فصل: فصل: المغمى عليه إذا طلق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وطلاق الزائل العقل بلا سكر لا يقع‏]‏

أجمع أهل العلم على العلم أن الزائل العقل بغير سكر أو ما في معناه‏,‏ لا يقع طلاقه كذلك قال عثمان وعلي وسعيد بن المسيب‏,‏ والحسن والنخعي والشعبي وأبو قلابة‏,‏ وقتادة والزهري ويحيى الأنصاري‏,‏ ومالك والثوري والشافعي‏,‏ وأصحاب الرأي وأجمعوا على أن الرجل إذا طلق في حال نومه لا طلاق له وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم‏,‏ وعن المجنون حتى يفيق‏)‏ وروي عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله‏)‏ رواه النجاد وقال الترمذي‏:‏ لا نعرفه إلا من حديث عطاء بن عجلان‏,‏ وهو ذاهب الحديث وروي بإسناد عن علي مثل ذلك ولأنه قول يزيل الملك فاعتبر له العقل كالبيع وسواء زال عقله لجنون‏,‏ أو إغماء أو نوم أو شرب دواء‏,‏ أو إكراه على شرب خمر أو شرب ما يزيل عقله شربه ولا يعلم أنه مزيل للعقل‏,‏ فكل هذا يمنع وقوع الطلاق رواية واحدة ولا نعلم فيه خلافا فأما إن شرب البنج ونحوه مما يزيل عقله‏,‏ عالما به متلاعبا فحكمه حكم السكران في طلاقه وبهذا قال أصحاب الشافعي‏,‏ وقال أصحاب أبي حنيفة‏:‏ لا يقع طلاقه لأنه لا يلتذ بشربها ولنا أنه زال عقله بمعصية فأشبه السكران‏.‏

فصل‏:‏

قال أحمد‏,‏ في المغمى عليه إذا طلق فلما أفاق علم أنه كان مغمى عليه وهو ذاكر لذلك‏,‏ فقال‏:‏ إذا كان ذاكرا لذلك فليس هو مغمى عليه يجوز طلاقه وقال‏,‏ في رواية أبي طالب في المجنون يطلق فقيل له بعدما أفاق‏:‏ إنك طلقت امرأتك فقال‏:‏ أنا أذكر إني طلقت‏,‏ ولم يكن عقلي معي فقال‏:‏ إذا كان يذكر أنه طلق فقد طلقت فلم يجعله مجنونا إذا كان يذكر الطلاق ويعلم به وهذا‏,‏ والله أعلم في من جنونه بذهاب معرفته بالكلية وبطلان حواسه‏,‏ فأما من كان جنونه لنشاف أو كان مبرسما فإنه يسقط حكم تصرفه مع أن معرفته غير ذاهبة بالكلية‏,‏ فلا يضره ذكره للطلاق -إن شاء الله تعالى-‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وعن أبي عبد الله -رحمه الله- في السكران روايات رواية يقع الطلاق ورواية لا يقع ورواية يتوقف عن الجواب‏,‏ ويقول‏:‏ قد اختلف فيه أصحاب رسول الله‏]‏

-صلى الله عليه وسلم- أما التوقف عن الجواب فليس بقول في المسألة إنما هو ترك للقول فيها‏,‏ وتوقف عنها لتعارض الأدلة فيها وإشكال دليلها ويبقى في المسألة روايتان‏:‏ إحداهما‏,‏ يقع طلاقه اختارها أبو بكر الخلال والقاضي وهو مذهب سعيد بن المسيب وعطاء‏,‏ ومجاهد والحسن وابن سيرين‏,‏ والشعبي والنخعي وميمون بن مهران‏,‏ والحكم ومالك والثوري‏,‏ والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وابن شبرمة وأبي حنيفة‏,‏ وصاحبيه وسليمان بن حرب لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه‏)‏ ومثل هذا عن علي‏,‏ ومعاوية وابن عباس قال ابن عباس‏:‏ طلاق السكران جائز‏,‏ إن ركب معصية من معاصي الله نفعه ذلك ولأن الصحابة جعلوه كالصاحي في الحد بالقذف بدليل ما روى أبو وبرة الكلبي قال‏:‏ أرسلني خالد إلى عمر‏,‏ فأتيته في المسجد ومعه عثمان وعلي‏,‏ وعبد الرحمن وطلحة والزبير فقلت‏:‏ إن خالدا يقول‏:‏ إن الناس انهمكوا في الخمر‏,‏ وتحاقروا العقوبة فقال عمر‏:‏ هؤلاء عندك فسلهم فقال على‏:‏ نراه إذا سكر هذي وإذا هذي افترى وعلى المفتري ثمانون فقال عمر‏:‏ أبلغ صاحبك ما قال فجعلوه كالصاحي‏,‏ ولأنه إيقاع للطلاق من مكلف غير مكره صادف ملكه فوجب أن يقع كطلاق الصاحي‏,‏ ويدل على تكليفه أنه يقتل بالقتل ويقطع بالسرقة وبهذا فارق المجنون والرواية الثانية‏,‏ لا يقع طلاقه اختارها أبو بكر عبد العزيز وهو قول عثمان رضي الله عنه ومذهب عمر بن عبد العزيز والقاسم وطاوس‏,‏ وربيعة ويحيى الأنصاري والليث‏,‏ والعنبري وإسحاق وأبي ثور‏,‏ والمزني قال ابن المنذر‏:‏ هذا ثابت عن عثمان ولا نعلم أحدا من الصحابة خالفه وقال أحمد‏:‏ حديث عثمان أرفع شيء فيه وهو أصح يعني من حديث علي‏,‏ وحديث الأعمش منصور لا يرفعه إلى علي ولأنه زائل العقل أشبه المجنون‏,‏ والنائم ولأنه مفقود الإرادة أشبه المكره‏,‏ ولأن العقل شرط للتكليف إذ هو عبارة عن الخطاب بأمر أو نهي ولا يتوجه ذلك إلى من لا يفهمه ولا فرق بين زوال الشرط بمعصية أو غيرها بدليل أن من كسر ساقيه جاز له أن يصلي قاعدا‏,‏ ولو ضربت المرأة بطنها فنفست سقطت عنها الصلاة‏,‏ ولو ضرب رأسه فجن سقط التكليف وحديث أبي هريرة لا يثبت وأما قتله وسرقته‏,‏ فهو كمسألتنا‏.‏

فصل‏:‏

والحكم في عتقه ونذره وبيعه‏,‏ وشرائه وردته وإقراره‏,‏ وقتله وقذفه وسرقته‏,‏ كالحكم في طلاقه لأن المعنى في الجميع واحد وقد روي عن أحمد في بيعه وشرائه الروايات الثلاث وسأله ابن منصور‏:‏ إذا طلق السكران أو سرق أو زنى‏,‏ أو افترى أو اشترى أو باع فقال‏:‏ أجبن عنه‏,‏ لا يصح من أمر السكران شيء وقال أبو عبد الله بن حامد‏:‏ حكم السكران حكم الصاحي فيما له وفيما عليه فأما فيما له وعليه كالبيع والنكاح‏,‏ والمعاوضات فهو كالمجنون لا يصح له شيء وقد أومأ إليه أحمد‏,‏ والأولى أن ماله أيضا لا يصح منه لأن تصحيح تصرفاته فيما عليه مؤاخذة له وليس من المؤاخذة تصحيح تصرف له‏.‏

فصل‏:‏

وحد السكر الذي يقع الخلاف في صاحبه هو الذي يجعله يخلط في كلامه‏,‏ ولا يعرف رداءه من رداء غيره ونعله من نعل غيره ونحو ذلك لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ فجعل علامة زوال السكر علمه ما يقول وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ استقرئوه القرآن‏,‏ أو ألقوا رداءه في الأردية فإن قرأ أم القرآن أو عرف رداءه‏,‏ وإلا فأقم عليه الحد ولا يعتبر أن لا يعرف السماء من الأرض ولا الذكر من الأنثى لأن ذلك لا يخفى على المجنون فعليه أولى‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وإذا عقل الصبي الطلاق‏,‏ فطلق لزمه‏]‏

وأما الصبي الذي لا يعقل فلا خلاف في أنه لا طلاق له وأما الذي يعقل الطلاق‏,‏ ويعلم أن زوجته تبين به وتحرم عليه فأكثر الروايات عن أحمد أن طلاقه يقع اختارها أبو بكر‏,‏ والخرقي وابن حامد وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب وعطاء‏,‏ والحسن والشعبي وإسحاق وروى أبو طالب‏,‏ عن أحمد‏:‏ لا يجوز طلاقه حتى يحتلم وهو قول النخعي والزهري ومالك‏,‏ وحماد والثوري وأبي عبيد‏,‏ وذكر أبو عبيد أنه قول أهل العراق وأهل الحجاز وروي نحو ذلك عن ابن عباس لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم‏)‏ ولأنه غير مكلف فلم يقع طلاقه كالمجنون ووجه الأولى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏الطلاق لمن أخذ بالساق‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله‏)‏ وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ اكتموا الصبيان النكاح فيفهم منه أن فائدته أن لا يطلقوا ولأنه طلاق من عاقل صادف محل الطلاق‏,‏ فوقع كطلاق البالغ‏.‏

فصل‏:‏

ومن أجاز طلاق الصبي اقتضى مذهبه أن يجوز توكيله فيه وتوكله لغيره وقد أومأ إليه أحمد‏,‏ فقال في رجل قال لصبي‏:‏ طلق امرأتي فقال‏:‏ قد طلقتك ثلاثا لا يجوز عليها حتى يعقل الطلاق فقيل له‏:‏ فإن كانت له زوجة صبية فقالت‏:‏ صير أمري إلى فقال لها‏:‏ أمرك بيدك فقالت‏:‏ قد اخترت نفسي فقال أحمد‏:‏ ليس بشيء حتى يكون مثلها يعقل الطلاق وقال أبو بكر‏:‏ لا يصح أن يوكل حتى يبلغ وحكاه عن أحمد ولنا أن من صح تصرفه في شيء مما تجوز الوكالة فيه بنفسه‏,‏ صح توكيله ووكالته فيه كالبالغ وما روي عن أحمد من منع ذلك‏,‏ فهو على الرواية التي لا تجيز طلاقه -إن شاء الله تعالى-‏.‏

فصل‏:‏

فأما السفيه فيقع طلاقه‏,‏ في قول أكثر رأي أهل العلم منهم القاسم بن محمد ومالك والشافعي‏,‏ وأبو حنيفة وأصحابه ومنع منه عطاء والأولى صحته لأنه مكلف مالك لمحل الطلاق فوقع طلاقه كالرشيد‏,‏ والحجر عليه في ماله لا يمنع تصرفه في غير ما هو محجور عليه فيه كالمفلس‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ومن أكره على الطلاق لم يلزمه‏]‏

لا تختلف الرواية عن أحمد‏,‏ أن طلاق المكره لا يقع وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس‏,‏ وابن الزبير وجابر بن سمرة وبه قال عبد الله بن عبيد بن عمير وعكرمة‏,‏ والحسن وجابر بن زيد وشريح‏,‏ وعطاء وطاوس وعمر بن عبد العزيز‏,‏ وابن عون وأيوب السختياني ومالك‏,‏ والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور‏,‏ وأبو عبيد وأجازه أبو قلابة والشعبي والنخعي‏,‏ والزهري والثوري وأبو حنيفة وصاحباه لأنه طلاق من مكلف في محل يملكه‏,‏ فينفذ كطلاق غير المكره ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إن الله وضع عن أمتي الخطأ‏,‏ والنسيان وما استكرهوا عليه‏)‏ رواه ابن ماجه وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏لا طلاق في إغلاق‏)‏ رواه أبو داود والأثرم‏,‏ قال أبو عبيد والقتيبي‏:‏ معناه‏:‏ في إكراه وقال أبو بكر‏:‏ سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين فقالا‏:‏ يريد الإكراه لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه ويدخل في هذا المعنى المبرسم والمجنون ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعا ولأنه قول حمل عليه بغير حق‏,‏ فلم يثبت له حكم ككلمة الكفر إذا أكره عليها‏.‏

فصل‏:‏

وإن كان الإكراه بحق نحو إكراه الحاكم المولى على الطلاق بعد التربص إذا لم يفيئ‏,‏ وإكراهه الرجلين اللذين زوجهما وليان ولا يعلم السابق منهما على الطلاق وقع الطلاق لأنه قول حمل عليه بحق‏,‏ فصح كإسلام المرتد إذا أكره عليه ولأنه إنما جاز إكراهه على الطلاق ليقع طلاقه‏,‏ فلو لم يقع لم يحصل المقصود‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ولا يكون مكرها حتى ينال بشيء من العذاب مثل الضرب أو الخنق أو عصر الساق وما أشبه ولا يكون التواعد إكراها‏]‏

أما إذا نيل بشيء من العذاب‏,‏ كالضرب والخنق والعصر‏,‏ والحبس والغط في الماء مع الوعيد فإنه يكون إكراها بلا إشكال‏,‏ لما روي أن المشركين أخذوا عمارا فأرادوه على الشرك فأعطاهم‏,‏ فانتهى إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يبكي فجعل يمسح الدموع عن عينيه ويقول‏:‏ ‏(‏أخذك المشركون فغطوك في الماء‏,‏ وأمروك أن تشرك بالله ففعلت فإن أخذوك مرة أخرى‏,‏ فافعل ذلك بهم‏)‏ رواه أبو حفص بإسناده وقال عمر رضي الله عنه ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أجعته أو ضربته‏,‏ أو أوثقته وهذا يقتضي وجود فعل يكون به إكراها فأما الوعيد بمفرده فعن أحمد فيه روايتان‏:‏ إحداهما ليس بإكراه لأن الذي ورد الشرع بالرخصة معه‏,‏ هو ما ورد في حديث عمار وفيه أنهم‏:‏ ‏"‏ أخذوك فغطوك في الماء ‏"‏ فلا يثبت الحكم إلا فيما كان مثله والرواية الثانية أن الوعيد بمفرده إكراه قال في رواية ابن منصور‏:‏ حد الإكراه إذا خاف القتل‏,‏ أو ضربا شديدا وهذا قول أكثر الفقهاء وبه يقول أبو حنيفة والشافعي لأن الإكراه لا يكون إلا بالوعيد فإن الماضي من العقوبة لا يندفع بفعل ما أكره عليه‏,‏ ولا يخشى من وقوعه وإنما أبيح له فعل المكره عليه دفعا لما يتوعده به من العقوبة فيما بعد وهو في الموضعين واحد‏,‏ ولأنه متى توعده بالقتل وعلم أنه يقتله فلم يبح له الفعل‏,‏ أفضى إلى قتله وإلقائه بيده إلى التهلكة ولا يفيد ثبوت الرخصة بالإكراه شيئا لأنه إذا طلق في هذه الحال‏,‏ وقع طلاقه فيصل المكره إلى مراده ويقع الضرر بالمكره‏,‏ وثبوت الإكراه في حق من نيل بشيء من العذاب لا ينفي ثبوته في حق غيره وقد روي عن عمر رضي الله عنه في الذي تدلى يشتار عسلا فوقفت امرأته على الحبل‏,‏ وقالت‏:‏ طلقني ثلاثا وإلا قطعته فذكرها الله والإسلام‏,‏ فقالت‏:‏ لتفعلن أو لأفعلن فطلقها ثلاثا فرده إليها رواه سعيد بإسناده وهذا كان وعيدا‏.‏

فصل‏:‏

ومن شرط الإكراه ثلاثة أمور أحدها‏:‏ أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه وحكي عنالشعبي‏:‏ إن أكرهه اللص‏,‏ لم يقع طلاقه وإن أكرهه السلطان وقع قال ابن عيينة‏:‏ لأن اللص يقتله وعموم ما ذكرناه في دليل الإكراه يتناول الجميع والذين أكرهوا عمارا لم يكونوا لصوصا‏,‏ وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمار‏:‏ ‏(‏إن عادوا فعد‏)‏ ولأنه إكراه فمنع وقوع الطلاق كإكراه اللصوص الثاني‏,‏ أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به إن لم يجبه إلى ما طلبه الثالث أن يكون مما يستضر به ضررا كثيرا‏,‏ كالقتل والضرب الشديد والقيد‏,‏ والحبس الطويل فأما الشتم والسب‏,‏ فليس بإكراه رواية واحدة وكذلك أخذ المال اليسير فأما الضرر اليسير فإن كان في حق من لا يبالي به‏,‏ فليس بإكراه وإن كان في بعض ذوي المروءات على وجه يكون إخراقا بصاحبه‏,‏ وغضا له وشهرة في حقه فهو كالضرب الكثير في حق غيره وإن توعد بتعذيب ولده‏,‏ فقد قيل‏:‏ ليس بإكراه لأن الضرر لا حق بغيره والأولى أن يكون إكراها لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله والوعيد بذلك إكراه‏,‏ فكذلك هذا‏.‏

فصل‏:‏

وإن أكره على طلاق امرأة فطلق غيرها وقع لأنه غير مكره عليه وإن أكره على طلقة‏,‏ فطلق ثلاثا وقع أيضا لأنه لم يكره على الثلاث وإن طلق من أكره على طلاقها وغيرها وقع طلاق غيرها دونها وإن خلصت نيته في الطلاق دون دفع الإكراه‏,‏ وقع لأنه قصده واختاره ويحتمل أن لا يقع لأن اللفظ مرفوع عنه فلا يبقى إلا مجرد النية‏,‏ فلا يقع بها طلاق وإن طلق ونوى بقلبه غير امرأته أو تأول في يمينه‏,‏ فله تأويله يقبل قوله في نيته لأن الإكراه دليل له على تأويله وإن لم يتأول وقصدها بالطلاق لم يقع لأنه معذور وذكر أصحاب الشافعي وجها أنه يقع لأنه لا مكره له على نيته ولنا‏,‏ أنه مكره عليه فلم يقع لعموم ما ذكرنا من الأدلة ولأنه قد لا يحضره التأويل في تلك الحال‏,‏ فتفوت الرخصة‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏وإذا قال‏:‏ قد طلقتك أو قد فارقتك أو قد سرحتك لزمها الطلاق‏]‏

هذا يقتضي أن صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ الطلاق‏,‏ والفراق والسراح وما تصرف منهن وهذا مذهب الشافعي وذهب أبو عبد الله بن حامد‏,‏ إلى أن صريح الطلاق لفظ الطلاق وحده وما تصرف منه لا غير وهو مذهب أبي حنيفة ومالك‏,‏ إلا أن مالكا يوقع الطلاق به بغير نية لأن الكنايات الظاهرة لا تفتقر عنده إلى النية وحجة هذا القول أن لفظ الفراق والسراح يستعملان في غير الطلاق كثيرا فلم يكونا صريحين فيه كسائر كناياته ووجه الأول أن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب بمعنى الفرقة بين الزوجين فكانا صريحين فيه‏,‏ كلفظ الطلاق قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فأمسكوهن بمعروف‏}‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته‏}‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا‏}‏ وقول ابن حامد أصح فإن الصريح في الشيء ما كان نصا فيه لا يحتمل غيره إلا احتمالا بعيدا‏,‏ ولفظة الفراق والسراح إن وردا في القرآن بمعنى الفرقة بين الزوجين فقد وردا لغير ذلك المعنى وفي العرف كثيرا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب‏}‏ فلا معنى لتخصيصه بفرقة الطلاق‏,‏ على أن قوله‏:‏ ‏{‏أو فارقوهن بمعروف‏}‏ لم يرد به الطلاق وإنما هو ترك ارتجاعها وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أو تسريح بإحسان‏}‏ ولا يصح قياسه على لفظ الطلاق‏,‏ فإنه مختص بذلك سابق إلى الأفهام من غير قرينة ولا دلالة بخلاف الفراق والسراح فعلى كلا القولين‏,‏ إذا قال‏:‏ طلقتك أو أنت طالق أو مطلقة وقع الطلاق من غير نية وإن قال‏:‏ فارقتك أو‏:‏ أنت مفارقة‏,‏ أو سرحتك أو أنت مسرحة فمن يراه صريحا أوقع به الطلاق من غير نية ومن لم يره صريحا لم يوقعه به‏,‏ إلا أن ينويه فإن قال‏:‏ أردت بقولي‏:‏ فارقتك أي بجسمي أو بقلبي أو بمذهبي أو سرحتك من يدي‏,‏ أو شغلي أو من حبسي أو أي سرحت شعرك قبل قوله وإن قال‏:‏ أردت بقولي‏:‏ أنت طالق أي‏:‏ من وثاقي أو قال‏:‏ أردت أن أقول‏:‏ طلبتك فسبق لساني‏,‏ فقلت‏:‏ طلقتك ونحو ذلك دين فيما بينه وبين الله تعالى فمتى علم من نفسه ذلك‏,‏ لم يقع عليه فيما بينه وبين ربه قال أبو بكر‏:‏ لا خلاف عن أبي عبد الله أنه إذا أراد أن يقول لزوجته‏:‏ اسقيني ماء فسبق لسانه فقال‏:‏ أنت طالق أو أنت حرة أنه لا طلاق فيه ونقل ابن منصور عنه‏,‏ أنه سئل عن رجل حلف فجرى على لسانه غير ما في قلبه فقال‏:‏ أرجو أن يكون الأمر فيه واسعا وهل تقبل دعواه في الحكم‏؟‏ ينظر فإن كان في حال الغضب‏,‏ أو سؤالها الطلاق لم يقبل في الحكم لأن لفظه ظاهر في الطلاق وقرينة حاله تدل عليه‏,‏ فكانت دعواه مخالفة للظاهر من وجهين فلا تقبل وإن لم تكن في هذه الحال فظاهر كلام أحمد‏,‏ في رواية ابن منصور وأبي الحارث أنه يقبل قوله وهو قول جابر بن زيد‏,‏ والشعبي والحكم حكاه عنهم أبو حفص لأنه فسر كلامه بما يحتمله احتمالا غير بعيد‏,‏ فقيل‏:‏ كما لو قال أنت طالق أنت طالق وقال‏:‏ أردت بالثانية إفهامها وقال القاضي‏:‏ فيه روايتان هذه التي ذكرنا‏,‏ قال‏:‏ وهي ظاهر كلام أحمد والثانية لا يقبل وهو مذهب الشافعي لأنه خلاف ما يقتضيه الظاهر في العرف فلم يقبل في الحكم‏,‏ كما لو أقر بعشرة ثم قال‏:‏ زيوفا أو صغارا‏,‏ أو إلى شهر فأما إن صرح بذلك في اللفظ فقال‏:‏ طلقتك من وثاقي أو فارقتك بجسمي‏,‏ أو سرحتك من يدي فلا شك في أن الطلاق لا يقع لأن ما يتصل بالكلام يصرفه عن مقتضاه كالاستثناء والشرط وذكر أبو بكر في قوله‏:‏ أنت مطلقة أنه إن نوى أنها مطلقة طلاقا ماضيا‏,‏ أو من زوج كان قبله لم يكن عليه شيء وإن لم ينو شيئا‏,‏ فعلى قولين أحدهما يقع والثاني لا يقع وهذا من قوله يقتضي أن تكون هذه اللفظة غير صريحة في أحد القولين قال القاضي‏:‏ والمنصوص عن أحمد‏,‏ أنه صريح وهو الصحيح لأن هذه متصرفة من لفظ الطلاق فكانت صريحة فيه‏,‏ كقوله‏:‏ أنت طالق‏.‏

فصل‏:‏

فأما لفظة الإطلاق فليست صريحة في الطلاق لأنها لم يثبت لها عرف الشرع ولا الاستعمال‏,‏ فأشبهت سائر كناياته وذكر القاضي فيها احتمالا أنها صريحة لأنه لا فرق بين فعلت وأفعلت نحو عظمته وأعظمته‏,‏ وكرمته وأكرمته وليس هذا الذي ذكره بمطرد فإنهم يقولون‏:‏ حييته من التحية وأحييته من الحياة وأصدقت المرأة صداقا‏,‏ وصدقت حديثها تصديقا ويفرقون بين أقبل وقبل وأدبر ودبر‏,‏ وأبصر وبصر ويفرقون بين المعاني المختلفة بحركة أو حرف فيقولون‏:‏ حمل لما في البطن‏,‏ وبالكسر لما على الظهر والوقر بالفتح الثقل في الأذن وبالكسر لثقل الحمل وها هنا فرق بين حل قيد النكاح وبين غيره‏,‏ بالتضعيف في أحدهما والهمزة في الآخر ولو كان معنى اللفظين واحدا لقيل طلقت الأسيرين‏,‏ والفرس والطائر فهو طالق‏,‏ وطلقت الدابة فهي طالق ومطلقة ولم يسمع هذا في كلامهم‏,‏ وهذا مذهب الشافعي‏.‏

فصل‏:‏

فإن قال‏:‏ أنت الطلاق فقال القاضي‏:‏ لا تختلف الرواية عن أحمد في أن الطلاق يقع به نواه أو لم ينوه وبهذا قال أبو حنيفة ومالك ولأصحاب الشافعي فيه وجهان أحدهما‏,‏ أنه غير صريح لأنه مصدر والأعيان لا توصف بالمصادر إلا مجازا والثاني أن الطلاق لفظ صريح‏,‏ فلم يفتقر إلى نية كالمتصرف منه وهو مستعمل في عرفهم‏,‏ قال الشاعر‏:‏

نوهت باسمي في العالمين ** وأفنيت عمري عاما فعاما

فأنت الطلاق وأنت الطلاق ** وأنت الطلاق ثلاثا تمامـا

وقولهم‏:‏ إنه مجاز قلنا‏:‏ نعم إلا أنه يتعذر حمله على الحقيقة ولا محمل له يظهر سوى هذا المحمل‏,‏ فتعين فيه‏.‏

فصل‏:‏

وصريح الطلاق بالعجمية بهشتم فإذا أتى بها العجمي وقع الطلاق منه بغير نية وقال النخعي‏,‏ وأبو حنيفة‏:‏ هو كناية لا يطلق به إلا بنية لأن معناه خليتك وهذه اللفظة كناية ولنا‏,‏ أن هذه اللفظة بلسانهم موضوعة للطلاق يستعملونها فيه فأشبهت لفظ الطلاق بالعربية‏,‏ ولو لم تكن هذه صريحة لم يكن في العجمية صريح للطلاق وهذا بعيد‏,‏ ولا يضر كونها بمعنى خليتك فإن معنى طلقتك خليتك أيضا إلا أنه لما كان موضوعا له‏,‏ يستعمل فيه كان صريحا كذا هذه‏,‏ ولا خلاف في أنه إذا نوى بها الطلاق كانت طلاقا كذلك قال الشعبي‏,‏ والنخعي والحسن ومالك‏,‏ والثوري وأبو حنيفة وزفر‏,‏ والشافعي‏.‏

الفصل الثاني‏:‏

أنه إذا أتى بالكناية في حال الغضب فذكر الخرقي في هذا الموضع أنه يقع الطلاق وذكر القاضي وأبو بكر وأبو الخطاب في ذلك روايتين‏:‏ إحداهما‏,‏ يقع الطلاق قال في رواية الميموني‏:‏ إذا قال لزوجته‏:‏ أنت حرة لوجه الله في الرضى لا في الغضب فأخشى أن يكون طلاقا والرواية الأخرى‏,‏ ليس بطلاق وهو قول أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة يقول في‏:‏ اعتدي‏,‏ واختاري وأمرك بيدك كقولنا في الوقوع واحتجا بأن هذا ليس بصريح في الطلاق ولم ينوه به‏,‏ فلم يقع به الطلاق كحال الرضى ولأن مقتضى اللفظ لا يتغير بالرضى والغضب ويحتمل أن ما كان من الكنايات لا يستعمل في غير الفرقة إلا نادرا‏,‏ نحو قوله‏:‏ أنت حرة لوجه الله واعتدى واستبرئي وحبلك على غاربك وأنت بائن وأشباه ذلك أنه يقع في حال الغضب وجواب سؤال الطلاق من غير نية وما كثر استعماله لغير ذلك‏,‏ نحو‏:‏ اذهبي واخرجي وروحي وتقنعي لا يقع الطلاق به إلا بنية ومذهب أبي حنيفة قريب من هذا وكلام أحمد والخرقي في الوقوع إنما ورد في قوله‏:‏ أنت حرة وهو مما لا يستعمله الإنسان في حق زوجته غالبا إلا كناية عن الطلاق‏,‏ ولا يلزم من الاكتفاء بذلك بمجرد الغضب وقوع غيره من غير نية لأن ما كثر استعماله يوجد كثيرا غير مراد به الطلاق في حال الرضى فكذلك في حال الغضب إذ لا حجر عليه في استعماله‏,‏ والتكلم به بخلاف ما لم تجر العادة بذكره فإنه لما قل استعماله في غير الطلاق‏,‏ كان مجرد ذكره يظن منه إرادة الطلاق فإذا انضم إلى ذلك مجيئه عقيب سؤال الطلاق أو في حال الغضب‏,‏ قوى الظن فصار ظنا غالبا ووجه الرواية الأخرى أن دلالة الحال تغير حكم الأقوال والأفعال فإن من قال لرجل‏:‏ يا عفيف ابن العفيف حال تعظيمه‏,‏ كان مدحا له وإن قاله في حال شتمه وتنقصه كان قذفا وذما ولو قال‏:‏ إنه لا يغدر بذمه‏,‏ ولا يظلم حبة خردل وما أحد أوفى ذمة منه في حال المدح كان مدحا بليغا‏,‏ كما قال حسان‏:‏

فما حملت من ناقة فوق رحلها ** أبر وأوفى ذمة من محمد

ولو قاله في حال الذم كان هجاء قبيحا كقول النجاشي‏:‏

قبيلة لا يغدرون بذمة ** ولا يظلمون الناس حبة خردل

وقال آخر‏:‏

كأن ربي لم يخلق لخشيته ** سواهم من جميع الناس إنسانا

وهذا في هذا الموضع هجاء قبيح وذم حتى حكي عنحسان أنه قال‏:‏ ما أراه إلا قد سلح عليهم ولولا القرينة ودلالة الحال‏,‏ كان من أحسن المدح وأبلغه وفي الأفعال لو أن رجلا قصد رجلا بسيف والحال يدل على المزح واللعب لم يجز قتله‏,‏ ولو دلت الحال على الجد جاز دفعه بالقتل والغضب ها هنا يدل على قصد الطلاق فيقوم مقامه‏.‏

فصل‏:‏

وإن أتى بالكناية في حال سؤال الطلاق‏,‏ فالحكم فيه كالحكم فيما إذا أتى بها في حال الغضب على ما فيه من الخلاف والتفصيل والوجه لذلك ما تقدم من التوجيه إلا أن المنصوص عن أحمد ها هنا‏,‏ أنه لا يصدق في عدم النية قال في رواية أبي الحارث‏:‏ إذا قال‏:‏ لم أنوه صدق في ذلك‏,‏ إذا لم تكن سألته الطلاق فإن كان بينهما غضب قبل ذلك فيفرق بين كونه جوابا للسؤال وكونه في حال الغضب وذلك لأن الجواب ينصرف إلى السؤال‏,‏ فلو قال‏:‏ لي عندك دينار‏؟‏ قال‏:‏ نعم أو‏:‏ صدقت كان إقرارا به ولم يقبل منه تفسيره بغير الإقرار ولو قال‏:‏ زوجتك ابنتي أو بعتك ثوبي هذا فقال‏:‏ قبلت صح وكفي‏,‏ ولم يحتج إلى زيادة عليه ولو أراد بالكناية حال الغضب أو سؤال الطلاق غير الطلاق لم يقع الطلاق لأنه لو أراده بالصريح لم يقع‏,‏ فبالكناية أولى وإذا ادعى ذلك دين وهل يقبل في الحكم‏؟‏ فظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث أنه يصدق إن كان في الغضب‏,‏ ولا يصدق إن كان جوابا لسؤال الطلاق ونقل عنه في موضع آخر أنه إذا قال‏:‏ أنت خلية أو بريئة‏,‏ أو بائن ولم يكن بينهما ذكر طلاق ولا غضب صدق فمفهومه أنه لا يصدق مع وجودهما وحكي هذا عن أبي حنيفة إلا في الأربعة المذكورة والصحيح أنه يصدق لما روى سعيد بإسناده أن رجلا خطب إلى قوم فقالوا‏:‏ لا نزوجك حتى تطلق امرأتك فقال‏:‏ قد طلقت ثلاثا فزوجوه‏,‏ ثم أمسك امرأته فقالوا‏:‏ ألم تقل إنك طلقت ثلاثا‏؟‏ قال‏:‏ ألم تعلموا إني تزوجت فلانة وطلقتها ثم تزوجت فلانة وطلقتها‏,‏ ثم تزوجت فلانة وطلقتها‏؟‏ فسئل عثمان عن ذلك فقال‏:‏ له نيته ولأنه أمر يعتبر نيته فيه فقبل قوله فيما يحتمله‏,‏ كما لو كرر لفظا وقال‏:‏ أردت التوكيد‏.‏

مسألة‏:‏

‏[‏قال أبو عبد الله‏:‏ وإذا قال لها‏:‏ أنت خلية أو أنت برية‏,‏ أو أنت بائن أو حبلك على غاربك أو الحقي بأهلك فهو عندي ثلاث ولكني أكره أن أفتي به‏,‏ سواء دخل بها أو لم يدخل‏]‏

أكثر الروايات عن أبي عبد الله كراهية الفتيا في هذه الكنايات مع ميله إلى أنها ثلاث‏,‏ وحكى ابن أبي موسى في ‏"‏ الإرشاد ‏"‏ عنه روايتين إحداهما أنها ثلاث والثانية‏,‏ يرجع إلى ما نواه اختارها أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي قال‏:‏ يرجع إلى ما نوى فإن لم ينو شيئا وقعت واحدة ونحوه قول النخعي‏,‏ إلا أنه قال‏:‏ يقع طلقة بائنة لأن لفظه يقتضي البينونة ولا يقتضي عددا وروى حنبل عن أحمد‏,‏ ما يدل على هذا فإنه قال‏:‏ يزيدها في مهرها إن أراد رجعتها ولو وقع ثلاثا لم يبح له رجعتها ولو لم تبن لم يحتج إلى زيادة في مهرها واحتج الشافعي بما روى أبو داود بإسناده ‏(‏أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة ألبتة فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك‏,‏ وقال‏:‏ والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله ما أردت إلا واحدة‏؟‏ فقال ركانة‏:‏ آلله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطلقها الثانية في زمن عمر والثالثة في زمن عثمان‏)‏ قال علي بن محمد الطنافسي‏:‏ ما أشرف هذا الحديث ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لابنة الجون‏:‏ ‏"‏ الحقي بأهلك ‏"‏ ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ليطلق ثلاثا وقد نهى عن ذلك ولأن الكنايات مع النية كالصريح‏,‏ فلم يقع به عند الإطلاق أكثر من واحدة كقوله‏:‏ أنت طالق وقال الثوري وأصحاب الرأي‏:‏ إن نوى ثلاثا فثلاث‏,‏ وإن نوى اثنتين أو واحدة وقعت واحدة ولا يقع اثنتان لأن الكناية تقضي البينونة دون العدد والبينونة بينونتان صغرى وكبرى‏,‏ فالصغرى بالواحدة والكبرى بالثلاث ولو أوقعنا اثنتين كان موجبه العدد‏,‏ وهي لا تقتضيه وقال ربيعة ومالك‏:‏ يقع بها الثلاث وإن لم ينو إلا في خلع أو قبل الدخول‏,‏ فإنها تطلق واحدة لأنها تقتضي البينونة والبينونة تحصل في الخلع وقبل الدخول بواحدة فلم يزد عليها لأن اللفظ لا يقتضي زيادة عليها‏,‏ وفي غيرهما يقع الثلاث ضرورة أن البينونة لا تحصل إلا بها ووجه أنها ثلاث أنه قول أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فروي عن علي وابن عمر‏,‏ وزيد بن ثابت أنها ثلاث قال أحمد في الخلية والبرية والبتة‏:‏ قول علي وابن عمر قول صحيح ثلاثا وقال علي والحسن‏,‏ والزهري في البائن‏:‏ إنها ثلاث وروى النجاد بإسناده عن نافع‏,‏ أن رجلا جاء إلى عاصم وابن الزبير فقال‏:‏ إن ظئري هذا طلق امرأته ألبتة قبل أن يدخل بها فهل تجدان له رخصة‏؟‏ فقالا‏:‏ لا ولكنا تركنا ابن عباس وأبا هريرة عند عائشة‏,‏ فسلهم ثم ارجع إلينا فأخبرنا فسألهم‏,‏ فقال أبو هريرة‏:‏ لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وقال ابن عباس هي ثلاث وذكر عن عائشة متابعتهما وروى النجاد بإسناده أن عمر رضي الله عنه جعل ألبتة واحدة ثم جعلها بعد ثلاث تطليقات وهذه أقوال علماء الصحابة‏,‏ ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا ولأنه طلق امرأته بلفظ يقتضي البينونة‏,‏ فوجب الحكم بطلاق تحصل به البينونة كما لو طلق ثلاثا أو نوى الثلاث‏,‏ واقتضاؤه للبينونة ظاهر في قوله‏:‏ أنت بائن وكذا في قوله‏:‏ ألبتة لأن البت القطع فكأنه قطع النكاح كله ولذلك يعبر به عن الطلاق الثلاث‏,‏ كما قالت امرأة رفاعة إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وبتله هو القطع أيضا ولذلك قيل في مريم البتول لانقطاعها عن النكاح ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التبتل وهو الانقطاع عن النكاح بالكلية وكذلك الخلية والبرية يقتضيان الخلو من النكاح والبراءة منه وإذا كان للفظ معنى‏,‏ فاعتبره الشرع إنما يعتبر فيما يقتضيه ويؤدي معناه ولا سبيل إلى البينونة بدون الثلاث‏,‏ فوقعت ضرورة الوفاء بما يقتضيه لفظه ولا يمكن إيقاع واحدة بائن لأنه لا يقدر على ذلك بصريح الطلاق فكذلك بكناياته‏,‏ ولم يفرقوا بين المدخول بها وغيرها لأن الصحابة لم يفرقوا ولأن كل لفظة أوجبت الثلاث في المدخول بها أوجبتها في غيرها‏,‏ كقوله‏:‏ أنت طالق ثلاثا فأما حديث ركانة فإن أحمد ضعف إسناده فلذلك تركه وأما قوله عليه السلام لابنة الجون‏:‏ ‏"‏ الحقي بأهلك ‏"‏ فيدل على أن هذه اللفظة لا تقتضي الثلاث وليست من اللفظات التي قال الصحابة فيها بالثلاث‏,‏ ولا هي مثلها فيقصر الحكم عليها وقولهم‏:‏ إن الكناية بالنية كالصريح قلنا‏:‏ نعم إلا أن الصريح ينقسم إلى ثلاث تحصل بها البينونة‏,‏ وإلى ما دونها مما لا تحصل به البينونة فكذلك الكناية تنقسم كذلك فمنها ما يقوم مقام الصريح المحصل للبينونة‏,‏ وهو هذه الظاهرة ومنها ما يقوم مقام الواحدة وهو ما عداها‏,‏ والله أعلم‏.‏