فصل: القَوْل فِي الْمُطلق والمقيد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.القَوْل فِي الْمُطلق والمقيد:

اعْلَم وفقك الله، أَن أَرْبَاب الْأُصُول اخْتلفُوا فِي حمل الْمُطلق على الْمُقَيد فِي بعض الصُّور، وَاتَّفَقُوا فِي بَعْضهَا، فَإِن تقيد حكم بِشَيْء، وَورد ذَلِك الحكم بِعَيْنِه مُطلقًا فَهُوَ مَحْمُول على الْمُقَيد وَهُوَ أَنه قد ورد بِقَيْد الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل بِالْإِيمَان فَلَو أَنه وَردت الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل فِي آيَة أُخْرَى مُطلقَة فَتحمل على الْمقيدَة، وَلَو ورد حكمان مُخْتَلِفَانِ فِي أَنفسهمَا واسبابهما، وَأَحَدهمَا مُطلق والاخر مُقَيّد فَلَا يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد وفَاقا، وَذَلِكَ فِي مثل ان يرد فِي صفة الشَّاهِد اشْتِرَاط الْإِيمَان، وَيرد ذكر الرَّقَبَة فِي الْكَفَّارَة مُطلقًا فَلَا يحمل الْمُطلق فِي الْكَفَّارَة على الْمُقَيد فِي الشَّهَادَة لاخْتِلَاف الحكم وتباين سببهما.
فَإِذا تماثل الحكمان وَاخْتلف سببهما وموجبهما، وَأَحَدهمَا مُطلق وَالْآخر مُقَيّد فَهَذَا مَوضِع الِاخْتِلَاف، وتصوره أَن الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل مُقَيّدَة بِالْإِيمَان وَهِي مُطلقَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالْحكم فِي الْحَالين الاعتاق، وَلَكِن اخْتلف سَببه وَاخْتلف الْعلمَاء على ثَلَاث مَذَاهِب، فمذهب الْعِرَاقِيّين أَن الْمُطلق لَا يحمل على الْمُقَيد إِلَّا بِمَا يجوز نسخه فَإِنَّهُم زَعَمُوا أَن تَقْيِيد الْمُطلق زِيَادَة فِيهِ وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ، من الْمُطلق زِيَادَة فِيهِ وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ، وسنفرد الْكَلَام على هَؤُلَاءِ فِي أَبْوَاب النّسخ، وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن الْمُطلق يحمل على الْمُقَيد فِي قَضِيَّة اللَّفْظ من غير دلَالَة تقوم وَإِلَيْهِ مَال بعض أصحاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ.
وَذهب الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَن الْمُطلق يقر على إِطْلَاقه ويقر الْمُقَيد على تَقْيِيده فَإِن قَامَت دلَالَة على تَقْيِيد الْمُطلق كَانَ ذَلِك تَخْصِيصًا وَهُوَ مجري على عُمُومه إِلَى أَن يقوم الدَّلِيل على تَخْصِيصه فَإِن قَالَ الرب تَعَالَى فِي كَفَّارَة الْقَتْل: {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة}.
وَقَالَ فِي كَفَّارَة الظِّهَار: {فَتَحْرِير رَقَبَة}، فَهَذِهِ لَفْظَة مُقَيّدَة فِي كَفَّارَة الْقَتْل، عَامَّة فِي كَفَّارَة الظِّهَار تَنْطَلِق على الرَّقَبَة الْكَافِرَة والمؤمنة فثبوت التَّخْصِيص فِي كَفَّارَة الْقَتْل لَا يُوجب تَخْصِيص اللَّفْظ فِي كَفَّارَة الظِّهَار فَإِنَّهُمَا حكمان متغايران، وَلَكِن وَإِن قَامَت دلَالَة تَقْتَضِي التَّخْصِيص بِآيَة الظِّهَار خصصناها حِينَئِذٍ فَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن قَوْله تَعَالَى فِي آيَة الظِّهَار {فَتَحْرِير رَقَبَة} عَامَّة فِي صيغتها وَمن مَذْهَب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أَن الصِّيغَة الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم تحمل على الشُّمُول مَا لم تدل دلَالَة على منع التَّعْمِيم، وَتَخْصِيص آيَة الْقَتْل لَيْسَ بِدَلِيل فِي تَخْصِيص آيَة الظِّهَار فَإِنَّهُ لَا تنَافِي بَين تَخْصِيص تِلْكَ وتعميم هَذِه، وَشرط التَّخْصِيص أَن يُنَافِي التَّعْمِيم حَتَّى لَا يقدر فِي الْعُقُول تصور التَّعْمِيم مَعَ التَّخْصِيص، وَلَا استبعاد فِي تَخْصِيص آيَة الْقَتْل وتعميم آيَة الظِّهَار، فَإِذا بَطل أَن تكون آيَة الْقَتْل دلَالَة فِي تَخْصِيص آيَة الظِّهَار لزم التَّمَسُّك بِعُمُوم آيَة الظِّهَار، فَإِن دلّت دلَالَة خصصناها.
ثمَّ أرْدف ذَلِك بِأَن قَالُوا: لَو سَاغَ تَقْيِيد الْمُطلق لتقييد الْمُقَيد سَاغَ اطلاق الْمُقَيد لإِطْلَاق الْمُطلق.
فَإِن قيل: لَو أطلقنا كُنَّا قد حذفنا الْقَيْد وألغيناه.
قُلْنَا: وَلَو قيدنَا الْمُطلق كُنَّا أبطلنا مَا يَقْتَضِيهِ الْإِطْلَاق من الْعُمُوم والشمول، فَلَا فصل بَينهمَا. وَقد أَوْمَأ إِلَى طَرِيق يؤول إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ.
شُبْهَة الْقَائِلين بِأَن الْمُطلق مَحْمُول على الْمُقَيد من حَيْثُ اللَّفْظ واللغة فَإِن قَالُوا: مُوجب اللِّسَان يَقْتَضِي ذَلِك وَالْعرب تطلق فِي كَلَامهَا مَا قيدت مثله وتروم بِالْإِطْلَاقِ التَّقْيِيد وَلكنهَا لَا تكَرر اجتزاء مِنْهَا بِمَا فرط من التَّقْيِيد وإيثار الِاخْتِصَار والحذف وَلكَون التَّقْيِيد الْمُتَقَدّم مِنْهَا دَالا على التَّقْيِيد، واستشهدوا بأمثلة أوضحُوا فِيهَا الْحَذف لإِرَادَة الإيجاز مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {ولنبلونكم بشيءمن الْخَوْف والجوع وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس والثمرات} مَعْنَاهُ: وَنقص من الْأَمْوَال وَنقص من الْأَنْفس، وَنقص من الثمرات، فَوَقع الِاكْتِفَاء بِالنَّقْصِ الْمَذْكُور فِي صدر الْكَلَام وابتنى بَاقِي الْكَلَام عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {عَن الْيَمين وَعَن الشمَال قعيد} مَعْنَاهُ عَن الْيَمين قعيد، وَعَن الشمَال قعيد، واستشهدوا بقوله تَعَالَى: {والذاكرين الله كثيرا وَالذَّاكِرَات} مَعْنَاهُ والذكرات لله.
وَاحْتَجُّوا لتمهيد ذَلِك بأبيا ت مِنْهَا قَول الشَّاعِر:
يَا من يرى عارضا أسر بِهِ ** بَين ذراعي وجبهة الْأسد

مَعْنَاهُ بَين ذراعي الْأسد جبهة الْأسد. وَمِنْه قَول الْقَائِل:
وَمَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا ** أريد الير أَيهمَا يليني

الْخَيْر الَّذِي أَنا أبتغيه ** أم الشَّرّ الَّذِي هُوَ يبتغيني.

فاقتصر فِي الْبَيْت الأول على ذكر الْخَيْر وَهُوَ يُرِيد الْخَيْر وَالشَّر.
واعتضدوا بآيَات من الْكتاب فِي الْمُطلق والمقيد، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم}، فالشهادة مُقَيّدَة مِنْهَا بِالْعَدَالَةِ وَكَذَلِكَ أطلق الله تَعَالَى آي الْمَوَارِيث وقيدها بِتَقْدِيم الْوَصِيَّة عَلَيْهَا فِي آيَة فَحملت آيَات الْمَوَارِيث عَلَيْهَا إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه، والأبيات وَهَذَا اطناب مِنْكُم لَا يُفِيد مَحل التَّنَازُع فَإنَّا لَا ننكر ضروب الْحَذف فِي مجاري الْكَلَام وَلَكِن لم قُلْتُمْ أَن الْكَلَام المتسق إِذا قيد بعضه وأنبأ فحواه عَن التَّنْبِيه عَن الْمُتَّصِل بِهِ وَجب أَن ينبىء التقيد فِي آيَة الْقَتْل عَن التَّقْيِيد فِي آيَة الظِّهَار ألم تعلمُوا أَن الْحَذف والإيجاز فِي الْكَلَام مِمَّا لَا ينقاس وَلَا ينْحَصر وَلَا يَنْضَبِط الِاعْتِبَار فَأحْسن طَرِيق تسلكونه اعْتِبَار الْمُتَنَازع فِيهِ بِمَا استشهدتم بِهِ وقصارى ذَلِك تثبيت اللُّغَات بِالْقِيَاسِ.
ثمَّ نقُول لَهُم مَا قلتموه أجمع فرض مِنْكُم فِي كَلَام مُتَّصِل لَو جرد بعضه لم يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فَإِن مِمَّا استدللتم بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَنقص من الْأَمْوَال والأنفس} فَلَو قَدرنَا ذكر الْأَنْفس، والثمرات لم يفد ذكرهمَا على حيالهما معنى فَدلَّ أَنَّهُمَا منوطان بِمَا سبق وَهُوَ قَوْله: (وَنقص) فأنبأ فحوى الْخطاب عَن تعلق النَّقْص بِالْكُلِّ، وكلك كل مَا اسْتشْهدُوا بِهِ ينخرط فِي هَذَا السلك، وَلَيْسَ كَذَلِك آيتان تستقل كل وَاحِدَة بحكمها وَيجوز تَقْدِير كل وَاحِدَة على قَضِيَّة.
وَأما استدلالهم بِآيَة الشَّهَادَة فَلَا مستروح فِيهِ فَإنَّا مَا شرطنا الْعَدَالَة فِي سَائِر الشَّهَادَات حملا على الْمُقَيد، وَلَكِن صرنا إِلَى ذَلِك بدلالات أُخْرَى، كَيفَ وَقد صَار بعض الْعلمَاء إِلَى أَن من الشَّهَادَات مَا لَا يتَقَيَّد بِالْعَدَالَةِ كَالشَّهَادَةِ على النِّكَاح، وَالشَّهَادَة فِي الْأَمْوَال فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط فِيهَا تثبيت الْعَدَالَة بل يَكْتَفِي بِظَاهِر الْحَال، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: الْقُرْآن كالكلمة الْوَاحِدَة فتقييد بعضه كتقييد كُله وَلَوْلَا أَن هَذَا اورده بعض الْأَئِمَّة وَإِلَّا اقْتضى الْحَال الاضراب عَنهُ لضَعْفه فَإِنَّهُ إِن عني بِمَا ذكره الْكَلَام الْقَدِيم فَلَا يسوغ فِيهِ تَقْيِيد وَلَا اطلاق، وَلَا حَامِل وَلَا مَحْمُول فَإِنَّهُ معنى مُتحد يتقدس عَن كل هَذِه الصِّفَات، وَإِن كَانَ الْكَلَام فِي متعلقات الْكَلَام وَلَا يحمل بعضه على بعض ليَكُون الْمحرم محللا، والمحلل محرما، فاضمحل مَا قَالُوهُ، ثمَّ كَانَ الْمُطلق بِالْحملِ على الْمُقَيد أولى من عكس ذَلِك فَبِمَ يُنكر الْخصم على من يَقُول أَن الْمُقَيد مَحْمُول على الْمُطلق لِأَن الْقَرَائِن كالكلمة الْوَاحِدَة.

.القَوْل فِي اقل الْجمع:

الْمَقْصد من هَذَا الْبَاب أَن لفظ الْجمع إِذا اطلق فَمَا أقل محامله لله؟
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة وَطَائِفَة من أهل اللُّغَة إِلَى أَن أقل الْجمع ثَلَاثَة وَإِلَيْهِ مَال ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ، وَذهب مَالك رَضِي الله عَنهُ وَكثير من أهل اللُّغَة وَبَعض أصحاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن أقل الْجمع اثْنَان وَإِلَيْهِ مَال عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ.
وَإِنَّمَا يظْهر أثر الْخلاف فِي مَوضِع يحْتَاج فِيهِ إِلَى أقل الْجمع وَذَلِكَ مثل أَن يُوصي للْمَسَاكِين، أَو لأَقل من يتَنَاوَل هَذَا الِاسْم فَمن حمل الْجمع فِي أَقَله على الثَّلَاث ألزم صرف الْوَصِيَّة إِلَى الثَّلَاثَة وَمن قَالَ: أقل الْجمع اثْنَان صرف ذَلِك إِلَى الِاثْنَيْنِ.
وَقد ارتضى القَاضِي رَضِي الله عَنهُ مَذْهَب مَالك رَضِي الله عَنهُ وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بأَشْيَاء مِنْهَا: أَن الْكِنَايَة فِي الِاسْتِقْبَال عَن الِاثْنَيْنِ كالكناية عَن الثَّلَاث إِذا كَانَ الْمُسْتَقْبل مِمَّا يتَقَدَّم عَلَيْهِ النُّون فَتَقول: "فعلنَا" "نَفْعل" فتريد بِهِ الِاثْنَيْنِ نَفسك وَصَاحِبك، وَتطلق ذَلِك وتريد جمعا كثيرا، وَذَلِكَ مجْرى نَحن فَيقدر بذلك أَن اقل الْجمع يشْتَمل على الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة فَصَاعِدا.
وأوضح ذَلِك بِآيَة من كتاب الله تَعَالَى، مِنْهَا قَوْله عز وَجل: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله فقد صغت قُلُوبكُمَا}، فَأطلق اسْم الْقُلُوب على القلبين. وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى وَهَارُون: {إِنَّا مَعكُمْ مستمعون}، فكنى عَنْهَا بِالْمِيم وَالْكَاف وَهُوَ كِنَايَة الْجمع، وَقَالَ تَعَالَى فِي قصَّة يَعْقُوب فِي الْأَخْبَار: {عَسى الله أَن يأتيني بهم جَمِيعًا} وَهُوَ يَعْنِي يُوسُف وبنيامين، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا} فكنى عَن الطَّائِفَتَيْنِ من الْمُؤمنِينَ بواو الْجمع ثمَّ عَاد اللَّفْظ إِلَى التَّثْنِيَة فِي قَوْله: {فأصلحوا بَينهمَا}.
وَقَالَ تَعَالَى: فِي قصَّة سُلَيْمَان: {وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث} إِلَى قَوْله: {وَكُنَّا لحكمهم شهدين}.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب}، وَكَانَا خصمين كنى عَنْهُمَا بواو الْجمع وَالدَّلِيل على أَنَّهُمَا كَانَا خصمين قَوْله: {خصمان بغى بَعْضنَا على بعض}. إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه وكل مَا ثَبت فِي كتاب الله تَعَالَى فِي آيَات فَمن ادّعى كَونه م مجَازًا فِيمَا اسْتعْمل فِيهِ افْتقر إِلَى دَلِيل، وَرُبمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي بعض هَذِه الْآيَات بطرق من التَّأْوِيل وَلَا إِلَى إِزَالَة الظَّوَاهِر دون إِقَامَة الْأَدِلَّة، وَأقوى الْآيَات عَلَيْهِم قَوْله تَعَالَى: {فقد صغت قُلُوبكُمَا}.
وَإِن اسْتدلَّ من صرف الْأَقَل إِلَى الثَّلَاث بِمَا روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: "كَانَ لَا يحجب الْأُم بأخوين فَقَالَ لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لما حجبها بأخوين من الثُّلُث إِلَى السُّدس: الأخوان ليسَا بإخوة فِي لِسَان قَوْمك، وَلم يُنكر عَلَيْهِ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ ذَلِك فِي اللُّغَة قيل لَهُم: تمسكتم ببعضهم الحَدِيث وَتَمَامه مَا رُوِيَ أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَهُ: إِن قَوْمك حجبوها "
وَهَذَا تَصْرِيح مِنْهُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ يَقُول كَيفَ تَدعِي لِسَان قَوْمك وهم حجبوها وَهَذَا إفصاح مِنْهُ بالإنكار.
فَإِن استدلوا بِأَن أهل اللُّغَة قسموا الْأَسْمَاء ثَلَاثَة أضْرِب.
فَمِنْهُ اسْم الْوَاحِد، وَهُوَ قَوْلك رجل، وَمِنْه اسْم التَّثْنِيَة وَهُوَ قَوْلك رجلَانِ، وَمِنْه اسْم الثَّلَاث فَصَاعِدا وَهُوَ قَوْلك رجال، فَحمل رجال على رجلَيْنِ كحمل رجلَيْنِ على رجال.
فَيُقَال لَهُم: لَيْسَ فِي وضعهم أَن الِاثْنَيْنِ لَيْسَ بِجمع، وَإِنَّمَا مُرَادهم فِي التَّفْصِيل الَّذِي ذكرتموه أَن الرجلَيْن ينبىء على عددمحصور، وَالرِّجَال ينبىء عَن الرجلَيْن وَعَن عدد لَا ينْحَصر، وَهَذَا كَمَا أَنهم قَالُوا لعدد مَخْصُوص عشرَة رجال وَقَالُوا للَّذين لَا يحصرون رجال، وَإِن كَانَ هَذَا ينْطَلق على الْعشْرَة انطلاقه على مَا فَوْقهَا.
فَإِن قَالُوا: لم قُلْتُمْ أَن مقصدهم ذَلِك؟
قُلْنَا: وَأَنْتُم لم قُلْتُمْ أَن مقصدهم نفي الْجمع عَن الِاثْنَيْنِ فتقابل الدعوتان وَسقط.
فَإِن قَالُوا: لَو قَالَ الْقَائِل رَأَيْت الرِّجَال، وَرَأَيْت النَّاس، وَكَانَ قد رأى اثْنَيْنِ حسن تَكْذِيبه، فَيُقَال لَهُ: إِنَّمَا رَأَيْت رجلَيْنِ وَمَا رَأَيْت الرِّجَال..
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه مَمْنُوع فانا إِذا صرفنَا أقل الْجمع إِلَى اثْنَيْنِ فَلَا نسلم تَجْوِيز تَكْذِيبه، بل يحسن أَن يَقُول رَأَيْت الرِّجَال، وَقد رأى رجلَيْنِ.
فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ الرِّجَال ينْطَلق على الرجلَيْن يحسن أَن يَقُول رَأَيْت اثْنَيْنِ رجال كَمَا يحسن أَن يَقُول رَأَيْت ثَلَاثَة رجال.
قُلْنَا: أَلْفَاظ الْجمع يتخصص فِي اللُّغَة بمواردها فَرب جمع يسْتَعْمل فِي مَوضِع وَلَا يسْتَعْمل فِي غَيره، وَهَذَا كَمَا أَنَّك تَقول عشرَة دَرَاهِم، وَلَا تَقول: ألف دَرَاهِم ثمَّ هَذَا لَا يدل على أَن الْألف لَيست بِجمع.
ولسنا نرى الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب يُفْضِي إِلَى الْقطع فَهُوَ وَالله أعلم من مسَائِل الِاجْتِهَاد.

.القَوْل فِي الرَّد على الْقَائِلين بالخصوص:

قد سبق الْكَلَام على الْقَائِلين بِالْعُمُومِ وَذكرنَا أَن الصَّحِيح الْمصير إِلَى الْوَقْف وأوضحنا وَجه الرج على من قطع قَوْله بِالْعُمُومِ، وحكينا أَن من الْعلمَاء من صَار إِلَى حمل الجموع على الْأَقَل، فَوجه الرَّد عَلَيْهِم أَن نقُول: انتم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا أَن لفظ الْجمع إِذا ورد فِي المعرض الَّذِي يعممه أهل الْعُمُوم فَهُوَ مَوْضُوع للثَّلَاثَة مجَاز فِيمَا فَوْقهَا، وَأما أَن تَقولُوا أَنه مُسْتَعْمل فِي الثَّلَاثَة ومستعمل فِيمَا فَوْقهَا حَقِيقَة، وَلَكِن إِذا ورد مُطلقًا فههنا مِنْهُ الْأَقَل واستربنا فِي الْبَاقِي فَإِن صرتم إِلَى الْقسم الأول وَهُوَ أَنه حَقِيقَة فِي الأول وَهُوَ مَوْضُوع لَهُ فِي وضع اللُّغَة فننصب عَلَيْكُم فِي ادعائكم ذَلِك على اللُّغَة من الدّلَالَة كَمَا نصباه على الْقَائِلين بِالْعُمُومِ.
فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ادعيتموه لَا تخلون إِمَّا أَن تسندوا دعواكم إِلَى عقل أَو نقل واطراد الدَّلِيل كَمَا سبق.
وَإِن هم قَالُوا إِن هَذَا اللَّفْظ يرد على مَا فَوق الثَّلَاث كَمَا يرد للثلاث فقد انْطلق القَوْل بالخصوص، فَإِن من مَذْهَب الْقَائِلين بِهِ أَن مُقْتَضى اللَّفْظ الْخُصُوص لَا غير، فَإِذا اخْتَارُوا هَذَا الْقسم الْأَخير فَهُوَ تَصْرِيح بِالْوَقْفِ فَإِن الْقَائِلين بِالْوَقْفِ رُبمَا يَقُولُونَ إِنَّا نفهم من لفظ الْجمع بعض المسميات وَإِنَّمَا الاسترابة فِي الشُّمُول، قبُول الِاخْتِلَاف أدّى إِلَى أقل الْجمع فقد قدمنَا فِيهِ صَدرا من الْكَلَام فَهَذِهِ الطَّرِيقَة الَّتِي ذَكرنَاهَا تنبهك على مَقْصُود الْبَاب اسْتِدْلَالا وانفصالا.
فَإِن قَالُوا الْأَقَل مستيقن، وَالْبَاقِي مَشْكُوك فِيهِ فَمَا قدمْنَاهُ من التَّفْصِيل يُغني إِعَادَة الْجَواب، على أَنا نقُول: من صَار إِلَى الْعُمُوم لم يسلم لكم التَّمَسُّك فَمَا يزِيد على الثَّلَاث عِنْد تحقق تجرد اللَّفْظ عَن الْقَرَائِن، ثمَّ الَّذِي يُحَقّق مَا قُلْنَاهُ أَن نقُول لَو سمي مُسَمّى الْأَرْبَعَة رجَالًا فَهَذِهِ التَّسْمِيَة مجَازًا أَو حَقِيقَة؟
فَإِن قُلْتُمْ: إِنَّهَا تجوز، كَانَ ذَلِك بهتا مِنْكُم وجحدا لإِجْمَاع أهل اللُّغَة وَإِن زعمتم أَن ذَلِك حَقِيقَة فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك الْمصير إِلَى أَن مُقْتَضى اللَّفْظ الْخُصُوص.

.فصل:

إِذا قُلْنَا بِالْعُمُومِ وجوزنا تَخْصِيصه فَإلَى أَي حد يجوز التَّخْصِيص؟
اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء، فَذهب الْقفال الشَّاشِي إِلَى أَن تَخْصِيص الْجمع يجوز بِشَرْط اسْتِبْقَاء اقل الْجمع حَتَّى لَو لم يبْق من اللَّفْظ إِلَّا ثَلَاثَة من المسميات لم يسغْ التَّخْصِيص بعد ذَلِك، وَإِنَّمَا يتَصَوَّر النّسخ، وَذهب مُعظم أصحاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى جَوَاز التَّخْصِيص مَا بَقِي فِي قَضِيَّة اللَّفْظ وَلم نر هَذَا الْفَصْل مَنْصُوصا للْقَاضِي رَضِي الله عَنهُ فنومىء إِلَى مَا ذكر فِيهِ لترى فِيهِ رَأْيك.
فَأَما االقفال فقد تمسك باللغة فَإِن أَرْبَاب اللِّسَان جعلُوا الرِّجَال مثلا اسْما لثَلَاثَة فَصَاعِدا فَمن اراد التنقيص عَن هَذَا الْمبلغ كَانَ تَارِكًا لقضية اللُّغَة.
وَالَّذين جوزوا التَّخْصِيص من الثَّلَاث أَيْضا احْتَجُّوا بحروف مِنْهَا: أَن التَّخْصِيص ينزل منزلَة الِاسْتِثْنَاء، ثمَّ الِاسْتِثْنَاء يسوغ مَا بَقِي من الْمُسْتَثْنى عَنهُ وَاحِد فَكَذَلِك التَّخْصِيص، وَقد قدمت من أصل القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن الِاسْتِثْنَاء على هَذَا الْوَجْه لَا يَصح فَمَا أرى ذَلِك يَسْتَقِيم على أَصله. وَمِمَّا تمسكوا بِهِ هَؤُلَاءِ أَن قَالُوا: لفظ "من" و "مَا" ينبىء عَن التَّعْمِيم ثمَّ يجوز التَّخْصِيص مِنْهُ دون الثَّلَاثَة وَكَذَلِكَ الْجمع. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ مُسلم، وَلَكِن إِنَّمَا الْخلاف فِي أَلْفَاظ الجموع وَمَا ذَكرُوهُ تمسك بِقِيَاس.
ثمَّ انْفَصل هَؤُلَاءِ عَمَّا قَالَه الْقفال فَقَالُوا: يجوز ترك حقائق الْأَلْفَاظ إِلَى التَّجَوُّز بِمَا يجوز التَّخْصِيص بِهِ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ حملنَا قَوْله: {لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى} على مَوضِع الصَّلَاة، ومحمله، وَإِن كَانَ ذَلِك مجَازًا، فَهَذَا مَا قَالُوهُ فِي الْمَسْأَلَة نظر، لَعَلَّنَا نشبعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.باب الْكَلَام فِي دَلِيل الْخطاب:

اعْلَم وفقك الله، أَن لحن الْخطاب وفحواه مِمَّا قَالَ بِهِ الكافة بِلَا اخْتِلَاف وَذَلِكَ نَحْو قَوْله عز وَجل: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ}، ففحوى ذَلِك النَّهْي عَمَّا فَوق التأفيف من ضروب التعنيف، كالضرب والسب وَالْقَتْل وَنَحْوهمَا.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَنحن نعلم ضَرُورَة مثل هَذَا الفحوى من مثل هَذَا الْكَلَام فِي قصد أهل اللُّغَة، والمستريب فِي ذَلِك مشكك فِي الضَّرُورَة، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تظْلمُونَ فتيلا}، فيفهم من فحوى ذَلِك نفي الظُّلم فِيمَا فَوق الفتيل، وَقس بذلك أَمْثِلَة.
فَأَما مَا فِيهِ الِاخْتِلَاف من دَلِيل الْخطاب وَمَفْهُومه فنصوره أَولا ثمَّ نذْكر وُجُوه الِاخْتِلَاف فِيهِ، فَإِذا تخصص الْمَذْكُور بِأحد وَصفيه أَو باحد أَوْصَافه فَهَل يدل تَخْصِيصه بِالْوَصْفِ الْمَذْكُور فِي الْمنطق بِهِ على نفي الحكم فِيمَا يَنْتَفِي عَنهُ الْوَصْف وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا}، فالتعمد وصف فِي الْقَتْل خصص بِالذكر، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشها} فَهَذَا الْإِنْذَار لمن يخْشَى، وَكَذَلِكَ قيد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّكَاة بالسائمة من الْغنم فَقَالَ: «فِي سَائِمَة الْغنم الزَّكَاة» فَهَذَا وَجه تَصْوِير تَخْصِيص الْمَذْكُور بِأحد الْأَوْصَاف.
فقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَصَارَ الشَّافِعِي ومعظم الْفُقَهَاء من أصحاب مَالك وَأهل الظَّاهِر إِلَى أَن التَّخْصِيص بِالْوَصْفِ يدل على نفي مَا عداهُ وَعَلِيهِ يدل كَلَام شَيخنَا أبي الْحسن رَضِي الله عَنهُ فِي بعض كتبه فَإِنَّهُ اسْتدلَّ فِي إِثْبَات خبر الْوَاحِد بقوله تَعَالَى: {إِن جَاءَكُم فَاسق بنبإ فَتَبَيَّنُوا}، فمفهوم ذَلِك يدل على أَن غير الْفَاسِق لَا يتثبت فِي قَوْله وَكَذَلِكَ تمسك فِي مسالة الرُّؤْيَة بقوله تَعَالَى فِي الإنباء عَن أَحْوَال الْكَفَرَة: {كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون}، فاعتصم بِمَفْهُوم الْآيَة فِي تثبيت الرُّؤْيَة فِي حق أهل الْجنَّة، وَذهب أهل الْعرَاق وَطَائِفَة من أصحاب مَالك رَضِي الله عَنهُ إِلَى إبْطَال دَلِيل الْخطاب وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ.
ثمَّ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ انقسموا فَمن حقق مِنْهُم صَار إِلَى أَن دَلِيل الْخطاب إِنَّمَا يتَقَدَّر عِنْد تَقْيِيد الْخطاب بِبَعْض الْأَوْصَاف والنعوت، فَأَما تَخْصِيص أَسمَاء الألفاب بِالذكر فَلَيْسَ لَهَا لدَلِيل فِي نفي مَا سواهَا.
وَعلا بعض الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ فَزعم أَن تَخْصِيص أَسمَاء الألقاب بِالذكر يدل على نفي الحكم فِيمَا عدا المسمين حَتَّى قَالُوا على طرد ذَلِك: لَو خلينا وَظَاهر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «وَفِي الْغنم زَكَاة» لنفينا الزَّكَاة عَمَّا عدا الْغنم من الْمَوَاشِي وسنرمز إِلَى وَجه الرَّد على هَذِه الطَّائِفَة فَإِن خَرجُوا بِهَذَا الْمَذْهَب عَن حد الْجِدَال كَمَا نقدر.
ثمَّ اسْتدلَّ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي إبْطَال القَوْل بِدَلِيل الْخطاب بِمثل مَا استدى بِهِ فِي مَسْأَلَة الْعُمُوم وَالْأَمر فَقَالَ مَا ادعيتموه على أَرْبَاب اللِّسَان لَا تخلون فِيهِ، إِمَّا أَن تسندوه إِلَى عقل أَو نقل فَإِذا بَطل إِسْنَاده إِلَى قَضِيَّة الْعقل فالنقل يَنْقَسِم إِلَى تَوَاتر يَقْتَضِي الضَّرُورَة إِلَى غَيره، واطرد الدّلَالَة على الْمنْهَج السَّابِق فِي الْمسَائِل الْمُتَقَدّمَة واعتصم أَيْضا بِحسن الِاسْتِفْهَام فَإِن من قَالَ لعَبْدِهِ: إِذا ضربك زيد رَاكِبًا فَأضْرِبهُ، فَيحسن من الْمُخَاطب أَن يَقُول: فَإِن ضَرَبَنِي رَاجِلا أَفَأضْرِبهُ؟ وَهَذَا مِمَّا سبق استقصاؤه ايضا، وَأَوْمَأَ إِلَى انقسام الْكَلَام فَمن مُخَصص فِي مجاري الْكَلَام لم ينتف مَا سواهُ، وَمن مُخَصص بِأحد أَوْصَافه انْتَفَى مَا سواهُ وَهَذَا بِعَيْنِه مَا قدمْنَاهُ فِي مسالة الْعُمُوم والأوامر.
وَمِمَّا جدده فِي هَذِه المسالة أَن قَالَ: قد وافقتمونا على أَن أَسمَاء الألقاب لَا دَلِيل لَهَا فِي النَّفْي، وخصصتم الدَّلِيل بالأوصاف وَمَا يضاهيها، وَهَذَا تحكم مِنْكُم على اللُّغَة فَإِن الثَّابِت فِي أصل وَضعهَا أَن الْأَسَامِي إِنَّمَا وضعت لتمييز المسميات وَالْعلم بِأَعْيَانِهَا سَوَاء كَانَت الْأَسَامِي ألقابا أَو أعلاما أَو لم تكن كَذَلِك وَكَانَت مُشْتَقَّة من أَوْصَاف فَمن أَرَادَ أَن يزِيد على مَا ثَبت فِي اصل الْوَضع احْتَاجَ إِلَى دلَالَة.
فَإِن قيل: فقد نفيتم طرق الْقيَاس فِي إِثْبَات اللُّغَات ونراكم تقيسون الْأَسْمَاء المشتقة على أَسمَاء الألقاب.
قُلْنَا: لم يخرج كلامنا مخرج الْقيَاس وَلَكنَّا قُلْنَا: الثَّابِت فِي النَّوْعَيْنِ من الْأَسْمَاء الدَّالَّة على المسميات وَثُبُوت الْعلم بِأَعْيَانِهَا، فَمن أَرَادَ الزِّيَادَة على ذَلِك أَو التحكم بِالْفَصْلِ بَين النَّوْعَيْنِ من الْأَسْمَاء لم يكن بِأولى من يعكس عَلَيْهِ دَعْوَاهُ، وَإِن ركب بعض الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ وَزعم أَن تخصص أَسمَاء الألقاب كتخصص الْأَسْمَاء المشتقة فنبين لهَؤُلَاء انتسابهم إِلَى جحد الضَّرُورَة ثمَّ نقطع الْكَلَام عَنْهُم.
وَوجه الْإِيضَاح فِيهِ أَن نقُول: نَحن نعلم ضَرُورَة أَن أهل اللُّغَة لم يضعوا قَوْلهم: رَأَيْت زيدا لنفي الرُّؤْيَة عَمَّا عدا زيد من مَكَانَهُ وثيابه وَغَيرهمَا وَكَذَلِكَ لم يضعوا ق قَوْلهم: زيد عَالم لنفي هَذِه الصّفة عَمَّا سوى زيد على بسيط الأَرْض وَلم يقصدوا بذلك نفي هَذِه التَّسْمِيَة عَن الْمَلَائِكَة، والأنبياء، وَكَذَلِكَ إِذا قَالُوا: عَمْرو عدل رَضِي، لم يضعوا هَذَا اللَّفْظ لنفي الْعَدَالَة عَمَّا سوى عَمْرو وَمن جحد ذَلِك انتسب إِلَى مراغمة الضَّرُورَة، وَيلْزم قطع الْكَلَام عَنْهُم فِي حكم النّظر.
شُبْهَة الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ:
فَإِن قَالُوا: قد نقل القَوْل بِالْمَفْهُومِ من لُغَة الْعَرَب، أَئِمَّة اللُّغَة مِنْهُم الشَّافِعِي وَهُوَ موثوق بِهِ فِيمَا ينْقل، وَكَذَلِكَ نقل أَبُو عُبَيْدَة ذَلِك عَن الْعَرَب حَتَّى قَالَ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لي الْوَاجِد ظلم» هَذَا دَلِيل على أَن غير الْوَاجِد بِخِلَاف الْوَاجِد وَتكلم على مَا روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: لِأَن يمتلى جَوف أحدكُم قَيْحا حَتَّى يرِيه خير من أَن يمتلى شعرًا،، فَقَالَ: فَهَذَا يدل على أَن من أحسن الشّعْر وَغَيره لَا يدْخل تَحت الْوَعيد، وَأما ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُخْتَصّ بِأَن يمتلىء الْجوف شعرًا، وَهَذَا إِنَّمَا يُحَقّق فِي حق من لَا يحسن سواهُ.
فَيُقَال لَهُم ذَلِك اسْتِدْلَالا، واحتجاجا للإثباته بِأَن تَخْصِيص الشَّيْء بِأحد أَوْصَافه لَا يُفِيد فَائِدَة سوى نفي مَا عدا الْمَذْكُور، فصدر الْكَلَام مِنْهُمَا مصدر الِاسْتِدْلَال، لَا مصدر النَّقْل، والمستدل يخطىء ويصيب، على أَنا لَو سلمنَا نقلهَا فَهُوَ نقل آحَاد، وَلَا تثبت اللُّغَة بِنَقْل الْآحَاد، على أَنه قد صَار إِلَى نفي الْمَفْهُوم آخَرُونَ فَإِن سَاغَ لكم أَن تقدروا أَن حجَّة مَذْهَب الشَّافِعِي نقلا مِنْهُ فيسوغ لخصمكم أَن يَجْعَل مَذْهَب غَيره نقلا لإبطال دلل الْخطاب.
فَإِن استدلوا بأخبار، وآيات، وآثار، وَنحن نذْكر جملها، ثمَّ ننفصل عَنْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا.
فمما تمسكوا بِهِ أَن قَالُوا: قَوْله تَعَالَى: {إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم}، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «وَالله لأزيدن على السّبْعين» قَالُوا: فَلَو أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم من التَّقْيِيد بالسبعين أَن الحكم فِي الزِّيَادَة غير الحكم فِي السعبين لما قَالَ ذَلِك.
وَمِنْه قَول يعلى بن أُميَّة لعمر رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى:
{أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ}، فَقَالَ: كَيفَ نقصر وَقد أمنا؟ فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: تعجبت مِمَّا تعجبت مِنْهُ فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: «صَدَقَة تصدق على عباده فاقبلوا صدقته» فدلت الْقَضِيَّة على مصيرهما إِلَى دَلِيل الْخطاب وَعنهُ ينبىء تعجبهما من ثُبُوت الحكم فِي غير الصُّورَة الْمقيدَة.
مِنْهَا: أَن الصَّحَابَة زَعَمُوا أَن قَوْله: «المَاء من المَاء» مَنْسُوخ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِذا التقى الختانان وَجب الْغسْل: وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا بِتَقْدِير نفي الْغسْل من غير إِنْزَال، فَلَمَّا فَهموا ذَلِك من قَوْله: المَاء من المَاء عدوا قَوْله: إِذا التقى الختانان، نسخا.
وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ ابْن عَبَّاس فِي نفي رَبًّا التَّقْدِير بقوله: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة»
وَهَذَا تمسك بِالْمَفْهُومِ الْمَسْكُوت عَنهُ.
فَيُقَال لَهُم: أما قَوْله تَعَالَى: {استغفرلهم اَوْ لَا تستغفر لَهُم}، فَلَا حجَّة فِيهِ من أوجه: أحدهَا: أَن الْخَبَر الَّذِي رويتموه ضَعِيف غير مدون فِي الصِّحَاح وَكَيف يَصح ذَلِك مِمَّن هُوَ افصح الْعَرَب. وَقد أطلق مثل هَذَا الْكَلَام فهم من شدا طَرِيقا من الْعَرَبيَّة أَن الْمَقْصُود مِنْهُ تَحْقِيق الْبَابَيْنِ، وَقطع موارد الرَّجَاء، وَلَيْسَ الْمَقْصد مِنْهُ تَعْلِيق الحكم بالسبعين، فَإنَّك إِذا قلت وَأَنت وَاجِد على زيد اشفعوا لَهُ أَو لَا تشفعوا لَهُ وَلَو شفعتم سبعين مرّة لم تشفعوا فِيهِ، علم ضَرُورَة أَن مقصدك بِهَذَا قطع الأطماع لَا التَّعْلِيق بالسبعين فَكيف فهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قلتموه.
ثمَّ الَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنا أجمعنا على أَن الرب سُبْحَانَهُ مَا أَرَادَ تَعْلِيق الحكم بالسبعين فَكيف فهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لم يردهُ الرب؟ وأنى يَسْتَقِيم ذَلِك؟ سِيمَا مَعَ نفي الْغَلَط عَن الْأَنْبِيَاء فِي مجاري الْوَحْي.
ثمَّ نقُول: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنه لم يفهم نفي الاسْتِغْفَار وَرَاء السّبْعين بالتقييد بالسبعين، وَلَكِن قد استدرك جَوَاز الاسْتِغْفَار للكفرة عقلا، وعد ذَلِك من جائزات الْعُقُول، فَلَمَّا ورد الْخطاب فِي السّبْعين، اعْتقد مَا وَرَاءه على حكم التجويز فِي الْمُسْتَدْرك بِأَصْل الْعقل.
فَأَما استدلالهم بِحَدِيث ابْن عَبَّاس، واستدلاله بِالْآيَةِ فِي حجب الْأُم بِالثلَاثِ من الْإِخْوَة فَصَاعِدا قُلْنَا: إِن سَاغَ لكم الِاسْتِدْلَال بقول ابْن عَبَّاس فقد صَار مُعظم الصَّحَابَة إِلَى مُخَالفَته، فلئن كَانَ قَوْله حجَّة فِي إِثْبَات الْمَفْهُوم كَانَ قَول مخالفيه حجَّة فِي نَفْيه على ان ابْن عَبَّاس، وَاحِد لَا يعْصم فَلَا يحْتَج بقوله.
وَأما حَدِيث يعلى بن أُميَّة وَعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُمَا تَعَجبا لِأَن الْإِتْمَام كَانَ قد اسْتَقر قبل نزُول رخصَة الْقصر، ثمَّ لم يتَوَلَّى رخصَة الْقصر إِلَّا فِي حَالَة الْخَوْف، وَاقْتضى الْحَال دوَام الْإِتْمَام الثَّابِت فِي حَالَة الْأَمْن لَا أَنَّهُمَا فهما من نفس اللَّفْظ مَا ادعيتموه وَهَذَا بَين لكل من تَأمل.
وَأما تمسكهم بقوله: «المَاء من المَاء» فلاتحقيق وَرَاءه من أوجه، أَحدهَا: أَنه نقل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «لَا مَاء إِلَّا من المَاء» وَهَذَا صَرِيح فِي النَّفْي.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنه عبر على بَاب رجل من الْأَنْصَار فصاح بِهِ فاحتبس سَاعَة ثمَّ خرج وراسه يقطر مَاء، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّنَا أعجلناك، لَعَلَّنَا أقحطناك فَإِذا واقعت وَلم تنزل فَلَا تَغْتَسِل فلئن صَحَّ من الصَّحَابَة نسخ ذَلِك فَإِنَّمَا صرفوه إِلَى هَذِه الْأَلْفَاظ المصرحة، وَلم يَصح عَنْهُم أَن نفس قَوْله: «المَاء من المَاء» مَنْسُوخ.
على أَن نقُول: مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْمُحَقِّقين أَن قَوْله: «المَاء من المَاء» من المحتملات على مَا سَنذكرُهُ فِي بَاب المحتملات إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ثمَّ نقُول: أسامي الألقاب لَا مَفْهُوم لَهَا، وَقَوله: «المَاء» من أسامي الألقاب فَكيف تمسكتم بِهِ.
فَإِن قَالُوا: فِي الْخَبَر تَقْدِير هُوَ وصف فَإِن تَقْدِيره وجوب اسْتِعْمَال المَاء من نزُول المَاء.
قُلْنَا: فَأنى يَسْتَقِيم ادِّعَاء الْإِجْمَاع مَعَ هَذِه التقديرات.
فَأَما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة» وزعمتم أَن أبن عَبَّاس تمسك بمفهومه فَنَقُول: إِن كَانَ فِي تمسكه معتصم فَفِي إبْطَال غَيره لاستدلاله أقوى اعتصام لنا، ونقول: قد روى صَرِيحًا أَنه قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة» وَهَذَا تَصْرِيح بِالنَّفْيِ على أن «إِنَّمَا» فِيهِ تمحيق، وَتَحْقِيق، وَنفي، وَإِثْبَات، فَلَا فرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل: إِنَّمَا صديقي زيد، أَو يَقُول: إِنَّمَا عدوي زيد، وَنحن لم نَخْتَلِف فِي أَمْثَال هَذِه الْعبارَات.
على أَنا نقُول: لَعَلَّ ابْن عَبَّاس اسْتدلَّ على غير هَذَا الْوَجْه الَّذِي قلتموه فَقَالَ: ثَبت صِحَة البيع على الْجُمْلَة بِالْآيَاتِ الدَّالَّة عَلَيْهَا، وَثَبت بِهَذَا الْخَبَر اسْتثِنَاء رَبًّا النَّسِيئَة، فَبَقيَ الْبَاقِي على ظواهر الاية، فَكيف يَسْتَقِيم التَّمَسُّك بِمَا هُوَ عرضة لهَذِهِ الجائزات فِي مسَائِل الْقطع.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: إِذا قَالَ الْقَائِل لمخاطبه: اشْتَرِ لي عبدا أسود، عقل من التَّقْيِيد بالأسود مَنعه من ابتياع الْأَبْيَض وَمَا ذَاك إِلَّا للتَّقْيِيد بالنعت.
فَيُقَال لَهُم: هَذَا لَا معتصم فِيهِ وَذَلِكَ أَنه إِنَّمَا يتَوَصَّل إِلَى صرف العقد إِلَيْهِ بأدلة وَقد تمهد فِي قَضِيَّة الشَّرْع توقف الْعُقُود المنصرفة إِلَى الموكلين على إذْنهمْ بِالْقدرِ الَّذِي يتَعَلَّق الْإِذْن بِهِ سينسخه الْمُوكل، وَيبقى الْبَاقِي على الافتقار إِلَى الْإِذْن فَخرج من ذَلِك أَن التَّخْصِيص بالأسود لَا يتَضَمَّن نفي مَا عداهُ وَلَكِن يَسْتَفِيد العقد الْمَأْذُون فِيهِ بِالْإِذْنِ وَيبقى بَاقِي الْعُقُود على مَا كَانَت عَلَيْهِ قبل الْإِذْن وَالَّذِي اعْتمد عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي تثبيت دَلِيل الْخطاب أَن قَالَ: اتّفق أهل الْعَرَبيَّة على أَن مَا قيد بِوَصْف خصص بِهِ فيطلب للتخصيص فَائِدَة فِي قَضِيَّة الْكَلَام، إِن لم ينط بهَا فَائِدَة يعد مُطلقهَا لاغيا، فَإِذا قيدت الْغنم بِكَوْنِهَا «سَائِمَة» وَجب أَن يكون للتَّقْيِيد «بالسوم» فَائِدَة، فَإِذا ساوت المعلوفة السَّائِمَة فِي حكم الزَّكَاة كَانَ ذَلِك إِلْغَاء للتَّقْيِيد والتخصيص، فَهَذِهِ عُمْدَة القَوْل.
وَأول مَا يفاتحون بِهِ أَن يُقَال لَهُم: وضعتم الِاسْتِدْلَال فِي غير مَوْضِعه فَإِن مجاري الْكَلَام تعقل أَولا، ثمَّ يَبْتَغِي فَائِدَة، فالفائدة فرع لما عقل فَلَا يحسن فِي نظم الِاسْتِدْلَال فِي غير تَرْتِيب الأَصْل على الْفَرْع فَإِن الْعلم بفائدة الْكَلَام تبع للْعلم بِهِ فَكيف يَتَرَتَّب الْعلم بِأَصْل الْكَلَام، وَمُقْتَضَاهُ على الْفَائِدَة الْمَطْلُوبَة مِنْهُ.
ثمَّ يُقَال لَهُم: لَو سلم لكم أَن فِي التَّقْيِيد فَائِدَة لم تعثروا عَلَيْهَا، وَأَنْتُم بصدد الزلل. فَإِن قَالُوا: فأظهروها نتكلم عَلَيْهَا.
قيل لَهُم: لَيْسَ على خصمكم إظهارها بل عَلَيْكُم نصب الدّلَالَة القاطعة على نفي كل فَائِدَة سوى مَا ذكرتموها، وأنى لكم ذَلِك وَهَذِه الطّلبَة مِمَّا لَا منجأ مِنْهَا.
ثمَّ نقُول: بِمَ تنكرون على من يُقَابل التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ بالتقييد بأسماء الْأَعْلَام والألقاب، فلئن لزم طلب فَائِدَة فِي التَّقْيِيد بِالْوَصْفِ، فَمَا أنكرتم من مثله فِي أسامي الألقاب؟ لَا نستريب أَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ لَا يستركب ذَلِك، فَلَو ارْتَكَبهُ مرتكب فقد فرط الْكَلَام عَلَيْهِ.
ثمَّ يُقَال لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن فَائِدَة تَخْصِيص السَّائِمَة بِالذكر أَن لَا تستثنى السَّائِمَة، وَلَا تخصص اللَّفْظَة الْعَامَّة فِيهَا، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَالَ فِي الْغنم زَكَاة كَانَ تَخْصِيص هَذَا اللَّفْظ فِي السَّائِمَة وإخراجها عَن مُوجب اللَّفْظ بالتنصيص على السَّائِمَة لقيد الْمَنْع من إخْرَاجهَا عَن حكم وجوب الزَّكَاة وَهَذِه فَائِدَة وَاضِحَة.
أَو نقُول: إِنَّمَا خصص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «السَّائِمَة» بِالذكر لتثبيت الحكم فِيهَا نصا، وليسوغ للمجتهدين استنباط الْعلَّة من الْمَنْصُوص عَلَيْهِ، وَالْقِيَاس عَلَيْهِ بلَاء وامتحانا للمجتهدين، ورد الْأَمر إِلَى تحريهم ليجازوا عَلَيْهِ أعظم الْأجر، وَهَذَا كَمَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص فِي الربويات على الْأَشْيَاء السِّتَّة مَعَ الْقُدْرَة على لَفْظَة تعم جملَة أَبْوَاب الرِّبَا، بيد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رام بالاقتصار عَلَيْهَا تسليط الْمُجْتَهدين على سَبِيل الِاجْتِهَاد.
وشبهة أُخْرَى لَهُم: فان قَالُوا: الحكم الْمُعَلق بِالصّفةِ الْخَاصَّة نَازل منزلَة الحكم الْمُعَلق بالعله، وَلَو علق الحكم بِالْعِلَّةِ وجد بوجودها، وَعدم بعدمها، فَيُقَال لَهُم: هَذَا تحكم مِنْكُم، فَلم زعمتم أَن التَّعْلِيق بِالصّفةِ نَازل منزلَة التَّعْلِيل فَلَا يَجدونَ فِي تَحْقِيق هَذِه الدَّعْوَى ملْجأ، ثمَّ يُقَال لَهُم: وَلَو خرج الْكَلَام مخرج التَّعْلِيل لم يتَضَمَّن ذَلِك على قَضِيَّة مَذْهَب مخالفيكم انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء الْعِلَل، وَلَكِن يتَضَمَّن ثُبُوته عِنْد ثُبُوت مَا نصب عِلّة فِيهِ، وتبيين ذَلِك بالمثال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو قَالَ فِي امْرَأَة بِعَينهَا: لَا يحل نِكَاحهَا لِأَنَّهَا مرتدة، فنستفيد من ذَلِك منع نِكَاح الْمُرْتَدَّة، وَلَا نستفيد مِنْهُ حصر التَّحْرِيم فِي الْمُرْتَدَّة، بل يجوز ثُبُوت التَّحْرِيم بعلل سوى مَا ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذَا وألفاظ صَاحب الشَّرِيعَة بصدد التَّخْصِيص والعلل المستنبطة السمعية لَا تخْتَص، ثمَّ هِيَ تطرد، وَلَيْسَ من شَرطهَا الانعكاس فاضمحل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.

.فصل:

إِذا علق الحكم بِشَيْء تَعْلِيق الْمَشْرُوط شَرطه فالقائلون بِدَلِيل الْخطاب يصيرون إِلَى أَن ذك يَقْتَضِي انْتِفَاء الحكم عِنْد انْتِفَاء الشُّرُوط.
وَذَلِكَ أقوى عِنْدهم من دَلِيل الْخطاب.
وَأما نفاة دَلِيل الْخطاب فقد اخْتلفُوا:
فَذهب مُعظم أهل الْعرَاق، وَابْن سُرَيج، من أصحاب الشَّافِعِي رَحمَه الله إِلَى أَن التَّعْلِيق بِالشّرطِ يدل على انْتِفَاء الحكم عِنْد انتفائه.
وَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن التَّخْصِيص بِالشّرطِ لَا يدل على نفي الحكم عِنْد انْتِفَاء الشَّرْط كَمَا أَن التَّخْصِيص بِالْوَصْفِ لَا يدل على ذَلِك، وتبيين ذَلِك بالمثال، وَذَلِكَ أَن الْقَائِل إِذا قَالَ: زيد فَأكْرمه، وَإِن قَامَ فَأكْرمه، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك نفي إكرامه من غير قيام بل يَقْتَضِي أَن يكرم عِنْد الْقيام.
وَالَّذِي يُحَقّق مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ.
كل دَلِيل قدمْنَاهُ فِي مَسْأَلَة الْمَفْهُوم، ثمَّ نفرد هَذِه الْمَسْأَلَة بِكَلَام.
فَنَقُول: إِنَّمَا فَائِدَة الشَّرْط فِي الْكَلَام أَن ينْتَصب عَلامَة لإِثْبَات الحكم، فَإِذا نصب الْمُتَكَلّم سَببا عَلامَة فَمن التحكم على قَضِيَّة الْكَلَام أَن تقدر شرطا لم يفصح بِهِ فِي حكم لم يُصَرح بِهِ، وأصل الصائرين إِلَى انْتِفَاء الشَّرْط يتَضَمَّن انْتِفَاء الحكم ينبىء عَن ذَلِك فَإِن الْمُطلق إِنَّمَا علق ثُبُوت الحكم على ثُبُوت الشَّرْط، ومن يخالفنا فِي الْمَسْأَلَة يَجْعَل عَدمه شرطا فِي عدم الحكم، وَهَذَا تثبيت شَرط ومشروط لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيل فِي وضع اللُّغَة والتَّقْسِيم الَّذِي صورنا بِهِ مَسْأَلَة الْمَفْهُوم من هَذَا الْموضع.
وَالَّذِي يُؤَكد مَا قُلْنَاهُ أَن الشَّرْط لَا يزِيد على الْعلَّة وَمَا نصب عِلّة يجوز أَن يثبت الحكم الْمُعَلق بهَا مَعَ عدمهَا.

.فصل:

إِذا علق الحكم على حرف من حُرُوف الْغَايَة مثل حَتَّى و إِلَى وَنَحْوهمَا فَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم نفاة دَلِيل الْخطاب أَن التَّقْيِيد بحروف الْغَايَة يدل على انْتِفَاء الحكم وَرَاء الْغَايَة. وَقد ردد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ قَوْله فِي ذَلِك وَقَالَ: وَقد كُنَّا نصرنَا إبْطَال حكم الْغَايَة فِي كتب وَالأَصَح عندنَا الْآن القَوْل بهَا فَإِذا قَالَ الْقَائِل: أضْرِب عَبدِي حَتَّى يَتُوب اقْتضى ذَلِك فِي وضع الْكَلَام الْكَفّ عَن ضربه إِذا تَابَ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} يَقْتَضِي تثبيت الْقَتْل عَلَيْهِم مَا لم يبذلوا الْجِزْيَة، فَإِذا بذلوها كف عَنْهُم، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِأَن قَالَ: أجمع نقلة اللُّغَات ومدونوها فِي مصنفاتهم على تثبيت هَذِه الْحُرُوف وتسميتها حُرُوف الْغَايَة.
وَنحن نعلم أَن غَايَة الشَّيْء نهايته، فَلَو كَانَ تثبيت الحكم بعد الْغَايَة، لم يكن لتسميتها غَايَة معنى، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يستبشع فِي نظم الْكَلَام أَن يَقُول: أضْرِب عَبدِي إِلَى أَن يَتُوب أَو حَتَّى يَتُوب فَإِذا تَابَ فَأضْرِبهُ.
وأوضح ذَلِك بَان قَالَ: إِذا علق الحكم بِحرف من هَذِه الْحُرُوف فَلَا ينْتَظر الْكَلَام إِلَّا بِتَقْدِير إِضْمَار فِيهِ أَو تَقْدِير غَايَة بعد غَايَة، فَإِذا قَالَ الْقَائِل: اضربه حَتَّى يَتُوب فَمَعْنَى حَتَّى يَتُوب ثمَّ لَا تضربه.
وَالَّذِي عِنْدِي أَن الْكَلَام فِي هَذَا الْفَصْل لَا يَنْتَهِي إِلَى الْقطع بل هُوَ على التَّرَدُّد مَعَ القَوْل بِنَفْي دَلِيل الْخطاب، وَمَا من حرف أَو مينا إِلَيْهِ إِلَّا وللكلام فِيهِ مجَال.

.فصل:

فَإِن قَالَ الْقَائِل: فَمَا قَوْلكُم فِي إِنَّمَا ؟ هَل يَقْتَضِي نفيا؟ حَتَّى إِذا قَالَ الْقَائِل: إِنَّمَا الزَّكَاة فِي السَّائِمَة اقْتضى ذَلِك نَفيهَا عَن المعلوفة.
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا ردد القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِيهِ قَوْله، فَقَالَ: قد ترد هَذِه اللَّفْظَة وَالْمرَاد بهَا تَحْقِيق معنى من غير تعرض لنفي حَقِيقِيّ وَذَلِكَ نَحْو قَوْله إِنَّمَا مُحَمَّد نَبِي الله، وَإِنَّمَا زيد عَالم، وَلَا يَعْنِي بذلك نفي النُّبُوَّة وَالْعلم عَن غَيرهمَا، وَلَكِن أظهر مُرَاده اقْتِضَاء النَّفْي فَإِن الْعَرَب لَا تفصل بَين قَول الْقَائِل «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة» وَبَين قَوْله «لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة»، وَقد سمى أهل اللُّغَة ذَلِك تمحيقا وتحقيقا ونفيا وإثباتا.
وَقد حقق بعض النَّاس معنى النَّفْي فِيمَا صدرنا بِهِ الْفَصْل، فَقَالَ: قَول الْقَائِل: إِنَّمَا مُحَمَّد رَسُول الله مَعْنَاهُ: لَيْسَ مُحَمَّد إِلَّا رَسُول الله، وَهَذَا أظهر من حُرُوف الْغَايَة مَعَ أَنه لَا يَنْتَهِي القَوْل فِيهِ إِلَى الْقطع مَعَ نفي دَلِيل الْخطاب.

.القَوْل فِي ذكر مائية الْبَيَان ووجوهه:

اخْتلف الأصوليون فِي حَقِيقَة الْبَيَان فَذهب أَبُو بكر الصَّيْرَفِي إِلَى أَن حَقِيقَة الْبَيَان: إِخْرَاج الشَّيْء من حيّز الْإِشْكَال إِلَى التجلي وَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ من خَاضَ فِي الْأُصُول من أصحاب الشَّافِعِي رَحمَه الله، وَذهب بعض الْمُتَكَلِّمين إِلَى أَن حد الْبَيَان: هُوَ الْعلم بالشَّيْء فَكل علم بَيَان، وكل بَيَان علم.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالْبَيَان لَفْظَة عَرَبِيَّة تَتَرَدَّد بَين معَان يرجع مآل جَمِيعهَا إِلَى الظُّهُور فَنَقُول: بِأَن الْأَمر إِذا انْكَشَفَ، وَبَان الْهلَال وَالْفَجْر، وَبَان مَا فِي ضمير فلَان، والإبانة: الْإِظْهَار، وَكَذَلِكَ التَّبْيِين، وَقد ترد الْإِبَانَة، وَالْمرَاد بهَا الْقطع، والفصل، فَتَقول: أبينت يَد فلَان عَن جسده، إِذا قطعت وفصلت مِنْهُ، وَكَأن ذَلِك يرجع إِلَى معنى الظُّهُور أَيْضا فَإِن مَا كَانَ مُتَّصِلا بجملة كَانَ لَا يعرف على حياده تميزا، فَإِذا فصل وَأبين، فقد ظهر لنَفسِهِ، وَعرف فِي نَفسه دون معرفَة جملَة هُوَ كَائِن مِنْهَا.
فَأَما معنى الْبَيَان فِي اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ: فَهُوَ الدَّلِيل الَّذِي يتَوَصَّل بِصَحِيح النّظر فِيهِ إِلَى الْعلم بِمَا هُوَ دَلِيل عَلَيْهِ.
فَهَذَا مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فنبطل مَا سوى ذَلِك ثمَّ نحققه.
فَأَما من زعم أَن الْبَيَان هُوَ إِخْرَاج الشَّيْء من حيّز الْإِشْكَال، إِلَى حيّز التجلي فَهَذَا مَدْخُول فَإِن الْمَقْصد من الْحَد أَن يكون جَامعا مَانِعا، وَهَذَا شَذَّ عَنهُ ضروب من الْبَيَان، وَذَلِكَ أَن الْإِخْرَاج من حيّز الْإِشْكَال يتخصص بِمَا ثَبت مُشكلا مُجملا ثمَّ يتَبَيَّن. وصريح هَذَا اللَّفْظ منبىء عَن ذَلِك، وَقد ثَبت ضروب من الْبَيَان فِي ذَلِك، فَإِن الرب سُبْحَانَهُ إِذا أثبت شرعا ابْتِدَاء مُبينًا وَلم يسْبق فِيهِ التباس وإشكال فَهَذَا بَيَان وفَاقا، وَلما ورد مُبينًا وَلم يسْبقهُ لبس وإجمال يسْتَحق الْإِخْرَاج من حيّز الْإِشْكَال، وَكَذَلِكَ كل لَفْظَة وَردت بَيِّنَة وَهِي مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا وَلم تكن تَفْسِيرا وكشفا لغَيْرهَا، فَهِيَ بَيَان وَلَيْسَ يتَحَقَّق فِيهَا الْإِخْرَاج عَن حيّز الْإِشْكَال.
وَأما من قَالَ: إِن الْبَيَان هُوَ الْعلم، فقد زل فِيهِ من أوجه، مِنْهَا: أَن أَرْبَاب الْعلم أطبقوا على أَن الله سُبْحَانَهُ حقق فِي حق الْكَفَرَة العندة بَيَان الشَّرْع، كَمَا حقق فِي حق الْمُسلمين مَعَ عدم علم الْكَفَرَة بِالشَّرْعِ، فَدلَّ أَن الْبَيَان لَا يرجع إِلَى الْعلم، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه أَنَّك تَقول: بعد تَقْرِير الْكَلَام مِنْك وَقد صَار مَبْنِيّ بَيَان ذَلِك، وَلَكِنَّك لم تتبين، فَدلَّ ذَلِك أَن التَّبْيِين هُوَ الْعلم وَالْبَيَان هُوَ الْإِعْلَام، بِنصب الْأَدِلَّة، وَالْعرب فِي إِطْلَاقهَا تَقول: بيّنت الشَّيْء تتبيينا وبيانا، فَحمل الْبَيَان مَحل التَّبْيِين وَهَذَا مَا سَبِيل إِلَى جَحده.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْبَيَان لَو كَانَ علما وَجب أَن تكون الْعُلُوم الضرورية بَيَانا، حَتَّى يكون علمك بالمحسوسات بَيَانا لَهَا، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى إِطْلَاقه.
فالسديد إِذا مَا ارْتَضَاهُ القَاضِي وَهُوَ: أَن الْبَيَان هُوَ الدَّلِيل على الْقُيُود الَّتِي ذَكرنَاهَا.
ثمَّ أعلم أَن الْأَدِلَّة تَنْقَسِم فَمِنْهَا العقليات، فَهِيَ بَيَان لمدلولاتها، وَمِنْهَا السمعيات، ثمَّ السمعيات قد تكون قولا، وَقد تكون فعلا، وَقد تكون رمزا وَإِشَارَة. والميز بَينهَا وَبَين العقليات أَنَّهَا لَا تدل بأنفسها، وَلَكِن تدل بِنصب ناصب لَهَا أَدِلَّة.