فصل: بيان القرآن الكريم لصدق ما سبقه من كتب الله، من جهات متعددة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تصديق القرآن الكريم للكتب السماوية وهيمنته عليها



.بيان القرآن الكريم لصدق ما سبقه من كتب الله، من جهات متعددة:

الأولى: أنه أثبت الوحي، وقرر إمكانه ووقوعه فعلا، حيث أخبر في كثير من آياته أن الله أرسل رسلا كثيرين قبل محمد صلى الله عليه وسلم وأوحى إليهم، يشهد لذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ …}.
فهذا تصديق لأصل الوحي وللرسالات السابقة، وبذلك يكون القرآن مصدقا لما بين يديه، ويكون محمد صلى الله عليه وسلم كذلك مصدقا لمن سبقه من رسل الله.
الثانية: أن القرآن الكريم جاء حسب وصفه الموجود في تلك الكتب، حيث اشتمل على وصف خاتم الرسل، وأنه يأتي بكتاب من عند الله، فنزول القرآن على وفق هذه النعوت تصديق لهذه الكتب.
قال الإمام ابن كثير في معنى قوله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب المتضمنة ذكره ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله، فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله.
الثالثة: أن القرآن الكريم قد وافق هذه الكتب في مقاصد الدين الإلهي وأصوله التي لا تختلف باختلاف الشرائع والرسالات، وفي هذا الصدد نلاحظ اتفاق القرآن مع غيره من كتب الله فيما يلي:
1- الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما يتصل بذلك من تنزيه الله تعالى عن النقائص، ووصفه بكل كمال يليق بذاته المقدسة.
2- وتتفق الكتب المنزلة كذلك في أصول الشرائع كالصلاة والصيام والزكاة… حيث أخبر القرآن الكريم أن الله تعبّد بها من قبلنا فقال في الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وقال في الصلاة والزكاة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}.
فأصول الشرائع قدر مشترك بين كتب الله، أما تفاصيلها وهيئاتها، وما يتصل بذلك من تفاريع أخرى، فتختلف فيها الكتب اختلافا يتناسب مع أحوال الناس في كل الأزمنة ويتفق مع مصالحهم.
فأصول العقيدة والشريعة إذًا واحدة في جميع الكتب السماوية، لا يختلف في ذلك كتاب لاحق عن كتاب سابق، فلا يعقل أن يعرفنا الله على لسان نوح مثلا أن وجوده حقيقة من الحقائق التي يجب الإيمان بها، ثم يبلغنا على لسان غيره من الرسل أنها ليست كذلك؛ لأن الحقائق الثابتة لا تتغير، ولا يمكن أن يحصل فيها اختلاف، تبعا لاختلاف الزمان أو المكان أو المبلغ، وكذلك ما جاءت به كل كتب الله من بعث الناس بعد موتهم، فتلك حقيقة يقررها كل رسل الله فلا تختلف باختلاف الكتب أو الرسل.
يقول صاحب كتاب (الإسرائيليات في التفسير والحديث): تقوم جميع الكتب السماوية على أساس واحد هو الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى، والأخذ بما جاء عنه من تعاليم تقود الإنسانية إلى طريق الخير والرشاد.
فأصول العقيدة والشريعة واحدة في جميع الأديان، كما يصرح بذلك قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
أما تفصيلات الشرائع العملية فتختلف فيها الكتب السماوية اختلافا يتلاءم مع زمان كل منها، ويتفق مع مصالح أتباعها، فما يصلح لزمان قد لا يصلح لآخر، وما يلائم طبيعة قوم قد لا يلائم طبيعة قوم آخرين. مصداق ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}.
والقرآن باعتباره خاتم الكتب جاء يجدد دعوة الكتب السماوية السابقة إلى أصول العقيدة والشريعة، ويؤكد وحدتها في جوهر الدعوة إلى الله لتحقق الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ثم هو بعد ذلك يخالف كل ما سواه من الكتب المنزلة بما ينفرد به من نظم التشريع وألوان العبادات وكيفيات المعاملات التي تلائم عصره وتتفق وصالح الإنسانية في مرحلتها الأخيرة؛ مرحلة النضج والكمال.
3- وتتفق الكتب المنزلة كذلك في الدعوة إلى الفضائل والترغيب فيها، والترهيب من الرذائل والتنفير منها، فكل كتب الله أمرت بالعدل والإحسان، والصدق والصبر والأمانة والوفاء والرحمة، وما إلى ذلك من الفضائل ومكارم الأخلاق التي تسعد بها البشرية في كل زمان ومكان، وكل كتب الله كذلك قد نهت عن الظلم والخيانة والكذب والغدر والقسوة وما إلى ذلك من الرذائل التي تورد البشرية موارد الهلاك، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}.
قال الإمام ابن كثير في قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} أي: كلموهم طيّبا، ولينوا لهم جانبا، ويدخل في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر….
وقوله تعالى أيضا في حق إبراهيم وإسحاق وإسماعيل ويعقوب: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}، فالنص القرآني صريح في أن الله أوحى إلى هؤلاء الرسل الكرام فعل الخيرات، وفعل الخيرات يشمل كل الفضائل التي تسعد بها البشرية، وتأخذ بيدها إلى ما فيه عزها وصلاحها.
وقال كذلك في سياق قصة زكريا عليه السلام: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}.
الجهة الرابعة: من جهات تصديق القرآن الكريم لما سبقه من كتب الله، أن الله قد جمع فيه ما توزع في هذه الكتب من فضائل، وصاغها في قوالب جديدة، فأنقذ بذلك أصول من سبقه من كتب الله وحفظه وصدقه، ولولا القرآن الكريم ما بقي لهذا التراث وجود.
فالقرآن الكريم لذلك خلاصة كاملة للرسالات الأولى وللنصائح التي بذلت للإنسانية من فجر وجودها، وهو ملتقى رائع للحكم البالغة التي قرعت آذان الأمم في شتى العصور، واستعراض دقيق للأشفية السماوية التي احتاجت إليها البشرية جيلا بعد جيل.
إن القرآن الكريم -بهذه الاعتبارات- مجمع حقائق الثابتة، ومجلى عناية الله بعباده، وإظهارا لهذا المعنى، يقول الله عز وجل وصفا لبعض عظات القرآن: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}.
ويقول بعد سرد لتاريخ الأمم والمرسلين، أحصى هذا السرد عددا كبيرا من تلك الأمم، وهؤلاء الرسل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}.
فالمراد بالزبر ها هنا الكتب المنزلة على الرسل المتقدمين.
فالنبي الخاتم مجدد لدين الله، ومقيم لما انهدم من أركانه ومن ثم يقول صلى الله عليه وسلم: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو أن موسى حي ما وسعه إلا اتباعي».
وكذلك يطرد الحكم مع سائر الأنبياء، فإن الرسول الخاتم جاء بالأصول التي جاؤوا بها وبانيا على قواعدها، وكتابه أدق تعبير وأصدقه في بيان ما هدى به كل نبي في الأولين أمته.
ومما تقدم يتبين لنا معنى تصديق القرآن الكريم لما تقدمه من كتب الله، ومنه نرى أن هذا التصديق لا يفيد -من قريب أو من بعيد- أعداء الإسلام وخصومه فيما زعموه من بقاء كتبهم سليمة من التحريف والنسخ، وبطلان ما رتبوه على ذلك من وجوب عمل المسلمين بهذه الكتب كعملهم بالقرآن سواء بسواء لأن غاية ما يفيده هذا التصديق أن القرآن قرر إمكان الوحي ووقوعه وجاء حسب وصفه الموجود في تلك الكتب، ووافقها في مقاصد الدين وكلياته إلى آخر المعاني التي قررناها، وليس في ذلك ما يدل على عدم تحريفها، أو عدم نسخها، لا سيما وقد اشتمل القرآن الكريم نفسه على ما يفيد هذا التحريف وذلك النسخ.
فدعوى ما يخالف ذلك باطلة من أساسها، لأنها معارضة لصريح القرآن الكريم الذي أخبر أن هذه الكتب قد حرفت، وتناولتها أيدي أصحابها بالتفسير والتبديل، مصداقا لقوله في حق اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ …}، وفي حق النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ …}.
يقول صاحب (الفارق بين المخلوق والخالق) في الرد على صاحب رسالة (أبحاث مجتهدين) الذي حاول أن يستدل بالآيات القرآنية التي تصفه بأنه مصدق لما بين يديه على سلامة هذه الكتب من التحريف والنسخ يقول: ثم إني لا أتردد في أن هذا المصنف إما أن يكون جاهلا أو متجاهلا؛ إذ لا يلزم من تصديق القرآن للكتب المنزلة قبله براءة هذه التوراة والأناجيل الأربعة والرسائل الموجودة الآن بأيديهم من التحريف والتبديل والنسخ، ولا يلزم أيضا وجوب اتباعها، فقوله هذا مغالطة على ضعفة العقول، وهو خلاف الظاهر، والحق أن المفهوم من سياق هذه الآيات أن التصديق كان لثبوت صحة نزولها من الله فقط لا لبراءة هذه الكتب، ولو لزم من التصديق وجود مصدق به للزم من تصديق الرسل وجودهم حين التصديق، وهذا فاسد.
وكما جاء القرآن الكريم مصدقا لما سبقه من كتب الله، فقد جاء كذلك مهيمنا عليها، كما صرح بذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ …}.
فما المقصود بهذه الهيمنة، وما الفرق بين تصديق القرآن الكريم لكتب الله وهيمنته عليها؟ وما الذي يترتب على كون القرآن مصدقا ومهيمنا على ما سبقه من كتب الله؟
ذلك ما سنعرض لبيانه فيما يلي: