فصل: باب مَا جَاءَ فِي مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جمع الوسائل في شرح الشمائل



.باب مَا جَاءَ فِي مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

أَيْ فِي حُكْمِ مِيرَاثِهِ وَبَيَانِ وُرَّاثِهِ، وَالْمِيرَاثُ أَصْلُهُ مِوْرَاثٌ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا وَالتُّرَاثُ أَصْلُ التَّاءِ فِيهِ وَاوٌ يُقَالُ: وَرِثْتُ شَيْءَ أَبِي وَوَرِثْتُهُ مِنْ أَبِي أَرِثُهُ بِالْكَسْرِ وِرْثًا وَوِرَاثَةً بِالْكَسْرِ فِيهِمَا وَكَذَا إِرْثًا بِالْهَمْزَةِ الْمُنْقَلِبَةِ عَنِ الْوَاوِ وَرِثَةً بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْهَاءِ عِوَضًا عَنِ الْوَاوِ الْمَحْذُوفَةِ كَعِدَةٍ وَسَقَطَ الْوَاوُ أَيْضًا مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ لِوُقُوعِهَا بَيْنَ يَاءٍ مَفْتُوحَةٍ وَكَسْرَةٍ لَازِمَةٍ فَإِنَّهُمَا مُتَجَانِسَتَانِ وَالْوَاوُ مُضَادَّتُهُمَا فَحُذِفَتْ لِاكْتِنَافِهِمَا إِيَّاهَا، ثُمَّ جُعِلَ حُكْمُهَا مَعَ الْهَمْزَةِ وَالتَّاءِ وَالنُّونِ كَذَلِكَ لِلِاطِّرَادِ أَوْ لِأَنَّهُنَّ مُبْدَلَاتٌ مِنْهَا وَالْيَاءُ هِيَ الْأَصْلُ كَذَا ذَكَرُهُ مِيرَكُ وَنَقَلَهُ الْحَنَفِيُّ عَنِ الْجَوْهَرِيِّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمِيرَاثِهِ هُنَا مَتْرُوكَاتُهُ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْمِيرَاثُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَوْرُوثِ أَيِ: الْمُخَلَّفُ مِنَ الْمَالِ أَيْ: بَابُ مَا جَاءَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يُمْلَكُ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ زَعْمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْعُنْوَانِ مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ نَحْوَ مَا جَاءَ فِي نَفْيِ مِيرَاثٍ، قُلْتُ: كَلَامُهُ صَحِيحٌ، وَلَا يَنْدَفِعُ بِمُقَدَّرٍ آخَرَ مَعَ أَنَّ مَآلَ التَّقْدِيرَيْنِ وَاحِدٌ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَشَذَّ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِالْمَوْرُوثِ هُنَا الْعِلْمُ وَالْمَالُ، وَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ أَنَّ الْعِلْمَ يُورَثُ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَيَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَالْمَالُ لَا يُورَثُ وَيَلْزَمُهُ فِي نَحْوِ حَدِيثِ، نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ؛ أَيْ: فِي الْعِلْمِ وَالْمَالِ، وَهُوَ خِلَافُ الْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ، قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُصَحِّحُ كَلَامَ هَذَا الْقَائِلِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا نُورَثُ فِي الْمَالِ بَلْ نُورَثُ فِي الْعِلْمِ لِمَا صَحَّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمُرَادُهُ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مَوْضُوعٌ لِحُكْمِ مَوْرُوثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَالِ وَالْعِلْمِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَإِنَّ إِرْثَ الْمَالِ مَنْفِيٌّ وَإِرْثَ الْعِلْمِ مُتَحَقِّقٌ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَخِي جُوَيْرِيَةَ) بِالتَّصْغِيرِ، وَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (لَهُ) أَيْ: لِعَمْرٍو (صُحْبَةٌ قَالَ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا سِلَاحَهُ) بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: مِمَّا كَانَ يَخْتَصُّ بِلُبْسِهِ مِنْ نَحْوِ سَيْفٍ وَرُمْحٍ وَدِرْعٍ وَمِغْفَرٍ وَحَرْبَةٍ (وَبَغْلَتَهُ) أَيِ: الْبَيْضَاءَ الَّتِي يَخْتَصُّ بِرُكُوبِهَا (وَأَرْضًا) وَهِيَ نِصْفُ أَرْضِ فَدَكٍ وَثُلُثُ أَرْضِ وَادِي الْقُرَى وَسَهْمٌ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَحِصَّةٌ مِنْ أَرْضِ بَنِي النَّضِيرِ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الْكِرْمَانِيِّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَمْ يُضِفْهَا إِلَيْهِ كَالْأَوَّلَيْنِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِهِ دُونَهَا إِذْ نَفْعُهَا كَانَ عَامًّا لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ عِيَالِهِ وَفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ.
(جَعَلَهَا صَدَقَةً) قِيلَ الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ».
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لِلْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ جَعَلَهَا صَدَقَةً بَيْنَ كَوْنِهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ حَالَ حَيَاتِهِ لَا أَنَّهَا صَارَتْ صَدَقَةً بَعْدَ مَمَاتِهِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ خَتْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخِي الْجُوَيْرِيَةِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَلَا شَيْئًا إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً.
قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَيْ تَصَدَّقَ بِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَصَارَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْوَقْفِ، وَقَوْلُهُ: وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً أَيْ: فِي الرِّقِّ.
وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ رَقِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ الْأَخْبَارِ كَانَ إِمَّا مَاتَ وَإِمَّا أَعْتَقَهُ.
قِيلَ: وَلَوْ جُعِلَ الضَّمِيرُ لِلْأَرْضِ وَحْدَهَا لَزِمَ كَوْنُ السِّلَاحِ وَالْبَغْلَةِ مِيرَاثًا وَدُفِعَ بِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا خَلَّفَهُ يَصِيرُ صَدَقَةً بِنَفْسِ الْمَوْتِ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ، نَعَمْ ظَاهِرُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ جَعْلُ الضَّمِيرِ لِلْكُلِّ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْكِرْمَانِيِّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: الْأَرْضُ هِيَ فَدَكٌ سَبَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَجَعَلَهَا صَدَقَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ.
ثُمَّ الْحَصْرُ إِضَافِيٌّ أَوِ ادِّعَائِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِثْلَ الْأَثْوَابِ وَأَمْتِعَةِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا بَيَّنْتُ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَعَلَّ أَمْتِعَةَ الْبَيْتِ كَانَتْ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ابْتِدَاءً أَوْ بِالتَّمْلِيكِ انْتِهَاءً، وَأَمَّا تَعَدُّدُ الثِّيَابِ فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَصْلٌ وَالْقَلِيلُ مِنْهَا لَمْ يُذْكَرْ لِحَقَارَتِهَا أَوْ لِغَايَةِ وُضُوحِهَا إِذْ لَا يَخْلُو إِنْسَانٌ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا عُلِمَ حُكْمُ الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ تَبِعَهَا غَيْرُهَا بِالْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى، لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ أَرْبَابِ السِّيَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ إِبِلًا كَثِيرَةً وَأَنَّهُ كَانَ لَهُ عِشْرُونَ نَاقَةً يَرْعَوْنَهَا حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَيَأْتُونَ بِأَلْبَانِهَا إِلَيْهِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَكَانَ لَهُ سَبْعُ مَعْزٍ يَشْرَبُونَ لَبَنَهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِبِلَ الْكَثِيرَةَ هِيَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَأَنَّ النَّاقَةَ وَالْمَعْزَ كَانَتْ مَنِ الْمَنَائِحِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّرَايِحُ، وَسَيَجِيءُ فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ مَا تَرَكَ دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا فَيَتَعَيَّنُ التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ ذَكَرَ مَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَسَكَتَ عَنْهُ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-) أَيْ: حِينَ بَلَغَهَا عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ (فَقَالَتْ) أَيْ: فَاطِمَةُ لِأَبِي بَكْرٍ (مَنْ يَرِثُكَ) أَيْ: بِحُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَقَالَ: أَهْلِي) أَيْ: زَوْجَتِي (وَوَلَدِي) أَيْ: أَوْلَادِي مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ (فَقَالَتْ: مَا لِي لَا أَرِثُ أَبِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا نُورَثُ) أَيْ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، وَفِي الْمُغْرِبِ كَسْرُ الرَّاءِ خَطَأُ رِوَايَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ رِوَايَةً؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ دِرَايَةً إِذِ الْمَعْنَى لَا نَتْرُكُ مِيرَاثًا لِأَحَدٍ لِمَصِيرِهِ صَدَقَةً حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى فَفِي الصِّحَاحِ وَالْمُغْرِبِ، يُقَالُ: أَوْرَثَهُ مَالًا تَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: أَصْلُ الْمَجْهُولِ لَا يُورَثُ مِنَّا فَحُذِفَ مِنْ وَاسْتَتَرَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْفِعْلِ فَانْقَلَبَ الْفِعْلُ مِنَ الْغَائِبِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} أَيْ: تَرْتَعُ إِبِلُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا أَبْرَحُ} أَيْ: لَا يَبْرَحُ مَسِيرِي عَلَى وَجْهٍ فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ انْقَلَبَ الْفِعْلُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَهُوَ وَجْهٌ لَطِيفٌ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا عَلَى مَا جَعَلَهُ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَلَا حَذْفَ، وَلَا تَحْوِيلَ، فَفِي التَّاجِ لِلْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ وَبِمِنْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَيُقَالُ: وَرَّثَ أَبَاهُ مَالًا فَالْأَبُ وَالْمَالُ كِلَاهُمَا مَوْرُوثٌ وَقَوْلُ فَاطِمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرِثُكَ وَمَا لِيَ لَا أَرِثُ أَبِي مُوَافِقٌ لَهُ وَكَذَا قَوْلُهُ (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) وَلِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ لَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ.
وَأَمَّا مَا حُكِيَ فِي تَفْسِيرِ يَرِثُنِي وَيَرِثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ يَرِثُ مَالِي.
فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ لَا نُورَثُ خَاصٌّ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ لِقَوْلِهِ: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ»، فَالْمُرَادُ بِالْإِرْثِ الثَّابِتِ وِرَاثَةُ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَبِالنَّفْيِ إِرْثُ الْمَالِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ يَرِثُنِي الْمَالُ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِأَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِهِ أَخْذُ الْمَالِ فِي الْحَيَاةِ كَمَا ارْتُكِبَ الْمَجَازُ فِي حَدِيثِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا يُوَرِّثُونَ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْعِلْمِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالَاتِ، وَحَاصِلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّا لَا نُورَثُ وَأَنَّ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَامَّةٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْوَرَثَةِ (وَلَكِنِّي أَعُولُ) أَيْ: أُنْفِقُ (عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُولُهُ وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ كَمَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ لِمَا فِي الصِّحَاحِ عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ يَعُولُهُمْ قَاتَهُمْ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَخُصَّ قَوْلَهُ أَعُولُ بِأَهْلِ دَاخِلِ بَيْتِهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ لَفْظُ الْعِيَالِ وَيُرَادُ بِقَوْلِهِ أُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَيْتِهِ فَانْدَفَعَ مَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ أَرَادَ دُخُولَ فَاطِمَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ أَوْلَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَبُّهُنَّ إِلَيْهِ انْتَهَى.، وَفِيهِ نَظَرٌ وَاضِحٌ إِذِ الْمَدَارُ هُنَا لَيْسَ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ بَلْ عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ نَفَقَةَ فَاطِمَةَ إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لَا عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى، وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ بَلْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ الْإِرْثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ لَا يَتَمَنَّى بَعْضُ الْوَرَثَةِ مَوْتَهُ فَيَهْلِكَ وَأَنْ لَا يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ رَاغِبُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَجْمَعُونَ الْمَالَ لِوَرَثَتِهِمْ وَأَنْ لَا يَرْغَبَ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا كَذَلِكَ وَلِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّ فَقْرَ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُنِ اخْتِيَارِيًّا، وَأَمَّا مَا قِيلَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا مِلْكَ لَهُمْ فَضَعِيفٌ، هُوَ بِإِشَارَاتِ الْقَوْمِ أَشْبَهُ، وَلِذَا قِيلَ الصُّوفِيُّ لَا يَمْلِكُ، وَلَا يَمْلِكُ هَذَا وَكَأَنَّ فَاطِمَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- اعْتَقَدَتْ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ: «لَا نُورَثُ» وَرَأَتْ أَنَّ مَنَافِعَ مَا خَلَّفَهُ مِنْ أَرْضٍ وَغَيْرِهَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يُورَثَ عَنْهُ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ كَلَامِهَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بَلْ أَرَادَتْ أَنَّ حُكْمَ الْأَنْبِيَاءِ كَحُكْمِ غَيْرِهِمْ فِي عُمُومِ الْإِرْثِ لِإِطْلَاقِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَأَجَابَ الصِّدِّيقُ بِأَنَّ حُكْمَ الْأَنْبِيَاءِ خُصَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَقْطُوعٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصِّدِّيقِ وَكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ فَهُوَ مَشْهُورٌ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ الْكِتَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَسَيَأْتِي أَنَّ جَمْعًا كَثِيرًا رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ وَصَلَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّحَابَةِ، وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا مِنْ جُمْلَةِ الْآحَادِ الْمُفِيدَةِ لِلظَّنِّ وَأَيْضًا قَرَّرَ الصِّدِّيقُ رُجُوعَ الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الْمُخَلَّفَاتِ إِلَى وَرَثَتِهِ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ بَعْدَ مَمَاتِهِ عَلَى مَنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ فَالِاسْتِدْرَاكُ لِدَفْعِ التَّوَهُّمِ النَّاشِئِ مِنَ النَّفْيِ الْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نُورَثُ» أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ حَالُ مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَهَلْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُخَلَّفَاتِ أَمْ لَا، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ التَّحْقِيقِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ الْعَنْبَرِيُّ أَبُو غَسَّانَ) بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ مُهْمَلَةٍ مَمْنُوعًا (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) بِضَمِّ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ (عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى مَا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ فَيْرُوزَ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي الْمُغْنِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَاسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ عِمْرَانَ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ ابْنُ فَيْرُوزَ عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَنْسُوبٍ إِلَى الْبَحْتَرِ، وَهُوَ حُسْنُ الْمَشْيِ وَقَعَ سَهْوًا مَعَ أَنَّ ضَبْطَهُ مُنَاقِضٌ لِآخِرِ كَلَامِهِ فَإِنَّ الْبَخْتَرَةَ وَالتَّبَخْتُرَ بِالْمُعْجَمَةِ مِشْيَةٌ حَسَنَةٌ وَالْبَخْتَرِيُّ الْمُخْتَالُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (أَنَّ الْعَبَّاسَ وَعَلِيًّا جَاءَا إِلَى عُمَرَ) أَيْ: أَيَّامَ خِلَافَتِهِ (يَخْتَصِمَانِ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْتَ كَذَا أَنْتَ كَذَا) أَيْ: أَنْتَ لَا تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ أَوْ أَنَا أَوْلَى مِنْكَ بِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَخْطَأَ شَارِحٌ فِي حَمْلِ كَلَامِهِمَا عَلَى السَّبِّ وَالشَّتْمِ (فَقَالَ عُمَرُ لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدٍ) أَيْ: مِمَّنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ (نَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ) يُقَالُ: نَشَدْتُ فُلَانًا أَنْشُدُهُ نَشْدًا إِذَا قُلْتَ لَهُ نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَيْ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ كَأَنَّكَ ذَكَّرْتَهُ إِيَّاهُ فَنَشَدَ أَيْ: تَذَكَّرَ- كَذَا فِي الصِّحَاحِ-، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: يُقَالُ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ وَبِاللَّهِ أَيْ: سَأَلْتُكَ وَأَقْسَمْتُ عَلَيْكَ وَتَعْدِيَتُهُ إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ إِمَّا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ دَعَوْتُ كَمَا يُقَالُ: دَعَوْتُ زَيْدًا وَبِزَيْدٍ أَوْ لِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوهُ مَعْنَى ذَكَرْتُ، وَقِيلَ الْمَعْنَى سَأَلْتُكُمْ بِاللَّهِ رَافِعًا نَشِيدَتِي أَيْ: صَوْتِي (أَسَمِعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كُلُّ مَالِ نَبِيٍّ صَدَقَةٌ) أَيْ: وَقْفٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَامَّةً (إِلَّا مَا أَطْعَمَهُ) أَيِ: اللَّهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَوِ النَّبِيُّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ أَيْ: أَنَا لِكَوْنِي الْمُتَصَرِّفَ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ (إِنَّا لَا نُورَثُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّعْلِيلِ، وَقَدْ أَفَادَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا أُطْعِمُهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى الْمُضَارِعِ الْمُتَكَلِّمِ فَعَلَى هَذَا فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ وَالصَّوَابُ أَطْعَمَهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْعَيْنِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَيُبَيِّنُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ كُلُّ مَالِ نَبِيٍّ صَدَقَةٌ إِلَّا مَا أَطْعَمَهُ أَهْلَهُ وَكَسَاهُمْ إِنَّا لَا نُورَثُ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَالَ كُلِّ نَبِيٍّ صَدَقَةٌ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَيْضًا إِلَّا مَا أَطْعَمَهُ أَهْلَهُ وَكَسَاهُمْ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا مَا نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ كَعَامِلِهِ وَزَوْجَاتِهِ فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ وَفَاتِهِ (وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ) أَيْ: طَوِيلَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا جَوَابُهُمْ لِعُمَرَ بِقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ ذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ حَدِيثًا مِنْ رَجُلٍ فَأَعْجَبَنِي فَقُلْتُ لَهُ: اكْتُبْ لِي، فَأَتَى بِهِ مَكْتُوبًا مُزَبَّرًا: دَخَلَ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ عَلَى عُمَرَ وَعِنْدَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَسَعْدٌ وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فَقَالَ عُمَرُ لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعْدٍ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ مَالِ نَبِيٍّ صَدَقَةٌ إِلَّا مَا أَطْعَمَهُ أَهْلَهُ وَكَسَاهُمْ إِنَّا لَا نُورَثُ، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِفَضْلِهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ سَنَتَيْنِ فَكَانَ يَصْنَعُ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: كَانَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ عُمَرُ أَنْ قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثُ صَفَايَا بَنُو النَّضِيرِ وَخَيْبَرُ وَفَدَكٌ، فَأَمَّا بَنُو النَّضِيرِ فَكَانَتْ حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ، وَأَمَّا فَدَكٌ فَكَانَتْ حَبْسًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ فَجَزَّأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ جُزْأَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَجُزْءًا نَفَقَةً فَمَا فَضَلَ عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَعَلَهُ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَلَعَلَّ تَنْكِيرَ نَبِيٍّ أَشَارَ إِلَيْهِ وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: كُلُّ هُنَا إِنَّمَا يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي أَفْرَادِ مَالِ النَّبِيِّ الْوَاحِدِ لَا فِي أَفْرَادِ الْأَنْبِيَاءِ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةَ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ، يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُمُومُ فِي الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا نُورَثُ) أَيْ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ (مَا تَرَكْنَا) مَا مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: كُلُّ مَا تَرَكْنَاهُ (فَهُوَ صَدَقَةٌ) فَهُوَ خَبَرُ مَا وَالْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَا نُورَثُ فَقِيلَ مَا يُفْعَلُ بِتَرِكَتِكُمْ فَأُجِيبَ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَهُوَ صَدَقَةٌ خَبَرُ مَا، وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: «فَهُوَ صَدَقَةٌ» فَوَهْمٌ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ هِيَ الْجَوَابُ لَا مُجَرَّدُ الْخَبَرِ فَتَدَبَّرْ يَظْهَرْ لَكَ الصَّوَابُ.
وَحَاصِلُ الْحَدِيثِ مَا مِيرَاثُنَا إِلَّا وَاقِعٌ وَمُنْحَصِرٌ فِي صَرْفِ أَحْوَالِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ لَا يُورَثُ إِنَّمَا مِيرَاثُهُ فِي فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسَاكِينِ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ كَانَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَانْتِقَالِ ذَاتِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، قَالَ الْمَالِكِيُّ: مَا فِي تَرَكْنَا مَوْصُولَةٌ مُبْتَدَأٌ وَتَرَكْنَا صِلَتُهُ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ وَصَدَقَةٌ خَبَرٌ.
قُلْتُ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَلَى رَفْعِ صَدَقَةٍ اتِّفَاقًا وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ فَبَطَلَ قَوْلُ الشِّيعَةِ أَنَّ مَا نَافِيَةٌ وَصَدَقَةً مَفْعُولُ تَرَكْنَا فَإِنَّهُ زُورٌ وَبُهْتَانٌ وَمُنَاقَضَةٌ لِصَدْرِ الْكَلَامِ عِيَانٌ، فَلَوْ صَحَّتْ رِوَايَةُ النَّصْبِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى مَعْنًى يُطَابِقُ الرِّوَايَاتِ الصَّرِيحَةَ وَيُوَافِقُ الْمَعَانِيَ الصَّحِيحَةَ بِأَنْ يُقَالَ هِيَ مَفْعُولٌ لِلْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ أَيِ: الَّذِي تَرَكْنَاهُ مَبْذُولٌ صَدَقَةً، وَنَظِيرُهُ مَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) بِالنَّصْبِ فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَقْسِمُ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْفَوْقِيَّةِ مَرْفُوعًا، وَفِي نُسْخَةٍ مَجْزُومًا، وَفِي أُخْرَى لَا يَقْتَسِمُ مِنَ الِافْتِعَالِ بِالْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ وَمَآلُ الْكُلِّ إِلَى وَاحِدٍ وَالنَّفْيُ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ الصَّرِيحِ (وَرَثَتِي) أَيْ: مَنْ هُمُ الْوَرَثَةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ بِالْقُوَّةِ لَكِنْ مَنَعَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» (دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا) وَالتَّقْيِيدُ بِهِمَا بِنَاءً عَلَى الْأَغْلَبِ مِنَ الْمُخَلَّفَاتِ الْكَثِيرَةِ أَوْ لِأَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ فِي الْقِسْمَةِ إِلَيْهِمَا أَوِ الْمَعْنَى مَا يُسَاوِي قِيمَةَ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِمَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَا فَوْقَهُمَا بِذَلِكَ أَوْلَى فَإِنَّهُ يَبْقَى مَفْهُومُ مَا دُونَهُمَا، وَهُوَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ (مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ) وَالْمَئُونَةُ الثِّقَلُ فَعُولَةٌ مِنْ مَأَنْتُ الْقَوْمَ أَيِ احْتَمَلْتُ مَئُونَتَهُمْ، وَفِي الصِّحَاحِ الْمَئُونَةُ تُهْمَزُ، وَلَا تُهْمَزُ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ مَفْعُلَةٌ مِنَ الْأَيْنِ، وَهُوَ التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ، وَقِيلَ هِيَ مَفْعُلَةٌ مِنَ الْأَوْنِ، وَهِيَ الْخُرْجُ وَالْعِدْلُ؛ لِأَنَّهَا تَثْقُلُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَذَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي فَقَالَ الطِّيبِيُّ خَبَرٌ وَلَيْسَ بِنَهْيٍ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي بَعْدَ مَوْتِي دِينَارًا أَيْ: لَسْتُ أُخَلِّفُ بَعْدِي دِينَارًا أَمْلِكُهُ فَيَقْتَسِمُونَ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النَّهْيِ فَهُوَ عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ

أَيْ لَا دِينَارَ هُنَاكَ يُقْتَسَمُ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ النَّهْيَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ وَإِرْثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ وَمَعْنَاهُ لَا يَقْتَسِمُونَ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا وَارِثَ لِي وَلَيْسَ مَعْنَى نَفَقَةِ نِسَائِي إِرْثَهُنَّ مِنْهُ بَلْ لِكَوْنِهِنَّ مَحْبُوسَاتٍ عَنِ الْأَزْوَاجِ بِسَبَبِهِ فَهُنَّ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّاتِ مَا دَامَ حَيَاتَهُنَّ أَوْ لِعِظَمِ حُقُوقِهِنَّ وَقِدَمِ هِجْرَتِهِنَّ وَكَوْنِهِنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَلِذَلِكَ اخْتَصَصْنَ بِمَسَاكِنِهِنَّ وَلَمْ يَرِثْهَا وَرَثَتُهُنَّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَا يَقْتَسِمْ بِإِسْكَانِ الْمِيمِ عَلَى النَّهْيِ وَبِضَمِّهَا عَلَى النَّفْيِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَبِهِ يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى حَتَّى لَا يُعَارِضَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا يُورَثُ عَنْهُ وَتَوْجِيهُ رِوَايَةِ النَّهْيِ أَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ لَا يُخَلِّفُ شَيْئًا بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا فَنَهَاهُمْ عَنْ قِسْمَةِ مَا يُخَلِّفُ إِنِ اتَّفَقَ انْتَهَى، وَقِيلَ لَا عِدَّةَ عَلَى أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ وَكَذَا سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى الْمُعْتَدَّاتِ إِذْ كُنَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْكَحْنَ أَبَدًا فَجَرَتْ لَهُنَّ النَّفَقَةُ وَأَرَادَ بِالْعَامِلِ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ نَفَقَةَ أَهْلِهِ مِنَ الصَّفَايَا الَّتِي كَانَتْ لَهُ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَفَدَكٍ وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ كَذَلِكَ فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى عُثْمَانَ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِمَالِهِ فَأَقْطَعَهَا مَرْوَانَ وَغَيْرَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ فَلَمْ تَزَلْ فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى رَدَّهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ عَامِلِي فَقِيلَ الْخِلَافَةُ بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقِيلَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْعَامِلَ عَلَى النَّخْلِ وَالْقَيِّمَ عَلَى الْأَرْضِ وَبِهِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ بَطَّالٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ بِعَامِلِهِ حَافِرُ قَبْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي الْخَصَائِصِ: الْمُرَادُ بِعَامِلِهِ خَادِمُهُ الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَقِيلَ الْعَامِلُ فِيهَا كَالْأَجِيرِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أُجْرَةِ الْقَسَّامِ انْتَهَى، وَقِيلَ كُلُّ عَامِلٍ لِلْمُسْلِمِينَ إِذْ هُوَ عَامِلٌ لَهُ وَنَائِبٌ فِي أُمَّتِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا بَلْ وَلَا يُتَصَوَّرُ فَتَدَبَّرْ.
(حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلَّالُ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْأُولَى (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ) بِفَتْحَتَيْنِ (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ وَسَعْدٌ وَجَاءَ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ يَخْتَصِمَانِ فَقَالَ لَهُمْ) أَيْ: لِلثَّلَاثَةِ (عُمَرُ أَنْشُدُكُمْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: أَسْأَلُكُمْ أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكُمْ (بِالَّذِي بِإِذْنِهِ) أَيْ: بِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ (تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) أَيْ: تَثْبُتُ، وَلَا تَزُولُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: تَدُومُ (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) بِالرَّفْعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ (فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، وَبِهِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَهُوَ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ: نَعَمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا، وَتَصْدِيرُهُ بِاللَّهُمَّ إِمَّا لِتَأْكِيدِ الْحُكْمِ أَوْ لِلِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَرُّزِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْغَلَطِ وَالْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمِيمَ فِيهِ بَدَلٌ عَنْ حَرْفِ النِّدَاءِ أَوِ الْمَقْصُودُ مِنَ النِّدَاءِ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ التَّضَرُّعُ وَالتَّذَلُّلُ لَا حَقِيقَةَ النِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ حَتَّى يُنَادَى، وَلَا بِغَائِبٍ حُضُورُهُ يُرْتَجَى بَلْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَبِيدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ) بَسَطَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ أَتَيْنَا بِبَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْمِرْقَاةِ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ) عَلَى زِنَةِ فَعْلَلَةَ وَعَاصِمٌ هُوَ الْإِمَامُ الْمُقْرِئُ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَاوِيَاهُ أَبُو بَكْرٍ وَحَفْصٌ (عَنْ زِرٍّ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (ابْنِ حُبَيْشٍ) تَصْغِيرُ حَبَشٍ (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا) أَيْ: مَمْلُوكَيْنِ زَادَ مُسْلِمٌ، وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ عَلَى مَا فِي الْمِشْكَاةِ (قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي أَوْ زِرٌّ الرَّاوِي عَنْ عَائِشَةَ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَ بِهِ مِيرَكُ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِلُ مِنْ دُونِهِ (وَأَشُكُّ) وَفِي نُسْخَةٍ وَالشَّكُّ (فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ) أَيْ: فِي أَنَّ عَائِشَةَ هَلْ ذَكَرَتْهُمَا أَمْ لَا وَإِلَّا فَقَدَ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْ جُوَيْرِيَةَ، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَالْمُرَادُ بِهِمَا مَمْلُوكَانِ إِذْ بَقِيَ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ مِنْ مَوَالِيهِ.

.باب مَا جَاءَ فِي رُؤْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ:

وَفِي نُسْخَةٍ رُؤْيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْمَنَامِ النَّوْمُ وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ الرُّؤْيَةَ وَالرُّؤْيَا مُتَّحِدَتَانِ أَوْ مُخْتَلِفَتَانِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأُولَى أَعَمُّ، وَلِهَذَا قَيَّدَهَا بِالْمَنَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: الرُّؤْيَا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ إِلَّا أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَا كَانَ مِنْهَا فِي الْمَنَامِ دُونَ الْيَقَظَةِ فَلَا جَرَمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِحَرْفِ التَّأْنِيثِ كَمَا قِيلَ فِي الْقُرْبَى وَالْقُرْبَةِ وَجُعِلَ أَلِفُ التَّأْنِيثِ فِيهَا مَكَانَ تَاءِ التَّأْنِيثِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الرُّؤْيَا مَصْدَرٌ كَالْبُشْرَى وَالسُّقْيَا وَالشُّورَى إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا صَارَ اسْمًا لِهَذَا الْمُتَخَيَّلِ فِي الْمَنَامِ جَرَى مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الرُّؤْيَا مَقْصُورَةٌ مَهْمُوزَةٌ، وَيَجُوزُ تَرْكُ هَمْزِهَا تَخْفِيفًا.
قُلْتُ: وَكَذَا الرُّؤْيَةُ وَالْقِرَاءَتَانِ فِي السَّبْعَةِ.
ثُمَّ الرُّؤْيَا عَلَى مَا حَقَّقَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهَا انْطِبَاعُ الصُّورَةِ الْمُنْحَدِرَةِ مِنْ أُفُقِ الْمُتَخَيَّلَةِ إِلَى الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ، وَالصَّادِقَةُ مِنْهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِاتِّصَالِ النَّفْسِ بِالْمَلَكُوتِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ عِنْدَ فَرَاغِهَا عَنْ تَدْبِيرِ الْبَدَنِ أَدْنَى فَرَاغٍ فَتَتَصَوَّرُ بِمَا فِيهَا مِمَّا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْمَعَانِي الْحَاصِلَةِ هُنَاكَ.
ثُمَّ إِنَّ الْمُتَخَيَّلَةَ تُحَاكِيهِ بِصُورَةٍ تُنَاسِبُهُ فَتُرْسِلُهَا إِلَى الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ فَتَصِيرُ مُشَاهَدَةً، ثُمَّ إِنْ كَانَتْ شَدِيدَةَ الْمُنَاسَبَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى بِحَيْثُ لَا يَكُونُ التَّفَاوُتُ إِلَّا بِالْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ اسْتَغْنَتِ الرُّؤْيَا عَنِ التَّعْبِيرِ وَإِلَّا احْتَاجَتْ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ حَقِيقَةَ الرُّؤْيَا خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ النَّائِمِ اعْتِقَادَاتٍ خَلَقَهَا فِي قَلْبِ الْيَقْظَانِ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا يَمْنَعُهُ نَوْمٌ وَلَا يَقَظَةٌ، وَخَلْقُ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ فِي النَّائِمِ عَلَمٌ عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ يَلْحَقُهَا فِي ثَانِي الْحَالِ كَالْغَيْمِ عَلَمًا عَلَى الْمَطَرِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الرُّؤْيَا عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ مَا يُرِيهِ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ عَلَى الرُّؤْيَا فَذَلِكَ حَقٌّ وَمَا يُرِيهِ وَيُمَثِّلُهُ الشَّيْطَانُ وَمَا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، وَقَدْ وُكِّلَ بِالرُّؤْيَا مَلَكٌ يَضْرِبُ مِنَ الْحِكْمَةِ الْأَمْثَالَ وَقَدِ اطَّلَعَ عَلَى قِصَصِ بَنِي آدَمَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَإِذَا نَامَ يُمَثِّلُ لَهُ الْمَلَكُ الْأَشْيَاءَ عَلَى طَرِيقِ الْحِكْمَةِ مَا يَكُونُ لَهُ بِشَارَةً وَنِذَارَةً وَمُعَاتَبَةً كَذَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ أَمَّا الرُّؤْيَا فَخَيَالٌ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِفَقْدِ شَرَائِطِ الْإِدْرَاكِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْأَصْحَابِ إِذْ لَمْ يَشْتَرِطُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْعَادَةِ قَالَ مِيرَكُ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ خِلَافُ مَا فِي الْحَدِيثِ بَلْ وَمَا فِي الْقُرْآنِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ أَوْ كَرَامَةٌ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ أَوْ أَنَّ الرُّؤْيَا الْحِسِّيَّةَ خَيَالٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
قُلْتُ: وَقَدْ حَكَى الْمَازِرِيُّ عَنِ الْبَاقِلَّانِيِّ أَنَّ حَدِيثَ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ مَنْ رَآهُ فَقَدْ أَدْرَكَهُ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَالْعَقْلُ لَا يُخَيِّلُهُ حَتَّى يُضْطَرَّ إِلَى صَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا أَنَّهُ قَدْ يُرَى عَلَى خِلَافِ صِفَتِهِ أَوْ فِي مَكَانَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي صِفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخَيَّلُ لَهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَرَى الظَّانُّ بَعْضَ الْخَيَالَاتِ مَرْئِيًّا لِكَوْنِ مَا يَتَخَيَّلُ مُرْتَبِطًا بِمَا يَرَى فِي مَنَامِهِ فَيَكُونُ ذَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْئِيَّةً وَصِفَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَخَيَّلَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ وَالْإِدْرَاكُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَحْدِيقُ الْأَبْصَارِ، وَلَا قُرْبُ الْمَسَافَةِ، وَلَا كَوْنُ الْمَرْئِيِّ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ، وَلَا ظَاهِرًا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى فَنَاءِ جِسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي بَقَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَيَجِيءُ زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ إِيرَادَ بَابِ الرُّؤْيَةِ فِي آخِرِ الْكِتَابِ بَعْدَ إِتْمَامِ صِفَاتِهِ الظَّاهِرِيَّةِ وَأَخْلَاقِهِ الْمَعْنَوِيَّةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَوَّلًا مُلَاحَظَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَوْصَافِهِ الشَّرِيفَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ لِيَسْهُلَ تَطْبِيقُهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فِي الْمَنَامِ عَلَيْهَا.
قُلْتُ أَوْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى طَلَائِعِ صِفَاتِهِ الصُّورِيَّةِ وَعَلَى بَدَائِعِ نُعُوتِهِ السَّرِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ رُؤْيَتِهِ حَيًّا فِي الْيَقَظَةِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْجَلِيَّةِ بَيَّنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَا الْمَنَامِيَّةِ (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيْ: ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي) أَيْ: حَقًّا أَوْ حَقِيقَةً أَوْ يَقَظَةً وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ كُلِّهِ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بِلَفْظِ مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَرَاءَى بِي.
وَاسْتُشْكِلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ مُتَّحِدَانِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ اتِّحَادَهُمَا دَالٌّ عَلَى التَّنَاهِي فِي الْمُبَالَغَةِ كَمَا يُقَالُ: مَنْ أَدْرَكَ الضَّمَانَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْمَرْعَى أَيْ: أَدْرَكَ مَرْعًى مُتَنَاهِيًا فِي بَابِهِ أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى حَقِيقَتِي عَلَى كَمَالِهَا لَا شُبْهَةَ وَلَا ارْتِيَابَ فِيمَا رَأَى، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَزَادَ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ» وَالْحَقُّ هُنَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي رُؤْيَةَ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَالتَّتْمِيمِ لِلْمَعْنَى وَالتَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ، وَالتَّمَثُّلُ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَبِنَفْسِهِ وَبِاللَّامِ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ خُلَاصَةَ الْجَوَابِ وَالتَّحْقِيقِ فِي تَقْرِيرِ الصَّوَابِ أَنَّ الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَزُولُ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى حَقِيقَةَ صُورَتِي الظَّاهِرَةِ وَسِيرَتِي الْبَاهِرَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَصَوَّرَ بِشَكْلِي الصُّورِيِّ وَإِلَّا فَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ التَّمَثُّلِ الْمَعْنَوِيِّ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا حَفِظَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ الْيَقَظَةِ مِنْ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْهُ وَإِيصَالِ الْوَسْوَسَةِ فَكَذَلِكَ حَفِظَهُ اللَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِصُورَتِهِ وَأَنْ يَتَخَيَّلَ لِلرَّائِي بِمَا لَيْسَ هُوَ فَرُؤْيَةُ الشَّخْصِ فِي الْمَنَامِ إِيَّاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ رُؤْيَتِهِ فِي الْيَقَظَةِ فِي أَنَّهُ رُؤْيَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا رُؤْيَةُ شَخْصٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِصُورَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَشَكَّلَ بِهَا، وَلَا أَنْ يَتَشَكَّلَ بِصُورَتِهِ وَيَتَخَيَّلَ إِلَى الرَّائِي أَنَّهَا صُورَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا احْتِيَاجَ لِمَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ بِأَيِّ صُورَةٍ كَانَتْ أَنْ يُعَبِّرَ هَذَا وَيَظُنَّ أَنَّهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِنْ رَآهُ بِغَيْرِ صُورَتِهِ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ذَكَرَ مِيرَكُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ قُلْنَا هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ تَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ حَالِ الرَّائِينَ لَا إِلَى الْمَرْئِيِّ كَمَا فِي الْمِرْآةِ فَمَنْ رَآهُ مُتَبَسِّمًا مَثَلًا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُؤْيَتُهُ غَضْبَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَمَنْ رَآهُ نَاقِصًا يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِ سُنَّتِهِ فَإِنَّهُ يَرَى النَّاظِرُ الطَّائِرَ مِنْ وَرَاءِ الزُّجَاجِ الْأَخْضَرِ ذَا خُضْرَةٍ وَقِسْ عَلَى هَذَا انْتَهَى.
وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَنِهَايَةِ التَّدْقِيقِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تَرْجِعُ إِلَى مَحَلِّ الْمَرْئِيِّ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ فِي قِطْعَةٍ مِنْ مَسْجِدٍ كَأَنَّهُ مَيِّتٌ فَعَبَّرَهُ بَعْضُ الْعَارِفِينَ بِأَنَّ دُخُولَ تِلْكَ الْبُقْعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ السُّنَّةِ فَفُتِّشَ عَنْهَا فَوُجِدَتْ أَنَّهَا كَانَتْ مَغْصُوبَةً.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ ابْنِ حَصِينٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي) أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ حَقًّا أَوْ فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ رَآنِي أَوْ فَقَدْ رَآنِي وَلَمْ يَرَ غَيْرِي (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَصَوَّرُ) أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَنْ يَظْهَرَ أَوْ يَظْهَرَ بِصُورَتِي (أَوْ قَالَ لَا يَتَشَبَّهُ بِي) وَالشَّكُّ فِي غَيْرِ الْجَارِّ وَالتَّصَوُّرُ وَالتَّشَبُّهُ وَالتَّمَثُّلُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْمَبْنَى هَذَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ «فَقَدْ رَآنِي» فَسَيَرَانِي وَأَنَّهُ أَتَى بِالصِّيغَةِ الْمَاضَوِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ بِقَدِ التَّحْقِيقِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ تَحَقُّقِهِ مَعَ أَنَّ الشَّرْطَ يُحَوِّلُ الْمَاضِيَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَالِ فَيُوَافِقُ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا.
مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ.
فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى بِشَارَةِ الرَّائِي لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحُصُولِ مَوْتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَوُصُولِهِ إِلَى رُؤْيَتِهِ فِي دَارِ الْمَقَامِ وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ بِلَفْظِ فَقَدْ رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ كَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَقِيلَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ يُوَفِّقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِرُؤْيَتِي فِي الْيَقَظَةِ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِعُمُومِ مَنْ فِي الْمَبْنَى عَلَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى قُيُودٍ مِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَمِنْهَا أَنَّ الصَّحَابَةَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْعُمُومِ وَمِنْهَا تَقْيِيدُ رُؤْيَةِ الْيَقَظَةِ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ رُؤْيَتَهُ بِغَيْرِهِ كَلَا رُؤْيَةٍ، سَوَاءٌ فِيهِ الرُّؤْيَا وَالرُّؤْيَةُ، هَذَا وَقَدْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ قَوْلُهُ: «سَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ» يُرِيدُ تَصْدِيقَ تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ وَصِحَّتَهَا وَخُرُوجَهَا عَلَى الْحَقِّ لَا أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أُمَّتِهِ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ إِنْ كَانَ الْمَحْفُوظُ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ فَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ أَوْ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ احْتَمَلَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِأَنَّ مَنْ رَآهُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ نَوْمًا وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ سَيُهَاجِرُ إِلَيْهِ انْتَهَى، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ بُعْدِهِ.
وَقَالَ عِيَاضٌ يَحْتَمِلُ أَنَّ رُؤْيَاهُ نَوْمًا بِصِفَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ مُوجِبَةٌ لِتَكْرِمَةِ الرَّائِي بِرُؤْيَةٍ خَاصَّةٍ فِي الْآخِرَةِ إِمَّا بِقُرْبٍ أَوْ شَفَاعَةٍ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعَاقَبَ بَعْضُ الْمُذْنِبِينَ بِالْحَجْبِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِيَامَةِ مُدَّةً انْتَهَى.
وَهُوَ يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَسَيَرَانِي فِي الْمِرْآةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ كَمَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا رَآهُ نَوْمًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْرَجَتْ لَهُ مِرْآتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى صُورَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَرَ صُورَةَ نَفْسِهِ قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ، وَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ الْمَحَامِلِ أَقُولُ لَوْ صَحَّ فَهُوَ إِمَّا مُعْجِزَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَرَامَةً لِابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أَيْ: ابْنُ سَعِيدٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (حَدَّثَنَا خَلَفٌ) بِفَتْحَتَيْنِ (ابْنُ خَلِيفَةَ) أَيْ: ابْنُ صَاعِدٍ الْأَشْجَعِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو أَحْمَدَ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ وَاسِطٍ، ثُمَّ بَغْدَادَ صَدُوقٌ اخْتَلَطَ فِي الْآخِرِ وَادَّعَى أَنَّهُ رَأَى عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ الصَّحَابِيَّ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَأَحْمَدُ، مِنَ الثَّالِثَةِ مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ عَنِ التَّقْرِيبِ (عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي) قَالَ الْغَزَالِيُّ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «فَقَدْ رَآنِي» رُؤْيَةَ الْجِسْمِ بَلْ رُؤْيَةُ الْمِثَالِ الَّذِي صَارَ آلَةً يَتَأَدَّى بِهَا الْمَعْنَى الَّذِي فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَذَا قَوْلُهُ: «فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ» لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَرَى جِسْمِي وَبَدَنِي قَالَ وَالْآلَةُ إِمَّا حَقِيقِيَّةٌ وَإِمَّا خَيَالِيَّةٌ وَالنَّفْسُ غَيْرُ الْمِثَالِ الْمُتَخَيَّلِ فَالشَّكْلُ الْمَرْئِيُّ لَيْسَ رُوحَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَخْصَهُ بَلْ مِثَالَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ وَكَذَا رُؤْيَتُهُ تَعَالَى نَوْمًا فَإِنَّ ذَاتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الشَّكْلِ وَالصُّورَةِ وَلَكِنْ يَنْتَهِي تَعْرِيفَاتُهُ تَعَالَى إِلَى الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ مِنْ نُورٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ آلَةٌ حَقًّا فِي كَوْنِهِ وَاسِطَةَ مِثَالٍ فِي التَّعْرِيفِ فَقَوْلُ الرَّائِي رَأَيْتُ اللَّهَ نَوْمًا لَا يَعْنِي أَنِّي رَأَيْتُ ذَاتَهُ تَعَالَى كَمَا يَقُولُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَقَالَ أَيْضًا مَنْ رَآهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْمًا لَمْ يُرِدْ رُؤْيَةَ حَقِيقَةِ شَخْصِهِ الْمُودَعِ رَوْضَةَ الْمَدِينَةِ بَلْ مِثَالَهُ، وَهُوَ مِثَالُ رُوحِهِ الْمُقَدَّسَةِ عَنِ الشَّكْلِ وَالصُّورَةِ انْتَهَى.
وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي شَرْحِي الْمِرْقَاةَ لِلْمِشْكَاةِ بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ وَأَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ بِهِ الْقَائِلُ خِلَافًا لِبَعْضِ أَكَابِرِ عُلَمَائِنَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأُمُورِ الْجَلِيَّةِ وَالْخَفِيَّةِ (قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ الْمُصَنِّفُ (وَأَبُو مَالِكٍ هَذَا) أَيِ: الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ (هُوَ سَعْدُ بْنُ طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ، وَطَارِقُ بْنُ أَشْيَمَ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَقَدْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ) أَيْ: غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ فَثَبَتَ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً وَرِوَايَةً وَأَنَّ أَبَا مَالِكٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ بَيْنَ التِّرْمِذِيِّ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ فَكَأَنَّهُ تَبِعَ كَلَامَ الْحَنَفِيِّ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ (وَسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ حُجْرٍ يَقُولُ قَالَ خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا غُلَامٌ صَغِيرٌ) حَيْثُ قَالَ: فَعَلَى هَذَا كُلٌّ مِنْ قُتَيْبَةَ وَعَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ تَبَعُ تَابِعِيٍّ وَهُمَا شَيْخَا الْمُصَنِّفِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَأَكْثَرَ مِنْهُمَا انْتَهَى، وَحَاصِلُهُ أَنَّ بَيْنَ الْمُصَنِّفِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةً، وَهُوَ نَتِيجَةُ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وَأَمَّا قَوْلُ شَارِحٍ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ صَحَابِيٌّ عَلَى قَوْلِ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ فَخَطَأٌ إِذْ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِ صَحَابِيًّا بَلِ الْخِلَافُ فِي رُؤْيَةِ خَلَفٍ إِيَّاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنِي أَبِي) أَيْ: كُلَيْبٌ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُنِي) هَذَا مِنْ قَبِيلِ تَعْدِيَةِ التَّمْثِيلِ بِنَفْسِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا يَتَمَثَّلُ بِي، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِي، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَكَوَّنُنِي أَيْ: لَا يَتَكَوَّنُ كَوْنِي فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَوُصِلَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَلَبَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ وَوُصِلَ الْمُضَافُ بِالْفِعْلِ، وَفِي أُخْرَى لَهُ لَا يَتَرَاءَى بِي بِوَزْنِ يَتَرَامَى أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِي؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ أَمْكَنَهُ فِي التَّصَوُّرِ بِأَيِّ صُورَةٍ أَرَادَ لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنَ التَّصَوُّرِ بِصُورَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جَمَاعَةٌ: وَمَحَلُّ هَذَا أَنَّ رَأْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي قُبِضَ عَلَيْهَا حَتَّى عَدَدَ شَيْبِهِ الشَّرِيفِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ ابْنُ سِيرِينَ فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قُصَّتْ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ قَالَ لِلرَّائِي صِفْ لِي الَّذِي رَأَيْتَهُ فَإِنْ وَصَفَ لَهُ صِفَةً لَمْ يَعْرِفْهَا قَالَ لَمْ تَرَهُ. وَيُؤَيِّدُ هَؤُلَاءِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ نَقْلًا عَنْ عَاصِمٍ (قَالَ أَبِي) أَيْ: كُلَيْبٌ (فَحَدَّثْتُ بِهِ) أَيْ: بِهَذَا الْحَدِيثِ (ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ قَدْ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَدْ (رَأَيْتَهُ) أَيِ: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ (فَذَكَرْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ) أَيْ: فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُهُ يَقَظَةً (فَقُلْتُ شَبَّهْتُهُ) أَيِ: الْمَرْئِيَّ (بِهِ) أَيْ: بِالْحَسَنِ (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ) أَيِ: الْحَسَنُ (كَانَ يُشْبِهُهُ) أَيِ: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ أَيْ شَبَهُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ فِي الْمَقَامِ انْتَهَى.
وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى عَلَى الْأَعْلَامِ فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ يَكُونُ أَقْوَى فِي الْكَلَامِ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ضَمِيرَ إِنَّهُ رَاجِعًا إِلَى الْمَرْئِيِّ الَّذِي رُئِيَ فِي عَالَمِ الْمِثَالِ لَكِنْ يَرُدُّ هَذَا الْخَيَالَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ صَاحِبُ الْمَقَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
وَمِمَّا يُبْطِلُهُ أَيْضًا أَنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ أَيْضًا وَلَفْظُهُ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ صِفْهُ لِي قَالَ فَذَكَرْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَشَبَّهْتُهُ بِهِ فَقَالَ قَدْ رَأَيْتَهُ.
وَقَدْ وَرَدَ مُشَابَهَةُ الْحَسَنِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثَ فَيَكُونُ رُؤْيَا الرَّائِي صَحِيحَةً عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ وَعَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّ الْحَسَنَ أَشْبَهَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ وَالْحُسَيْنَ أَشْبَهَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، هَذَا، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِخَبَرِ مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَإِنِّي أُرَى فِي كُلِّ صُورَةٍ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَصْلُحُ لِمُعَارَضَةِ مَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ يُوَفِّقُهُ عُمُومُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِطْلَاقُ، وَالتَّقْيِيدُ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَصِّصٍ بِالِاتِّفَاقِ، فَمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُحْمَلُ عَلَى الْكَمَالِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا رُئِيَ بِوَصْفِهِ الْمَعْرُوفِ فَقَدْ رَأَى رُؤْيَةً مُحِقَّةً لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا رَآهُ عَلَى خِلَافِ نَعْتِهِ مِنْ كَوْنِهِ صَغِيرًا أَوْ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا أَوْ أَسْوَدَ أَوْ أَخْضَرَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ بِصِفَتِهِ الْمَعْلُومَةِ إِدْرَاكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَبِغَيْرِهَا إِدْرَاكٌ لِلْمِثَالِ فَإِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- لَا تُغَيِّرُهُمُ الْأَرْضُ فَإِدْرَاكُ الذَّاتِ الْكَرِيمَةِ حَقِيقَةٌ وَإِدْرَاكُ الصِّفَاتِ إِدْرَاكٌ لِلْمِثَالِ وَشَذَّ مَنْ قَالَ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ لَا حَقِيقَةَ لِلرُّؤْيَا أَصْلًا وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «فَسَيَرَانِي» سَيَرَى تَفْسِيرَ مَا رَأَى؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَغَيْبٌ، وَقَوْلُهُ: «فَكَأَنَّمَا رَآنِي» أَنَّهُ لَوْ رَآنِي يَقَظَةً لَطَابَقَ مَا رَآهُ نَوْمًا فَيَكُونُ الْأَوَّلُ حَقًّا وَحَقِيقَةً وَالثَّانِي حَقًّا وَتَمْثِيلًا هَذَا كُلُّهُ إِنْ رَآهُ بِصِفَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ وَإِلَّا فَهِيَ أَمْثَالٌ فَإِنْ رَآهُ مُقْبِلًا عَلَيْهِ مَثَلًا فَهُوَ خَيْرٌ لِلرَّائِي وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ رُؤْيَاهُ فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ حُسْنٌ فِي دِينِ الرَّائِي وَمَعَ شَيْنٍ أَوْ نَقْصٍ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ خَلَلٌ فِي دِينِ الرَّائِي؛ لِأَنَّهُ كَالْمِرْآةِ الصَّيْقَلَةِ يَنْطَبِعُ فِيهَا مَا قَابَلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتُهُ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ وَأَكْمَلِهِ وَهَذِهِ هِيَ الْفَائِدَةُ الْكُبْرَى فِي رُؤْيَتِهِ إِذْ بِهَا يُعْرَفُ حَالُ الرَّائِي، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَحْوَالُ الرَّائِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مُخْتَلِفَةٌ إِذْ هِيَ رُؤْيَا بَصِيرَةٍ، وَهِيَ لَا تَسْتَدْعِي حَصْرَ الْمَرْئِيِّ بَلْ يَرَى شَرْقًا وَغَرْبًا وَأَرْضًا وَسَمَاءً كَمَا تَرَى الصُّورَةَ فِي مِرْآةٍ قَابَلْتَهَا، وَلَيْسَ جِرْمُهَا مُنْتَقِلًا لِجِرْمِ الْمِرْآةِ فَاخْتِلَافُ رُؤْيَتِهِ كَأَنْ يَرَاهُ إِنْسَانٌ شَيْخًا وَآخَرُ شَابًّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَاخْتِلَافُ الصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي مَرَايَا مُخْتَلِفَةِ الْأَشْكَالِ وَالْمَقَادِيرِ فَيَكْبُرُ وَيَصْغُرُ وَيَعْوَجُّ وَيَطُولُ فِي الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْمُعْوَجَّةِ وَالطَّوِيلَةِ وَبِهَذَا عُلِمَ جَوَازُ رُؤْيَةِ جَمَاعَةٍ لَهُ فِي آنٍ وَاحِدٍ مِنْ أَقْطَارٍ مُتَبَاعِدَةٍ وَبِأَوْصَافٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَجَابَ عَنْ هَذَا أَيْضًا الزَّرْكَشِيُّ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرَاجٌ وَنُورُ الشَّمْسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِثَالُ نُورِهِ فِي الْعَوَالِمِ كُلِّهَا فَكَمَا أَنَّ الشَّمْسَ يَرَاهَا كُلٌّ مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَذَلِكَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَنَّ الرُّؤْيَا بِعَيْنِ الرَّأْسِ وَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَنَّهَا مُدْرَكَةٌ بِعَيْنٍ فِي الْقَلْبِ وَأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الْمَجَازِ فَبَاطِلٌ عَلَى خِلَافِ الْحَقِيقَةِ وَصَادِرٌ عَنِ الْغُلُوِّ وَالْحَمَاقَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا عَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (وَكَانَ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ) إِشَارَةً إِلَى بَرَكَةِ عِلْمِهِ وَثُبُوتِ حِلْمِهِ فَلِهَذَا رَأَى تِلْكَ الرُّؤْيَةَ الْعَظِيمَةَ (قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ زَمَنَ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-) أَيْ: فِي زَمَانِ وُجُودِهِ (فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِي فَمَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ) وَفِي نُسْخَةٍ فِي الْمَنَامِ (فَقَدْ رَآنِي) أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ كَأَنَّهُ رَآنِي يَقَظَةً (هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّوْمِ) النَّعْتُ وَصْفُ الشَّيْءِ بِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنٍ، وَلَا يُقَالُ فِي الْقَبِيحِ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ مُتَكَلِّفٌ فَيَقُولُ نَعْتُ سُوءٍ، وَالْوَصْفُ يُقَالُ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (قَالَ) أَيِ: الرَّائِي (نَعَمْ أَنْعَتُ لَكَ رَجُلًا) وَفِي نُسْخَةٍ رَجُلٌ أَيْ: هُوَ رَجُلٌ (بَيْنَ رَجُلَيْنِ) أَيْ: كَثِيرُ اللَّحْمِ وَقَلِيلُهُ أَوِ الْبَائِنُ وَالْقَصِيرُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنَّهُ مَائِلٌ إِلَى الطُّولِ وَالظَّرْفُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِقَوْلِهِ (جِسْمُهُ وَلَحْمُهُ) أَوْ هُوَ فَاعِلُ الظَّرْفِ كَذَا حَرَّرَهُ مِيرَكُ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَقَرَّرَهُ وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ رَجُلًا وَكَذَا قَوْلُهُ (أَسْمَرَ إِلَى الْبَيَاضِ) أَيْ: مَائِلٌ إِلَيْهِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ كَمَا سَبَقَ أَنَّ بَيَاضَهُ مُشْرَبٌ بِهَا فَقَطْ وَضُبِطَ أَسْمَرُ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ نَعْتُ رَجُلٍ أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ تَابِعٌ لِرَجُلٍ أَوْ لِكَانَ مُقَدَّرًا وَكَذَا قَوْلُهُ (أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ) أَيْ: خِلْقَةً (حَسَنَ الضَّحِكِ) أَيْ: تَبَسُّمًا (جَمِيلَ دَوَائِرِ الْوَجْهِ) أَيِ: الْحَسَنُ أَطْرَافِهِ وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ دَائِرَةٌ مُبَالَغَةً (قَدْ مَلَأَتْ لِحْيَتُهُ مَا بَيْنَ هَذِهِ) أَيِ: الْأُذُنِ (إِلَى هَذِهِ) أَيِ: الْأُذُنِ الْأُخْرَى إِشَارَةً إِلَى عَرْضِهَا (قَدْ مَلَأَتْ) أَيْ: لِحْيَتُهُ (نَحْرَهُ) أَيْ: عُنُقَهُ إِشَارَةً إِلَى طُولِهَا (قَالَ عَوْفٌ) أَيَّ الرَّاوِي عَنِ الرَّائِي (وَلَا أَدْرِي مَا كَانَ) أَيِ: النَّعْتُ الَّذِي كَانَ (مَعَ هَذَا النَّعْتِ) أَيِ: النَّعْتِ الْمَذْكُورِ مِمَّا ذَكَرَهُ يَزِيدُ فَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ ذَكَرَ نُعُوتًا أُخَرَ وَأَنَّهُ نَسِيَهَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ الْمُعَانِدِ وَالْمُكَابِرِ وَلَوْ كَانَ مِنَ الْأَكَابِرِ، ثُمَّ رَأَيْتُ شَارِحًا صَرَّحَ بِهِ حَيْثُ قَالَ وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ بِأَنْ قَالَ الرَّاوِي شَيْئًا آخَرَ فَنَسِيَهُ عَوْفٌ فَقَالَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَا أَدْرِي مَا كَانَ إِلَخْ لَكِنْ أَبْعَدَ بِنَقْلِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَا بِمَعْنَى مَنْ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ: لَا أَعْلَمُ الَّذِي وَجَدَ مِنْ صِفَاتِهِ فِي الْخَارِجِ مَعَ هَذَا النَّعْتِ هَلْ هُوَ مُطَابِقٌ لَهُ أَوْ لَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ مَنْ أَبْدَى فِيهِ تَرْدِيدَاتٍ لِغَيْرِهِ كُلُّهَا مُتَكَلَّفَةٌ بَلْ أَكْثَرُهَا تَهَافُتٌ انْتَهَى.
وَهُوَ يَعْنِي بِهِ كَلَامَ الْعِصَامِ وَأَنَا مَا رَأَيْتُ شَرْحَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنَّمَا رَأَيْتُ قَوْلَ مِيرَكَ فِي تَحْقِيقِ الْمَرَامِ، وَهُوَ فِي غَايَةٍ مِنَ النِّظَامِ حَيْثُ قَالَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَى هَذَا النَّعْتِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولَةً أَيْ: لَا أَدْرِي الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا النَّعْتِ هَلْ هُوَ تَامٌّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى لَا أَسْمَعُ مِنْ يَزِيدَ مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى هَذَا النَّعْتِ انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ عَوْفًا هُوَ الرَّائِي، وَهُوَ وَهْمٌ فَإِنَّهُ الرَّاوِي (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) أَيْ: لِلرَّائِي (لَوْ رَأَيْتَهُ فِي الْيَقَظَةِ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْعَتَهُ فَوْقَ هَذَا قَالَ أَبُو عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ) كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُلْحَقٌ (وَيَزِيدُ الْفَارِسِيُّ هُوَ يَزِيدُ بْنُ هُرْمُزَ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ مَمْنُوعًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ بَعْضٌ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ هُرْمُزَ مَدَنِيٌّ مِنْ أَوْسَاطِ التَّابِعِينَ، وَيَزِيدَ الْفَارِسِيَّ بَصْرِيٌّ مَقْبُولٌ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ كَمَا يُعْلَمُ مِنَ التَّقْرِيبِ وَتَهْذِيبِ الْكَمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّقْرِيبِ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ هُرْمُزَ الْمَدَنِيَّ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ، وَهُوَ غَيْرُ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ الْبَصْرِيِّ؛ فَإِنَّهُ مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (وَهُوَ) أَيْ: ابْنُ هُرْمُزَ (أَقْدَمُ مِنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ) بِتَخْفِيفِ الْقَافِ، ثُمَّ مُعْجَمَةٍ (وَرَوَى يَزِيدُ الْفَارِسِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَحَادِيثَ) أَيْ: عَدِيدَةً (وَيَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ لَمْ يُدْرِكِ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ أَبَانٍ) بِالصَّرْفِ، وَيَجُوزُ مَنْعُهُ (الرَّقَاشِيُّ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ هُوَ أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِيُّ الْقَاصُّ بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ، زَاهِدٌ ضَعِيفٌ مِنَ الْخَامِسَةِ، مَاتَ قَبْلَ الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، (وَهُوَ) أَيِ: الرَّقَاشِيُّ (يَرْوِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَيَزِيدُ الْفَارِسِيُّ، وَيَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ كِلَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ) أَيْ: فَمَنْ قَالَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ اسْمِهِمَا وَبَلَدِهِمَا فَقَدْ تَوَهَّمَ (وَعَوْفُ بْنُ أَبِي جَمِيلَةَ) أَيِ: الرَّاوِي عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ (هُوَ عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ حَدَّثَنَا، وَهُوَ مُوهَمٌ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِعَوْفٍ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَلَوْ صَحَّ وُجُودُهُ فَالضَّمِيرُ إِلَى الْمُصَنِّفِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ كَوْنُ عَوْفٍ هُوَ الْأَعْرَابِيَّ (سُلَيْمَانُ) بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ (ابْنُ مُسْلِمٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (الْبَلْخِيُّ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ) أَيِ: النَّضْرُ (قَالَ عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ أَنَا أَكْبَرُ مِنْ قَتَادَةَ) أَيْ: سِنًّا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ عَوْفًا هُوَ الْأَعْرَابِيُّ بِدَلِيلِ تَعْبِيرِ النَّضْرِ عَنْهُ بِعَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِشَارِحٍ: عَرَفَهُ مِنْ أَنَّ قَتَادَةَ يَرْوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِذَا كَانَ رَاوِي يَزِيدَ الَّذِي هُوَ عَوْفٌ أَكْبَرَ مِنْ رَاوِي ابْنِ عَبَّاسٍ، لَزِمَ أَنَّ يَزِيدَ أَدْرَكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَصَحَّ مَا قَدَّمَهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ يَزِيدَ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَدْرَكَهُ، وَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ رُؤْيَتُهُ إِلَّا أَنَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِهِ لِذَلِكَ انْتَهَى، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَدْ جَزَمَ بِأَنَّ يَزِيدَ الْفَارِسِيَّ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَحَادِيثَ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمِثَالِ هَذَا الْمَقَالِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالرِّوَايَةِ لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّ إِمْكَانَ رُؤْيَةِ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَا يَسْتَلْزِمُ رُؤْيَتَهُ بِالْفِعْلِ، مَعَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ ذَلِكَ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ) ابْنُ شِهَابٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَابْنُ أَخِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ (عَنْ عَمِّهِ) أَيِ: الزُّهْرِيِّ (قَالَ) أَيْ: عَمُّهُ (قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَآنِي يَعْنِي فِي النَّوْمِ) تَفْسِيرٌ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ (فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ) أَيِ: الرُّؤْيَةَ الْمُتَحَقِّقَةَ الصَّحِيحَةَ، أَيِ: الثَّابِتَةَ، لَا أَضْغَاثَ فِيهَا، وَلَا أَحْلَامَ، ذَكَرَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَقُّ هُنَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي رُؤْيَةَ الْحَقِّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ جَاءَ هَكَذَا فِي رِوَايَةٍ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ فَيَصِيرُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا تَقْدِيرُهُ فَقَدْ رَأَى الرُّؤْيَةَ الْحَقَّ، وَقَالَ مِيرَكُ: قِيلَ الْحَقُّ مَفْعُولٌ بِهِ، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، انْتَهَى.
وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّأَمُّلِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ ضِدَّ الْبَاطِلِ، فَلَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، نَعَمْ يَصِحُّ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: رَأَى مَظْهَرَ الْحَقِّ أَوْ مَظْهَرَهُ أَوْ مَنْ رَآنِي فَسَيَرَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَاهُ يَقَظَةً فِي دَارِ السَّلَامِ، فَلْيَزُمْ مِنْهُ أَنَّهُ يَرَى اللَّهَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَى اللَّهَ فِي الْمَنَامِ; فَإِنَّ رُؤْيَتِي لَهُ مُقَدِّمَةٌ أَوْ مُبَشِّرَةٌ لِذَلِكَ الْمَرَامِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: الْحَقُّ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيِ: الْأَمْرُ الثَّابِتُ الَّذِي هُوَ أَنَا، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: «فَقَدْ رَآنِي»، انْتَهَى.
وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَنْ رَآهُ بِصُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي حَيَاتِهِ كَانَتْ رُؤْيَاهُ حَقًّا، وَمَنْ رَآهُ بِغَيْرِ صُورَتِهِ كَانَتْ رُؤْيَا تَأْوِيلٍ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى صُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَأَجَابَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ بِأَنَّ كَلَامَ الْقَاضِي لَا يُنَافِي ذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَةً فِي الْحَالَيْنِ، لَكِنْ فِي الْأُولَى لَا يَحْتَاجُ تِلْكَ الرُّؤْيَا إِلَى تَعْبِيرٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ كَالْبَاقِلَّانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّهُمْ أَلْزَمُوا مَنْ قَالَ: مَحَلُّ هَذَا أَنَّ الرُّؤْيَا تُوجَدُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ رَآهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ يَكُونُ رُؤْيَاهُ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَرَى نَوْمًا عَلَى حَالَتِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ مُخَالَفَةً لِحَالَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ تَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ مِنَ التَّمْثِيلِ لِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ لِعَارِضِ عُمُومِ قَوْلِهِ: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي» عَلَى مَا سَبَقَ، فَالْأَوْلَى تَنْزِيهُ رُؤْيَاهُ مُطْلَقًا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَوْفَقُ فِي الْحُرْمَةِ، وَأَلْيَقُ بِالْعِصْمَةِ كَمَا عُصِمَ مِنَ الشَّيْطَانِ فِي الْيَقَظَةِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي كُلِّ حَالٍ لَيْسَتْ بَاطِلَةً، وَلَا أَضْغَاثًا، بَلْ هِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ رُئِيَ بِغَيْرِ صِفَتِهِ؛ إِذْ تَصْوِيرُ تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (مُعَلَّى) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَمُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ ابْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي» أَيْ: فِي حَقِيقَةِ الْمَرَامِ «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَخَيَّلُ بِي» أَيْ: فَلَا تَكُونُ رُؤْيَايَ عَنْ أَضْغَاثِ أَحْلَامٍ، حُكِيَ أَنَّ أَبَا جَمْرَةَ وَالْمَازِرِيَّ وَالْيَافِعِيَّ وَغَيْرَهُمْ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّالِحِينَ أَنَّهُمْ رَأَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَظَةً، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ جَمْعٍ أَنَّهُمْ حَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةَ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، وَأَنَّهُمْ رَأَوْهُ نَوْمًا فَرَأَوْهُ يَقَظَةً بَعْدَ ذَلِكَ وَسَأَلُوهُ عَنْ تَشْوِيشِهِمْ فِي الْأَشْيَاءِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوُجُوهِ تَفْرِيجِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ بِلَا زِيَادَةٍ، وَلَا نُقْصَانٍ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا قَالَ: وَمُنْكِرُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَلَا بَحْثَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ بِمَا أَثْبَتَتْهُ السُّنَّةُ، وَإِلَّا فَهَذِهِ مِنْهَا إِذْ يُكْشَفُ لَهُمْ بِخَرْقِ الْعَادَةِ عَنْ أَشْيَاءَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَحُكِيَتْ رُؤْيَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ عَنِ الْأَمَاثِلِ كَالْإِمَامِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ، كَمَا هُوَ فِي عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ، وَالْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ التَّاجُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ، وَكَصَاحِبِهِ الْإِمَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ، وَالْإِمَامِ عَلِيٍّ الْوَفَائِيِّ، وَالْقُطْبِ الْقَسْطَلَانِيِّ، وَالسَّيِّدِ نُورِ الدِّينِ الْإِيجِيِّ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُنْقِذِ مِنَ الضَّلَالِ: وَهُمْ يَعْنِي أَرْبَابَ الْقُلُوبِ فِي يَقَظَتِهِمْ يُشَاهِدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَأَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَسْمَعُونَ مِنْهُمْ أَصْوَاتًا وَيَقْتَبِسُونَ مِنْهُمْ فَوَائِدَ انْتَهَى.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْأَهْدَلُ الْيَمَنِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْقَوْلُ بِذَلِكَ يُدْرَكُ فَسَادُهُ بِأَوَائِلِ الْعُقُولِ؛ لِاسْتِلْزَامِهِ خُرُوجَهُ مِنْ قَبْرِهِ، وَمَشْيَهُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَمُخَاطَبَتَهُ لِلنَّاسِ، وَمُخَاطَبَتَهُمْ لَهُ، وَخُلُوَّ قَبْرِهِ عَنْ جَسَدِهِ الْمُقَدَّسِ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِيهِ شَيْءٌ بِحَيْثُ يُزَارُ مُجَرَّدُ الْقَبْرِ، وَيُسَلَّمُ عَلَى غَائِبٍ، وَأَشَارَ كَذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَائِلِ بِأَنَّ الرَّائِيَ لَهُ فِي الْمَنَامِ رَأَى حَقِيقَةً، ثُمَّ يَرَاهُ كَذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ جَهَالَاتٌ، وَلَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْهَا مَنْ لَهُ أَدْنَى مَسْكَةٍ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَمُلْتَزِمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مُخْبِلٌ مَخْبُولٌ. انْتَهَى.
وَهَذِهِ الْإِلْزَامَاتُ كُلُّهَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِلَازِمٍ لِذَلِكَ، وَدَعْوَى اسْتِلْزَامِهِ لِذَلِكَ عَيْنُ الْجَهْلِ أَوِ الْعِنَادِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَظَةً لَا تَسْتَلْزِمُ خُرُوجَهُ مِنْ قَبْرِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا مَرَّ أَنَّ اللَّهَ يَخْرِقُ لَهُمُ الْحُجُبَ فَلَا مَانِعَ عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا، وَلَا عَادَةً أَنَّ الْوَلِيَّ وَهُوَ بِأَقْصَى الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ يُكْرِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ لَا يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذَّاتِ الشَّرِيفَةِ، وَهِيَ فِي مَحَلِّهَا مِنَ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ سَاتِرًا وَلَا حَاجِبًا بِأَنْ يَجْعَلَ تِلْكَ الْحُجُبَ كَالزُّجَاجِ الَّذِي يَحْكِي مَا وَرَاءَهُ وَحِينَئِذٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ يَقَعُ نَظَرُهُ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ فِي قَبْرِهِ يُصَلِّي، وَإِذَا أُكْرِمَ إِنْسَانٌ بِوُقُوعِ بَصَرِهِ عَلَيْهِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُكَرَّمَ بِمُحَادَثَتِهِ وَمُكَالَمَتِهِ وَسُؤَالِهِ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَأَنَّهُ يُجِيبُهُ عَنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ مُنْكَرٍ شَرْعًا، وَلَا عَقْلًا، وَإِذَا كَانَتِ الْمُقَدِّمَاتُ وَالنَّتِيجَاتُ غَيْرَ مُنْكَرَيْنِ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، فَإِنْكَارُهُمَا أَوْ إِنْكَارُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ، وَلَا مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ غَيْرُ لَازِمٍ أَيْضًا، كَيْفَ، وَقَدْ مَرَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الرُّؤْيَا فِي النَّوْمِ رُؤْيَةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَمِنْهُمْ أَيْضًا صَاحِبُ فَتْحِ الْبَارِي فَقَالَ بَعْدَ مَا مَرَّ عَنِ ابْنِ أَبِي جَمْرَةَ، وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ لَكَانَ هَؤُلَاءِ صَحَابَةً، وَلَأَمْكَنَ بَقَاءُ الصُّحْبَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الصَّحَابِيِّ أَنْ يَكُونَ رَآهُ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى اخْتَلَفُوا فِي مَنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ دَفْنِهِ هَلْ يُسَمَّى صَحَابِيًّا أَمْ لَا؟ عَلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَالْأُمُورُ الَّتِي كَذَلِكَ لَا يُغَيَّرُ لِأَجْلِهَا الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ، وَنُوزِعُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلِأَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَدَّ حُزْنُهَا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ كَمَدًا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَبَيْتُهَا مُجَاوِرٌ لِضَرِيحِهِ الشَّرِيفِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهَا رُؤْيَتُهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ انْتَهَى.
وَيُرَدُّ أَيْضًا بِأَنَّ عَدَمَ نَقْلِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، بَلْ، وَلَا عَدَمَ وُقُوعِهِ عَلَى جَوَازِ تَحَقُّقِهِ فَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَتَأْوِيلُ الْأَهْدَلِ وَغَيْرِهِ مَا وَقَعَ لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَيَظُنُّونَهَا يَقَظَةً، فِيهِ إِسَاءَةُ ظَنٍّ بِهِمْ، حَيْثُ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ رُؤْيَةُ الْغَيْبَةِ بِرُؤْيَةِ الْيَقَظَةِ، وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِأَدْوَنِ الْعُقَلَاءِ، فَكَيْفَ بِأَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ.
قُلْتُ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ إِسَاءَةِ الظَّنِّ، بَلْ مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ الْحَسَنِ جَمْعًا بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمُشَاهَدِ وَالْمَعْقُولِ، فَإِنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكَانَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا سَمِعُوا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَإِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا كَمَا لَا يَجُوزُ بِمَا وَقَعَ فِي حَالِ الْمَنَامِ، وَلَوْ كَانَ الرَّائِي مِنْ أَكَابِرِ الْأَنَامِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَازِرِيُّ بِأَنَّ مَنْ رَآهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ مَنْ يَحْرُمُ قَتْلُهُ كَانَ هَذَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ لَا الْمَرْئِيَّةِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَحْمِلَ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ أَيْضًا عَلَى رُؤْيَةِ عَالَمِ الْمِثَالِ أَوْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ عَنِ الْإِمَامِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ حَمْلِنَا عَلَى عَالَمِ الْمِثَالِ فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ فِي عَالَمِ الدُّنْيَا مَعَ ضِيقِهَا، قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ أَبْدَانٌ مُكْتَسَبَةٌ وَأَجْسَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ، تَتَعَلَّقُ حَقِيقَةُ أَرْوَاحِهِمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبْدَانِ، فَيَظْهَرُ كُلٌّ فِي خِلَافِ آخَرَ مِنَ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ، وَحِينَئِذٍ لَا نَقُولُ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ فِي عَالَمِ الْبَرْزَخِ بِكَوْنِهِ مَحْصُورًا فِي قَبْرِهِ، بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ يَجُولُ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، فَإِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ مَعَ أَنَّ مَرْتَبَتَهُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا كَانَتْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى قِنْدِيلٍ مُعَلَّقَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَفِي مَحَلِّهِ مُحَرَّرٌ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ قُبُورَهُمْ خَالِيَةٌ عَنْ أَجْسَادِهِمْ، وَأَرْوَاحَهُمْ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَجْسَامِهِمْ؛ لِئَلَّا يَسْمَعُوا سَلَامَ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا وَرَدَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُلَبُّونَ وَيَحُجُّونَ، فَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَاتِ، وَأُمَّتُهُ مُكْرَمَةٌ بِحُصُولِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ الْأَهْدَلِ وَغَيْرِهِ فَتَأَمَّلْ.
وَمِنْ جُمْلَةِ تَأْوِيلَاتِهِ فَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ الْعَارِفِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ لَوْ حُجِبَ عَنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا عَدَدْتُ نَفْسِي مُسْلِمًا بِأَنَّ هَذَا فِيهِ تَجَوُّزٌ، أَيْ: لَوْ حُجِبَ عَنِّي حِجَابَ غَفْلَةٍ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يُحْجَبُ عَنِ الرُّوحِ الشَّخْصِيَّةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ أَيْ: عُرْفًا وَعَادَةً، إِذْ لَا يُعْرَفُ اسْتِمْرَارُ خَارِقِ الْعَادَةِ أَصْلًا لَا شَرْعًا، وَلَا عَقْلًا، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ لَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ بِوَجْهٍ أَصْلًا (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَقَالَ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِغْنَاءً عَنِ التَّصْرِيحِ بِمُقْتَضَى التَّوْضِيحِ (وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ) أَيِ: الْكَامِلِ لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ (جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) وَالْمُرَادُ: غَالِبُ رُؤْيَا الصَّالِحِينَ، وَإِلَّا فَقَدَ يَرَى الصَّالِحُ الْأَضْغَاثَ نَادِرًا لِقِلَّةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَرَى غَيْرُ الصَّالِحِ أَيْضًا الرُّؤْيَةَ الْحَسَنَةَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الْأَصْلِ مَوْقُوفٌ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعٌ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ السُّيُوطِيَّ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ، وَهُمْ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَلَفْظُهُ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَرَوَاهُ الْحَكِيمُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ، وَلَفْظُهُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ بِلَفْظِ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، فَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْدَادِ إِنَّمَا هُوَ الْكَثْرَةُ لَا التَّحْدِيدُ بِالْأَجْزَاءِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الرَّائِي أَوِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، وَعَلَى كُلٍّ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ، وَالظَّاهِرُ رَفْعُ الْعَبْدِ، وَلَا يَبْعُدُ نَصْبُهُ، بَلْ هُوَ الْمُلَائِمُ لِمَقَامِ الْمَرَامِ، ثُمَّ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ، وَالنُّبُوَّةُ غَيْرُ بَاقِيَةٍ، وَعَمَلُهَا بَاقٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ؛ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ»، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُبَشِّرَاتِ لِلْغَالِبِ وَإِلَّا فَمِنَ الرُّؤْيَا مَا يَكُونُ مِنَ الْمُنْذِرَاتِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» أَيْ: مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَجِيءُ عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لَا أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنْهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ، أَيْ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ خَصْلَةً، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّوْجِيهَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَوْلُهُ مِنَ الرَّجُلِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لَا مَفْهُومَ لَهُ اتِّفَاقًا، فَالْمَرْأَةُ كَذَلِكَ، فَقِيلَ كَانَ زَمَانُ نُزُولِ الْوَحْيِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ مُؤَيَّدًا بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ الصَّادِقَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَحِينَئِذٍ كَانَتِ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ زَيَّفَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالُوا: مَا حَصَرَ سِنِيِ الْوَحْيِ فَإِنَّهُ مِمَّا وَرَدَ بِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُعْتَدُّ بِهَا عَلَى اخْتِلَافِ ذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُ زَمَانِ الرُّؤْيَا فِيهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَشَيْءٌ قَدَّرَهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُسَاعِدْهُ النَّقْلُ قَالَ التُّورِبِشَتِيُّ: وَأَرَى الذَّاهِبِينَ إِلَى التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَدْ هَالَهُمُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ، وَلَا حَرَجَ عَلَى أَحَدٍ فِي الْأَخْذِ بِظَاهِرِ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ جُزْءَ النُّبُوَّةِ لَا يَكُونُ نُبُوَّةً كَمَا أَنَّ جُزْءًا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الِانْفِرَادِ، لَا يَكُونُ صَلَاةً، وَكَذَلِكَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا وَجْهُ تَحْدِيدِ الْأَجْزَاءِ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ، فَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ أَنْ يُجْتَنَبَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَيُتَلَقَّى بِالتَّسْلِيمِ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّةِ الَّتِي لَا تُقَابَلُ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجَسٍ فِي السَّمْتِ الْحَسَنِ وَالتُّؤَدَةِ وَالِاقْتِصَادِ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَلَّمَا يُصِيبُ مُئَوِّلٌ فِي حَصْرِ الْأَجْزَاءِ، وَلَئِنْ قُيِّضَ لَهُ الْإِصَابَةُ فِي بَعْضِهَا لِمَا يَشْهَدُ بِهِ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْهَا لَمْ يُسَلَّمْ لَكَ فِي الْبَقِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ لَمَّا سُئِلَ أَيُعَبِّرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟ فَقَالَ أَبِالنُّبُوَّةِ تَلْعَبُ، ثُمَّ قَالَ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهَا نُبُوَّةٌ بَاقِيَةٌ، بَلْ أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتْهَا مِنْ جِهَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ الْغُيُوبِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَلِذَلِكَ الشَّبَهِ سُمِّيَتْ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْجُزْءِ لِشَيْءٍ إِثْبَاتُ الْكُلِّ لَهُ، كَمَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إِذَا ابْتُلِيتَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْخِطَابُ عَامٌّ أَيِ امْتُحِنْتَ (بِالْقَضَاءِ) أَوْ تَعَيَّنْتَ لَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحُكُومَةَ وَالْقَضَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَلِهَذَا اجْتَنَبَ عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْأَتْقِيَاءِ (فَعَلَيْكَ بِالْأَثَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: بِاتِّبَاعِ أَثَرِهِ، وَاقْتِفَاءِ أَخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا بِاقْتِدَاءِ الْأَخْبَارِ مِنَ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِهِ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ»، فَعَلَيْكَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْزَمْهُ وَيُزَادُ الْبَاءُ فِي مَعْمُولِهِ كَثِيرًا لِضَعْفِهِ فِي الْعَمَلِ، قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَثَرُ بِالتَّحْرِيكِ مِنْ رَسْمِ الشَّيْءِ، وَسُنَنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آثَارُهُ انْتَهَى.
وَلَمَّا كَانَ الْقَضَاءُ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ نَاسَبَ وَصِيَّةَ الْقَاضِي بِاتِّبَاعِ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ إِيرَادَ هَذَا الْأَثَرِ، وَمَا فِي أَثَرِهِ مِنَ الْخَبَرِ الْآتِي فِي آخِرِ الْكِتَابِ مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِعُنْوَانِ الْبَابِ لِلِاهْتِمَامِ لِشَأْنِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالْأَخْذِ مِنَ الثِّقَاتِ فِي بَابِ الرِّوَايَاتِ، وَلِلنَّصِيحَةِ فِي التَّوْصِيَةِ كَابْتِدَاءِ أَكْثَرِ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِخَبَرِ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِلْحَدِيثِ الْآتِي مُنَاسَبَةٌ خَفِيَّةٌ لِلرُّؤْيَةِ؛ وَهِيَ أَنَّهُ وَرَدَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أَعْتَبِرُ الْحَدِيثَ، وَمُرَادُهُ كَمَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا عَلَى الْحَدِيثِ وَيَجْعَلُ لَهُ اعْتِبَارًا كَمَا يُعْتَبَرُ الْقُرْآنُ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا مِثْلَ أَنْ يُعَبِّرَ الْغُرَابَ بِالرَّجُلِ الْفَاسِقِ وَالضِّلْعَ بِالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الْغُرَابَ فَاسِقًا، وَجَعَلَ الْمَرْأَةَ كَالضِّلْعِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ) وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِمَا سَبَقَ (قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ) أَيْ: هَذَا التَّحْدِيثُ، أَوْ عِلْمُ الْحَدِيثِ، أَوْ جِنْسُ الْحَدِيثِ (دِينٌ) أَيْ: مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُتَدَيَّنَ بِهِ، وَيُعْتَقَدَ، أَوْ يُعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ (فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ إِلَخْ.
كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، قُلْتُ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّيْلَمِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، وَلَفْظُهُ الْعِلْمُ دِينٌ وَالصَّلَاةُ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ هَذَا الْعِلْمَ، وَكَيْفَ تُصَلُّونَ هَذِهِ الصَّلَاةَ، فَإِنَّكُمْ تُسْأَلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّعْرِيفُ فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَعْلِيمِ الْخَلْقِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا أُصُولُ الدِّينِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْعُدُولُ الثِّقَاتُ الْمُتْقِنُونَ، وَعَنْ صِلَةٍ تَأْخُذُونَ عَلَى تَضْمِينِ مَعْنَى تَرْوُونَ، وَدُخُولُ الْجَارِّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ كَدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ: {عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} وَتَقْدِيرُهُ تَأْخُذُونَ عَمَّنْ، وَضُمِّنَ انْظُرُوا مَعْنَى الْعِلْمِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ تَعْلِيقًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ تَحْقِيقًا، وَبِعَوْنِهِ يُوجِدُ الْعِلْمَ لِغَيْرِهِ تَوْفِيقًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى صَاحِبِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَقَدْ فَرَغَ مُؤَلِّفُهُ عَنْ تَسْوِيدِهِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ مُنْتَصَفَ شَعْبَانَ الْمُعَظَّمِ فِي الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ الْمُكَرَّمِ، عَامَ ثَمَانٍ بَعْدَ الْأَلْفِ الْمُفَخَّمِ، وَأَنَا أَفْقَرُ عِبَادِ اللَّهِ الْغَنِيِّ، خَادِمُ الْكِتَابِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، عَلِيُّ بْنُ سُلْطَانٍ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، عَامَلَهُمَا اللَّهُ بِلُطْفِهِ الْخَفِيِّ، وَكَرَمِهِ الْوَفِيِّ آمِينَ.
الْحَمْدُ لِوَلِيِّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ، وَبَعْدُ: فَقَدْ تَمَّ بِعَوْنِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ طَبْعَ كِتَابِ (جَمْعِ الْوَسَائِلِ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ) لِلْإِمَامِ الْجَلِيلِ خَاتِمَةِ الْمُحَقِّقِينَ عَلِيِّ بْنِ سُلْطَانٍ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيِّ الْمَشْهُورِ بِمُلَّا عَلِيٍّ الْقَارِئِ مُطَرَّزِ الْحَوَاشِي بِشَرْحِ الْإِمَامِ الْمُحَدِّثِ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّءُوفِ الْمُنَاوِيِّ الْمِصْرِيِّ، عَلَى مَتْنِ الشَّمَائِلِ أَيْضًا لِعَلَمِ الرِّوَايَةِ، عَالِمِ الدِّرَايَةِ الْإِمَامِ التِّرْمِذِيِّ، رَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ، وَأَنْزَلَهُمْ مِنْ مَنَازِلِ فَضْلِهِ الْعَمِيمِ الْمَكَانَ الرَّفِيعَ، عَلَى ذِمَّةِ مُلْتَزِمِي طَبْعَهِ السَّادَاتِ الْمُوَقَّرِينَ (أَحْمَدَ نَاجِي الْجَمَالِيِّ، وَمُحَمَّد زَاهِد، وَمُحَمَّد أَمِين الْخَانْجِيِّ وَأَخِيهِ) وَذَلِكَ بِالْمَطْبَعَةِ الْأَدَبِيَّةِ الْكَائِنَةِ بِسُوقِ الْخُضَارِ الْقَدِيمِ بِمَحْرُوسَةِ مِصْرَ، فِي سَنَةِ ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشْرَ بَعْدَ الْأَلْفِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى التَّحِيَّةِ وَشَرُفَ وَكَرُمَ وَعَظُمَ.