فصل: تفسير الآية رقم (3)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏205‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏205‏)‏‏}‏

إقبال بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يختص به، بعد أن أمر بما أمر بتبليغه من الآيات المتقدمة، والمناسبة في هذا الانتقال أن أمر الناس باستماع القرآن يستلزم أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن عليهم قراءة جهرية يسمعونها، فلما فرغ الكلام من حظ الناس نحو قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام، أقبل على الكلام في حظ الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن وغيره، وهو التذكر الخاص به، فأمر بأن يذكر الله ما استطاع وكيفما تسنى له، وفي أوقات النهار المختلفة، فجملة ‏{‏واذكر ربك‏}‏ معطوفة على الجمل السابقة من قوله‏:‏ ‏{‏إن وليي الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 196‏]‏ إلى هنا‏.‏

والنفس اسم للقوة التي بها الحياة، فهي مرادفة الروح، وتطلق على الذات المركبة من الجسد والروح، ولكون مقر النفس في باطن الإنسان أطلقت على أمور باطن الإنسان من الإدراك والعقل كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى ‏{‏تعلم ما في نفسي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ وقد مضى في سورة المائدة، ومن ذلك يتطرق إلى إطلاقها على خويصة المرء، ومنه قوله في الحديث القدسي في «صحيح البخاري» ‏"‏ وإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خيرِ منهم ‏"‏ فقابل قوله‏:‏ في نفسه بقوله‏:‏ في ملإ‏.‏

والمعنى‏:‏ اذكر ربك وأنت في خلوتك كما تذكره في مجامع الناس‏.‏

والذكر حقيقة في ذكر اللسان، وهو المراد هنا، ويعضده قوله‏:‏ ‏{‏ودونَ الجهر من القول‏}‏ وذلك يشمل قراءة القرآن وغيرَ القرآن من الكلام الذي فيه تمجيد الله وشكره ونحو ذلك، مثل كلمة التوحيد والحوقلة والتسبيح والتكبير والدعاء ونحو ذلك‏.‏

و«التضرع» التذلل ولما كان التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب كني بالتضرع عن رفع الصوت مراداً به معناه الأصلي والكنائي، ولذلك قوبل بالخُفيه في قوله ‏{‏ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً‏}‏ في أوائل هذه السورة ‏(‏55‏)‏ وقد تقدم‏.‏

وقوبل التضرع هنا بالخيفة وهي اسم مصدر الخوف، فهو من المصادر التي جاءت على صيغة الهيئة وليس المراد بها الهيئة، مثل الشدة، ولما كانت الخيفة انفعالا نفسياً يجده الإنسان في خاصة نفسه كانت مستلزمة للتخافت بالكلام خشية أن يَشعُر بالمرء من يخافه‏.‏ فلذلك كني بها هنا عن الإسرار بالقول مع الخوف من الله، فمقابلتُها بالتضرع طباق في معنيي اللفظين الصريحين ومعنييهما الكناءين، فكأنه قيل تضرعاً وإعلاناً وخيفة وإسراراً‏.‏

وقوله‏:‏ ودون الجهر من القول‏}‏ هو مقابل لكل من التضرع والخيفة وهو الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار، والمقصود من ذلك استيعاب أحوال الذكر باللسان، لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر‏.‏

و ‏(‏الغُدو‏)‏ اسم لزمن الصباح وهو النصف الأول من النهار‏.‏

و ‏(‏الآصال‏)‏ جمع أصيل وهو العشي وهو النصف الثاني من النهار إلى الغروب‏.‏

والمقصود استيعاب أجزاء النهار بحسب المتعارف، فأما الليل فهو زمن النوم، والأوقات التي تحصل فيها اليقظة خصت بأمر خاص مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قم الليل إلا قليلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 2‏]‏ على أنها تدخل في عموم قوله‏:‏ ‏{‏ولا تكن من الغافلين‏}‏‏.‏

فدل قوله‏:‏ ‏{‏ولا تكن من الغافلين‏}‏ على التحذير من الغفلة عن ذكر الله ولاحد للغفلة، فإنها تحدد بحال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بنفسه‏.‏ فإن له أوقاتاً يتلقى فيها الوحي وأوقات شؤون جِبِلّية كالطعام‏.‏

وهذا الأمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، وكل ما خص به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوجوب يستحسن للأمة اقتداؤهم به فيه إلا ما نهوا عنه مثل الوصال في الصوم‏.‏

وقد تقدم أن نحو ‏{‏ولا تكن من الغافلين‏}‏ أشد في الانتفاء وفي النهي من نحو‏:‏ ولا تغفل، لأنه يفرض جماعة يحق عليهم وصف الغافلين فيحذر من أن يكون في زمرتهم وذلك أبْين للحالة المنهي عنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏206‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ‏(‏206‏)‏‏}‏

تتنزل منزلة العلة للأمر بالذكر، ولذلك صُدرت ب ‏{‏إن‏}‏ التي هي لمجرد الاهتمام بالخبر، لا لرد تردد أو إنكار، لأن المخاطب منزه عن أن يتردد في خبر الله تعالى، فحرف التوكيد في مثل هذا المقام يغني غناء فاء التفريع، ويفيد التعليل كما تقدم غير مرة، والمعنى‏:‏ الحث على تكرر ذكر الله في مختلف الأحوال، لأن المسلمين مأمورون بالاقتداء بأهل الكمال من الملإ الأعلى، وفيها تعريض بالمشركين المستكبرين عن عبادة الله بأنهم منحطون عن تلك الدرجات‏.‏

والمراد ب ‏{‏الذين عند ربك‏}‏ الملائكة، ووجه جعل حال الملائكة علة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر‏:‏ أن مرتبة الرسالةُ تلحق صاحبها من البشر برتبة الملائكة، فهذا التعليل بمنزلة أن يقال‏:‏ اذكر ربك لأن الذكر هو شان قبيلك، كقول ابن دارة سالم بن مسافع‏:‏

فإن تتقوا شراً فمثلُكم اتقى *** وإن تفعلوا خيراً فمثلكُمُ فعل

فليس في هذا التعليل ما يقتضي أن يكون الملائكة أفضل من الرسل، كما يتوهمه المعتزلة لأن التشبه بالملائكة من حيث كان الملائكة أسبقَ في هذا المعنى؛ لكونه حاصلاً منهم بالجِبِلّة فهم مثل فيه، ولا شبهة في أن الفريق الذين لم يكونوا مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة، إذا تخلقوا بمثل خلق الملائكة، كان سُموهم إلى تلك المرتبة أعجب، واستحقاقهم الشكر والفضل له أجدر‏.‏

ووجه العدول عن لفظ الملائكة إلى الموصولية‏:‏ ما تؤذن به الصلة من رفعة منزلتهم، فيتذرع بذلك إلى إيجاد المنافسة في التخلق بأحوالهم‏.‏

و ‏{‏عند‏}‏ مستعمل مجازاً في رفعة المقدار، والحظوة الآلهية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا يستكبرون عن عبادته‏}‏ ليس المقصود به التنويه بشأن الملائكة لأن التنويه بهم يكون بأفضل من ذلك، وإنما أريد به التعريض بالمشركين وأنهم على النقيض من أحوال الملائكة المقربين، فخليق بهم أن يكونوا بعداء عن منازل الرفعة، والمقصود هو قوله‏:‏ ‏{‏ويسبحونه‏}‏ أي ينزهونه بالقول والاعتقاد عن صفات النقص، وهذه الصلة هي المقصودة من التعليل للأمر بالذكر‏.‏

واختيار صيغة المضارع لدلالتها على التجديد والاستمرار، أو كما هو المقصود وتقديم المعمول من قوله‏:‏ ‏{‏وله يسجدون‏}‏ للدلالة على الاختصاص أي ولا يسجدون لغيره، وهذا أيضاً تعريض بالمشركين الذين يسجدون لغيره، والمضارع يفيد الاستمرار أيضاً‏.‏

وهنا موضع سجود من سجود القرآن، وهو أولها في ترتيب الصحف، وهو من المتفق على السجود فيه بين علماء الأمة، ومقتضى السجدة هنا أن الآية جاءت للحض على التخلق بأخلاق الملائكة في الذكر، فلما أخبرت عن حالة من أحوالهم في تعظيم الله وهو السجود لله، أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبادر بالتشبه بهم تحقيقاً للمقصد الذي سبق هذا الخبر لأجله‏.‏

وأيضاً جرى قبل ذلك ذكر اقتراح المشركين أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بآية كما يقترحون فقال الله له‏:‏ ‏{‏قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 203‏]‏ وبأن يأمرهم بالاستماع للقرآن وذكر أن الملائكة يسجدون لله، شرع الله عند هذه الآية سجوداً؛ ليظهر إيمان المؤمنين بالقرآن وجحود الكافرين به حين سجد المؤمنون، ويمسك المشركون الذين يحضرون مجالس نزول القرآن، وقد دل استقراء مواقع سجود القرآن أنها لا تعدو أن تكون إغاظة للمشركين أو اقتداء بالأنبياء أو المرسلين كما قال ابن عباس في سجدة، ‏{‏فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 24‏]‏ أن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏فبهداهم اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏ فداود ممن أمر محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به‏.‏

سورة الأنفال

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتاح السورة ب ‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏ مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ماذا يكون في شأن المسمى عندهم ‏{‏الأنفال‏}‏ وكان ذلك يومَ بدر، وأنهم حاوروا رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال، ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهْماً في هذا الشأن، وقد تكررت الحوادث يومئذ‏:‏ ففي «صحيح مسلم»، و«جامع الترمذي» عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ «لما كان يوم بدر أصبت سيفاً لسعيد بن العاصي فأتيتُ به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نفلْنيهِ، فقال‏:‏ ضعه ‏(‏في القَبَض‏)‏، ثم قلت‏:‏ نفلنيه فقال ضعْه حيثُ أخذته، ثم قلت‏:‏ نفلنيه فقال‏:‏ ضعه من حيث أخذته، فنزلت ‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏» وفي «أسباب النزول» للواحدي، و«سيرة ابن إسحاق» عن عبادة بن الصامت، أنه سئل عن الأنفال فقال‏:‏ فينا معشر أصحاب بدر نزلتْ حين اختلفنا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقُنا فرده على رسوله فقسمه بيننا على بواء يقول على السواء، وروى أبو داود، عن ابن عباس، قال‏:‏ «لما كان يومُ بدر ذهب الشبان للقتال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنيمة جاء الشبان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ‏:‏ لا تستأثرون علينا فانا كنا تحت الرايات ولو أنهزمتم لكنا ردءاً لكم، واختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأنفال‏}‏‏.‏

والسؤال حقيقته الطلب، فإذا عدّي ب ‏(‏عن‏)‏ فهو طلب معرفة المجرور ب ‏(‏عن‏)‏ وإذا عدّي بنفسه فهو طلب إعطاء الشيء، فالمعنى، هنا‏:‏ يسألونك معرفة الأنفال، أي معرفة حقها فهو من تعليق الفعل باسم ذات، والمراد حالها بحسب القرينة مثل ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وإنما سألوا عن حكمها صراحة وضمناً في ضمن سؤالهم الأثرة ببعضها‏.‏

ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد‏.‏

ولذلك كان قوله ‏{‏يسألونك‏}‏ موذناً بتنازع بين الجيش في استحقاق الأنفال، وقد كانت لهم عوائد متبعة في الجاهلية في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها فسألوا، وضمير جمع الغائب إلى معروف عند النبي وبين السامعين حين نزول الآية‏.‏

و ‏(‏الأنفال‏)‏ جمع نفل بالتحريك والنفل مشتق من النافلة وهي الزيادة في العطاء، وقد أطلق العرب في القديم الأنفال على الغنائم في الحرب كأنهم اعتبروها زيادة على المقصود من الحرب لأن المقصود الأهممِ من الحرب هو إبادة الأعداء، ولذلك ربما كان صناديدهم يأبون أخذ الغنائم كما قال عنترة‏:‏

يخبرك من شَهد الوقيعة أنني *** أغشى الوغى وأعف عند المغنم

وأقوالهم في هذا كثيرة، فإطلاق الأنفال في كلامهم على الغنائِم مشهور قال عنترة‏:‏

إنا إذا احمرا الوغى نُرْوي القنا *** ونعف عند مقاسم الأنفال

وقد قال في القصيدة الأخرى‏:‏

وأعف عند المغنم ***

فعلمنا أنه يريد من الأنفال المغانم وقال أوس بن حَجر الأسدي وهو جاهلي‏:‏

نكصتم على أعقابكم ثم جئتمو *** تُرجون أنفال الخميس العرمرم

ويقولون نفلني كذا يريدون أغنمني، حتى صار النفل يطلق على ما يعطاه المقاتل من المغنم زيادة على قسطه من المغنم لمزية له في البلاء والغِناء أو على ما يعثر عليه من غير قتيله، وهذا صنف من المغانم‏.‏

فالمغانم، إذن، تنقسم إلى‏:‏ ما قصد المقاتل أخذه من مال العدو مثل نعمهم، ومثل ما على القتلى من لباس وسلاح بالنسبة إلى القاتل، وفيما ما لم يقصده المقاتلون مما عثروا عليه مثل لباس قتيل لم يُعرف قاتله، فاحتملت الأنفال في هذه الآية أن تكون بمعنى المغانم مطلقاً، وأن تكون بمعنى ما يُزاد للمقاتل على حقه من المغنم، فحديث سعد بن أبي وقاص كان سؤالاً عن تنفيل بمعنى زيادة، وحديث ابن عباس حكى وقوع اختلاف في قسمة المغنم بين من قاتل ومن لم يقاتل، على أن طلب من لم يقاتلوا المشاركة في المغنم يرجع إلى طلب تنفيل، فيبقى النفل في معنى الزيادة‏.‏ ولأجل التوسع في ألفاظ أموال الغنائم تردد السلف في المعنى من الأنفال في هذه الآية، وسئل ابن عباس عن الأنفال فلم يزد على أن قال «الفرس من النفل والدرع من النفل» كما في «الموطأ»، وروي عنه أنه قال‏:‏ «والسلب من النفل» كما في «كتاب أبي عبيد» وغيره‏.‏

وقد أطلقوا النفل أيضاً على ما صار في أيدي المسلمين من أموال المشركين بدون انتزاع ولا افتكاك كما يوجد الشيء لا يُعرف من غنمه، وكما يوجد القتيل عليه ثيابه لا يعرف قاتله، فيدخل بهذا الإطلاق تحت جنس الفيء كما سماه الله تعالى في سورة ‏[‏الحشر‏:‏ 6، 7‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيللٍ ولا ركاببٍ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء‏}‏ إلى قوله ‏{‏بين الأغنياء منكم وذلك مثل أموال بني النضير التي سلّموها قبل القتال وفروا‏.‏

وبهذا تتحصل في أسماء الأموال المأخوذة من العدو في القتال ثلاثة أسماء‏:‏ المغنم، والفيء، وهما نوعان، والنفل‏.‏ وهو صورة من صور القسمة وكانت متداخلة، فلما استقرّ أمر الغزو في المسلمين خص كل اسم بصنف خاص قال القرطبي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ الآية، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص أي تخصيص اسم الغنيمة بمال الكفار إذا أخذه المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولكن عُرفَ الشرع قيد اللفظ بهذا النوع فسمى الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين ‏(‏أي لمعنيين مختلفين‏)‏ غنيمة وفيئاً يعني وأما النفل فهو اسم لنوع من مقسوم الغنيمة لا لنوع من المغنم‏.‏

والذي استقر عليه مذهب مالك أن النفل ما يعطيه الإمام من الخُمس لمن يرى إعطاءه إياه، ممن لم يغنم ذلك بقتال‏.‏

فالأنفال في هذه الآية قال الجمهور‏:‏ المراد بها ما كان زائداً على المغنم‏.‏ فيكون النظر فيه لأمير الجيش يصرفه لمصلحة المسلمين، أو يعطيه لبعض أهل الجيش لإظهار مزية البطل، أو لخصلة عظيمة يأتي بها، أو للتحريض على النكاية في العدو‏.‏ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين‏:‏ ‏"‏ من قتل قتيلاً فله سَلَبُه ‏"‏ وقد جعلها القرآن لله وللرسول، أي لما يأمر به الله رسوله أو لما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم قال مالك في «الموطأ» «ولم يبلغنا أن رسول الله قال‏:‏ من قتل قتيلاً فله سَلَبه إلا يومَ حنين، ولا بلغنا عن الخلفاء من بعده» ‏(‏يعني مع تكرر ما يقتضيه فأراد ذلك أن تلك قضية خاصة بيوم حنين‏)‏‏.‏

فالآية محكمة غير منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ فيكون لكل آية منهما حكمها إذ لا تداخل بينهما، قال القرطبي‏:‏ وهو ما حكاه المازري عن كثير من أصحابنا‏.‏

وعن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة وعطاء‏:‏ أن المراد بالأنفال في هذه الآية الغنائِم مطلقاً‏.‏ وجعلوا حكمها هنا أنها جُعلت لله وللرسول أي أن يقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب ما يراه، بلا تحديد ولا اطراد، وأن ذلك كان في أول قسمة وقعت ببدر كما في حديث ابن عباس، ثم نسخ ذلك بآية ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ الآية إذ كان قد عين أربعة الأخماس للجيش، فجعل لله وللرسول الخمس، وجعل أربعة الأخماس حقاً للمجاهدين‏.‏ يعني وبقي حكم الفيء المذكور في سورة الحشر غير منسوخ ولا ناسخ، فلذلك قال مالك والجمهور‏:‏ لا نفل إلا من الخمس على الاجتهاد من الإمام وقال مالك‏:‏ «إعطاء السَلَب من التنفيل»، وقال مجاهد‏:‏ الأنفال هي خمس المغانم وهو المجعول لله والرسول ولذي القربى‏.‏

واللام في قوله ‏{‏للَّه‏}‏ على القول الأول في معنى الأنفال‏:‏ لام الملك، لأن النفل لا يحسب من الغنائِم، وليس هو من حق الغزاة فهو بمنزله مال لا يعرف مستحقه، فيقال هو ملك لله ولرسوله، فيعطيه الرسول لمن شاء بأمر الله أو باجتهاده، وهذا ظاهر حديث سعد بن أبي وقاص في «الترمذي» إذ قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام سألتني هذا السيف معنى السيف الذي تقدم ذكره في حديث مسلم ولم يكن لي وقد صار لي فهو لك»‏.‏

وأما على القول الثاني، الجامع لجميع المغانم، فاللام للاختصاص، أي‏:‏ الأنفال تختص بالله والرسول، أي حكمُها وصرفها، فهي بمنزلة ‏(‏إلى‏)‏‏.‏

تقول‏:‏ هذا لك أي‏:‏ إلى حكمك مردود، وأن أصحاب ذلك القول رأوا أن المغانم لم تكن في أول الأمر مخمسة بل كانت تقسم باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ثم خُمّست بآية ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ الآية‏.‏

وعطف «وللرسول» على اسم الله لأن المقصود‏:‏ الأنفالُ للرسول صلى الله عليه وسلم يقسمها فذكر اسم الله قبل ذلك للدلالة على أنها ليس حقاً للغزاة وإنما هي لمن يعينه الله بوحيه فذكر اسم الله لفائدتين‏:‏ أولاهما‏:‏ أن الرسول إنما يتصرف في الأنفال بإذن الله توقيفاً أو تفويضاً‏.‏ والثانية‏:‏ لتشمل الآية تصرف أمراء الجيوش في غيبة الرسول أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأن ما كان حقاً لله كان التصرف فيه لخلفائه‏.‏

واختلف الفقهاء في حكم الأنفال اختلافاً ناشئاً عن اختلاف اجتهادهم في المراد من الآية، وهو اختلاف يعذرون عليه لسعة الاطلاق في أسماء الأموال الحاصلة للغزاة، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وسعيد بن المسيب‏:‏ النفل إعطاء بعض الجيش أو جميعه زيادة على قسمة أخماسهم الأربعة من المغنم، فإنما يكون ذلك من خمس المغنم المجعول للرسول صلى الله عليه وسلم ولخلفائه وأمرائه جمعاً بين هذه الآية وبين قوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ الآية فلا نفل إلا من الخمس المجعول لاجتهاد أمير الجيش وعلة ذلك تجنب إعطاء حق أحد لغيره ولأنه يفضي إلى إيقاد الإحَنْ في نفوس الجيش، وقد يبعث الجيش على عصيان الأمير، ولكن إذا رأى الإمام مصلحة في تنفيل بعض الجيش ساغ له ذلك من الخمس الذي هو موكول إليه، كما سيأتي في آية المغانم، لذلك قال مالك‏:‏ لا يكون التنفيل قبل قسمة المغنم وجعل ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين من قوله‏:‏ ‏"‏ من قتل قتيلاً فله سَلَبه ‏"‏ خصوصيه للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر، لأن طاعة الناس للرسول أشد من طاعتهم لمن سواه لأنهم يؤمنون بأنه معصوم عن الجور وبأنه لا يتصرف إلا بإذن الله، قال مالك في «الموطأ»‏:‏ ولم يبلغنا أن رسول الله فعل ذلك غير يوم حنين ولا أن أبا بكر وعمر فعلاه في فتوحهما‏.‏

وإنما اختلفت الفقهاء‏:‏ في أن النفل هل يبلغ جميع الخمس أو يخرج من خمس الخمس، فقال مالك من الخمس كله ولو استغرقه، وقال سعيد بن المسيب، وأبو حنيفة والشافعي‏:‏ النفل من خمس الخمس‏.‏ والخلاف مبني على اختلافهم في أن خمس المغنم أهو مقسم على من سمّاه القرآن أم مختلط، وسيجيء ذلك في آية المغانم‏.‏ والحجة لمالك حديث ابن عمر في «الموطأ» أنهم غزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيراً ونُفلوا بعيراً بعيراً فأعطي النفلُ جميع أهل الجيش وذلك أكثر من خمس الخمس، وقال جماعة يجوز التنفيل من جميع المغنم وهؤلاء يخصصون عموم آية

‏{‏واعلموا أنما غنمتم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ بآية ‏{‏قل الأنفال لله والرسول‏}‏ أي فالمغانم المخمسة ما كان دون النفل، والقول الأول أسد وأجرى على الأصول وأوفق بالسنة، والمسألة تبسط في الفقه وليس من غرض المفسر إلا الإلمام بمعاقدها من الآية‏.‏

وتفريع ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ على جملة ‏{‏الأنفال لله والرسول‏}‏ لأن في تلك الجملة رفعاً للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال، أو في طلب التنفيل، فلما حكم بأنها ملك لله ورسوله أو بأن أمر قسمتها موكول لله، فقد وقع ذلك على كراهة كثير منهم ممن كانوا يحسبون أنهم أحق بتلك الأنفال ممن أعطيها، تبعاً لعوائِدهم السالفة في الجاهلية فذكرهم الله بأن قد وجب الرضى بما يقسمه الرسول منها، وهذا كله من المقول‏.‏

وقدم الأمر بالتقوى، لأنها جامع الطاعات‏.‏

وعُطف الأمر بإصلاح ذات البين، لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها كما قال عبادة بن الصامت‏:‏ «اختلفْنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا» فأمرهم الله بالتصافح، وختم بالأمر بالطاعة، والمراد بها هنا الرضى بما قسم الله ورسوله أي الطاعة التامة كما قال تعالى ‏{‏ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏

والإصلاح‏:‏ جعل الشيء صالحاً، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم، وهو فساد التنازع والتظالم‏.‏

و ‏{‏ذات‏}‏ يجوز أن تكون مؤنث ‏(‏ذو‏)‏ الذي هو بمعنى صاحب فتكون ألفها مبدلة من الواو‏.‏ ووقع في كلامهم مضافاً إلى الجهات وإلى الأزمان وإلى غيرهما، يجرونه مُجرى الصفة لموصوف يدل عليه السياق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال‏}‏ في سورة ‏[‏الكهف‏:‏ 18‏]‏، على تأويل جهة، وتقول‏:‏ لقيته ذات ليلة، ولقيته ذات صباح، على تأويل المقدر ساعة أو وقت، وجرت مجرى المثل في ملازمتها هذا الاستعمال، ويجوز أن تكون ‏(‏ذات‏)‏ أصلية الألف كما يقال‏:‏ أنا أعرف ذات فلان، فالمعنى حقيقة الشيء وماهيته، كذا فسرها الزجاج والزمخشري، فهو كقول ابن رواحة‏:‏

وذلك في ذاتتِ الإله وإن يَشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع

فتكون كلمةً مقحمةً لتحقيق الحقيقة، جُعلت مُقدمة، وحقها التأخير لأنها للتأكيد مثل المعنى في قولهم‏:‏ جاءني بذاته، ومنه يقولون‏:‏ ذات اليمين وذات الشمال، قال تعالى ‏{‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ أصلحوا بينكم، ولذا ف ‏(‏ذات‏)‏ مفعول به على أن ‏(‏بَين‏)‏ في الأصل ظرف فخرج عن الظرفية، وجعل اسماً منتصرفاً، كما قُرئ ‏{‏لقد تقطع بينُكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ برفع بينُكم في قراءة جماعة‏.‏ فأضيفت إليه ‏(‏ذات‏)‏ فصار المعنى‏:‏ أصلحوا حقيقة بينكم أي اجعلوا الأمر الذي يجمعكم صالحاً غير فاسد، ويجوز مع هذا أن ينزل فعل ‏{‏أصلحوا‏}‏ منزلة الفعل اللازم فلا يقدر له مفعول قصداً للأمر بإيجاد الصلاح لا بإصلاح شيء فاسد، وتنصب ذات على الظرفية لإضافتها إلى ظرف المكان والتقدير‏:‏ وأوجدوا الصلاح بينكم، كما قرأنا

‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ بنصب بينكم أي لقد وقع التقطيع بينكم‏.‏

وأعلم أني لم أقف على استعمال ‏(‏ذاتَ بين‏)‏ في كلام العرب فأحسب أنها من مبتكرات القرآن‏.‏

وجواب شرط ‏{‏إنْ كنتم مؤمنين‏}‏ دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ إلى آخرها، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الجمل كان راجعاً إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية‏:‏ إنا أمرناكم بما ذكر إنْ كنتم مؤمنين، لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال، لظهور أن ليس المراد‏:‏ فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله، ولا تصلحوا ذات بينكم، ولا تطيعوا الله ورسوله، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أهل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال‏.‏

وليس الإتيان في الشرط ب ‏{‏بأنْ‏}‏ تعريضاً بضُعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورُهم، بناء على أن شأن ‏(‏إنْ‏)‏ عدمُ الجرم بوقوع الشرط بخلاف ‏(‏إذا‏)‏ على ما تقرر في المعاني، ولكن اجتلاب ‏(‏إنْ‏)‏ في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي‏:‏ التقوى الجامعة لخصال الدين، وإصلاح ذات بينهم، والرضى بما فعله الرسول، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صُوره ومظاهره، ولذلك عُقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وَجِلتْ قلوبهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏ كما سيأتي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏‏.‏

موقع هذه الجملة وما عطف عليها موقع التعليل لوجوب تقوى الله وإصلاح ذات بينهم وطاعتهم الله ورسوله، لأن ما تضمنته هذه الجمل التي بعد ‏{‏إنما‏}‏ من شأنه أن يحمل المتصفين به على الامتثال لما تضمنته جُمل الأمر الثلاث السابقة، وقد اقتضى ظاهر القصر المستفاد من ‏{‏إنما‏}‏ أن من لم يَجلْ قلبُه إذا ذُكر الله، ولم تزده تلاوة آيات الله إيماناً مع إيمانه، ولم يتوكل على الله، ولم يقم الصلاة، ولم ينفق، لم يكن موصوفاً بصفة الإيمان، فهذا ظاهرٌ مؤول بما دلت عليه أدلة كثيرة من الكتاب والسنة من أن الإيمان لاَ ينقضه الإخلال ببعض الواجبات كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك هم المؤمنون حقاً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 4‏]‏ فتعين أن القصر ادعائي بتنزيل الإيمان الذي عَدم الواجبات العظيمةَ منزلة العدم، وهو قصر مجازي لابتنائه على التشبيه، فهو استعارة مكنية‏:‏ شبه الجانب المنفي في صيغة القصر بمن ليس بمؤمن، وطوي ذكر المشبه به ورُمز إليه بذكر لازمه وهو حَصْر الإيمان فيمن اتصف بالصفات التي لم يتصف بها المشبه به، ويئول هذا إلى معنى‏:‏ إنما المؤمنون الكاملُو الإيماننِ، فالتعريف في ‏{‏إنما المؤمنون‏}‏ تعريف الجنس المفيد قصراً ادعائياً على أصحاب هذه الصفات مبالغة، وحرف ‏(‏أل‏)‏ فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال‏.‏

وقد تكون جملة‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون‏}‏ مستأنفة استينافاً بيانياً لجواب سؤال سائِل يثيره الشرطُ وجزاؤه المقدرُ في قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏ بأن يتساءلوا عن هذا الاشتراط بعد ما تحقق أنهم مؤمنون من قبل، وهل يمتري في أنهم مؤمنون، فيجابوا بأن المؤمنين هم الذين صفتهم كيت وكيت، فيعلموا أن الإيمان المجعول شرطاً هو الإيمان الكامل فتنبعث نفوسهم إلى الاتسام به والتباعد عن موانع زيادته‏.‏

وإذ قد كان الاحتمالان غير متنافيين صح تحميل الآية إياهما توفيراً لمعاني الكلام المعجز فإن علة الشيء مما يُسأل عنه، وإن بيان العلة مما يصح كونه استينافاً بيانياً‏.‏

وعلى كلا الاحتمالين وقعت الجملة مفصولة عن التي قبلها لاستغنائها عن الربط وإن اختلف موجب الاستغناء باختلاف الاحتمالين، والاعتباراتُ البلاغية يصح تعدد أسبابها في الموقع الواحد لأنها اعتبارات معنوية وليست كيفيات لفظية فتحقَّقْه حق تحقُّقه‏.‏

والمعنى ليس المؤمنون الكامل إيمانهم إلا أصحاب هذه الصلة التي يعرف المتصف بها تحققها فيه أو عدمه من عرض نفسه على حقيقتها، فإنه لما كان الكلام وارداً مورد الأمر بالتخلق بما يقتضيه الإيمان أحيلوا في معرفة أمارات هذا التخلق على صفات يأنسونها من أنفسهم إذا علموها‏.‏

والذكر حقيقته التلفظ باللسان، وإذا علق بما يدل على ذات فالمقصود من الذات أسماؤها، فالمراد من قوله‏:‏ ‏{‏إذا ذكر الله‏}‏ إذا نطق ناطق باسم من أسماء الله أو بشأن من شؤونه، مثل أمره ونهيه، لأن ذلك لا بد معه من جريان اسمه أو ضميره أو موصوله أو إشارته أو نحو ذلك من دلائل ذاته‏.‏

والوجل خوف مع فزع فيكون لاستعظام الموجول منه‏.‏

وقد جاء فعل وَجل في الفصيح بكسر العين في الماضي على طريقة الأفعال الدالة على الانفعال الباطني مثل فَرِح، وصَدِي، وهوِيَ، ورَوِي‏.‏

وأسند الوجل إلى القلوب لأن القلب يكثر إطلاقه في كلام العرب على إحساس الإنسان وقرارة إدراكه، وليس المراد به هذا العضو الصنوبري الذي يرسل الدم إلى الشرايين‏.‏

وقد أجملت الآية ذكر الله إجمالاً بديعاً ليناسب معنى الوجل، فذكرُ الله يكون‏:‏ بذكر اسمه، وبذكر عقابه، وعظمته، وبذكر ثوابه ورحمته، وكل ذلك يحصل معه الوجل في قلوب كُمّل المؤمنين، لأنه يحصلَ معه استحضار جلال الله وشدة بأسه وسعة ثوابه، فينبعث عن ذلك الاستحضار توقعُ حلول بأسه، وتوقع انقطاع بعض ثوابه أو رحمته، وهو وجل يبعث المؤمن إلى الاستكثار من الخير وتوقي ما لا يرضي الله تعالى وملاحظة الوقوف عند حدود الله في أمره ونهيه، ولذلك روي عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ «أفضَلُ من ذِكر الله باللسان ذكرُ الله عند أمره ونهيه»‏.‏

وإذ قد كان المقصود من هذا الكلام حث المؤمنين على الرضى بما قسم النبي صلى الله عليه وسلم من غنايم بدر، وأن يتركوا التشاجر بينهم في ذلك، ناسب الاقتصار على وجل قلوب المؤمنين عند ذكر الله، والوجلُ حالين يحصلان للمؤمن عند ذكر الله والحال الآخر هو الأمل والطمع في الثواب فطوى ذكره هنا اعتماداً على استلزام الوجل إياه، لأن من الوجل أن يَجل، من فوات الثواب أو نقصانه‏.‏

التلاوة‏:‏ القراءة واستظهار ما يحفظه التالي من كلام له أو لغيره يحكيه لسامعه، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان‏}‏ في ‏[‏البقرة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وآيات الله القرآن، سميت آيات، لأن وحيها إلى النبي الأمّي وعجزَ قومه، خاصتهم وعامتهم عن الإتيان بمثلها فيه دلالة على صدق من جاء بها فلذلك سميت آيات‏.‏ ويسمى القرآن كله آية أيضاً باعتبار دلالة جملته على صدق محمد، وقد تقدم ذلك في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

وإسناد فعل زيادة الإيمان إلى آيات الله لأنها سبب تلك الزيادة للإيمان باعتبار حال من أحوالها، وهو تلاوتها لاعتبار مجرد وجودها في صدر غير المتلوة عليه‏.‏ وهذا الإسناد من المجاز العقلي إذ جُعلت الآيات بمنزلة فاعل الزيادة في الإيمان‏.‏

فإنه لما لم يعرف الفاعل الحقيقي لزيادة الإيمان، إذْ تلك الزيادة كيفية نفسية عارضة، لليقين، لا يُعرف فاعل انقداحها في العقل، وغاية ما يعرف أن يقال‏:‏ ازداد إيمان فلان، أو ازداد فلان إيماناً، بطريق ما يدل على المطاوعة، ولا التفات في الاستعمال إلى أن الله هو خالق الأحوال، كلها إذ ليس ذلك معنى الفاعل الحقيقي في العُرف، ولو لوحظ ذلك لم ينقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز عقليين وإنما الفاعل الحقيقي هو من يأتي بالفعل ويصنعه كالكاتب للكتابة والضارب بالسيف للقتل‏.‏

والإيمانُ‏:‏ تصديق النفس بثبوت نسبة شيء لشيء، أو بانتفاء نسبة شيء عن شيء، تصديقاً جازماً لا يحتمل نقيض تلك النسبة، وقد اشتهر اسم الإيمان شرعاً في اليقين بالنسبة المقتضية وجود الله ووجودَ صفاته التي دلت عليها الأدلة العقلية أو الشرعية، والمقتضية مجيء رسول الله مخبراً عن الله الذي أرسله وثبوتَ صفات الرسول عليه الصلاة والسلام التي لا يتم معنى رسالته عن الله بدونها‏:‏ مثل الصدق فيما يبلغ عن الله، والعصمة عن اقتراف معصية الله تعالى‏.‏

ومعنى زيادة الإيمان‏:‏ قوة اليقين في نفس المُوقن على حسب شدة الاستغناء عن استحضار الأدلة في نفسه، وعن إعادة النظر فيها، ودفععِ الشك العارض للنفس، فإنه كلما كانت الأدلة أكثر وأقوى وأجلى مقدمات كان اليقين أقوى، فتلك القوة هي المعبر عنها بالزيادة، وتفاوتها تدرج في الزيادة، ويجوز أن تسمى قلة التدرج في الأدلة نقصاً لكنه نقص عن الزيادة، وذلك مع مراعاة وجود أصل حقيقة الإيمان، لأنها لو نقصت عن اليقين لبطلت ماهية الأيمان، وقد أشار البخاري إلى هذا بقوله‏:‏ باب زيادةِ الإيمان ونقصانه فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص فلو أن نقص الأدلة بلغ بصاحبه إلى انخرَام اليقين لم يكن العلم الحاصل له إيماناً، حتى يوصف بالنقص، فهذا هو المراد من وصف الإيمان بالزيادة، في القرآن وكلام الرسول، وهو بين‏.‏ ولم يرد عن الشريعة ذكر نقص الإيمان، وذلك هو الذي يريده جمهور علماء الأمه إذا قالوا الإيمان يزيد كما قال مالك بن أنس الإيمانُ يزيد ولا ينقص، وهو عبارة كاملة، وقد يطلق الإيمان على الأعمال التي تجب على المؤمن وهو إطلاق باعتبار كون تلك الأعمال من شرائِع الإيمان، كما أطلق على الصلاة اسم الإيمان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليضيع إيمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ولكن الاسم المضبوط لهذا المعنى هو اسم ‏(‏الإسلام‏)‏ كما يفصح عنه حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان، فالإيمان قد يطلق على الإسلام وهو بهذا الاعتبار يوصف بالنقص والزيادة باعتبار الإكثار من الأعمال والإقلال، ولكنه ليس المراد في هذه الآية ولا في نظائِرها من آيات الكتاب وأقواللِ النبيّء صلى الله عليه وسلم وقد يريده بعض علماء الأمة فيقول‏:‏ الإيمان يزيد وينقص، ولعل الذي الجأهم إلى وصفه بالنقص هو ما اقتضاه الوصف بالزيادة‏.‏ وهذا مذهبٌ أشار إليه البخاري في قوله ‏"‏ باب من قال إن الإيمان هو العمل ‏"‏ وقال الشيخ ابن أبي زيد «وأن الإيمان قولُ باللسان واخلاصٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال فيكون فيها النقص وبها الزيادة»، وهو جار على طريقة السلف من إقرار ظواهر القرآن والسنة، في الأمور الاعتقادية ولكن وصف الإيمان بالنقص لا داعي إليه لعدم وجود مقتضيه لعدم وصفه بالنقص في القرآن والسنة ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص‏.‏

وكيفية تأثير تلاوة الآيات في زيادة الإيمان‏:‏ أن دقائِق الإعجاز التي تحتوي عليها آيات القرآن تزيد كل آية تنزل منها أو تتكرر على الأسماع سامعها يقيناً بأنها من عند الله، فتزيده استدلالاً على ما في نفسه، وذلك يُقوي الإيمان حتى يصل إلى مرتبة تقرب من الضرورة على نحو ما يحصل في تواتر الخبر من اليقين بصدق المخبرين، ويحصل مع تلك الزيادة زيادة في الإقبال عليها بشراشر القلوب ثم في العمل بما تتضمنه من أمر أو نهي، حتى يحصل كمال التقوى، فلا جرم كان لكل آية تتلى على المؤمنين زيادة في عوارض الإيمان من قوة اليقين وتكثير الأعمال فهذا وصف راسخ للآيات ويجوز أن تفسر زيادة الإيمان عند تلاوة الآيات بأنها زيادة إدراك للمعاني المؤمن بها، كما فسرت زيادة الإيمان بالنسبة إلى الأعمال، التي تجب على المؤمن إذ تلك الإدراكات تعلقات بعضها حسي وبعضها عقلي‏.‏

وحظ المقام المتعلق بآحكام الأنفال من هذه الزيادة هو أن سماع آيات حكم الأنفال يزيد إيمان المؤمنين قوة، بنبذ الشقاق والتشاجر الطارئ ببينهم في أنفس الأموال عندهم، وهو المال المكتسب من سيوفهم، فإنه أحب أموالهم إليهم‏.‏ وفي الحديث «وجعل رزقي تحت ظل رمحي» وبذلك تتضح المناسبة بين ذكر حكم الأنفال، وتعقيبه بالأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين والطاعة، ثم تعليل ذلك بأن شأن المؤمنين ازدياد إيمانهم عند تلاوة آيات الله‏.‏

صلة ثالثة ل ‏{‏المؤمنون‏}‏ أوحال منه، وجعلت فعلاً مضارعاً للدلالة على تكرر ذلك منهم، ووصفهم بالتوكل على الله وهو الاعتماد على الله في الأحوال والمساعي ليقدر للمتوكل تيسيراً مرة ويعوضه عن الكسب المنهي عنه بآحسن منه من الحلال المأذون فيه‏.‏ وتقدم تفسير التوكل عند قوله‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت، فتوكل على الله‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏

ومناسبة هذا الوصف للغرض‏:‏ أنهم أمروا بالتخلي عن الأنفال، والرضى بقسمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فمن كان قد حرم من نفل قتيله يتوكلُ على الله في تعويضه بأحسن منه‏.‏

وتقديم المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏وعلى ربهم يتوكلون‏}‏ إما للرعاية على الفاصلة فهو من مقتضيات الفصاحة مع ما فيه من الاهتمام باسم الله، وإما للتعريض بالمشركين، لأنهم يتوكلون على إعانة الأصنام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81‏]‏ فيكون الكلام مدحاً للمؤمنين، وتعريضاً بذم المشركين، ثم فيه تحذير من أن تبقى في نفوس المؤمنين آثار من التعلق بما نهوا عن التعلق به، لتوهمهم أنهم إذا فوّتوه فقد أضاعوا خيراً من الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

وَصْفُهم بأنهم الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله جاءَ بإعادة الموصول، كما أعيد في قوله‏:‏ ‏{‏والذين يؤمنون بما أنزل إليك‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏4‏)‏، وذلك للدلالة على الانتقال، في وصفهم، إلى غرض آخر غيرِ الغرض الذي اجتُلُبَ الموصول الأول لأجله، وهو هنا غرض محافظتهم على ركني الإيمان‏:‏ وهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلا علاقة للصلة المذكورة هنا بأحكام الأنفال والرضى بقسمها، ولكنه مجرد المدح، وعبر في جانب الصلاة بالإقامة للدلالة على المحافظة عليها وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏3‏)‏‏.‏ وجيء بالفعلين المضارعين في ‏{‏يقيمون‏}‏ و‏{‏ينفقون‏}‏ للدلالة على تكرر ذلك وتجدده‏.‏

واعلم أن مقتضى الاستعمال في الخبر بالصلات المتعاطفة، التي موصولها خبرٌ عن مبتدأ أن تُعتبر خبراً بعدة أشياء فهي بمنزلة أخبار متكررة، ومقتضى الاستعمال في الاخبار المتعددة أن كل واحد منها يعتبر خبراً مستقلاً عن المبتدأ فلذلك تكون كل صلة من هذه الصلات بمنزلة خبر عن المؤمنين وهي محصور فيها المؤمنون أي حالهم فيكون المعنى، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، إنما المؤمنون الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً‏.‏ وهكذا فمتى اختلت صفة من هذه الصفات اختل وصف الإيمان عن صاحبها، فلذلك تعين أن يكون المراد من القصر المبالغة الآيله إلى معنى قصر الإيمان الكامللِ على صاحب كل صلة من هذه الصلات، وعلى صاحب الخبرين، لظهور أن أصل الإيمان لا يسلب من أحد ذكر الله عنده فلا يجل قلبه، فإن أدلة قطعية من أصول الدين تنافي هذا الاحتمال فتعين تأويل ‏{‏المؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏ على إرادة أصحاب الإيمان الكامل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

جملة مؤكدة لمضمون جملة‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏ إلى آخرها ولذلك فصلت‏.‏

وعُرف المسند إليه بالإشارة لوقوعه عقب صفات لتدل الإشارة على أنهم أحرياء بالحكم المسند إلى اسم الإشارة من أجل تلك الصفات، فكان المخبرَ عنهم قد تميزوا للسامع بتلك الصفات فصاروا بحيث يشار إليهم‏.‏

وفي هذه الجملة قصر آخر يشبه القصر الذي قوله‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2‏]‏ حيث قصر الإيمان مرة أخرى على أصحاب تلك الصفات ولكنه قرن هنا بما فيه بيان المقصور وهو أنهم المؤمنون الأحقاء بوصف الإيمان‏.‏

والحق أصله مصدر حَق بمعنى ثبت واستعمل استعمال الأسماء للشيء الثابت الذي لا شك فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وعد الله حقاً ومن أصدق من الله قيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 122‏]‏‏.‏

ويطلق كثيراً، على الكامل في نوعه، الذي لاسترة في تحقق ماهية نوعه فيه، كما يقول أحد لابنه البار به‏:‏ أنت ابني حَقاً، وليس يريد أن غيره من أبنائه ليسوا لرشدة ولكنه يريد أنت بنوتك واضحة آثارها، ويطلق الحق على الصواب والحكمة فاسم الحق يجمع معنى كمال النوع‏.‏

ولكل صيغة قصر‏:‏ منطوق ومفهوم، فمنطوقها هنا أن الذين جَمعوا ما دلت عليه تلك الصلات هم مؤمنون حقاً، ومفهومها أن من انتفى عنه أحدُ مدلولات تلك الصلات لم يكن مؤمناً كاملاً، وليس المقصود أن من ثبتت له إحداها كان مؤمناً كاملاً، إذا لم يتصف ببقية خصال المؤمنين الكاملين، فمعنى أولئك هم المؤمنون حقا‏:‏ أن من كان على خلاف ذلك ليس بمؤمن حقا أي كاملاً‏.‏

وهذا تأويل للكلام دعا إليه الجمع بين عديد الأدلة الواردة في الكتاب والسنة القولية والفعلية من ثبوت وصف الإيمان لكل من أيقن بأن الله منفرد بالإلهية وأن محمداً رسول الله إلى الناس كافة، فتلك الأدلة بلغت مبلغ التواتر المعنوي المحصّل للعلم الضروري بأن الإخلال بالواجبات الدينية لا يسلب صفة الإيمان والإسلام عن صاحبه، فليس حمل القصر على الادعائي هنا مجردَ صنع باليد، أو ذهاب مع الهوى على أن شأن الاتصاف ببعض صفات الفضائل أن يتناسق مع نظائِرها فمن كان بحيث إذا ذكر الله وجل قلبه لا بد أن يكون بحيث إذا تُليت عليه آيات الله زادته إيماناً، فهذا تحقيق معنى القصرين‏.‏

ومما يزيد هذا المعنى وضوحاً ما روَى الطبراني، عن الحارث بن مالك الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارث بن مالك الأنصاري يا حارث كيف أصبحت قال أصبحت مؤمناً حقاً قال إعلم ما تقول أو انظرُ ما تقول إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزَفتْ نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي، وأظمأتُ نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وكأني أسمع عُوراء أهل النار، فقال له يا حارث عرفتَ فالزَمْ ثلاثاً وهو حديث ضعيف وإن كثرتْ طرقه‏.‏

فقول الحارث «أصبحت مؤمناً حقاً» ظاهر في أنه أراد منه مؤمناً كاملاً وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك ‏"‏ ظاهر في أنه سأله عن ماكان به إيمانه كاملاً ولم يسأله عن أصل ماهية الإيمان لأنه لم يكن يشك في أنه من عداد المؤمنين‏.‏

ومن هذا المعنى ما ذكره القرطبي وغيره أن رجلاً سأل الحسن البصري فقال له يا أبا سعيد أمومنٌ أنتَ فقال‏:‏ «الإيمان إيماناننِ فإن كنتَ تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا به مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم‏}‏ إلى قوله ‏{‏أولئك هم المؤمنون حقا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 2 4‏]‏ فوالله ما أدري أنا منهم أم لا‏؟‏‏.‏

وانتصب ‏{‏حقاً‏}‏ على أنه مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف دل عليه ‏{‏المؤمنون‏}‏ أي إيماناً حقاً، أو على أنه موكدٌ لمضمون جملة ‏{‏أولئك هم المؤمنون‏}‏ أي ثبوت الإيمان لهم حق لا شبهة فيه، وهو تحقيق لمعنى القصر بما هو عليه من معنى المبالغة، وليس تأكيداً لرفع المجاز عن القصر حتى يصير بالتأكيد قصراً حقيقياً، بل التأكيد بمعنى المبالغة اعتماداً على القرائن، والأحسن أن يكون منصوباً على الحال من ضمير ‏{‏هم‏}‏ فيكون المصدر مؤولاً باسم الفاعل كما هو الشأن في وقوع المصدر حالاً مثل ‏{‏أو تأتيهم الساعة بغتة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 107‏]‏، أي محققين إيمانهم بجلائل أعمالهم، وقد تقدم مثل هذا المصدر في قوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها أبداً وعد الله حقا‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 122‏]‏‏.‏

‏(‏وجملة‏:‏ ‏{‏لهم درجات‏}‏ خبر ثان عن اسم الإشارة‏.‏

واللام للاستحقاق، أي درجات مستحقة لهم، وذلك استعارة للشرف والكرامة عند الله، لأن الدرجات حقيقتها ما يتخذ من بناء أو أعواد لإمكان تخطي الصاعد إلى مكان مرتفع مُنقطع عن الأرض، كا تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللرجال عليهن درجةٌ‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، وفي غير موضع، وتستعار الدرجة لعناية العظيم ببعض من يصطفيهم فتشبه العناية بالدرجة تشبيه معقول بمحسوس، لأن الدنو من العُلْو عُرفاً يكون بالصعود إليه في الدرجات، فشبه ذلك الدنو بدرجات وقوله‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ قرينة المجاز‏.‏

ويجوز أن تستعار الدرجة هنا لمكان جلوس المرتفع كدرجة المنبر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللرجال عليهن درجةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ والقرينة هي‏.‏

وقد دل قوله‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ على الكرامة والشرف عند الله تعالى في الدنيا بتوجيه عنايته في الدنيا، وفي الآخرة بالنعيم العظيم‏.‏

وتنوين ‏{‏درجات‏}‏ للتعظيم لأنها مراتب متفاوتة‏.‏

والرزق اسم لما يُرزقُ أي يعطى للانتفاع به، ووصفه بكريم بمعنى النفيس فهو وصف حقيقي للرزق، وفعله كرُمَ بضم العينَ، والكرم في كل شيء الصفات المحمودية في صنفه أو نوعه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني ألْقيَ إلي كتابٌ كريمٌ‏}‏ في سورة ‏[‏النمل‏:‏ 29‏]‏، ومنه إطلاق الكرم على السخاء والجود، والوصفُ منه كريم، وتصح إرادته هنا على أن وصف الرزق به مجازٌ عقلي، أي كريم رازقه، فإن الكريم يرزق بوفرة وبغير حساب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ‏(‏5‏)‏ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

تشبيهُ حال بحال، وهو متصل بما قبله‏:‏ إما بتقدير مبتدأ محذوف، هو اسم إشارة لما ذكر قبله، تقديرُه‏:‏ هذا الحال كحال ما أخرجك ربك من بيتك بالحق، ووجه الشبه هو كراهية المؤمنين في بادئ الأمر لما هو خير لهم في الواقع وإما بتقدير مصدر لفعل الاستقرار الذي يقتضيه الخبر بالمجرور في قوله ‏{‏الأنفال لله وللرسول‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏ إذ التقدير‏:‏ استقرت لله والرسول استقراراً كما أخرجك ربك، أي فيما يلوح إلى الكراهية والامتعاض في بادئ الأمر، ثم نوالهم النصرَ والغنيمةَ في نهاية الأمر، فالتشبيه تمثيلي وليس مراعى فيه تشبيهُ بعض أجزاء الهيئة المشبهة ببعض أجزاء الهيئة المشبّه بها، أي أن ما كرهتموه من قسمة الأنفال على خلاف مشتهاكم سيكون فيه خير عظيم لكم، حسب عادة الله تعالى بهم في أمره ونهيه، وقد دل على ما في الكلام من معنى مخالفة مشتهاهم قولُه ‏{‏فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏ كما تقدم، مع قوله في هذه الجملة ‏{‏وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون‏}‏‏.‏

فجملة‏:‏ ‏{‏وإن فريقاً‏}‏ في موضع الحال والعامل فيها ‏{‏أخرجك ربك‏}‏ هذا وجه اتصال كاف التشبيه بما قبلها على ما الأظهر، وللمفسرين وجوه كثيرة بلغت العشرين قد استقصاها ابن عادل، وهي لا تخلو من تكلف، وبعضها متحد المعنى وبعضها مختلفُه، وأحسن الوجوه ما ذكره ابن عطية ومعناه قريب مما ذكرنا وتقديره بعيد منه‏.‏

والمقصود من هذا الأسلوب‏:‏ الانتقالُ إلى تذكيرهم بالخروج إلى بدر وما ظهر فيه من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ مصدرية‏.‏ والإخراج‏:‏ إما مراد به الأمر بالخروج للغزو، وإما تقديرُ الخروج لهم وتيسيره‏.‏

والخروج مفارقة المنزل والبلدِ إلى حيننِ الرجوع إلى المكان الذي خرج منه، أو إلى حيننِ البلوغ إلى الموضع المنتقل إليه‏.‏

والإخراج من البيت‏:‏ هو الإخراج المعيّن الذي خرج به النبي صلى الله عليه وسلم غازياً إلى بدر‏.‏

والباء في ‏{‏بالحق‏}‏ للمصاحبة أي إخراجاً مصاحباً للحق، والحق هنا الصواب، لما تقدم آنفاً من أن اسم الحق جامع لمعنى كمال كل شيء في محامد نوعه‏.‏

والمعنى أن الله أمره بالخروج إلى المشركين ببدر أمراً موافقاً للمصلحة في حال كراهة فريق من المؤمنين ذلك الخروج‏.‏

وقد أشار هذا الكلام إلى السبب الذي خرج به المسلمون إلى بدر، فكان بينهم وبين المشركين يوم بدر، وذلك أنه كان في أوائل رمضان في السنة الثانية للهجرة إن قفلت عيرٌ لقريش فيها أموال وتجارة لهم من بلاد الشام، راجعة إلى مكة، وفيها أبو سفيان بن حرب في زهاء ثلاثين رجلاً من قريش، فلما بلغ خبر هذه العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إليها فانتدب بعضهم وتثاقل بعضٌ، وهم الذين كرهوا الخروج، ولم ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تثاقلوا ومن لم يحْضر ظهرهم أي رواحلهم فسار وقد اجتمع من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر خرجوا يوم ثمانية من رمضان، وكانوا يحسبون أنهم لا يلقون حرباً وأنهم يغيرون على العير ثم يرجعون، وبلغ أبا سفيان خبر خروج المسلمين فأرسل صارخاً يستصرخ قريشاً لحماية العير، فتجهز منهم جيش، ولما بلغ المسلمون وادي ذفرَان بلغهم خروج قريش لتلقي العير، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه بالمضي في سبيله وكانت العير يومئذ فاتتهم، واطمأن أبو سفيان لذلك فأرسل إلى أهل مكة يقول إن الله نجى عيركم فارجعوا، فقال أبو جهل لا نرجع حتى نَرِد بدراً ‏(‏وكان بدرٌ موضع ماء فيه سوق للعرب في كل عام‏)‏ فنقيم ثلاثاً، فننحرَ الجُزر ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتتسامع العرب بنا وبمسيرنا فلا يزالوا يهابوننا ويعلموا أن محمداً لم يصب العير، وأنا قد أعضضناه، فسار المشركون إلى بدر وتنبكتْ عيرهم على طريق الساحل وأعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأعلم المسلمين، فاستشارهم وقال‏:‏ العيرُ أحبُ إليكم أم النفير، فقال أكثرهم العير أحب إلينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعاد استشارتهم فأشار أكثرهم قائلين‏:‏ عليك بالعير فإنا خرجنا للعير فظهر الغضبُ على وجهه‏.‏

فتكلم أبو بكر، وعمر، والمقداد بنُ الأسود، وسعدُ بن عبادةَ، وأكثر الأنصار، ففوضوا إلى رسول الله ما يرى أن يسير إليه صلى الله عليه وسلم فأمرهم حينئذ أن يسيروا إلى القوم ببدر فساروا‏.‏ وكان النصر العظيم الذي هز به الإسلامُ رأسه‏.‏

فهذا ما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون‏}‏ وذلك أنهم خرجوا على نية التعرض للعير، وأن ليس دونَ العير قتال، فلما أخبرهم عن تجمع قريش لقتالهم تكلم أبو بكر فأحسن، وتكلم عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن الأسود فقال «يا رسول الله امضضِ لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هَهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديكَ وخلفك، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى ‏(‏بَرْككِ الغماد‏)‏ ‏(‏بفتح باء برك وغين الغماد ومعجمة مكسورة موضع باليمن بعيد جداً عن مكة‏)‏ لجادلنا معك من دونه حتى تبلغه‏.‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أشيروا عليّ أيها الناس ‏"‏ وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم حين بايعُوه بالعقبة قالوا يومئذ «إنا بُرءاء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فإنك في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا» فكان رسول الله يتخوف أن يكون الأنصار لا يرون نصرَه إلا ممّن دَهمه بالمدينة، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أشيروا عليّ قال له سعد بن معاذ «والله لكأنّك تريدنا يا رسول الله قال‏:‏ أجلْ قال‏:‏ فقد آمنّا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحرَ فخصته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد وما نَكْرَهُ أن تلقى بنا عدونا غداً إنا لصبرٌ في الحرب صدقٌ في اللقاء لعل الله يريك بنا ما تقرُّ به عينُك فسِرْ بنا على بركة الله» فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين أي ولم يخص وعد النصر، بتلقي العير فقط فما كان بعد ذلك إلا أن زال من نفوس المؤمنين الكارهين للقتال ما كان في قلوبهم من الكراهية، وقوله ‏{‏وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون‏}‏ في موضع الحال من الإخراج الذي أفادته، ‏(‏ما‏)‏ المصدرية، وهؤلاء هم الذين تثاقلوا وقت العزم على الخروج من المدينة، والذين اختاروا العير دون النفيرِ حين استشارة وادي ذَفِرَان، لأن ذلك كله مقترن بالخروج لأن الخروج كان ممتداً في الزمان، فجملة الحال من قوله‏:‏ ‏{‏وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون‏}‏ حال مقارنة لعاملها وهو ‏{‏أخرجك‏}‏‏.‏

وتأكيد خبر كراهية فريق من المؤمنين بإن ولام الابتداء مستعمل في التعجيب من شأنهم بتنزيل السامع غير المنكر لوقوع الخبر منزلةَ المنكر لأن وقوع ذلك مما شأنه أن لا يقع، إذ كان الشأن اتباع ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم أو التفويضَ إليه، وما كان ينبغي لهم أن يكرهوا لقاء العدو‏.‏ ويستلزم هذا التنزيلُ التعجيبَ من حال المخبر عنهم بهذه الكراهية فيكون تأكيد الخبر كناية عن التعجيب من المخبر عنهم‏.‏

وجملة ‏{‏يجادلونك‏}‏ حال من ‏{‏فريقاً‏}‏ فالضمير لفريق باعتبار معناه لأنه يدل على جمع‏.‏ وصيغة المضارع لحكاية حال المجادلة زيادة في التعجيب منها، وهذا التعجيب كالذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجادلنا‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يُجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏ إذ قال ‏{‏يجادلنا‏}‏ ولم يقل «جادلنا»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بعْدَ ما تبيّنَ‏}‏ لوم لهم على المجادلة في الخروج الخاص، وهو الخروج للنفير وترك العير، بعد أن تبين أي ظهر أن الله قدر لهم النصر، وهذا التبيّن هو بيّنٌ في ذاته سواء شعر به كلهم أو بعضهم فإنه بحيث لا ينبغي الاختلاف فيه، فإنهم كانوا عَرَباً أذكياء، وكانوا مؤمنين أصفياء، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ناصرهم على إحدى الطائفتين‏:‏ طائفة العير أو طائفة النفير، فنصرهم إذن مضمون، ثم أخبرهم بأن العير قد أخطأتهم، وقد بقي النفير، فكان بيّناً أنهم إذا لقوا النفير ينصرهم الله عليه، ثم رأوا كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لمّا اختاروا العير، فكان ذلك كافياً في اليقين بأنهم إذا لقوا المشركين ينتصرون عليهم لا محالة، ولكنهم فضلوا غنيمة العير على خضد شوكة أعدائهم ونهوضضِ شوكتهم بنصر بدر، فذلك معنى تبيّن الحق أي رجحان دليله في ذاته، ومَن خفي عليه هذا التبيّن من المؤمنين لم يعذره الله في خفائِه عليه‏.‏

ومن هذه الآية يؤخذ حكم مؤاخذة المجتهد إذا قصّر في فهم ما هو مدلول لأهل النظر، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال الذي سأله عن ضالة الإبل بعدَ أن سأله عن ضالة الغنم فأجابه هي لكَ أو لأخيك أو للذئب‏.‏ فلما سأله بعد ذلك عن ضالّة الإبل تَمَعّر وجهه وقال «مالَكَ ولها معها حذاؤها وسقاؤها تَشرب الماءَ وترعَى الشجرَ حتى يلقاها ربها» وروى مالك، في «الموطأ»، أن أبا هريرة مرّ بقوممٍ محرمين فاستفتوه في لَحْم صيد وجدوا أناساً أحلة يأكلونه فأفتاهم بالأكل منه ثم قدم المدينة فسأل عُمر بن الخطاب عن ذلك فقال له عمر بمَ أفتيتَهم قال‏:‏ أفتيتهم بأكله فقال‏:‏ «لو أفتيتهم بغير ذلك لأوْجَعْتُك»‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏كأنما يساقون إلى الموت‏}‏ في موضع الحال من الضمير المرفوع في ‏{‏يجادلونك‏}‏ أي حالتهم في وقت مجادلتهم إياك تشبه حالتهم لو ساقهم سائق إلى الموت، والمراد بالموت الحالة المضادة للحياة وهو معنى تكرهه نفوس البشر، ويصوره كل عقل بما يتخيله من الفظاعة والبشاعة كما تصوره أبو ذؤيب في صورة سَبُع في قوله‏:‏

وإذا المنية أنشبت أظفارها *** وكما تخيل، تأبط شراً الموت طامعا في اغتياله فنجا منه حين حاصره أعداؤه في جحر في جبل‏:‏

فَخَالطَ سَهْلَ الأرض لم يكدح الصفا *** به كَدْحةً والموتُ خزيانُ يَنظر

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كأنما يساقون إلى الموت‏}‏ تشبيه لحالهم، في حين المجادلة في اللحاق بالمشركين، بحال من يجادل ويمانع من يسوقه إلى ذات الموت‏.‏

وهذا التفسير أليق بالتشبيه لتحصل المخالفة المطلقة بين الحالة المشبهة والحالة المشبه بها، وإلا فإن أمرهم بقتال العدو الكثير العَدد، وهم في قلة، إرْجاء بهم إلى الموت إلا أنه موت مظنون، وبهذا التفسير يظهر حسن موقع جملة‏:‏ ‏{‏وهم ينظرون‏}‏ أما المفسرون فتأولوا الموت في الآية بأنه الموت المتيقن فيكون التخالف بين المشبه والمشبه به تخالفاً بالتقييد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وهم ينظرون‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يساقون‏}‏ ومفعول ‏{‏ينظرون‏}‏ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏إلى الموت‏}‏ أي‏:‏ وهم ينظرون الموتَ، لأن حالة الخوف من الشيء المخوف إذا كان منظوراً إليه تكون أشد منها لو كان يعلم أنه يساق إليه ولا يَراه، لأن للحس من التأثير على الإدراك ما ليس لمجرد التعقل، وقريب من هذا المعنى قول جعفر بن عُلْبَةَ‏:‏

يَرى غمراتتِ الموت ثم يزورها ***

وفي عكسه في المسرة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأغرقنا آل فرعون وأنتُم تنظرون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 50‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ‏(‏7‏)‏ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

الأحسن أن تكون ‏{‏وإذ يعدكم الله‏}‏ معطوفاً على ‏{‏كما أخرجك‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 5‏]‏ عطفَ المفرد على المفرد فيكون المعطوف مشبهاً به التشبيه المفاد بالكاف والمعنى‏:‏ كاخراجك اللَّهُ من بيتك وكوقتتِ يعدكم الله إحدى الطائفتين الآية واسم الزمان إذا أضيف إلى الجملة كانت الجملة في تأويل المفرد فتُؤَول بمصدر، والتقدير‏:‏ وكوقت وعد الله إحدى الطائفتين، ف ‏{‏إذ‏}‏ اسم زمان متصرف مجرور بالعطف على مجرور كاف التشبيه، وجعَل صاحب «الكشاف» ‏{‏إذْ‏}‏ مفعولاً لفعل ‏(‏اذكر‏)‏ محذوف شأن ‏{‏إذْ‏}‏ الواقعة في مفتتح القِصص، فيكون عطفُ جملةِ الأمر المقدرِ على جملة ‏{‏قل الأنفال لله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏ والمناسبة هي أن كلا القولين فيه توقيفهم على خطأ رأيهم وأن ما كرهوه هو الخير لهم‏.‏

و«الطائفة» الجماعة من الناس، وتقدم عند قوله ‏{‏فلتقم طائفةٌ منهم معك‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏‏.‏

‏(‏وجملة‏:‏ ‏{‏أنّها لكم‏}‏ في تأويل مصدر، هو بدل اشتمال من إحدى الطائفتين، أي‏:‏ يعدكم مصيرَ إحدى الطائفتين لكم، أي كونها معطاة لكم، وهو إعطاء النصر والغلبة عليها بين قتل وأسر وغنيمة‏.‏

واللام للملك وهو هنا ملك عُرفي، كما يقولون كان يومُ كذا لبني فلان على بني فلان، فيعرف أنه كان لهم فيه غلبة حرب وهي بالقتل والأسر والغنيمة‏.‏

‏{‏وتَودون‏}‏ إما عطف على ‏{‏يعَدكم‏}‏ أي إذ يقع الوعد من الله والود منكم، وإما في موضع الحال والواو واو الحال، أي يعدكم الله إحدى الطائفتين في حال ودكم لقاء الطائفة غير ذات الشوكة وهذا الود هو محل التشبيه الذي أفاده عطف ‏{‏وإذ يعدكم‏}‏، مجرور الكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كما أخرجك ربك من بيتك بالحق‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 5‏]‏ فهو مما شبه به حال سُؤالهم عَن الأنفال سؤالاً مشوباً بكراهية صرف الأنفال عن السائلين عنها الرائمين أخذها‏.‏

و«الوُد» المحبة و‏{‏ذات الشوكة‏}‏ صاحبة الشوكة ووقع ‏{‏ذات‏}‏ صفة لمقدر تقديره الطائفة غير ذات الشوكة، أي الطائفة التي لا تستطيع القتال‏.‏

و ‏{‏الشوكة‏}‏ أصلها الواحدة من الشوك وهو ما يخرج في بعض النبات من أعواد دقيقة تكون محددة الأطراف كالإبَر، فإذا نزغت جلد الإنسان أدْمته أو آلمته، وإذا عَلِقَت بثوب أمسكَتْه، وذلك مثل ما في ورق العَرفج، ويقال هذه شجرة شائكة، ومن الكناية عن ظهور الشر قولُهم‏:‏ «إن العَوسج قد أوْرق»، وشوكة العقرب البضعة التي في ذنبها تلسع بها‏.‏

وشاع استعارة الشوكة للبأس، يقال‏:‏ فلان ذو شوكة، أي ذو بأس يتقى كما يستعار القرن للبَاس في قولهم‏:‏ أبدى قَرنه، والناب أيضاً في قولهم‏:‏ كشّر عن نابه، وذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس أي تودون الطائفة التي لا يخشى بأسها تكون لكم أي ملككم فتأخذونهم‏.‏

وقد أشارت الآية إلى ما في قصة بدر حين أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بانصراف عِير قريش نحو الساحل وبمجيء نفيرهم إلى بدر، وأخبرهم أن الله وعدهم إحدى الطائفتين، أي إما العِير وإمّا النفير وعداً معلقاً على اختيارهم إحداهما، ثم استشارهم في الأمر أيختارون اللحاق بالعِير أم يقصدون نفير قريش، فقال الناس‏:‏ إنما خرجنا لأجل العِير، وراموا اللحاق بالعِير واعتذروا بضعف استعدادهم وأنهم يخرجوا لمقاتلة جيش، وكانت العِير لا تشتمل إلا على أربعين رجلاً وكان النفير فيما قيل يشتمل على ألف رجل مسلّح، فذلك معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم‏}‏ أي تودون غنيمة بدون حرب، فلما لم يطمعوا بلقاء الجيش وراموا لقاء العِير كانوا يودون أن تحصل لهم غنيمة العير ولعل الاستشارة كانت صورية، أمر الله بها نبيّه لتثبيت المسلمين لئلا تهن قوتهم النفسية إن أُعلموا بأنهم سيلقون ذات الشوكة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ويريد الله أن يحق الحق بكلماته‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وتودون‏}‏ على احتمالي أن واوَها للعطف أو للحال، والمقصود من الإخبار بهذه الجمل الثلاث إظهار أن ما يودونه ليس فيه كمال مصلحتهم، وأن الله اختار لهم ما فيه كمال مصلحتهم، وإن كان يشق عليهم ويرهبهم فإنهم لم يطّلعوا على الأصلح بهم‏.‏ فهذا تلطف من الله بهم‏.‏

والمراد من الإرادة هنا إرادة خاصة وهي المشيئة والتعلق التنجيزي للإرادة التي هي صفة الذات‏.‏ فهذا كقوله‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ أي يسَّر بكم‏.‏

ومعنى ‏{‏يُحق الحق‏}‏‏:‏ يثبت ما يسمى الحق وهو ضد الباطل يقال‏:‏ حق الشيء، إذا ثبت قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن حَق عليه كلمة العذاب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 19‏]‏‏.‏

والمراد بالحق‏.‏ هنا‏:‏ دين الحق وهو الإسلام، وقد أطلق عليه اسم الحق في مواضع كثيرة من القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏حتى جاءهم الحق ورسولٌ مبينٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 29‏]‏ الآية‏.‏

وإحقاقه باستيصال معانديه، فأنتم تريدون نفعاً قليلاً عاجلاً، وأراد الله نفعاً عظيماً في العاجل والآجل‏.‏ والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ليُحق الحَق‏}‏ جناس الاشتقاق‏.‏ وفيه دلالة على أن أصل مادة الحق هو فعل حق‏.‏ وأن أصل مادة الباطل هي فعل بَطل‏.‏ ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم للذين قالوا في التشهد السلام على الله فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله هو السلام‏.‏

وكلمات الله ما يدل على مراده وعلى كلامه النفسي، حقيقه من أقوال لفظية يخلقها خلقاً غير متعارف ليفهمها أحد البشر ويبلغها عن الله، مثل القرآن، أو مجازاً من أدلة غير لفظية، مثل ما يخاطب به الملائكة المحكي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العليّ الكبير‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 23‏]‏ وفسره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قضى الله الأمر في السماء ضَربت الملائكة بأجنحتها خُضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فُزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قال للذي قالَ‏:‏ الحق وهو العلي الكبير»

والجمع المعرف بالإضافة يفيد العموم، فقوله‏:‏ ‏{‏بكلماته‏}‏ يعم أنواع الكلام الذي يوحي به الله الدال على إرادته تثبيت الحق‏.‏ مثل آيات القرآن المنزلة في قتال الكفار وما أمر به الملائكة من نصرتهم المسلمين يوم بدر‏.‏

والباء في ‏{‏بكلماته‏}‏ للسببية، وذكر هذا القيد للتنويه بإحقاق هذا الحق وبيان أنه مما أراد الله ويسره وبينه للناس من الأمر، ليقوم كل فريق من المأمورين بما هو حظه من بعض تلك الأوامر، وللتنبيه على أن ذلك واقع لا محالة لأن كلمات الله لا تتخلف كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يريدون أن يبدلو كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏، ولمدح هذا الإحقاق بأنه حصل بسبب كلمات الله‏.‏

وقطع دابر الشيء إزالة الشيء كله إزالة تأتي على آخر فرد منه يَكون في مؤخرته من ورائه وتقدم في قوله ‏{‏فقطع دابر القوم الذين ظلموا‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 45‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أردتم الغنيمة وأراد الله إظهار أمركم وخضذ شوكه عدوكم وإن كان ذلك يَحرمكم الغنى العارض فإن أمنكم واطمئنان بالكم خير لكم وأنتم تحسبون أن لا تستطيعوا هزيمة عدوكم‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليحق الحق ويبطل الباطل‏}‏ لام التعليل‏.‏ وهي متعلقة بقوله ‏{‏ويريد الله أن يحق الحق بكلماته‏}‏ أي إنما أراد ذلك وكون أسبابه بكلماته لأجل تحقيقه الحق وإبطاله الباطلَ‏.‏

وإذ قد كان محصول هذا التعليل هو عين محصول المعلل في قوله‏:‏ ‏{‏ويريد الله أن يحق الحق بكلماته‏}‏ وشان العلة أن تكون مخالفة للمعلل، ولو في الجملة، إذ فائدة التعليل إظهار الغرض الذي يقصده الفاعل من فعله، فمقتضى الظاهر أن لا يكون تعليل الفعل بعين ذلك الفعل، لأن السامع لا يجهل أن الفاعل المختار ما فعل فعلاً إلا وهو مرادٌ له، فإذا سمعنا من كلام البليغ تعليل الفعل بنفس ذلك الفعل، كان ذلك كناية عن كونه ما فعل ذلك الفعل إلا لذاتتِ الفعل، لا لغرض آخر عائد عليه، فإفادة التعليل حينئذ معنى الحصر حاصلة من مجرد التعليل بنفس المعلّل‏.‏

والحصر هنا من مستتبعات التركيب، وليس من دلالة اللفظ، فافهمه فإنه دقيق وقد وقعت فيه غفلات‏.‏

ويجوز أن يكون الاختلاف بين المعلل والعلة بالعموم والخصوص أي يريد الله أن يحق الحق في هذه الحادثة لأنه يريد إحقاق الحق عموماً‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏ويبطل الباطل‏}‏ فهو ضد معنى قوله‏:‏ ‏{‏ليُحق الحق‏}‏ وهو من لوازم معنى ليُحق الحق، لأنه إذا حصل الحق ذهب الباطل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهقٌ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 18‏]‏، ولما كان الباطل ضد الحق لزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر‏.‏ ومن لطائف عبد الله بن عباس أنه قال لعُمر بن أبي ربيعة‏:‏ كم سِنّك فقال ابن أبي ربيعة وُلدت يوم مات عمر بن الخطاب، فقال ابن عباس‏:‏ «أي حق رُفع وأيّ باطل وضع» أي في ذلك اليوم، ففائدة قوله‏:‏ ‏{‏ويبطل الباطل‏}‏ التصريح بأن الله لا يرضى بالباطل، فكان ذكر بعد قوله‏:‏ ‏{‏ليحق الحق‏}‏ بمنزلة التوكيد لقوله ‏{‏ليحق الحق‏}‏ لأن ثبوت الشيء قد يُؤكد بنفي ضده كقوله تعالى‏:‏

‏{‏قد ضلوا وما كانوا مهتدين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 140‏]‏‏.‏

ويجيء في قوله‏:‏ ‏{‏ويبطل الباطل‏}‏ من معنى الكلام، ومن جناس الاشتقاق، ما جاء في قوله‏:‏ ‏{‏أن يحق الحق‏}‏ ثم في مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏ليُحق الحق‏}‏ بقوله ‏{‏ويُبطل الباطل‏}‏ محسن الطباق‏.‏

‏{‏ولو كره المجرمون‏}‏ شرط اتصالي‏.‏ و‏{‏لو‏}‏ اتصالية تدل على المبالغة في الأحوال، وهو عطف على ‏{‏يريد الله‏}‏، أو على ‏{‏ليُحِق الحق‏}‏ أي يريد ذلك لذلك لا لغيره، ولا يصد مراده ما للمعاندين من قوة بأن يكرهَه المجرمون وهم المشركون‏.‏

والكراهة هنا كناية عن لوازمها وهي الاستعداد لمقاومة المراد من تلك الإرادة، فإن المشركين، بكثرة عددهم وعُددهم، يريدون إحقاق الباطل، وإرادة الله تنفذ بالرغم على كراهة المجرمين، وأمّا مجرد الكراهة فليس صالحاً أن يكون غاية للمبالغة في أحوال نفوذ مراد الله تعالى إحقاقَ الحق‏:‏ لأنه إحساس قاصر على صاحبه، ولكنه إذا بعثه على مدافعة الأمر المكروه كانت أسباب المدافعة هي الغاية لنفوذ الأمر المكروه على الكاره‏.‏

وتقدم الكلام على ‏{‏لو‏}‏ الاتصالية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو افتدى به‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 170‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

يتعلق ظرف ‏{‏إذ تستغيثون ربكم‏}‏ بفعل ‏{‏يريد الله‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏ لأن إرادة الله مستمر تعلقها بأزمنة منها زمانُ استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمينَ ربّهم على عدوهم، حين لقائهم مع عدوهم يومَ بدر، فكانت استجابة الله لهم بإمدادهم بالملائكة، من مظاهر إرادته تحقيقَ الحق فكانت الاستغاثةُ يوم القتال في بدر وإرادة الله أن يُحِق الحق حصلت في المدينة يوم وعَدَهم الله إحدى الطائفتين، ورشح لهم أن تكون إحدى الطائفتين ذات الشوكة، وبيْنَ وقت الإرادة ووقت الاستغاثة مدةَ أيام، ولكن لما كانت الإرادة مستمرة إلى حين النصر يوم بدر صح تعليق ظرف الاستغاثة بفعلها، لأنه اقترن ببعضها في امتدادها، وهذا أحسن من الوجوه التي ذكروها في متعلق هذا الظرف أو موقعه‏.‏

وقد أشارت الآية إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب قال «نظر نبيء الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فاستقبل نبيء الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه‏:‏ اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تَهْلك هذه العصابة من أهل الإسلام ‏(‏لا‏)‏ تُعَبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمَه من ورائه فقال يا نبيء الله كفَاك مُناشَدَةُ ربّك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله ‏{‏إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردَفين‏}‏ أي فأنزل الله في حكاية تلك الحالة‏.‏ وعلى هذه الرواية يكون ضمير ‏{‏تستغيثون‏}‏ مراداً به النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بضمير الجماعة لأنه كان يدعو لأجلهم، ولأنه كان معلنا بدعائه وهم يسمعونه، فهم بحال من يدعون، وقد جاء في «السيرة» أن المسلمين لما نزلوا ببدر ورأوا كثرة المشركين استغاثوا الله تعالى فتكون الاستغاثة في جميع الجيش والضمير شاملاً لهم‏.‏

والاستغاثة‏:‏ طلب الغوث، وهو الإعانة على رفع الشدة والمشقة ولما كانوا يومئذ في شدة ودعوا بطلب النصر على العدو القوي كان دعاؤهم استغاثة‏.‏

‏{‏فاستجاب لكم‏}‏ أي وعدكم بالإغاثة‏.‏

وفعل استجاب يدل على قبول الطلب، والسين والتاء فيه للمبالغة أي تحقيق المطلوب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أني ممدكم بألف من الملائكة‏}‏ هو الكلام المستجاب به ولذلك قدره في «الكشاف» بأن أصله بأني ممدكم أي فحذف الجار وسلط عليه ‏{‏استجاب‏}‏ فنصب محله‏.‏

وأرى أن حرف ‏(‏أن‏)‏ المفتوحة الهمزة المشددة النون إذا وقعت بعد ‏(‏ما‏)‏ فيه معنى القول دون حروفه أن تكون مفيدة للتفسير مع التأكيد كما كانت تفيد معنى المصدرية مع التأكيد، فمن البيّن أن ‏(‏أن‏)‏ المفتوحة الهمزة مركبة من ‏(‏أنْ‏)‏ المفتوحة الهمزة المخففة النون المصدرية في الغالب، يجوز أن يُعتبر تركيبها من ‏(‏أنْ‏)‏ التفسيرية إذا وقعت بعد ‏(‏ما‏)‏ فيه معنى القول دون حروفه، وذلك مظنة ‏(‏أن‏)‏ التفسيرية، وأعْتضِدُ بما في «اللسان» من قول الفراء‏:‏ «إذا جاءت ‏[‏أن‏:‏‏]‏ بعد القول وما تصرف من القول كانت حكاية، فلم يقع عليها ‏(‏أي القول‏)‏ فهي مكسورة، وإن كانت تفسيراً للقول نصبتَها ومثله‏:‏ قد قلت لك كلاماً حسناً أن أباك شريف، فحتَ أن لأنها فسرت الكلام‏.‏

قلت‏:‏ ووقوع ‏(‏أن‏)‏ موقع التفسير كثير‏:‏ في الكلام‏.‏ وفي القرآن، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ الآية، ومن تأمل بإنصاف وجد متانة معنى قوله‏:‏ ‏{‏أني ممدكم بألف من الملائكة‏}‏ في كون ‏(‏أن‏)‏ تفسيرية، دون كونها مجرورة بحرف جر محذوف‏.‏ مع أن معنى ذلك الحرف غير بين‏.‏

والإمداد إعطاء المدد وهو الزيادة من الشيء النافع‏.‏

وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب‏:‏ بفتح الدال من ‏{‏مردَفين‏}‏ أي يَرِدُ فهم غيرُهم من الملائكة، وقرأ البقية‏:‏ بكسر الدال أي تكون الألف رادِفاً لغيرهم قبلَهم‏.‏

والإرداف الإتباع والإلحاق فيكون الوعد بألف وبغيرها على ما هو متعارف عندهم من إعداد نجدة للجيش عند الحاجة تكون لهم مدداً، وذلك أن الله أمدهم بآلاف من الملائكة بلغوا خمسة آلاف كما تقدم في سورة آل عمران، ويجوز أن يكون المراد بألف هنا مطلق الكثرة فيفسره قوله‏:‏ ‏{‏بثلاثة آلافٍ‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏124‏)‏، وهم مردَفون بألفين، فتلك خمسة آلاف، وكانت عادتهم في الحرب إذا كان الجيش عظيماً أن يبعثوا طائفة منه ثم يعقبوها بأخرى لأن ذلك أرهب للعدو‏.‏

ويوجه سيوفهم، وحلول الملائكة في المسلمين كان بكيفية يعلمها الله تعالى‏:‏ إما بتجسيم المجردات فيراهم من أكرمه الله برؤيهم، وإما بإراءة الله الناس ما ليس من شأنه أن يُرى عادة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏أني مُمدكم بألففٍ من الملائكة مردَفين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 9‏]‏ فالضمير المنصوب في قوله‏:‏ ‏{‏جَعله‏}‏ عائِد إلى القول الذي تضمنه ‏{‏فاستجاب لكم أني ممدكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 9‏]‏ أي ما جعل جوابكم بهذا الكلام إلاّ ليبشركم، وإلاّ فقد كان يكفيكم أن يضمن لكم النصر دون أن يبين أنه بإمداد من الملائكة‏.‏

وفائِدة التبشير بإمداد الملائكة أن يوم بدر كان في أول يوم لقي فيه المسلمون عدواً قوياً وجيشاً عديداً، فبشرهم الله بكيفية النصر الذي ضمنه لهم بأنه بجيش من الملائكة، لأن النفوس أمْيل إلى المحسوسات، فالنصر معنى من المعاني يدق إدراكه وسكون النفس لتصوره بخلاف الصور المحسوسة من تصوير مَدد الملائكة ورؤية أشكال بعضهم‏.‏

وتقدم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران إلاّ لتعرض لما بين الآيتين من اختلاف في ترتيب النظم وذلك في ثلاثة أمور‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قال في آل عمران ‏(‏126‏)‏‏:‏ ‏{‏إِلا بشرى لكم‏}‏ وحُذف ‏(‏لكم‏)‏ هنا دفعاً لتكرير لفظه لسبق كلمة ‏{‏لكم‏}‏ قريباً في قوله‏:‏ ‏{‏فاستجاب لكم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 9‏]‏ فعلم السامع أن البشرى لهم، فأغنت ‏{‏لكم‏}‏ الأولى، بلفظها ومعناها، عن ذكر ‏{‏لكم‏}‏ مرة ثانية، ولأن آية آل عمران سيقت مساق الامتنان والتذكير بنعمة النصر في حين القلة والضعف، فكان تقييد ‏{‏بشرى‏}‏ بأنها لأجلهم زيادة في المنة أي‏:‏ جعل الله ذلك بشرى لأجلكم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نشرح لكَ صدرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏ وأما آية الآنفال فهي مسوقة مساق العتاب على كراهية الخروج إلى بدر في أول الأمر، وعلى اختيار أن تكون الطائفة التي تلاقيهم غير ذات الشوكة، فجرد ‏{‏بشرى‏}‏ عن أن يعلق به ‏{‏لكم‏}‏ إذ كانت البشرى للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن لم يترددوا من المسلمين، وقد تقدم ذلك في آل عمران‏.‏

ثانيها‏:‏ تقديم المجرور هنا في قوله‏:‏ ‏{‏به قلوبكم‏}‏ وهو يفيد الاختصاص، فيكون المعنى‏:‏ ولتطمئن به قلوبكم لا بغيره، وفي هذا الاختصاص تعريض بما اعتراهم من الوجل من الطائفة ذات الشوكة وقناعتهم بغُنم العُروض التي كانت مع العِير، فعُرض لهم بأنهم لم يتفهموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم حين استشارهم، وأخبرهم بأن العير سلكتْ طريق الساحل فكان ذلك كافياً في أن يعلموا أن الطائفة الموعود بها تمحضت أنها طائفة النفير، وكان الشأن أن يظنوا بوعد الله أكمل الأحوال، فلما أراد الله تسكين روعهم، وعَدهم بنصرة الملائكة علماً بأنه لا يُطْمئِنُ قُلوبهم إلاّ ذلك، وجعل الفخرُ‏:‏ التقديمَ هنا لمجرد الاهتمام بذلك الوعد، وذلك من وجوه التقديم لكنه وجّه تأخيره في آل عمران بما هو غير مقبول‏.‏

ثالثها‏:‏ أنه قال في سورة آل عمران ‏(‏126‏)‏ ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ فصاغ الصفتين العَلِيتَيْن في صيغة النعت، وجعلهما في هذه الآية في صيغة الخبر المؤكد، إذ قال‏:‏ إن الله عزيز حكيم‏}‏ فنزّل المخاطبين منزلة مَن يتردد في أنه تعالى موصوف بهاتين الصفتين‏:‏ وهما العزة، المقتضية أنه إذا وعَد بالنصر لم يُعجزه شيء، والحكمةُ، فما يصدر من جانبه غوصُ الإفهام في تبيّن مقتضاءه، فكيف لا يهتدون إلى أن الله لما وعدهم الظَفَر بإحدى الطائفتين وقد فاتتهم العير أن ذلك آيل إلى الوعد بالظفَر بالنفير‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن الله عزيز حكيم‏}‏ مستأنفة استينافاً ابتدائياً جعلت كالإخبار بما ليس بمعلوم لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، فقَرَنَها، في قَرَن زمانها، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذْ الزمانية، وهذا من أبدع التخلص، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب‏.‏

ولذلك فالوجه أن يكون هذا الظرف مفعولاً فيه لقوله‏:‏ ‏{‏ومَا النصر‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 10‏]‏ فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، فلا جرم أن يكون وقت حُصوله طرفاً للنصر‏.‏

والغَشْيُ والغشيان كون الشيء غاشياً أي غاماً ومغطياً، فالنوم يغطي العَقل‏.‏

والنعاسُ النوم غير الثقيل، وهو مثل السَّنة‏.‏

وقرأ نافع، وأبو جعفرُ‏:‏ ‏{‏يُغْشِيكم‏}‏، بضم التحتية وسكون الغين وتخفيف الشين بعدها ياء مضارع أغشاه وبنصب ‏{‏النعاسَ‏}‏ والتقدير‏:‏ إذ يغشيكم الله النعاسَ، والنعاس مفعول ثاني ليغشي بسبب تعدية الهمزة وقرأه ابنُ كثير، وأبو عمرو‏:‏ بفتح التحتية وفتح الشين بعدها ألف، وبرفع النعاس، على أن يغشاكم مضارع غشي والنعاس فاعل، وقرأه الباقون‏:‏ بضم التحتية وفَتح الغين وتشديد الشين ونصب النعاس، على أنه مضارع غشاه المضاعف والنعاس مفعول ثان‏.‏

فإسناد الإغشاء أو التغشية إلى الله لأنه الذي قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف، ولا يكون عامّاً سائرَ الجيش، فهو نوم منحهم الله إياه لِفائِدتهم‏.‏

وإسناد الغشي إلى النعاس حقيقة على المتعارف وقد علم أنه من تقدير الله بقوله ‏{‏أمنة منه‏}‏‏.‏

و ‏(‏الأمنة‏)‏ الأمن، وتقدم في آل عمران، وهو منصوب على المفعول لأجله على قراءة من نصب ‏(‏النعاس‏)‏، وعلى الحال على قراءة من رفع ‏(‏النعاس‏)‏‏.‏

وإنما كان ‏(‏النعاس‏)‏ أمناً لهم لأنهم لمّا ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم فتلك نعمة، ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب‏.‏

وصيغة المضارع في ‏{‏يُغشيكم‏}‏ لاستحضار الحالة‏.‏

و ‏(‏مِنْ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ للابتداء المجازي، وهو وصف ل ‏(‏أمنة‏)‏ لإفادة تشريف ذلك النعاس وأنه وارد من جانب القُدس، فهو لطْف وسكينة ورحمة ربَانية، ويتأكد به إسناد الإغشاء إلى الله، على قراءة من نصبوا ‏(‏النعاس‏)‏، تنبيهاً على أنه إسناد مخصوص، وليس الإسناد الذي يعم المقدورات كلها، وعلى قراءة من رفعوا ‏(‏النعاس‏)‏ يكون وصف الأمنة بأنها منه سارياً إلى الغَشي فيعلم أنه غشي خاص قُدسي، وليس مثل سائِر غشيان النعاس فهو خارق للعادة كان كرامة لهم وقد حصل ذلك للمسلمين يومَ بدر كما هو صريح هذه الآية وحصل النعاس يوم أُحُد لطائفة من الجيش قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم‏}‏ وتقدم في سورة آل عمران ‏(‏154‏)‏، وفي صحيح البخاري عن أبي طلحة قال‏:‏ «كنتُ فيمن تَغَشّاه النعاس يومَ أُحُد حتى سَقط سيفي من يدي مراراً»

وذكر الله مِنةٌ أخرى جاءت في وقت الحاجة‏:‏ وهي أنه أنزل عليهم المَطر يوم بَدر، فإسناد هذا الإنزال إلى الله تعالى للتنبيه على أنه أكرمهم به وذلك لكونه نزل في وقت احتياجهم إلى الماء، ولعله كان في غير الوقت المعتاد فيه نزول الأمطار في أُفُقِهم، قال أهل السير‏:‏ كان المسلمون حين اقتربوا من بدر راموا أن يسبقوا جيش المشركين إلى ماء بدر، وكان طريقهم دَهْساء أي رملاً ليناً، تسوخ فيه الأرجل فشق عليهم إسراع السير إلى الماء وكانت أرض طريق المشركين ملبدة، فلما أنزل الله المطر تلبدت الأرض فصار السير أَمكن لهم، واستوحلتْ الأرض للمشركين فصار السير فيها متعباً، فأمكن للمسلمين السبق إلى الماء من بدر ونزلوا عليه وادخروا ماء كثيراً من ماء المطر، وتطهروا وشربوا، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان‏}‏‏.‏

و ‏(‏الرجز‏)‏ القَذَر، والمراد الوسخ الحِسي وهو النجس، والمعنوي المعبر عنه في كتب الفقه بالحَدَث‏.‏ والمراد الجنابة، وذلك هو الذي يعم الجيش كله فلذلك قال‏:‏ ‏{‏ويذهب عنكم رجز الشيطان‏}‏، وإضافته إلى الشيطان لأن غالب الجيش لما ناموا احتلموا فأصبحوا على جنابة وذلك قد يكون خواطر الشيطان يخيلها للنائِم ليفسد عليه طهارته بدون اختيار طمعاً في تثاقله عن الاغتسال حتى يخرج وقت صلاة الصبح، ولأن فقدان الماء يلجئهم إلى البقاء في تنجس الثياب والأجساد والنجاسة تلائم طبع الشيطان‏.‏

وتقدير المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏عنكم رجز الشيطان‏}‏ للرعاية على الفاصلة، لأنها بنيت على مد وحرف بعده في هذه الآيات والتي بعدها مع ما فيه من الاهتمام بهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وليربط على قلوبكم‏}‏ أي يؤمنّكم بكونكم واثقين بوجود الماء لا تخافون عطشاً وتثبيت الأقدام هو التمكن من السير في الرمل، بأن لا تسوخ في ذلك الدهس الأرجل، لأن هذا المعنى هو المناسب حصوله بالمطر‏.‏

و ‏(‏الربط‏)‏ حقيقته شد الوثاق على الشي وهو مجاز في التثبيت وإزالة الاضطراب ومنه قولهم‏:‏ فُلان رابط الجأش وله رباطة جَأش‏.‏

و ‏{‏على‏}‏ مستعارة لتمكن الربط فهي ترشيح للمجاز‏.‏