فصل: تفسير الآية رقم (222)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏219- 220‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏220‏)‏‏}‏

استئناف لإبطال عملين غالبين على الناس في الجاهلية وهما شرب الخمر والميسر وهذا من عداد الأحكام التي بينها في هاته السورة مما يرجع إلى إصلاح الأحوال التي كان عليها الناس في الجاهلية، والمشروع في بيانها من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى يَسْھَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏ إلى آخر السورة، عدا ما تخلل ذلك من الآداب والزواجر والبشائر والمواعظ والأمثال والقصص؛ على عادة القرآن في تفنن أساليبه تنشيطاً للمخاطبين والسامعين والقارئين ومن بلغ، وقد تناسقت في هذه الآية‏.‏

والسائلون هم المسلمون؛ قال الواحدي‏:‏ نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل متلفة للمال، فنزلت هذه الآية، قال في «الكشاف»‏:‏ فلما نزلت هذه الآية ترك الخمر قوم وشربها آخرون ثم نزلت بعدها آية المائدة ‏(‏90‏)‏‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر‏.‏‏}‏ وشرب الخمر عمل متأصل في البشر قديماً لم تحرمه شريعة من الشرائع لا القدر المسكر بله ما دونه، وأما ما يذكره علماء الإسلام أن الإسكار حرام في الشرائع كلها فكلام لا شاهد لهم عليه بل الشواهد على ضده متوافرة، وإنما جرأهم على هذا القول ما قعدوه في أصول الفقه من أن الكليات التشريعية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال والعرض هي مما اتفقت عليه الشرائع، وهذا القول وإن كنا نساعد عليه فإن معناه عندي أن الشرائع كلها نظرت إلى حفظ هاته الأمور في تشريعاتها، وأما أن تكون مراعاة باطراد في غير شريعة الإسلام فلا أحسب ذلك يتم، على أن مراعاتها درجات، ولا حاجة إلى البحث في هذا بيد أن كتب أهل الكتاب ليس فيها تحريم الخمر ولا التنزيه عن شربها، وفي التوراة التي بيد اليهود أن نوحاً شرب الخمر حتى سكر، وأن لوطاً شرب الخمر حتى سكر سكراً أفضى بزعمهم إلى أمر شنيع، والأخير من الأكاذيب؛ لأن النبوءة تستلزم العصمة، والشرائع وإن اختلفت في إباحة أشياء فهنالك ما يستحيل على الأنبياء مما يؤدي إلى نقصهم في أنظار العقلاء، والذي يجب اعتقاده‏:‏ أن شرب الخمر لا يأتيه الأنبياء؛ لا يشربها شاربوها إلا للطرب واللهو والسكر، وكل ذلك مما يتنزه عنه الأنبياء ولأنها يشربونها لقصد التقوى لقلة هذا القصد من شربها‏.‏

وفي سفر اللاويين من التوراة وكلم الله هارون قائلاً‏:‏ خمراً ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا‏.‏ فرضاً دهرياً في أجيالكم وللتمييز بين المقدس والمحلَّل وبين النجس والطاهر‏.‏

وشيوع شرب الخمر في الجاهلية معلوم لمن علم أدبهم وتاريخهم فقد كانت الخمر قوام أود حياتهم، وقصارى لذَّاتهم ومسرة زمانهم وملهى أوقاتهم، قال طرفة‏:‏

ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشة الفتى *** وجدك لم أحفل متى قام عُوَّدِي

فمنهن سبقي العاذلات بشَربة *** كُمَيْتتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ

وعن أنس بن مالك‏:‏ حرمت الخمر ولم يكن يومئذٍ للعرب عيش أعجب منها، وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر‏.‏ فلا جرَم أن جاء الإسلام في تحريمها بطريقة التدريج فأقر حقبةً إباحة شربها وحسبكم في هذا الامتنانُ بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 67‏]‏ على تفسير من فسر السَّكَر بالخمر‏.‏ وقيل السَّكَر‏:‏ هو النبيذ غير المسكر، والأظهر التفسير الأول‏.‏ وآية سورة النحل نزلت بمكة، واتفق أهل الأثر على أن تحريم الخمر وقع في المدينة بعد غزوة الأحزاب بأيام، أي في آخر سنة أربع أو سنة خمس على الخلاف في عام غزوة الأحزاب‏.‏ والصحيح الأول، فقد امتن الله على الناس بأن اتخذوا سكراً من الثمرات التي خلقها لهم، ثم إن الله لم يهمل رحمته بالناس حتى في حملهم على مصالحهم فجاءهم في ذلك بالتدريج، فقيل‏:‏ إن آية سورة البقرة هذه هي أول آية آذنت بما في الخمر من علة التحريم، وأن سبب نزولها ما تقدم، فيكون وصفها بما فيها من الإثم والمنفعة تنبيهاً لهم، إذ كانوا لا يذكرون إلاّ محاسنها فيكون تهيئة لهم إلى ما سيرد من التحريم، قال البغوي‏:‏ إنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله تَقَدَّم في تحريم الخمر ‏"‏ أي ابتدأَ يُهيئ تحريمها يقال‏:‏ تقدمت إليك في كذا أي عرضتُ عليك، وفي «تفسير ابن كثير»‏:‏ أنها ممهدة لتحريم الخمر على البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة أي معرضة بالكف عن شربها تنزهاً‏.‏ وجمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النساء وقبل آية سورة المائدة، وهذا رأي عمر بن الخطاب كما روى أبو داود، وروَى أيضاَ عن ابن عباس أنّه رأى أن آية المائدة نسخت ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، ونسخت آية ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر‏}‏، ونُسب لابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زين بن أسلم‏.‏

وذهب بعض المفسرين إلى أن آية البقرة هذه ثبت بها تحريم الخمر فتكون هذه الآية عندهم نازلة بعد آية سورة النساء ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وإذ كانت سورة البقرة قد نزلت قبل سورة النساء وسورة المائدة، فيجيء على قول هؤلاء أن هذه الآية نزلت بعد نزول سورة البقرة وأنها وضعت هنا إلحاقاً بالقضايا التي حكى سؤالهم عنها‏.‏

وأن معنى فيهما إثم كبير‏}‏ في تعاطيهما بشرب أحدهما واللعب بالآخر ذنب عظيم، وهذا هو الأظهر من الآية؛ إذ وُصف الإثم فيها بوصف كبير فلا تكون آية سورة العقود إلاّ مؤكدة للتحريم ونصاً عليه؛ لأن ما في آيتنا هذه من ذكر المنافع ما قد يتأوّله المتأوّلون بالعذر في شربها، وقد روي في بعض الآثار أنّ ناساً شربوا الخمر بعد نزول هذه الآية فصلّى رجلان فجعلا يهجران كلاماً لا يُدْرَى ما هو، وشرِبها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر من المشركين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه فزعاً ورفع شيئاً كان بيده ليضربه فقال الرجل‏:‏ أعوذ بالله من غضب الله ورسوله وآلى‏:‏ لا أطعمها أبداً، فأنزل الله تحريمها بآية سورة المائدة‏.‏

والخمر اسم مشتق من مصدر خَمَر الشيءَ يخمرُه من باب نصر إذا ستَره، سمي به عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذف بالزبد فصار مسكراً؛ لأنه يَستر العقل عن تصرفه الخَلْقي تسمية مجازية وهي إما تسمية بالمصدر، أو هو اسم جاء على زِنة المصدر وقيل‏:‏ هو اسم لكل مشروب مسكر سواء كان عصير عنب أوْ عصير غيره أو ماء نبذ فيه زبيب أو تمر أو غيرهما من الأنبذة وتُرك حتى يختمر ويُزبد، واستظهره صاحب «القاموس»‏.‏ والحق أن الخمر كل شراب مسكر إلا أنه غلب على عصير العنب المسكر؛ لأنهم كانوا يتنافسون فيه، وأن غيره يطلق عليه خَمر ونبيذ وفضيخ، وقد وردت أخبار صحيحة تدل على أن معظم شراب العرب يوم تحريم الخمر من فضيخ التمر، وأن أشربة أهل المدينة يومئذ خمسة غير عصير العنب، وهي من التمر والزبيب والعسل والذرة والشعير وبعضها يسمى الفضيخ، والنقيع، والسُّكَرْكَةَ، والبِتْع‏.‏ وما ورد في بعض الآثار عن ابن عمر‏:‏ نزل تحريم الخمر وبالمدينة خمسة أشربة ما فيها شراب العنب، معناه ليس معدوداً في الخمسة شرابُ العنب لقلة وجوده وليسر المراد أن شراب العنب لا يوجد بالمدينة‏.‏ وقد كان شراب العنب يجلب إلى الحجاز ونجد من اليمن والطائف والشام قال عَمرو ابن كلثوم‏:‏

ولا تُبِقي خُمور الأَنْدَرِين

وأندرين بلد من بلاد الشام‏.‏

وقد انبنى على الخلاف في مسمى الخمر في كلام العرب خلاف في الأحكام، فقد أجمع العلماء كلهم على أن خمر العنب حرام كثيرها إجماعاً وقليلها عند معظم العلماء ويحد شارب الكثير منها عند الجمهور وفي القليل خلاف كما سيأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى، ثم اختلفوا فيما عداها فقال الجمهور‏:‏ كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام وحكمه كحكم الخمر في كل شيء أخذاً بمسمى الخمر عندهم، وبالقياس الجلي الواضح أن حكمة التحريم هي الإسكار وهو ثابت لجميعها وهذا هو الصواب‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وسفيان الثوري‏:‏ يختص شراب العنب بتلك الأحكام أما ما عداه فلا يحرم منه إلا القدر المسكر، هكذا ينقل المخالفون عن أبي حنيفة، وكان العلماء في القديم ينقلون ذلك مطلقاً حتى ربما أوهم نقلهم أنه لا يرى على من سكر بغير الخمر شيئاً، ويزيد ذلك إيهاماً قاعدة أن المأذون فيه شرعاً لا يتقيد بالسلامة وربما عضدوا ذلك بمنقول قصص وحوادث كقول أبي نواس‏:‏

أباح العراقي النبيذ وشربه *** وقال حَرامان المدامة والسَّكْرُ

ولكن الذي استقر عليه الحنفية هو أن الأشربة المسكرة قسمان، أحدهما محرم شربه وهو أربعة‏:‏ ‏(‏الخمر‏)‏ وهو النيء من عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذَف بالزبد، ‏(‏والطِلاء‏)‏ بكسر الطاء وبالمد وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه ثم ترك حتى صار مسكراً، ‏(‏والسَّكَر‏)‏ بفتح السين والكاف وهو النيء من ماء الرطب أي من الماء الحار المصبوب على الرطب ثم يصير مسكراً، ‏(‏والنقيع‏)‏ وهو النيء من نبيذ الزبيب، وهذه الأربعة حرام قليلها وكثيرها ونجسة العين لكن الخمر يكفر مستحلها ويحد شارب القليل والكثير منها، وأما الثلاثة الباقية فلا يكفر مستحلها ولا يحد شاربها إلا إذا سكر‏.‏

القسم الثاني الأشربة الحلال شربها وهي نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ ولو أدنى طبخة، ونبيذ الخليطين منهما إذا طبخ أدنى طبخة، ونبيذ العسل والتين والبُرّ والشعير والذُّرة طُبخ أم لم يطبخ‏.‏ والمثلث وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فهذه الأربعة يحل شربها؛ إذا لم يقصد به اللهو والطرب بل التقوي على العبادة ‏(‏كذا‏)‏ أو إصلاح هضم الطعام أو التداوي وإلا حرمت ولا يحد شاربها إلا إذا سكر‏.‏

وهذا التفصيل دليله القياس، لأن هذه الأشربة لم يبق فيها الإسكار المعتاد، وأما الحد فلا وجه للتفصيل فيه لأنه إن كان على السكر فالجميع سواء في الإسكار، على أنه يلزم ألاّ يكون الحد إلا عند حصول السكر وليس في الآثار ما يشهد لغير ذلك، وإن كان الحد لسد الذريعة فلا أرى أن قاعدة سد الذريعة تبلغ إلى حد مرتكب الذريعة قبل حصول المتذرع إليه‏.‏ وتَمسكُّ الحنفية لهذا التفصيل بأن الأنبذة شربها الصحابة هو تمسك أوهى مما قبله، إذ الصحابة يحاشون عن شرب المسكرات وإنما شربوا الأنبذة قبل اختمارها، واسم النبيذ يطلق على الحلو والمختمر فصار اللفظ غير منضبط، وقد خالف محمد بن الحسن إمامه في ذلك فوافق الجمهور‏.‏ وربما ذكر بعضهم في الاستدلال أن الخمر حقيقة في شراب العنب النيء مجاز في غيره من الأنبذة والشراب المطبوخ، وقد جاء في الآية لفظ الخمر فيحمل على حقيقته وإلحاقُ غيره به إثبات اللغة بالقياس، وهذا باطل، لأن الخلاف في كون الخمر حقيقة في شراب العنب أو في الأعم خلاف في التسمية اللغوية والإطلاق، فبقطع النظر عنه كيف يظن المجتهد بأن الله تعالى يحرم خصوص شراب العنب ويترك غيره مما يساويه في سائر الصفات المؤثرة في الأحكام‏.‏

فإن قالوا‏:‏ إن الصفة التي ذكرت في القرآن قد سوينا فيها جميع الأشربة وذلك بتحريم القدر المسكر وبقيت للخمر أحكام ثبتت بالسنة كتحريم القليل والحد عليه أو على السُّكر فتلك هي محل النظر، قلنا‏:‏ هذا مصادرة لأننا استدللنا عليهم بأنه لا يظن بالشارع أن يفرق في الأحكام بين أشياء متماثلة في الصفات، على أنه قد ثبت في «الصحيح» ثبوتاً لا يدع للشك في النفوس مجالاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة ‏"‏ رواه النعمان بن بشير وهو في «سنن أبي داود» وقال‏:‏ ‏"‏ الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة ‏"‏ رواه أبو هريرة وهو في «سنن أبي داود»، وقال‏:‏ ‏"‏ كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ‏"‏ رواه ابن عمر في «سنن الترمذي»، وقال أنس‏:‏ لقد حُرِّمت الخمر وما نجد شراب العنب إلا قليلاً، وعامة شرابنا فضيخ التمر‏.‏ كما في «سنن الترمذي»‏.‏ وأما التوسع في الخمر بعد الطبخ، فهو تشويه للفقه ولطخ، وماذا يفيد الطبخ إن كان الإسكار لم يزل موجوداً‏.‏

وصف الله الخمر بأن فيها إثماً كبيراً ومنافع‏.‏ والإثم‏:‏ معصية الله بفعل ما فيه فساد ولا يرضى الله، وأشار الراغب إلى أن في اشتقاق الإثم معنى الإبطاء عن الخير، وقال ابن العربي في تفسير سورة الأعراف‏:‏ الإثم عبارة عن الذم الوارد في الفعل، فكأنه يشير إلى أن الإثم ضد الثواب، وظاهر اصطلاح الشريعة أن الإثم هو الفعل المذموم في الشرع، فهو ضد القربة فيكون معنى ‏{‏فيهما إثم كبير‏}‏ أنهما يتسبب منهما ما هو إثم في حال العربدة وحال الربح والخسارة من التشاجر‏.‏

وإطلاق الكبير على الإثم مجاز، لأنه ليس من الأجسام، فالمراد من الكبير‏:‏ الشديد في نوعه كما تقدم آنفاً‏.‏

وجيء بفي الدالة على الظرفية لإفادة شدة تعلق الإثم والمنفعة بهما؛ لأن الظرفية أشد أنواع التعلق، وهي هنا ظرفية مجازية شائعة في كلام العرب، وجعلت الظرفية متعلقة بذات الخمر والميسر للمبالغة، والمراد في استعمالهما المعتاد‏.‏

واختير التعبير بالإثم للدلالة على أنه يعود على متعاطي شربها بالعقوبة في الدنيا والآخرة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏إثم كبير‏}‏ بموحَّدَة بعد الكاف وقرأه حمزة والكسائي ‏(‏كثير‏)‏ بالثاء المثلثة، وهو مجازاً استعير وصف الكثير للشديد تشبيهاً لقوة الكيفية بوفرة العدد‏.‏

والمنافع‏:‏ جمع منفعة، وهي اسم على وزن مَفعلة وأصله يحتمل أن يكون مصدراً ميمياً قصد منه قوة النفع، لأن المصدر الميمي أبلغ من جهة زيادة المبنى‏.‏ ويحتمل أن يكون اسم مكان دالاً على كثرة ما فيه كقولهم مَسْبَعة ومَقْبَرة أي يكثر فيهما النفع من قبيل قولهم مَصْلَحة ومَفْسَدة، فالمنفعة على كل حال أبلغ من النفع‏.‏

والإثم الذي في الخمر نشأ عما يترتب على شربها تارة من الإفراط فيه والعربدة من تشاجر يجر إلى البغضاء والصد عن سبيل الله وعن الصلاة، وفيها ذهاب العقل والتعرض للسخرية، وفيها ذهاب المال في شربها، وفي الإنفاق على الندامى حتى كانوا ربما رهنوا ثيابهم عند الخمارين قال عُمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي‏:‏

ولسنا بشَرْببٍ أمَّ عمرو إذَا انْتَشَوْا *** ثِيابُ الندامَى عندهم كالمغانم

ولكننا يا أمَّ عمرو نديمنا *** بمنزلة الريَّان ليس بعائم

وقال عنترة‏:‏

وإذا سَكِرْتُ فإنني مُستهلك *** مالي وعِرضي وافِرٌ لم يُكْلَمِ

وكانوا يشترون الخمر بأثمان غالية ويعدون المماكسة في ثمنها عيباً، قال لبيد‏:‏

أُغْلِي السِّبَاءَ بكل أَدْكَنَ عَاتِقٍ *** أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتَامُها

ومن آثامها ما قرره الأطباء المتأخرون أنها تورث المدمنين عليها ضراراً في الكبد والرئتين والقلب وضعفاً في النَّسل، وقد انفرد الإسلام عن جميع الشرائع بتحريمها، لأجل ما فيها من المضار في المروءة حرمها بعض العرب على أنفسهم في الجاهلية، فممن حرمها على نفسه في الجاهلية قَيْس بن عاصم المِنْقَري بسبب أنه شرب يوماً حتى سكر فجذب ابنته وتناول ثوبها، ورأى القمر فتكلم معه كلاماً، فلما أخبر بذلك حين صحا آلى لا يذوق خمراً ما عاش وقال‏:‏

رأيتُ الخمرَ صالحة وفيها *** خصال تُفسد الرجلَ الحليما

فلا واللَّه أَشْرَبُها صَحِيحا *** ولا أُشْفَى بها أَبدا سَقيما

ولا أعطي بها ثَمنا حياتي *** ولا أَدعو لها أبداً نديماً

فإنَّ الخمر تفضح شاربيها *** وتُجنيهم بها الأمر العظيما

وفي «أمالي القالي» نسبة البيتين الأولين لصفوان بن أمية، ومنهم عامر بن الظَّرِب العَدْواني، ومنهم عفيف بن معد يكرب الكندي عم الأشعث بن قيس، وصفوان بن أمية الكناني، وأسلوم البالي، وسويد بن عدي الطائي، ‏(‏وأدرك الإسلام‏)‏ وأسد بن كُرْز القَسْري البَجَلي الذي كان يلقب في الجاهلية برب بجيلة، وعثمان بن عفان، وأبو بكر الصديق، وعباس بن مرداس، وعثمان بن مظعون، وأمية بن أبي الصلت، وعبد الله بن جُدْعان‏.‏

وأما المنافع فمنها منافع بدنية وهي ما تكسبه من قوة بدن الضعيف في بعض الأحوال وما فيها من منافع التجارة فقد كانت تجارة الطائف واليمن من الخمر، وفيها منافع من اللذة والطرب، قال طرفة‏:‏

ولولا ثلاث هُنَّ من عيشة الفتى *** وجدك لم أَحفل متى قام عُوَّدِي

فمنهن سَبْقِي العاذِلات بشَرْبَة *** كُمَيْتتٍ متى ما تُعْلَ بالمَاء تُزْبِد

وذهب بعض علمائنا إلى أن المنافع مالية فقط فراراً من الاعتراف بمنافع بدنية للخمر وهو جحود للموجود ومن العجيب أن بعضهم زعم أن في الخمر منافع بدنية ولكنها بالتحريم زالت‏.‏

وذُكر في هذه الآية الميسر عطفاً على الخمر ومخبراً عنهما بأخبار متحدة فما قيل في مقتضى هذه الآية من تحريم الخمر أو من التنزيه عن شربها يقال مثله في الميسر، وقد بان أن الميسر قرين الخمر في التمكن من نفوس العرب يومئذ وهو أكبر لهو يَلْهُون به، وكثيراً ما يأتونه وقت الشراب إذا أعوزهم اللحم للشِّواء عند شرب الخمر، فهم يتوسلون لنحر الجَزور ساعتئذ بوسائل قد تبلغ بهم إلى الاعتداء على جزر الناس بالنحر كما في قصة حمزة، إذ نحر شارفاً لعليّ بن أبي طالب حين كان حمزة مع شَرْب فغنته قينته مغرية إياه بهذا الشارف‏:‏

ألا يا حَمْزَ للشُّرُف النِّوَاءِ *** وهُنَّ معقَّلاتٌ بالفِناء

فقام إليها فشق بطنها وأخرج الكبد فشواه في قصة شهيرة، وقال طرفةُ يذكر اعتداءه على ناقة من إبل أبيه في حال سُكره‏:‏

فَمَرَّتْ كَهَاةٌ ذات خَيْففٍ جُلاَلَةٌ *** عَقِيلةُ شَيْخخٍ كالوَبيل يَلَنْدَدِ

يقول وقد تَرَّ الوَظيفَ وساقَها *** أَلَسْتَ ترى أن قد أتيتَ بمُؤْيِدِ

وقال ألا ماذا ترون بشارب *** شديد علينا بغيه متعمِّدِ

فلا جرم أن كان الميسر أيسر عليهم لاقتناء اللحم للشرب ولذلك كثر في كلامهم قرنه بالشُّرب، قال سبرة بن عمرو الفقعسي يذكر الإبل‏:‏

نُحَابي بها أَكْفَاءَنَا ونُهِينها *** ونَشْرَبُ في أثمانها ونُقَامِرُ

وذكر لبيد الخمر ثم ذكر الميسر في معلقته فقال‏:‏

أغلى السِّباءَ بكل أَدْكَنَ عَاتِقٍ *** أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتَامُها

ثم قال‏:‏

وجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِها *** بمَغَالِققٍ مُتَشَابِهٍ أَجْسَامُها

وذكرهما عنترة في بيت واحد فقال يذكر محاسن قرنه الذي صرعه في الحرب‏:‏

رَبِذٍ يَدَاهُ بالقِدَاححِ إذَا شَتَا *** هَتَّاككِ غَايَاتتِ التِّجار مُلَوَّمَ

فلأجل هذا قُرن في هذه الآية ذكر الخمر بذكر الميسر، ولأجله اقترنا في سؤال السائلين عنهما إن كان ثمة سؤال‏.‏

والميسر‏:‏ اسم جنس على وزن مَفْعِل مشتق من اليُسر، وهو ضد العسر والشدة، أو من اليسار وهو ضد الإعسار، كأنهم صاغوه على هذا الوزن مراعاة لزنة اسم المكان من يَسر يَيْسِر وهو مكان مجازي جعلوا ذلك التقامر بمنزلة الظرف الذي فيه اليسار أو اليسر، لأنه يفضي إلى رفاهة العيش وإزالة صعوبة زمن المَحْل وكَلَب الشِّتَاء، وقال صاحب «الكشاف»‏:‏ هو مصدر كالمَوْعد، وفيه أنه لو كان مصدراً لكان مفتوح السين؛ إذ المصدر الذي على وزن المفعِل لا يكون إلا مفتوح العين ما عدا ما شذ، ولم يذكروا الميسر في الشاذ، إلا أن يجاب بأن العرب وضعوا هذا الاسم على وزن المصدر الشاذ ليعلم أنه الآن ليس بمصدر‏.‏

والميسر‏:‏ قمار كان للعرب في الجاهلية، وهو من القمار القديم المتوغل في القدم كان لعادٍ من قبل، وأول من ورد ذكر لعب الميسر عنه في كلام العرب هو لقمان بن عَاد ويقال لقمان العادي، والظاهر أنه ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام، وهو غير لقمان الحكيم، والعرب تزعم أن لقمان كان أكثر الناس لعباً بالميسر حتى قالوا في المثل «أيسرُ من لقمان» وزعموا أنه كان له ثمانية أيسار لا يفارقونه هم من سادة عاد وأشرافهم، ولذلك يشبِّهون أهلَ الميسر إذا كانوا من أشراف القوم بأَيْسار لقمان قال طرفة بن العبد‏:‏

وهُمُ أَيْسَار لقُمْانَ إذا *** أَغْلَتتِ الشَّتْوة أَبْدَاءَ الجُزُرْ

أراد التشبيه البليغ‏.‏

وصفة الميسر أنهم كانوا يجعلون عشرة قِداح جمع قِدْح بكسر القاف وهو السهم الذي هو أصغر من النبل ومن السهم فهو سهم صغير مثل السهام التي تلعب بها الصبيان وليس في رأسه سنان وكانوا يسمونها الخِطاء جمع حَظْوَة وهي السهم الصغير وكلها من قصَب النبْععِ، وهذه القداح هي‏:‏ الفذ، والتَّوْأم، والرَّقِيبُ، والحِلْس، والنَّافِس، والمُسْبل، والمُعَلَّى، والسَّفيح، والمنيح، والوَغْد، وقيل النافسُ هو الرابع والحِلس خامس، فالسبعة الأوَل لها حظوظ من واحد إلى سبعة على ترتيبها، والثلاثة الأخيرة لا حظوظ لها وتسمى أَغفالاً جمع غُفْل بضم الغين وسكون الفاء وهو الذي أغفل من العَلامة، وهذه العَلامات خُطُوط من واحد إلى سبعة ‏(‏كأرقام الحساب الروماني إلى الأربعة‏)‏، وقد خطُّوا العلامات على القِداح ذات العلامات بالشلط في القصَبة أو بالحرق بالنار فتسمى العلامة حينئذ قَرْمَة، وهذه العلامات توضع في أسافل القداح‏.‏ فإذا أرادوا التقامر اشتَرَوْا جزوراً بثمن مؤجل إلى ما بعد التقامر وقسموه أَبْدَاءً أي أجزَاء إلى ثمانية وعشرين جُزءاً أو إلى عشرة أجزاء على اختلاف بين الأصمعي وأبي عُبيدة، والظاهر أن للعرب في ذلك طريقتين فلذلك اختلف الأصمعي وأبو عبيدة، ثم يضعون تلك القِداح في خريطة من جِلْد تسمى الرِّبابة بكسر الراء هي مثل كنانة النبال وهي واسعة لها مخرج ضيق يضيق عن أن يخرج منه قِدحان أو ثلاثة، ووكلوا بهذه الربابة رجلاً يُدعى عندهم الحُرْضة والضَّرِيب والمُجيل، وكانوا يُغْشُون عينيه بمِغْمَضَة، ويجعلون على يديه خِرقة بيضاء يسمونها المِجْوَل يعصبونها على يديه أو جلدةً رقيقة يسمونها السُّلْفة بضم السين وسكون اللام، ويلتحق هذا الحُرْضة بثوب يُخْرِج رأسه منه ثم يجثو على ركبتيه ويضع الربابة بين يديه، ويقوم وراءَه رجل يسمى الرقيب أو الوكيل هو الأمين على الحُرْضة وعلى الأَيسار كي لا يحتال أحد على أحد وهو الذي يأمر الحُرْضة بابتداء الميسر، يجلسون والأيسارَ حول الحرضة جُثياً على رُكَبهم، قال دريد بن الصمة‏:‏

دَفَعْتُ إلى المُجيل وقد تَجَاثَوْا *** على الرُّكبات مطلع كل شمس

ثم يقول الرقيب للحرْضة جَلْجِلْ القِداح أي حركها فيخضخضها في الرِبابة كي تختلط ثم يفيضها أي يدفعها إلى جهة مَخرج القِداح من الربابة دَفْعة واحدة على اسم واحد من الأيسار فيخرج قِدح فيتقدم الوكيل فيأخذه وينظره فإن كان من ذوات الأنصباء دفعه إلى صاحبه وقال له قم فاعتزِلْ فيقوم ويعتزل إلى جهة ثم تعاد الجلجلة، وقد اغتفروا إذا خرج أول القداح غُفْلاً ألا يحسب في غُرم ولا في غُنْم بل يُرد إلى الربابة وتعاد الإحالة وهكذا ومن خَرَجت لهم القداح الأغفال يدفعون ثمن الجزور‏.‏

فأما على الوصف الذي وصفَ الأصمعي أن الجزور يقسم إلى ثمانية وعشرين جزءا فظاهر أن لجميع أهل القدح القامرة شيئاً من أَبْداء الجزور لأن مجموع ما على القداح الرابحة من العلامات ثمانية وعشرون، وعلى أهل القداح الخاسرة غرم ثمنه‏.‏

وأما على الوصف الذي وصف أبو عبيدة أن الجزور يقسم إلى عشرة أبداء فذلك يقتضي أن ليس كل المتقامرين برابح، لأن الربح يكون بمقدار عشرة سهام مما رقمت به القداح وحينئذ إذا نفدت الأجزاء انقطعت الإفاضة وغرم أهل السهام الأغفال ثمن الجزور ولم يكن لمن خرجت له سهام ذات حظوظ بعد الذين استوفوا أبداء الجزور شيءٌ إذ ليس في الميسر أكثر من جزور واحد قال لبيد‏:‏

وجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِها *** البيت

وإذْ لا غنم في الميسر إلا من اللحم لا من الدراهم أو غيرها، ولعل كلاً من وصفي الأصمعي وأبي عبيدة كان طريقة للعرب في الميسر بحسب ما يصطلح عليه أهل الميسر، وإذا لم يجمع العدد الكافي من المتياسرين أَخَذ بعض من حضر سهمين أو ثلاثة فكثر بذلك ربحه أو غُرمه وإنما يفعل هذا أهلُ الكرم واليسار لأنه معرض لخسارة عظيمة، إذ لم يفز قدحه، ويقال في هذا الذي يأخذ أكثر من سهم مُتَمِّمَ الأيسار قال النابغة‏:‏

إني أُتَمِّمُ أيْساري وأمنحُهم *** مثنى الأيادِي وأَكْسُو الجفنة الأدُما

ويسمُّون هذا الإتمام بمثْنى الأيادي كما قال النابغة، لأنه يقصد منه تكرير المعروف عند الربح فالأيادي بمعنى النعم، وكانوا يعطون أجر الرقيب والحرضة والجَزّار من لحم الجزور فأما أجر الرقيب فيعطاه من أول القسمة وأفضل اللحم ويسمونه بدءا، وأما الحرضة فيعطى لحماً دون ذلك وأما الجزار فيعطى مما يبقى بعد القسم من عظم أو نصف عظم ويسمونه الريم‏.‏

ومن يحضر الميسر من غير المتياسرين يسمون الأعران جمع عرن بوزن كتف وهم يحضرون طمعاً في اللحم، والذي لا يحب الميسر ولا يحضره لفقره سمي البرم بالتحريك‏.‏

وأصل المقصد من الميسر هو المقصد من القمار كله وهو الربح واللهو يدل لذلك تمدحهم وتفاخرهم بإعطاء ربح الميسر للفقراء، لأنه لو كان هذا الإعطاء مطرداً لكل من يلعب الميسر لما كان تمدح به قال الأعشى‏:‏

المُطْعِمُو الضيففِ إذا ما شَتَوْا *** والجاعِلُو القُوتتِ على اليَاسِر

ثم إن كرامهم أرادوا أن يظهروا الترفع عن الطمع في مال القمار فصاروا يجعلون الربح للفقراء واليتامَى ومَن يُلم بساحتهم من أضيافهم وجيرتهم، قال لبيد‏:‏

أَدْعُو بهن لعَاقِرٍ أو مُطْفِلٍ *** بُذِلَتْ لجيراننِ الجميع لِحَامُها

فالضَّيفُ والجارُ الجَنيب كأنما *** هبَطا تَبالَةَ مخصِبا أَهْضَامُها

فصار الميسر عندهم من شعار أهل الجود كما تقدم في أبيات لبيد، وقال عنترة كما تقدم‏:‏

رَبِذٍ يَداه بالقِداح إذا شَتَا *** هَتَّاككِ غَايَات التِّجار ملوح

أي خفيف اليد في الميسر لكثرة ما لعب الميسر في الشتاء لنفع الفقراء، وقال عُمير ابن الجَعد‏:‏

يَسِرٍ إذا كان الشتاءُ ومُطْعمٍ *** للَّحْم غير كُبُنَّةٍ عَلْفُوفِ

الكُبُنَّة بضمتين المنقبض القليل المعروف والعلفوف كعصفور الجافي‏.‏

فالمنافع في الميسر خاصة وعامة وهي دنيوية كلها، والإثم الذي فيه هو ما يوقعه من العداوة والبغضاء ومن إضاعة الوقت والاعتياد بالكسل والبطالة واللهو والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وعن التفقه في الدين وعن التجارة ونحوها مما به قوام المدنِيَّة وتلك آثام لها آثارها الضارة في الآخرة، ولهذه الاعتبارات ألحق الفقهاء بالميسر كل لعب فيه قمار كالنّرد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم

«إيَّاكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم» يريد النرد، وعن علي‏:‏ النرد والشطرنج من الميسر، وعلى هذا جمهور الفقهاء ومالك وأبو حنيفة وقال الشافعي‏:‏ إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسانُ عن الطغيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراماً وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع المال وأخذه وهذا ليس كذلك وهو وجيه والمسألة مبسوطة في الفقه‏.‏

والناس مراد به العموم لاختلاف المنافع، ولأنه لما وقع الإخبار بواسطة ‏(‏في‏)‏ المفيدة الظرفية لم يكن في الكلام ما يقتضي أن كل فرد من أفراد الناس ينتقع بالخمر والميسر، بل الكلام يقتضي أن هاته المنافع موجودة في الخمر والميسر لمن شاء أن ينتفع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيه شفاء للناس‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 69‏]‏‏.‏ وليس المراد بالناس طائفة لعدم صلوحية أل هنا للعهد ولو أريد طائفة لما صح إلا أن يقال ومنافع الشاربين والياسرين كما قال‏:‏ ‏{‏وأنهار من خمر لذة للشاربين‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏

فإن قلت‏:‏ ما الوجه في ذكر منافع الخمر والميسر مع أن سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع، قلت إن كانت الآية نازلة لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأشياء، لأن الله جعل هذا الدين ديناً دائماً وأودعه أمة أراد أن يكون منها مشرِّعون لمختلف ومتجددِ الحوادث، فلذلك أشار لعلل الأحكام في غير موضع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏ ونحو ذلك، وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو في مواضع خفاء العلل، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعها، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم، وفائدة أخرى وهي تأنيس المكلفين فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيراً لهم بأن ربهم لا يريد إلاَّ صلاحَهم دون نكايتهم كقوله‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏‏.‏ وهنالك أيضاً فائدة أخرى وهي عذرهم عما سلف منهم حتى لا يستكينوا لهذا التحريم والتنديد على المفاسد كقوله‏:‏ ‏{‏علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏

‏{‏وَيَسْھَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏{‏فِى الدنيا والاخرة‏}‏

كان سؤالهم عن الخمر والميسر حاصلاً مع سؤالهم ‏{‏ماذا ينفقون‏}‏، فعطفت الآية التي فيها جَوابُ سؤالهم ‏{‏ماذا ينفقون‏}‏ على آية الجواب عن سؤال الخمر والميسر، ولذلك خولف الأسلوب الذي سلف في الآيات المختلفة بجمل ‏{‏يسألونك‏}‏ بدون عطف فجيء بهذه معطوفة بالواو على التي قبلها‏.‏

ومناسبة التركيب أن النهي عن الخمر والميسر يتوقع منه تعطل إنفاق عظيم كان ينتفع به المحاويج، فبينت لهم الآية وجه الإنفاق الحق‏.‏

روى ابن أبي حاتم أن السائل عن هذا معاذ ابن جبل وثعلبة بن غَنَمَة، وقيل هو رجوع إلى الجواب عن سؤال عمرو بن الجموح الذي قيل إنه المجاب عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 215‏]‏ إلخ، وعليه فالجواب عن سؤاله موزع على الموضعين ليقع الجواب في كل مكان بما يناسبه‏.‏

ولإظهار ما يدفع توقعهم تعطيل نفع المحاويج وصلت هذه الآية بالتي قبلها بواو العطف‏.‏

والعفو‏:‏ مصدر عَفَا يعفو إذا زاد ونَمَى قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 95‏]‏، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال أي فَضلَ بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله، فالمعنى أن المرء ليس مطالباً بارتكاب المآثم لينفق على المحاويج، وإنما ينفق عليهم مما استفضله من ماله وهذا أمر بإنفاق لا يشق عليهم وهذا أفضل الإنفاق، لأن مقصد الشريعة من الإنفاق إقامة مصالح ضعفاء المسلمين ولا يحصل منه مقدار له بال إلا بتعميمه ودوامه لتستمر منه مقادير متماثلة في سائر الأوقات وإنما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم ولا يخلون به في وقت من أوقاتهم، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني، وفي الحديث‏:‏ «خيرُ الصدقة ما كان عن ظَهْرِ غنى وابدأ بمن تَعول» فإن البداءة بمن يعول ضرب من الإنفاق، لأنه إن تركهم في خصاصة احتاجوا إلى الأخذ من أموال الفقراء، وفي الحديث‏:‏ «إنك أنْ تَدَع ورثتَك أغنياء خير من أن تَدَعهم عالة يتكففون الناس» أي يمدون أكفهم للسؤال، فتبين أن المنفق بإنفاقه على من ينفق عليه يخفف عن الفقراء بتقليل عدد الداخلين فيهم، ولذلك جاء في الحديث‏:‏ «وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك»‏.‏ ولهذا أمر في هذه الآية بإنفاق العفو، لأنها لعموم المنفقين، فلا تنافي أن ينفق أحد من ماله المحتاج هو إليه أو جميع ماله إذا صبَر على ذلك ولم يكن له من تجب عليه هو نفقته‏.‏

وآل في العفو للجنس المعروف للسامعين، والعفو مقول عليه بالتشكيك؛ لأنه يتبع تعيينَ ما يحتاجه المنفق والناسُ في ذلك متفاوتون، وجعل الله العفو كلَّه منفقاً ترغيباً في الإنفاق وهذا دليل على أن المراد من الإنفاق هنا الإنفاق المتطوع به، إذ قد تضافرت أدلة الشريعة وانعقد إجماع العلماء على أنه لا يجب على المسلم إنفاق إلا النفقات الواجبة وإلا الزكوات وهي قد تكون من بعض ما يفضل من أموال أهل الثروة إلا ما شذ به أبو ذَر، إذ كان يرى كنز المال حراماً وينادي به في الشام فشكاه معاوية لعثمان فأمر عثمان بإرجاعه من الشام إلى المدينة ثم إسكانه بالربذة بطلب منه، وقد اجتهد عثمان ليسد باب فتنة، وعن قيس بن سعد أن هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعلى قوله يكون ‏(‏أل‏)‏ في العفو للعهد الخارجي وهو نماء المال المقدر بالنصاب‏.‏

وقرأ الجمهور ‏(‏قل العفو‏)‏ بنصب العفو على تقدير كونه مفعولاً لفعل دل عليه ‏{‏ماذا ينفقون‏}‏، وهذه القراءة مبنية على اعتبار ذا بعد ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية ملغاة فتكون ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية مفعولاً مقدماً لينفقون فناسب أن يجيء مفسر ‏(‏ما‏)‏ في جواب السؤال منصوباً كمفسره‏.‏

وقرأ ابن كثير في إحدى روايتين عنه وأبو عمرو ويعقوب بالرفع على أنه خبر مبتدأ تقديره هو العفو، وهذه القراءة مبنية على جعل ذا بعد ما موصولة أي يسألونك عن الذي ينفقونه، لأنها إذا كانت موصولة كانت مبتدأ إذ لا تعمل فيها صلتها وكانت ما الاستفهامية خبراً عن ما الموصولة، وكان مفسرها في الجواب وهو العفو فناسب أن يجاء به مرفوعاً كمفسره ليطابق الجوابُ السؤال في الاعتبارين وكلا الوجهين اعتبار عربي فصيح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات‏}‏، أي كذلك البيان يبين الله لكم الآيات، فالكاف للتشبيه واقعة موقع المفعول المطلق المبيِّن لنوع ‏{‏يُبَيِّن‏}‏، وقد تقدم القول في وجوه هذه الإشارة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

أو الإشارة راجعة إلى البيان الواقع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فيهما إثم كبير‏}‏ إلى قوله ‏{‏العفو‏}‏، وقرن اسم الإشارة بعلامة البعد تعظيماً لشأن المشار إليه لكماله في البيان، إذ هو بيان للحكم مع بيان علته حتى تتلقاه الأمة بطيب نفس، وحتى يلحقوا به نظائره، وبيان لقاعدة الإنفاق بما لا يشذ عن أحد من المنفقين، ولكون الكاف لم يقصد بها الخطاب بل مجرد البعد الاعتباري للتعظيم لم يؤت بها على مقتضى الظاهر من خطاب الجماعة فلم يقل كذلكم على نحو قوله‏:‏ ‏{‏يبين الله لكم‏}‏‏.‏

واللام في ‏{‏لكم‏}‏ للتعليل والأجل وهو امتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقى إلى كامل العقل موضحة بالعواقب، لأن الله أراد لهاته الأمة أن يكون علماؤها مشرعين‏.‏ وبين فائدة هذا البيان على هذا الأسلوب بقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة‏}‏ أي ليحصل للأمة تفكر وعلم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، لأن التفكر مظروف في الدنيا والآخرة، فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله ‏{‏والآخرة‏}‏ إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار بأن قيل‏:‏ قل فيهما نفع وضر لكان بياناً للتفكر في أمور الدنيا خاصة، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين، وفي هذا تنويه بشأن إصلاح أمور الأمة في الدنيا، ووقع في كلام لعلي بن أبي طالب وقد ذم رجل الدنيا عنده فقال له‏:‏ «الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت ببينها الخ»‏.‏

ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله‏:‏ ‏{‏ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو‏}‏‏.‏

ويجوز أن تكون الإشارة بقوله ‏{‏كذلك لكون الإنفاق من العفو وهو ضعيف، لأن ذلك البيان لا يظهر فيه كمال الامتنان حتى يجعل نموذجاً لجليل البيانات الإلهية وحتى يكون محل كمال الامتنان وحتى تكون غايته التفكر في الدنيا والآخرة، ولا يعجبكم كونه أقرب لاسم الإشارة، لأن التعليق بمثل هاته الأمور اللفظية في نكت الإعجاز إضاعة للألباب وتعلق بالقشور‏.‏

وقوله‏:‏ لعلكم تتفكرون‏}‏ غاية هذا البيان وحكمته، والقول في لعل تقدم‏.‏ وقوله ‏{‏في الدنيا والآخرة‏}‏ يتعلق بتتفكرون لا بيبين، لأن البيان واقع في الدنيا فقط‏.‏ والمعنى ليحصل لكم فكر أي علم في شؤون الدنيا والآخرة، وما سوى هذا تكلف‏.‏

‏{‏وَيَسْھَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏

عطف تبيين معاملة اليتامى على تبيين الإنفاق لتعلق الأمرين بحكم تحريم الميسر أو التنزيه عنه فإن الميسر كان باباً واسعاً للإنفاق على المحاويج وعلى اليتامى، وقد ذكر لبيد إطعام اليتامى بعد ذكر إطعام لحوم جزور الميسر فقال‏:‏

ويُكَلِّلُون إذَا الرياحُ تَنَاوَحَتْ *** خُلْجاً تَمُدُّ شوَارعا أَيْتَامُها

أي تمد أيدياً كالرماح الشوارع في اليبس أي قلة اللحم على عظام الأيدي فكان تحريم الميسر مما يثير سؤالا عن سد هذا الباب على اليتامى وفيه صلاح عظيم لهم وكان ذلك السؤال مناسبة حسنة للتخلص إلى الوصاية باليتامى وذكر مجمل أحوالهم في جملة إصلاح الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام، فكان هذا وجه عطف هذه الجملة على التي قبلها بواو العطف لاتصال بعض هذه الأسئلة ببعض كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو‏}‏‏.‏

وقد روي أن السائل عن اليتامى عبد الله بن رواحة، وأخرج أبو داود عن ابن عباس لما نزل قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 34‏]‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما‏}‏

‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ الآيات انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكر ذلك لرسول الله فأنزل الله ‏{‏ويسألونك عن اليتامى‏}‏ الآية مع أن سورة النساء نزلت بعد سورة البقرة، فلعل ذكر آية النساء وهم من الراوي وإنما أراد أنه لما نزلت الآيات المحذرة من مال اليتيم مثل آية سورة الإسراء ‏(‏34‏)‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ففي تفسير الطبري‏}‏ بسنده إلى ابن عباس‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن‏}‏ عزلوا أموال اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله فنزلت ‏{‏وإن تخالطوهم‏}‏ أو أن مراد الراوي لما سمع الناس آية سورة النساء تجنبوا النظر في اليتامى فذكروا بآية البقرة إن كان السائل عن آية البقرة غير المتجنب حين نزول آية النساء وأياً ما كان فقد ثبت أن النظر في مصالح الأيتام من أهم مقاصد الشريعة في حفظ النظام فقد كان العرب في الجاهلية كسائر الأمم في حال البساطة يكون المال بيد كبير العائلة فقلما تجد لصغير مالاً، وكان جمهور أموالهم حاصلاً من اكتسابهم لقلة أهل الثروة فيهم، فكان جمهور العرب إما زارعاً أو غارساً أو مغيراً أو صائداً، وكل هذه الأعمال تنقطع بموت مباشريها، فإذا مات كبير العائلة وترك أبناء صغاراً لم يستطيعوا أن يكتسبوا كما اكتسب آباؤهم إلا أبناء أهل الثروة، والثروة عندهم هي الأنعام والحوائط إذ لم يكن العرب أهل ذهب وفضة وإن الأنعام لا تصلح إلا بمن يرعاها فإنها عروض زائلة وإن الغروس كذلك ولم يكن في ثروة العرب ملك الأرض إذ الأرض لم تكن مفيدة إلا للعامل فيها، على أن من يتولى أمر اليتيم يستضعفه ويستحل ماله فينتفع به لنفسه، وكرم العربي وسرفه وشربه وميسره لا تغادر له مالاً وإن كثر‏.‏ وتغلُّب ذلك على مِلاك شهوات أصحابه فلا يستطيعون تركه يدفعهم إلى تطلب إرضاء نهمتهم بكل وسيلة فلا جرم أن يصبح اليتيم بينهم فقيراً مدحوراً، وزد إلى ذلك أن أهل الجاهلية قد تأصل فيهم الكبر على الضعيف وتوقير القوى فلما عدم اليتيم ناصره ومن يذب عند كان بحيث يعرض للمهانة والإضاعة ويتخذ كالعبد لوليه، من أجل ذلك كله صار وصف اليتيم عندهم ملازماً لمعنى الخصاصة والإهمال والذل، وبه يظهر معنى امتنان الله تعالى على نبيه أن حفظه في حال اليتم مما ينال اليتامى في قوله‏:‏ ‏{‏ألم يجدك يتيماً فآوى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فلما جاء الإسلام أمرَهم بإصلاح حال اليتامى في أموالهم وسائر أحوالهم حتى قيل إن أولياء اليتامى تركوا التصرف في أموالهم واعتزلوا اليتامى ومخالطتهم فنزلت هذه الآية‏.‏

والإصلاح جعل الشيء صالحاً أي ذا صلاح والصلاح ضد الفساد، وهو كون شيء بحيث يحصل به منتهى ما يطلب لأجله، فصلاح الرجل صدور الأفعال والأقوال الحسنة منه، وصلاح الثمرة كونها بحيث ينتفع بأكلها دون ضر، وصلاح المال نماؤه المقصود منه، وصلاح الحال كونها بحيث تترتب عليها الآثار الحسنة‏.‏

و ‏{‏إصلاح لهم‏}‏ مبتدأ ووصفه، واللام للتعليل أو الاختصاص‏.‏ ووصف الإصلاح ب ‏{‏لهم‏}‏ دون الإضافة إذ لم يقل إصلاحهم لئلا يتوهم قصره على إصلاح ذواتهم لأن أصل إضافة المصدر أن تكون لذات الفاعل أو ذات المفعول فلا تكون على معنى الحرف، ولأن الإضافة لما كانت من طرق التعريف كانت ظاهرة في عهد المضاف فعدل عنها لئلا يتوهم أن المراد إصلاح معين كما عدل عنها في قوله‏:‏ ‏{‏ايتوني بأخ لكم من أبيكم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 59‏]‏ ولم يقل بأخيكم ليوهمهم أنه لم يرد أخاً معهوداً عنده، والمقصود هنا جميع الإصلاح لا خصوص إصلاح ذواتهم فيشمل إصلاح ذواتهم وهو في الدرجة الأولى ويتضمن ذلك إصلاح عقائدهم وأخلاقهم بالتعليم الصحيح والآداب الإسلامية ومعرفة أحوال العالم، ويتضمن إصلاح أمزجتهم بالمحافظة عليهم من المهلكات والأخطار والأمراض وبمداواتهم، ودفع الأضرار عنهم بكفاية مؤنهم من الطعام واللباس والمسكن بحسب معتاد أمثالهم دون تقتير ولا سرف، ويشمل إصلاح أموالهم بتنميتها وتعهدها وحفظها‏.‏ ولقد أبدع هذا التعبير، فإنه لو قيل إصلاحهم لتوهم قصره على ذواتهم فيحتاج في دلالة الآية على إصلاح الأموال إلى القياس ولو قيل قل تدبيرهم خير لتبادر إلى تدبير المال فاحتيج في دلالتها على إصلاح ذواتهم إلى فحوى الخطاب‏.‏

و ‏{‏خير في الآية يحتمل أن يكون أفعل تفضيل إن كان خطاباً للذين حملهم الخوف من أكل أموال اليتامى على اعتزال أمورهم وترك التصرف في أموالهم بعلة الخوف من سوء التصرف فيها كما يقال‏:‏

إن السلامة من سلمى وجارتها *** أن لا تحل على حاللٍ بواديها

فالمعنى إصلاح أمورهم خير من إهمالهم أي أفضل ثواباً وأبعد عن العقاب، أي خير في حصول غرضكم المقصود من إهمالهم فإنه ينجر منه إثم الإضاعة ولا يحصل فيه ثواب السعي والنصيحة، ويحتمل أن يكون صفة مقابل الشر إن كان خطاباً لتغيير الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام، فالمعنى إصلاحهم في أموالهم وأبدانهم وترك إضاعتهم في الأمرين كما تقدم خير، وهو تعريض بأن ما كانوا عليه في معاملتهم ليس بخير بل هو شر، فيكون مراداً من الآية على هذا‏:‏ التشريع والتعريض إذ التعريض يجامع المعنى الأصلي، لأنه من باب الكناية والكناية تقع مع إرادة المعنى الأصلي‏.‏

وجملة وإن تخالطوهم فإخوانكم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إصلاح لهم خير‏}‏ والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو جمع الأشياء جمعاً يتعذر معه تمييز بعضها عن بعض فيما تراد له، فمنه خلط الماء بالماء والقمح والشعير وخلط الناس ومنه اختلط الحابل بالنابل، وهو هنا مجاز في شدة الملابسة والمصاحبة والمراد بذلك ما زاد على إصلاح المال والتربية عن بعد فيشمل المصاحبة والمشاركة والكفالة والمصاهرة إذ الكل من أنواع المخالطة‏.‏

وقوله ‏{‏فإخوانكم‏}‏ جواب الشرط ولذلك قرن بالفاء لأن الجملة الاسمية غير صالحة لمباشرة أداة الشرط ولذلك ف ‏(‏إخوانكم‏)‏ خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم إخوانكم، وهو على معنى التشبيه البليغ، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام التي تقتضي المشاورة والرفق والنصح‏.‏ ونقل الفخر عن الفراء «لو نصبته كان صواباً بتقدير فإخوانكم تخالطون» وهو تقدير سمج، ووجود الفاء في الجواب ينادي على أن الجواب جملة اسمية محضة، وبعد فمحمل كلام الفراء على إرادة جواز تركيب مثله في الكلام العربي لا على أن يقرأ به، ولعل الفراء كان جريئاً على إساغة قراءة القرآن بما يسوغ في الكلام العربي دون اشتراط صحة الرواية‏.‏

والمقصود من هذه الجملة الحث على مخالطتهم لأنه لما جعلهم إخواناً كان من المتأكد مخالطتهم والوصاية بهم في هاته المخالطة، لأنهم لما كانوا إخواناً وجب بذل النصح لهم كما يبذل للأخ وفي الحديث ‏"‏ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ‏"‏ ويتضمن ذلك التعريض بإبطال ما كانوا عليه من احتقار اليتامى والترفع عن مخالطتهم ومصاهرتهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 127‏]‏ أي عن أن تنكحوهن لأن الأخوة تتضمن معنى المساواة فيبطل الترفع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ وعد ووعيد، لأن المقصود من الأخبار بعلم الله الإخبار بترتب آثار العلم عليه، وفي هذا إشارة إلى أن ما فعله بعض المسلمين من تجنب التصرف في أموال اليتامى تنزه لا طائل تحته لأن الله يعلم المتصرف بصلاح والمتصرف بغير صلاح وفيه أيضاً ترضية لولاة الأيتام فيما ينالهم من كراهية بعض محاجيرهم وضربهم على أيديهم في التصرف المالي وما يلاقون في ذلك من الخصاصة، فإن المقصد الأعظم هو إرضاء الله تعالى لا إرضاء المخلوقات، وكان المسلمون يومئذٍ لا يهتمون إلاّ بمرضاة الله تعالى وكانوا يحاسبون أنفسهم على مقاصدهم، وفي هذه إشارة إلى أنه ليس من المصلحة أن يعرض الناس عن النظر في أموال اليتامى اتقاء لألسنة السوء، وتهمة الظن بالإثم فلو تمالأ الناس على ذلك وقاية لأعراضهم لضاعت اليتامى، وليس هذا من شأن المسلمين فإن على الصلاح والفساد دلائل ووراء المتصرفين عدالة القضاة وولاة الأمور يجازون المصلح بالثناء والحمد العلن ويجازون المفسد بالبعد بينه وبين اليتامى وبالتغريم بما أفاته بدون نظر‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من المصلح‏}‏ تفيد معنى الفصل والتمييز وهو معنى أثبته لها ابن مالك في «التسهيل» قائلاً «وللفصْل» وقال في «الشرح»‏:‏ «وأشرت بذكر الفصل إلى دخولها على ثاني المتضادين نحو ‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ و‏{‏حتى يميز الخبيث من الطيب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 179‏]‏ اه وهو معنى رشيق لا غنى عن إثباته وقد أشار إليه في «الكشاف» عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتأتون الذكران من العالمين‏}‏ في سورة الشعراء وجعله وجهاً ثانياً فقال‏:‏ «أو أتأتون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران يعني أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة» اه فجعل معنى ‏(‏مِن‏)‏ معنى من بين، وهو لا يتقوم إلاّ على إثبات معنى الفصل، وهو معنى متوسط بين معنى من الابتلاء ومعنى البدلية حين لا يصلح متعلق المجرور لمعنى الابتدائية المحض ولا لمعنى البدلية المحض فحدث معنى وسط، وبحث فيه ابن هشام في «مغني اللبيب» أن الفصل حاصل من فعل ‏{‏يميز‏}‏ ومن فعل ‏{‏يعلم‏}‏ واستظهر أن من للابتداء أو بمعنى عن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لأعنتكم‏}‏ تذييل لما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏قل إصلاح لهم خير‏}‏ على ما تقدم‏.‏ والعنت‏:‏ المشقة والصعوبة الشديدة أي ولو شاء الله لكلفكم ما فيه العنت وهو أن يحرم عليكم مخالطة اليتامى فتجدوا ذلك شاقاً عليكم وعنتاً، لأن تجنب المرء مخالطة أقاربه من إخوة وأبناء عم ورؤيته إياهم مضيعة أمورهم لا يحفل بهم أحد يشق على الناس في الجبلة وهم وإن فعلوا ذلك حذراً وتنزهاً فليس كل ما يبتدئ المرء فعله يستطيع الدوام عليه‏.‏

وحذف مفعول المشيئة لإغناء ما بعده عنه، وهذا حذف شائع في مفعول المشيئة فلا يكادون يذكرونه‏.‏ وقد مضى القول فيه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله بذهب بسمعهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أن الله عزيز حكيم‏}‏ تذييل لما اقتضاه شرط ‏(‏لو‏)‏ من الإمكان وامتناع الوقوع أي إن الله عزيز غالب قادر فلو شاء لكلفكم العنت، لكنه حكيم يضع الأشياء مواضعها فلذا لم يلكفكموه‏.‏ وفي جمع الصفتين إشارة إلى أن تصرفات الله تعالى تجري على ما تقتضيه صفاته كلها وبذلك تندفع إشكالات عظيمة فيما يعبَّر عنه بالقضاء والقدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏221‏)‏‏}‏

كان المسلمون أيام نزول هذه السورة ما زالوا مختلطين مع المشركين بالمدينة وما هم ببعيد عن أقربائهم من أهل مكة فربما رغب بعضهم في تزوج المشركات أو رغب بعض المشركين في تزوج نساء مسلمات فبين الله الحكم في هذه الأحوال، وقد أوقع هذا البيان بحكمته في أرشق موقعه وأسعده به وهو موقع تعقيب حكم مخالطة اليتامى، فإن للمسلمين يومئذٍ أقاربَ وموالي لم يزالوا مشركين ومنهم يتامى فقَدوا آباءهم في يوم بدر وما بعده فلما ذكر الله بيان مخالطة اليتامى، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة تطلعت النفوس إلى حكم هاته المصاهرة بالنسبة للمشركات والمشركين، فعطف حكم ذلك على حكم اليتامى لهاته المناسبة‏.‏

روى الواحدي وغيره من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا مَرْثَد الغَنَوي ويقال مَرْثدا بن أبي مَرْثد واسمه كنَّاز بن حُصَين وكان حليفاً لبني هاشم فبعثه إلى مكة سراً ليخرج رجلاً من المسلمين فسمعت بقدومه امرأة يقال لها عَنَاق وكانت خليلة له في الجاهلية فأتتْه فقالت‏:‏ ويحك يا مَرثد ألا تخلو‏؟‏ فقال‏:‏ إن الإسلام حَرَّم ما كان في الجاهلية فقالت‏:‏ فتزوجني قال‏:‏ حتى أستأذن رسول الله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فنهاه عن التزوج بها، لأنها مشركة فنزلت هذه الآية بسببه‏.‏

والنكاح في كلام العرب حقيقة في العقد على المرأة، ولذلك يقولون نكح فلان فلانة ويقولون نكحت فلانة فلاناً فهو حقيقة في العقد، لأن الكثرة من أمارات الحقيقة وأما استعماله في الوطء فكناية، وقيل هو حقيقة في الوطء مجاز في العقد‏.‏ واختاره فقهاء الشافعية وهو قول ضعيف في اللغة، وقيل حقيقة فيهما فهو مشترك وهو أضعف‏.‏ قالوا ولم يرد في القرآن إلاّ بمعنى العقد فقيل إلاّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، لأنه لا يكفي العقد في تحليل المبتوتة حتى يبني بها زوجها كما في حديث زوجة رفاعة ولكن الأصوبُ أن تلك الآية بمعنى العقد وإنما بينت السنة أنه لا بد مع العقد من الوطء وهذا هو الظاهر، والمنع في هذه الآية متعلق بالعقد بالاتفاق‏.‏

والمشرك في لسان الشرع من يدين بتعدد آلهة مع الله سبحانه، والمراد به في مواضعه من القرآن مشركو العرب الذين عبدوا آلهة أخرى مع الله تعالى ويقابلهم في تقسيم الكفار أهلُ الكتاب وهم الذين آمنوا بالله ورسله وكتبه ولكنهم أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

ونص هذه الآية تحريم تزوج المسلم المرأةَ المشركة وتحريم تزويج المسلمة الرجلَ المشركَ فهي صريحة في ذلك، وأما تزوج المسلم المرأة الكتابية وتزويج المسلمة الرجلَ الكتابي فالآية ساكتة عنه، لأن لفظ المشرك لقب لا مفهوم له إلاّ إذا جَرى على موصوف كما سنبينه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خير من مشرك‏}‏، وقد أذن القرآن بجواز تزوج المسلم الكتابية في قوله‏:‏

‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ في سورة العقود فلذلك قال جمهور العلماء بجواز تزوج المسلم الكتابية دون المشركة والمجوسية وعلى هذا الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري، فبقي تزويج المسلمة من الكتابي لا نص عليه ومنعه جميع المسلمين إما استناداً منهم إلى الاقتصار في مقام بيان التشريع وإما إلى أدلة من السنة ومن القياس وسنشير إليه أو من الإجماع وهو أظهر‏.‏ وذهبت طوائف من أهل العلم إلى الاستدلال لفقه هذه المسألة بطريقة أخرى فقالوا أهل الكتاب صاروا مشركين لقول اليهود عزير ابن الله ولقول النصارى المسيح ابن الله وأبوة الإله تقتضي ألوهية الابن، وإلى هذا المعنى جنح عبد الله بن عمر ففي «الموطأ» عنه «لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى» ولكن هذا مسلك ضعيف جداً، لأن إدخال أهل الكتاب في معنى المشركين بعيد عن الاصطلاح الشرعي، ونزلت هذه الآية وأمثالها وهو معلوم فاش، ولأنه إذا تم في النصارى باطراد فهو لا يتم في اليهود، لأن الذين قالوا عزير ابن الله إنما هم طائفة قليلة من اليهود وهم أتباع ‏(‏فنحاص‏)‏ كما حكاه الفخر فإذا كانت هذه الآية تمنع أن يتزوج المسلم امرأة يهودية أو نصرانية وأن يزوج أحد من اليهود والنصارى مسلمة فإن آية سورة العقود خصصت عموم المنع بصريح قوله‏:‏ ‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏، وقد علم الله قولهم المسيح ابن الله وقول الآخرين عزير ابن الله فبقي تزويج المسلمة إياهم مشمولاً لعموم آية البقرة، وهذا مسلك سلكه بعض الشافعية‏.‏

ومن علماء الإسلام من كره تزوج الكتابية وهو قول مالك في رواية ابن حبيب وهو رواية عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى حذيفة بن اليمان وقد بلغه أنه تزوج يهودية أو نصرانية أن خل سبيلها، فكتب إليه حذيفة أتزعم أنها حرام‏؟‏ فقال عمر‏:‏ لا ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن‏.‏

وقال شذوذ من العلماء بمنع تزوج المسلم الكتابية، وزعموا أن آية سورة العقود نسختها آية سورة البقرة، ونقل ذلك عن ابن عمر وابن عباس وفي رواية ضعيفة عن عمر بن الخطاب أنه فرق بين طلحة بن عبيد الله ويهودية تزوجها وبين حذيفة بن اليمان ونصرانية تزوجها، فقالا له نُطلِّق يا أمير المؤمنين ولا تَغْضَبْ فقال‏:‏ لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما، ولكنْ أفرق بينكما صُغْرَةً وقَماءَةً، قال ابن عطية وهذا لا يسند جيداً والأثر الآخر عن عمر أسندُ منه، وقال الطبري هو مخالف لما أجمعت عليه الأمة وقد روي عن عمر بن الخطاب من القول بخلاف ذلك ما هو أصح منه وإنما كره عمر لهما تزوجهما حذراً من أن يقتدي بهما الناس فيزهدوا في المسلمات‏.‏

و ‏{‏حتى يؤمن‏}‏ غاية للنهي فإذا آمنَّ زال النهي ولذلك إذا أسلم المشرك ولم تسلم زوجته تبين منه إلاّ إذا أسلمت عقب إسلامه بدون تأخير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولأمة مؤمنة خير من مشركة‏}‏ تنبيه على دناءة المشركات وتحذير من تزوجهن ومن الاغترار بما يكون للمشركة من حسب أو جمال أو مال وهذه طرائق الإعجاب في المرأة المبالغ عليه بقوله‏:‏ ‏{‏ولو أعجبكم‏}‏ وأن من لم يستطع تزوج حرة مؤمنة فليتزوج أمة مؤمنة خير له من أن يتزوج حرة مشركة، فالأمة هنا هي المملوكة، والمشركة الحرة بقرينة المقابلة بقوله‏:‏ ‏{‏ولأمة مؤمنة‏}‏ فالكلام وارد مورد التناهي في تفضيل أقل أفراد هذا الصنف على أتم أفراد الصنف الآخر، فإذا كانت الأمة المؤمنة خيراً من كل مشركة فالحرة المؤمنة خير من المشركة بدلالة فحوى الخطاب التي يقتضيها السياق، ولظهور أنه لا معنى لتفضيل الأمة المؤمنة على الأمة المشركة فإنه حاصل بدلالة فحوى الخطاب لا يشك فيه المخاطبون المؤمنون ولقوله‏:‏ ‏{‏ولو أعجبكم‏}‏ فإن الإعجاب بالحرائر دون الإماء‏.‏

والمقصود من التفضيل في قوله‏:‏ ‏{‏خير‏}‏ التفضيل في المنافع الحاصلة من المرأتين؛ فإن في تزوج الأمة المؤمنة منافع دينية وفي الحرة المشركة منافع دنيوية ومعاني الدين خير من أعراض الدنيا المنافية للدين فالمقصود منه بيان حكمة التحريم استئناساً للمسلمين‏.‏

ووقع في «الكشاف» حمل الأمة على مطلق المرأة، لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده وأصله منقول عن القاضي أبي الحسن الجرجاني كما في القرطبي وهذا باطل من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، أما المعنى فلأنه يصير تكراراً مع قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركات‏}‏ إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة، ويُفيت المقصود من التنبيه على شرففِ أقلِّ أَفرادِ أحد الصنفين على أشرَف أفراد الصنف الآخر، وأما من جهة اللفظ فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة، ولا إطلاق العبد على الرجل إلاّ مقيَّدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم يا عبدَ الله ويا أمةَ الله، وكونُ الناس إماءَ الله وعبيدَه إنما هو نظر للحقائق لا للاستعمال، فكيف يخرَّج القرآن عليه‏.‏

وضمير ‏{‏ولو أعجبتكم‏}‏ يعود إلى المشركة، و‏(‏لو‏)‏ وصلية للتنبيه على أقصى الأحوال التي هي مظنة تفضيل المشركة، فالأمة المؤمنة أفضل منها حتى في تلك الحالة وقد مضى القول في موقع لو الوصلية والواو التي قبلها والجملة التي بعدها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 170‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا‏}‏ تحريم لتزويج المسلمة من المشرك، فإن كان المشرك محمولاً على ظاهره في لسان الشرع فالآية لم تتعرض لحكم تزويج المسلمة من الكافر الكتابي فيكون دليل تحريم ذلك الإجماعَ وهو إما مستند إلى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم، وإما مستند إلى تضافر الأدلة الشرعية كقوله تعالى‏:‏

‏{‏فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ فعلق النهي بالكفر وهو أعم من الشرك وإن كان المراد حينئذٍ المشركين، وكقوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏أولئك يدعون إلى النار‏}‏ كما سنبينه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتى يؤمنوا‏}‏ غاية للنهي، وأخذ منه أن الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما ثم إذا أسلم هو كان أحق بها ما دامت في العدة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم‏}‏ هو كقوله‏:‏ ‏{‏ولأمة مؤمنة خير من مشركة‏}‏ وأن المراد به المملوك وليس المراد الحر المشرك وقد تقدم ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك يدعون إلى النار‏}‏ الإشارة إلى المشركات والمشركين، إذ لا وجه لتخصيصه بالمشركين خاصة لصلوحيته للعود إلى الجميع، والواو في ‏{‏يدعون‏}‏ واو جماعة الرجال ووزنه يفعون، وغُلِّب فيه المذكر على المؤنث كما هو الشائع، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لتعليل النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين، ومعنى الدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها فإسناد الدعاء إليهم حقيقة عقلية، ولفظ النار مجاز مرسل أطلق على أسباب الدخول إلى النار فإن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم، ولما كانت رابطة النكاح رابطة اتصال ومعاشرة نهي عن وقوعها مع من يدعون إلى النار خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس، فإن بين الزوجين مودة وإلفاً يبعثان على إرضاء أحدهما الآخر ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة لأنهم لا يوحدون الله ولا يؤمنون بالرسل، كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بعيداً جداً لا يجمعهم شيء يتفقون عليه، فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين‏.‏ أما أهل الكتاب فيجمع بينهم وبين المسلمين اعتقاد وجود الله وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويفرق بيننا وبين اليهود الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق عيسى، فأباح الله تعالى للمسلم أن يتزوج الكتابية ولم يبح تزوج المسلمة من الكتابي اعتداداً بقوة تأثير الرجل على امرأته، فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالباً إياها إلى الإسلام، لأنها أضعف منه جانباً وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه، لذلك السبب وهذا كان يجيب به شيخنا الأستاذ سالم أبو حاجب عن وجه إباحة تزوج الكتابية ومنع تزوج الكتابي المسلمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله يدعوا إلى الجنة‏}‏ الآية أي إن الله يدعو بهذا الدين إلى الجنة فلذلك كانت دعوة المشركين مضادة لدعوة الله تعالى، والمقصود من هذا تفظيع دعوتهم وأنها خلاف دعوة الله، والدعاء إلى الجنة والمغفرة دعاء لأسبابهما كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏يدعون إلى النار‏}‏‏.‏

والمغفرة هنا مغفرة ما كانوا عليه من الشرك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بإذنه‏}‏ الإذن فيه إما بمعنى الأمر كما هو الشائع فيكون بإذنه ظرفاً مستقراً حالاً من ‏(‏الجنة‏)‏ والمغفرة أي حاصلتين بإذنه أي إرادته وتقديره بما بين من طريقهما‏.‏ ومن المفسرين من حمل الإذن على التيسير والقضاء والباء على أنها ظرف لغو فرأى هذا القيد غير جزيل الفائدة فتأوَّل قوله‏:‏ ‏{‏والله يدعوا‏}‏ بمعنى وأولياء الله يدعون وهم المؤمنون‏.‏

وجملة ‏{‏ويبين‏}‏ معطوفة على ‏{‏يدعو‏}‏ يعني يدعو إلى الخير مع بيانه وإيضاحه حتى تتلقاه النفوس بمزيد القبول وتمام البصيرة فهذا كقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ ففيها معنى التذييل وإن كانت واردة بغير صيغته‏.‏ ولعل مستعملة في مثله مجاز في الحصول القريب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏222‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ‏(‏222‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏، بمناسبة أن تحريم نكاح المشركات يؤذن بالتنزه عن أحوال المشركين وكان المشركون لا يقربون نساءهم إذا كُنَّ حُيَّضاً وكانوا يفرطون في الابتعاد منهن مدة الحيض فناسب تحديد ما يكثر وقوعه وهو من الأحوال التي يخالف فيها المشركون غيرهم، ويتساءل المسلمون عن أحق المناهج في شأنها‏.‏

روي أن السائل عن هذا هو أبو الدحداح ثابت بن الدحداح الأنصاري، وروي أن السائل أُسيد بن حُضير، وروي أنه عباد بن بشر، فالسؤال حصل في مدة نزول هذه السورة فذكر فيها مع ما سيذكر من الأحكام‏.‏

والباعث على السؤال أن أهل يثرب قد امتزجوا باليهود واستنوا بسنتهم في كثير من الأشياء، وكان اليهود يتباعدون عن الحائض أشد التباعد بحكم التوراة ففي الإصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين «إذا كانت امرأة لها سيل دماً في لحمها فسبعة أيام تكون في طمثها وكل من مسها يكون نجساً إلى المساء وكل ما تضطجع عليه يكون نجساً وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجساً إلى المساء وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجساً سبعة أيام»‏.‏ وذكر القرطبي أن النصارى لا يمتنعون من ذلك ولا أحسب ذلك صحيحاً فليس في الإنجيل ما يدل عليه، وإن من قبائل العرب من كانت الحائض عندهم مبغوضة فقد كان بنو سليح أهل بلد الحضْر، وهم من قضاعة نصارى إن حاضت المرأة أخرجوها من المدينة إلى الربض حتى تطهر وفعلوا ذلك بنصرة ابنة الضيزن ملك الحضْر، فكانت الحال مظنة حيرة المسلمين في هذا الأمر تبعث على السؤال عنه‏.‏

والمحيض وهو اسم للدم الذي يسيل من رحم المرأة في أوقات منتظمة والمحيض اسم على زنة مفعل منقول من أسماء المصادر شاذاً عن قياسها لأن قياس المصدر في مثله فتح العين قال الزجاج «يقال حاضت حيضاً ومحاضاً ومحيضاً والمصدر في هذا الباب بابه المفعَل ‏(‏بفتح العين‏)‏ لكن المفعِل ‏(‏بكسر العين‏)‏ جيد» ووجه جودته مشابهته مضارعه لأن المضارع بكسر العين وهو مثل المجيء والمبيت، وعندي أنه لمَّا صار المحيض اسماً للدم السائل من المرأة عُدل به عن قياس أصله من المصدر إلى زنة اسم المكان وجيء به على زنة المكان للدلالة على أنه صار اسماً فخالفوا فيه أوزان الأحداث إشعاراً بالنقل فرقاً بين المنقول منه والمنقول إليه، ويُقال حيض وهو أصل المصدر‏:‏ يقال حاضت المرأة إذا سال منها؛ كما يقال حاض السيل إذا فاض ماؤه ومنه سمي الحوض حوضاً لأنه يسيل، أبدلوا ياءه واواً وليس منقولاً من اسم المكان؛ إذ لا مناسبة للنقل منه، وإنما تكلفه من زعمه مدفوعاً بالمحافظة على قياس اسم المكان معرضاً عما في تصييره اسماً من التوسع في مخالطة قاعدة الاشتقاق‏.‏

والمراد من السؤال عن المحيض السؤال عن قربان النساء في المحيض بدلالة الاقتضاء، وقد علم السائلون ما سألوا عنه والجواب أدل شيء عليه‏.‏

والأذى‏:‏ الضر الذي ليس بفاحش؛ كما دل عليه الاستثناء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن يضرونكم إلا أذى‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 111‏]‏، ابتدأ جوابهم عما يصنع الرجل بامرأته الحائض فبين لهم أن الحيض أذى ليكون ما يأتي من النهي عن قربان المرأة الحائض نهياً معلَّلاً فتتلقاه النفوس على بصيرة وتتهيأُ به الأمة للتشريع في أمثاله، وعبر عنه بأذى إشارة إلى إبطال ما كان من التغليط في شأنه وشأن المرأة الحائض في شريعة التوراة، وقد أثبت أنه أذى منكَّر ولم يبين جهته فتعين أن الأذى في مخالطة الرجل للحائض وهو أذى للرجل وللمرأة وللولد، فأما أذى الرجل فأوله القذارة وأيضاً فإن هذا الدم سائل من عضو التناسل للمرأة وهو يشتمل على بييضات دقيقة يكون منها تخلق الأجنة بعد انتهاء الحيض وبعد أن تختلط تلك البييضات بماء الرجل فإذا انغمس في الدم عضو التناسل في الرجل يتسرب إلى قضيبه شيء من ذلك الدم بما فيه فربما احتبس منه جزء في قناة الذكر فاستحال إلى عفونة تحدث أمراضاً معضلة فتحدث بثوراً وقروحاً لأنه دم قد فسد ويرد أي فيه أجزاء حية تفسد في القضيب فساداً مثل موت الحي فتؤول إلى تعفن‏.‏

وأما أذى المرأة فلأن عضو التناسل منها حينئذ بصدد التهيؤ إل إيجاد القوة التناسلية فإذا أزعج كان إزعاجاً في وقت اشتغاله بعمل فدخل عليه بذلك مرض وضعف، وأما الولد فإن النطفة إذا اختلطت بدم الحيض أخذت البييضات في التخلق قبل إبان صلاحيتها للتخلق النافع الذي وقته بعد الجفاف، وهذا قد عرفه العرب بالتجربة قال أبو كبير الهذلي‏:‏

ومُبَرِّإٍ مِن كُلِّ غُبَّرِ حيضَةٍ *** وفساد مُرضعة ودَاءٍ مُعْضِلِ

‏(‏غبر الحيضة جمع غُبرة ويجمع على غبر وهي آخر الشيء، يريد لم تحمل به أمه في آخر مدة الحيض‏)‏‏.‏ والأطباء يقولون إن الجنين المتكون في وقت الحيض قد يجئ مجذوماً أو يصاب بالجذام من بعد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏ تفريع الحكم على العلة، والاعتزال التباعد بمعزل وهو هنا كناية عن ترك مجامعتهن، والمجرور بفي‏:‏ وقت محذوف والتقدير‏:‏ في زمن المحيض وقد كثرت إنابة المصدر عن ظرف الزمان كما يقولون آتيك طلوع النجم ومَقْدَم الحاج‏.‏

والنساء اسم جمع للمرأة لا واحد له من لفظه، والمراد به هنا الأزواج كما يقتضيه لفظ ‏{‏اعتزلوا‏}‏ المخاطب به الرجال، وإنما يعتزل من كان يخالط‏.‏

وإطلاق النساء على الأزواج شائع بالإضافة كثيراً نحو‏:‏ ‏{‏يا نساء النبي‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏، وبدون إضافة مع القرينة كما هنا، فالمراد اعتزلوا نساءكم أي اعتزلوا ما هو أخص الأحوال بهن وهو المجامعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏ جاء النهي عن قربانهن تأكيداً للأمر باعتزالهن وتبييناً للمراد من الاعتزال وإنه ليس التباعد عن الأزواج بالأبدان كما كان عند اليهود بل هو عدم القِربان، فكان مقتضى الظاهر أن تكون جملة ‏{‏ولا تقربوهن‏}‏ مفصولة بدون عطف، لأنها مؤكدة لمضمون جملة ‏{‏فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏ ومبينة للاعتزال وكلا الأمرين يقتضي الفصل، ولكن خولف مقتضى الظاهر اهتماماً بهذا الحكم ليكون النهي عن القربان مقصوداً بالذات معطوفاً على التشريعات‏.‏

ويكنى عن الجماع بالقربان بكسر القاف مصدر قرِب بكسر الراء ولذلك جيء فيه بالمضارع المفتوح العين الذي هو مضارع قرب كسمِع متعدياً إلى المفعول؛ فإن الجماع لم يجئ إلا فيه دون قرب بالضم القاصر يقال قرُب منه بمعنى دنا وقربه كذلك واستعماله في المجامعة، لأن فيها قرباً ولكنهم غلبوا قرب المكسور العين فيها دون قرب المضموم تفرقة في الاستعمال، كما قالوا بَعُدَ إذا تجافى مكانه وبَعِدَ كمعنى البُعد المعنوي ولذلك يدعو بلا يَبْعَدْ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتى يطهرن‏}‏ غاية لاعتزلوا و‏{‏لا تقربوهن‏}‏، والطهر بضم الطاء مصدر معناه النقاء من الوسخ والقذر وفعله طهر بضم الهاء، وحقيقة الطهر نقاء الذات، وأطلق في اصطلاح الشرع على النقاء المعنوي وهو طهر الحدث الذي يقدَّر حصوله للمسلم بسبب، ويُقال تطهر إذا اكتسب الطهارة بفعله حقيقة نحو ‏{‏يحبون أن يتطهروا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏ أو مجازاً نحو ‏{‏إنهم أناس يتطهرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 82‏]‏، ويقال اطَّهر بتشديد الطاء وتشديد الهاء وهي صيغة تَطَهَّر وقع فيها إدغام التاء في الطاء قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم جنباً فاطهروا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ وصيغة التفعل في هذه المادة لمجرد المبالغة في حصول معنى الفعل ولذلك كان إطلاق بعضها في موضع بعض استعمالاً فصيحاً‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏حتى يطهرن‏}‏ بصيغة الفعل المجرَّد، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف ‏{‏يطَّهَّرْن‏}‏ بتشديد الطاء والهاء مفتوحتين‏.‏

ولما ذُكر أن المحيض أذى عَلِم السامع أن الطهر هنا هو النقاء من ذلك الأذى فإن وصف حائض يقابل بطاهر وقد سميت الأقراء أطهاراً، وقد يراد بالتطهر الغسل بالماء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏ فإن تفسيره الاستنجاء في الخلاء بالماء فإن كان الأول أفاد منع القربان إلى حصول النقاء من دم الحيض بالجفوف وكان قوله تعالى ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ بعد ذلك شرطاً ثانياً دالا على لزوم تطهر آخر وهو غسل ذلك الأذى بالماء، لأن صيغة ‏{‏تطهر‏}‏ تدل على طهارة مُعْمَلة، وإن كان الثاني كان قوله فإذا تطهرن تصريحاً بمفهوم الغاية ليبنى عليه قوله ‏{‏فأتوهن‏}‏، وعلى الاحتمال الثاني جاء قراءة ‏{‏حتى يطَّهَّرْن‏}‏ بتشديد الطاء والهاء فيكون المراد الطهر المكتسب وهو الطهر بالغسل ويتعين على هذه القراءة أن يكون مراداً منه مع معناه لازمُه أيضاً وهو النقاء من الدم ليقع الغسل موقعه بدليل قوله قبله ‏{‏فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏ وبذلك كان مآل القراءتين واحداً، وقد رجح المبرد قراءة حتى يطهرن بالتشديد قال لأن الوجه أن تكون الكلمتان بمعنى واحد يراد بهما جميعاً الغسل وهذا عجيب صدوره منه فإن اختلاف المعنيين إذا لم يحصل منه تضاد أولى لتكون الكلمة الثانية مفيدة شيئاً جديداً‏.‏

ورجح الطبري قراءة التشديد قائلاً‏:‏ «لإجماع الأمة على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم عنها حتى تطهر» وهو مردود بأن لا حاجة إلى الاستدلال بدليل الإجماع ولا إلى ترجيح القراءة به، لأن اللفظ كاف في إفادة المنع من قربان الرجل امرأته حتى تطهر بدليل مفهوم الشرط في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏‏.‏

وقد دلت الآية على أن غاية اعتزال النساء في المحيض هي حصول الطهر فإن حملنا الطهر على معناه اللغوي فهو النقاء من الدم ويتعين أن يحمل التطهر في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ على المعنى الشرعي، فيحصل من الغاية والشرط اشتراط النقاء والغسل وإلى هذا المعنى ذهب علماء المالكية ونظَّروه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ وإن حمل الطهر في الموضعين على المعنى الشرعي لا سيما على قراءة ‏(‏حتى يطَّهَّرْن‏)‏ حصل من مفهوم الغاية ومن الشرط المؤكِّد له اشتراط الغسل بالماء وهو يستلزم اشتراط النقاء عادة، إذ لا فائدة في الغسل قبل ذلك‏.‏

وأما اشتراط طهارة الحدث فاختلف فقهاء الإسلام في مجمل الطهر الشرعي هنا فقال قوم هو غسل محل الأذى بالماء فذلك يحل قربانها وهذا الذي تدل عليه الآية، لأن الطهر الشرعي يطلق على إزالة النجاسة وعلى رفع الحدث، والحائض اتصفت بالأمرين، والذي يمنع زوجها من قربانها هو الأذى ولا علاقة للقربان بالحدث فوجب أن يكون المراد غسل ذلك الأذى، وإن كان الطهران متلازمين بالنسبة للمرأة المسلمة فهما غير متلازمين بالنسبة للكتابية‏.‏

وقال الجمهور منهم مالك والشافعي هو غسل الجنابة وكأنهم أخذوا بأكمل أفراد هذا الاسم احتياطاً، أو رجعوا فيه إلى عمل المسلمات والمظنون بالمسلمات يومئذ أنهن كن لا يتريثن في الغسل الذي يبيح لهن الصلاة فلا دليل في فعلهن على عدم إجزاء ما دُونه، وذهب مجاهد وطاووس وعكرمة إلى أن الطهر هو وضوء كوضوء الصلاة أي مع الاستنجاء بالماء وهذا شاذ‏.‏

وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى التفصيل فقالوا‏:‏ إن انقطع الدم لأقصى أمد الحيض وهو عشرة أيام عندهم جاز قربانها قبل الاغتسال أي مع غسل المحل خاصة، وإن انقطع الدم لعادة المرأة دون أقصى الحيض لم يصح أن يقربها زوجها إلا إذا اغتسلت أو مضَى عليها وقتُ صلاة، وإن انقطع لأَقَلَّ من عادتها لم يحل قربانها ولكنها تغتسل وتصلي احتياطاً ولا يقربها زوجها حتى تكمل مدة عادتها، وعللوا ذلك بأن انقطاعه لأكثر أمده انقطاع تام لا يخشى بعده رجوعه بخلاف انقطاعه لأقل من ذلك فلزم أن يتقصى أثره بالماء أو بمضي وقت صلاة، ثم أرادوا أن يجعلوا من هذه الآية دليلاً لهذا التفصيل فقال عبد الحكيم السلكوتي ‏(‏حتى يطهرن‏)‏ قرئ بالتخفيف والتشديد فتنزل القراءتان منزلة آيتين، ولما كانت إحداهما معارضة الأخرى من حيث اقتضاء قراءة التخفيف الطهر بمعنى النقاء واقتضاء الأخرى كونه بمعنى الغسل جمع بين القراءتين بإعمال كل في حالة مخصوصة اه، وهذا مدرك ضعيف، إذ لم يعهد عدَ القراءتين بمنزلة آيتين حتى يثبت التعارض، سلمنا لكنهما وردتا في وقت واحد فيحمل مطلقهما على مقيدهما بأن نحمل الطهر بمعنى النقاء على أنه مشروط بالغسل، سلمنا العدول عن هذا التقييد فما هو الدليل الذي خص كل قراءة بحالة من هاتين دون الأخرى أو دون حالات أخَر، فما هذا إلا صنع باليد، فإن قلت لِمَ بنَوا دليلهم على تنزيل القراءتين منزلة الآيتين ولم يبنوه مثلنا على وجود ‏(‏يطهُرن‏)‏ و‏(‏يطَّهَّرْن‏)‏ في موضعين من هذه الآية، قلت كَأَنَّ سببه أن الواقعين في الآية هما جزءا آية فلا يمكن اعتبار التعارض بين جزئي آية بل يحملان على أن أحدهما مفسر للآخر أو مقيد له‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فأتوهن‏}‏ الأمر هنا للإباحة لا محالة لوقوعه عقب النهي مثل ‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ عبر بالإتيان هنا وهو شهير في التكني به عن الوطء لبيان أن المراد بالقِربان المنهي عنه هو الذي المعنى الكنائي فقد عبر بالاعتزال ثم قُفِّيَ بالقربان ثم قفي بالإتيان ومع كل تعبير فائدة جديدة وحكم جديد وهذا من إبداع الإيجاز في الإطناب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من حيث أمركم الله‏}‏ حيث اسم مكان مبهم مبنيٌ على الضم ملازمٌ الإضافة إلى جملة تحدده لِزوال إبهامها، وقد أشكل المراد من هذا الظرف على الذين تصدوا لتأويل القرآن وما أرى سبب إشكاله إلا أن المعنى قد اعتاد العرب في التعبير عنه سلوك طريق الكناية والإغماض وكان فهمه موكولاً إلى فطنهم ومعتاد تعبيرهم‏.‏ فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع أي إلا من حيث أمركم الله بأن تعتزلوهن منه مدة الحيض يعني القبل قال القرطبي ‏(‏من‏)‏ بمعنى في ونظره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أروني ماذا خلقوا من الأرض‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏، وعن ابن عباس وأبي رزين مسعود بن مالك والسُّدي وقتادة أن المعنى‏:‏ من الصفة التي أمركم الله وهي الطهر، فحيث مجاز في الحال أو السبب و‏(‏من‏)‏ لابتداء الأسباب فهي بمعنى التعليل‏.‏

والذي أراه أن قوله‏:‏ ‏{‏من حيث أمركم الله‏}‏ قد علم السامعون منه أنه أمر من الله كان قد حصل فيما قبل، وأما ‏(‏حيث‏)‏ فظرف مكان وقد تستعمل مجازاً في التعليل فيجوز أن المراد بأمر الله أمره الذي تضمنته الغاية ب ‏(‏حتى‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏ لأن غاية النهي تنتهي إلى الإباحة فالأمر هو الإذن، و‏(‏من‏)‏ للابتداء المجازي، و‏(‏حيث‏)‏ مستعملة في التعليل مجازاً تخييليا أي لأن الله أمركم بأن تأتوهن عند انتهاء غاية النهي بالتطهر‏.‏

أو المراد بأمر الله أمره الذي به أباح التمتع بالنساء وهو عقد النكاح، فحرف ‏(‏من‏)‏ للتعليل والسببية، و‏(‏حيث‏)‏ مستعار للمكان المجازي وهو حالة الإباحة التي قبل النهي كأنهم كانوا محجوزين عن استعمال الإباحة أو حجر عليهم الانتفاع بها ثم أذن لهم باستعمالها فشبهت حالتهم بحالة من حبس عند مكان ثم أطلق سراحه فهو يأتي منه إلى حيث يريد‏.‏ وعلى هذين المعنيين لا يكون في الآية ما يؤذن بقصد تحديد الإتيان بأن يكون في مكان النسل، ويعضد هذين المعنيين تذييل الكلام بجملة‏:‏ ‏{‏إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين‏}‏ وهو ارتفاق بالمخاطبين بأن ذلك المنع كان لمنفعتهم ليكونوا متطهرين، وأما ذكر التوابين فهو ادماج للتنويه بشأن التوبة عند ذكر ما يدل على امتثال ما أمرهم الله به من اعتزال النساء في المحيض أي إن التوبة أعظم شأناً من التطهر أي إن نية الامتثال أعظم من تحقق مصلحة التطهر لكم، لأن التوبة تطهر روحاني والتطهر جثماني‏.‏

ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏من حيث أمركم الله‏}‏ على حقيقة ‏(‏مِن‏)‏ في الابتداء وحقيقة ‏(‏حيث‏)‏ للمكان والمراد المكان الذي كان به أذى الحيض‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن جملة ‏{‏أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ وجملة ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏223‏]‏

‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏223‏)‏‏}‏

هذه الجملة تذييل ثان لجملة‏:‏ ‏{‏فأتوهن من حيث أمركم الله نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ قصد به الارتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لولا إرادة حفظهم من الأذى، كقول عمر بن الخطاب لما حمي الحمى «لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً إنها لبلادُهم» وتعتبر جملة ‏{‏نساؤكم حرث‏}‏ مقدِّمة لجملة ‏{‏فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنّى شاءوا، والعلةُ قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة ‏{‏فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة‏.‏

والحرث مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة تشق التراب ليزرع في شقوقه زريعة أو تغرس أشجار‏.‏ وهو هنا مطلق على معنى اسم المفعول‏.‏

وإطلاق الحرث على المحروث وأنواعه إطلاق متعدد فيطلق على الأرض المجعولة للزرع أو الغرس كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا هذه أنعام وحرث حجر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 138‏]‏ أي أرض زرع محجورة على الناس أن يزرعوها‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏والخيل المسومة والأنعام والحرث‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏ أي الجنات والحوائط والحقول‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته‏}‏ ‏[‏»ل عمران‏:‏ 117‏]‏ أي فأهلكت زرعهم‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 22‏]‏ يعنون به جنتهم أي صارمين عراجين التمر‏.‏

والحرث في هذه الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولاً لفعل ‏{‏فأتوا حرثكم‏}‏ وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه، وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل ‏"‏‏.‏

والفاء في ‏{‏فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ فاء فصيحة لابتناء ما بعدها على تقرر أن النساء حرث لهم، لا سيما إذا كانوا قد سألوا عن ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال‏.‏

وكلمة ‏(‏أنى‏)‏ اسم لمكان مبهم تبينه جملة مضاف هو إليها، وقد كثر استعماله مجازاً في معنى كيف بتشبيه حال الشيء بمكانه، لأن كيف اسم للحال المبهمة يبينها عاملها نحو ‏{‏كيف يشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 6‏]‏ وقال في «لسان العرب»‏:‏ إن ‏(‏أنى‏)‏ تكون بمعنى ‏(‏متى‏)‏، وقد أضيف ‏(‏أنى‏)‏ في هذه الآية إلى جملة ‏(‏شئتم‏)‏ والمشيئات شتى فتأوله كثير من المفسرين على حمل ‏(‏أني‏)‏ على المعنى المجازي وفسره بكيف شئتم وهو تأويل الجمهور الذي عضدوه بما رووه في سبب نزول الآية وفيها روايتان‏.‏

إحداهما عن جابر بن عبد الله والأخرى عن ابن عباس وتأوله الضحاك على معنى متى شئتم وتأوله جمع على معناه الحقيقي من كونه اسم مكان مبهم، فمنهم من جعلوه ظرفاً لأنه الأصل في أسماء المكان إذا لم يصرح فيها بما يصرف عن معنى الظرفية وفسروه بمعنى في أي مكان من المرأة شئتم وهو المروي في «صحيح البخاري» تفسيراً من ابن عمر، ومنهم من جعلوه اسم مكان غير ظرف وقدروا أنه مجرور ب ‏(‏من‏)‏ ففسروه من أي مكان أو جهة شئتم وهو يئول إلى تفسيره بمعنى كيف، ونسب القرطبي هذين التأويلين إلى سيبويه‏.‏ فالذي يتبادر من موقع الآية وتساعد عليه معاني ألفاظها أنها تذييل وارد بعد النهي عن قربان النساء في حال الحيض‏.‏ فتحمل ‏(‏أني‏)‏ على معنى متى ويكون المعنى فأتوا نساءكم متى شئتم إذا تطهرن فوزانها وزان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا حللتم فاصطادوا بعد قوله‏:‏ ‏{‏غير محلى الصيد وأنتم حرم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

ولا مناسبة تبعث لصرف الآية عن هذا المعنى إلا أن ما طار بين علماء السلف ومن بعدهم من الخوض في محامل أخرى لهذه الآية، وما رووه من آثار في أسباب النزول يضطّرنا إلى استفصال البيان في مختلف الأقوال والمحامل مقتنعين بذلك، لما فيه من إشارة إلى اختلاف الفقهاء في معاني الآية، وإنها لمسألة جديرة بالاهتمام، على ثقل في جريانها، على الألسنة والأقلام‏.‏

روى البخاري ومسلم في «صحيحهما» عن جابر بن عبد الله‏:‏ أن اليهود قالوا إذا أتى الرجل امرأته مجبية جاء الولد أحول، فسأل المسلمون عن ذلك فنزلت ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ الآية وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال‏:‏ كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من اليهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً ‏(‏أي يطأونهن وهن مستلقيات عن أقفيتهن‏)‏ ومقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت‏:‏ إنما كنا نؤتَى على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى شَرِي أمرُهما ‏(‏أي تفاقم اللجاج‏)‏ فبلغ ذلك النبي فأنزل الله‏:‏ ‏{‏فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ أي مقبلات كن أو مدبرات أو مستلقيات يعني بذلك في موضع الولد، وروي مثله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الترمذي، وما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال‏:‏ جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله هلكتُ قال وما أهلكك‏؟‏ قال‏:‏ حوَّلْت رحلي الليلة ‏(‏يريد أنه أتى امرأته وهي مستدبرة‏)‏ فلم يردَّ عليه رسول الله شيئاً فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ الآية‏.‏

وروى البخاري عن نافع قال‏:‏ كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عليه المصحف يوماً فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى ‏{‏فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ قال‏:‏ تدري فيم أنزلت‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ أنزلت في كذا وكذا وفي رواية عن نافع في البخاري «يأتيها في‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏» ولم يزد وهو يعني في كلتا الروايتين عنه إتيان النساء في أدبارهن كما صرح بذلك في رواية الطبري وإسحاق بن راهويه‏:‏ أنزلت إتيان النساء في أدبارهن، وروى الدارقطني في «غرائب مالك» والطبري عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلاً أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك فأنزل الله ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ وقد روى أن ذلك الرجل هو عبد الله بن عمر، وعن عطاء بن يسار أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر الناس عليه وقالوا‏:‏ أثفرها فأنزل الله تعالى ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ فعلى تأويل هؤلاء يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏، تشبيهاً للمرأة بالحرث أي بأرض الحرث وأطلق ‏{‏فأتوا حرثكم‏}‏ على معنى‏:‏ فاحرثوا في أي مكان شئتم‏.‏

أقول‏:‏ قد أجمل كلام الله تعالى هنا، وأبهم وبين المبهمات بمبهمات من جهة أخرى لاحتمال ‏{‏أمركم الله‏}‏ معاني ليس معنى الإيجاب والتشريع منها، إذ لم يعهد سبق تشريع من الله في هذا كما قدمناه، ثم أتبع بقوله‏:‏ ‏{‏يحب التوابين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ فربما أشعر بأن فعلاً في هذا البيان كان يرتكب والله يدعو إلى الانكفاف عنه وأتبع بقوله‏:‏ ‏{‏ويحب المتطهرين‏}‏ فأشعر بأن فعلاً في هذا الشأن قد يلتبس بغيرِ التنزه والله يحب التنزه عنه، مع احتمال المحبة عنه لمعنى التفضيل والتكرمة مثل ‏{‏يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏، واحتمالها لمعنى‏:‏ ويبغض غير ذلك، ثم جاء ما هو كالدليل وهو قوله‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ فجعلن حرثاً على احتمال وجوه في الشبه؛ فقد يقال‏:‏ إنه وكل للمعروف، وقد يقال‏:‏ إنه جعل شائعاً في المرأة، فلذلك نيط الحكم بذات النساء كلها، ثم قال‏:‏ ‏{‏فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ فجاء بأنى المحتملة للكيفيات وللأمكنة وهي أصل في الأمكنة ووردت في الكيفيات، وقد قيل‏:‏ إنها ترد للأزمنة فاحتمل كونها أمكنة الوصول من هذا الإتيان، أو أمكنة الورود إلى مكان آخر مقصود فهي أمكنة ابتداء الإتيان أو أمكنة الاستقرار فأُجمِل في هذا كله إجمال بديع وأثنى ثناء حسن‏.‏

واختلاف محامل الآية في أنظار المفسرين والفقهاء طوعُ علم المتأمل، وفيها أقوال كثيرة ومذاهب مختلفة لفقهاء الأمصار في كتب أحكام القرآن وكتب السنة، وفي دواوين الفقه، وقد اقتصرنا على الآثار التي تمت إلى الآية بسبب نزول، وتركنا ما عداه إلى أفهام العقول‏.‏

‏{‏وَقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّكُم ملاقوه وَبَشِّرِ المؤمنين‏}‏

عطف على جملة ‏{‏فأتوا حرثكم‏}‏ أو على جملة ‏{‏إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين‏}‏‏.‏ عطف الإنشاء على الخبر، على أن الجملة المعطوف عليها وإن كانت خبراً فالمقصود منها الأمر بالتوبة والتطهر؛ فكرر ذلك اهتماماً بالحرص على الأعمال الصالحة بعد الكلام على اللذائذ العاجلة‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏وقدموا‏}‏ اختصاراً لظهوره؛ لأن التقديم هنا إعداد الحسنات فإنها بمنزلة الثَّقَل الذي يقدمه المسافر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لأنفسكم‏}‏ متعلق ب ‏{‏قدموا‏}‏، واللام للعلة أي لأجل أنفسكم أي لنفعها، وقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ تحريض على امتثال الشرع بتجنب المخالفة، فيدخل تحته التخلي عن السيئات والتحلي بالواجبات والقربات، فمضمونها أعم من مضمون جملة ‏{‏وقدموا لأنفسكم‏}‏ فلذلك كانت هذه تذييلاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أنكم ملاقوه‏}‏ يجمع التحذير والترغيب، أي فلاقوه بما يرضى به عنكم كقوله‏:‏ ‏{‏ووجد الله عنده‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ وهو عطف على قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏‏.‏

والملاقاة‏:‏ مفاعلة من اللقاء وهو الحضور لدى الغير بقصد أو مصادفة‏.‏ وأصل مادة لقي تقتضي الوقوع بين شيئين فكانت مفيدة معنى المفاعلة بمجردها، فلذلك كان لقي ولاقى بمعنى واحد، وإنما أمرهم الله بعلم أنهم ملاقوه مع أن المسلمين يعلمون ذلك تنزيلاً لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن، ليزاد من تعليمهم اهتماماً بهذا المعلوم وتنافساً فيه على أننا رأينا أن في افتتاح الجملة بكلمة‏:‏ ‏{‏اعلموا‏}‏ اهتماماً بالخبر واستنصاتاً له وهي نقطة عظيمة سيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏24‏)‏‏.‏

وقد رتبت الجمل الثلاث الأول على عكس ترتيب حصول مضامينها في الخارج؛ فإن الظاهر أن يكون الإعلام بملاقاة الله هو الحاصل أولاً ثم يعقبه الأمر بالتقوى ثم الأمر بأن يقدموا لأنفسهم، فخولف الظاهر للمبادرة بالأمر بالاستعداد ليوم الجزاء، وأعقب بالأمر بالتقوى إشعاراً بأنها هي الاستعداد ثم ذكِّروا بأنهم ملاقو الله فجاء ذلك بمنزلة التعليل‏.‏

وقوله‏:‏ وبشر المؤمنين‏}‏ تعقيب للتحذير بالبشارة، والمراد‏:‏ المؤمنون الكاملون وهم الذين يسرون بلقاء الله كما جاء‏:‏ «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» وذِكر هذه البشارة عقب ما تقدم إشارة إلى أن امتثال الأحكام المتقدمة من كمال الإيمان، وجملة‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏، معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏واعلموا أنكم ملاقوه‏}‏، على الأظهر من جعل جملة‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏، استئنافاً غير معمولة لقل هو أذى، وإذا جعلت جملة ‏{‏نساؤكم‏}‏ من معمول القول كانت جملة ‏{‏قل هو أذى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ أَذًى‏}‏؛ إذ لا يصح وقوعها مقولا للقول كما اختاره التفتازاني‏.‏