فصل: باب مَا جَاءَ فِي تُكَأَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جمع الوسائل في شرح الشمائل



.باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ إِزَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

الْإِزَارُ بِالْكَسْرِ الْمِلْحَفَةُ، وَيُؤَنَّثُ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَسْتُرُ أَسْفَلَ الْبَدَنِ، وَيُقَابِلُهُ الرِّدَاءُ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ أَعْلَى الْبَدَنِ، وَلَعَلَّ حَذْفَهُ فِي الْعُنْوَانِ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أَيْ: وَالْبَرْدَ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْوَفَاءِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ طُولُ رِدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَذْرُعٍ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعَيْنِ وَنِصْفًا، وَنَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ رِدَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدٌ طُولُهُ سِتَّةُ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَشِبْرٍ، وَإِزَارُهُ مِنْ نَسْجِ عُمَانَ طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَشِبْرٌ فِي ذِرَاعَيْنِ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ) أَيِ: السِّخْتِيَانِيُّ (عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ) رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) قِيلَ: اسْمُهُ عَامِرٌ وَهُوَ تَابِعِيٌّ كُوفِيٌّ، كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ بَعْدَ شُرَيْحٍ، فَعَزَلَهُ الْحَجَّاجُ وَهُوَ جَدُّ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ الْإِمَامِ فِي الْكَلَامِ، وَفِي أَصْلِ الْعِصَامِ عَنْ أَبِيهِ أَيْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ، قَالَ: وَفِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ لَيْسَ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ وَبِذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْحَدِيثُ مُرْسَلًا لِأَنَّ أَبَا بُرْدَةَ كَمَا أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي أَصْلِنَا الْمُقَابَلِ بِأَصْلِ السَّيِّدِ مِيرَكْ شَاهْ وَغَيْرِهِ، وَكَذَا فِي سَائِرِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، مَعَ أَنَّ وُجُودَهُ لَوْ صَحَّ لَوَجَبَ أَنْ يَصِيرَ الْحَدِيثُ مُنْقَطِعًا إِلَّا إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَائِشَةَ أَيْضًا، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ رِوَايَتِهِ عَنْهَا لَا يَجْعَلُ الْحَدِيثَ مُتَّصِلًا، كَمَا حُقِّقَ فِي الْأُصُولِ (قَالَ) أَيْ أَبُو بُرْدَةَ (أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ) أَيْ إِمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِأَمْرِهَا (كِسَاءً) بِكَسْرِ الْكَافِ ثَوْبٌ مَعْرُوفٌ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا رِدَاءٌ (مُلَبَّدًا) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ مُرَقَّعًا، يُقَالُ: لَبَّدْتُ الثَّوْبَ إِذَا رَقَعْتَهُ وَقِيلَ: التَّلْبِيدُ جَعْلُ بَعْضِهِ مُلْتَزِقًا بِبَعْضٍ كَأَنَّهُ زَالَ وَطَاءَتُهُ وَلِينُهُ، لِتَرَاكُمِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ؛ وَلِذَا قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَعْنَاهُ أَيْ مُرَقَّعًا صَارَ كَاللُّبْدِ وَاسْتَبْعَدَهُ الْعِصَامُ، وَقَالَ: إِنَّهُ أَبْعَدُ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ أَقْرَبُ، فَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: الْمُلَبَّدُ الْمُرَقَّعُ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي ثَخُنَ وَسَطُهُ حَتَّى صَارَ كَاللُّبَدِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَالَ ثَعْلَبٌ: يُقَالُ لِلرُّقْعَةِ الَّتِي يُرَقَّعُ بِهَا الْقَمِيصُ لُبْدَةٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ حَتَّى يَتَرَاكَبَ وَيَجْتَمِعَ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّبَدِ هُنَا الَّذِي ثَخُنَ وَسَطُهُ، وَصُفِقَ لِكَوْنِهِ كِسَاءً، لَمْ يَكُنْ قَمِيصًا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكْ شَاهْ (وَإِزَارًا غَلِيظًا) أَيْ خَشِنًا (فَقَالَتْ) أَيْ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ هَذَا اللُّبْسَ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُوَسِّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِفَتْحِهِ وَنَصْرِهِ (قُبِضَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْقَابِضُ مَعْلُومٌ أَيْ أُخِذَ (رُوحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَيْنِ) أَيْ تَوَاضُعًا وَانْكِسَارًا وَعُبُودِيَّةً وَافْتِقَارًا، وَإِجَابَةً لِدُعَائِهِ مِرَارًا اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ «إِزَارًا غَلِيظًا»، مِمَّا يُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَكِسَاءً مِنْ هَذِهِ الَّتِي تَدْعُونَهُ الْمُلَبَّدَةَ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفِيدُ مَعْنًى ثَالِثًا لِـ «مُلَبَّدًا»، وَهُوَ أَنَّهُ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لِكِسَاءٍ، وَأَنَّ التَّلْبِيدَ فِي أَصْلِ النَّسْجِ دُونَ التَّرْقِيعِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَأَمْثَالُهُ يُبَيِّنُ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الزَّهَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَعْرَاضِهَا وَشَهَوَاتِهَا، حَيْثُ اخْتَارَ لُبْسَهُمَا، وَاجْتَزَأَ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ أَدْنَى الْكِفَايَةِ بِهِمَا، انْتَهَى.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ غَنِيًّا فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَنِهَايَةِ أَمْرِهِ، نَعَمْ. ظَهَرَ لَهُ الْمُلْكُ وَالْغِنَى، وَلَكِنِ اخْتَارَ الْفَقْرَ وَالْفَنَاءَ؛ لِيَكُونَ مُتَّبِعًا لِجُمْهُورِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُتَّبِعًا لِخُلَاصَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَصْفِيَاءِ.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ: سَمِعْتُ عَمَّتِي) اسْمُهَا رُهْمٌ بِضَمِّ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْهَاءِ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ خَالِدٍ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَقِيلَ: بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَنْظَلَةَ (تُحَدِّثُ عَنْ عَمِّهَا) أَيْ عَمِّ عَمَّةِ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ، اسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْمُحَارِبِيُّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، وَأَمَّا مَا قَالَ الْعِصَامُ أَنَّ الْأَصَحَّ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ عَمِّ أَبِيهَا، أَيْ عَمِّ ابْنِ حَنْظَلَةَ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِي أَصْلِنَا، وَلَا فِي النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ أَصْلًا، نَعَمْ.
ذَكَرَ مِيرَكْ شَاهْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي كِتَابِ تَهْذِيبِ الْكَمَالِ عَنْ عَمِّ أَبِيهِ وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ إِلَى الْأَشْعَثِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَمَّ عَمَّةِ الشَّخْصِ هُوَ عَمُّ أَبِيهِ (قَالَ بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي) أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ (بِالْمَدِينَةِ) أَيْ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفِي نُسْخَةٍ: بَيْنَا بِحَذْفِ الْمِيمِ، وَأَصْلُهُ بَيْنَ وَهُوَ الْوَسَطُ، وَقَدْ تُشْبَعُ فَتْحَتُهَا فَتَتَوَلَّدُ أَلِفًا، وَقَدْ تُزَادُ فِيهَا مِيمٌ، وَهُمَا مُضَافَانِ إِلَى مَا بَعْدَهُمَا، وَقِيلَ: مَا وَالْأَلِفُ عِوَضَانِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْمَحْذُوفِ وَفِي الْمُغْرِبِ بَيْنَ مِنَ الظُّرُوفِ اللَّازِمَةِ، وَلَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} وَقَدْ يُحْذَفُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ، وَيُعَوَّضُ عَنْهُ مَا أَوِ الْأَلِفُ، وَفِي النِّهَايَةِ هُمَا ظَرْفَا زَمَانٍ بِمَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ، وَيُضَافَانِ إِلَى الْجُمْلَةِ مِنْ فِعْلٍ وَفَاعِلٍ أَوْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَيَحْتَاجَانِ إِلَى جَوَابٍ يَتِمُّ بِهِ الْمَعْنَى، وَالْأَفْصَحُ فِي جَوَابِهِمَا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ إِذْ، وَإِذَا. وَقَدْ جَلَا فِي الْجَوَابِ كَثِيرًا، يُقَالُ: بَيْنَا زَيْدٌ جَالِسٌ دَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرٌو، وَإِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ (إِذَا) بِالْأَلِفِ لِلْمُفَاجَأَةِ (إِنْسَانٌ خَلْفِي) قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} الْعَامِلُ فِي إِذَا مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ، تَقْدِيرُهُ وَقْتَ ذِكْرِ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فَاجَئُوا وَقْتَ الِاسْتِبْشَارِ، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَقْتَ مَشْيِي بِالْمَدِينَةِ، فَاجَأْتُ قَوْلَ إِنْسَانٍ خَلْفِي، فَحِينَئِذٍ بَيْنَمَا ظَرْفٌ لِهَذَا الْمُقَدَّرِ، وَإِذَا مَفْعُولٌ بِمَعْنَى الْوَقْتِ، فَلَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ مَعْمُولِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ، كَذَا حَقَّقَهُ الْحَنَفِيُّ (يَقُولُ) أَيْ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ بَلْ عَيْنُ الْأَعْيَانِ وَإِنْسَانُ الْعَيْنِ عَيْنُ الْإِنْسَانِ، حِينَ رَآنِي مُسْبِلًا إِزَارِي، وَغَافِلًا عَنْ حُسْنِ شِعَارِي، ثُمَّ قَوْلُهُ يَقُولُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الْمَوْصُوفِ، وَالْمَقُولُ قَوْلُهُ: (ارْفَعْ إِزَارَكَ) أَيْ عَنِ الْأَرْضِ (فَإِنَّهُ) أَيِ: الرَّفْعَ (أَتْقَى) مِنَ التَّقْوَى أَيْ أَقْرَبُ إِلَيْهَا وَأَدَلُّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ غَالِبًا عَلَى انْتِفَاءِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالتَّاءُ مُبْدَلَةٌ عَنِ الْوَاوِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا مِنَ الْوِقَايَةِ، فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ تَوَهَّمُوا أَنَّ التَّاءَ مِنْ أَصْلِ الْحُرُوفِ، فَقَالُوا: تَقَى يَتَّقِي مِثْلَ رَمَى يَرْمِي، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنْقَى بِالنُّونِ مِنَ النَّقَاءِ، أَيْ أَنْظَفُ مِنَ الْوَسَخِ (وَأَبْقَى) بِالْمُوَحَّدَةِ أَيْ أَكْثَرُ دَوَامًا لِلثَّوْبِ، فَعَلَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ بِالْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ أَوِ الْقَالَبِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ بِالذَّاتِ، وَثَانِيًا بِالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِنَّهَا التَّابِعَةُ لِلْأُخْرَى، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَصَالِحَ الْأُخْرَوِيَّةَ لَا تَخْلُو عَنِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَأَنْقَى مِنَ الدَّنَسِ وَفِي نُسْخَةٍ أَبْقَى، أَيْ أَكْثَرُ بَقَاءً فَغَيْرُ مُوَافِقٍ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ؛ مَعَ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ تَقْتَضِيهَا بَلِ النَّقَاوَةُ هِيَ عَيْنُ التَّقْوَى أَوْ بَعْضُهَا فِي الْمَعْنَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اخْتِلَافَ النُّسَخِ فِي أَتْقَى لَا فِي أَبْقَى بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ بِتَعَدُّدِ النُّقْطَةِ الْفَوْقِيَّةِ، أَوْ بِوَحْدَتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْأَخِيرَ التَّصْحِيفُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ وَجْهُ الْمُعَوَّلِ (فَالْتَفَتُّ) كَذَا بِخَطِّ مِيرَكَ فِي الْهَامِشِ وَاقِعًا عَلَيْهِ عَلَامَةُ نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، أَيْ نَظَرْتُ إِلَى وَرَائِي (فَإِذَا هُوَ) أَيِ الْإِنْسَانُ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فَاعْتَذَرْتُ عَنْ فِعْلِي (فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا هِيَ) أَيِ الْإِزَارُ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (بُرْدَةٌ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ كِسَاءٌ يَلْبَسُهُ الْأَعْرَابُ (مَلْحَاءُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ تَأْنِيثُ أَمْلَحَ، وَالْمُلْحَةُ بِالضَّمِّ بَيَاضٌ يُخَالِطُهُ سَوَادٌ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَقِيلَ: الْمَلْحَاءُ الَّتِي فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَيَاضٍ، وَقِيلَ: مَا فِيهِ الْبَيَاضُ أَغْلَبُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مُلْحَاءُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ فَهُوَ سَهْوُ قَلَمِهِ، وَكَأَنَّ الصَّحَابِيَّ أَرَادَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ لَا خُيَلَاءَ فِيهَا، وَأَنَّ أَمْرَ بَقَائِهَا وَنَقَائِهَا سَهْلٌ لَا كُلْفَةَ مَعَهُمَا، فَأَجَابَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَبِ الْإِقْتِدَاءِ بِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى كَمَالِ الْحِكَمِ الشَّامِلَةِ لِعُمُومِ الْأُمَمِ بِسَبَبِهِ، وَحِينَئِذٍ (قَالَ أَمَا لَكَ) بِاسْتِفْهَامٍ إِنْكَارِيٍّ وَمَا نَافِيَةٌ (فِيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ أَلَيْسَ لَكَ فِي فِعْلِي الْمُحْتَوِي عَلَى قَوْلِي وَحَالِي (أُسْوَةٌ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ قُدْوَةٌ وَمُتَابَعَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ أَيْ فِي قَوْلِي فَلَا يُلَائِمُهُ، قَوْلُهُ: (فَنَظَرْتُ) أَيْ إِلَى لُبَاسِهِ (فَإِذَا إِزَارُهُ) بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ (إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْكَامِلِ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ؛ لِيَكْمُلَ هَذَا، وَقَدْ أَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، حَيْثُ قَالَ: كَانَ الصَّحَابِيُّ تَوَهَّمَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْفَعْ إِزَارَكَ، الْأَمْرَ بِالْقَطْعِ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهَا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ لَا يُنَاسِبُ قَطْعُهَا، انْتَهَى.
وَهُوَ خَطَأٌ فَاحِشٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، أَمَّا لَفْظًا فَإِنَّ إِرَادَةَ الْقَطْعِ مِنَ الرَّفْعِ لَا تُتَصَوَّرُ مِنْ عَجَمِيٍّ فَكَيْفَ تَجُوزُ مِنْ صَحَابِيٍّ عَرَبِيٍّ، وَأَمَّا مَعْنًى، فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ اعْتِذَارُهُ اعْتِرَاضًا مَعَ أَنَّ الْبُرْدَةَ الْمَلْحَاءَ مِمَّا يَلْبَسُهُ سُكَّانُ الْبَادِيَةِ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ قَوْلُ الْعِصَامِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: أَرَادَ إِنَّهَا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ وَالْعَادَةُ فِي الِاكْتِسَاءِ بِهَا هُوَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ أَرْفَعُهَا انْتَهَى.
وَفَسَادُهُ لَا يَخْفَى؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلِبَعْضِهِمْ هُنَا تَخْلِيطٌ فَاجْتَنِبْهُ، ثُمَّ بِمَا قَرَّرْنَاهُ سَابِقًا انْدَفَعَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، مِنْ أَنَّ هَذَا الِاعْتِذَارَ إِنَّمَا يَتِمُّ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: أَتْقَى بِالْفَوْقِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ وَالْأَحْرَى بِالِاعْتِنَاءِ بِهِ إِذِ اخْتِلَالُهُ لَهُ يَقْدَحُ نُقْصَانًا فِي الدِّينِ، وَهُوَ التَّكَبُّرُ وَالْخُيَلَاءُ، وَلَمْ يَعْتَذِرْ عَنِ الْأَخِيرَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِمَا أَسْهَلُ وَأَخَفُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ) بِالتَّصْغِيرِ (ابْنُ نَصْرٍ) بِسُكُونِ مُهْمَلَةٍ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ) بِالتَّصْغِيرِ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ (عَنْ إِيَاسِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ) رَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَهُوَ نِسْبَةٌ إِلَى الْجَدِّ، فَإِنَّ سَلَمَةَ بْنَ عَمْرٍو غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ (قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) بِلَا انْصِرَافٍ.
وَقِيلَ: بِانْصِرَافٍ (يَأْتَزِرُ) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيَجُوزُ إِبْدَالُهَا أَلِفًا، أَيْ يَلْبَسُ الْإِزَارَ وَيُرْخِيهِ (إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ) وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ بِقَرِينَةٍ، مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَقِيلَ فِي جَمْعِ الْأَنْصَافِ: إِشَارَةٌ إِلَى التَّوْسِعَةِ (وَقَالَ) أَيْ عُثْمَانُ وَيُحْتَمَلُ سَلَمَةَ عَلَى بُعْدٍ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ تَكْرَارُ قَالَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ يَقُولُ عَلَى الْأَوَّلِ، كَمَا قَالَ يَأْتَزِرُ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُ مُكَرَّرًا (هَكَذَا) أَيْ مِثْلَ هَذَا الِاتِّزَارِ الْمَذْكُورِ (كَانَتْ إِزْرَةُ صَاحِبِي) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الزَّايِ صِيغَةُ النَّوْعِ وَالْهَيْئَةِ (يَعْنِي) أَيْ يُرِيدُ عُثْمَانَ بِصَاحِبِي (النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ سَلَمَةَ، أَوْ يَعْنِي سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَهُ إِيَاسٌ، وَفَائِدَةُ نَقْلِ سَلَمَةَ حِينَئِذٍ الْإِزْرَةَ عَنْ عُثْمَانَ، مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِحَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ مَحْفُوظَةٌ مَعْمُولَةٌ لِخَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلْيَتَأَكَّدِ النَّدْبُ؛ وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أَيِ ابْنُ سَعِيدٍ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَأَمَّا نُسْخَةُ ابْنِ سَعْدٍ بِلَا يَاءٍ فَتَحْرِيفٌ (أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ أَنْبَأَنَا، وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) أَيِ السُّبَيْعِيِّ (عَنْ مُسْلِمِ بْنِ نُذَيْرٍ) بِضَمِّ نُونٍ وَفَتْحِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ يَاءٍ فَرَاءٍ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي نُسْخَةٍ يَزِيدُ بِفَتْحِ تَحْتِيَّةٍ، وَكَسْرِ زَايٍ آخِرُهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ، فَفِي التَّقْرِيبِ مُسْلِمُ بْنُ نُذَيْرٍ مُصَغَّرًا، وَيُقَالُ: ابْنُ يَزِيدَ كُوفِيٌّ يُكَنَّى أَبَا عِيَاضٍ نَقَلَهُ مِيرَكُ (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ) بِكَسْرِ النُّونِ بِلَا يَاءٍ، كَانَ حُذَيْفَةُ صَاحِبَ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُنَافِقِينَ وَالْفِتَنِ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُوهُ قَبْلَ بَدْرٍ وَشَهِدَا أُحُدًا وَقُتِلَ أَبُوهُ فِي الْمَعْرَكَةِ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً، فَوَهَبَ لَهُمْ دَمَهُ (قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَضَلَةِ سَاقِي) بِفَتْحِ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ، كُلُّ لَحْمَةٍ مُجْتَمِعَةٍ فِي عَصَبٍ، فَفِي النِّهَايَةِ عَلَى وَزْنِ طَلْحَةَ، وَتَبِعَهُ الْحَنَفِيُّ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَفِي الْقَامُوسِ مُحَرَّكَةٌ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ (أَوْ سَاقَهُ) شَكٌّ مِنْ رَاوِي حُذَيْفَةَ هَلْ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِعَضَلَةِ حُذَيْفَةَ، أَوْ أَخَذَ بِعَضَلَةِ نَفْسِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَقِيلَ: الشَّكُّ إِمَّا مِنْ مُسْلِمِ بْنِ نُذَيْرٍ، أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْ حُذَيْفَةَ فَبَعِيدٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ مِيرَكُ: الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ بِلَفْظِ أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْفَلَ مِنْ عَضَلَةِ سَاقِي بِغَيْرِ شَكٍّ، انْتَهَى. فَانْدَفَعَ مَا قَالَ الْعِصَامُ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّكَّ مِنْ حُذَيْفَةَ، وَيَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ، وَلَا يَتَّجِهُ جَزْمُ الشَّارِحِينَ بِأَنَّهُ مِنَ الرُّوَاةِ انْتَهَى. وَلَمْ أَرَ مَنْ جَزَمَ بِهِ، بَلْ قَالُوا بِتَرْجِيحِهِ، وَأَمَّا ابْنُ حَجَرٍ مَعَ كَوْنِهِ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْعِصَامِ، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْجَزْمِ وَالْقَطْعِ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَذَا) أَيِ الْعَضَلَةُ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ تَذْكِيرِ الْخَبَرِ وَهُوَ (مَوْضِعُ الْإِزَارِ) أَيْ مَوْضِعُهُ اللَّائِقُ بِهِ (فَإِنْ أَبَيْتَ) أَيِ امْتَنَعْتَ مِنْ قَبُولِ النَّصِيحَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْعَمَلِ بِالْأَكْمَلِ وَالْأَفْضَلِ، وَأَرَدْتَ التَّجَاوُزَ عَنِ الْعَضَلَةِ، (فَأَسْفَلُ) بِالرَّفْعِ أَيْ فَمَوْضِعُهُ أَسْفَلُ مِنَ الْعَضَلَةِ قَرِيبًا مِنْهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ (فَإِنْ أَبَيْتَ فَلَا حَقَّ) أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا حَقَّ (لِلْإِزَارِ فِي الْكَعْبَيْنِ) أَيْ فِي وُصُولِهِ إِلَيْهِمَا وَالْمَعْنَى إِذَا جَاوَزَ الْإِزَارُ الْكَعْبَيْنِ فَقَدْ خَالَفْتَ السُّنَّةَ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: يَجِبُ أَنْ لَا يَصِلَ الْإِزَارُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ انْتَهَى. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُخَرَّجَ فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الْإِزَارِ فِي النَّارِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْبَالَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ جَائِزٌ، لَكِنْ مَا أَسْفَلَ مِنْهُ مَمْنُوعٌ؛ وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقَدْرُ الْمُسْتَحَبُّ فِيمَا يَنْزِلُ إِلَيْهِ طَرَفُ الْإِزَارِ هُوَ نِصْفُ السَّاقِ، وَالْجَائِزُ بِلَا كَرَاهَةٍ مَا تَحْتَهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَمَا نَزَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَإِنْ كَانَ لِلْخُيَلَاءِ فَمَمْنُوعٌ مَنْعَ تَحْرِيمٍ، وَإِلَّا فَمَنْعَ تَنْزِيهٍ، فَيُحْمَلُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ هَذَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْإِسْبَالِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ؛ لِئَلَّا يَنْجَرَّ إِلَى مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ»، وَيُفْهَمَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَنَّ الِاسْتِرْخَاءَ إِلَى مَا وَرَاءَ الْكَعْبَيْنِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ فِي مَعْنَى الْإِزَارِ الْقَمِيصَ، وَسَائِرَ الْمَلْبُوسَاتِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْإِزَارُ بِالذِّكْرِ بِنَاءً عَلَى الْقَضِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ، أَوْ خَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ غَالِبَ مَلْبُوسَاتِهِمْ كَانَ إِزَارًا، قَالَ مِيرَكُ: وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْإِسْبَالِ مَنْ أَسْبَلَهُ لِضَرُورَةٍ كَمَنْ يَكُونُ بِكَعْبِهِ جُرْحٌ يُؤْذِيهِ الذُّبَابُ مَثَلًا، إِنْ لَمْ يَسْتُرْهُ بِإِزَارِهِ وَثَوْبِهِ حَيْثُ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْعِرَاقِيُّ مُسْتَدِلًّا بِإِذْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فِي لُبْسِ قَمِيصِ الْحَرِيرِ مِنْ أَجْلِ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُمَا فِيهِ لَمَّا شَكَيَا إِلَيْهِ الْقَمْلَ، وَجَمَعَ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْعِلَّتَيْنِ كَانَتَا بِهِمَا مَعًا، أَوْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْأُخْرَى، أَوْ أَنَّ الْحَكَّةَ نَشَأَتْ عَنِ الْقَمْلِ فَنُسِبَتِ الْعِلَّةُ تَارَةً لِلسَّبَبِ، وَتَارَةً لِلْمُسَبِّبِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا جَوَازُ تَعَاطِي مَا نُهِيَ عَنْهُمَا شَرْعًا لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، كَمَا يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِلتَّدَاوِي.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْإِسْبَالِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، لِمَا ثَبَتَ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مُسْبِلِ الْإِزَارِ، قَالَتْ: كَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ، فَقَالَ: يُرْخِينَ شِبْرًا فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ، فَالْمَقْصُودُ حُصُولُ السَّتْرِ وَالْمُجَاوَزَةُ عَنِ الْحَدِّ مَمْنُوعٌ، إِمَّا كَرَاهَةً أَوْ تَحْرِيمًا، فَإِذَا لَبِسَتِ الْمَرْأَةُ خُفًّا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّجَاوُزُ عَنِ الْقَدَمِ فِي حَقِّهِنَّ، وَكَذَا جَوَازُ الْإِرْخَاءِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ لِلتَّسَتُّرِ، فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى جَمِيعِ الثِّيَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَالَ مِيرَكُ: ظَاهِرُ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ تَحْرِيمَ إِسْبَالِ الْإِزَارِ مَخْصُوصٌ بِالْجَرِّ؛ لِأَجْلِ الْخُيَلَاءِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَرْفُوعًا، لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءً، وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا، وَالْبَطَرُ بِفَتْحَتَيْنِ: التَّكَبُّرُ وَالطُّغْيَانُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُعْلَمُ مِنْ بَعْضِ الْأَخْبَارِ تَحْرِيمُ الْإِسْبَالِ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ أَيْضًا، كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْبُخَارِيِّ مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ، لَكِنْ يُسْتَدَلُّ بِالتَّقْيِيدِ فِي حَدِيثِهِ وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِالْخُيَلَاءِ وَالْبَطَرِ عَلَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الزَّجْرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ هُنَا، فَلَا يَحْرُمُ الْإِسْبَالُ إِذَا سَلِمَ مِنَ الْخُيَلَاءِ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ إِحْدَى شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءً»، هَذَا وَيَدْخُلُ فِي الزَّجْرِ عَنْ جَرِّ الثَّوْبِ تَطْوِيلُ أَكْمَامِ الْقَمِيصِ، وَالْعَذَبَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ كَرَاهَةَ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ مِنَ الطُّولِ وَالسَّعَةِ، وَتَبِعَهُ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: حَدَثَ لِلنَّاسِ اصْطِلَاحٌ، وَصَارَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنَ الْخَلَائِقِ شِعَارٌ يُعْرَفُونَ بِهِ، فَمَهْمَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْخُيَلَاءِ فَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ، وَمَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ، فَلَا يَجْرِي النَّهْيُ فِيهِ، مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الْإِسْرَافِ الْمَذْمُومِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قِيلَ: وَلَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْدُو مِنْهُ إِلَّا طَيِّبٌ، كَانَ عَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَتَّسِخَ لَهُ ثَوْبٌ، وَمِنْ خَوَاصِّهِ أَنَّ ثَوْبَهُ لَمْ يَقْمَلْ، وَنَقَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّ الذُّبَابَ كَانَ لَا يَقَعُ عَلَى ثِيَابِهِ قَطُّ، وَأَنَّ الْبَعُوضَ لَا يَمْتَصُّ دَمَهُ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ فَجَزَمَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِهِ، وَاسْتَأْنَسَ لَهُ بِأَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَلْبَسْهُ إِلَّا يَوْمَ قَتْلِهِ، لَكِنْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَاهُ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِيَلْبَسَهُ، قَالَ: وَرُوِيَ أَنَّهُ لَبِسَهُ، وَكَانُوا يَلْبَسُونَهُ فِي زَمَانِهِ وَبِإِذْنِهِ انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ مِرْطًا مُرَحَّلًا مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، وَالْمِرْطُ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ أَوْ خَزٍّ يُؤْتَزَرُ بِهِ، وَالْمُرَحَّلُ بِضَمٍّ فَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ، هُوَ مَا فِيهِ صُوَرُ رَحَّالِ الْإِبِلِ، وَلَا بَأْسَ بِهَا إِذْ لَا يَحْرُمُ إِلَّا تَصْوِيرُ الْحَيَوَانِ، وَقَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ إِزَارُ خَزٍّ فِيهِ عَلَمٌ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: غَيْرُ جَيِّدٍ، إِنَّمَا ذَلِكَ تَفْسِيرُ الْمُرَجَّلِ بِالْجِيمِ، وَرِوَايَتُهُ بِالْمُهْمَلَةِ عَلَى مَا صَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ وَنَقَلَهُ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.باب مَا جَاءَ فِي مِشْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

الْمِشْيَةُ بِالْكَسْرِ مَا يَعْتَادُهُ الشَّخْصُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَى مَا هُوَ وَضْعُ الْفِعْلَةِ بِالْكَسْرِ، ذَكَرَهُ الْجَارَبَرْدِيُّ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ) بِفَتْحِ اللَّامِ فَكَسْرِ الْهَاءِ ابْنُ عُقْبَةَ الْحَضْرَمِيُّ صَدُوقٌ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الْعِصَامُ: خَلَطَ بَعْدَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِضَعْفِهِ فِي التَّهْذِيبِ (عَنْ أَبِي يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ) أَيْ أَبْصَرْتُ أَوْ عَلِمْتُ، وَهُوَ أَبْلَغُ (شَيْئًا) تَنْوِينُهُ لِلتَّنْكِيرِ (أَحْسَنَ) صِفَةُ شَيْئًا عَلَى الْأَوَّلِ، وَمَفْعُولٌ ثَانٍ عَلَى الثَّانِي (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ كَوْنِ شَيْءٍ أَحْسَنَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَحْسَنُ مِمَّا عَدَاهُ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ عُرْفًا كَمَا سَبَقَ (كَأَنَّ الشَّمْسَ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَوْ تَعْلِيلٍ، أَيْ كَانَ شُعَاعُهَا أَوْ جِرْمُهَا خِلَافًا لِمَنْ نَازَعَ فِي الثَّانِي، مَعَ أَنَّهُ أَبْلَغُ (تَجْرِي فِي وَجْهِهِ) شَبَّهَ جَرَيَانَ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا بِجَرَيَانِ الْحُسْنِ وَنُورِهِ فِي وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَكَسَ التَّشْبِيهَ مُبَالَغَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَنَاهِي التَّشْبِيهِ، بِجَعْلِ وَجْهِهِ مَقَرًّا وَمَكَانًا لِلشَّمْسِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارِمِيُّ مِنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، لَوْ رَأَيْتَهُ لَرَأَيْتَ الشَّمْسَ طَالِعَةً، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظِلٌّ، وَلَمْ يَقُمْ مَعَ شَمْسٍ قَطُّ إِلَّا غَلَبَ ضَوْءُهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ، وَلَمْ يَقُمْ مَعَ سِرَاجٍ قَطُّ إِلَّا غَلَبَ ضَوْءُهُ ضَوْءَ السِّرَاجِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى أَحْسَنِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْوَجْهَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بِهِ يَظْهَرُ الْمَحَاسِنُ؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْبَدَنِ تَابِعٌ لِحُسْنِهِ غَالِبًا، (وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ) بِالْكَسْرِ لِلْهَيْئَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ بِلَا تَاءٍ، أَيْ فِي كَيْفِيَّةِ مَشْيِهِ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا الْأَرْضُ) بِالرَّفْعِ (تُطْوَى) أَيْ تُجْمَعُ وَتُجْعَلُ مَطْوِيَّةً (لَهُ) أَيْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ (إِنَّا) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ، وَفِي نُسْخَةٍ وَإِنَّا (لَنُجْهِدُ) قَالَ الْجَزَرِيُّ: بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهُمَا انْتَهَى. فَمَا وَقَعَ لِابْنِ حَجَرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلرِّوَايَةِ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلدِّرَايَةِ، يُقَالُ: أَجْهَدَ دَابَّتَهُ وَجَهَدَهَا إِذَا حَمَلَ عَلَيْهَا فِي السَّيْرِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْمَشَقَّةِ فَالْمَعْنَى إِنَّا نُتْعِبُ (أَنْفُسَنَا) وَنُوقِعُهَا فِي الْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ فِي حَالِ سَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ) أَيْ غَيْرُ مُبَالٍ بِجَهْدِنَا، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ نُجْهِدُ أَوْ مَفْعُولِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ سُرْعَةَ مَشْيِهِ كَانَتْ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الْهَوْنِ، وَالتَّأَنِّي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ بِسُرْعَةٍ فَاحِشَةٍ تُذْهِبُ بَهَاءَهُ وَوَقَارَهُ، فَلَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} وَالْحَاصِلُ أَنَّ سُرْعَتَهُ فِي مِشْيَتِهِ، كَانَتْ مِنْ كَمَالِ الْقُوَّةِ لَا مِنْ حَيْثُ الْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْعَجَلَةِ، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اقْتِرَانِ الْجُمْلَتَيْنِ، أَنَّ حُسْنَ وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُسْتَمِرًّا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ، وَسُكُونِ جِيمٍ (وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ مِنَ الْمَشَايِخِ (قَالُوا: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى غُفْرَةَ) بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ فَسُكُونِ فَاءٍ (قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ أَوْ ضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ أَيْ مِنْ أَوْلَادِهِ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، (قَالَ) أَيْ إِبْرَاهِيمُ (كَانَ عَلِيٌّ إِذَا وَصَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ) أَيْ عَلِيٌّ (كَانَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ (إِذَا مَشِيَ تَقَلَّعَ) بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ قَلَعَ الشَّجَرَةَ إِذَا نَزَعَهَا مَنْ أَصْلِهَا، أَيْ مَشَى بِقُوَّةٍ، وَدَفْعٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّ التَّقَلُّعَ رَفْعُ الرِّجْلِ مِنَ الْأَرْضِ بِهِمَّةٍ وَقُوَّةٍ، لَا مَعَ اخْتِيَالٍ وَتَقَارُبِ خُطًا؛ لِأَنَّ تِلْكَ مِشْيَةُ النِّسَاءِ وَالْمُتَشَابِهِ بِهِنَّ (كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يَنْزِلُ (فِي صَبَبٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى، وَهُوَ مَا انْحَدَرَ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ صَبَبٍ، فَهِيَ بِمَعْنَى فِي أَوْ تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ مِنْ أَجْلِهِ، وَالْحَدِيثُ سَبَقَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَيَحْتَمِلُ إِتْيَانُهُ هُنَا أَنْ يَكُونَ اخْتِصَارًا مِنْهُ أَوْ حَدِيثًا بِرَأْسِهِ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
(حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (أَبِي عَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ (عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنِ مُطْعِمٍ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ مُخَفَّفًا (عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ بَعْدَهَا هَمْزٌ (تَكَفُّؤًا) بِضَمِّ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ بَعْدَهَا هَمْزٌ، وَفِي نُسْخَةٍ تَكَفَّى بِلَا هَمْزٍ تَكَفِّيًا، بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ، وَقَدْ مَرَّ مَعْنَاهُ، وَأَنَّهُ بِمَعْنَى تَقَلَّعَ أَيْ تَمَايَلَ إِلَى أَمَامِهِ؛ لِيَرْفَعَهُ عَنِ الْأَرْضِ بِكُلِّيَّتِهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لَا مَعَ اهْتِزَازٍ وَتَكَسُّرٍ، وَجَرِّ رِجْلٍ بِالْأَرْضِ عَلَى هَيْئَةِ الْمُتَمَاوِتِ أَوْ مِشْيَةِ الْمُخْتَالِ (كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ)

.باب مَا جَاءَ فِي تَقَنُّعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

التَّقَنُّعُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ بِطَرَفِ الْعِمَامَةِ، أَوْ بِرِدَاءٍ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْعِمَامَةِ أَوْ تَحْتَهَا، لِمَا وَرَدَ فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ فِي الْقَائِلَةِ مُتَقَنِّعًا بِثَوْبِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُتَغَشِّيًا بِهِ فَوْقَ الْعِمَامَةِ لَا تَحْتَهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَخْفِيًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا اسْتِعْمَالُ الْقِنَاعِ وَهُوَ ثَوْبٌ يُلْقِي بِهِ الشَّخْصُ عَلَى رَأْسِهِ بَعْدَ تَدْهِينِهِ؛ لِئَلَّا يَصِلَ أَثَرُ الدُّهْنِ إِلَى الْقَلَنْسُوَةِ وَالْعِمَامَةِ وَأَعَالِي الثَّوْبِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَجَعَلَهُ بَابًا مَعَ أَنَّ حَدِيثَهُ سَبَقَ فِي بَابِ التَّرَجُّلِ وَالْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَابِ اللُّبَاسِ غَيْرُ ظَاهِرٍ انْتَهَى. وَأَقُولُ: وَكَذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمِشْيَةِ وَالْجِلْسَةِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ قَدْ يُجْعَلُ لَهُ بَابَانِ وَأَكْثَرَ، بِاعْتِبَارِ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْهُ، كَمَا فَعَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَبْوَابِ كِتَابِهِ، وَقَدْ تَكَلَّفَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْجَوَابِ عَنِ الثَّانِي لَكِنْ بِعِبَارَةٍ شَنِيعَةٍ حَيْثُ قَالَ: وَيَرُدُّ بِأَنَّ التَّقَنُّعَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَاشِي كَثِيرًا لِلْوِقَايَةِ مِنْ نَحْوِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ.
وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ لِذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ، فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْيِ مُنَاسَبَةٌ تَامَّةٌ، تَمَّ كَلَامُهُ وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ قَدَّمَهُ عَلَيْهِ لَكَانَتِ الْمُنَاسَبَةُ حَاصِلَةٌ أَيْضًا مَعَ مُنَاسَبَاتٍ أُخَرَ، بِاعْتِبَارِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّقَنُّعِ هُنَا لَيْسَ إِلَّا ظِلَالَ الْوَاقِي مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَكَلَامُهُ حَارٌّ وَجَوَابُهُ بَارِدٌ فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا عَلَيْهِ.
(حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنْبَأَنَا (الرَّبِيعُ بْنُ صَبِيحٍ) بِالتَّكْبِيرِ فِيهِمَا (عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُنْصَرِفٌ، وَغَيْرُ مُنْصَرِفٍ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ الْقِنَاعَ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ لُبْسِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ (كَأَنَّ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ لِلتَّشْبِيهِ (ثَوْبُهُ) أَيْ عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ قِنَاعِهِ الَّذِي يَسْتُرُ بِهِ رَأْسَهُ (ثَوْبَ زَيَّاتٍ) بِصِيغَةِ النِّسْبَةِ أَيْ بَائِعِ الزَّيْتِ أَوْ صَانِعِهِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُمَا مُدَّهِنًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب مَا جَاءَ فِي جِلْسَتِهِ:

بِالْإِضَافَةِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ جِلْسَةُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَمَّا جَعْلُ الْحَنَفِيِّ وَالْعِصَامِ جِلْسَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلًا، وَإِضَافَتُهُ نُسْخَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَكَذَا اقْتِصَارُ ابْنِ حَجَرٍ عَلَى جِلْسَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِكَسْرِ الْجِيمِ، اسْمٌ لِلنَّوْعِ، قَالَ الْعِصَامُ: وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ بِقَرِينَةِ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ، وَرُبَّمَا يُفَرِّقُ فَيَجْعَلُ الْقُعُودَ لِمَا هُوَ مِنَ الْقِيَامِ، وَالْجُلُوسَ لِمَا هُوَ مِنَ الِاضْطِجَاعِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِلْسَةِ الْمُعَنْوَنَةِ مُقَابَلَةُ الْقَوْمَةِ؛ لِيَشْمَلَ الْبَابُ حَدِيثَ الِاسْتِلْقَاءِ أَيْضًا.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنْبَأَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَّانَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ يَنْصَرِفُ وَلَا يَنْصَرِفُ (عَنْ جَدَّتَيْهِ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِفْرَادِ (عَنْ قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ أَنَّهَا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَاعِدٌ) بِالرَّفْعِ مُنَوَّنًا عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ (الْقُرْفُصَاءَ) بِضَمِّ قَافٍ وَسُكُونِ رَاءٍ وَضَمِّ فَاءٍ، فَصَادٍ مُهْمَلَةٍ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، وَهِيَ جِلْسَةُ الْمُحْتَبِي، يُقَالُ: قَرْفَصَ الرَّجُلُ إِذَا شَدَّ يَدَيْهِ تَحْتَ رِجْلَيْهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا أَنْ يَقْعُدَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ، فَيُلْصِقَ فَخِذَيْهِ بِبَطْنِهِ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى سَاقَيْهِ، كَمَا يَحْتَبِي بِالثَّوْبِ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ مُنْكَبًّا وَيُلْصِقَ بَطْنَهُ بِفَخِذَيْهِ، وَيَتَأَبَّطَ كَفَّيْهِ، وَهِيَ جِلْسَةُ الْأَعْرَابِ وَفِي الْقَامُوسِ الْقُرْفُصَاءُ مُثَلَّثَةُ الْقَافِ وَالْفَاءُ مَقْصُورَةٌ وَبِالضَّمِّ مَمْدُودَةٌ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَالرَّاءِ عَلَى الْإِتْبَاعِ انْتَهَى. وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ لَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ الرِّوَايَةُ وَالنُّسْخَةُ (قَالَتْ) أَيْ قَيْلَةُ (فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرْتُهُ (الْمُتَخَشِّعَ) مِنَ التَّخَشُّعِ، ظُهُورُ الْخُشُوعِ صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِرَأَيْتُ بِمَعْنَى عَلِمْتُ (فِي الْجِلْسَةِ) أَيْ فِي هَيْئَةِ جِلْسَتِهِ، وَكَيْفِيَّةِ قَعْدَتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ إِظْهَارَ عُبُودِيَّتِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: «أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ»، لَا عَلَى هَيْئَةِ جُلُوسِ الْجَبَّارِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ مِنَ التَّرَبُّعِ، وَالتَّمَدُّدِ وَالِاتِّكَاءِ، وَرَفْعِ الرَّأْسِ شَمَّاخَةَ الْأَنْفِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَالِاحْتِجَابِ عَنِ الْمُحْتَاجِينَ (أُرْعِدْتُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ حَصَلَتْ لِي رِعْدَةٌ (مِنَ الْفَرَقِ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ أَيِ الْخَوْفِ الْإِلَهِيِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّوَاضُعِ النَّبَوِيِّ، يَعْنِي كَانَ مَعَ تَخَشُّعِهِ عَظِيمًا، هَابَتْنِي عَظَمَتُهُ وَحَصَلَ لِيَ الْخَوْفُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ: «مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ»، قَالَ مِيرَكُ: وَالظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ قِصَّةِ قَيْلَةَ أَنَّهُ أَوَّلُ مُلَاقَاتِهَا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِذَا هَابَتْهُ وَوَقَعَ فِي قِصَّتِهَا بَعْدَ قَوْلِهَا أُرْعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ، فَقَالَ لَهُ جَلِيسُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرْعِدَتِ الْمِسْكِينَةُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيَّ، وَأَنَا عِنْدَ ظَهْرِهِ، يَا مِسْكِينَةُ عَلَيْكِ السَّكِينَةُ، فَلَمَّا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ دَخَلَ قَلْبِي مِنَ الرُّعْبِ، وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ قَيْسٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ رَجُلًا فَأُرْعِدَ، فَقَالَ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ»، وَالتَّخَشُّعُ إِمَّا بِهَذِهِ الْجِلْسَةِ، وَإِمَّا بِأُمُورٍ أُخَرَ شَاهَدْتُهَا فِي الْحَضْرَةِ.
(حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ) ثِقَةٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ كَثِيرٌ مِنَ الْمَشَايِخِ (قَالُوا: أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ (بْنِ تَمِيمٍ) أَيِ الْأَنْصَارِيِّ الْمُزَنِيِّ ثِقَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ رِوَايَةً (عَنْ عَمِّهِ) أَيْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَبُو مُحَمَّدٍ صَحَابِيٌّ شَهِيرٌ، رَوَى صِفَةَ الْوُضُوءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِي قَتَلَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، وَاسْتُشْهِدَ بِالْحَرَّةِ، وَرَوَى عَنْهُ السِّتَّةُ (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَلْقِيًا) أَيْ مُضْطَجِعًا عَلَى قَفَاهُ (فِي الْمَسْجِدِ) وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّوْمُ، وَفِي الْقَامُوسِ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ نَامَ وَهُوَ حَالٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَاضِعًا) مُتَرَادِفَيْنِ أَوْ مُتَدَاخِلَيْنِ (إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى) أَيْ مَعَ نَصْبِ الْأُخْرَى أَوْ مَدِّهَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يُنَافِيهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَسْتَلْقِيَنَّ أَحَدُكُمْ ثُمَّ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، لَكِنْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي حَدِيثٍ: الْأَصْلُ بَيَانُ جَوَازِ هَذَا الْفِعْلِ، وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ خَبَرَ النَّهْيِ عَنْهُ، إِمَّا مَنْسُوخٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ النَّهْيِ أَنْ تَبْدُوَ عَوْرَةُ الْفَاعِلِ لِذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِزَارَ رُبَّمَا ضَاقَ، فَإِذَا شَالَ لَابِسُهُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ فَوْقَ الْأُخْرَى بَقِيَتْ هُنَاكَ فُرْجَةٌ تَظْهَرُ مِنْهَا عَوْرَتُهُ، وَقِيلَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ النَّهْيِ، أَوْ لِضَرُورَةٍ مِنْ تَعَبٍ، وَطَلَبِ رَاحَةٍ، أَوْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقِيلَ: وَضْعُ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى يَكُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رِجْلَاهُ مَمْدُودَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى، وَلَا بَأْسَ بِهَذَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْكَشِفُ شَيْءٌ مِنَ الْعَوْرَةِ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ نَاصِبًا رُكْبَةَ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَيَضَعَ الرِّجْلَ الْأُخْرَى عَلَى الرُّكْبَةِ الْمَنْصُوبَةِ، فَيُحْمَلُ حَدِيثُ الْبَابِ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَلَى الثَّانِي، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَالتَّأْوِيلُ أَوْلَى مِنَ ادِّعَاءِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ، وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْجَوَازَ مِنْ خَصَائِصِهِ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاتِّكَاءِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَالِاسْتِرَاحَةِ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا، يُمْكِنُ تَقْيِيدُهُ بِحَالَةِ الِاعْتِكَافِ، فَإِنَّ قُعُودَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجَامِعِ عُلِمَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، حَيْثُ كَانَ يَجْلِسُ عَلَى وَقَارٍ وَتَوَاضُعٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ الْعِصَامُ: وَجْهُ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْجِلْسَةِ خَفِيٌّ، لَمْ يَتَصَدَّ لَهُ شَارِحٌ انْتَهَى. وَتَكَلَّفَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ الْجُلُوسِ عَلَى سَائِرِ كَيْفِيَّاتِهِ بِالْأَوْلَى انْتَهَى. وَيَعْنِي بِهِ أَنَّهُ يَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ لِلْبَابِ وَإِلَّا ظَهَرَ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجِلْسَةِ هَيْئَةُ الْجُلُوسِ الْمُقَابِلِ لِلْقِيَامِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.
(حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْأُولَى، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ، (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَدَنِيُّ) وَفِي نُسْخَةِ الْمَدِينِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ حِبَّانَ إِلَى الْوَضْعِ، لَكِنْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَنْصَارِيِّ) مَجْهُولٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ (عَنْ رُبَيْحِ) مُصَغَّرُ رِبْحٍ بِرَاءٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَمُهْمَلَةٍ، (بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) مَقْبُولٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ (عَنْ أَبِيهِ) أَيِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، (عَنْ جَدِّهِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ ضَمِّ الْمُعْجَمَةِ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي الْمَجْلِسِ (احْتَبَى بِيَدَيْهِ) زَادَ الْبَزَّارُ (وَنَصَبَ رُكْبَتَيْهِ) وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «جَلَسَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَضَمَّ رِجْلَيْهِ وَأَقَامَهَا، وَاحْتَبَى بِيَدَيْهِ»، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وَفِي بَعْضِهَا صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَفِي الصِّحَاحِ: احْتَبَى الرَّجُلُ: إِذَا جَمَعَ ظَهْرَهُ وَسَاقَيْهِ بِعِمَامَتِهِ، وَقَدْ يَحْتَبِي بِيَدَيْهِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الِاحْتِبَاءُ الْجُلُوسُ بِالْحَبْوَةِ، وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ ظَهْرَهُ وَسَاقَيْهِ بِإِزَارٍ أَوْ حَبْلٍ أَوْ سَيْرٍ يَجْعَلُونَهُ بَدَلًا عَنِ الِاسْتِنَادِ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْحِبْوَةُ، وَالِاحْتِبَاءُ بِالْيَدِ هُوَ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى سَاقَيْهِ فِي جِلْسَةِ الْقُرْفُصَاءِ، فَيَكُونُ يَدَاهُ بَدَلًا عَمَّا يَحْتَبِي بِهِ مِنَ الْإِزَارِ وَغَيْرِهِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الِاحْتِبَاءُ جِلْسَةُ الْأَعْرَابِ، وَمِنْهُ الِاحْتِبَاءُ حِيطَانُ الْعَرَبِ، أَيْ لَيْسَ فِي الْبَرَارِي حِيطَانٌ، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَسْتَنِدُوا احْتَبَوْا؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ السُّقُوطِ، وَيُصَيِّرُهَا لَهُمْ كَالْجِدَارِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِاحْتِبَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَعِلَّةُ النَّهْيِ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ رُبَّمَا تَسْتَجْلِبُ النَّوْمَ، فَيَفُوتُ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُ الْخُطْبَةِ، وَرُبَّمَا يُفْضِي إِلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الصَّلَاةِ، هَذَا وَجَاءَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءُ أَيْ نَقِيَّةٌ بَيْضَاءُ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرِّيَاضِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، انْتَهَى. فَقِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَصِّصٌ، وَقَالَ مِيرَكُ: مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَتَارَةً تَرَبَّعَ، وَتَارَةً احْتَبَى، وَتَارَةً اسْتَلْقَى، وَتَارَةً ثَنَى رِجْلَيْهِ، تَوْسِعَةً لِلْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ.

.باب مَا جَاءَ فِي تُكَأَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

التُّكَأَةُ بِالْهَمْزَةِ بِوَزْنِ الْهُمَزَةِ مَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ مِنْ وِسَادَةٍ وَغَيْرِهَا، وَأَصْلُهَا وُكَأَةٌ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ تَاءً، كَمَا فِي تُرَاثٍ وَتُجَاهٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا مَا هُيِّئَ وَأُعِدَّ لِذَلِكَ فَخَرَجَ الْإِنْسَانُ إِذَا اتَّكَئَ عَلَيْهِ، فَلَا يُسَمَّى تُكَأَةً، وَمِنْ ثَمَّةَ تَرْجَمَ لَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِبَابَيْنِ فَرَّقَا بَيْنَهُمَا، وَقَدَّمَ هَذَا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الِاتِّكَاءِ، وَأَمَّا الِاتِّكَاءُ عَلَى الْإِنْسَانِ فَعَارِضٌ وَقَلِيلٌ؛ وَلِهَذَا أَيْضًا تَرْجَمَ هُنَا بِالتُّكَأَةِ دُونَ الِاتِّكَاءِ عَلَيْهَا، وَفِيمَا يَأْتِي بِالِاتِّكَاءِ دُونَ الْمُتَوَكَّأِ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ اسْتِعْمَالَهَا فِي التَّعْبِيرِ بِالتُّكَأَةِ هُنَا، وَبِالْمُتَوَكَّأِ عَلَيْهِ ثَمَّةَ أَوْ فِي التَّعْبِيرِ بِالِاتِّكَاءِ لِلتُّكَأَةِ وَالْمُتَوَكَّأِ عَلَيْهِ وَوَجْهُهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ التُّكَأَةَ مَقْصُودَةٌ لَا الِاتِّكَاءُ بِطَرِيقِ الذَّاتِ، فَكَانَ النَّصُّ فِي التَّرْجَمَةِ أَوْلَى، وَالْمُتَوَكَّأُ عَلَيْهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَكَأَنَّ حَذْفَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَالنَّصُّ عَلَى الِاتِّكَاءِ أَوْلَى، فَانْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ، بِأَنَّ الْكُلَّ بَابٌ وَاحِدٌ، فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ بَابَيْنِ.
(حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنُ حَاتِمِ بْنِ وَاقِدٍ (الدُّورِيُّ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةً إِلَى مَحِلَّةٍ مِنْ بَغْدَادَ، أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا (الْبَغْدَادِيُّ) ثِقَةٌ حَافِظٌ كَانَ ابْنُ مَعِينٍ، إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ: عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ صَدِيقُنَا وَصَاحِبُنَا أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْأَرْبَعَةُ (أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ سِمَاكِ) بِكَسْرِ السِّينِ (بْنِ حَرْبٍ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ رَاءٍ وَمُوَحَّدَةٍ، وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُمْ (عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ) بِكَسْرِ الْوَاوِ، أَيْ مِخَدَّةٍ كَائِنَةٍ (عَلَى يَسَارِهِ) أَيْ حَالَ كَوْنِهَا مَوْضُوعَةً عَلَى جَانِبِهِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، فَيَجُوزُ الِاتِّكَاءُ عَلَى الْوِسَادَةِ يَمِينًا وَيَسَارًا، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ أَنَّهُ بَيَّنَ انْفِرَادَ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ فِي جَامِعِهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ الْعِصَامُ: قَوْلُهُ: مُتَّكِئًا بَدَلٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَنْسَبُ مِنْ كَوْنِهِ حَالًا، وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، فَتَأَمَّلْ. ثُمَّ قِيلَ: الِاتِّكَاءُ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ قَاعِدًا عَلَى وَطَاءٍ، كَأَنَّ الْمُتَّكِئَ جَعَلَ الْوَضَّاءَ وِكَاءً سَدَّ بِهِ مَقْعَدَهُ، لِتَمَكُّنِهِ فِيهِ، وَذَهَبَ الْخَطَّابِيُّ إِلَى أَنَّ الْعَامَّةَ لَا تَفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الْمَيْلَ إِلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ، وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: عَلَى يَسَارِهِ يَصْرِفُهُ إِلَى مَا يُرِيدُ بِهِ الْعَامَّةُ.
(حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (الْجُرَيْرِيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى، فَتَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ، هُوَ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ مَرَّ ذِكْرُهُ (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَكْرَةَ) الْبَصْرِيِّ التَّابِعِيِّ، وَهُوَ أَوَّلٌ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ فِي بَصْرَةَ، رَوَى عَنْهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا (عَنْ أَبِيهِ) أَبِي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بْنِ الْحَارِثِ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، نَزَلَ الطَّائِفَ حِينَ نَادَى الْمُسْلِمُونَ مَنْ نَزَلَ مِنَ الْحِصَارِ فَهُوَ حُرٌّ مِنَ الْبَكْرَةِ، فَسُمِّيَ بِهَا (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا) بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ، وَلَا نَافِيَةٌ (أُحَدِّثُكُمْ) وَفِي نُسْخَةٍ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ (بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ) أَيْ بِجِنْسِ مَعْصِيَةٍ هِيَ أَكْبَرُ الْمَعَاصِي الْكِبَارِ، فَلَا يَرُدُّ مَا قَالَ الْعِصَامُ أَنَّ تَعَدُّدَ الْكَبَائِرِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ كَبِيرَةٌ أَكْبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّدًا كَانَ الْمَعْنَى مُتَعَدِّدًا مِنَ الْكَبَائِرِ كُلٌّ مِنْهُ أَكْبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَا ذَلِكَ الْمُتَعَدِّدِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ مُتَعَدِّدٌ، وَهَذَا بِأَنْ يَقْصِدَ بِالْأَكْبَرِ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، لَا الزِّيَادَةَ الْمُطْلَقَةَ كَمَا بَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ، قَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ» فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ، «أَلَا أُخْبِرُكُمْ»، وَفِي بَعْضِ الطُّرُقِ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ»، وَمَعْنَى الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا أَعَادَهَا ثَلَاثًا اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ لَهُ شَأْنٌ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ثَلَاثًا عَدَدُ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ حَالٌ، فَقَدْ أَبْعَدَ عَنِ الْمَرَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَوْلُهُ: بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ بِالْوَاسِطَةِ لِأُحَدِّثُكُمْ، وَالْكَبَائِرُ جَمْعُ كَبِيرَةٍ وَهِيَ مَا تَوَعَّدَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، بِحَدٍّ فِي الدُّنْيَا وَبِعَذَابٍ فِي الْعُقْبَى، كَذَا قَالَهُ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ ضَعِيفٍ، الْكَبِيرَةُ كُلُّ ذَنْبٍ أَدْخَلَ صَاحِبَهُ النَّارَ، أَيْ جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا لِدُخُولِهِ إِيَّاهَا؛ وَلِهَذَا هِيَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْإِسْفِرَايِينِيِّ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ صَغِيرَةٌ، نَظَرًا لِمَنْ عَصَى، وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: حَدُّهَا مُبْهَمٌ عَلَيْنَا، كَمَا أَبْهَمَ عَلَيْنَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَسَاعَةَ الْجُمُعَةِ، وَوَقْتَ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ لَيْلًا، وَالصَّلَاةَ الْوُسْطَى، وَحِكْمَتُهُ هُنَا: الِامْتِنَاعُ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْكَبِيرَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَأَنَّ لِلْكَبِيرَةِ حَدًّا، فَقِيلَ: هِيَ مَا فِيهِ حَدٌّ، وَقِيلَ: مَا وَرَدَ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَقَدْ عَدَّدَ الْفُقَهَاءُ مِنْهَا جُمَلًا مُسْتَكْثَرَةً، كَقَتْلِ نَفْسٍ، وَزِنًا، وَلِوَاطَةٍ، وَشُرْبِ خَمْرٍ، وَسَرِقَةٍ وَقَذْفٍ، وَشَهَادَةِ زُورٍ، وَكَتْمِ شَهَادَةٍ، وَيَمِينٍ غَمُوسٍ، وَغَصْبِ مَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ، وَفِرَارٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِلَا عُذْرِ، وَرِبًا وَأَخْذِ مَالِ يَتِيمٍ، وَرَشْوَةٍ وَعُقُوقِ أَصْلٍ، وَقَطْعِ رَحِمٍ وَكَذِبٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْدًا، وَإِفْطَارٍ فِي رَمَضَانَ غُدُوًّا، وَبَخْسِ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذِرَاعٍ، وَتَقْدِيمِ مَكْتُوبَةٍ عَلَى وَقْتِهَا، وَتَأْخِيرِهَا عَنْهُ، وَتَرْكِ زَكَاةٍ، وَضَرْبِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ عُدْوَانًا، وَسَبِّ صَحَابِيٍّ وَغَيْبَةِ عَالِمٍ أَوْ حَامِلِ قُرْآنٍ، وَسِعَايَةٍ عِنْدَ ظَالِمٍ، وَدِيَاثَةٍ وَقِيَادَةٍ وَتَرْكِ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ مِنْ قَادِرٍ، وَتَعَلُّمِ سِحْرٍ أَوْ تَعْلِيمِهِ أَوْ عَمَلِهِ، وَنِسْيَانِ حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَإِحْرَاقِ حَيَوَانٍ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَأْسٍ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْنٍ مِنْ مَكْرِهِ، وَنُشُوزِ زَوْجَةٍ، وَإِبَاءِ حَلِيلَةٍ مِنْ حَلِيلِهَا عَدْوًا، وَنَمِيمَةٍ، وَحُكِيَ أَنَّ الْغَيْبَةَ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا بِالْإِجْمَاعِ نَعَمْ تُبَاحُ لِأَسْبَابٍ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَحَصْرُ الصَّغَائِرِ مُتَعَذِّرٌ (قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ) فَائِدَةُ النِّدَاءِ مَعَ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ إِلَى عِظَمِ الْإِذْعَانِ لِرِسَالَتِهِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ بَيَانِ الشَّرِيعَةِ، وَاسْتِجْلَابِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ الْعَلِيَّةِ (قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) الْإِشْرَاكُ جَعْلُ أَحَدٍ شَرِيكًا لِآخَرَ، وَالْمُرَادُ هُنَا اتِّخَاذُ إِلَهٍ غَيْرُ اللَّهِ، كَذَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُفْرُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، قَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الْكُفْرِ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِغَلَبَتِهِ فِي الْوُجُودِ، لَاسِيَّمَا فِي بَلَدِ الْعَرَبِ، فَذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خُصُوصُهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ قُبْحًا مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَهُوَ التَّعْطِيلُ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُطْلَقٌ، وَالْإِشْرَاكُ ثَبَاتٌ مُقَيَّدٌ، فَيَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ (وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) أَيْ عِصْيَانُهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا، وَجَمَعَهُمَا لِأَنَّ عُقُوقَ أَحَدِهِمَا يَسْتَلْزِمُ عُقُوقَ الْآخَرِ غَالِبًا، وَيَجُرُّ إِلَيْهِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ عُقُوقُ كُلٍّ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، وَفِي مَعْنَاهُمَا الْأَجْدَادُ، ثُمَّ الْعُقُوقُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مُخَالَفَةُ مَنْ حَقُّهُ وَاجِبٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِّ، وَهُوَ الْقَطْعُ وَالْمُرَادُ صُدُورُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} إِلَّا فِي شِرْكٍ وَمَعْصِيَةٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ حَرَامٌ، وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ، وَفِي الْحَدِيثِ: لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَضَبَطَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِي الْمُبَاحَاتِ فِعْلًا وَتَرْكًا، وَاسْتِحْبَابِهِمَا فِي الْمَنْدُوبَاتِ، وَفُرُوضِ الْكِفَايَاتِ كَذَلِكَ، وَمِنْهُ تَقْدِيمُهُمَا عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْأَمْرَيْنِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ: ضَابِطُهُ أَنْ يَعْصِيَهُ فِي جَائِزٍ، وَلَيْسَ هَذَا الْإِطْلَاقُ بِمَرْضِيٍّ، وَالَّذِي آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ أَئِمَّتِنَا أَنَّ ضَابِطَهُ أَنْ يَفْعَلَ مِنْهُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ تَأَذِّيًا لَيْسَ بِالْهَيِّنِ فِي الْعُرْفِ.
قُلْتُ: حَاصِلُهُ أَنَّ الْعُقُوقَ مُخَالَفَةٌ تُوجِبُ الْغَضَبَ، وَأَمَّا مَا دُونَهُ فَمِنَ الصَّغَائِرِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ: رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو، لَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الرِّضَا وَالسُّخْطِ حَالًا مُتَوَسِّطًا، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْمُخَالَفَةِ.
قِيلَ: الْقَتْلُ وَالزِّنَا أَكْبَرُ مِنَ الْعُقُوقِ بَلْ قِيلَ لَا خِلَافَ أَنَّ أَكْبَرَ الذُّنُوبِ بَعْدَ الْكُفْرِ قَتْلُ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلِمَ حُذِفَا، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ أَحَادِيثٍ أُخَرَ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يُرَاعِي فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَحْوَالَ الْحَاضِرِينَ، كَقَوْلِهِ مَرَّةً: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا، وَأُخْرَى أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الْجِهَادُ، وَأُخْرَى أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ (قَالَ) أَيْ أَبُو بَكْرَةَ (وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ إِثْمِ شَهَادَةِ الزُّورِ (وَكَانَ مُتَّكِئًا) أَيْ قَبْلَ الْجِلْسَةِ وَالْجُمْلَةِ، حَالٌ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اهْتَمَّ بِذَلِكَ حَتَّى جَلَسَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَّكِئًا، وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِهِ، وَعِظَمِ قُبْحِهِ، وَسَبَبُ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ كَوْنُ قَوْلِ الزُّورِ أَوْ شَهَادَةِ الزُّورِ أَسْهَلُ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ، وَالتَّهَاوُنَ بِهِمَا أَكْثَرُ، فَإِنَّ الْإِشْرَاكَ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ الْمُسْلِمِ، وَالْعُقُوقَ يَصْرِفُ عَنْهُ الطَّبْعَ السَّلِيمَ، وَالْعَقْلَ الْقَوِيمَ، وَأَمَّا الزُّورُ فَالْحَوَامِلُ وَالْبَوَاعِثُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ، كَالْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا، فَاحْتِيجَ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِتَعْظِيمِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَعْظِيمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذُكِرَ مَعَهُ مِنَ الْإِشْرَاكِ قَطْعًا، بَلْ لِكَوْنِ مَفْسَدَتِهِ مُتَعَدِّيَةً إِلَى الشَّاهِدِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا، بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُ قَاصِرَةٌ غَالِبًا، وَقِيلَ: خَصَّ شَهَادَةَ الزُّورِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْكَافِرَ إِذْ هُوَ شَاهِدُ زُورٍ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ فِي الْمُسْتَحِلِّ وَهُوَ كَافِرٌ، وَالْأَوْجَهُ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الزِّنَا وَالْقَتْلُ وَغَيْرُهُمَا، فَكَانَتْ أَبْلَغَ ضَرَرًا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، فَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِجُلُوسِهِ وَتَكْرِيرِهِ ذَلِكَ فِيهَا، دُونَ غَيْرِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ وَجْهُ إِدْخَالِ الْعُقُوقِ بَيْنَ الْإِشْرَاكِ، وَبَيْنَ قَوْلِ الزُّورِ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ أَفْرَادِهِ كَلِمَةُ الْكُفْرِ، هُوَ أَنَّ الْعُقُوقَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَفِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَاهُنَا غُلَامًا قَدِ احْتُضِرَ، فَيُقَالُ لَهُ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَهَا، قَالَ: أَلَيْسَ كَانَ يَقُولُهَا فِي حَيَاتِهِ، قَالُوا: بَلَى قَالَ، فَمَا مَنَعَهُ مِنْهَا عِنْدَ مَوْتِهِ، فَنَهَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَضْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَى الْغُلَامَ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَهَا، قَالَ: وَلِمَ، قَالَ: لِعُقُوقِ وَالِدَتِي، قَالَ: أَهِيَ حَيَّةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهَا، فَجَاءَتْهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْنُكِ هُوَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ أَنَّ نَارًا أُجِّجَتْ، فَقِيلَ لَكِ: إِنْ لَمْ تَشْفَعِي فِيهِ قَذَفْنَاهُ فِي هَذِهِ النَّارِ، فَقَالَتْ: إِذًا كُنْتُ أَشْفَعُ لَهُ، قَالَ: فَأَشْهِدِي اللَّهَ، وَأَشْهِدِينَا بِأَنَّكِ قَدْ رَضِيتِ عَنْهُ، فَقَالَتْ: قَدْ رَضِيتُ عَنِ ابْنِي، قَالَ: يَا غُلَامُ قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ الصُّدُورِ.
قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاتِّكَاءَ وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى التُّكَأَةِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ أَنْسَبُ لِبَابِ الِاتِّكَاءِ مِنْ بَابِ التُّكَأَةِ، وَكَذَا الْحَالُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَهُ، وَدَفَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ الِاتِّكَاءَ مُسْتَلْزِمٌ لِلتُّكَأَةِ، فَكَأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ، انْتَهَى.
وَفِيهِ مِنَ الْبَحْثِ مَا لَا يَخْفَى، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الِاتِّكَاءَ فِي الذِّكْرِ، وَإِفَادَةِ الْعِلْمِ بِمَحْضَرِ الْمُسْتَفِيدِينَ مِنْهُ لَا يُنَافِي الْأَدَبَ وَالْكَمَالَ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْصَارِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ، (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ، فَكَانَ سَائِلًا، قَالَ: مَا فَعَلَ بَعْدَ مَا جَلَسَ، فَقَالَ: قَالَ: (وَشَهَادَةُ الزُّورِ) عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ أَيْ، وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، فَلَا يَرُدُّ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنَ الْعُقُوقِ، وَفِي النِّهَايَةِ الزُّورُ بِضَمِّ الزَّايِ: الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ وَالتُّهْمَةُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: أَصْلُ الزُّورِ تَحْسِينُ الشَّيْءِ، وَوَصْفُهُ بِخِلَافِ صِفَتِهِ، حَتَّى يُخَيَّلَ لِمَنْ سَمِعَهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، وَقِيلَ لِلْكَذِبِ: زُورٌ؛ لِأَنَّهُ مَائِلٌ عَنْ جِهَتِهِ (أَوْ قَوْلُ الزُّورِ) وَهُوَ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ، أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّنْوِيعِ.
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ لَا شَكَّ فِيهَا، وَهِيَ «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْنَا: أَلَا سَكَتَ»، وَكَذَا وَقَعَ فِي الْعُمْدَةِ بِالْوَاوِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّأْكِيدِ، وَيُجْعَلَ مِنْ بَابِ الْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ، فَإِنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْقَوْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْكِذْبَةُ الْوَاحِدَةُ مُطْلَقًا كَبِيرَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، قَالَ مِيرَكُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ أَعْظَمَ الْكَذِبِ وَمَرَاتِبَهُ مُتَفَاوِتَةٌ، بِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةِ زُورٍ قَوْلُ زُورٍ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَيُحْتَمَلُ قَوْلُ الزُّورِ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: شَهَادَةُ الزُّورِ هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْكَذِبِ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الْبَاطِلِ مِنْ إِتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ، أَوْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ، أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ، فَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْهُ، وَلَا أَكْثَرُ فَسَادًا بَعْدَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، (قَالَ) أَيْ أَبُو بَكْرَةَ (فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهَا) أَيْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ أَوِ الْجُمْلَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: شَهَادَةُ الزُّورِ، أَوْ قَوْلُ الزُّورِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَالضَّمِيرُ فِي يَقُولُهَا هُنَا لِقَوْلِهِ: أَلَا وَمَا بَعْدَهَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، خِلَافًا لِمَنْ وَهِمَ فِيهِ، فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ (حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ) أَيْ تَمَنِّينَا أَنَّهُ سَكَتَ إِشْفَاقًا عَلَيْهِ، وَكَرَاهِيَةً لِمَا يُزْعِجُهُ كَيْلَا يَتَأَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: خَوْفًا مِنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا يُوجِبُ نُزُولَ الْعَذَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَدَبِ مَعَهُ، وَالْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْوَاعِظَ وَالْمُفِيدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى التَّكْرَارَ وَالْمُبَالَغَةَ، وَإِتْعَابَ النَّفْسِ فِي الْإِفَادَةِ، حَتَّى يَرْحَمَهُ السَّامِعُونَ وَالْمُسْتَفِيدُونَ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا) بِالتَّشْدِيدِ وَهِيَ لِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَ، وَقَدْ تَرِدُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ كَمَا هُنَا (إِنَّا) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: خَصَّصَ نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِهِ كَرَاهَتَهُ لَهُ دُونَ أُمَّتِهِ عَلَى مَا زَعَمَهُ ابْنُ الْقَاصِّ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَالْأَصَحُّ كَرَاهَتُهُ لَهُمْ أَيْضًا، فَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَضِيَّةَ كَمَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَمُ الِاتِّكَاءِ فِي الْأَكْلِ، إِذْ مَقَامُهُ الشَّرِيفُ يَأْبَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَامْتَازَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ انْتَهَى.
وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَعْرِيضُ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَعْجَامِ، بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِلْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْخُيَلَاءِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَنِي قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى امْتِنَاعِهِ، إِنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ الْخَفِيِّ لَا الْجَلِيِّ (فَلَا آكُلُ) بِالْمَدِّ عَلَى أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ (مُتَّكِئًا) بِالْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ، وَالتَّاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِكَاءِ، وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ الْكِيسُ وَنَحْوُهُ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ أَيْ لَا أَقْعُدُ مُتَّكِئًا عَلَى وَطَاءٍ تَحْتِي؛ لِأَنَّ هَذَا فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ الطَّعَامَ، وَإِنَّمَا أَكْلِي بُلْغَةٌ مِنْهُ، فَيَكُونُ قُعُودِي لَهُ مُسْتَوْفِرًا وَلَيْسَ الْمُتَّكِئُ هُنَا الْمَائِلُ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ، كَمَا تَظُنُّهُ الْعَامَّةُ، ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمُرَادُهُ أَنَّ الْمُتَّكِئَ هُنَا لَا يَنْحَصِرُ فِي الْمَائِلِ، بَلْ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ، فَيُكْرَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُتَكَبِّرِينَ الَّذِينَ لَهُمْ نَهْمَةٌ وَشَرَهٌ، وَاسْتِكْثَارٌ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَيُكْرَهُ أَيْضًا مُضْطَجِعًا، إِلَّا فِيمَا يَنْتَقِلُ بِهِ، وَلَا يُكْرَهُ قَائِمًا لَكِنَّهُ قَاعِدًا أَفْضَلُ.
قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: الِاتِّكَاءُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ الِاتِّكَاءُ عَلَى أَحَدِ الْجَنْبَيْنِ، الثَّانِي: وَضْعُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهَا، وَالثَّالِثُ: التَّرَبُّعُ عَلَى وَطَاءٍ وَالِاسْتِوَاءُ عَلَيْهِ، وَالرَّابِعُ: اسْتِنَادُ الظَّهْرِ عَلَى وِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ حَالَةَ الْأَكْلِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَكَبُّرًا، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْعُدَ عِنْدَ الْأَكْلِ مَائِلًا إِلَى الطَّعَامِ، وَكَانَ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، قَالَ: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ، فَجَثَى عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ، فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَكٌ لَمْ يَأْتِهِ قَبْلَهَا، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا، أَوْ مَلَكًا نَبِيًّا، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ: بَلْ عَبْدًا نَبِيًّا، قَالَ: فَمَا آكُلُ مُتَّكِئًا»، وَهَذَا مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: «مَا رُئِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مُتَّكِئًا قَطُّ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ فَزِعَ، فَقَالَ: إِنِّي أُعِيذُ بِكَ رَسُولَكَ»، وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَرَّةَ الَّتِي فِي أَثَرِ مُجَاهِدٍ، مَا اطَّلَعَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي نَاسِخِهِ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ جِبْرِيلَ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مُتَّكِئًا فَنَهَاهُ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا، بَعْدَ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حُكْمِ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا، فَزَعَمَ ابْنُ الْقَاصِّ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ، وَتَعَقَّبَهُ الْبَيْهَقِيُّ، فَقَالَ: قَدْ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمُتَنَعِّمِينَ، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ بِالْمَرْءِ مَانِعٌ لَا يُمَكَّنُ مَعَهُ مِنَ الْأَكْلِ إِلَّا مُتَّكِئًا، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ كَرَاهَةٌ، ثُمَّ سَاقَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ أَكَلُوا كَذَلِكَ، وَأَشَارَ إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ عَنْهُمْ عَلَى الضَّرُورَةِ.
وَفِي الْحَمْلِ نَظَرٌ، إِذْ قَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، جَوَازَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ صَرِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عِنْدَ الْأَكْلِ، قَالَ مَالِكٌ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاتِّكَاءِ وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى كَرَاهَةِ كُلِّ مَا يُعَدُّ الْآكِلُ فِيهِ مُتَّكِئًا، وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةٍ بِعَيْنِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَافَ الْأَوْلَى، فَالْمُسْتَحَبُّ فِي صِفَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ أَنْ يَكُونَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَظُهُورِ قَدَمَيْهِ، أَوْ يَنْصِبُ الرِّجْلَ الْيُمْنَى، وَيَجْلِسُ عَلَى الْيُسْرَى، وَاسْتَثْنَى الْغَزَّالِيُّ مِنْ كَرَاهَةِ الْأَكْلِ مُضْطَجِعًا، أَكْلَ النَّقْلِ، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ، وَأَقْوَى مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَأْكُلُوا تُكَأَةً مَخَافَةَ أَنْ يُعَظِّمَ بُطُونَهُمْ، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ بَقِيَّةُ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ، فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ، حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ حَمَلَ الِاتِّكَاءَ عَلَى الْمَيْلِ عَلَى أَحَدِ الشِّقَيْنِ تَأَوَّلَهُ عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ، فَإِنَّهُ لَا يَنْحَدِرُ عَلَى مَجَارِيِ الطَّعَامِ سَهْلًا، وَلَا يُسِيغُهُ هَنِيئًا، وَرُبَّمَا تَأَذَّى بِهِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بِفَتْحٍ وَسُكُونٍ وَفِي آخِرِهِ يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعَسْقَلَانِيُّ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ) وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ مُصَرِّحًا أَنَّ الثَّوْرِيَّ هُوَ الَّذِي رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ، قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا صَنِيعُ الْمِزِّيِّ فِي تَهْذِيبِهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ يَرْوِي عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَيْضًا، لَكِنَّ رِوَايَتَهُ لَيْسَتْ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا آكُلُ مُتَّكِئًا) قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِاخْتِلَافِ بَعْضِ رِجَالِ السَّنَدِ، وَتَغْيِيرٍ يَسِيرٍ فِي الْمَتْنِ، وَالْغَرَضُ تَأْكِيدُ هَذَا الْأَمْرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا لَا يَخْفَى، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمُنَاسَبَةُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا قَبْلَهُ لِلتَّرْجَمَةِ بَيَانُ أَنَّ اتِّكَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَيْرِ الْأَكْلِ، فَفِيهِ نَوْعُ بَيَانٍ لِتُكَأَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ.
(حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سِمَاكِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (ابْنِ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) صَحَابِيَّانِ (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ) بِكَسْرِ الْوَاوِ مَا يُتَوَسَّدُ بِهِ مِنَ الْمِخَدَّةِ (قَالَ أَبُو عِيسَى) يَعْنِي بِهِ نَفْسَهُ جَامِعُ هَذَا الْكِتَابِ (لَمْ يَذْكُرْ) أَيْ فِيهِ كَمَا فِي النُّسَخِ، يَعْنِي مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ (وَكِيعٌ: «عَنْ يَسَارِهِ») أَيْ هَذَا اللَّفْظَ، أَوْ هَذَا الْقَيْدَ، قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: مُرَادُهُ أَنَّ وَكِيعًا رَاوِي ذَلِكَ الْخَبَرِ أَخْبَرَ عَنْ وُقُوعِ الِاتِّكَاءِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الِاتِّكَاءِ، وَقَوْلُهُ: (هَكَذَا) أَيْ بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْكَيْفِيَّةِ (رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ نَحْوَ رِوَايَةِ وَكِيعٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى) وَفِي نُسْخَةٍ ذَكَرَ (فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي بَعْضِ النُّسَخِ (عَلَى يَسَارِهِ إِلَّا مَا رَوَى إِسْحَاقُ) فِيهِ مُسَامَحَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: إِلَّا إِسْحَاقَ (بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ) قَالَ السَّيِّدُ أَصِيلُ الدِّينِ: فَتَبَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ رِوَايَةَ إِسْحَاقَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى شَرْحِ كَيْفِيَّةِ اتِّكَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَرَائِبِ، فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَ مِيرَكُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، أَنَّ وَكِيعًا وَغَيْرَهُ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَذْكُرُوا قَوْلَهُ: عَلَى يَسَارِهِ، إِلَّا إِسْحَاقَ بْنَ مَنْصُورٍ الرَّاوِي عَنْ إِسْرَائِيلَ، كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ، فَعُلِمَ أَنَّ إِسْحَاقَ تَفَرَّدَ بِزِيَادَةِ: «عَلَى يَسَارِهِ»، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى إِيرَادُ هَذَا الطَّرِيقِ عُقَيْبَ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ.

.باب مَا جَاءَ فِي اتِّكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

قَالَ مِيرَكُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بَيَانُ اتِّكَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَالَةَ الْمَشْيِ لِعَارِضِ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ الْمُورَدَيْنِ فِيهَا، وَلَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَزَعَمَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْبَابَ وَالَّذِي قَبْلَهُ بَابًا وَاحِدًا، انْتَهَى.
وَأَرَادَ بِبَعْضِ النَّاسِ مُلَّا حَنَفِي.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَنَسٍ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَابِ لِبَاسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنَّ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَاكِيًا) أَيْ مَرِيضًا مِنَ الشَّكْوَى، وَالشِّكَايَةُ بِمَعْنَى الْمَرَضِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ مِيرَكَ: أَيْ مَرِيضًا ذَا شِكَايَةٍ، فَغَيْرُ مَرْضِيٍّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} قِيلَ: وَهَذَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ (فَخَرَجَ) أَيْ مِنَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ (يَتَوَكَّأُ) مِنَ التَّوَكُّؤِ بِمَعْنَى الِاتِّكَاءِ عَلَى الشَّيْءِ، أَيْ يَتَحَامَلُ وَيَعْتَمِدُ (عَلَى أُسَامَةَ) أَيِ ابْنِ زَيْدٍ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَعَلَيْهِ) أَيْ وَفَوْقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثَوْبٌ قِطْرِيٌّ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ، نَوْعٌ مِنَ الْبُرُدِ غَلِيظٌ (قَدْ تَوَشَّحَ بِهِ) أَيْ أَدْخَلَهُ تَحْتَ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُحْرِمُ (فَصَلَّى بِهِمْ) أَيْ إِمَامًا بِأَصْحَابِهِ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ الْخَفَّافُ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْأُولَى صَانِعُ الْخُفِّ أَوْ بَايِعُهُ، (الْحَلَبِيُّ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ) بِمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ فَرَاءٍ سَاكِنَةٍ فَقَافٍ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ.
(عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ) أَيْ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ) أَيِ الْفَضْلِ (دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ) بِضَمَّتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا أَيْ مَاتَ (فِيهِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، أَيْ خِرْقَةٌ أَوْ عِمَامَةٌ كَمَا مَرَّ، لَكِنَّ قَوْلَهُ الْآتِيَ اشْدُدْ بِهَذِهِ الْعِصَابَةِ رَأْسِي، يُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ بَلْ يُعَيِّنُهُ، قَالَ مِيرَكُ: الْعَصْبُ الشَّدُّ، وَمِنْهُ الْعِصَابَةُ لِمَا يُشَدُّ بِهِ (صَفْرَاءُ) قَالَ: الْحَنَفِيُّ لَعَلَّ صُفْرَتَهَا لَمْ تَكُنْ أَصْلِيَّةً، بَلْ كَانَتْ عَارِضَةً فِي أَيَّامِ مَرَضِهِ؛ لِأَجْلِ الْعَرَقِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَوْسَاخِ، قَالَ مِيرَكُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عِصَابَةٍ فِي سَمَاءٍ فِي بَابِ الْعِمَامَةِ، قُلْتُ: إِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى هَذَا، إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْعِصَابَةِ الْعِمَامَةَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الْخِرْقَةِ، فَلَا إِشْكَالَ (فَسَلَّمْتُ) أَيْ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ (فَقَالَ) أَيْ لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (يَا فَضْلُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ أُجِيبُ لَكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (قَالَ: اشْدُدْ بِهَذِهِ الْعِصَابَةِ رَأْسِي) هُوَ لَا يُنَافِي الْكَمَالَ فِي التَّوَكُّلِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّدَاوِي، وَإِظْهَارُ الِافْتِقَارِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالتَّبَرِّي مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ (قَالَ) أَيِ الْفَضْلُ (فَفَعَلْتُ) أَيْ مَا أَمَرَنِي بِهِ (ثُمَّ قَعَدَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا كَانَ مُضْطَجِعًا (فَوَضَعَ كَفَّهُ عَلَى مَنْكِبِي) بِسُكُونِ الْيَاءِ أَيْ عِنْدَ قَصْدِ الْقُعُودِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ عِنْدَ إِرَادَةِ الْقِيَامِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقَالَ مِيرَكُ: قَوْلُهُ: فَوَضَعَ كَفَّهُ عَلَى مَنْكِبِي، أَيْ فَاتَّكَأَ عَلَيَّ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: فَوَضَعَ كَفَّهُ وَكَانَ مُتَّكِئًا (ثُمَّ قَامَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَاعْتِمَادُهُ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامِ يُسَمَّى اتِّكَاءً، إِذْ قَدْ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الشَّيْءِ (وَدَخَلَ فِي الْمَسْجِدِ) وَفِي نُسْخَةٍ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الشَّائِعُ حَذْفُ فِي، وَتَعْدِيَةُ دَخَلَ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَفِي الْحَدِيثِ) أَيْ وَفِي آخِرِهِ (قِصَّةٌ) أَيْ طَوِيلَةٌ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَسَتَأْتِي فِي بَابِ الْوَفَاةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.