فصل: باب إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةَ أُمَّةٍ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب تَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ وَعِصْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنَ النَّاسِ:

فيه حَدِيث جَابِر وَفيه بَيَان تَوَكُّل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اللَّه، وَعِصْمَة اللَّه تَعَالَى لَهُ مِنْ النَّاس كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَاَللَّهُ يَعْصِمُك مِنْ النَّاسِ} وَفيه جَوَاز الِاسْتِظْلَال بِأَشْجَارِ الْبَوَادِي، وَتَعْلِيق السِّلَاح وَغَيْره فيها، وَجَوَاز الْمَنّ عَلَى الْكَافِر الْحَرْبِيّ وَإِطْلَاقه، وَفيه الْحَثّ عَلَى مُرَاقَبَة اللَّه تَعَالَى، وَالْعَفْو وَالْحِلْم وَمُقَابَلَة السَّيِّئَة بِالْحَسَنَةِ.
4231- قَوْله: «فِي وَادٍ كَثِير الْعِضَاه» هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، وَهِيَ كُلُّ شَجَرَة ذَات شَوْك.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي» قَالَ الْعُلَمَاء هَذَا الرَّجُل اِسْمه (غَوْرَث) بِغَيْنٍ مُعْجَمَة، وَثَاء مُثَلَّثَة، وَالْغَيْنُ مَضْمُومَةٌ وَمَفْتُوحَةٌ، وَحَكَى الْقَاضِي الْوَجْهَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: الصَّوَاب الْفَتْح.
قَالَ: وَضَبَطَهُ بَعْض رُوَاة الْبُخَارِيّ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة، وَالصَّوَاب الْمُعْجَمَة.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ غُوَيْرِث، أَوْ غَوْرَث، عَلَى التَّصْغِير وَالشَّكّ، وَهُوَ غَوْرَث بْن الْحَارِث.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث آخَر مِثْل هَذَا الْخَبَر، وَسُمِّيَ الرَّجُل فيه (دُعْثُورًا).
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالسَّيْف صَلْتًا فِي يَده»... إِلَى قَوْله: «فَشَامَ السَّيْف» أَمَّا (صَلْتًا) فَبِفَتْحِ الصَّاد وَضَمّهَا أَيْ مَسْلُولًا.
وَأَمَّا (شَامَهُ) فَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَة، وَمَعْنَاهُ غَمَدَهُ وَرَدَّهُ فِي غِمْده. يُقَالُ: شَامَ السَّيْف إِذَا سَلَّهُ، وَإِذَا أَغْمَدَهُ، فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَاد، وَالْمُرَاد هُنَا أَغْمَدَهُ.

.باب بَيَانِ مَثَلِ مَا بُعِثَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ:

4232- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّه بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْم كَمَثَلِ غَيْث أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَة طَيِّبَة قَبِلَتْ الْمَاء، فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأ وَالْعُشْب الْكَثِير، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِب أَمْسَكَتْ الْمَاء، فَنَفَعَ اللَّه بِهَا النَّاس، فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَة مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَان لَا تُمْسِك مَاء، وَلَا تُنْبِت كَلَأ. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِين اللَّه وَنَفَعَهُ اللَّه بِمَا بَعَثَنِي اللَّه بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَل مَنْ لَمْ يَرْفَع بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَل هُدَى اللَّه الَّذِي أُرْسِلْت بِهِ».
أَمَّا (الْغَيْث) فَهُوَ الْمَطَر.
وَأَمَّا (الْعُشْب وَالْكَلَأ وَالْحَشِيش) فَكُلّهَا أَسْمَاء لِلنَّبَاتِ، لَكِنَّ الْحَشِيش مُخْتَصّ بِالْيَابِسِ، وَالْعُشْب وَالْكَلَأ مَقْصُورًا مُخْتَصَّانِ بِالرَّطْبِ، و(الْكَلَأ) بِالْهَمْزِ يَقَعُ عَلَى الْيَابِس وَالرَّطْب، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَابْن فَارِس: الْكَلَأ يَقَعُ عَلَى الْيَابِس، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا (الْأَجَادِب) فَبِالْجِيمِ وَالدَّال الْمُهْمَلَة وَهِيَ الْأَرْض الَّتِي تُنْبِتُ كَلَأً.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هِيَ الْأَرْض الَّتِي تُمْسِكُ الْمَاء، فَلَا يُسْرِعُ فيه النُّضُوب.
قَالَ اِبْن بَطَّال وَصَاحِب الْمَطَالِع وَآخَرُونَ: هُوَ جَمْع جَدْب عَلَى غَيْر قِيَاس كَمَا قَالُوا فِي حَسَن جَمْعه مَحَاسِن، وَالْقِيَاس أَنَّ مَحَاسِن جَمْع مُحْسِن، وَكَذَا قَالُوا مُشَابِه جَمْع شَبَه، وَقِيَاسه أَنْ يَكُونَ جَمْع مُشَبَّه.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَالَ بَعْضهمْ: (أَحَادِب) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالدَّال.
قَالَ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَجَارِد بِالْجِيمِ وَالرَّاء وَالدَّال.
قَالَ: وَهُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى إِنْ سَاعَدَتْهُ الرِّوَايَة.
قَالَ الْأَصْمَعِيّ: الْأَجَارِد مِنْ الْأَرْض مَا لَا يُنْبِتُ الْكَلَأ.
مَعْنَاهُ أَنَّهَا جَرْدَاء هَزْرَة لَا يَسْتُرُهَا النَّبَات.
قَالَ: وَقَالَ بَعْضهمْ: إِنَّمَا هِيَ (أَخَاذَات) بِالْخَاءِ وَالذَّال الْمُعْجَمَتَيْنِ وَبِالْأَلْفِ، وَهُوَ جَمْع (أَخَاذَة)، وَهِيَ الْغَدِير الَّذِي يُمْسِكُ الْمَاء. وَذَكَرَ صَاحِب الْمَطَالِع هَذِهِ الْأَوْجُه الَّتِي ذَكَرَهَا الْخَطَّابِيُّ، فَجَعَلَهَا رِوَايَات مَنْقُولَة.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي الشَّرْح: لَمْ يَرِدْ هَذَا الْحَرْف فِي مُسْلِم، وَلَا فِي غَيْره إِلَّا بِالدَّالِ الْمُهْمَلَة مِنْ الْجَدْب الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخِصْب.
قَالَ: وَعَلَيْهِ شَرَحَ الشَّارِحُونَ.
وَأَمَّا (الْقِيعَان) فَبِكَسْرِ الْقَاف جَمْع الْقَاع، وَهُوَ الْأَرْض الْمُسْتَوِيَة، وَقِيلَ: الْمَلْسَاء، وَقِيلَ: الَّتِي لَا نَبَات فيها، وَهَذَا هُوَ الْمُرَاد فِي هَذَا الْحَدِيث كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى (أَقْوُع وَأَقْوَاع). و(الْقِيعَة) بِكَسْرِ الْقَاف بِمَعْنَى الْقَاع، قَالَ الْأَصْمَعِيّ: قَاعَة الدَّار سَاحَتهَا.
وَأَمَّا الْفِقْهُ فِي اللُّغَة يُقَالُ مِنْهُ: فَقِهَ- بِكَسْرِ الْقَافِ يَفْقَهُ فِقْهًا بِفَتْحِهَا كَفَرِحَ يَفْرَحُ فَرَحًا، وَقِيلَ: الْمَصْدَرُ فِقْهًا بِإِسْكَانِ الْقَاف.
وَأَمَّا الْفِقْهُ الشَّرْعِيُّ فَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَالْهَرَوِيّ وَغَيْرهمَا: يُقَال مِنْهُ فَقُهَ بِضَمِّ الْقَاف.
وَقَالَ اِبْن دُرَيْد: بِكَسْرِهَا كَالْأَوَّلِ. وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقُهَ فِي دِين اللَّه» هَذَا الثَّانِي فَيَكُونُ مَضْمُومَ الْقَاف عَلَى الْمَشْهُور، وَعَلَى قَوْل اِبْن دُرَيْد بِكَسْرِهَا، وَقَدْ رُوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ، وَالْمَشْهُور الضَّمّ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَة طَيِّبَة قَبِلَتْ الْمَاء» فَهَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم: «طَائِفَة طَيِّبَة» وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ: «فَكَانَ مِنْهُ نَقِيَّة قَبِلَتْ الْمَاء» بِنُونٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ قَاف مَكْسُورَة ثُمَّ يَاء مُثَنَّاة مِنْ تَحْتُ مُشَدَّدَة، وَهُوَ بِمَعْنَى طَيِّبَة. هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي رِوَايَات الْبُخَارِيّ. وَرَوَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره (ثَغْبَة) بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة وَالْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحَّدَة.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هُوَ مُسْتَنْقَع الْمَاء فِي الْجِبَال وَالصُّخُور، وَهُوَ الثَّغْب أَيْضًا، وَجَمْعه ثُغْبَان.
قَالَ الْقَاضِي وَصَاحِب الْمَطَالِع: هَذِهِ الرِّوَايَة غَلَط مِنْ النَّاقِلِينَ، وَتَصْحِيف وَإِحَالَة لِلْمَعْنَى، لِأَنَّهُ إِنَّمَا جُعِلَتْ هَذِهِ الطَّائِفَة الْأُولَى مَثَلًا لِمَا يَنْبُتُ، وَالثَّغْبَة لَا تُنْبِتُ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَسَقَوْا» فَقَالَ أَهْل اللُّغَة: سَقَى وَأَسْقَى بِمَعْنَى لُغَتَانِ، وَقِيلَ: سَقَاهُ نَاوَلَهُ لِيَشْرَب، وَأَسْقَاهُ جَعَلَ لَهُ سَقْيًا.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَعَوْا» فَهُوَ بِالرَّاءِ مِنْ الرَّعْي. هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم. وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ: «وَزَرَعُوا» وَكِلَاهُمَا صَحِيح. وَاَللَّه أَعْلَم.
أَمَّا مَعَانِي الْحَدِيث وَمَقْصُوده فَهُوَ تَمْثِيل الْهُدَى الَّذِي جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَيْثِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَرْض ثَلَاثَة أَنْوَاع، وَكَذَلِكَ النَّاس. فَالنَّوْع الْأَوَّل مِنْ الْأَرْض يَنْتَفِع بِالْمَطَرِ فَيَحْيَى بَعْد أَنْ كَانَ مَيِّتًا، وَيُنْبِتُ الْكَلَأ، فَتَنْتَفِعُ بِهَا النَّاس وَالدَّوَابّ وَالزَّرْع وَغَيْرهَا، وَكَذَا النَّوْع الْأَوَّل مِنْ النَّاس، يَبْلُغُهُ الْهُدَى وَالْعِلْم فَيَحْفَظُهُ فَيَحْيَا قَلْبه، وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيُعَلِّمُهُ غَيْره، فَيَنْتَفِعُ وَيَنْفَعُ. وَالنَّوْع الثَّانِي مِنْ الْأَرْض مَا لَا تَقْبَلُ الِانْتِفَاع فِي نَفْسهَا، لَكِنْ فيها فَائِدَة، وَهِيَ إِمْسَاك الْمَاء لِغَيْرِهَا، فَيَنْتَفِعُ بِهَا النَّاس وَالدَّوَابّ، وَكَذَا النَّوْع الثَّانِي مِنْ النَّاس، لَهُمْ قُلُوب حَافِظَة، لَكِنْ لَيْسَتْ لَهُمْ أَفْهَام ثَاقِبَة، وَلَا رُسُوخَ لَهُمْ فِي الْعَقْل يَسْتَنْبِطُونَ بِهِ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَام، وَلَيْسَ عِنْدهمْ اِجْتِهَادٌ فِي الطَّاعَة وَالْعَمَل بِهِ، فَهُمْ يَحْفَظُونَهُ حَتَّى يَأْتِيَ طَالِبٌ مُحْتَاجٌ مُتَعَطِّشٌ لِمَا عِنْدهمْ مِنْ الْعِلْم، أَهْل لِلنَّفْعِ وَالِانْتِفَاع، فَيَأْخُذهُ مِنْهُمْ، فَيَنْتَفِع بِهِ، فَهَؤُلَاءِ نَفَعُوا بِمَا بَلَغَهُمْ. وَالنَّوْع الثَّالِث مِنْ الْأَرْض السِّبَاخ الَّتِي لَا تُنْبِتُ وَنَحْوهَا، فَهِيَ لَا تَنْتَفِعُ بِالْمَاءِ، وَلَا تُمْسِكُهُ لِيَنْتَفِعَ بِهَا غَيْرهَا، وَكَذَا النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ النَّاس، لَيْسَتْ لَهُمْ قُلُوب حَافِظَة، وَلَا أَفْهَام وَاعِيَة، فَإِذَا سَمِعُوا الْعِلْم لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلَا يَحْفَظُونَهُ لِنَفْعِ غَيْرهمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث أَنْوَاع مِنْ الْعِلْم مِنْهَا ضَرْب الْأَمْثَال، وَمِنْهَا فَضْل الْعِلْم وَالتَّعْلِيم وَشِدَّة الْحَثّ عَلَيْهِمَا، وَذَمّ الْإِعْرَاض عَنْ الْعِلْم. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب شَفَقَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ وَمُبَالَغَتِهِ فِي تَحْذِيرِهِمْ مِمَّا يَضُرُّهُمْ:

4233- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنِّي أَنَا النَّذِير الْعُرْيَان» قَالَ الْعُلَمَاء: أَصْله أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرَادَ إِنْذَار قَوْمه وَإِعْلَامهمْ بِمَا يُوجِبُ الْمَخَافَة نَزَعَ ثَوْبه، وَأَشَارَ بِهِ إِلَيْهِمْ إِذَا كَانَ بَعِيدًا مِنْهُمْ لِيُخْبِرَهُمْ بِمَا دَهَمَهُمْ، وَأَكْثَر مَا يَفْعَلُ هَذَا رَبِيئَة الْقَوْم، وَهُوَ طَلِيعَتهمْ وَرَقِيبهمْ. قَالُوا: وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْيَنُ لِلنَّاظِرِ، وَأَغْرَبُ وَأَشْنَعُ مَنْظَرًا، فَهُوَ أَبْلَغُ فِي اِسْتِحْثَاثِهِمْ فِي التَّأَهُّب لِلْعَدُوِّ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَا النَّذِير الَّذِي أَدْرَكَنِي جَيْشُ الْعَدُوّ، فَأَخَذَ ثِيَابِي، فَأَنَا أُنْذِركُمْ عُرْيَانًا.
قَوْله: (فَالنَّجَاء) مَمْدُود أَيْ اُنْجُوَا النَّجَاء أَوْ اُطْلُبُوا النَّجَاء.
قَالَ الْقَاضِي: الْمَعْرُوف فِي النَّجَاء إِذَا أُفْرِدَ الْمَدّ، وَحَكَى أَبُو زَيْد فيه الْقَصْر أَيْضًا، فَإِذَا مَا كَرَّرُوهُ فَقَالُوا: النَّجَاء النَّجَاء فَفيه الْمَدّ وَالْقَصْر مَعًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مُهْلَتهمْ» أَمَّا (أَدْلَجُوا) فَبِإِسْكَانِ الدَّال، وَمَعْنَاهُ سَارُوا مِنْ أَوَّل اللَّيْل. يُقَال: أَدْلَجْت بِإِسْكَانِ الدَّال إِدْلَاجًا كَأَكْرَمْت إِكْرَامًا، وَالِاسْم الدَّلْجَة بِفَتْحِ الدَّال. فَإِنْ خَرَجْت مِنْ آخِر اللَّيْل قُلْت: ادَّلَجْت بِتَشْدِيدِ الدَّال أَدْلِجُ اِدِّلَاجًا بِالتَّشْدِيدِ أَيْضًا. وَالِاسْم الدُّلْجَة بِضَمِّ الدَّال.
قَالَ اِبْن قُتَيْبَة وَغَيْره: وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُ الْوَجْهَيْنِ فِي كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا.
وَأَمَّا قَوْله: «عَلَى مُهْلَتهمْ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نُسَخ مُسْلِم بِضَمِّ الْمِيم وَإِسْكَان الْهَاء بِتَاءٍ بَعْد اللَّام. وَفِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ (مَهْلهمْ) بِحَذْفِ التَّاء وَفَتْح الْمِيم وَالْهَاء، وَهُمَا صَحِيحَانِ.
قَوْله: «فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْش فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ» أَيْ اِسْتَأْصَلَهُمْ.
4234- سبق شرحه بالباب.
4235- سبق شرحه بالباب.
4236- قَوْله: (حَدَّثَنَا سَلِيم عَنْ سَعِيد) هُوَ بِفَتْحِ السِّين وَكَسْر اللَّام، وَهُوَ سَلِيم بْن حِبَّان.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَجَعَلَ الْجَنَادِب وَالْفِرَاش يَقَعْنَ فيها» وَفِي رِوَايَة: «الدَّوَابّ وَالْفِرَاش» وَفِي رِوَايَة: «أَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فيها» وَفِي رِوَايَة: «وَأَنْتُمْ تَفْلِتُونَ مِنْ يَدَيَّ» أَمَّا (الْفِرَاش) فَقَالَ الْخَلِيل: هُوَ الَّذِي يَطِيرُ كَالْبَعُوضِ، وَقَالَ غَيْره: مَا تَرَاهُ كَصِغَارِ الْبَقّ يَتَهَافَتُ فِي النَّار، وَأَمَّا (الْجَنَادِب) فَجَمْع جُنْدُب، وَفيها ثَلَاث لُغَات: جُنْدُب بِضَمِّ الدَّال وَفَتْحهَا وَالْجِيم مَضْمُومَة فيهمَا، وَالثَّالِثَة حَكَاهُ الْقَاضِي بِكَسْرِ الْجِيم وَفَتْح الدَّال. وَالْجَنَادِب هَذَا الصِّرَار الَّذِي يُشْبِهُ الْجَرَاد، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: الْجُنْدُب عَلَى خِلْقَة الْجَرَاد، لَهُ أَرْبَعَة أَجْنِحَة كَالْجَرَادَةِ، وَأَصْغَر مِنْهَا، يَطِيرُ، وَيُصِرُّ بِاللَّيْلِ صَرًّا شَدِيدًا، وَقِيلَ: غَيْره. أَمَّا (التَّقَحُّم) فَهُوَ الْإِقْدَامُ وَالْوُقُوعُ فِي الْأُمُور الشَّاقَّة مِنْ غَيْر تَثَبُّت. و(الْحُجْز) جَمْع حُجْزَة وَهِيَ مَعْقِد الْإِزَار وَالسَّرَاوِيل.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ» فَرُوِيَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا اِسْم فَاعِل بِكَسْرِ الْخَاء وَتَنْوِين الذَّال، وَالثَّانِي مِثْلُ مُضَارِع بِضَمِّ الذَّال بِلَا تَنْوِين وَالْأَوَّل أَشْهَر وَهُمَا صَحِيحَانِ، وَأَمَّا (تَفَلَّتُونِ) فَرُوِيَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا فَتْح التَّاء وَالْفَاء الْمُشَدَّدَة، وَالثَّانِي ضَمّ التَّاء وَإِسْكَان الْفَاء وَكَسْر اللَّام الْمُخَفَّفَة، وَكِلَاهُمَا صَحِيح. يُقَال: أَفْلَتَ مِنِّي، وَتَفَلَّتَ إِذَا نَازَعَك الْغَلَبَة وَالْهَرَب، ثُمَّ غَلَبَ وَهَرَبَ. وَمَقْصُود الْحَدِيث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ تَسَاقُط الْجَاهِلِينَ وَالْمُخَالِفِينَ بِمَعَاصِيهِمْ وَشَهَوَاتهمْ فِي نَار الْآخِرَة، وَحِرْصهمْ عَلَى الْوُقُوع فِي ذَلِكَ، مَعَ مَنْعه إِيَّاهُمْ، وَقَبْضه عَلَى مَوَاضِع الْمَنْع مِنْهُمْ، بِتَسَاقُطِ الْفِرَاش فِي نَار الدُّنْيَا، لِهَوَاهُ، وَضَعْف تَمْيِيزه، وَكِلَاهُمَا حَرِيصٌ عَلَى هَلَاكِ نَفْسه، سَاعٍ فِي ذَلِكَ لِجَهْلِهِ.

.باب ذِكْرِ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ:

فِي الْبَاب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلِي وَمَثَل الْأَنْبِيَاء مِنْ قَبْلِي إِلَى قَوْله فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتَم النَّبِيِّينَ» فيه فَضِيلَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ خَاتَم النَّبِيِّينَ، وَجَوَاز ضَرْب الْأَمْثَال فِي الْعَلَم وَغَيْره. و(اللَّبِنَة) بِفَتْحِ اللَّام وَكَسْر الْبَاء، وَيَجُوزُ إِسْكَانُ الْبَاء مَعَ فَتْحِ اللَّام وَكَسْرِهَا كَمَا فِي نَظَائِرهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4237- سبق شرحه بالباب.
4238- سبق شرحه بالباب.
4239- سبق شرحه بالباب.
4240- سبق شرحه بالباب.

.باب إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةَ أُمَّةٍ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا:

4241- قَالَ مُسْلِم: (وَحُدِّثْت عَنْ أَبِي أُسَامَة وَمِمَّنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ إِبْرَاهِيم بْن سَعِيد الْجَوْهَرِيّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَة إِلَى آخِره) قَالَ الْمَازِرِيّ وَالْقَاضِي: هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْأَحَادِيث الْمُنْقَطِعَة فِي مُسْلِم، فَإِنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الَّذِي حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي أُسَامَة. قُلْت: وَلَيْسَ هَذَا حَقِيقَة اِنْقِطَاع، وَإِنَّمَا هُوَ رِوَايَة مَجْهُول، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَاشِيَة بَعْض النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة: قَالَ الْجُلُودِيّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُسَيِّب الْأَرْغِيَانِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن سَعِيد الْجَوْهَرِيّ بِهَذَا الْحَدِيث عَنْ أَبِي أُسَامَة بِإِسْنَادِهِ.

.باب إِثْبَاتِ حَوْضِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَاتِهِ:

قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: أَحَادِيث الْحَوْض صَحِيحَة، وَالْإِيمَان بِهِ فَرْض، وَالتَّصْدِيق بِهِ مِنْ الْإِيمَان، وَهُوَ عَلَى ظَاهِره عِنْد أَهْل السُّنَّة وَالْجَمَاعَة، لَا يُتَأَوَّلُ، وَلَا يُخْتَلَفُ فيه.
قَالَ الْقَاضِي: وَحَدِيثه مُتَوَاتِر النَّقْل، رَوَاهُ خَلَائِق مِنْ الصَّحَابَة. فَذَكَرَهُ مُسْلِم مِنْ رِوَايَة اِبْن عَمْرو بْن الْعَاص، وَعَائِشَة، وَأُمّ سَلَمَة، وَعُقْبَة بْن عَامِر، وَابْن مَسْعُود، وَحُذَيْفَة، وَحَارِثَة بْن وَهْب، وَالْمُسْتَوْرِد، وَأَبِي ذَرّ، وَثَوْبَان، وَأَنَس، وَجَابِر بْن سَمُرَة. وَرَوَاهُ غَيْر مُسْلِم مِنْ رِوَايَة أَبِي بَكْر الصِّدِّيق، وَزَيْد بْن أَرْقَم، وَأَبِي أُمَامَةَ، وَعَبْد اللَّه بْن زَيْد، وَأَبِي بَرْزَة، وَسُوِيد بْن جَبَلَةَ، وَعَبْد اللَّه بْن الصُّنَابِحِيِّ، وَالْبَرَاء بْن عَازِب، وَأَسْمَاء بِنْت أَبِي بَكْر، وَخَوْلَة بِنْت قَيْس، وَغَيْرهمْ. قُلْت: وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم أَيْضًا مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ غَيْرهمَا مِنْ رِوَايَة عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَعَائِذ بْن عُمَر، وَآخَرِينَ.
وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ كُلّه الْإِمَام الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابه الْبَعْث وَالنُّشُور بِأَسَانِيدِهِ، وَطُرُقه الْمُتَكَاثِرَات.
قَالَ الْقَاضِي: وَفِي بَعْض هَذَا مَا يَقْتَضِي كَوْن الْحَدِيث مُتَوَاتِرًا.
4242- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْض» قَالَ أَهْل اللُّغَة الْفَرَط بِفَتْحِ الْفَاء وَالرَّاء، وَالْفَارِط هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الْوَارِد لِيُصْلِحَ لَهُمْ. وَالْحِيَاض وَالدِّلَاء وَنَحْوهَا مِنْ أُمُور الِاسْتِقَاء. فَمَعْنَى: «فَرَطكُمْ عَلَى الْحَوْض» سَابِقكُمْ إِلَيْهِ كَالْمُهَيِّئِ لَهُ.
4243- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا» أَيْ شَرِبَ مِنْهُ. وَالظَّمَأُ مَهْمُوزٌ مَقْصُورٌ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآن الْعَزِيز، وَهُوَ الْعَطَشُ، يُقَالُ: ظَمِئَ ظَمَأ يَظْمَأُ، فَهُوَ ظَمْآن، وَهُمْ ظِمَاء بِالْمَدِّ كَعَطِشَ يَعْطَشُ عَطَشًا فَهُوَ عَطْشَان وَهُمْ عِطَاش.
قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الشُّرْب مِنْهُ يَكُون بَعْد الْحِسَاب وَالنَّجَاة مِنْ النَّار، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يُظْمَأُ بَعْده.
قَالَ: وَقِيلَ: لَا يَشْرَبُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ قُدِّرَ لَهُ السَّلَامَة مِنْ النَّار.
قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة وَقُدِّرَ عَلَيْهِ دُخُول النَّار لَا يُعَذَّبُ فيها بِالظَّمَأِ، بَلْ يَكُونُ عَذَابه بِغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ ظَاهِر هَذَا الْحَدِيث أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ يَشْرَبُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ اِرْتَدَّ وَصَارَ كَافِرًا.
قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ جَمِيع الْأُمَم مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَأْخُذُونَ كُتُبهمْ بِأَيْمَانِهِمْ، ثُمَّ يُعَذِّبُ اللَّه تَعَالَى مَنْ شَاءَ مِنْ عُصَاتهمْ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا يَأْخُذُهُ بِيَمِينِهِ النَّاجُونَ خَاصَّة.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مِثْله.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَرَدَ شَرِبَ» هَذَا صَرِيح فِي أَنَّ الْوَارِدِينَ كُلّهمْ يَشْرَبُونَ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْهُ الَّذِينَ يُزَادُونَ وَيُمْنَعُونَ الْوُرُود لِارْتِدَادِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي كِتَاب الْوُضُوء بَيَان هَذَا الذَّوْد وَالْمَذُودِينَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُحْقًا سُحْقًا» أَيْ بُعْدًا لَهُمْ بُعْدًا، وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَر، وَكَرَّرَ لِلتَّوْكِيدِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَدَّثَنَا هَارُون بْن سَعِيد حَدَّثَنَا اِبْن وَهْب أَخْبَرَنِي أَبُو أُسَامَة عَنْ أَبِي حَازِم عَنْ سَهْل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ النُّعْمَان بْن أَبِي عَيَّاش عَنْ أَبِي سَعِيد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا الْعَطْف عَلَى سَهْل، فَالْقَائِل: وَعَنْ النُّعْمَان هُوَ أَبُو حَازِم، فَرَوَاهُ عَنْ سَهْل، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ النُّعْمَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
4244- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَوْضِي مَسِيرَة شَهْر وَزَوَايَاهُ سَوَاء» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ طُولُهُ كَعَرْضِهِ كَمَا قَالَ فِي حَدِيث أَبِي ذَرّ الْمَذْكُور فِي الْكِتَاب: «عَرْضه مِثْل طُوله».
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَاؤُهُ أَبْيَض مِنْ الْوَرِق» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (الْوَرِق) بِكَسْرِ الرَّاء، وَهُوَ الْفِضَّة. وَالنَّحْوِيُّونَ يَقُولُونَ: إِنَّ فِعْل التَّعَجُّب الَّذِي يُقَالُ فيه هُوَ أَفْعَل مِنْ كَذَا إِنَّمَا يَكُون فِيمَا كَانَ مَاضِيه عَلَى ثَلَاثَة أَحْرُف، فَإِنْ زَادَ لَمْ يُتَعَجَّبْ مِنْ فَاعِله، وَإِنَّمَا يُتَعَجَّبُ مِنْ مَصْدَره، فَلَا يُقَالُ: مَا أَبْيَض زَيْدًا، وَلَا زَيْد أَبْيَض مِنْ عَمْرو، وَإِنَّمَا يُقَالُ: مَا أَشَدُّ بَيَاضه: وَهُوَ أَشَدّ بَيَاضًا مِنْ كَذَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الشِّعْر أَشْيَاء مِنْ هَذَا الَّذِي أَنْكَرُوهُ فَعَدُّوهُ شَاذًّا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْحَدِيث يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهِيَ لُغَة، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَة الِاسْتِعْمَال، وَمِنْهَا قَوْل عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَع».
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاء» وَفِي رِوَايَة: «فيه أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاء» وَفِي رِوَايَة: «وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِهِ لَآنِيَته أَكْثَر مِنْ عَدَد نُجُوم السَّمَاء وَكَوَاكِبهَا» وَفِي رِوَايَة: «وَأَنَّ فيه مِنْ الْأَبَارِيق كَعَدَدِ نُجُوم السَّمَاء» وَفِي رِوَايَة: «آنِيَته عَدَد النُّجُوم» وَفِي رِوَايَة: «تَرَى فيه أَبَارِيق الذَّهَب وَالْفِضَّة كَعَدَدِ نُجُوم السَّمَاء» وَفِي رِوَايَة: «كَأَنَّ الْأَبَارِيقَ فيه النُّجُوم» الْمُخْتَار الصَّوَاب أَنَّ هَذَا الْعَدَد لِلْآنِيَةِ عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّهَا أَكْثَر عَدَدًا مِنْ نُجُوم السَّمَاء، وَلَا مَانِع عَقْلِيّ وَلَا شَرْعِيّ يَمْنَع مِنْ ذَلِكَ، بَلْ وَرَدَ الشَّرْع بِهِ مُؤَكَّدًا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَآنِيَته أَكْثَر مِنْ نُجُوم السَّمَاء» وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: هَذَا إِشَارَة إِلَى كَثْرَة الْعَدَد وَغَايَته الْكَثْرَة مِنْ بَاب قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقه» وَهُوَ بَاب مِنْ الْمُبَالَغَة مَعْرُوف فِي الشَّرْع وَاللُّغَة، وَلَا يُعَدُّ كَذِبًا إِذَا كَانَ الْمُخْبَر عَنْهُ فِي حَيِّزِ الْكَثْرَة وَالْعِظَم وَمَبْلَغ الْغَايَة فِي بَابه، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
قَالَ: وَمِثْله كَلَّمْته أَلْف مَرَّة، وَلَقِيته مِائَة كَرَّة، فَهَذَا جَائِز إِذَا كَانَ كَثِيرًا، وَإِلَّا فَلَا. هَذَا كَلَام الْقَاضِي، وَالصَّوَاب الْأَوَّل.
4247- قَوْلهَا: «إِنِّي مِنْ النَّاس» دَلِيل لِدُخُولِ النِّسَاء فِي خِطَاب النَّاس، وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اِخْتَلَفُوا فِي دُخُولهنَّ فِي خِطَاب الذُّكُور، وَمَذْهَبنَا أَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ فيه، وَفيه إِثْبَات الْقَوْل بِالْعُمُومِ.
قَوْلهَا: «كُفِّي رَأْسِي» هُوَ بِالْكَافِ أَيْ اِجْمَعِيهِ، وَضُمِّي شَعْره بَعْضه إِلَى بَعْض.
4248- قَوْله: «صَلَّى عَلَى أَهْل أُحُد صَلَاته عَلَى الْمَيِّت» أَيْ دَعَا لَهُمْ بِدُعَاءِ صَلَاة الْمَيِّت، وَسَبَقَ شَرْح هَذَا الْحَدِيث فِي كِتَاب الْجَنَائِز.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّنِي وَاَللَّه لَأَنْظُر إِلَى حَوْضِي الْآن» هَذَا تَصْرِيح بِأَنَّ الْحَوْض حَوْض حَقِيقِيّ عَلَى ظَاهِره كَمَا سَبَقَ، وَأَنَّهُ مَخْلُوق مَوْجُود الْيَوْم، وَفيه جَوَاز الْحَلِف مِنْ غَيْر اِسْتِحْلَاف لِتَفْخِيمِ الشَّيْء وَتَوْكِيده.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيت مَفَاتِيح خَزَائِن الْأَرْض، أَوْ مَفَاتِيح الْأَرْض، إِنِّي وَاَللَّه مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَنَافَسُوا فيها» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ (مَفَاتِيح) فِي اللَّفْظَيْنِ بِالْيَاءِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ (مَفَاتِح) بِحَذْفِهَا. مَنْ أَثْبَتَهَا فَهُوَ جَمْع مِفْتَاح، وَمَنْ حَذَفَهَا فَجَمْع مِفْتَح، وَهُمَا لُغَتَانِ فيه. وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُعْجِزَات لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْإِخْبَار بِأَنَّ أُمَّته تَمْلِكُ خَزَائِن الْأَرْض، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا لَا تَرْتَدُّ جُمْلَة، وَقَدْ عَصَمَهَا اللَّه تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا تَتَنَافَس فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ وَقَعَ كُلّ ذَلِكَ.
4249- قَوْله: «صَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُد، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَر كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَات، فَكَانَتْ آخِر مَا رَأَيْته عَلَى الْمِنْبَر» مَعْنَاهُ: خَرَجَ إِلَى قَتْلَى أُحُد وَدَعَا لَهُمْ دُعَاء مُوَدِّع، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَة فَصَعِدَ الْمِنْبَر فَخَطَبَ الْأَحْيَاء خُطْبَة مُوَدِّع، كَمَا قَالَ النَّوَّاس بْن سَمْعَان قُلْنَا: يَا رَسُول اللَّه كَأَنَّهَا مَوْعِظَة مُوَدِّع، وَفيه مَعْنَى الْمُعْجِزَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَوْض: «وَإِنَّ عَرْضه مَا بَيْن أَيْلَة إِلَى الْجُحْفَة» قَالَ الرَّاوِي: هُمَا قَرْيَتَانِ بِالشَّامِ، بَيْنهمَا مَسِيرَة ثَلَاث لَيَالٍ. وَفِي رِوَايَة: «عَرْضه مِثْل طُوله مَا بَيْن عَمَّان إِلَى أَيْلَة» وَفِي رِوَايَة: «مِنْ مَقَامِي إِلَى عَمَّان» وَفِي رِوَايَة: «قَدْر حَوْضِي كَمَا بَيْن أَيْلَة وَصَنْعَاء مِنْ الْيُمْن» وَفِي رِوَايَة: «مَا بَيْن نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْن صَنْعَاء وَالْمَدِينَة».
أَمَّا (أَيْلَة) فَبِفَتْحِ الْهَمْزَة وَإِسْكَان الْمُثَنَّاة تَحْتُ وَفَتْح اللَّام، وَهِيَ مَدِينَة مَعْرُوفَة فِي عِرَاق الشَّام عَلَى سَاحِل الْبَحْر، مُتَوَسِّطَة بَيْن مَدِينَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِمَشْق وَمِصْر، بَيْنهَا وَبَيْن الْمَدِينَة نَحْو خَمْس عَشْرَة مَرْحَلَة، وَبَيْنهَا وَبَيْن دِمَشْق نَحْو اِثْنَتَيْ عَشْرَة مَرْحَلَة، وَبَيْنهَا وَبَيْن مِصْر نَحْو ثَمَان مَرَاحِل.
قَالَ الْحَازِمِيّ: قِيلَ: هِيَ آخِر الْحِجَاز، وَأَوَّل الشَّام.
وَأَمَّا (الْجُحْفَة) فَسَبَقَ بَيَانهَا فِي كِتَاب الْحَجّ، وَهِيَ بِنَحْوِ سَبْع مَرَاحِل مِنْ الْمَدِينَة. بَيْنهَا وَبَيْن مَكَّة.
4252- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْن نَاحِيَتَيْهِ كَمَا بَيْن جَرْبَاء وَأَذْرُحَ» وَأَمَّا (جَرْبَاء) فَبِجِيمٍ مَفْتُوحَة، ثُمَّ رَاءٍ سَاكِنَة، ثُمَّ بَاء مُوَحَّدَة، ثُمَّ أَلْف مَقْصُورَة وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، الْمَشْهُور أَنَّهَا مَقْصُورَة، وَكَذَا قَيَّدَهَا الْحَازِمِيّ فِي كِتَابه الْمُؤْتَلِف فِي الْأَمَاكِن، وَكَذَا ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَصَاحِب الْمَطَالِع وَالْجُمْهُور.
وَقَالَ الْقَاضِي وَصَاحِب الْمَطَالِع: وَوَقَعَ عِنْد بَعْض رُوَاة الْبُخَارِيّ مَمْدُودًا.
قَالَا: وَهُوَ خَطَأ.
وَقَالَ صَاحِب التَّحْرِير: هِيَ بِالْمَدِّ، وَقَدْ تُقْصَرُ.
قَالَ الْحَازِمِيّ: كَانَ أَهْل جَرْبَا يَهُودًا كَتَبَ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمَان لَمَّا قَدَمَ عَلَيْهِ لِحْيَة بْن رُؤْبَة صَاحِب أَيْلَة بِقَوْمٍ مِنْهُمْ وَمَنْ أَهْل أَذْرُح يَطْلُبُونَ الْأَمَان.
وَأَمَّا (أَذْرُح) فَبِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ ذَال مُعْجَمَة سَاكِنَة ثُمَّ رَاءٍ مَضْمُومَة ثُمَّ حَاء مُهْمَلَة. هَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمَشْهُور الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُور.
قَالَ الْقَاضِي وَصَاحِب الْمَطَالِع: وَرَوَاهُ بَعْضهمْ بِالْجِيمِ.
قَالَا: وَهُوَ تَصْحِيف لَا شَكَّ فيه، وَهُوَ كَمَا قَالَا، وَهِيَ مَدِينَة فِي طَرَف الشَّام فِي قِبْلَة الشُّوَيْك، بَيْنهَا وَبَيْنه نَحْو نِصْف يَوْم، وَهِيَ فِي طَرَف الشَّرَاط بِفَتْحِ الشِّين الْمُعْجَمَة فِي طَرَفِهَا الشِّمَالِيّ، وَتَبُوك فِي قِبْلَة أَذْرُح بَيْنهمَا نَحْو أَرْبَع مَرَاحِل. وَبَيْن تَبُوك وَمَدِينَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْو أَرْبَع عَشْرَة مَرْحَلَة.
4253- سبق شرحه بالباب.
4254- سبق شرحه بالباب.
4255- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَآنِيَته أَكْثَر مِنْ عَدَد نُجُوم السَّمَاء وَكَوَاكِبهَا أَلَا فِي اللَّيْلَة الْمُظْلِمَة الْمُصْحِيَة آنِيَة الْجَنَّة مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأ آخِر مَا عَلَيْهِ يَشْخَبُ فيه مِيزَابَانِ مِنْ الْجَنَّة» أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا فِي اللَّيْلَة الْمُظْلِمَة» فَهُوَ بِتَخْفِيفِ أَلَا، وَهِيَ الَّتِي لِلِاسْتِفْتَاحِ، وَخَصَّ اللَّيْلَة الْمُظْلِمَة الْمُصْحِيَة لِأَنَّ النُّجُوم تُرَى فيها أَكْثَر، وَالْمُرَاد بِالْمُظْلِمَةِ الَّتِي لَا قَمَر فيها، مَعَ أَنَّ النُّجُوم طَالِعَة، فَإِنَّ وُجُود الْقَمَر يَسْتُرُ كَثِيرًا مِنْ النُّجُوم.
أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آنِيَة الْجَنَّة» فَضَبَطَهُ بَعْضهمْ بِرَفْعِ (آنِيَة)، وَبَعْضهمْ بِنَصْبِهَا، وَهُمَا صَحِيحَانِ فَمَنْ رَفَعَ فَخَبَر مُبْتَدَأ مَحْذُوف أَيْ هِيَ آنِيَة الْجَنَّة، وَمَنْ نَصَبَ فَبِإِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ نَحْوه.
وَأَمَّا (آخِر مَا عَلَيْهِ) فَمَنْصُوب، وَسَبَقَ نَظِيره فِي كِتَاب الْإِيمَان.
وَأَمَّا (يَشْخُبُ) فَبِالشِّينِ وَالْخَاء الْمُعْجَمَتَيْنِ وَالْيَاء مَفْتُوحَة وَالْخَاء مَضْمُومَة وَمَفْتُوحَة. وَالشَّخْب السَّيَلَان، وَأَصْله مَا خَرَجَ مِنْ تَحْت يَد الْحَالِب عِنْد كُلّ غَمْرَة وَعَصْرَة لِضَرْعِ الشَّاة.
وَأَمَّا (الْمِيزَابَانِ) فَبِالْهَمْزِ، وَيَجُوزُ قَلْب الْهَمْزَة يَاء.
وَأَمَّا (عَمَّان) فَبِفَتْحِ الْعَيْن وَتَشْدِيد الْمِيم، وَهِيَ بَلْدَة بِالْبَلْقَاءِ مِنْ الشَّام.
قَالَ الْحَازِمِيّ: قَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: يَجُوز أَنْ يَكُون فَعْلَان مِنْ عَمّ يَعُمُّ، فَلَا تَنْصَرِفُ مَعْرِفَة، وَتَنْصَرِفُ نَكِرَة.
قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُون فَعَّالًا مِنْ عَمَّنَ، فَتَنْصَرِفُ مَعْرِفَة وَنَكِرَة إِذَا عَنَى بِهَا الْبَلَد. هَذَا كَلَامه. وَالْمَعْرُوف فِي رِوَايَات الْحَدِيث وَغَيْرهَا تَرْك صَرْفهَا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَهَذَا الِاخْتِلَاف فِي قَدْر عَرْض الْحَوْض لَيْسَ مُوجِبًا لِلِاضْطِرَابِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي حَدِيث وَاحِد، بَلْ فِي أَحَادِيث مُخْتَلِفَة الرُّوَاة، عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة سَمِعُوهَا فِي مَوَاطِن مُخْتَلِفَة ضَرَبَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلّ وَاحِد مِنْهَا مَثَلًا لِبُعْدِ أَقْطَار الْحَوْض، وَسَعَته، وَقَرَّبَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْهَام لِبُعْدِ مَا بَيْن الْبِلَاد الْمَذْكُورَة لَا عَلَى التَّقْدِير الْمَوْضُوع لِلتَّحْدِيدِ، بَلْ لِلْإِعْلَامِ بِعِظَمِ هَذِهِ الْمَسَافَة، فَبِهَذَا تُجْمَعُ الرِّوَايَات. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. قُلْت: وَلَيْسَ فِي الْقَلِيل مِنْ هَذِهِ مَنْع الْكَثِير، وَالْكَثِير ثَابِت عَلَى ظَاهِر الْحَدِيث، وَلَا مُعَارَضَة. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4256- قَوْله: (عَنْ مَعْدَان الْيَعْمَرِيّ) بِفَتْحِ مِيم الْيَعْمَرِيّ وَضَمّهَا، مَنْسُوب إِلَى يَعْمَر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَبِعُقْرِ حَوْضِي» هُوَ بِضَمِّ الْعَيْن وَإِسْكَان الْقَاف، وَهُوَ مَوْقِف الْإِبِل مِنْ الْحَوْض إِذَا وَرَدَتْهُ، وَقِيلَ: مُؤَخَّره.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَذُودُ النَّاس لِأَهْلِ الْيَمَن أَضْرِب بِعَصَايَ حَتَّى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ» مَعْنَاهُ أَطْرُدُ النَّاس عَنْهُ غَيْر أَهْل الْيُمْن لِيَرْفَضَّ عَلَى أَهْل الْيُمْن، وَهَذِهِ كَرَامَة لِأَهْلِ الْيَمَن فِي تَقْدِيمهمْ فِي الشُّرْبِ مِنْهُ مُجَازَاة لَهُمْ بِحُسْنِ صَنِيعهمْ، وَتَقَدُّمهمْ فِي الْإِسْلَام. وَالْأَنْصَار مِنْ الْيَمَن، فَيَدْفَعُ غَيْرهمْ حَتَّى يَشْرَبُوا كَمَا دَفَعُوا فِي الدُّنْيَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْدَاءَهُ وَالْمَكْرُوهَات. وَمَعْنَى: «يَرْفَضّ عَلَيْهِمْ» أَيْ يَسِيلُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُ حَدِيث الْبُرَاق: «اِسْتَصْعَبَ حَتَّى اِرْفَضَّ عَرَقًا» أَيْ سَالَ عَرَقه.
قَالَ أَهْل اللُّغَة وَالْغَرِيب: وَأَصْله مِنْ الدَّمْع، يُقَال: اِرْفَضّ الدَّمْع إِذَا سَأَلَ مُتَفَرِّقًا.
قَالَ الْقَاضِي: وَعَصَاهُ الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْحَدِيث هِيَ الْمُكَنَّى عَنْهَا بِالْهِرَاوَةِ فِي وَصْفه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُب الْأَوَائِل بِصَاحِبِ الْهِرَاوَة.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْهِرَاوَة بِكَسْرِ الْهَاء الْعَصَا.
قَالَ: وَلَمْ يَأْتِ لِمَعْنَاهَا فِي صِفَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفْسِير إِلَّا مَا يَظْهَرُ لِي فِي هَذَا الْحَدِيث. هَذَا كَلَام الْقَاضِي. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي تَفْسِير الْهِرَاوَة بِهَذِهِ الْعَصَا بَعِيد أَوْ بَاطِل، لِأَنَّ الْمُرَاد بِوَصْفِهِ بِالْهِرَاوَةِ تَعْرِيفه بِصِفَةٍ يَرَاهَا النَّاس مَعَهُ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى صِدْقه، وَأَنَّهُ الْمُبَشَّر بِهِ الْمَذْكُور فِي الْكُتُب السَّالِفَة، فَلَا يَصِحُّ تَفْسِيره بِعَصًا تَكُون فِي الْآخِرَة، وَالصَّوَاب فِي تَفْسِير صَاحِب الْهِرَاوَة مَا قَالَهُ الْأَئِمَّة الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُمْسِكُ الْقَضِيب بِيَدِهِ كَثِيرًا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يَمْشِي وَالْعَصَا بَيْن يَدَيْهِ، وَتُغْرَزُ لَهُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، وَهَذَا مَشْهُور فِي الصَّحِيح. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَغُتُّ فيه مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ» أَمَّا (يَغُتُّ) فَبِفَتْحِ الْيَاء وَبِغَيْنٍ مُعْجَمَة مَضْمُومَة وَمَكْسُورَة ثُمَّ مُثَنَّاة فَوْق مُشَدَّدَة، وَهَكَذَا قَالَ ثَابِت، وَالْخَطَّابِيّ، وَالْهَرَاوِيّ، وَصَاحِب التَّحْرِير، وَالْجُمْهُور، وَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَمِ نُسَخ بِلَادنَا، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ الْأَكْثَرِينَ: قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَمَعْنَاهُ يَدْفُقَانِ فيه الْمَاء دَفْقًا مُتَتَابِعًا شَدِيدًا. قَالُوا: وَأَصْله مِنْ اِتْبَاع الشَّيْء الشَّيْء، وَقِيلَ: يَصُبَّانِ فيه دَائِمًا صَبًّا شَدِيدًا. وَوَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ (يَعُبُّ) بِضَمِّ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَبِبَاءٍ مُوَحَّدَة، وَحَكَاهَا الْقَاضِي عَنْ رِوَايَة الْعُذْرِيّ.
قَالَ: وَكَذَا ذَكَرَ الْحَرْبِيّ، وَفَسَّرَهُ بِمَعْنَى مَا سَبَقَ، أَيْ لَا يَنْقَطِعُ جَرَيَانُهُمَا.
قَالَ: وَالْعَبُّ الشُّرْب بِسُرْعَةٍ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ.
قَالَ الْقَاضِي: وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن مَاهَان: (يَثْعَب) بِمُثَلَّثَةٍ وَعَيْن مُهْمَلَة أَيْ يَتَفَجَّرُ.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمُدَّانِهِ» فَبِفَتْحِ الْيَاء وَضَمّ الْمِيم، أَيْ يُزِيدَانِهِ وَيُكْثِرَانِهِ.
4257- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَذُودَنَّ عَنْ حَوْضِي رِجَالًا كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَة مِنْ الْإِبِل» مَعْنَاهُ كَمَا يَذُودُ السَّاقِي النَّاقَة الْغَرِيبَة عَنْ إِبِله إِذَا أَرَادَتْ الشُّرْب مَعَ إِبِله.
4258- قَوْله فِي حَدِيث أَنَس مِنْ رِوَايَة حَرْمَلَة: «قَدْر حَوْضِي كَمَا بَيْن أَيْلَة وَصَنْعَاء مِنْ الْيَمَن، وَإِنَّ فيه مِنْ الْأَبَارِيق كَعَدَدِ نُجُوم السَّمَاء» وَقَعَ فِي بَعْض النُّسَخ: «كَمَا» بِالْكَافِ، وَفِي بَعْضهَا (لِمَا) بِاللَّامِ، و(كَعَدَدِ) بِالْكَافِ، وَفِي بَعْضهَا: «لِعَدَدِ نُجُوم السَّمَاء» بِاللَّامِ، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
4259- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْض رِجَال مِمَّنْ صَاحَبَنِي حَتَّى إِذَا رَأَيْتهمْ وَرُفِعُوا إِلَيَّ اُخْتُلِجُوا دُونِي فَلَأَقُولَنَّ: رَبّ أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي فَلَيُقَالَنَّ لِي إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدك» أَمَّا (اُخْتُلِجُوا) فَمَعْنَاهُ اُقْتُطِعُوا.
وَأَمَّا (أُصَيْحَابِي) فَوَقَعَ فِي الرِّوَايَات مُصَغَّرًا مُكَرَّرًا، وَفِي بَعْض النُّسَخ: «أَصْحَابِي أَصْحَابِي» مُكَبَّرًا مُكَرَّرًا.
قَالَ الْقَاضِي: هَذَا دَلِيل لِصِحَّةِ تَأْوِيل مَنْ تَأَوَّلَ أَنَّهُمْ أَهْل الرِّدَّة، وَلِهَذَا قَالَ فيهمْ سُحْقًا سُحْقًا، وَلَا يَقُولُ ذَلِكَ فِي مُذْنِبِي الْأُمَّة، بَلْ يَشْفَعُ لَهُمْ، وَيَهْتَمُّ لِأَمْرِهِمْ.
قَالَ: وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ صِنْفَانِ: أَحَدُهُمَا عُصَاة مُرْتَدُّونَ عَنْ الِاسْتِقَامَة لَا عَنْ الْإِسْلَام، وَهَؤُلَاءِ مُبَدِّلُونَ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَة بِالسَّيِّئَةِ. وَالثَّانِي مُرْتَدُّونَ إِلَى الْكُفْر حَقِيقَة نَاكِصُونَ عَلَى أَعْقَابهمْ وَاسْم التَّبْدِيل يَشْمَلُ الصِّنْفَيْنِ.
4260- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْن لَابَتَيْ حَوْضِي» أَيْ نَاحِيَتَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.