فصل: باب فَضْلِ نَسَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ عَلَيْهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي»:

4206- قَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَام فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَشَبَّه بِي». وَفِي رِوَايَة: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَام فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَان لَا يَتَمَثَّل بِي». وَفِي رِوَايَة: «لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّل فِي صُورَتِي» وَفِي رِوَايَة: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقّ» وَفِي رِوَايَة: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَام فَسَيَرَانِي فِي الْيَقِظَة أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقِظَة» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ رَآنِي» فَقَالَ اِبْن الْبَاقَلَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّ رُؤْيَاهُ صَحِيحَة لَيْسَتْ بِأَضْغَاثٍ، وَلَا مِنْ تَشْبِيهَات الشَّيْطَان، وَيُؤَيِّدُ قَوْله رِوَايَة: «فَقَدْ رَأَى الْحَقّ» أَيْ الرُّؤْيَة الصَّحِيحَة.
قَالَ: وَقَدْ يَرَاهُ الرَّائِي عَلَى خِلَاف صِفَته الْمَعْرُوفَة، كَمَا رَآهُ أَبْيَض اللِّحْيَة.
وَقَدْ يَرَاهُ شَخْصَانِ فِي زَمَن وَاحِد أَحَدهمَا فِي الْمَشْرِق وَالْآخَر فِي الْمَغْرِب، وَيَرَاهُ كُلّ مِنْهُمَا فِي مَكَانه. وَحَكَى الْمَازِرِيّ هَذَا عَنْ اِبْن الْبَاقِلَّانِيّ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ الْحَدِيث عَلَى ظَاهِره، وَالْمُرَاد أَنَّ مَنْ رَآهُ فَقَدْ أَدْرَكَهُ، وَلَا مَانِع يَمْنَع مِنْ ذَلِكَ، وَالْعَقْل لَا يُحِيلهُ حَتَّى يَضْطَرَّ إِلَى صَرْفه عَنْ ظَاهِره. فَأَمَّا قَوْله: بِأَنَّهُ قَدْ يُرَى عَلَى خِلَاف صِفَته، أَوْ فِي مَكَانَيْنِ مَعًا فَإِنَّ ذَلِكَ غَلَط فِي صِفَاته، وَتَخَيُّل لَهَا عَلَى خِلَاف مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَظُنُّ الظَّانّ بَعْض الْخَيَالَات مَرْئِيًّا لِكَوْنِ مَا يَتَخَيَّلُ مُرْتَبِطًا بِمَا يَرَى فِي الْعَادَة فَيَكُون ذَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْئِيَّة، وَصِفَاته مُتَخَيَّلَة غَيْر مَرْئِيَّة، وَالْإِدْرَاك لَا يُشْتَرَطُ فيه تَحْدِيق الْأَبْصَار، وَلَا قُرْب الْمَسَافَة، وَلَا كَوْن الْمَرْئِيّ مَدْفُونًا فِي الْأَرْض، وَلَا ظَاهِرًا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنه مَوْجُودًا. وَلَمْ يَقُمْ دَلِيل عَلَى فَنَاء جِسْمه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيث مَا يَقْتَضِي بَقَاءَهُ.
قَالَ: وَلَوْ رَآهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ مَنْ يَحْرُمُ قَتْلُهُ كَانَ هَذَا مِنْ الصِّفَات الْمُتَخَيَّلَة لَا الْمَرْئِيَّة. هَذَا كَلَام الْمَازِرِيّ.
قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ رَآنِي» أَوْ: «فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ فَإِنَّ الشَّيْطَان لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي» الْمُرَاد بِهِ إِذَا رَآهُ عَلَى صِفَته الْمَعْرُوفَة لَهُ فِي حَيَاته، فَإِنْ رَأَى عَلَى خِلَافهَا كَانَتْ رُؤْيَا تَأْوِيل لَا رُؤْيَا حَقِيقَة، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي ضَعِيف، بَلْ الصَّحِيح أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَة، سَوَاء كَانَ عَلَى صِفَته الْمَعْرُوفَة، أَوْ غَيْرهَا، لِمَا ذَكَرَهُ الْمَازِرِيّ.
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: خَصَّ اللَّه تَعَالَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ رُؤْيَة النَّاس إِيَّاهُ صَحِيحَة، وَكُلّهَا صِدْق، وَمَنَعَ الشَّيْطَان أَنْ يَتَصَوَّرَ فِي خِلْقَته لِئَلَّا يَكْذِبَ عَلَى لِسَانه فِي النَّوْم، كَمَا خَرَقَ اللَّه تَعَالَى الْعَادَة لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَام بِالْمُعْجِزَةِ، وَكَمَا اِسْتَحَالَ أَنْ يَتَصَوَّرَ الشَّيْطَان فِي صُورَته فِي الْيَقِظَة، وَلَوْ وَقَعَ لَاشْتَبَهَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ، وَلَمْ يُوثَقْ بِمَا جَاءَ بِهِ مَخَافَة مِنْ هَذَا التَّصَوُّر، فَحَمَاهَا اللَّه تَعَالَى مِنْ الشَّيْطَان وَنَزْغه وَوَسْوَسَته وَإِلْقَائِهِ وَكَيْده.
قَالَ: وَكَذَا حَمَى رُؤْيَتهمْ نَفْسهمْ.
قَالَ الْقَاضِي: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى جَوَاز رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى فِي الْمَنَام وَصِحَّتهَا، وَإِنْ رَآهُ الْإِنْسَان عَلَى صِفَة لَا تَلِيقُ بِحَالِهِ مِنْ صِفَات الْأَجْسَام، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَرْئِيّ غَيْر ذَات اللَّه تَعَالَى، إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى التَّجَسُّم، وَلِاخْتِلَاف الْأَحْوَال بِخِلَافِ رُؤْيَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ اِبْن الْبَاقِلَّانِيّ: رُؤْيَة اللَّه تَعَالَى فِي الْمَنَام خَوَاطِر فِي الْقَلْب، وَهِيَ دَلَالَات لِلرَّائِي عَلَى أُمُور مِمَّا كَانَ أَوْ يَكُون كَسَائِرِ الْمَرْئِيَّات. وَاَللَّهُ أَعْلَم.
4207- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَام فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَة، أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَة» قَالَ الْعُلَمَاء: إِنْ كَانَ الْوَاقِع فِي نَفْس الْأَمْر فَكَأَنَّمَا رَآنِي فَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ رَآنِي» أَوْ: «فَقَدْ رَأَى الْحَقّ»، كَمَا سَبَقَ تَفْسِيره، وَإِنْ كَانَ سَيَرَانِي فِي الْيَقَظَة فَفيه أَقْوَال: أَحَدهَا الْمُرَاد بِهِ أَهْل عَصْره، وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فِي النَّوْم، وَلَمْ يَكُنْ هَاجَرَ، يُوَفِّقُهُ اللَّه تَعَالَى لِلْهِجْرَةِ. وَرُؤْيَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَة عِيَانًا، وَالثَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَرَى تَصْدِيق تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَة فِي الدَّار الْآخِرَة؛ لِأَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْآخِرَة جَمِيع أُمَّته مَنْ رَآهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ لَمْ يَرَهُ. وَالثَّالِث يَرَاهُ فِي الْآخِرَة رُؤْيَة خَاصَّته فِي الْقُرْب مِنْهُ وَحُصُول شَفَاعَته وَنَحْو ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4208- سبق شرحه بالباب.
4209- سبق شرحه بالباب.
4210- سبق شرحه بالباب.

.باب لاَ يُخْبِرُ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِي الْمَنَامِ:

4211- قَوْله: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي حَلَمْت أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ، فَأَنَا أَتَّبِعُهُ، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: لَا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَان بِك فِي الْمَنَام» قَالَ الْمَازِرِيّ: يَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّ مَنَامه هَذَا مِنْ الْأَضْغَاث بِوَحْيٍ، أَوْ بِدَلَالَةٍ مِنْ الْمَنَام دَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمَكْرُوه الَّذِي هُوَ مِنْ تَحْزِين الشَّيَاطِين.
وَأَمَّا الْعَابِرُونَ فَيَتَكَلَّمُونَ فِي كُتُبهمْ عَلَى قَطْع الرَّأْس، وَيَجْعَلُونَهُ دَلَالَة عَلَى مُفَارَقَة الرَّائِي مَا هُوَ فيه مِنْ النِّعَم، أَوْ مُفَارَقَة مَنْ فَوْقه، وَيَزُولُ سُلْطَانُهُ، وَيَتَغَيَّرُ حَاله فِي جَمِيع أُمُوره، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَيَدُلُّ عَلَى عِتْقه، أَوْ مَرِيضًا فَعَلَى شِفَائِهِ، أَوْ مَدْيُونًا فَعَلَى قَضَاء دَيْنه، أَوْ مَنْ لَمْ يَحُجَّ فَعَلَى أَنَّهُ يَحُجُّ، أَوْ مَغْمُومًا فَعَلَى فَرَحِهِ، أَوْ خَائِفًا فَعَلَى أَمْنِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4212- سبق شرحه بالباب.
4213- سبق شرحه بالباب.

.باب فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا:

4214- قَوْله: «أَرَى اللَّيْلَة فِي الْمَنَام ظُلَّة تَنْطِفُ السَّمْن وَالْعَسَل، فَأَرَى النَّاس يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا بِأَيْدِيهِمْ، وَأَرَى سَبَبًا وَاصِلًا» أَمَّا (الظُّلَّة) فَهِيَ السَّحَابَة.
(وَتَنْطِفُ) بِضَمِّ الطَّاء وَكَسْرهَا أَيْ تَقْطُرُ قَلِيلًا قَلِيلًا.
(وَيَتَكَفَّفُونَ) يَأْخُذُونَ بِأَكُفِّهِمْ.
و: (السَّبَب) الْحَبْل.
و: (الْوَاصِل) بِمَعْنَى الْمَوْصُول.
وَأَمَّا (اللَّيْلَة) فَقَالَ ثَعْلَب وَغَيْره: يُقَالُ: رَأَيْت اللَّيْلَة مِنْ الصَّبَاح إِلَى زَوَال الشَّمْس، وَمَنْ الزَّوَال إِلَى اللَّيْل رَأَيْت الْبَارِحَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصَبْت بَعْضًا، وَأَخْطَأْت بَعْضًا» اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة وَآخَرُونَ: مَعْنَاهُ أَصَبْت فِي بَيَان تَفْسِيرهَا، وَصَادَفْت حَقِيقَة تَأْوِيلهَا، وَأَخْطَأْت فِي مُبَادَرَتك بِتَفْسِيرِهَا مِنْ غَيْر أَنْ آمُرَك بِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ اِبْن قُتَيْبَة وَمُوَافِقُوهُ فَاسِد؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: اُعْبُرْهَا وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِي تَرْكه تَفْسِير بَعْضهَا، فَإِنَّ الرَّائِي قَالَ: رَأَيْت ظُلَّة تَنْطِفُ السَّمْن وَالْعَسَل، فَفَسَّرَهُ الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِالْقُرْآنِ حَلَاوَته وَلِينه، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ تَفْسِير الْعَسَل، وَتَرَكَ تَفْسِير السَّمْن وَتَفْسِيره السُّنَّة، فَكَانَ حَقّه أَنْ يَقُول: الْقُرْآن وَالسُّنَّة، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْخَطَأ وَقَعَ فِي خَلْع عُثْمَان، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَنَام أَنَّهُ أَخَذَ بِالسَّبَبِ فَانْقَطَعَ بِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اِنْخِلَاعه بِنَفْسِهِ، وَفَسَّرَهُ الصِّدِّيق بِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِهِ رَجُل فَيَنْقَطِعُ بِهِ، ثُمَّ يُوصَلُ لَهُ فَيَعْلُو بِهِ، وَعُثْمَان قَدْ خُلِعَ قَهْرًا، وَقُتِلَ، وَوُلِّيَ غَيْره. فَالصَّوَاب فِي تَفْسِيره أَنْ يُحْمَلَ وَصْله عَلَى وِلَايَة غَيْره مِنْ قَوْمه، وَقَالَ آخَرُونَ: الْخَطَأ فِي سُؤَاله لِيَعْبُرَهَا.
قَوْله: «فَوَاَللَّهِ يَا رَسُول اللَّه لَتُحَدِّثَنِّي مَا الَّذِي أَخْطَأْت قَالَ: لَا تُقْسِمْ» هَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاء أَنَّ إِبْرَار الْمُقْسِم الْمَأْمُور بِهِ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة إِنَّمَا هُوَ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِي الْإِبْرَار مَفْسَدَة وَلَا مَشَقَّة ظَاهِرَة. فَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْإِبْرَارِ، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبَرَّ قَسَم أَبِي بَكْر لَمَّا رَأَى فِي إِبْرَاره مِنْ الْمَفْسَدَة، وَلَعَلَّ الْمَفْسَدَة مَا عَلِمَهُ مِنْ سَبَب اِنْقِطَاع السَّبَب مَعَ عُثْمَان، وَهُوَ قَتْله. وَتِلْكَ الْحُرُوب وَالْفِتَن الْمُتَرَتِّبَة عَلَيْهِ، فَكَرِهَ ذِكْرَهَا مَخَافَة مِنْ شُيُوعهَا، أَوْ أَنَّ الْمَفْسَدَة لَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُبَادَرَته وَوَبَّخَهُ بَيْن النَّاس، أَوْ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي تَرْكِ تَعْيِين الرِّجَال الَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِالسَّبَبِ بَعْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِي بَيَانه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيَانهمْ مَفْسَدَة. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث جَوَاز عَبْر الرُّؤْيَا، وَأَنَّ عَابِرهَا قَدْ يُصِيبُ، وَقَدْ يُخْطِئُ. وَأَنَّ الرُّؤْيَا لَيْسَتْ لِأَوَّلِ عَابِرٍ عَلَى الْإِطْلَاق، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِذَا أَصَابَ وَجْههَا. وَفيه أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إِبْرَار الْمُقْسِم إِذَا كَانَ فيه مَفْسَدَة أَوْ مَشَقَّة ظَاهِرَة.
قَالَ الْقَاضِي: وَفيه أَنَّ مَنْ قَالَ أُقْسِمُ لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ. لِأَنَّ أَبَا بَكْر لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْله: أُقْسِمُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي عَجَب، فَإِنَّ الَّذِي فِي جَمِيع نُسَخ صَحِيح مُسْلِم أَنَّهُ قَالَ: «فَوَاَللَّهِ يَا رَسُول اللَّه لَتُحَدِّثَنِّي» وَهَذَا صَرِيح يَمِين، وَلَيْسَ فيها أُقْسِمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْقَاضِي: قِيلَ لِمَالِكٍ: أَيَعْبُرُ الرَّجُل الرُّؤْيَا عَلَى الْخَيْر وَهِيَ عِنْده عَلَى الشَّرّ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّه أَبِالنُّبُوَّةِ يَتَلَعَّبُ؟ هِيَ مِنْ أَجْزَاء النُّبُوَّة.
قَوْله: «كَانَ مِمَّا يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا» قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَى هَذِهِ اللَّفْظَة عِنْدهمْ كَثِيرًا مَا كَانَ يَفْعَل كَذَا، وَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ شَأْنه. وَفِي الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى عِلْم الرُّؤْيَا وَالسُّؤَال عَنْهَا وَتَأْوِيلهَا، قَالَ الْعُلَمَاء: وَسُؤَالهمْ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ تَأْوِيلهَا وَفَضِيلَتهَا وَاشْتِمَالهَا عَلَى مَا شَاءَ اللَّه تَعَالَى مِنْ الْإِخْبَار بِالْغَيْبِ.

.باب رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

4215- قَوْله: «بِرُطَبٍ مِنْ رُطَب اِبْن طَابٍ» هُوَ نَوْع مِنْ الرُّطَب مَعْرُوفٌ يُقَال لَهُ: رُطَبُ ابْنُ طَابٍ، وَتَمْرُ ابْنُ طَابٍ، وَعِذْقُ ابْنُ طَابٍ، وَعُرْجُون ابْنُ طَاب، وَهِيَ مُضَاف إِلَى اِبْن طَابٍ: رَجُل مِنْ أَهْل الْمَدِينَة.
4217- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْت فِي الْمَنَام أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّة إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَة أَوْ هَجَر، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَة يَثْرِب» أَمَّا (الْوَهَل) فَبِفَتْحِ الْهَاء، وَمَعْنَاهُ وَهْمِي وَاعْتِقَادِي.
(وَهَجَر) مَدِينَة مَعْرُوفَة، وَهِيَ قَاعِدَة الْبَحْرَيْنِ، وَهِيَ مَعْرُوفَة سَبَقَ بَيَانهَا فِي كِتَاب الْإِيمَان.
وَأَمَّا (يَثْرِب) فَهُوَ اِسْمهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، فَسَمَّاهَا اللَّه تَعَالَى الْمَدِينَة، وَسَمَّاهَا رَسُول اللَّه طَيْبَة وَطَابَة، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحه مَبْسُوطًا فِي آخَر كِتَاب الْحَجّ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث النَّهْي عَنْ تَسْمِيَتهَا (يَثْرِب) لِكَرَاهَةِ لَفْظ التَّثْرِيب، وَلِأَنَّهُ مِنْ تَسْمِيَة الْجَاهِلِيَّة، وَسَمَّاهَا فِي هَذَا الْحَدِيث يَثْرِب، فَقِيلَ: يَحْتَمِل أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْل النَّهْي، وَقِيلَ: لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَأَنَّ النَّهْي لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، وَقِيلَ: خُوطِبَ بِهِ مَنْ يَعْرِفهَا بِهِ، وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنه وَبَيْن اِسْمه الشَّرْعِيّ، فَقَالَ: «الْمَدِينَة يَثْرِب».
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَأَيْت فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ أَنِّي هَزَزْت سَيْفًا، فَانْقَطَعَ صَدْره، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيب مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْم أُحُد، ثُمَّ هَزَزْته أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَن مَا كَانَ» أَمَّا (هَزَزْت وَهَزَزْته) فَوَقَعَ فِي مُعْظَم النُّسَخ بِالزَّائِينَ فيهمَا، وَفِي بَعْضهَا (هَزَّتْ وَهَزَّتْهُ) بِزَاي وَاحِدَة مُشَدَّدَة وَإِسْكَان التَّاء، وَهِيَ لُغَة صَحِيحَة.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَتَفْسِيره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الرُّؤْيَا بِمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ سَيْف الرَّجُل أَنْصَاره الَّذِينَ يَصُول بِهِمْ كَمَا يَصُول بِسَيْفِهِ.
وَقَدْ يُفَسَّر السَّيْف فِي غَيْر هَذَا بِالْوَلَدِ، وَالْوَالِد، وَالْعَمّ، أَوْ الْأَخ أَوْ الزَّوْجَة، وَقَدْ يَدُلّ عَلَى الْوِلَايَة أَوْ الْوَدِيعَة، وَعَلَى لِسَان الرَّجُل وَحُجَّته، وَقَدْ يَدُلّ عَلَى سُلْطَان جَائِر، وَكُلّ ذَلِكَ بِحَسْب قَرَائِن تَنْضَمّ تَشْهَد لِأَحَدِ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الرَّائِي أَوْ فِي الرُّؤْيَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَأَيْت فيها أَيْضًا بَقَرًا، وَاَللَّهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمْ النَّفَر مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَوْم أُحُد، وَإِذَا الْخَيْر مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْخَيْر بَعْد، وَثَوَاب الصِّدْق الَّذِي آتَانَا اللَّه يَوْم بَدْر» قَدْ جَاءَ فِي غَيْر مُسْلِم زِيَادَة فِي هَذَا الْحَدِيث: «وَرَأَيْت بَقَرًا تُنْحَر» وَبِهَذِهِ الزِّيَادَة يَتِمّ تَأْوِيل الرُّؤْيَا بِمَا ذَكَرَ، فَنَحْر الْبَقَر هُوَ قَتْل الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ الَّذِينَ قُتِلُوا بِأُحُدٍ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: ضَبَطْنَا هَذَا الْحَرْف عَنْ جَمِيع الرُّوَاة (وَاَللَّه خَيْر) بِرَفْعِ الْهَاء وَالرَّاء عَلَى الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر. و(بَعْد يَوْم بَدْر) بِضَمِّ دَال (بَعْد)، وَنَصْب (يَوْم) قَالَ: وَرُوِيَ بِنَصْبِ الدَّال. قَالُوا: وَمَعْنَاهُ مَا جَاءَ اللَّه بِهِ بَعْد بَدْر الثَّانِيَة مِنْ تَثْبِيت قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ النَّاس جَمَعُوا لَهُمْ وَخَوَّفُوهُمْ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبنَا اللَّه وَنِعْمَ الْوَكِيل فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّه وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء، وَتَفَرَّقَ الْعَدُوّ عَنْهُمْ هَيْبَة لَهُمْ.
قَالَ الْقَاضِي: قَالَ أَكْثَر شُرَّاح الْحَدِيث: مَعْنَاهُ ثَوَاب اللَّه خَيْر أَيْ صُنْع اللَّه بِالْمَقْتُولِينَ خَيْر لَهُمْ مِنْ بَقَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوْلَى قَوْلُ مَنْ قَالَ: «وَاَللَّهُ خَيْرٌ» مِنْ جُمْلَة الرُّؤْيَا وَكَلِمَة أُلْقِيَتْ إِلَيْهِ وَسَمِعَهَا فِي الرُّؤْيَا عِنْد رُؤْيَا الْبَقَر بِدَلِيلِ تَأْوِيله لَهَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا الْخَيْر مَا جَاءَ اللَّه» وَاَللَّه أَعْلَم.
4218- قَوْله: «أَنَّ مُسَيْلِمَة الْكَذَّاب وَرَدَ الْمَدِينَة فِي عَدَد كَثِير، فَجَاءَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا جَاءَهُ تَأَلُّفًا لَهُ وَلِقَوْمِهِ رَجَاء إِسْلَامهمْ، وَلِيُبَلِّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ سَبَبَ مَجِيئِهِ إِلَيْهِ أَنَّ مُسَيْلِمَة قَصَدَهُ مِنْ بَلَده لِلِقَائِهِ، فَجَاءَهُ مُكَافَأَة لَهُ.
قَالَ: وَكَانَ مُسَيْلِمَة إِذْ ذَاكَ يُظْهِرُ الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا ظَهَرَ كُفْره وَارْتِدَاده بَعْد ذَلِكَ.
قَالَ: وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث آخَر أَنَّهُ هُوَ أَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمَا مَرَّتَانِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَيْلَمَةَ: «وَلَنْ أَتَعَدَّى أَمْر اللَّه فِيك» فَهَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم.
وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ: «وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْر اللَّه فِيك» قَالَ الْقَاضِي: هُمَا صَحِيحَانِ. فَمَعْنَى الْأَوَّل لَنْ أَعْدُوَ أَنَا أَمْر اللَّه فِيك مِنْ أَنِّي لَا أُجِيبُك إِلَى مَا طَلَبْته مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَك مِنْ الِاسْتِخْلَاف أَوْ الْمُشَارَكَة، وَمِنْ أَنِّي أُبَلِّغُ مَا أُنْزِلَ إِلَيَّ، وَأَدْفَعُ أَمْرَك بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَن. وَمَعْنَى الثَّانِي وَلَنْ تَعْدُوَ أَنْتَ أَمْر اللَّه فِي خَيْبَتك فِيمَا أَمَلْته مِنْ النُّبُوَّة، وَهَلَاكك دُون ذَلِكَ، أَوْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ قَضَاء اللَّه تَعَالَى وَقَدَره فِي شَقَاوَتِك. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَئِنْ أَدْبَرْت لَيَعْقِرَنَّك اللَّه» أَيْ إِنْ أَدْبَرْت عَنْ طَاعَتِي لَيَقْتُلَنَّك اللَّه. وَالْعَقْرُ الْقَتْل. وَعَقَرُوا النَّاقَةَ قَتَلُوهَا. وَقَتَلَهُ اللَّه تَعَالَى يَوْم الْيَمَامَة. وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَات النُّبُوَّة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُك عَنِّي» قَالَ الْعُلَمَاء كَانَ ثَابِت بْن قَيْس خَطِيبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِبُ الْوُفُود عَنْ خُطَبِهِمْ وَتَشَدُّقهمْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْت فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ» وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «فَوَضَعَ فِي يَدَيَّ أُسْوَارَيْنِ» قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَالُ: (سِوَار) بِكَسْرِ السِّين وَضَمِّهَا، و(أُسْوَار) بِضَمِّ الْهَمْز، ثَلَاث لُغَات. وَوَقَعَ فِي جَمِيع النُّسَخ فِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة (أُسْوَارَيْنِ) فَيَكُون وَضَعَ بِفَتْحِ الْوَاو وَالضَّاد، وَفيه ضَمِير الْفَاعِل، أَيْ وَضَعَ الْآتِي بِخَزَائِن الْأَرْض فِي يَدَيَّ أَسُوَارَيْنِ، فَهَذَا هُوَ الصَّوَاب. وَضَبَطَهُ بَعْضهمْ (فَوُضِعَ) بِضَمِّ الْوَاو، وَهُوَ ضَعِيف لِنَصْبِ أَسُوَارَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَتَخَرَّجُ عَلَى وَجْه ضَعِيف. وَقَوْله: (يَدَيَّ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاء عَلَى التَّثْنِيَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ انْفُخْهُمَا» هُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. وَنَفْخه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمَا فَطَارَا دَلِيل لِانْمِحَاقِهِمَا وَاضْمِحْلَال أَمْرِهِمَا، وَكَانَ كَذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ الْمُعْجِزَات.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي، فَكَانَ أَحَدهمَا الْعَنْسِي صَاحِب صَنْعَاء، وَالْآخَر مُسَيْلَمَة صَاحِب الْيَمَامَة» قَالَ الْعُلَمَاء: الْمُرَاد بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجَانِ بَعْدِي» أَيْ يُظْهِرَانِ شَوْكَتهمَا أَوْ مُحَارَبَتهمَا وَدَعْوَاهُمَا النُّبُوَّة، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَا فِي زَمَنه.
4219- قَوْله: «أُوتِيت خَزَائِن الْأَرْض»، وَفِي بَعْض النُّسَخ: «أُتِيت بِخَزَائِن الْأَرْض» وَفِي بَعْضهَا: «أُتِيت خَزَائِن الْأَرْض» وَهَذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلهَا. وَفِي غَيْر مُسْلِم: «مَفَاتِيح خَزَائِن الْأَرْض» قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا مَحْمُول عَلَى سُلْطَانِهَا وَمُلْكِهَا، وَفَتْح بِلَادهَا، وَأَخْذ خَزَائِن أَمْوَالهَا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَلِلَّهِ الْحَمْد، وَهُوَ مِنْ الْمُعْجِزَات.
4220- قَوْله: كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَلَّى الصُّبْح أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَد مِنْكُمْ الْبَارِحَة رُؤْيَا؟» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم (الْبَارِحَة). فيه دَلِيل لِجَوَازِ إِطْلَاق الْبَارِحَة عَلَى اللَّيْلَة الْمَاضِيَة، وَإِنْ كَانَ قَبْل الزَّوَال. وَقَوْل ثَعْلَب وَغَيْره: إِنَّهُ لَا يُقَالُ الْبَارِحَة إِلَّا بَعْد الزَّوَال يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ هَذَا حَقِيقَته، وَلَا يُمْتَنَعُ إِطْلَاقه قَبْل الزَّوَال مَجَازًا، وَيَحْمِلُونَ الْحَدِيث عَلَى الْمَجَاز، وَإِلَّا فَمَذْهَبهمْ بَاطِل بِهَذَا الْحَدِيث. وَفيه دَلِيل لِاسْتِحْبَابِ إِقْبَال الْإِمَام الْمُصَلِّي بَعْد سَلَامه عَلَى أَصْحَابه. وَفيه اِسْتِحْبَاب السُّؤَال عَنْ الرُّؤْيَا وَالْمُبَادَرَة إِلَى تَأْوِيلهَا وَتَعْجِيلهَا أَوَّل النَّهَار لِهَذَا الْحَدِيث، وَلِأَنَّ الذِّهْن جُمِعَ قَبْل أَنْ يَتَشَعَّبَ بِإِشْغَالِهِ فِي مَعَايِش الدُّنْيَا، وَلِأَنَّ عَهْد الرَّائِي قَرِيب لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مَا يُهَوِّشُ الرُّؤْيَا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فيها مَا يُسْتَحَبُّ تَعْجِيله كَالْحَثِّ عَلَى خَيْر، أَوْ التَّحْذِير مِنْ مَعْصِيَة، وَنَحْو ذَلِكَ. وَفيه إِبَاحَة الْكَلَام فِي الْعِلْم وَتَفْسِير الرُّؤْيَا وَنَحْوهمَا بَعْد صَلَاة الصُّبْح. وَفيه أَنَّ اِسْتِدْبَار الْقِبْلَة فِي جُلُوسه لِلْعِلْمِ أَوْ غَيْره مُبَاح. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.كتاب الفضائل:

.باب فَضْلِ نَسَبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ عَلَيْهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ:

4221- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّه اِصْطَفَى كِنَانَة» إِلَى آخِره اِسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابنَا عَلَى أَنَّ غَيْر قُرَيْش مِنْ الْعَرَب لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهُمْ، وَلَا غَيْر بَنِي هَاشِم كُفُؤ لَهُمْ إِلَّا بَنِي الْمُطَّلِب، فَإِنَّهُمْ هُمْ وَبَنُو هَاشِم شَيْءٌ وَاحِدٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4222- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّة كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْل أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآن» فيه مُعْجِزَة لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي هَذَا إِثْبَات التَّمْيِيز فِي بَعْض الْجَمَادَات، وَهُوَ مُوَافِق لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِجَارَة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} وَفِي هَذِهِ الْآيَة خِلَاف مَشْهُور، وَالصَّحِيح أَنَّهُ يُسَبِّحُ حَقِيقَة، وَيَجْعَلُ اللَّه تَعَالَى فيه تَمْيِيزًا بِحَسْبِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهُ الْحَجَر الَّذِي فَرَّ بِثَوْبِ مُوسَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَلَام الذِّرَاع الْمَسْمُومَة، وَمَشْي إِحْدَى الشَّجَرَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى حِين دَعَاهُمَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْبَاه ذَلِكَ.

.باب تَفْضِيلِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ الْخَلاَئِقِ:

4223- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم يَوْم الْقِيَامَة، وَأَوَّل مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْر، وَأَوَّل شَافِع وَأَوَّل مُشَفَّع» قَالَ الْهَرَوِيُّ: السَّيِّد هُوَ الَّذِي يَفُوقُ قَوْمه فِي الْخَيْر، وَقَالَ غَيْره: هُوَ الَّذِي يُفْزَعُ إِلَيْهِ فِي النَّوَائِب وَالشَّدَائِد، فَيَقُومُ بِأَمْرِهِمْ، وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ مَكَارِههمْ، وَيَدْفَعُهَا عَنْهُمْ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوْم الْقِيَامَة» مَعَ أَنَّهُ سَيِّدهمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَسَبَبُ التَّقْيِيد أَنَّ فِي يَوْم الْقِيَامَة يَظْهَرُ سُؤْدُده لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يَبْقَى مُنَازِع، وَلَا مُعَانِد، وَنَحْوه، بِخِلَافِ الدُّنْيَا فَقَدْ نَازَعَهُ ذَلِكَ فيها مُلُوكُ الْكُفَّار وَزُعَمَاء الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا التَّقْيِيد قَرِيب مِنْ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} مَعَ أَنَّ الْمُلْكَ لَهُ سُبْحَانه قَبْل ذَلِكَ، لَكِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مَنْ يَدَّعِي الْمُلْكَ، أَوْ مَنْ يُضَافُ إِلَيْهِ مَجَازًا، فَانْقَطَعَ كُلّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَة.
قَالَ الْعُلَمَاء: وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم» لَمْ يَقُلْهُ فَخْرًا، بَلْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْفَخْر فِي غَيْر مُسْلِم فِي الْحَدِيث الْمَشْهُور: «أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم وَلَا فَخْرَ» وَإِنَّمَا قَالَهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا اِمْتِثَال قَوْله تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ} وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنْ الْبَيَان الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغه إِلَى أُمَّته لِيَعْرِفُوهُ، وَيَعْتَقِدُوهُ، وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ، وَيُوَقِّرُوهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا تَقْتَضِي مَرْتَبَتُهُ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّه تَعَالَى. وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِتَفْضِيلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْآدَمِيِّينَ أَفْضَل مِنْ الْمَلَائِكَة، وَهُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَل الْآدَمِيِّينَ وَغَيْرهمْ.
وَأَمَّا الْحَدِيث الْآخَر: «لَا تُفَضِّلُوا بَيْن الْأَنْبِيَاء» فَجَوَابه مِنْ خَمْسَة أَوْجُه: أَحَدهمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ قَبْل أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّد وَلَد آدَم، فَلَمَّا عَلِمَ أَخْبَرَ بِهِ. وَالثَّانِي قَالَهُ أَدَبًا وَتَوَاضُعًا. وَالثَّالِث أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى تَنْقِيص الْمَفْضُول. وَالرَّابِع إِنَّمَا نَهْيٌ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَة وَالْفِتْنَة كَمَا هُوَ الْمَشْهُور فِي سَبَب الْحَدِيث. وَالْخَامِس أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالتَّفْضِيلِ فِي نَفْس النُّبُوَّة، فَلَا تَفَاضُلَ فيها، وَإِنَّمَا التَّفَاضُل بِالْخَصَائِصِ وَفَضَائِل أُخْرَى ولابد مِنْ اِعْتِقَادِ التَّفْضِيل، فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَوَّل شَافِع وَأَوَّل مُشَفَّع» إِنَّمَا ذَكَرَ الثَّانِي لِأَنَّهُ قَدْ يَشْفَعُ اِثْنَانِ، فَيَشْفَعُ الثَّانِي مِنْهُمَا قَبْل الْأَوَّل. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

قَوْله فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث فِي نَبْع الْمَاء مِنْ بَيْن أَصَابِعه، وَتَكْثِيره، وَتَكْثِير الطَّعَام. هَذِهِ كُلّهَا مُعْجِزَات ظَاهِرَات وُجِدَتْ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِن مُخْتَلِفَة، وَعَلَى أَحْوَال مُتَغَايِرَة، وَبَلَغَ مَجْمُوعهَا التَّوَاتُر.
وَأَمَّا تَكْثِير الْمَاء فَقَدْ صَحَّ مِنْ رِوَايَة أَنَس وَابْن مَسْعُود وَجَابِر وَعِمْرَان بْن الْحُصَيْن، وَكَذَا تَكْثِير الطَّعَام وُجِدَ مِنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِن مُخْتَلِفَة، وَعَلَى أَحْوَال كَثِيرَة، وَصِفَات مُتَنَوِّعَة، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَاب الرُّقَى بَيَان حَقِيقَة الْمُعْجِزَة، وَالْفَرْق بَيْنهَا وَبَيْن الْكَرَامَة، وَسَبَقَ قَبْل ذَلِكَ بَيَانُ كَيْفِيَّة تَكْثِير الطَّعَام وَغَيْره.
4224- قَوْله: «فَأَتَى بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ» هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء وَإِسْكَان الْحَاء الْمُهْمَلَة، وَيُقَالُ لَهُ: (رَحْرَح) بِحَذْفِ الْأَلْف، وَهُوَ الْوَاسِع الْقَصِير الْجِدَار.
قَوْله: «فَجَعَلْت أَنْظُرُ إِلَى الْمَاء يَنْبُعُ مِنْ بَيْن أَصَابِعه» هُوَ بِضَمِّ الْبَاء وَفَتْحهَا وَكَسْرهَا، ثَلَاث لُغَات. وَفِي كَيْفِيَّة هَذَا النَّبْع قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي وَغَيْره: أَحَدهمَا وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ الْمُزَنِيِّ وَأَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَاء كَانَ يَخْرُجُ مِنْ نَفْس أَصَابِعه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْبُعُ مِنْ ذَاتِهَا. قَالُوا: وَهُوَ أَعْظَم فِي الْمُعْجِزَة مِنْ نَبْعِهِ مِنْ حَجَرٍ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة: «فَرَأَيْت الْمَاء يَنْبُعُ مِنْ أَصَابِعه».
وَالثَّانِي يَحْتَمِلُ أَنَّ اللَّه كَثَّرَ الْمَاء فِي ذَاته، فَصَارَ يَفُورُ مِنْ بَيْن أَصَابِعه لَا مِنْ نَفْسهَا، وَكِلَاهُمَا مُعْجِزَة ظَاهِرَة، وَآيَة بَاهِرَة.
4225- قَوْله: «فَالْتَمَسَ النَّاس الْوَضُوء» هُوَ بِفَتْحِ الْوَاو عَلَى الْمَشْهُور، وَهُوَ الْمَاء الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَسَبَقَ بَيَان لُغَاته فِي كِتَاب الطَّهَارَة.
قَوْله: «حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْد آخِرهمْ» هَكَذَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «مِنْ عِنْد آخِرهمْ» وَهُوَ صَحِيح، و(مِنْ) هُنَا بِمَعْنَى (إِلَى) وَهِيَ لُغَة.
4226- قَوْله: «وَالْمَسْجِد فِيمَا ثَمَّةَ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (ثَمَّةَ).
قَالَ أَهْل اللُّغَة: ثَمَّ بِفَتْحِ الثَّاء و(ثَمَّة) بِالْهَاءِ بِمَعْنَى هُنَاكَ وَهُنَا، فَثَمَّ لِلْبَعِيدِ، وَثَمَّةَ لِلْقَرِيبِ.
قَوْله: «كَانُوا زُهَاء الثَّلَاثمِائَةِ» أَمَّا (زُهَاء) فَبِضَمِّ الزَّاي وَبِالْمَدِّ أَيْ قَدْر ثَلَاثمِائَةِ، وَيُقَالُ أَيْضًا (لَهَا) بِاللَّامِ.
وَقَالَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة: «ثَلَاثمِائَةِ» وَفِي الرِّوَايَة الَّتِي قَبْلهَا: «مَا بَيْن السِّتِّينَ إِلَى الثَّمَانِينَ».
قَالَ الْعُلَمَاء: هُمَا قَضِيَّتَانِ جَرَتَا فِي وَقْتَيْنِ، وَرَوَاهُمَا أَنَس.
وَأَمَّا قَوْله الثَّلَاثمِائَةِ فَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: «الثَّلَاثمِائَةِ»، وَهُوَ صَحِيح، وَسَبَقَ شَرْحه فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث حُذَيْفَة: «اُكْتُبُوا لِي كَمْ بِلَفْظِ الْإِسْلَام».
قَوْله: «لَا يَغْمُرُ أَصَابِعَهُ» أَيْ لَا يُغَطِّيهَا.
4227- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا» أَيْ مَوْجُودًا حَاضِرًا.
قَوْله فِي حَدِيث الْمَرْأَة أَنَّهَا حِين عَصَرَتْ الْعُكَّة ذَهَبَتْ بَرَكَة السَّمْن، وَفِي حَدِيث الرَّجُل حِين كَالَ الشَّعِير فَنِيَ، وَمِثْله حَدِيث عَائِشَة حِين كَالتِ الشَّعِير فَفَنِيَ، قَالَ الْعُلَمَاء: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَصْرَهَا وَكَيْلَهُ مُضَادَّةٌ لِلتَّسْلِيمِ وَالتَّوَكُّل عَلَى رِزْق اللَّه تَعَالَى، وَيَتَضَمَّنُ التَّدْبِير، وَالْأَخْذ بِالْحَوْلِ وَالْقُوَّة، وَتَكَلُّف الْإِحَاطَة بِأَسْرَارِ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى وَفَضْلِهِ، فَعُوقِبَ فَاعِلُهُ بِزَوَالِهِ.
4229- قَوْله فِي حَدِيث غَزْوَة تَبُوك: «كَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاة» إِلَى آخِره هَذَا الْحَدِيث سَبَقَ فِي كِتَاب الصَّلَاة، وَفيه هَذِهِ الْمُعْجِزَة الظَّاهِرَة فِي تَكْثِير الْمَاء، وَفيه الْجَمْع بَيْن الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَر.
قَوْله: «وَالْعَيْنُ مِثْل الشِّرَاك تَبِضّ» هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ هُنَا (تَبِضّ) بِفَتْحِ التَّاء، وَكَسْر الْمُوَحَّدَة، وَتَشْدِيد الضَّاد الْمُعْجَمَة. وَنَقَلَ الْقَاضِي اِتِّفَاق الرُّوَاة هُنَا عَلَى أَنَّهُ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَة، وَمَعْنَاهُ تَسِيلُ. وَاخْتَلَفُوا فِي ضَبْطِهِ هُنَاكَ، فَضَبَطَهُ بَعْضهمْ بِالْمُعْجَمَةِ، وَبَعْضهمْ بِالْمُهْمَلَةِ أَيْ تَبْرُقُ. و(الشِّرَاك) بِكَسْرِ الشِّين وَهُوَ سَيْر النَّعْل، وَمَعْنَاهُ مَاء قَلِيل جِدًّا.
قَوْله: «فَجَرَتْ الْعَيْن بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ» أَيْ كَثِير الصَّبّ وَالدَّفْع.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ مُلِئَ جِنَانًا» أَيْ بَسَاتِين وَعُمْرَانًا، وَهُوَ جَمْع جَنَّة، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْمُعْجِزَات.
4230- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيقَة: «اُخْرُصُوهَا» هُوَ بِضَمِّ الرَّاء وَكَسْرهَا، وَالضَّمّ أَشْهَر أَيْ اِحْزِرُوا كَمْ يَجِيءُ مِنْ تَمْرِهَا. فيه اِسْتِحْبَاب اِمْتِحَان الْعَالِم أَصْحَابه بِمِثْلِ هَذَا التَّمْرِين. وَالْحَدِيقَة الْبُسْتَان مِنْ النَّخْل إِذَا كَانَ عَلَيْهِ حَائِط.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَتَهُبُّ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَة رِيح شَدِيدَة فَلَا يَقُمْ فيها أَحَد، فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِير فَلْيَشُدَّ عِقَاله فَهَبَّتْ رِيح شَدِيدَة، فَقَامَ رَجُل، فَحَمَلَتْهُ الرِّيح حَتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئ» هَذَا الْحَدِيثُ فيه هَذِهِ الْمُعْجِزَة الظَّاهِرَة مِنْ إِخْبَاره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَغِيبِ، وَخَوْف الضَّرَر مِنْ الْقِيَام وَقْت الرِّيح، وَفيه مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الشَّفَقَة عَلَى أُمَّته، وَالرَّحْمَة لَهُمْ، وَالِاعْتِنَاء بِمَصَالِحِهِمْ، وَتَحْذِيرهمْ مَا يَضُرُّهُمْ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِشَدِّ عَقْل الْجِمَال لِئَلَّا يَنْفَلِتَ مِنْهَا شَيْء، فَيَحْتَاج صَاحِبُهُ إِلَى الْقِيَام فِي طَلَبه، فَيَلْحَقهُ ضَرَرُ الرِّيح وَجَبَلَا طَيِّئ مَشْهُورَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا أَجَاء بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالْجِيم، وَبِالْهَمْزِ، وَالْآخَر سَلْمَى بِفَتْحِ السِّين. وَطَيِّئ بِيَاءٍ مُشَدَّدَة بَعْدهَا هَمْزَة عَلَى وَزْن سَيِّد، وَهُوَ أَبُو قَبِيلَة مِنْ الْيُمْن، وَهُوَ طَيِّئ بْن أُدَد بْن زَيْد بْن كَهْلَان بْن سَبَأ بْن حِمْيَر.
قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: وَطَيِّئ يُهْمَزُ وَلَا يُهْمَزُ لُغَتَانِ.
قَوْله: (وَجَاءَ رَسُول اِبْن الْعَلْمَاء) بِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَإِسْكَان اللَّام وَبِالْمَدِّ.
قَوْله: «وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَة بَيْضَاء» فيه قَبُول هَدِيَّة الْكَافِر، وَسَبَقَ بَيَان هَذَا الْحَدِيث، وَمَا يُعَارِضُهُ فِي الظَّاهِر، وَجَمَعْنَا بَيْنهمَا. وَهَذِهِ الْبَغْلَة هِيَ دُلْدُل بَغْلَة رَسُول اللَّه الْمَعْرُوفَة، لَكِنْ ظَاهِر لَفْظه هُنَا أَنَّهُ أَهْدَاهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة تَبُوك، وَقَدْ كَانَتْ غَزْوَة تَبُوك سَنَة تِسْع مِنْ الْهِجْرَة، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَغْلَة عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل ذَلِكَ، وَحَضَرَ عَلَيْهَا غَزَاة حُنَيْنٍ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَكَانَتْ حُنَيْن عَقِبَ فَتْح مَكَّة سَنَة ثَمَان.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَة غَيْرهَا.
قَالَ: فَيُحْمَلُ قَوْله عَلَى أَنَّهُ أَهْدَاهَا لَهُ قَبْل ذَلِكَ، وَقَدْ عَطَفَ الْإِهْدَاء عَلَى الْمَجِيءِ بِالْوَاوِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَهَذَا أُحُد وَهُوَ جَبَل يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» سَبَقَ شَرْحه فِي آخِر كِتَاب الْحَجّ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْر دُور الْأَنْصَار دَار بَنِي النَّجَّار» قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَاد أَهْل الدُّور، وَالْمُرَاد الْقَبَائِل، وَإِنَّمَا فُضِّلَ بَنِي النَّجَّار لِسَبْقِهِمْ فِي الْإِسْلَام، وَآثَارهمْ الْجَمِيلَة فِي الدِّينِ.
قَوْله: «ثُمَّ دَار بَنِي عَبْد الْحَارِث بْن خَزْرَج» هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخ: (بَنِي عَبْد الْحَارِث)، وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي.
قَالَ: وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ الرُّوَاة، وَصَوَابه (بَنِي الْحَارِث) بِحَذْفِ لَفْظَة (عَبْد).
قَوْله: «وَكَتَبَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَحْرِهِمْ» أَيْ بِبَلَدِهِمْ، وَالْبِحَار الْقُرَى.