)‏‏.‏

ومن البيّن أنّ إتيانَ النساء بالفاحشة هو الذي سبّب إمساكهن في البيوت، وإن كان قد بني نظم الكلام على جعل ‏{‏فاستشهدوا عليهن‏}‏ هو الخبر، لكنّه خبر صوري وإلاّ فإنّ الخبر هو ‏{‏فأمسكوهن‏}‏، لكنّه جيء به جواباً لشرط هو متفرّع على ‏{‏فإن شهدوا‏}‏ ففاء ‏{‏فاستشهدوا‏}‏ هي الفاء المشبّهة لفاء الجواب، وفاء ‏{‏فإن شهدوا‏}‏ تفريعية، وفاء ‏{‏فأمسكوهن‏}‏ جزائية، ولولا قصد الاهتمام بإعداد الشهادة قبل الحكم بالحبس في البيوت لقيل‏:‏ واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فأمسكوهنّ في البيوت إن شهد عليهنّ أربعة منكم‏.‏