فصل: باب فِي تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ وَمَنْعِهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»



.باب لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ:

1625- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُون خَمْسَة أَوْسُق صَدَقَة» الْأَوْسُق جَمْع وَسْق، فيه لُغَتَانِ: فَتْح الْوَاو وَهُوَ الْمَشْهُور، وَكَسْرهَا. وَأَصْله فِي اللُّغَة الْحَمْل، وَالْمُرَاد بِالْوَسْقِ سِتُّونَ صَاعًا كُلّ صَاع خَمْسَة أَرْطَال وَثُلُث بِالْبَغْدَادِيِّ. وَفِي رِطْل بَغْدَاد أَقْوَال أَظْهَرهَا: أَنَّهُ مِائَة دِرْهَم وَثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَة أَسْبَاع دِرْهَم، وَقِيلَ: مِائَة وَثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ بِلَا أَسْبَاع، وَقِيلَ: مِائَة وَثَلَاثُونَ، فَالْأَوْسُق الْخَمْسَة أَلْف وَسِتّمِائَةِ رِطْل بِالْبَغْدَادِيِّ.
وَهَلْ هَذَا التَّقْدِير بِالْأَرْطَالِ تَقْرِيب أَمْ تَحْدِيد؟ فيه وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَصَحّهمَا: تَقْرِيب، فَإِذَا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ يَسِير أَوْجَبَتْ الزَّكَاة، وَالثَّانِي: تَحْدِيد، فَمَتَى نَقَصَ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ لَمْ تَجِب الزَّكَاة.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: وُجُوب الزَّكَاة فِي هَذِهِ الْمَحْدُودَات، الثَّانِيَة: أَنَّهُ لَا زَكَاة فِيمَا دُون ذَلِكَ، وَلَا خِلَاف بَيْن الْمُسْلِمِينَ فِي هَاتَيْنِ إِلَّا مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَبَعْض السَّلَف: إِنَّهُ تَجِب الزَّكَاة فِي قَلِيل الْحَبّ وَكَثِيره، وَهَذَا مَذْهَب بَاطِل مُنَابِذ لِصَرِيحِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَب زَكَاة إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَالزُّهْرِيّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَجِب فِي أَقَلّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِثْقَالًا، وَالْأَشْهَر عَنْهُمَا الْوُجُوب فِي عِشْرِينَ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُور.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَعَنْ بَعْض السَّلَف وُجُوب الزَّكَاة فِي الذَّهَب إِذَا بَلَغَتْ قِيمَته مِائَتَيْ دِرْهَم وَإِنْ كَانَ دُون عِشْرِينَ مِثْقَالًا، قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَلَا زَكَاة فِي الْعِشْرِينَ حَتَّى تَكُون قِيمَتهَا مِائَتَيْ دِرْهَم.
وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا فِيمَا زَادَ فِي الْحَبّ وَالتَّمْر أَنَّهُ يَجِب فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَة أَوْسُق بِحِسَابِهِ، وَأَنَّهُ لَا أَوْقَاص فيها، وَاخْتَلَفُوا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة فَقَالَ مَالِك وَاللَّيْث وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيّ وَابْن أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمَّد وَأَكْثَر أَصْحَاب أَبِي حَنِيفَة وَجَمَاعَة أَهْل الْحَدِيث: إِنَّ فِيمَا زَادَ مِنْ الذَّهَب وَالْفِضَّة رُبُعَ الْعُشْر فِي قَلِيله وَكَثِيره وَلَا وَقْص، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ وَابْن عُمَر، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَبَعْض السَّلَف: لَا شَيْء فِيمَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَم حَتَّى يَبْلُغ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَلَا فِيمَا زَادَ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا حَتَّى يَبْلُغ أَرْبَعَة دَنَانِير، فَإِذَا زَادَتْ فَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ؛ وَفِي كُلّ أَرْبَعَة دَنَانِير دِرْهَم فَجَعَلَ لَهَا وَقْصًا كَالْمَاشِيَةِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ: «فِي الرِّقَّة رُبُع الْعُشْر»، وَالرِّقَّة الْفِضَّة، وَهَذَا عَامّ فِي النِّصَاب وَمَا فَوْقه بِالْقِيَاسِ عَلَى الْحُبُوب. وَلِأَبِي حَنِيفَة فِي الْمَسْأَلَة حَدِيث ضَعِيف لَا يَصِحّ الِاحْتِجَاج بِهِ، قَالَ الْقَاضِي: ثُمَّ إِنَّ مَالِكًا وَالْجُمْهُور يَقُولُونَ بِضَمِّ الذَّهَب وَالْفِضَّة بَعْضهمَا إِلَى بَعْض فِي إِكْمَال النِّصَاب، ثُمَّ إِنَّ مَالِكًا يُرَاعِي الْوَزْن وَيَضُمّ عَلَى الْأَجْزَاء لَا عَلَى الْقِيَم، وَيَجْعَل كُلّ دِينَارٍ كَعَشَرَةِ دَرَاهِم عَلَى الصَّرْف الْأَوَّل، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة: يُضَمُّ عَلَى الْقِيَم فِي وَقْت الزَّكَاة، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد: لَا يُضَمّ مُطْلَقًا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا فِيمَا دُون خَمْس ذَوْد صَدَقَة». الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة: «خَمْس ذَوْد» بِإِضَافَةِ ذَوْد إِلَى خَمْس، وَرُوِيَ بِتَنْوِينِ خَمْس وَيَكُون ذَوْد بَدَلًا مِنْهُ، حَكَاهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَالْقَاضِي وَغَيْرهمَا، وَالْمَعْرُوف الْأَوَّل، وَنَقَلَهُ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَالْقَاضِي عَنْ الْجُمْهُور، قَالَ أَهْل اللُّغَة: الذَّوْد مِنْ الثَّلَاثَة إِلَى الْعَشَرَة لَا وَاحِد لَهُ مِنْ لَفْظه، وَإِنَّمَا يُقَال فِي الْوَاحِد بَعِير، وَكَذَلِكَ النَّفَر وَالرَّهْط وَالْقَوْم وَالنِّسَاء وَأَشْبَاه هَذِهِ الْأَلْفَاظ لَا وَاحِد لَهَا مِنْ لَفْظهَا، قَالُوا: وَقَوْله: «خَمْس ذَوْد» كَقَوْلِهِ: خَمْسَة أَبْعِرَة، وَخَمْسَة جِمَال، وَخَمْس نُوق، وَخَمْس نِسْوَة، قَالَ سِيبَوَيْهِ: تَقُول ثَلَاث ذَوْد؛ لِأَنَّ الذَّوْد مُؤَنَّث وَلَيْسَ بِاسْمِ كَسْر عَلَيْهِ مُذَكِّره، ثُمَّ الْجُمْهُور عَلَى أَنَّ الذَّوْد مِنْ ثَلَاثَة إِلَى الْعَشَرَة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْد: مَا بَيْن ثَلَاث إِلَى تِسْع، وَهُوَ مُخْتَصّ بِالْإِنَاثِ، وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: قَالَ الْأَصْمَعِيّ: الذَّوْد: مَا بَيْن الثَّلَاث إِلَى الْعَشَرَة، وَالصُّبَّة: خَمْس أَوْ سِتّ، وَالصِّرْمَة: مَا بَيْن الْعَشَرَة إِلَى الْعِشْرِينَ، وَالْعَكَرَة: مَا بَيْن الْعِشْرِينَ إِلَى الثَّلَاثِينَ، وَالْهَجْمَة: مَا بَيْن السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَالْهُنَيَّة: مِائَة، وَالْحَظْر نَحْو مِائَتَيْنِ، وَالْعَرْج: مِنْ خَمْسمِائَةِ إِلَى أَلْف.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَغَيْره: الصِّرْمَة: مَا بَيْن الْعَشْر إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَأَنْكَرَ اِبْن قُتَيْبَة أَنْ يُقَال: خَمْس ذَوْد، كَمَا لَا يُقَال: خَمْس ثَوْب، وَغَلَّطَهُ الْعُلَمَاء، بَلْ هَذَا اللَّفْظ شَائِع فِي الْحَدِيث الصَّحِيح، وَمَسْمُوع مِنْ الْعَرَب مَعْرُوف فِي كُتُب اللُّغَة، وَلَيْسَ هُوَ جَمْعًا لِلْفَرْدِ بِخِلَافِ الْأَثْوَاب، قَالَ أَبُو حَاتِم السِّجِسْتَانِيّ: تَرَكُوا الْقِيَاس فِي الْجَمْع؛ فَقَالُوا: خَمْس ذَوْد لِخَمْسٍ مِنْ الْإِبِل، وَثَلَاث ذَوْد لِثَلَاثٍ مِنْ الْإِبِل، وَأَرْبَع ذَوْد وَعَشْر ذَوْد عَلَى غَيْر قِيَاس كَمَا قَالُوا: ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، وَالْقِيَاس مِئِين وَمِئَات، وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَهُ، وَقَدْ ضَبَطَهُ الْجُمْهُور خَمْس ذَوْد، وَرَوَاهُ بَعْضهمْ خَمْسَة ذَوْد، وَكِلَاهُمَا لِرُوَاةِ كِتَاب مُسْلِمٍ، وَالْأَوَّل أَشْهَر، وَكِلَاهُمَا صَحِيح فِي اللُّغَة، فَإِثْبَات الْهَاء لِانْطِلَاقِهِ عَلَى الْمُذَكَّر وَالْمُؤَنَّث، وَمَنْ حَذَفَهَا قَالَ الدَّاوُدِيّ: أَرَادَ أَنَّ الْوَاحِدَة مِنْهُ فَرِيضَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَيْسَ فِيمَا دُون خَمْس أَوَاقِي صَدَقَة» هَكَذَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَة الْأُولَى: (أَوَاقِي) بِالْيَاءِ، وَفِي بَاقِي الرِّوَايَات بَعْدهَا (أَوَاقٍ) بِحَذْفِ الْيَاء، وَكِلَاهُمَا صَحِيح.
قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْأُوقِيَّة بِضَمِّ الْهَمْزَة وَتَشْدِيد الْيَاء وَجَمْعهَا أَوَاقِي بِتَشْدِيدِ الْيَاء وَتَخْفِيفهَا، وَأَوَاقٍ بِحَذْفِهَا، قَالَ اِبْن السِّكِّيت فِي الْإِصْلَاح: كُلّ مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْع وَاحِده مُشَدَّدًا جَازَ فِي جَمْعه التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف، فَالْأُوقِيَّة وَالْأَوَاقِي وَالسُّرِّيَّة وَالسَّرَارِيّ وَالْخُتِّيَّة وَالْعُلِّيَّة وَالْأُثْفِيَّة وَنَظَائِرهَا، وَأَنْكَرَ جُمْهُورهمْ أَنْ يُقَال فِي الْوَاحِدَة: (وُقِيَّة) بِحَذْفِ الْهَمْزَة، وَحَكَى اللِّحْيَانِيّ جَوَازهَا بِحَذْفِ الْوَاو وَتَشْدِيد الْيَاء وَجَمْعهَا (وَقَايَا)، وَأَجْمَعَ أَهْل الْحَدِيث وَالْفِقْه وَأَئِمَّة أَهْل اللُّغَة عَلَى أَنَّ الْأُوقِيَّة الشَّرْعِيَّة أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَهِيَ أُوقِيَّة الْحِجَاز: قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَلَا يَصِحّ أَنْ تَكُون الْأُوقِيَّة وَالدَّرَاهِم مَجْهُولَة فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُوجِب الزَّكَاة فِي أَعْدَاد مِنْهَا، وَيَقَع بِهَا الْبِيَاعَات وَالْأَنْكِحَة كَمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، قَالَ: وَهَذَا يُبَيِّن أَنَّ قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ الدَّرَاهِم لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَة إِلَى زَمَان عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان، وَأَنَّهُ جَمَعَهَا بِرَأْيِ الْعُلَمَاء وَجَعَلَ كُلّ عَشْرَة وَزْن سَبْعَة مَثَاقِيل، وَوَزْن الدِّرْهَم سِتَّة دَوَانِيق قَوْل بَاطِل، وَإِنَّمَا مَعْنَى مَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا شَيْء مِنْ ضَرْب الْإِسْلَام وَعَلَى صِفَة لَا تَخْتَلِف، بَلْ كَانَتْ مَجْمُوعَات مِنْ ضَرْب فَارِس وَالرُّوم وَصِغَارًا وَكِبَارًا، وَقِطَع فِضَّة غَيْر مَضْرُوبَة وَلَا مَنْقُوشَة، وَيَمَنِيَّة وَمَغْرِبِيَّة، فَرَأَوْا صَرْفهَا إِلَى ضَرْب الْإِسْلَام وَنَقْشه وَتَصْيِيرَهَا وَزْنًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِف، وَأَعْيَانًا لِيُسْتَغْنَى فيها عَنْ الْمَوَازِين، فَجَمَعُوا أَكْبَرهَا وَأَصْغَرهَا وَضَرَبُوهُ عَلَى وَزْنهمْ، قَالَ الْقَاضِي، وَلَا شَكَّ أَنَّ الدَّرَاهِم كَانَتْ حِينَئِذٍ مَعْلُومَة، وَإِلَّا فَكَيْف كَانَتْ تُعَلَّق بِهَا حُقُوق اللَّه تَعَالَى فِي الزَّكَاة وَغَيْرهَا وَحُقُوق الْعِبَاد؟ وَلِهَذَا كَانَتْ الْأُوقِيَّة مَعْلُومَة، هَذَا كَلَام الْقَاضِي.
وَقَالَ أَصْحَابنَا: أَجْمَعَ أَهْل الْعَصْر الْأَوَّل عَلَى التَّقْدِير بِهَذَا الْوَزْن الْمَعْرُوف، وَهُوَ أَنَّ الدِّرْهَم سِتَّة دَوَانِيق وَكُلّ عَشْرَة دَرَاهِم سَبْعَة مَثَاقِيل وَلَمْ يَتَغَيَّر الْمِثْقَال فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا الْإِسْلَام.
1626- سبق شرحه بالباب.
1627- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَة أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة: «لَيْسَ فِيمَا دُون خَمْسَة أَوْسَاق» هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول: «خَمْسَة أَوْسَاق»، وَهُوَ صَحِيح جَمْع وِسْق بِكَسْرِ الْوَاو، كَحِمْلٍ وَأَحْمَال، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْوَسْق بِفَتْحِ الْوَاو وَبِكَسْرِهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ تَمْر أَوْ حَبٍّ» هُوَ تَمْر بِفَتْحِ التَّاء الْمُثَنَّاة وَإِسْكَان الْمِيم. وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن رَافِع عَنْ عَبْد الرَّزَّاق (ثَمَر) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَة وَفَتْح الْمِيم.
1628- سبق شرحه بالباب.
1629- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُون خَمْس أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِق صَدَقَة» قَالَ أَهْل اللُّغَة: يُقَال: وَرِق وَوَرْق بِكَسْرِ الرَّاء وَإِسْكَانهَا، وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا الْفِضَّة كُلّهَا مَضْرُوبهَا وَغَيْره. وَاخْتَلَفَ أَهْل اللُّغَة فِي أَصْله فَقِيلَ: يُطْلَق فِي الْأَصْل عَلَى جَمِيع الْفِضَّة، وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَة لِلْمَضْرُوبِ دَرَاهِم، وَلَا يُطْلَق عَلَى غَيْر الدَّرَاهِم إِلَّا مَجَازًا، وَهَذَا قَوْل كَثِير مِنْ أَهْل اللُّغَة، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ اِبْن قُتَيْبَة وَغَيْره مِنْهُمْ، وَهُوَ مَذْهَب الْفُقَهَاء، وَلَمْ يَأْتِ فِي الصَّحِيح بَيَان نِصَاب الذَّهَب، وَقَدْ جَاءَتْ فيه أَحَادِيث بِتَحْدِيدِ نِصَابه بِعِشْرِينَ مِثْقَالًا وَهِيَ ضِعَاف، وَلَكِنْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاع عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَا اِتَّفَقُوا عَلَى اِشْتِرَاط الْحَوْل فِي زَكَاة الْمَاشِيَة وَالذَّهَب وَالْفِضَّة دُون الْمُعَشَّرَات.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلَالَة لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِ فِي الْفِضَّة إِذَا كَانَتْ دُون مِائَتَيْ دِرْهَم رَائِجَة أَوْ نَحْوهَا لَا زَكَاة فيها لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِيمَا دُون خَمْس أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِق صَدَقَة»، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأُوقِيَّة أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَهِيَ أُوقِيَّة الْحِجَاز الشَّرْعِيَّة، وَقَالَ مَالِك: إِذَا نَقَصَتْ شَيْئًا يَسِيرًا بِحَيْثُ تَرُوج رَوَاج الْوَازِنَة وَجَبَتْ الزَّكَاة. وَدَلِيلنَا أَنَّهُ يَصْدُق أَنَّهَا دُون خَمْس أَوَاقٍ، وَفيه دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي الدَّرَاهِم الْمَغْشُوشَة أَنَّهُ لَا زَكَاة فيها حَتَّى تَبْلُغ الْفِضَّة الْمَحْضَة مِنْهَا مِائَتَيْ دِرْهَم.

.باب مَا فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ:

1630- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَار وَالْغَيْم الْعُشُور وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْف الْعُشْر» ضَبَطْنَاهُ (الْعُشُور) بِضَمِّ الْعَيْن جَمْع عُشْر، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: ضَبَطْنَاهُ عَنْ عَامَّة شُيُوخنَا بِفَتْحِ الْعَيْن جَمْع، وَهُوَ اِسْم لِلْمُخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ صَاحِب مَطَالِع الْأَنْوَار: أَكْثَر الشُّيُوخ يَقُولُونَهُ بِالضَّمِّ وَصَوَابه الْفَتْح، وَهَذَا الَّذِي اِدَّعَاهُ مِنْ الصَّوَاب لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ اِعْتَرَفَ بِأَنَّ أَكْثَر الرُّوَاة رَوَوْهُ بِالضَّمِّ وَهُوَ الصَّوَاب جَمْع عُشْر، وَقَدْ اِتَّفَقُوا عَلَى قَوْلهمْ: عُشُور أَهْل الذِّمَّة بِالضَّمِّ وَهُوَ الصَّوَاب جَمْع عُشْر، وَلَا فَرْق بَيْن اللَّفْظَيْنِ.
وَأَمَّا الْغَيْم- هُنَا فَبِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة- وَهُوَ الْمَطَر، وَجَاءَ فِي غَيْر مُسْلِم (الْغَيْل) بِاللَّامِ، قَالَ أَبُو عُبَيْد: هُوَ مَا جَرَى مِنْ الْمِيَاه فِي الْأَنْهَار، وَهُوَ سَيْل دُون السَّيْل الْكَبِير.
وَقَالَ اِبْن السِّكِّيت: هُوَ الْمَاء الْجَارِي عَلَى الْأَرْض.
وَأَمَّا السَّانِيَة: فَهُوَ الْبَعِير الَّذِي يُسْقَى بِهِ الْمَاء مِنْ الْبِئْر، وَيُقَال لَهُ: النَّاضِح، يُقَال مِنْهُ: سَنَا يَسْنُو إِذَا أُسْقِيَ بِهِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيث وُجُوب الْعُشْر فِيمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاء وَالْأَنْهَار وَنَحْوهَا مِمَّا لَيْسَ فيه مُؤْنَة كَثِيرَة، وَنِصْف الْعُشْر فِيمَا سُقِيَ بِالنَّوَاضِحِ وَغَيْرهَا مِمَّا فيه مُؤْنَة كَثِيرَة، وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ. وَلَكِنْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي أَنَّهُ هَلْ تَجِب الزَّكَاة فِي كُلّ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْض مِنْ الثِّمَار وَالزُّرُوع وَالرَّيَاحِين وَغَيْرهَا إِلَّا الْحَشِيش وَالْحَطَب وَنَحْوهمَا؟ أَمْ يَخْتَصّ؟ فَعَمَّمَ أَبُو حَنِيفَة، وَخَصَّصَ الْجُمْهُور عَلَى اِخْتِلَاف لَهُمْ فِيمَا يَخْتَصّ بِهِ، وَهُوَ مَعْرُوف فِي كُتُب الْفِقْه.

.باب لاَ زَكَاةَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَفَرَسِهِ:

1631- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِم فِي عَبْده وَلَا فَرَسه صَدَقَة» هَذَا الْحَدِيث أَصْل فِي أَنَّ أَمْوَال الْقِنْيَة لَا زَكَاة فيها، وَأَنَّهُ لَا زَكَاة فِي الْخَيْل وَالرَّقِيق إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، وَبِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاء كَافَّةً مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَة وَشَيْخه حَمَّاد بْن أَبِي سُلَيْمَان وَنَفَرًا أَوْجَبُوا فِي الْخَيْل إِذَا كَانَتْ إِنَاثًا، أَوْ ذُكُورًا فِي كُلّ فَرَس دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَخْرَجَ عَنْ كُلّ مِائَتَيْ دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم، وَلَيْسَ لَهُمْ حُجَّة فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ.
1632- سبق شرحه بالباب.
1633- وَقَوْله فِي الْعَبْد: «إِلَّا صَدَقَة الْفِطْر» صَرِيح فِي وُجُوب صَدَقَة الْفِطْر عَلَى السَّيِّد عَنْ عَبْده، سَوَاء كَانَ لِلْقِنْيَةِ أَمْ لِلتِّجَارَةِ، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور، وَقَالَ أَهْل الْكُوفَة: لَا يَجِب فِي عُبَيْد التِّجَارَة، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَجِب عَلَى السَّيِّد، بَلْ تَجِب عَلَى الْعَبْد، وَيَلْزَم السَّيِّدَ تَمْكِينُهُ مِنْ الْكَسْب لِيُؤَدِّيَهَا، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ أَبِي ثَوْر أَيْضًا، وَمَذْهَب الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء أَنَّ الْمُكَاتَب لَا فِطْرَة عَلَيْهِ وَلَا عَلَى سَيِّده، وَعَنْ عَطَاء وَمَالِك وَأَبِي ثَوْر وُجُوبهَا عَلَى السَّيِّد. وَهُوَ وَجْه لِبَعْضِ أَصْحَاب الشَّافِعِيّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُكَاتَب عَبْد مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَم». وَفيه وَجْه أَيْضًا لِبَعْضِ أَصْحَابنَا أَنَّهَا تَجِب عَلَى الْمُكَاتَب؛ لِأَنَّهُ كَالْحُرِّ فِي كَثِير مِنْ الْأَحْكَام.

.باب فِي تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ وَمَنْعِهَا:

1634- قَوْله: (مَنَعَ اِبْن جَمِيل) أَيْ مَنَعَ الزَّكَاة وَامْتَنَعَ مِنْ دَفْعهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَنْقِم اِبْن جَمِيل إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّه» قَوْله: يَنْقِم بِكَسْرِ الْقَاف وَفَتْحهَا وَالْكَسْر أَفْصَح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمَّا خَالِد فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا فَقَدْ اِحْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيل اللَّه» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْأَعْتَاد: آلَات الْحَرْب مِنْ السِّلَاح وَالدَّوَابّ وَغَيْرهَا، وَالْوَاحِد عَتَاد بِفَتْحِ الْعَيْن، وَيُجْمَع أَعَتَادًا وَأَعْتِدَة. وَمَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ خَالِد زَكَاة أَعْتَادِهِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا لِلتِّجَارَةِ، وَأَنَّ الزَّكَاة فيها وَاجِبَة، فَقَالَ لَهُمْ: لَا زَكَاة لَكُمْ عَلَيَّ، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ خَالِدًا مَنَعَ الزَّكَاة، فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّكُمْ تَظْلِمُونَهُ»؛ لِأَنَّهُ حَبَسَهَا وَوَقَفَهَا فِي سَبِيل اللَّه قَبْل الْحَوْل عَلَيْهَا، فَلَا زَكَاة فيها. وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد: لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاة لَأَعْطَاهَا وَلَمْ يَشِحَّ بِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَف أَمْوَاله لِلَّهِ تَعَالَى مُتَبَرِّعًا فَكَيْف يَشِحّ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ؟ وَاسْتَنْبَطَ بَعْضهمْ مِنْ هَذَا وُجُوب زَكَاة التِّجَارَة، وَبِهِ قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف خِلَافًا لِدَاوُدَ. وَفيه دَلِيل عَلَى صِحَّة الْوَقْف، وَصِحَّة وَقْف الْمَنْقُول، وَبِهِ قَالَتْ الْأُمَّة بِأَسْرِهَا إِلَّا أَبَا حَنِيفَة وَبَعْض الْكُوفِيِّينَ.
وَقَالَ بَعْضهمْ: هَذِهِ الصَّدَقَة الَّتِي مَنَعَهَا اِبْن جَمِيل وَخَالِد وَالْعَبَّاس لَمْ تَكُنْ زَكَاة إِنَّمَا كَانَتْ صَدَقَة تَطَوُّع. حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاض قَالَ: وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ عَبْد الرَّزَّاق رَوَى هَذَا الْحَدِيث، وَذَكَرَ فِي رِوَايَته أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ النَّاس إِلَى الصَّدَقَة وَذَكَرَ تَمَام الْحَدِيث.
قَالَ اِبْن الْقَصَّار مِنْ الْمَالِكِيَّة: وَهَذَا التَّأْوِيل أَلْيَق بِالْقِصَّةِ فَلَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ مَنْع الْوَاجِب، وَعَلَى هَذَا فَعُذْر خَالِد وَاضِح؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ مَاله فِي سَبِيل اللَّه فَمَا بَقِيَ لَهُ مَال يَحْتَمِل الْمُوَاسَاة بِصَدَقَةِ التَّطَوُّع، وَيَكُون اِبْن جَمِيل شَحَّ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّع فَعَتَبَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي الْعَبَّاس: هِيَ عَلَيَّ وَمِثْلهَا مَعَهَا، أَيْ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِع إِذَا طُلِبَتْ مِنْهُ. هَذَا كَلَام اِبْن الْقَصَّار.
وَقَالَ الْقَاضِي: لَكِنَّ ظَاهِر الْأَحَادِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا فِي الزَّكَاة لِقَوْلِهِ: بَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَر عَلَى الصَّدَقَة، وَإِنَّمَا كَانَ يَبْعَث فِي الْفَرِيضَة، قُلْت: الصَّحِيح الْمَشْهُور أَنَّ هَذَا كَانَ فِي الزَّكَاة لَا فِي صَدَقَة التَّطَوُّع، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ عَلَيَّ وَمِثْلهَا مَعَهَا» مَعْنَاهُ: أَنِّي تَسَلَّفْت مِنْهُ زَكَاة عَامَيْنِ، وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَجُوزُونَ تَعْجِيل الزَّكَاة: مَعْنَاهُ: أَنَا أُؤَدِّيهَا عَنْهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْد وَغَيْره: مَعْنَاهُ: أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهَا عَنْ الْعَبَّاس إِلَى وَقْت يَسَاره؛ مِنْ أَجْل حَاجَته إِلَيْهَا، وَالصَّوَاب أَنَّ مَعْنَاهُ: تَعَجَّلْتهَا مِنْهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث آخَر فِي غَيْر مُسْلِم: «إِنَّا تَعَجَّلْنَا مِنْهُ صَدَقَة عَامَيْنِ».
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَمّ الرَّجُل صِنْو أَبِيهِ» أَيْ مِثْل أَبِيهِ، وَفيه تَعْظِيم حَقّ الْعَمّ.

.باب زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ:

1635- قَوْله: «أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاة الْفِطْر مِنْ رَمَضَان عَلَى النَّاس صَاعًا مِنْ تَمْر أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِير عَلَى كُلّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ» اِخْتَلَفَ النَّاس فِي مَعْنَى: «فَرْض» هُنَا، فَقَالَ جُمْهُورهمْ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف: مَعْنَاهُ أَلْزَمُ وَأَوْجَبُ، فَزَكَاة الْفِطْر فَرْض وَاجِب عِنْدهمْ لِدُخُولِهَا فِي عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاة}.
وَلِقَوْلِهِ: «فَرْض» وَهُوَ غَالِب فِي اِسْتِعْمَال الشَّرْع بِهَذَا الْمَعْنَى.
وَقَالَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ: إِيجَاب زَكَاة الْفِطْر كَالْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ بَعْض أَهْل الْعِرَاق وَبَعْض أَصْحَاب مَالِك وَبَعْض أَصْحَاب الشَّافِعِيّ وَدَاوُد فِي آخِر أَمْره: إِنَّهَا سُنَّة، لَيْسَتْ وَاجِبَة، قَالُوا: وَمَعْنَى (فَرْض) قُدِّرَ عَلَى سَبِيل النَّدْب.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: هِيَ وَاجِبَة لَيْسَتْ فَرْضًا بِنَاء عَلَى مَذْهَبه فِي الْفَرْق بَيْن الْوَاجِب وَالْفَرْض.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَالَ بَعْضهمْ: الْفِطْرَة مَنْسُوخَة بِالزَّكَاةِ، قُلْت: هَذَا غَلَط صَرِيح، وَالصَّوَاب أَنَّهَا فَرْض وَاجِب.
قَوْله: «مِنْ رَمَضَان» إِشَارَة إِلَى وَقْت وُجُوبهَا، وَفيه خِلَاف لِلْعُلَمَاءِ، فَالصَّحِيح مِنْ قَوْل الشَّافِعِيّ: أَنَّهَا تَجِب بِغُرُوبِ الشَّمْس وَدُخُول أَوَّل جُزْء مِنْ لَيْلَة عِيد الْفِطْر، وَالثَّانِي: تَجِب لِطُلُوعِ الْفَجْر لَيْلَة الْعِيد.
وَقَالَ أَصْحَابنَا: تَجِب بِالْغُرُوبِ وَالطُّلُوع مَعًا، فَإِنْ وُلِدَ بَعْد الْغُرُوب أَوْ مَاتَ قَبْل الطُّلُوع لَمْ تَجِب. وَعَنْ مَالِك رِوَايَتَانِ كَالْقَوْلَيْنِ، وَعِنْد أَبِي حَنِيفَة: تَجِب بِطُلُوعِ الْفَجْر.
قَالَ الْمَازِرِيّ: قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْخِلَاف مَبْنِيّ عَلَى أَنَّ قَوْله: الْفِطْر مِنْ رَمَضَان هَلْ الْمُرَاد بِهِ الْفِطْر الْمُعْتَاد فِي سَائِر الشَّهْر فَيَكُون الْوُجُوب بِالْغُرُوبِ؟ أَوْ الْفِطْر الطَّارِئ بَعْد ذَلِكَ فَيَكُون بِطُلُوعِ الْفَجْر؟ قَالَ الْمَازِرِيّ: وَفِي قَوْله: «الْفِطْر مِنْ رَمَضَان» دَلِيل لِمَنْ يَقُول: لَا تَجِب إِلَّا عَلَى مَنْ صَامَ مِنْ رَمَضَان وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا، قَالَ: وَكَانَ سَبَب هَذَا أَنَّ الْعِبَادَات الَّتِي تَطُول وَيَشُقّ التَّحَرُّز مِنْهَا مِنْ أُمُور تُفَوِّت كَمَالَهَا، جَعَلَ الشَّرْع فيها كَفَّارَة مَالِيَّة بَدَل النَّقْص كَالْهَدْيِ فِي الْحَجّ وَالْعُمْرَة، وَكَذَا الْفِطْرَة لِمَا يَكُون فِي الصَّوْم مِنْ لَغْو وَغَيْره، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث آخَر أَنَّهَا طُهْرَة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْو وَالرَّفَث.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء أَيْضًا فِي إِخْرَاجهَا عَنْ الصَّبِيّ، فَقَالَ الْجُمْهُور: يَجِب إِخْرَاجهَا لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُور بَعْد هَذَا صَغِير أَوْ كَبِير، وَتَعَلَّقَ مَنْ لَمْ يُوجِبهَا أَنَّهَا تَطْهِير وَالصَّبِيّ لَيْسَ مُحْتَاجًا إِلَى التَّطْهِير لِعَدَمِ الْإِثْم، وَأَجَابَ الْجُمْهُور عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّعْلِيل بِالتَّطْهِيرِ لِغَالِبِ النَّاس، وَلَا يَمْتَنِع أَلَّا يُوجَد التَّطْهِير مِنْ الذَّنْب، كَمَا أَنَّهَا تَجِب عَلَى مَنْ لَا ذَنْب لَهُ، كَصَالِحٍ مُحَقَّقِ الصَّلَاحِ، وَكَكَافِرٍ أَسْلَمَ قَبْل غُرُوب الشَّمْس بِلَحْظَةٍ، فَإِنَّهَا تَجِب عَلَيْهِ مَعَ عَدَم الْإِثْم، وَكَمَا أَنَّ الْقَصْر فِي السَّفَر جُوِّزَ لِلْمَشَقَّةِ، فَلَوْ وَجَدَ مَنْ لَا مَشَقَّة عَلَيْهِ فَلَهُ الْقَصْر.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى كُلّ حُرّ أَوْ عَبْد» فَإِنَّ دَاوُدَ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ فَأَوْجَبَهَا عَلَى الْعَبْد بِنَفْسِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَى السَّيِّد تَمْكِينه مِنْ كَسْبهَا، كَمَا يُمَكِّنُهُ مِنْ صَلَاة الْفَرْض. وَمَذْهَب الْجُمْهُور وُجُوبهَا عَلَى سَيِّده عَنْهُ. وَعِنْد أَصْحَابنَا فِي تَقْدِيرهَا وَجْهَانِ: أَحَدهمَا: أَنَّهَا تَجِب عَلَى السَّيِّد اِبْتِدَاء.
وَالثَّانِي: تَجِب عَلَى الْعَبْد ثُمَّ يَحْمِلهَا عَنْهُ سَيِّده. فَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي، فَلَفْظَة (عَلَى) عَلَى ظَاهِرهَا، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: لَفْظَة (عَلَى) بِمَعْنَى (عَنْ).
وَأَمَّا قَوْله: «عَلَى النَّاس عَلَى كُلّ حُرّ أَوْ عَبْد ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى». فَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّهَا تَجِب عَلَى أَهْل الْقُرَى وَالْأَمْصَار وَالْبَوَادِي وَالشِّعَاب وَكُلّ مُسْلِم حَيْثُ كَانَ، وَبِهِ قَالَ مَالِك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَعَنْ عَطَاء وَالزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَاللَّيْث أَنَّهَا لَا تَجِب إِلَّا عَلَى أَهْل الْأَمْصَار وَالْقُرَى دُون الْبَوَادِي.
وَفيه دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُور فِي أَنَّهَا تَجِب عَلَى مَنْ مَلَكَ فَاضِلًا عَنْ قُوتِهِ وَقُوت عِيَاله يَوْم الْعِيد.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة: لَا تَجِب عَلَى مَنْ يَحِلّ لَهُ أَخْذ الزَّكَاة، وَعِنْدنَا أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ مِنْ الْفِطْرَة الْمُعَجَّلَة فَاضِلًا عَنْ قُوته لَيْلَةَ الْعِيد وَيَوْمَهُ لَزِمَتْهُ الْفِطْرَة عَنْ نَفْسه وَعِيَاله، وَعَنْ مَالِك وَأَصْحَابه فِي ذَلِكَ خِلَاف.
وَقَوْله: «ذَكَر أَوْ أُنْثَى»، حُجَّة لِلْكُوفِيَّيْنِ فِي أَنَّهَا تَجِب عَلَى الزَّوْجَة فِي نَفْسهَا، وَيَلْزَمهَا إِخْرَاجهَا مِنْ مَالهَا. وَعِنْد مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور يَلْزَم الزَّوْج فِطْرَة زَوْجَته؛ لِأَنَّهَا تَابِعَة لِلنَّفَقَةِ، وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيث بِمَا سَبَقَ فِي الْجَوَاب لِدَاوُدَ فِي فِطْرَة الْعِيد.
وَأَمَّا قَوْله: «مِنْ الْمُسْلِمِينَ». فَصَرِيح فِي أَنَّهَا لَا تَخْرُج إِلَّا عَنْ مُسْلِم، فَلَا يَلْزَمهُ عَنْ عَبْده وَزَوْجَته وَوَلَده الْكُفَّار، وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتهمْ. وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء.
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَإِسْحَاق وَبَعْض السَّلَف: تَجِب عَنْ الْعَبْد الْكَافِر.
وَتَأَوَّلَ الطَّحَاوِيُّ قَوْله: «مِنْ الْمُسْلِمِينَ» عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ: «مِنْ الْمُسْلِمِينَ» السَّادَة دُون الْعَبِيد. وَهَذَا يَرُدُّهُ ظَاهِر الْحَدِيث.
وَأَمَّا قَوْله: «صَاعًا مِنْ كَذَا وَصَاعًا مِنْ كَذَا» فَفيه دَلِيل عَلَى أَنَّ الْوَاجِب فِي الْفِطْرَة عَنْ كُلّ نَفْس صَاع، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْر حِنْطَة وَزَبِيب وَجَبَ صَاع بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ حِنْطَة وَزَبِيبًا وَجَبَ أَيْضًا صَاع عِنْد الشَّافِعِيّ وَمَالِك وَالْجُمْهُور، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد: نِصْف صَاع بِحَدِيثِ مُعَاوِيَة الْمَذْكُور بَعْد هَذَا، وَحُجَّة الْجُمْهُور حَدِيث أَبِي سَعِيد بَعْد هَذَا فِي قَوْله: «صَاعًا مِنْ طَعَام أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِير أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْر أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِط أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيب»، وَالدَّلَالَة فيه مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّ الطَّعَام فِي عُرْف أَهْل الْحِجَاز اِسْم لِلْحِنْطَةِ خَاصَّة، لاسيما وَقَدْ قَرَنَهُ بِبَاقِي الْمَذْكُورَات.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ أَشْيَاء قِيَمُهَا مُخْتَلِفَةٌ، وَأَوْجَبَ فِي كُلّ نَوْع مِنْهَا صَاعًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَر صَاع وَلَا نَظَرَ إِلَى قِيمَتِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة لِأَبِي دَاوُدَ أَوْ صَاعًا مِنْ حِنْطَة، قَالَ: وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَلَيْسَ لِلْقَائِلَيْنِ بِنِصْفِ صَاع حُجَّة إِلَّا حَدِيث مُعَاوِيَة، وَسَنُجِيبُ عَنْهُ- إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى- وَاعْتَمَدُوا أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً ضَعَّفَهَا أَهْل الْحَدِيث وَضَعْفهَا بَيِّنٌ.
قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتُلِفَ فِي النَّوْع الْمُخْرَج، فَأَجْمَعُوا أَنَّهُ يَجُوز الْبُرّ وَالزَّبِيب وَالتَّمْر وَالشَّعِير إِلَّا خِلَافًا فِي الْبُرّ لِمَنْ لَا يُعْتَدّ بِخِلَافِهِ، وَخِلَافًا فِي الزَّبِيب لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَكِلَاهُمَا مَسْبُوق بِالْإِجْمَاعِ مَرْدُود بِهِ.
وَأَمَّا الْأَقِط فَأَجَازَهُ مَالِك وَالْجُمْهُور، وَمَنَعَهُ الْحَسَن، وَاخْتَلَفَ فيه قَوْل الشَّافِعِيّ، وَقَالَ أَشْهَب: لَا تُخْرَج إِلَّا هَذِهِ الْخَمْسَة، وَقَاسَ مَالِك عَلَى الْخَمْسَة كُلّ مَا هُوَ عَيْش أَهْل كُلّ بَلَد مِنْ الْقَطَانِيّ وَغَيْرهَا، وَعَنْ مَالِك قَوْل آخَر أَنَّهُ لَا يُجْزِي غَيْر الْمَنْصُوص فِي الْحَدِيث وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَلَمْ يُجِزْ عَامَّة الْفُقَهَاء إِخْرَاج الْقِيمَة، وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَة. قُلْت: قَالَ أَصْحَابنَا: جِنْس الْفِطْرَة كُلّ حَبّ وَجَبَ فيه الْعُشْر، وَيُجْزِي الْأَقِط عَلَى الْمَذْهَب، وَالْأَصَحّ أَنَّهُ يَتَعَيَّن عَلَيْهِ غَالِب قُوت بَلَده.
وَالثَّانِي: يَتَعَيَّن قُوت نَفْسه.
وَالثَّالِث: يَتَخَيَّر بَيْنهمَا، فَإِنْ عَدَلَ عَنْ الْوَاجِب إِلَى أَعْلَى مِنْهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ عَدَلَ إِلَى مَا دُونه لَمْ يُجْزِهِ.
قَوْله: «مِنْ الْمُسْلِمِينَ» قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ وَغَيْره: هَذِهِ اللَّفْظَة اِنْفَرَدَ بِهَا مَالِك دُون سَائِر أَصْحَاب نَافِع، وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا وَلَمْ يَنْفَرِد بِهَا مَالِك، بَلْ وَافَقَهُ فيها ثِقَتَانِ وَهُمَا: الضَّحَّاك بْن عُثْمَان، وَعُمَر بْن نَافِع. فَالضَّحَّاك ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي الرِّوَايَة الَّتِي بَعْد هَذِهِ، وَأَمَّا عُمَر فَفِي الْبُخَارِيّ. قَوْله: (عَنْ مُعَاوِيَة أَنَّهُ كَلَّمَ النَّاس عَلَى الْمِنْبَر، فَقَالَ: إِنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاء الشَّام يَعْدِل صَاعًا مِنْ تَمْر، فَأَخَذَ النَّاس بِذَلِكَ، قَالَ أَبُو سَعِيد: فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالَ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْت أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْت). فَقَوْله: (سَمْرَاء الشَّام) هِيَ الْحِنْطَة، وَهَذَا الْحَدِيث هُوَ الَّذِي يَعْتَمِدهُ أَبُو حَنِيفَة وَمُوَافِقُوهُ فِي جَوَاز نِصْف صَاع حِنْطَة، وَالْجُمْهُور يُجِيبُونَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَوْل صَحَابِيّ، وَقَدْ خَالَفَهُ أَبُو سَعِيد وَغَيْره مِمَّنْ هُوَ أَطْوَل صُحْبَة وَأَعْلَم بِأَحْوَالِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا اِخْتَلَفَتْ الصَّحَابَة لَمْ يَكُنْ قَوْل بَعْضهمْ بِأَوْلَى مِنْ بَعْض، فَنَرْجِع إِلَى دَلِيل آخَر، وَجَدْنَا ظَاهِر الْأَحَادِيث وَالْقِيَاس مُتَّفِقًا عَلَى اِشْتِرَاط الصَّاع مِنْ الْحِنْطَة كَغَيْرِهَا، فَوَجَبَ اِعْتِمَاده، وَقَدْ صَرَّحَ مُعَاوِيَة بِأَنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ لَا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَانَ عِنْد أَحَد مِنْ حَاضِرِي مَجْلِسه مَعَ كَثْرَتهمْ فِي تِلْكَ اللَّحْظَة عِلْم فِي مُوَافَقَة مُعَاوِيَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَذَكَرَهُ كَمَا جَرَى لَهُمْ فِي غَيْر هَذِهِ الْقِصَّة.
1640- قَوْله فِي حَدِيث أَبِي سَعِيد: «أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِط».
صَرِيح فِي إِجْزَائِهِ وَإِبْطَال لِقَوْلِ مَنْ مَنَعَهُ.
1642- قَوْله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن رَافِع حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أُمِّيَّة قَالَ: أَخْبَرَنِي عِيَاض بْن عَبْد اللَّه بْن سَعْد بْن أَبِي سَرْح أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيد الْخُدْرِيَّ) هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مُسْلِم فَقَالَ: خَالَفَ سَعِيد بْن مَسْلَمَةَ مَعْمَرًا فيه؛ فَرَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أُمِّيَّة عَنْ الْحَارِث بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي ذُبَاب عَنْ عِيَاض، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَالْحَدِيث مَحْفُوظ عَنْ الْحَارِث، قُلْت: وَهَذَا الِاسْتِدْرَاك لَيْسَ بِلَازِمٍ، فَإِنَّ إِسْمَاعِيل بْن أُمِّيَّة صَحِيح السَّمَاع عَنْ عِيَاض. وَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَوْله: «عَنْ كُلّ صَغِير وَكَبِير حُرّ وَمَمْلُوك» فيه دَلِيل عَلَى وُجُوبهَا عَلَى السَّيِّد عَنْ عَبْده لَا عَلَى الْعَبْد نَفْسه، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَام فيه وَمَذَاهِبهمْ بِدَلَائِلِهَا.
1643- وَقَوْله: (اِبْن أَبِي ذُبَاب) هُوَ بِضَمِّ الذَّال الْمُعْجَمَة وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة.

.باب الأَمْرِ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلاَةِ:

1645- قَوْله: «أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْر أَنْ تُؤَدَّى قَبْل خُرُوج النَّاس إِلَى الصَّلَاة» فيه دَلِيل لِلشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُور فِي أَنَّهُ لَا يَجُوز تَأْخِير الْفِطْرَة عَنْ يَوْم الْعِيد، وَأَنَّ الْأَفْضَل إِخْرَاجهَا قَبْل الْخُرُوج إِلَى الْمُصَلَّى. وَاَللَّه أَعْلَم.

.باب إِثْمِ مَانِعِ الزَّكَاةِ:

1647- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ صَاحِب ذَهَبَ وَلَا فِضَّة لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقّهَا» إِلَى آخِر الْحَدِيث. هَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي وُجُوب الزَّكَاة فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَلَا خِلَاف فيه وَكَذَا بَاقِي الْمَذْكُورَات مِنْ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ» هَكَذَا هُوَ فِي بَعْض النُّسَخ: «بَرَدَتْ» بِالْبَاءِ، وَفِي بَعْضهَا: «رُدَّتْ» بِحَذْفِ الْبَاء وَبِضَمِّ الرَّاء، وَذَكَرَ الْقَاضِي الرِّوَايَتَيْنِ وَقَالَ: الْأُولَى هِيَ الصَّوَاب، قَالَ: وَالثَّانِيَة رِوَايَة الْجُمْهُور.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا» هُوَ بِفَتْحِ اللَّام عَلَى اللُّغَة الْمَشْهُورَة، وَحُكِيَ إِسْكَانهَا، وَهُوَ غَرِيب ضَعِيف وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقِيَاسَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُطِحَ لَهَا بِقَاعِ قَرْقَر» الْقَاع: الْمُسْتَوِي الْوَاسِع مِنْ الْأَرْض يَعْلُوهُ مَاء السَّمَاء فَيُمْسِكُهُ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَجَمْعه قِيعَة وَقِيعَان، مِثْل جَارٍ وَجِيرَة وَجِيرَان. وَالْقَرْقَر: الْمُسْتَوِي أَيْضًا مِنْ الْأَرْض الْوَاسِع وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافَيْنِ. قَوْله: (بُطِحَ) قَالَ جَمَاعَة: مَعْنَاهُ: أُلْقِيَ عَلَى وَجْهه، قَالَ الْقَاضِي: قَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ يُخْبَط وَجْهُهُ بِأَخْفَافِهَا، قَالَ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْط الْبَطْح كَوْنه عَلَى الْوَجْه، وَإِنَّمَا هُوَ فِي اللُّغَة بِمَعْنَى الْبَسْط وَالْمَدّ، فَقَدْ يَكُون عَلَى وَجْهه، وَقَدْ يَكُون عَلَى ظَهْرِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ بَطْحَاء مَكَّة لِانْبِسَاطِهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الْأُصُول فِي هَذَا الْمَوْضِع، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض قَالُوا: هُوَ تَغْيِير وَتَصْحِيف، وَصَوَابه مَا جَاءَ بَعْده فِي الْحَدِيث الْآخَر مِنْ رِوَايَة سُهَيْل عَنْ أَبِيهِ، وَمَا جَاءَ فِي حَدِيث الْمَعْرُور بْن سُوَيْد عَنْ أَبِي ذَرّ: «كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا» وَبِهَذَا يَنْتَظِم الْكَلَام.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَرَى سَبِيله» ضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْحهَا وَبِرَفْعِ لَامِ: «سَبِيله» وَنَصْبهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فيها عَقْصَاء وَلَا جَلْحَاء وَلَا عَضْبَاء» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْعَقْصَاء: مُلْتَوِيَة الْقَرْنَيْنِ، وَالْجَلْحَاء: الَّتِي لَا قَرْن لَهَا، وَالْعَضْبَاء: الَّتِي اِنْكَسَرَ قَرْنهَا الدَّاخِل.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَنْطَحهُ» بِكَسْرِ الطَّاء وَفَتْحهَا لُغَتَانِ، حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيّ وَغَيْره، وَالْكَسْر أَفْصَح وَهُوَ الْمَعْرُوف فِي الرِّوَايَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا صَاحِب بَقَر» إِلَى آخِره. فيه دَلِيل عَلَى وُجُوب الزَّكَاة فِي الْبَقَر، وَهَذَا أَصَحّ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي زَكَاة الْبَقَر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لَا يَفْقِد مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا» فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «أَعْظَم مَا كَانَتْ» هَذَا لِلزِّيَادَةِ فِي عُقُوبَته بِكَثْرَتِهَا وَقُوَّتهَا وَكَمَال خَلْقهَا، فَتَكُون أَثْقَل فِي وَطْئِهَا، كَمَا أَنَّ ذَوَات الْقُرُون تَكُون بِقُرُونِهَا لِيَكُونَ أَنْكَى وَأَصْوَبَ لِطَعْنِهَا وَنَطْحهَا.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا» الظِّلْف لِلْبَقَرِ وَالْغَنَم وَالظِّبَاء، وَهُوَ الْمُنْشَقّ مِنْ الْقَوَائِم، وَالْخُفّ لِلْبَعِيرِ، وَالْقَدَم لِلْآدَمِيِّ، وَالْحَافِر لِلْفَرَسِ وَالْبَغْل وَالْحِمَار.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَيْل: «فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ وِزْر» هَكَذَا هُوَ فِي أَكْثَر النُّسَخ: «الَّتِي» وَوَقَعَ فِي بَعْضهَا: «الَّذِي» وَهُوَ أَوْضَحُ وَأَظْهَر.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَام» هُوَ بِكَسْرِ النُّون وَبِالْمَدِّ أَيْ مُنَاوَأَةً وَمُعَادَاةً. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَبَطَهَا فِي سَبِيل اللَّه» أَيْ أَعَدَّهَا لِلْجِهَادِ، وَأَصْله مِنْ الرَّبْط، وَمِنْهُ الرِّبَاط، وَهُوَ حَبْسُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ فِي الثَّغْر وَإِعْدَادُهُ الْأُهْبَةَ لِذَلِكَ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَيْل: «ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقّ اللَّه فِي ظُهُورهَا وَلَا رِقَابهَا» اِسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَة عَلَى وُجُوب الزَّكَاة فِي الْخَيْل، وَمَذْهَبه أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ الْخَيْل كُلّهَا ذُكُورًا فَلَا زَكَاة فيها، وَإِنْ كَانَتْ إِنَاثًا، أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَجَبَتْ الزَّكَاة، وَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخْرَجَ عَنْ كُلّ فَرَس دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَخْرَجَ رُبُع عُشْر الْقِيمَة.
وَقَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء: لَا زَكَاة فِي الْخَيْل بِحَالٍ لِلْحَدِيثِ السَّابِق: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِم فِي فَرَسه صَدَقَة» وَتَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ يُجَاهِد بِهَا، وَقَدْ يَجِب الْجِهَاد بِهَا إِذَا تَعَيَّنَ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَاد بِالْحَقِّ فِي رِقَابهَا الْإِحْسَان إِلَيْهَا، وَالْقِيَام بِعَلْفِهَا وَسَائِر مُؤَنِهَا. وَالْمُرَاد بِظُهُورِهَا: إِطْرَاق فَحْلِهَا إِذَا طُلِبَتْ عَارِيَته، وَهَذَا عَلَى النَّدْب.
وَقِيلَ: الْمُرَاد حَقّ اللَّه مِمَّا يُكْسَب مِنْ مَال الْعَدُوّ عَلَى ظُهُورهَا وَهُوَ خُمُس الْغَنِيمَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَقْطَع طِوَلَهَا» هُوَ بِكَسْرِ الطَّاء وَفَتْح الْوَاو، وَيُقَال: «طِيلُهَا» بِالْيَاءِ، كَذَا جَاءَ فِي الْمُوَطَّإِ، وَالطِّوَل وَالطِّيل: الْحَبْل الَّذِي تَرْبِط فيه.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَقْطَع طِوَلهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ» مَعْنَى اِسْتَنَّتْ: أَيْ جَرَتْ. وَالشَّرَف- بِفَتْحِ الشِّين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء- وَهُوَ الْعَالِي مِنْ الْأَرْض، وَقِيلَ: الْمُرَاد هُنَا طَلْقًا أَوْ طَلْقَيْنِ.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَشَرِبَتْ وَلَا يُرِيد أَنْ يَسْقِيهَا إِلَّا كَتَبَ اللَّه لَهُ عَدَد مَا شَرِبَتْ حَسَنَات» هَذَا مِنْ بَاب التَّنْبِيه؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَحْصُل لَهُ هَذِهِ الْحَسَنَات مِنْ غَيْر أَنْ يَقْصِد سَقْيَهَا فَإِذَا قَصَدَهُ فَأَوْلَى بِإِضْعَافِ الْحَسَنَات.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيَّ فِي الْحُمُر شَيْء إِلَّا هَذِهِ الْآيَة الْفَاذَّة الْجَامِعَة» مَعْنَى الْفَاذَّة: الْقَلِيلَة النَّظِير، وَالْجَامِعَة: أَيْ الْعَامَّة الْمُتَنَاوِلَة لِكُلِّ خَيْر وَمَعْرُوف. وَفيه إِشَارَة إِلَى التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ.
وَمَعْنَى الْحَدِيث: لَمْ يَنْزِل عَلَيَّ فيها نَصٌّ بِعَيْنِهَا، لَكِنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة الْعَامَّة، وَقَدْ يَحْتَجّ بِهِ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوز الِاجْتِهَاد لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُم بِالْوَحْيِ، وَيُجَاب لِلْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الِاجْتِهَاد بِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَر لَهُ فيها شَيْء.
1648- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ صَاحِب كَنْز لَا يُؤَدِّي زَكَاته» قَالَ الْإِمَام أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيُّ: الْكَنْز كُلّ شَيْء مَجْمُوع بَعْضه عَلَى بَعْض، سَوَاء كَانَ فِي بَطْن الْأَرْض أَمْ عَلَى ظَهْرهَا، زَادَ صَاحِب الْعَيْن وَغَيْره: وَكَانَ مَخْزُونًا، قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفَ السَّلَف فِي الْمُرَاد بِالْكَنْزِ الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن وَالْحَدِيث، فَقَالَ أَكْثَرهمْ: هُوَ كُلّ مَال وَجَبَتْ فيه الزَّكَاة فَلَمْ تُؤَدَّ، فَأَمَّا مَال أُخْرِجَتْ زَكَاته فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وَقِيلَ: الْكَنْز هُوَ الْمَذْكُور عَنْ أَهْل اللُّغَة، وَلَكِنَّ الْآيَة مَنْسُوخَة بِوُجُوبِ الزَّكَاة، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالْآيَةِ أَهْل الْكِتَاب الْمَذْكُورُونَ قَبْل ذَلِكَ، وَقِيلَ: كَانَ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَة آلَاف فَهُوَ كَنْز وَإِنْ أُدِّيَتْ زَكَاته، وَقِيلَ: هُوَ مَا فَضَلَ عَنْ الْحَاجَة. وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام وَضِيق الْحَال. وَاتَّفَقَ أَئِمَّة الْفَتْوَى عَلَى الْقَوْل الْأَوَّل، وَهُوَ الصَّحِيح لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ صَاحِب كَنْز لَا يُؤَدِّي زَكَاته...» وَذَكَرَ عِقَابَهُ، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر: «مَنْ كَانَ عِنْده مَال فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاته مُثِّلَ لَهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ» وَفِي آخِرِهِ: «فَيَقُول: أَنَا كَنْزُك».
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَيْل فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة» جَاءَ تَفْسِيره فِي الْحَدِيث الْآخَر فِي الصَّحِيح: «الْأَجْر وَالْمَغْنَم» وَفيه دَلِيل عَلَى بَقَاء الْإِسْلَام وَالْجِهَاد إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَالْمُرَاد قُبَيْل الْقِيَامَة بِيَسِيرٍ، أَيْ حَتَّى تَأْتِيَ الرِّيح الطَّيِّبَة مِنْ قِبَل الْيَمَن تَقْبِض رُوح كُلّ مُؤْمِن وَمُؤْمِنَة. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمَّا الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْر فَاَلَّذِي يَتَّخِذهَا أَشَرًا وَبَطَرًا وَبَذَخًا وَرِيَاء النَّاس» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْأَشَرُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَالشِّين- وَهُوَ الْمَرَح وَاللَّجَاج.
وَأَمَّا الْبَطَر: فَالطُّغْيَان عِنْد الْحَقّ.
وَأَمَّا الْبَذَخ: فَبِفَتْحِ الْبَاء وَالذَّال الْمُعْجَمَة، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَشَر وَالْبَطَر.
1649- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا جَاءَتْ يَوْم الْقِيَامَة أَكْثَر مَا كَانَتْ قَطُّ وَقَعَدَ لَهَا» وَكَذَلِكَ فِي الْبَقَر وَالْغَنَم، هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُول بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَة. «وَقَعَدَ» بِفَتْحِ الْقَاف وَالْعَيْن. وَفِي: «قَطُّ» لُغَات حَكَاهُنَّ الْجَوْهَرِيّ، وَالْفَصِيحَة الْمَشْهُورَة: «قَطُّ» مَفْتُوحَة الْقَاف مُشَدَّدَة الطَّاء، قَالَ الْكِسَائِيّ: كَانَتْ (قُطُطُ) بِضَمِّ الْحُرُوف الثَّلَاثَة فَأُسْكِنَ الثَّانِي ثُمَّ أُدْغِمَ. وَالثَّانِيَة (قُطُّ) بِضَمِّ الْقَاف تَتْبَع الضَّمَّة كَقَوْلِك: مُدَّ يَا هَذَا. وَالثَّالِثَة (قَطْ) بِفَتْحِ الْقَاف وَتَخْفِيف الطَّاء. وَالرَّابِعَة (قُطُ) بِضَمِّ الْقَاف وَالطَّاء الْمُخَفَّفَة، وَهِيَ قَلِيلَة، هَذَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الدَّهْر، فَأَمَّا الَّتِي بِمَعْنَى (حَسْب) وَهُوَ الِاكْتِفَاء فَمَفْتُوحَة سَاكِنَة الطَّاء، تَقُول: رَأَيْته مَرَّة (فَقَطْ) فَإِنْ أَضَفْت قُلْت: (قَطْكَ) هَذَا الشَّيْء أَيْ حَسْبك (وَقَطْنِي) و(قَطِي) و(قَطْهُ) و(قَطَاهُ).
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شُجَاعًا أَقْرَع» الشُّجَاع: الْحَيَّة الذَّكَر، وَالْأَقْرَع: الَّذِي تَمَعَّطَ شَعْره لِكَثْرَةِ سَمِّهِ، وَقِيلَ: الشُّجَاع الَّذِي يُوَاثِب الرَّاجِل وَالْفَارِس وَيَقُوم عَلَى ذَنَبِهِ، وَرُبَّمَا بَلَغَ رَأْس الْفَارِس وَيَكُون فِي الصَّحَارِي.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُثِّلَ لَهُ شُجَاعًا أَقْرَع» قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِره أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ هَذَا الشُّجَاع لِعَذَابِهِ، وَمَعْنَى: «مُثِّلَ» أَيْ نُصِّبَ وَصُيِّرَ بِمَعْنَى أَنَّ مَاله يَصِير عَلَى صُورَة الشُّجَاع.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلَكَ بِيَدِهِ فِي فيه فَيَقْضِمُهَا قَضْمَ الْفَحْل» مَعْنَى (سَلَكَ) أَدْخَلَ وَيَقْضِمهَا بِفَتْحِ الضَّاد يُقَال: قَضَمَتْ الدَّابَّةُ شَعِيرَهَا- بِكَسْرِ الضَّاد- تَقْضِمُهُ- بِفَتْحِهَا- إِذَا أَكَلَتْهُ.
1650- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فيها جَمَّاء» هِيَ الَّتِي لَا قَرْن لَهَا.
قَوْله: «قُلْنَا: يَا رَسُول اللَّه وَمَا حَقّهَا؟ قَالَ: إِطْرَاقُ فَحْلِهَا وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا وَمَنِيحَتُهَا وَحَلَبُهَا عَلَى الْمَاء وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْمَازِرِيّ: يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هَذَا الْحَقّ فِي مَوْضِع تَتَعَيَّن فيه الْمُوَاسَاة.
قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْأَلْفَاظ صَرِيحَة فِي أَنَّ هَذَا الْحَقّ غَيْر الزَّكَاة، قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْل وُجُوب الزَّكَاة.
وَقَدْ اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي مَعْنَى قَوْل اللَّه تَعَالَى: {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} فَقَالَ الْجُمْهُور: الْمُرَاد بِهِ الزَّكَاة وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَال حَقّ سِوَى الزَّكَاة، وَأَمَّا مَا جَاءَ غَيْر ذَلِكَ فَعَلَى وَجْه النَّدْب وَمَكَارِم الْأَخْلَاق؛ وَلِأَنَّ الْآيَة إِخْبَار عَنْ وَصْف قَوْم أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِخِصَالٍ كَرِيمَة فَلَا يَقْتَضِي الْوُجُوب كَمَا لَا يَقْتَضِيه قَوْله تَعَالَى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْل مَا يَهْجَعُونَ} وَقَالَ بَعْضهمْ: هِيَ مَنْسُوخَة بِالزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظه لَفْظ خَبَر فَمَعْنَاهُ أَمْر، قَالَ: وَذَهَبَ جَمَاعَة- مِنْهُمْ الشَّعْبِيّ وَالْحَسَن وَطَاوُسٌ وَعَطَاء وَمَسْرُوق وَغَيْرهمْ- إِلَى أَنَّهَا مُحْكَمَة، وَأَنَّ فِي الْمَال حَقًّا سِوَى الزَّكَاة مِنْ فَكِّ الْأَسِير وَإِطْعَام الْمُضْطَرّ وَالْمُوَاسَاة فِي الْعُسْرَة وَصِلَة الْقَرَابَة.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنِيحَتُهَا» قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْمَنِيحَة ضَرْبَانِ: أَحَدهمَا: أَنْ يُعْطِيَ الْإِنْسَان آخَر شَيْئًا هِبَة، وَهَذَا النَّوْع يَكُون فِي الْحَيَوَان وَالْأَرْض وَالْأَثَاث وَغَيْر ذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَنِيحَةَ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ يَنْتَفِع بِلَبَنِهَا وَوَبَرِهَا وَصُوفِهَا وَشَعْرِهَا زَمَانًا ثُمَّ يَرُدّهَا، وَيُقَال: مَنَحَهُ يَمْنَحُهُ بِفَتْحِ النُّون فِي الْمُضَارِع وَكَسْرهَا، فَأَمَّا حَلَبُهَا يَوْم وِرْدِهَا فَفيه رِفْقٌ بِالْمَاشِيَةِ وَبِالْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُ أَهْوَنُ عَلَى الْمَاشِيَة وَأَرْفَقُ بِهَا وَأَوْسَعُ عَلَيْهَا مِنْ حَلَبِهَا فِي الْمَنَازِل، وَهُوَ أَسْهَلُ عَلَى الْمَسَاكِين، وَأَمْكَنُ فِي وُصُولهمْ إِلَى مَوْضِع الْحَلْب لِيُوَاسُوا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.