فصل: باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ فَاكِهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جمع الوسائل في شرح الشمائل



.باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الطَّعَامِ:

وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ مَا جَاءَ وَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ هُنَا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عِنْدَ الطَّعَامِ أَيْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، لِمَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَابِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، بِأَنْ يُرَادَ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَنَقَلَ مِيرَكُ عَنِ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ، وَإِيرَادِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَهَا، أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذَا الْبَابِ كَيْفِيَّةَ الْوُضُوءِ الْمُسْتَحَبِّ عِنْدَ الطَّعَامِ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ يَدُلَّانِ صَرِيحًا عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ هُنَا؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ، ثُمَّ أَرْدَفَهُمَا بِحَدِيثِ سَلْمَانَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ الْعُرْفِيِّ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، تَحْصِيلًا لِلْبَرَكَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَضْمُونَيِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ اللَّذَيْنِ يَخُصَّانِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ بِالصَّلَاةِ، يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْوُضُوءِ الْمَذْكُورِ آخِرَ الْبَابِ هُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ حَتَّى لَا يَتَحَقَّقَ التَّنَاقُضُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَهَذَا مُخْتَارُ الْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْوَجْهُ أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَمَجَازِهِ فَأَرَادَ الْأَوَّلَ مِنْ حَيْثُ نَفْيِهِ، وَالثَّانِيَ مِنْ حَيْثُ إِثْبَاتِهِ، انْتَهَى.
وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ مَا ذُكِرَ، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ النَّظَافَةُ الشَّامِلَةُ لَهُمَا، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى أَمْرَيْنِ، كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَضَمَّنَ التَّرْجَمَةَ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى التَّرْجَمَةِ سَائِغَةً شَائِعَةً، وَإِنَّمَا الْمَعِيبُ النَّقْصُ عَمَّا فِيهَا، ثُمَّ الطَّعَامُ هَاهُنَا مَا يُؤْكَلُ، كَمَا أَنَّر الشَّرَابَ مَا يُشْرَبُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْبُرِّ كَمَا وَرَدَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَصَاعًا مِنْ شَعِيرٍ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ) أَيِ السِّخْتِيَانِيِّ (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ) بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ الْمَكَانُ الْخَالِي، وَالْمُرَادُ هُنَا مَكَانُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيِ الْمُتَوَضَّأِ، غَيْرُ ظَاهِرٍ لَمْ نَجِدْهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: عَبَّرَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ اسْتِحْيَاءً وَتَجَمُّلًا (فَقُرِّبَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الطَّعَامُ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّنْكِيرِ (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (أَلَا نَأْتِيكَ) بِالِاسْتِفْهَامِ وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِهِ، لَكِنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (بِوَضُوءٍ) لِلتَّعْدِيَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الْعَرْضِ نَحْوَ أَلَا تَنْزِلُ عِنْدَنَا، وَالْمَعْنَى أَلَا تَتَوَضَّأُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآتِي (قَالَ: إِنَّمَا أُمِرْتُ) أَيْ وُجُوبًا (بِالْوُضُوءِ) بِضَمِّ الْوَاوِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ أَيْ بِفِعْلِهِ (إِذَا قُمْتُ) مُتَعَلِّقٌ بِالْوُضُوءِ لَا بِأُمِرْتُ أَيْ أَرَدْتُ الْقِيَامَ، وَأَنَا مُحْدِثٌ (إِلَى الصَّلَاةِ) أَيْ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوُضُوءُ عِنْدَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَإِرَادَةِ الطَّوَافِ، وَلَعَلَّهُ بَنَى الْكَلَامَ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ الطَّعَامِ وَاجِبٌ مَأْمُورٌ بِهِ، فَنَفَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَبْلَغِ، حَيْثُ أَتَى بِأَدَاةِ الْحَصْرِ، وَأَسْنَدَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يُنَافِي جَوَازَهُ، بَلِ اسْتِحْبَابُهُ فَضْلًا عَنِ اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ الْعُرْفِيِّ الْمَفْهُومِ مِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي آخِرَ الْبَابِ، سَوَاءٌ غَسَلَ يَدَيْهِ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْأَكْلِ أَمْ لَا.
قَالَ مِيرَكُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي يَلِيهِ تَعَرُّضٌ لِغَسْلِ الْيَدَيْنِ؛ لِأَجْلِ الطَّعَامِ لَا نَفْيًا، وَلَا إِثْبَاتًا، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ يَدَيْهِ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْأَكْلِ، قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا غَسَلَهُمَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ الْمَفْهُومِ مِنْ جَوَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْجُمْلَةِ لَا يَتِمُّ اسْتِدْلَالُ مَنِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْوُضُوءِ مُطْلَقًا، قَبْلَ الطَّعَامِ لِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.
(حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ) تَصْغِيرُ الْحَارِثِ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَائِطِ) الْغَوْطُ عُمْقُ الْأَرْضِ الْأَبْعَدُ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِلْمُنْخَفِضِ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ قِيلَ لِمَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ تُقْضَى فِي الْمُنْخَفِضِ، حَيْثُ هُوَ أَسْتَرُ لَهُ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ حَتَّى صَارَ يُطْلَقُ عَلَى النَّحْوِ نَفْسِهِ، كَذَا حَرَّرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْغَائِطَ أَصْلُهُ الْمُطْمَئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ، كَانُوا يَأْتُونَهُ لِلْحَاجَةِ قَبْلَ اتِّخَاذِ الْكُنُفِ فِي الْبُيُوتِ، فَكَنُّوا بِهِ عَنْ نَفْسِ الْحَدَثِ لِمَجَازِ الْمُجَاوَرَةِ كَرَاهَةً لِذِكْرِهِ بِخَاصِّ اسْمِهِ، إِذْ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ التَّعَفُّفُ، وَاسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ فِي كَلَامِهِمْ، وَصَوْنُ الْأَلْسِنَةِ عَمَّا يُصَانُ الْأَبْصَارُ وَالْأَسْمَاعُ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمَخْصُوصُ، وَمَا قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الْكَنِيفِ، وَهُوَ الْمُسْتَرَاحُ بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ (فَأُتِيَ) أَيْ جِيءَ (بِطَعَامٍ فَقِيلَ لَهُ أَلَا تَوَضَّأُ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِإِثْبَاتِهِمَا، وَالْمَعْنَى أَلَا تُرِيدَ الْوُضُوءَ فَنَأْتِيكَ بِالْوَضُوءِ، كَمَا تَقَدَّمَ (فَقَالَ أُصَلِّي) وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِنْكَارٌ لِمَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ إِيجَابِ الْوُضُوءِ لِلْأَكْلِ (فَأَتَوَضَّأَ) بِالنَّصْبِ لِكَوْنِهِ بَعْدَ النَّفْيِ، وَقَصْدِ السَّبَبِيَّةِ وَبِالرَّفْعِ لِعَدَمِ قَصْدِهَا ذَكَرَهُ الْعِصَامُ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: رُوِي مَنْصُوبًا عَلَى سَبَبِيَّةِ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ لِلْوُضُوءِ، وَمَرْفُوعًا نَظَرًا إِلَى مُجَرَّدِ اسْتِلْزَامِهَا لَهُ، لَا إِلَى السَّبَبِيَّةِ.
(حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ ح) إِشَارَةٌ إِلَى تَحْوِيلِ الْإِسْنَادِ؛ وَلِذَا عَطَفَ فِي قَوْلِهِ: (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجُرْجَانِيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ الْأُولَى (عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ) عَلَى زِنَةِ فَاعِلٍ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ (عَنْ زَاذَانَ) بِزَايٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ بَيْنَ أَلِفَيْنِ آخِرُهَا نُونٌ (عَنْ سَلْمَانَ) الْفَارِسِيِّ (قَالَ: قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ) أَيْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ (أَنَّ بَرَكَةَ الطَّعَامِ) بِفَتْحِ أَنَّ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا (الْوُضُوءُ) أَيْ غَسْلُ الْيَدَيْنِ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ) أَيِ الْمَقْرُوءَ الْمَذْكُورَ (لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ أَنِّي سَأَلْتُهُ، هَلْ بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ بَعْدَهُ، وَالْحَالُ أَنِّي أَخْبَرْتُهُ بِمَا قَرَأْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الِاخْتِصَارِ عَلَى تَقْيِيدِ الْوُضُوءِ بِمَا بَعْدَ الطَّعَامِ، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ، وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ) وَهَذَا يُحْتَمَلُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى تَحْرِيفِ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنْ يَكُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ زَادَتِ الْوُضُوءَ قَبْلَهُ أَيْضًا اسْتِقْبَالًا لِلنِّعْمَةِ بِالطِّهَارَةِ الْمُشْعِرَةِ لِلتَّعْظِيمِ عَلَى مَا وَرَدَ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ جَوَابُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ.
وَقَالَ مِيرَكُ: الْمُرَادُ مِنَ الْوُضُوءِ الْأَوَّلِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِطْلَاقًا لِلْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ مَجَازًا، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ تَعْظِيمُ نِعْمَةِ اللَّهِ لِيُبَارِكَ لَهُ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْأَكْلَ بَعْدَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ يَكُونُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ؛ وَلِأَنَّ الْيَدَ لَا تَخْلُو عَنْ تَلَوُّثٍ فِي تَعَاطِي الْأَعْمَالِ، وَغَسْلُهُمَا أَقْرَبُ إِلَى النَّظَافَةِ وَالنَّزَاهَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأَكْلَ يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الطَّهَارَةِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَيُبْتَدَأُ فِيهِ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْوُضُوءِ الثَّانِي غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ مِنَ الدُّسُومَاتِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ بِفَتْحَتَيْنِ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ».
أَخْرَجَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ انْتَهَى. وَوَرَدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ اللُّحُومِ شَيْئًا فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ مِنْ رِيحٍ وَغَيْرِهِ، وَلَا يُؤْذِي مَنْ حَذَاهُ»، قِيلَ: وَمَعْنَى: «بَرَكَةُ الطَّعَامِ مِنَ الْوُضُوءِ قَبْلَهُ» النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ نَفْسِهِ، وَبَعْدَهُ النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ فِي فَوَائِدِهَا وَآثَارِهَا، بِأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِسُكُونِ النَّفْسِ وَقَرَارِهَا وَسَبَبًا لِلطَّاعَاتِ وَتَقْوِيَةً لِلْعِبَادَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الْمُرْضِيَةِ وَالْأَفْعَالِ السَّنِيَّةِ، وَجَعْلِهِ نَفْسَ الْبَرَكَةِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَإِلَّا فَالْمُرَادُ أَنَّهَا تَنْشَأُ عَنْهُ، وَأَغْرَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ: الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ هُنَا، الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ خِلَافُ مَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ، مِنْ أَنَّ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ بِسُنَّةٍ عِنْدَ الْأَكْلِ، قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ سَلْمَانَ فِي جَامِعِهِ وَفِي الْبَابِ، عَنْ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ، ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ يَعْنِي حَدِيثَ سَلْمَانَ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَكْرَهُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُوضَعَ الرَّغِيفُ تَحْتَ الْقَصْعَةِ، انْتَهَى كَلَامُ الْمُؤَلِّفِ.
وَلَعَلَّ كَلَامَ الثَّوْرِيِّ مُحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ شُبْهَةٌ فِي طَهَارَةِ الْيَدِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ إِسْرَافٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْكَاشِفِ، فِي تَرْجَمَةِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ: كَانَ شُعْبَةُ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِقَوِيٍّ مَحَلُّهُ الصِّدْقُ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: عَامَّةُ رِوَايَاتِهِ سَقِيمَةٌ، انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ تَغَيَّرَ بِالْآخِرَةِ لَمَّا كَبِرَ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ ابْنُهُ مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.

.باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الطَّعَامِ:

أَيْ أَكْلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ عِنْدَ الطَّعَامِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةُ (وَبَعْدَ مَا يَفْرُغُ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الطَّعَامِ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَمْدُ (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) أَيِ ابْنُ سَعِيدٍ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ (حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ (عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ) وَاسْمُهُ سُوَيْدٌ بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ رَاشِدِ بْنِ جَنْدَلٍ الْيَافِعِيِّ) نِسْبَةً إِلَى مَوْضِعٍ أَوْ إِلَى قَبِيلَةٍ مِنْ رُعَيْنٍ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ) أَيِ الْخَزْرَجِيِّ، وَاسْمُهُ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، وَكَانَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي حُرُوبِهِ كُلِّهَا، وَمَاتَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ مُرَابِطًا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَذَلِكَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَعْطَاهُ أَبُوهُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ خَرَجَ مَعَهُ فَمَرِضَ، فَلَمَّا ثَقُلَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَاحْمِلُونِي، فَإِذَا صَادَفْتُمُ الْعَدُوَّ فَادْفِنُونِي تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، فَفَعَلُوا وَدَفَنُوهُ قَرِيبًا عَنْ سُورِهَا، وَهُوَ مَعْرُوفٌ إِلَى الْيَوْمِ مُعَظَّمٌ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِ فَيُشَفَّعُونَ، فَكَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقُرِّبَ) أَيْ إِلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (طَعَامٌ فَلَمْ أَرَ طَعَامًا كَانَ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْهُ، أَوَّلَ مَا أَكَلْنَا) أَيْ فِي أَوَّلِ وَقْتِ أَكْلِنَا فَمَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَأَوَّلَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَلَا أَقَلَّ بَرَكَةً) أَيْ مِنْهُ (فِي آخِرِهِ) أَيْ فِي آخِرِ وَقْتِ أَكْلِنَا إِيَّاهُ (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ هَذَا) أَيْ بَيِّنْ لَنَا الْحِكْمَةَ وَالسَّبَبَ فِي حُصُولِ عَظَمَةِ الْبَرَكَةِ وَكَثْرَتِهَا فِي أَوَّلِ أَكْلِنَا هَذَا الطَّعَامَ، وَقِلَّتِهَا فِي الْآخِرِ، وَانْعِدَامِ الْبَرَكَةِ مِنْهُ (قَالَ: إِنَّا ذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ أَكَلْنَا) فِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى أَنَّ سُنَّةَ التَّسْمِيَةِ تَحْصُلُ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَهِيَ أَكْمَلُ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَإِنِ اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ لِأَفْضَلِيَّةِ ذَلِكَ دَلِيلًا خَاصًّا، وَتُنْدَبُ حَتَّى لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، إِنْ لَمْ يَقْصِدُوا بِهَا قُرْآنًا وَإِلَّا حَرُمَتْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا تُنْدَبُ فِي مَكْرُوهٍ، وَلَا حَرَامٍ بَلْ لَوْ سَمَّى عَلَى خَمْرٍ كَفَرَ، عَلَى مَا فِيهِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَحَلِّهِ (ثُمَّ قَعَدَ مَنْ أَكَلَ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى، فَأَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ) أَيْ فَانْعَدَمَ بَرَكَتُهُ بِسُرْعَةٍ، وَأَكْلُ الشَّيْطَانِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا؛ لِإِمْكَانِهِ شَرْعًا وَعَقْلًا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الطِّيبِيَّ نَقَلَ عَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَوْ سَمَّى وَاحِدٌ فِي جَمَاعَةٍ يَأْكُلُونَ لَكَفَى ذَلِكَ، وَسَقَطَ عَنِ الْكُلِّ، ثُمَّ قَالَ: فَتَنْزِيلُهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَعَدَ، أَيْ بَعْدَ فَرَاغِنَا مِنَ الطَّعَامِ، وَلَمْ يُسَمِّ، أَوْ يُقَالُ: أَنَّ شَيْطَانَ هَذَا الرَّجُلِ جَاءَ مَعَهُ، فَلَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُنَا مُؤَثِّرَةً فِيهِ، وَلَا هُوَ سَمَّى يَعْنِي لِتَكُونَ تَسْمِيَتُهُ مَانِعَةً مِنْ أَكْلِ شَيْطَانِهِ مَعَهُ، قَالَ مِيرَكُ: وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ التَّوْجِيهَ الْأَوَّلَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، إِذْ كَلِمَةُ ثُمَّ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى تَرَاخِي قُعُودِ الرَّجُلِ عَنْ أَوَّلِ اشْتِغَالِهِمْ بِالْأَكْلِ، وَأَمَّا عَلَى تَرَاخِيهِ عَنْ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْأَكْلِ كَمَا ادَّعَاهُ فَلَا.
وَأَمَّا التَّوْجِيهُ الثَّانِي فَحَسَنٌ، لَكِنْ لَيْسَ صَرِيحًا فِي دَفْعِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، فَالْأَوْلَى مَا يُقَالُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا اشْتَغَلَ جَمَاعَةٌ بِالْأَكْلِ مَعًا، وَسَمَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ تَسْمِيَةُ هَذَا الْوَاحِدِ تُجْزِئُ عَنِ الْبَوَاقِي مِنَ الْحَاضِرِينَ، لَا عَنْ شَخْصٍ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا مَعَهُمْ وَقْتَ التَّسْمِيَةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّسْمِيَةِ عَدَمُ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ مَعَ الْآكِلِ مِنَ الْإِنْسَانِ، فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ إِنْسَانٌ وَقْتَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ، لَمْ تُؤَثِّرْ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ فِي عَدَمِ تَمَكُّنِ شَيْطَانِ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَكْلِ مَعَهُ، تَأَمَّلْ.
(حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ) كَانَ يَبِيعُ الْبَزَّ الدَّسْتَوَائِيَّةَ فَنُسِبَ إِلَيْهَا (عَنْ بُدَيْلٍ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ، وَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ (الْعُقَيْلِيِّ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ) بِتَصْغِيرِهِمَا (عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ) قِيلَ: هِيَ اللَّيْثِيَّةُ الْمَكِّيَّةُ، وَقِيلَ: تَيْمِيَةُ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (عَنْ عَائِشَةَ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ: رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ، عَنْ عَائِشَةَ وَرَوَى حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ، عَنْ عَائِشَةَ فِي الِاسْتِحَاضَةِ، وَرَوَى عُمَرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ عَنْ عَائِشَةَ فِي بَوْلِ الْغُلَامِ، فَلَا أَدْرِي هَلِ الْجَمِيعُ وَاحِدٌ أَمْ لَا، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَائِهِ، أَنَّهَا بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ وَهَاجَرَتْ مَاشِيَةً، وَبَايَعَتْ (قَالَتْ) أَيْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَنَسِيَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُخَفَّفَةِ، فَفِيهِ بَيَانُ الْجَوَازِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ نَسِيتُ، وَإِنَّمَا يَقُولُ أُنْسِيتُ إِذِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْسَاهُ تَنْزِيهِيٌّ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَدَبُ اللَّفْظِيُّ الَّذِي لَا حُرْمَةَ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} وَالْمَعْنَى تَرَكَ نَاسِيًا (أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ) أَيِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى الطَّعَامِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ حِينَ الشُّرُوعِ فِي الْأَكْلِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ فِي أَثْنَائِهِ أَنَّهُ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ أَوَّلًا (فَلْيَقُلْ) أَيْ نَدْبًا (بِسْمِ اللَّهِ) الْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ (أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَالرَّاءِ عَلَى أَنَّهُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي قُصِدَ لَهُ التَّسْمِيَةُ، فَلَا يُقَالُ ذِكْرُهُمَا يُخْرِجُ الْوَسَطَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِأَوَّلِهِ النِّصْفُ الْأَوَّلُ، وَبِآخِرِهِ النِّصْفُ الثَّانِي، فَلَا وَاسِطَةَ أَوْ عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعُولَا فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَكَلْتُ أَوَّلَهُ وَآكُلُ آخِرَهُ مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الطِّيبِيِّ: أَيْ أَكَلَ. بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ مُسْتَعِينًا بِهِ، قِيلَ: فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ أَكْلَ أَوَّلِهِ لَيْسَ فِي زَمَانِ الِاسْتِعَانَةِ بِسْمِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْتِ أَكْلِ أَوَّلِهِ مُسْتَعِينًا بِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ فِي وَقْتِ أَكْلِ أَوَّلِهِ مُسْتَعِينٌ بِهِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُؤْمِنِ وَشَأْنَهُ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ لِنِسْيَانِهِ، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النِّسْيَانَ فِي تَرْكِ التَّسْمِيَةِ حَالَ الذَّبْحِ مَعْفُوٌّ، مَعَ أَنَّهَا شَرْطٌ، فَكَيْفَ وَالتَّسْمِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْأَكْلِ إِجْمَاعًا، وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ شَارِحٍ قَالَ: فَنَسِيَ أَوْ تَرَكَ عَلَى وَجْهٍ، فَإِنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ، فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ مَا يَتَدَارَكُ بِهِ مَا فَاتَهُ، بِخِلَافِ التَّعَمُّدِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَلْحَقَ بِهِ أَئِمَّتُنَا مَا إِذَا تَعَمَّدَ أَوْ جَهِلَ أَوْ كَرِهَ انْتَهَى.
أَمَّا الْعَمْدُ فَقَدْ عَرَفْتَهُ، وَأَمَّا الْجَهْلُ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ إِذَا تَرَكَ ذِكْرَ اللَّهِ فِي أَوَّلِ أَكْلِهِ جَهْلًا بِكَوْنِ التَّسْمِيَةِ سُنَّةً، فَلْيَقُلْ فِي أَثْنَائِهِ بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِذَا عَلِمَ الْمَسْأَلَةَ فِي أَثْنَائِهِ، وَلَا يَخْفَى نُدْرَتُهُ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْجَهْلَ عُذْرٌ كَالنِّسْيَانِ بِخِلَافِ التَّعَمُّدِ فَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَأَشَدُّ مِنْهُمَا عُذْرًا، مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مَنْعُهُ عَنِ الْبَسْمَلَةِ إِلَّا جَهْرًا أَوْ لِسَانًا، فَحِينَئِذٍ يَكْتَفِي بِذِكْرِ اللَّهِ قَلْبًا، فَأَيْنَ هَذَا مِنَ التَّعَمُّدِ، وَفِي الْمُحِيطِ لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَصِيرُ مُقِيمًا لِلسُّنَّةِ، يَعْنِي فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ، فَكَذَا فِي أَوَّلِ الْأَكْلِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ.
فَرْعٌ.
نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فَذَكَرَهَا فِي خِلَالِ الْوُضُوءِ، فَسَمَّى لَا تَحْصُلُ السُّنَّةُ، بِخِلَافِ نَحْوِهِ فِي الْأَكْلِ كَذَا فِي الْغَايَةِ، مُعَلِّلًا بِأَنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ فِي الْأَكْلِ تَحْصِيلَ السُّنَّةِ فِي الْبَاقِي لِاسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ، انْتَهَى.
وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَوْ سَمَّى بَعْدَ فَرَاغِ الْأَكْلِ لَا يَكُونُ آتِيًا بِالسُّنَّةِ، لَكِنْ لَا يَخْلُو عَنِ الْفَائِدَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يَشْمَلُهُ إِطْلَاقُ الْحَدِيثِ، فَقَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: لَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ لِيَمْنَعَ الشَّيْطَانَ وَبِالْفَرَاغِ لَا يُمْنَعُ، مَرْدُودٌ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لِذَلِكَ فَحَسْبُ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنَّهُ شُرِعَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَيْضًا لِيَقِيءَ الشَّيْطَانُ مَا أَكَلَهُ، وَالْمَقْصُودُ حُصُولُ ضَرَرِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْحَالَيْنِ، انْتَهَى.
وَفِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِهَذَا الْغَرَضِ أَيْضًا لَأَمَرَ مَنْ قَعَدَ لِلْأَكْلِ، وَلَمْ يُسَمِّ سَابِقًا بِالتَّسْمِيَةِ لَاحِقًا، وَأَيْضًا فِي حَدِيثِ الِاسْتِقَاءِ تَقْيِيدٌ يُفَادُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَثْنَاءُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ مَخْشِيٍّ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَأْكُلُ فَلَمْ يُسَمِّ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ طَعَامِهِ إِلَّا لُقْمَةٌ، فَلَمَّا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ، قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: مَا زَالَ الشَّيْطَانُ يَأْكُلُ مَعَهُ، فَلَمَّا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ اسْتَقَاءَ مَا فِي بَطْنِهِ، انْتَهَى. وَظَاهِرٌ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَيُرَدُّ بِهِ الْقَوْلُ بِأَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ، وَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ وَحْدَهُ أَوْ كَانَ مُلْحَقًا بِهِمْ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّبَّاحِ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (الْهَاشِمِيُّ الْبَصْرِيُّ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِهَا، (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ) اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ (أَنَّهُ) أَيْ عُمَرُ وَهُوَ رَبِيبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (طَعَامٌ فَقَالَ: ادْنُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالنُّونِ، أَمْرٌ مِنَ الدُّنُوِّ، أَيِ اقْرَبْ إِلَيَّ وَإِلَى الطَّعَامِ، (يَا بُنَيَّ) بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ شَفَقَةً وَاهْتِمَامًا بِحَالِهِ، وَهُوَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِهَا (فَسَمِّ اللَّهَ تَعَالَى) أَمْرُ نَدْبٍ اتِّفَاقًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُسَنُّ لِلْمُبَسْمِلِ الْجَهْرُ لِيُسْمِعَ مَنْ عِنْدَهُ، انْتَهَى.
وَكَوْنُهُ سُنَّةً يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ صَرِيحٍ، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ مِنْ أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ، نَعَمْ يُسْتَحَبُّ جَهْرُهَا لِيَشْرُدَ الشَّيْطَانُ عَنْهُ؛ وَلِيَتَذَكَّرَ بِهَا رَفِيقُهُ، إِنْ كَانَ هُنَاكَ أَحَدٌ (وَكُلْ بِيَمِينِكَ) قَالَ مِيرَكُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَوَامِرَ الثَّلَاثَةَ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلنَّدْبِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَيُؤَيِّدُهُ وُرُودُ الْوَعِيدِ فِي الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: كُلْ بِيَمِينِكَ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، فَقَالَ: لَا اسْتَطَعْتَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ بَعْدُ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ تَأْكُلُ بِشِمَالِهَا، فَدَعَا عَلَيْهَا، فَأَصَابَهَا الطَّاعُونُ فَمَاتَتْ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الزَّجْرِ وَالسِّيَاسَةِ، انْتَهَى.
وَوَرَدَ لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ.
وَوَرَدَ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، وَلْيَأْخُذْ بِيَمِينِهِ، وَلْيُعْطِ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ، وَيُعْطِي بِشِمَالِهِ، وَيَأْخُذُ بِشِمَالِهِ، رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّشَبُّهِ بِالشَّيْطَانِ، فَيُفِيدُ الِاسْتِحْبَابَ (وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ) أَيْ نَدْبًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: وُجُوبًا لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ، وَمَزِيدِ شَرَهٍ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَانْتَصَرَ لَهُ السُّبْكِيُّ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ، وَمَوَاضِعَ مِنَ الْأُمِّ، وَفِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ، أَنَّهُ يَحْرُمُ الْأَكْلُ مِنْ رَأْسِ الثَّرِيدِ، وَالْقِرَانُ فِي التَّمْرِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا مَكْرُوهَانِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ رِضَا مَنْ يَأْكُلُ مَعَهُ، وَإِلَّا فَلَا حُرْمَةَ وَلَا كَرَاهَةَ، لِمَا مَرَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ، وَالْجَوَابُ بِأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ وَحْدَهُ مَرْدُودٌ، بِأَنَّ أَنَسًا كَانَ يَأْكُلُ مَعَهُ، عَلَى أَنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأَكْلَ مِمَّا يَلِي الْآكِلَ سُنَّةٌ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ، انْتَهَى.
فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ التَّتَبُّعُ الْمَذْكُورُ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ عَلَى تَدْوِيرِهَا إِلَى مَا يَلِيهِ، ثُمَّ أَكْلُهُ مِنْهُ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ صَدَرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَرَاغِ أَنَسٍ مِنَ الْأَكْلِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ التَّتَبُّعِ بِيَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، مِمَّا يَلِيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي جَانِبَيْهِ، وَهَذَا أَظْهَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الطَّعَامُ لَوْنًا وَاحِدًا، فَلَا يَتَعَدَّى الْآكِلُ مِمَّا يَلِيهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ أَكْثَرَ فَيَتَعَدَّاهُ، نَعَمْ فِي الْفَاكِهَةِ مِمَّا لَا يُقَذَّرُ فِي الْأَكْلِ مِنْ غَيْرِ مَا يَلِي الْآكِلَ، لَا كَرَاهَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ، وَلَا تَقَذُّرَ، وَبَحَثَ بَعْضُهُمُ التَّعْمِيمَ غَفْلَةً عَنِ الْمَعْنَى وَالسُّنَّةِ، انْتَهَى.
وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَعْنَى وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتِ الْمُخَصِّصُ فَلَا يَنْبَغِي التَّعْمِيمُ فِي الْفَاكِهَةِ أَيْضًا، بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِمَّا يَكُونُ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَمَعَ هَذَا لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَهِ، وَالتَّطَلُّعِ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَتَرْكِ الْإِيثَارِ الَّذِي هُوَ اخْتِيَارُ الْأَبْرَارِ.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ) اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ دِرْهَمٍ (الزُّبَيْرِيُّ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ الثَّوْرِيُّ عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ الْمُصَحَّحِ (عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رِيَاحٍ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَحْتِيَّةٍ (عَنْ رِيَاحِ بْنِ عَبِيدَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ) أَيْ مِنْ أَكْلِ مَأْكُولِهِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْهُ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ، أَوْ مَعَ أَضْيَافِهِ، أَوْ فِي مَنْزِلِ الْمُضِيفِ، عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ الْآتِي، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ لَمَّا شَارَكَ أُمَّتَهُ الضَّعِيفَةَ، مَعَ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ (قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ) أَيْ مُوَحِّدِينَ مُنْقَادِينَ لِجَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ، قِيلَ: وَفَائِدَةُ إِيرَادِ الْحَمْدِ بَعْدَ الطَّعَامِ أَدَاءُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَطَلَبُ زِيَادَةِ النِّعْمَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعْمَةِ، فِي حُصُولِ مَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَتَوَقَّعُ حُصُولَهُ، وَانْدِفَاعِ مَا كَانَ يَخَافُ وُقُوعَهُ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ بَاعِثُ الْحَمْدِ هُنَا هُوَ الطَّعَامُ، ذَكَرَهُ أَوَّلًا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَكَانَ السَّقْيُ مِنْ تَتِمَّتِهِ؛ لِكَوْنِهِ مُقَارِنًا لَهُ فِي التَّحْقِيقِ غَالِبًا، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مَنْ ذَكَرَ النِّعَمَ الظَّاهِرَةَ إِلَى النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ، فَذَكَرَ مَا هُوَ أَشْرَفُهَا، وَخَتَمَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حُسْنِ الْخَاتِمَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الِانْقِيَادِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا، قَدْرًا وَوَصْفًا وَوَقْتًا وَاحْتِيَاجًا وَاسْتِغْنَاءً بِحَسَبِ مَا قُدِّرَ لَهُ وَقَضَاهُ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ) يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيَّ الْكُلَاعِيَّ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، قَالَ: لَقِيتُ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ، مَاتَ بِطَرَسُوسَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رُفِعَتِ الْمَائِدَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) قَدْ فَسَّرُوا الْمَائِدَةَ بِأَنَّهَا خِوَانٌ عَلَيْهِ طَعَامٌ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ بِرِوَايَةِ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْكُلْ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، فَقِيلَ: أَكَلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَحْيَانِ؛ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ أَنَسًا مَا رَأَى وَرَآهُ غَيْرُهُ، وَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي أَوْ يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخِوَانِ مَا يَكُونُ بِخُصُوصِهِ وَالْمَائِدَةُ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَادَ يَمِيدُ إِذَا تَحَرَّكَ أَوْ أَطْعَمَ، وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْمَائِدَةُ وَيُرَادُ بِهَا نَفْسُ الطَّعَامِ أَوْ بَقِيَّتُهُ أَوْ إِنَاؤُهُ، فَيَكُونُ مُرَادُ أَبِي أُمَامَةَ إِذَا رُفِعَ مِنْ عِنْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وُضِعَ عَلَيْهِ أَوْ بَقِيَّتُهُ (يَقُولُ) أَيْ رَافِعًا صَوْتَهُ إِذْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْحَمْدِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَكْلِ، إِذَا لَمْ يَفْرُغْ جُلَسَاؤُهُ، كَيْلَا يَكُونَ مَنْعًا لَهُمْ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِنْعَامُ بِالْإِطْعَامِ (حَمْدًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلْحَمْدِ، إِمَّا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ، أَوْ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ (كَثِيرًا) أَيْ لَا نِهَايَةَ لِحَمْدِهِ كَمَا لَا غَايَةَ لِنِعَمِهِ (طَيِّبًا) أَيْ خَالِصًا مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (مُبَارَكًا) هُوَ وَمَا قَبْلَهُ صِفَاتٌ لِحَمْدًا، وَقَوْلُهُ: (فِيهِ) ضَمِيرُهُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَمْدِ أَيْ حَمْدًا ذَا بَرَكَةٍ دَائِمًا لَا يَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ نِعَمَهُ لَا تَنْقَطِعُ عَنَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَمْدُنَا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ أَيْضًا، وَلَوْ نِيَّةً وَاعْتِقَادًا (غَيْرَ مُوَدَّعٍ) بِنَصْبِ غَيْرِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مِنَ الْحَمْدِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ، وَمُوَدَّعٍ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ غَيْرَ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} أَيْ مَا تَرَكَكَ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْقَائِلِ، أَيْ غَيْرَ تَارِكِ الْحَمْدِ أَوْ تَارِكِ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ، فِيمَا عِنْدَهُ وَتَعَقَّبَ بِأَنَّهُ مَعَ بُعْدِهِ لَا يُلَائِمُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ) إِذِ الرِّوَايَةُ فِيهِ لَيْسَتْ إِلَّا عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الرَّسْمِ، وَمَعْنَاهُ غَيْرُ مَطْرُوحٍ، وَلَا مُعْرِضٍ عَنْهُ، بَلْ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ بِدَلِيلِ لَا.
لَا أَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ كَمَا قِيلَ، وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّهُ بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ لَمْ تُسْتَفَدْ مِنْ سَابِقِهِ نَصًّا وَهِيَ أَنَّهُ لَا اسْتِغْنَاءَ لِأَحَدٍ عَنِ الْحَمْدِ لِوُجُوبِهِ بِهِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، إِذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ عَنْ نِعَمِهِ، بَلْ نِعَمُهُ لَا تُحْصَى، وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ وَاجِبٌ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ لَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِوُجُوبِهِ أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ لَفْظًا يَأْثَمُ، بَلْ أَنَّ مَنْ أَتَى بِهِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ أُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، وَمَنْ أَتَى بِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ أُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْمَنْدُوبِ، أَمَّا شُكْرُ النِّعَمِ بِمَعْنَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ إِجْمَاعًا ثُمَّ قَوْلُهُ: (رَبَّنَا) بِتَثْلِيثِ الْمُوَحَّدَةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ وَجْهِهِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ أَيْضًا: «غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ» الْحَدِيثَ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى أَحَدٍ، فَيَكْفِي لَكِنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ وَيَكْفِي وَلَا يُكْفَى، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ كَفَأْتُ الْإِنَاءَ أَيْ: غَيْرَ مَرْدُودٍ عَلَيْهِ إِنْعَامُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الْكِفَايَةِ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مُكْفًى، رَزَقَ عِبَادَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْفِيهِمْ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلطَّعَامِ، وَمَكْفِيٌّ بِمَعْنَى مَقْلُوبٍ مِنَ الْإِكْفَاءِ وَهُوَ الْقَلْبُ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيِّ أَنَّ الصَّوَابَ غَيْرُ مُكَافَأٍ بِالْهَمْزَةِ، أَيْ أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُكَافَأُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ هَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِالْيَاءِ وَلِكُلٍّ مَعْنًى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ ضَمِيرَ اسْمِ الْمَفْعُولِ فِي مُوَدَّعٍ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلَى الْحَمْدِ أَوْ إِلَى الطَّعَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ «غَيْرَ» مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ يَعْنِي مِنَ اللَّهِ فِي الْحَمْدِ لِلَّهِ، بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَوِ الْفَاعِلِيَّةِ فِيهِ، أَيِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُوَدَّعٍ، أَيْ غَيْرُ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ هُوَ الْمَرْجِعُ وَالْمُسْتَغَاثُ وَالْمَدْعُوُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ مَرْفُوعًا أَيْ هُوَ غَيْرُ مُوَدَّعٍ، وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَمْدَ غَيْرُ مَتْرُوكٍ، بَلِ الِاشْتِغَالَ بِهِ دَائِمٌ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، كَمَا أَنَّ نِعَمَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تَنْقَطِعُ عَنَّا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ ضَرُورِيٌّ دَائِمًا، وَنَصْبُ «غَيْرَ» وَرَفْعُهُ بِحَالِهِمَا، وَعَلَى الثَّالِثِ مَعْنَاهُ أَنَّ الطَّعَامَ غَيْرُ مَتْرُوكٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ دَائِمَةٌ، وَجُمْلَةُ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَالنَّصْبُ وَالرَّفْعُ فِي غَيْرٍ بِحَالِهِمَا، وَقَوْلُهُ: رَبُّنَا رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، فَالرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ رَبُّنَا، أَوْ أَنْتَ رَبُّنَا اسْمَعْ حَمْدَنَا وَدُعَاءَنَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ «غَيْرُ» بِالرَّفْعِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مُنَادَى حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّهِ، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَنْهُ، وَاضِحُ الْفَسَادِ، إِذْ ضَمِيرُ عَنْهُ لِلْحَمْدِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ ذَوْقٌ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ تَقَدَّمَ وَجْهُ أَنَّ ضَمِيرَهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ، فَلَا فَسَادَ حِينَئِذٍ أَصْلًا، وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: «رَبَّنَا»، حَيْثُ قَالَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ رَبُّنَا هَذَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي نَصْبِهِ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْمَدْحِ، أَوِ الِاخْتِصَاصِ أَوْ إِضْمَارِ، أَعْنِي أَيْضًا خِلَافًا لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى النِّدَاءِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ وَأَغْنَيْتَ وَأَفْضَيْتَ، وَهَدَيْتَ وَأَحْيَيْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ عِنْدَ قَوْمٍ، لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَدْعُوَ لَهُمْ، فَدَعَا فِي مَنْزِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، بِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي مَنْزِلِ سَعْدٍ، بِقَوْلِهِ: «أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَسَقَاهُ آخَرُ لَبَنًا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَمْتِعْهُ بِشَبَابِهِ»، فَمَرَّتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً لَمْ يَرَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ.
رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، وَفِي خَبَرٍ مُرْسَلٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَكَلَ مَعَ قَوْمٍ كَانَ آخِرَهُمْ أَكَلًا، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا، إِذَا وُضِعَتِ الْمَائِدَةُ فَلَا يَقُومُ الرَّجُلُ وَإِنْ شَبِعَ، حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الطَّعَامِ حَاجَةً.
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ) بِالصَّرْفِ وَعَدَمِهِ، أَيِ ابْنُ وَزِيرٍ قِيلَ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ مُسْتَمْلَى وَكِيعٍ، حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، مَاتَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، (حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ، مَمْدُودًا، فِي آخِرِهِ يَاءُ النِّسْبَةِ، (عَنْ بُدَيْلِ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ فَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ، (بْنِ مَيْسَرَةَ الْعُقَيْلِيِّ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا (عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ) اللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ مِنْ قَبِيلِ.
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي.
أَيْ طَعَامًا كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فِي سِتَّةٍ) أَيْ مَعَ سِتَّةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا أَيْ كَائِنًا فِي سِتَّةٍ، (مِنْ أَصْحَابِهِ) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ الطَّعَامِ، (فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَأَكَلَهُ) أَيْ جَاءَ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّسْمِيَةَ، وَشَرَعَ فِي الْأَكْلِ، فَأَكَلَ الطَّعَامَ الْمَذْكُورَ (بِلُقْمَتَيْنِ) وَفِي نُسْخَةٍ فِي لُقْمَتَيْنِ، وَالْمَآلُ وَاحِدٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ سَمَّى) أَيْ لَوْ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: بِسْمِ اللَّهِ (لَكَفَاكُمْ) أَيِ الطَّعَامُ بِبَرَكَةِ التَّسْمِيَةِ، وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْخِطَابِ الْأَعْرَابِيُّ أَيْضًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَكَفَانَا، وَالْأَوَّلُ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْأَذْكَارِ، قَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَاقِعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُتَّحِدَةً مَعَ مَا رَوَاهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَيُحْتَمَلُ التَّعَدُّدُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَكَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّ عَائِشَةَ رَأَتْ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ بِعَيْنِهَا، قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهَا سَمِعَتْ شَرْحَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَاضِرِينَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا هَنَّادٌ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ (وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ زَكَرِيَّا) بِالْقَصْرِ وَيُمَدُّ (بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ) اللَّامُ لِلْجِنْسِ أَوِ الِاسْتِغْرَاقِ (أَنْ يَأْكُلَ) أَيْ بِسَبَبِ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ لِأَجْلِ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ وَقْتَ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ لِيَرْضَى أَيْ يُحِبُّ أَنْ يَأْكُلَ، (الْأَكْلَةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيِ الْمَرَّةَ مِنَ الْأَكْلِ حَتَّى يَشْبَعَ، وَيُرْوَى بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيِ اللُّقْمَةَ، وَهِيَ أَبْلَغُ فِي بَيَانِ اهْتِمَامِ أَدَاءِ الْحَمْدِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْفَقُ مَعَ قَوْلِهِ (أَوْ يَشْرَبُ الشَّرْبَةَ) فَإِنَّهَا بِالْفَتْحِ لَا غَيْرَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلِهِ (فَيَحْمَدُهُ) بِالرَّفْعِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ نُسَخِ الشَّمَائِلِ، أَيْ فَهُوَ أَيِ الْعَبْدُ يَحْمَدُهُ (عَلَيْهَا) عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَكْلَةِ وَالشَّرْبَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِزِيَادَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ الْفِقْرَةِ الْأُولَى أَيْضًا، فَلَا إِشْكَالَ، ثُمَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقَدْ أَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَعَلَّ هَذَا شَكُّ رَاوٍ، ثُمَّ قَالَ: رَوَى فَيَحْمَدَهُ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ الْأَوَّلُ، فَتَدَبَّرْ.

.باب مَا جَاءَ فِي قَدَحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

فِي الْمُغْرِبِ الْقَدَحُ بِفَتْحَتَيْنِ الَّذِي يُشْرَبُ بِهِ.
(حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَدَحَ خَشَبٍ) بِالْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ وَقَالَ: أَوْ بِمَعْنَى مِنْ مَعَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ (غَلِيظًا مُضَبَّبًا بِحَدِيدٍ) وَفِي الْمُغْرِبِ بَابٌ مُضَبَّبٌ مَشْدُودٌ بِالضَّبَّاتِ، جَمْعُ ضَبَّةٍ، وَهِيَ حَدِيدَتُهُ الْعَرِيضَةُ الَّتِي يُضَبَّبُ بِهَا، وَهُمَا بِالنَّصْبِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ لِلشَّمَائِلِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الْقَدَحِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ، وَجَعَلَ أَصْلَ الْحَدِيثِ بِجَرِّهِمَا، ثُمَّ قَالَ: وَفِي نُسْخَةٍ «غَلِيظًا مُضَبَّبًا»، قَالَ: وَالْأُولَى مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ جَامِعِ الْمُؤَلِّفِ وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا تَرْجِيحُ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَيْ كَمَا سَيَأْتِي بِجَمِيعِ خُصُوصِيَّاتِهِ، وَجَعْلُ الْأُولَى مِنْ قَبِيلِ «جُحْرِ ضَبٍّ خَرِبٍ»، مِمَّا جُرَّ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ فَبَعِيدٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا هَاهُنَا، وَمَا فِي: «جُحْرِ ضَبٍّ خَرِبٍ»، أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْقَائِلَ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يُقَارِبُهُ، لَا أَنَّهُ يُمَاثِلُهُ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ الْخَشَبُ بِكَوْنِهِ غَلِيظًا مُضَبَّبًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ هُنَا، فَإِنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَدَحِ خَشَبٍ بِمَعْنَى مِنْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَدَحَ مَا أُخِذَ مِنْ خَشَبٍ مُضَبَّبًا، وَأَيْضًا فَالْمُرَادُ مِنْ وَصْفِ الْغَلِيظِ أَنْ يَكُونَ لِلْقَدَحِ لَا أَنَّهُ لِلْخَشَبِ، فَإِنَّهُ لَا كَلَامَ فِيهِ فَالصَّوَابُ أَنْ يُثْبَتَ. فِي الْجَامِعِ: «غَلِيظٌ مُضَبَّبٌ» أَيْ يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ وَذَلِكَ الْقَدَحُ غَلِيظٌ مُضَبَّبٌ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ رِوَايَةِ الرَّفْعِ لَا يُجْعَلُ أَصْلًا بَلْ يُذْكَرُ رِوَايَةً.
نَعَمْ ذَكَرَ شَارِحٌ لِهَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ: «غَلِيظٌ مُضَبَّبٌ»، كَمَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ أَوْ مَجْرُورٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ إِلَّا إِذَا وَرَدَ جَرُّهُمَا بِالنَّقْلِ الصَّرِيحِ (فَقَالَ) أَيْ أَنَسٌ (يَا ثَابِتُ هَذَا قَدَحُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ تَوَاضُعِهِ، وَتَرْكِ تَكَلُّفِهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ عِنْدَ أَنَسٍ هُوَ قَدْحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ أَيْ طُولُهُ أَقْصَرُ مِنْ عَرْضِهِ، اتُّخِذَ مِنَ النُّضَارِ بِضَمِّ النُّونِ وَخِفَّةِ الْمُعْجَمَةِ، وَمَعْنَاهُ الْعُودُ الْخَالِصُ، وَقَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ السِّيَرِ: أَصْلُهُ مِنَ النَّبْعِ بِفَتْحِ النُّونِ، وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقِيلَ: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْأَثْلِ يَمِيلُ إِلَى الصُّفْرَةِ، وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ قَدِ انْصَدَعَ فَسَلْسَلَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِفِضَّةٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْوَاصِلَ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَنَسٌ، وَكَلَامُ الْعَسْقَلَانِيِّ يَمِيلُ إِلَى الْأَوَّلِ، حَيْثُ قَالَ: هُوَ الظَّاهِرُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ انْصَدَعَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشِّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَاصِلُ أَنَسًا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَلَفْظُهُ: «فَجَعَلْتُ مَكَانَ الشِّعْبِ سِلْسِلَةً»، انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: فَاتَّخَذَ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ بِالِاتِّخَاذِ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: فَجَعَلْتُ عَلَى الْإِسْنَادِ الْحَقِيقِيِّ، فَاتَّفَقَ الرِّوَايَتَانِ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقْرَأَ فَجُعِلَتْ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُسْنَدًا إِلَى سِلْسِلَةٍ، أَوْ فَجُعِلَتْ سِلْسِلَةٌ أُخْرَى، أَوْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ مَكَانَ الشِّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ ذَهَبٍ، لِمَا قَدْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَ حَلْقَةِ قَدَحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَنَهَاهُ أَبُو طَلْحَةَ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ وَالِدَةُ أَنَسٍ، وَقَالَ: لَا تُغَيِّرْ شَيْئًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْقَدَحِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَاشْتَرَى هَذَا الْقَدَحَ مِنْ مِيرَاثِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ بِثَمَانِ مِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ رَآهُ بِالْبَصْرَةِ وَشَرِبَ مِنْهُ، وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عَاصِمٍ رَأَيْتُهُ عِنْدَ أَنَسٍ فِيهِ ضَبَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (حُمَيْدٌ وَثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُقَالُ سَقَاهُ وَأَسْقَاهُ بِمَعْنًى فِي الْأَصْلِ، وَلَكِنْ جَعَلُوا لِلْخَيْرِ سَقَى {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} وَأَسْقَى لِضِدِّهِ {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} انْتَهَى.
وَفِيهِ مَعَ جَهْلِ الْجَاعِلِينَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} أَيْ كَثِيرًا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِسْقَاءَ مُسْتَعْمَلٌ فِي ضِدِّ الْخَيْرِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي السَّقْيِ، كَمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ زِيَادَةِ الْهَمْزَةِ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} مِنَ الْبَابَيْنِ، وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْإِسْقَاءِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ضِدِّ الْخَيْرِ: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} نَعَمْ. قَدْ يُسْتَعْمَلُ الْإِسْقَاءُ لِمَعَانٍ أُخَرَ، عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَلَعَلَّ أَنَسًا عَدَلَ عَنْهُ مَعَ أَنَّ الْأَبْلَغَ فِي الْمَقَامِ مَا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ خَوْفَ الِالْتِبَاسِ، وَقَالَ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِهَذَا الْقَدَحِ) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْقَدَحُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَعَدُّدُ الْقَدَحِ النَّبَوِيِّ عِنْدَ أَنَسٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَدَحُ الْكَائِنُ مِنَ الْخَشَبِ الْغَلِيظِ بَعْدَ الصُّنْعِ الْمُضَبَّبِ بِحَدِيدٍ، فَالتَّضْبِيبُ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْمَذْكُورِ بِجَمِيعِ خُصُوصِيَّاتِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَلِابْنِ حَجَرٍ هُنَا كَلَامٌ بَيْنَ طَرَفَيْهِ تَنَافٍ فِي الْمَعْنَى، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا فِي الْمِشْكَاةِ بِقَدَحِي هَذَا (الشَّرَابَ) أَيْ جِنْسُ مَا يُشْرَبُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ (كُلَّهُ) تَأْكِيدٌ وَأَبْدَلَ مِنْهُ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، اهْتِمَامًا بِهَا وَلِكَوْنِهَا أَشْهَرَ أَنْوَاعِهِ، فَقَالَ: (الْمَاءَ) وَبَدَأَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ الْأَتَمُّ (وَالنَّبِيذَ) وَهُوَ مَاءٌ يُجْعَلُ فِيهِ تَمَرَاتٌ أَوْ غَيْرُهَا، مِنَ الْحَلَوِيَّاتِ كَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَكَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ لِيَحْلُوَ.
«وَكَانَ يُنْبَذُ لَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَيَشْرَبُهُ إِذَا أَصْبَحَ يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَاللَّيْلَةَ الَّتِي تَجِيءُ وَالْغَدَ إِلَى الْعَصْرِ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ سَقَاهُ الْخَادِمَ أَوْ أَمَرَ فَصُبَّ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا النَّبِيذُ لَهُ نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي زِيَادَةِ الْقُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَشْرَبُهُ بَعْدَ ثَلَاثِ أَيَّامٍ خَوْفًا مِنْ تَغَيُّرِهِ إِلَى الْإِسْكَارِ، (وَالْعَسَلَ) أَيْ مَاءَ الْعَسَلِ؛ لِأَنَّهُ يُلْحَسُ وَلَا يُشْرَبُ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِالتَّغْلِيبِ، كَذَا ذَكَرُوهُ لَكِنْ قَالَ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ} (وَاللَّبَنَ).

.باب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ فَاكِهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

قَالَ الرَّاغِبُ: الْفَاكِهَةُ هِيَ الثِّمَارُ كُلُّهَا، وَقِيلَ: بَلْ مَا عَدَا التَّمْرَ وَالرُّمَّانَ، وَقَائِلُ هَذَا كَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اخْتِصَاصِهَا بِالذِّكْرِ وَعَطْفِهِمَا عَلَى الْفَاكِهَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، قُلْتُ: الْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ؛ وَلِأَنَّ التَّمْرَ غِذَاءٌ وَالرُّمَّانَ دَوَاءٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: هِيَ مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ أَيْ يُتَنَعَّمُ بِهِ، وَلَا يُتَغَذَّى بِهِ، كَالطَّعَامِ انْتَهَى. وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: وَلَا يُتَدَاوَى بِهِ، لَكِنْ تَرَكَهُ لِلْوُضُوحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الْفَزَارِيُّ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالزَّايِ مَنْسُوبٌ إِلَى قَبِيلَةِ بَنِي فَزَارَةَ (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الْقِثَّاءَ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَبِضَمٍّ، وَتَشْدِيدِ الْمُثَلَّثَةِ مَمْدُودًا (بِالرُّطَبِ) أَيْ مَصْحُوبًا مَعَهُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُقَدَّمَ أَصْلٌ فِي الْمَأْكُولِ، كَالْخُبْزِ وَالْمُؤَخَّرَ كَالْإِدَامِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِثَّاءً، وَفِي شِمَالِهِ رُطَبًا، وَهُوَ يَأْكُلُ مِنْ ذَا مَرَّةً، وَمِنْ ذَا مَرَّةً، انْتَهَى.
وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَبْدِيلِ مَا فِي يَدَيْهِ؛ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْأَكْلَ بِالشِّمَالِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ جَوَازُ أَكْلِ الطَّعَامَيْنِ مَعًا، وَالتَّوَسُّعِ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِهِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الْخِلَافِ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ اعْتِيَادِ هَذَا التَّوَسُّعِ وَالتَّرَفُّهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ، لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ مُرَاعَاةِ صِفَاتِ الْأَطْعِمَةِ، وَطَبَائِعِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِهَا، عَلَى قَاعِدَةِ الطِّبِّ؛ لِأَنَّ فِي الرُّطَبِ حَرَارَةً، وَفِي الْقِثَّاءِ بُرُودَةً، فَإِذَا أُكِلَا مَعًا اعْتَدَلَا، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْمُرَكَّبَاتِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَمِنْ فَوَائِدِ أَكْلِ هَذَا الْمُرَكَّبِ الْمُعْتَدِلِ تَعْدِيلُ الْمِزَاجِ، وَتَسْمِينُ الْبَدَنِ، كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «أَرَادَتْ أُمِّي أَنْ تُعَالِجَنِي لِلسِّمَنِ لِتُدْخِلَنِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا اسْتَقَامَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى أَكَلْتُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ، فَسَمِنْتُ كَأَحْسَنِ السِّمَنِ»، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ التَّمْرُ بِالْقِثَّاءِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا جُمِعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدَّمْنَا لَهُ زُبْدًا وَتَمْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ الزُّبْدَ وَالتَّمْرَ.
(حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (الْبَصْرِيُّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا (حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ) وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الطِّبِّ لَهُ بِسَنَدٍ، فِيهِ ضَعْفٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ الرُّطَبَ بِيَمِينِهِ، وَالْبِطِّيخَ بِيَسَارِهِ، فَيَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْبِطِّيخِ، وَكَانَ أَحَبَّ الْفَاكِهَةِ إِلَيْهِ، ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ، وَيَقُولُ: يُكْسَرُ حَرُّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا، وَبَرْدُ هَذَا بِحَرِّ هَذَا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْبِطِّيخُ كَسِكِّينٍ الْبِطِّيخُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْبِطِّيخِ، فَقِيلَ: هُوَ الْأَصْفَرُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ بِالْخِرْبِزِ، وَقِيلَ: هُوَ الْأَخْضَرُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ رَطْبٌ بَارِدٌ، وَيُعَادِلُ حَرَارَةَ الرُّطَبِ، مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ بِأَنَّهُ فَعَلَ هَذَا مَرَّةً، وَفَعَلَ هَذَا أُخْرَى، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ، وَيَقُولُ: «يَدْفَعُ حَرُّ هَذَا بَرْدَ هَذَا، وَبَرْدُ هَذَا حَرَّ هَذَا»، وَفِي الْبِطِّيخِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا هَاهُنَا شَيْءٌ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَخْضَرُ، وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ فِي جَلَاءٍ، وَهُوَ أَسْرَعُ انْحِدَارًا عَنِ الْمَعِدَةِ مِنَ الْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ، انْتَهَى.
(حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (حَدَّثَنَا أَبِي) أَيْ جَرِيرٌ (قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدًا) بِالتَّصْغِيرِ (يَقُولُ) أَيْ حُمَيْدٌ قَالَ: وَهْبٌ أَوْ سَمِعْتُ حُمَيْدًا يَقُولُ: وَهْبٌ (أَوْ قَالَ) أَيْ جَرِيرٌ (حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، قَالَ وَهْبٌ) وَالْمَقْصُودُ غَايَةُ الِاحْتِيَاطِ فِي عِبَارَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِلَّا فَمَرْتَبَةُ السَّمَاعِ وَالْقَوْلِ وَاحِدَةٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فِي أُصُولِ اصْطِلَاحَاتِهِمْ (وَكَانَ) أَيْ حُمَيْدٌ (صَدِيقًا لَهُ) أَيْ لِوَهْبٍ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَهُوَ بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى الْحَبِيبِ الصَّادِقِ فِي الْمُصَافَاةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَيْ كَثِيرَ الصِّدْقِ، وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ: لَهُ، لَا مُلَاءَمَةَ لَهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمَعْنَى وَكَانَ حُمَيْدٌ مُصَدِّقًا لِوَهْبٍ فِي رِوَايَتِهِ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْخِرْبِزِ وَالرُّطَبِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي آخِرِهَا زَايٌ وَهُوَ الْبِطِّيخُ بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُعَرَّبُ الْخَرْبَزَةِ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْبَاءِ وَفِي آخِرِهَا هَاءٌ، وَهُوَ الْأَصْفَرُ فَيُحْمَلُ عَلَى نَوْعٍ مِنْهُ لَمْ يَتِمَّ نُضْجُهُ، فَإِنَّ فِيهِ بُرُودَةً يَعْدِلُهَا الرُّطَبُ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الْأَخْضَرُ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَصْفَرَ فِيهِ حَرَارَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْأَصْفَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلرُّطَبِ بُرُودَةً، وَإِنْ كَانَ فِيهِ لِحَلَاوَتِهِ طَرَفُ حَرَارَةٍ، هَذَا فَقَدْ رَوَى الطَّيَالِسِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْخِرْبِزَ بِالرُّطَبِ، وَيَقُولُ: هُمَا الْأَطْيَبَانِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى اللَّبَنَ بِالتَّمْرِ الْأَطْيَبَيْنِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرَّمْلِيُّ) نِسْبَةً إِلَى الرَّمْلَةِ وَهِيَ مَوَاضِعُ أَشْهَرُهَا بَلَدٌ بِالشَّامِ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ (حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ) بِضَمِّ الرَّاءِ (عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ) أَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ لَهُ طُرُقًا كَثِيرَةً عَنْ عَائِشَةَ، وَكَذَا عَنْ غَيْرِهَا، فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، هَذَا وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ، كَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ وَيُلْقِي النَّوَى عَلَى الطَّبَقِ، وَلَعَلَّ الطَّبَقَ غَيْرُ طَبَقِ الرُّطَبِ، وَإِلَّا فَقَدْ رَوَى الشِّيرَازِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى أَنْ تُلْقَى النَّوَاةُ عَلَى الطَّبَقِ الَّذِي يُؤْكَلُ مِنْهُ الرُّطَبُ أَوِ التَّمْرُ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَقْذَرُ مِنْهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ: «الْعِنَبُ دُو دُو- يَعْنِي اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ- وَالتَّمْرُ يَكْ يَكْ» يَعْنِي وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَهُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْأَعَاجِمِ لَا أَصْلَ لَهُ، ذَكَرَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا السَّخَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْعِنَبَ خَرْطًا، يُقَالُ: خَرَطَ الْعُنْقُودَ وَاخْتَرَطَهُ إِذَا وَضَعَهُ فِي فِيهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ حَبَّهُ وَيُخْرِجُ عُرْجُونَهُ عَارِيًا مِنْهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَالْحَدِيثُ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَكِتَابُهُ هَذَا خَالٍ عَنِ الْمَوْضُوعِ، فَلَا يُعَارِضُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَفِي الْغَيْلَانِيَّاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ الْعِنَبَ خَرْطًا، وَفِي رِوَايَةٍ بِالصَّادِ بَدَلَ الطَّاءِ، لَكِنْ قَالَ الْعَقِيلِيُّ: لَا أَصْلَ لِهَذَا الْحَدِيثِ، انْتَهَى.
مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ لَا أَصْلَ لِسَنَدِهِ الَّذِي هُوَ فِي الْغَيْلَانِيَّاتِ، وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَذَكَرْنَاهُ مَشْرُوحًا فِي كِتَابِ الْمِشْكَاةِ، ثُمَّ أَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَوْضُوعِ لِلْفَاكِهَةِ، أَنَّهُ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ: «آخِرُ طَعَامٍ أَكَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ بَصَلٌ» انْتَهَى.
وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْمِشْكَاةِ فِي بَابِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ح) إِشَارَةٌ إِلَى تَحْوِيلِ السَّنَدِ، وَقَدْ أَكَّدَهُ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، حَيْثُ قَالَ: (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا مَعْنٌ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ) وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَمَا لَا يَخْفَى (إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ) أَيْ بَاكُورَةَ كُلِّ فَاكِهَةٍ (جَاءُوا بِهِ) أَيْ بِأَوَّلِ الثَّمَرِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِيثَارًا لَهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حُبًّا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِجَنَابِهِ، وَطَلَبًا لِلْبَرَكَةِ، فِيمَا جَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ بِبَرَكَةِ وَجُودِهِ، وَطَلَبًا لِمَزِيدِ اسْتِدْرَارِ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَيَرَوْنَهُ أَوْلَى النَّاسِ بِمَا سِيقَ إِلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِ رَبِّهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلَفَاؤُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ كَذَلِكَ، (فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ) أَيْ مُسْتَقْبِلًا لِلنِّعْمَةِ الْمُجَدَّدَةِ بِالتَّضَرُّعِ وَالْمَسْأَلَةِ، وَالتَّوَجُّهِ وَالْإِقْبَالِ التَّامِّ إِلَى الْمُنْعِمِ الْحَقِيقِيِّ، طَلَبًا لِمَزِيدِ الْإِنْعَامِ عَلَى وَجْهٍ يَعُمُّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ، (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثِمَارِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا) أَيْ عُمُومًا شَامِلًا لِأَهْلِهَا وَثِمَارِهَا، وَسَائِرِ مَنَافِعِهَا (وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا) أَيْ خُصُوصًا وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَفِي مُدِّنَا) وَالْمُرَادُ بِهِ الطَّعَامُ الَّذِي يُكَالُ بِالصِّيعَانِ وَالْأَمْدَادِ، فَيَكُونُ لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ فِي أَقْوَاتِهِمْ فِي عُمُومِ أَوْقَاتِهِمْ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا الْأَصْلُ فِي أُمُورِ مَعَاشِهِمُ الْمُعِينَةُ عَلَى أُمُورِ مَعَادِهِمْ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الثِّمَارَ لِأَنَّ الْمَقَامَ كَانَ مُسْتَدْعِيًا لَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الصَّاعَ وَالْمُدَّ اهْتِمَامًا لِشَأْنِهِمَا، وَالصَّاعُ مِكْيَالٌ يَسَعُ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الْمُدِّ فَقِيلَ: هُوَ رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَفُقَهَاءِ الْحِجَازِ، وَقِيلَ: هُوَ رِطْلَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءِ الْعِرَاقِ، فَيَكُونُ الصَّاعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثًا، عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَأَدِلَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي نَحْوِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ ضَيَّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ صَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدَّهُ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ دِينِهِ، ثُمَّ يَنْبَغِي لِكُلِّ آخِذِ بَاكُورَةٍ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْمُبَارَكِ إِلَى رَبِّهَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْبَرَكَةُ تَكُونُ بِمَعْنَى النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ، وَتَكُونُ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ وَاللُّزُومِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَرَكَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ دِينِيَّةً، وَهِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، فَتَكُونُ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ وَالْبَقَاءِ لَهَا، كَبَقَاءِ الْحُكْمِ بِبَقَاءِ الشَّرِيعَةِ وَثَبَاتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ دُنْيَوِيَّةً مِنْ تَكْثِيرِ الْكَيْلِ وَالْقَدْرِ بِهَا، حَتَّى يَكْفِيَ مِنْهُ فِي الْمَدِينَةِ مَا لَا يَكْفِي مِنْهُ فِي غَيْرِهَا، أَوْ يُرْجِعُ الْبَرَكَةَ إِلَى التَّصَرُّفِ بِهَا فِي التِّجَارَاتِ وَأَرْبَاحِهَا، أَوْ إِلَى كَثْرَةِ مَا يُكَالُ بِهَا مِنْ غَلَّاتِهَا وَثِمَارِهَا، أَوْ تُرْجَعُ إِلَى الزِّيَادَةِ فِيمَا يُكَالُ بِهَا لِاتِّسَاعِ عَيْشِهِمْ وَكَثْرَتِهِ، بَعْدَ ضِيقِهِ لِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَوَسَّعَ مِنْ فَضْلِهِ لَهُمْ، وَمَلَّكَهُمْ مِنْ بِلَادِ الْخِصْبِ وَالرِّيفِ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا، حَتَّى كَثُرَ الْحَمْلُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَاتَّسَعَ عَيْشُهُمْ وَصَارَتْ هَذِهِ الْبَرَكَةُ فِي الْكَيْلِ نَفْسِهِ، فَزَادَ مُدُّهُمْ وَصَارَ هَاشِمِيًّا، مِثْلَ مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً وَنِصْفًا، وَفِي هَذَا كُلِّهِ ظُهُورُ إِجَابَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبُولِهِ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ مِنْ تِلْكَ التَّوْجِيهَاتِ الْبَرَكَةَ فِي نَفْسِ مَكِيلِ الْمَدِينَةِ، بِحَيْثُ يَكْفِي الْمُدُّ فِيهَا لِمَنْ لَا يَكْفِيهِ فِي غَيْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِذَا وُجِدَتِ الْبَرَكَةُ فِيهَا فِي وَقْتٍ حَصَلَتْ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ دَوَامُهَا فِي كُلِّ حِينٍ، وَلِكُلِّ شَخْصٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِاتِّسَاعِ عَيْشِهِمْ، إِلَخْ. لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ) وَلَمْ يَقُلْ فِي وَصْفِهِ خَلِيلُكَ أَوْ حَبِيبُكَ تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ، أَوْ تَأَدُّبًا مَعَ جَدِّهِ (وَأَنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ) أَيْ بِهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (لِمَكَّةَ) وَدُعَاءُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ قَوْلُهُ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} يَعْنِي وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ، بِأَنْ تَجْلِبَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ النِّعْمَةَ فِي أَنْ يُرْزَقُوا أَنْوَاعَ الثَّمَرَاتِ حَاضِرَةً فِي وَادِيَاتٍ لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا نَجْمٌ، وَلَا شَجَرٌ وَلَا مَاءٌ، وَلَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَجَابَ دَعْوَتَهُ وَجَعَلَهُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وَلَعَمْرِي إِنَّ دُعَاءَ حَبِيبِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتُجِيبَ لَهَا، وَضَاعَفَ خَيْرَهَا، بِمَا جَلَبَ إِلَيْهَا فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ إِلَى مَغَارِبِهَا، كَكُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَخَاقَانَ مِمَّا لَا يُحْصَى وَلَا يُحْصَرُ، وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ، يَأْرِزُ الدِّينُ إِلَيْهَا مِنْ أَقَاصِي الْأَرْضِ وَشَاسِعِ الْبِلَادِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) وَالضَّمِيرَانِ لِمِثْلِ مَا دَعَاكَ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْخَلِيلَ بِمَعْنَى الْفَاعِلٍ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخُلَّةِ بِضَمِّ الْخَاءِ، وَهِيَ الصَّدَاقَةُ وَالْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتِ الْقَلْبَ، وَتَمَكَّنَتْ فِي خِلَالِهِ، وَهَذَا صَحِيحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَلْبِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أَيْ سَالِمٍ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ، وَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلَّةِ، بِالْفَتْحِ وَهِيَ الْحَاجَةُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَإِظْهَارِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَاعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ وَتَسْلِيمِهِ لَدَيْهِ، حَتَّى قَالَ حِينَ إِلْقَائِهِ فِي النَّارِ لِجِبْرِيلَ حَيْثُ: قَالَ لَهُ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ أَمَّا إِلَيْكَ، فَلَا، قَالَ: فَاسْأَلْ رَبَّكَ، قَالَ: كَفَى عِلْمُهُ بِالْحَالِ عَنِ السُّؤَالِ بِالْمَقَالِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُلَّةَ لِنَفْسِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا خَلِيلُ اللَّهِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ هُوَ أَرْفَعُ مِنَ الْخَلِيلِ، فَإِنَّهُ خُصَّ بِمَقَامِ الْمَحْبُوبِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ مِنْ مَقَامِ الْخُلَّةِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ اللَّائِقِ بِهِ، التَّوَاضُعُ وَالِانْكِسَارُ، لَا التَّمَدُّحُ وَالِافْتِخَارُ، وَأَيْضًا رَاعَى الْأَدَبَ مَعَ جَدِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى تَمَيُّزِهِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} (قَالَ) أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ (ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ) أَيْ: أَيَّ صَغِيرٍ (يَرَاهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ)، وَفِي نُسْخَةٍ: وُلَيْدٍ بِالتَّصْغِيرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اخْتِيَارَ الْأَصْغَرِ فَالْأَصْغَرِ لِزِيَادَةِ الْمُبَالَغَةِ، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ الْأَوَّلُ بِدُونِ لَهُ، قَالَ مِيرَكْ شَاهْ كَذَا هُوَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ، وَمِثْلَهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُ مِنَ الْوِلْدَانِ، وَفِي أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لَهُ فَيُعْطِيهِ، فَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الرِّوَايَتَيْنِ الْمُطْلَقَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمُقَيَّدَةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ قَاعِدَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوَّلَ الرِّوَايَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَصْغَرُ وَلِيدٍ لَهُ، يَعْنِي لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، انْتَهَى.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَعْتَنِي فِي أَنَّهُ يُعْطِيهِ لِأَصْغَرِ وَلَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ بِحَسَبِ مَا اتُّفِقَ لَهُ مِنْ حُضُورِ أَيِّ صَغِيرٍ ظَهَرَ، نَعَمْ. لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنَ الصِّغَارِ، رُبَّمَا يَخُصُّ أَحَدًا مِنْ صِغَارِ أَهْلِ بَيْتِهِ لِقُرْبِهِمْ وَقَرَابَتِهِمْ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ صَغِيرٍ آخَرَ فَلَا يُتَصَوَّرُ إِيثَارُ أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، عَلَى أَوْلَادِ سَائِرِ أَصْحَابِهِ، كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ كَرِيمِ أَخْلَاقِهِ، وَحُسْنِ آدَابِهِ، ثُمَّ تَخْصِيصُ الصِّغَارِ بِبَاكُورَةِ الثِّمَارِ لِلْمُنَاسَبَةِ الْوَاضِحَةِ بَيْنَهُمَا، مِنْ حُدْثَانِ عَهْدِهِمَا بِالْإِبْدَاعِ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ أَرْغَبُ فِيهِ وَأَكْثَرُ تَطَلُّبًا، وَأَشَدُّ حِرْصًا، وَلَفْتًا مَعَ مَا فِي إِيثَارِهِ عَلَى الْغَيْرِ مِنْ قَمْعِ الشَّرَهِ الْمُوجِبِ لِتَنَاوُلِهِ، وَكَسْرِ الشَّهْوَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَوْقِهِ، وَمِنْ أَنَّ النُّفُوسَ الزَّكِيَّةَ لَا تَرْكَنُ إِلَى تَنَاوُلِ شَيْءٍ مِنَ الْبَاكُورَةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعُمَّ وُجُودُهُ، وَيَقْدِرَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى أَكْلِهِ، وَفِيهِ بَيَانُ حُسْنِ عِشْرَتِهِ، وَكَمَالِ شَفَقَتِهِ وَمَرْحَمَتِهِ وَمُلَاطَفَتِهِ مَعَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَتَنْزِيلُ كُلِّ أَحَدٍ فِي مَقَامِهِ وَمَرْتَبَتِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنِ الرُّبَيِّعِ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ، عَلَى صِيغَةِ التَّصْغِيرِ (بِنْتِ مُعَوَّذِ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا عَلَى الْأَشْهَرِ وَجَزَمَ الْوَقْشِيُّ أَنَّهُ بِالْكَسْرِ كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الْحَافِظِ بْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ، وَأَغْرَبَ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ، وَتَبِعَ الْوَقْشِيَّ فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى الْكَسْرِ (بْنِ عَفْرَاءَ) وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ، وَعَفْرَاءُ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ الْحَارِثُ (قَالَتْ) أَيْ بِنْتُ مُعَوَّذٍ (بَعَثَنِي مُعَاذٌ) أَيِ ابْنُ عَفْرَاءَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَهُوَ عَمُّهَا وَهُوَ الْمُشَارِكُ لِأَخِيهِ فِي قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ بِبَدْرٍ، وَتَمَّ أَمْرُ قَتْلِهِ عَلَى يَدِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنْ جَزَّ رَأَسَهُ وَهُوَ مَجْرُوحٌ مَطْرُوحٌ يَتَكَلَّمُ (بِقِنَاعٍ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ مَعَ إِرَادَةِ الْمُصَاحَبَةِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ الطَّبَقُ الَّذِي يُؤْكَلُ فِيهِ، وَقِيلَ: الَّذِي يُهْدَى عَلَيْهِ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: (مِنْ رُطَبٍ) لِلتَّبْعِيضِ أَيْ بِقِنَاعٍ فِيهِ بَعْضُ رُطَبٍ (وَعَلَيْهِ) أَيْ وَعَلَى الْقِنَاعِ أَوِ الرُّطَبِ (أَجْرٌ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَسُكُونِ الْجِيمِ وَرَاءٍ مُنَوَّنٍ مَكْسُورٍ جَمْعُ جُرٍّ وَبِكَسْرِ الْجِيمِ، وَقِيلَ: بِتَثْلِيثِ أَوَّلِهِ وَفِي آخِرِهِ وَاوٌ كَأَدْلٍ جَمْعُ دَلْوٍ، وَهُوَ الصَّغِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْحَنْظَلِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْقِثَّاءُ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ بِمِنِ الْبَيَانِيَّةِ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: هُوَ صِغَارُ الْقِثَّاءِ وَقِيلَ: الرُّمَّانُ وَأَصْلُهُ أَجْرُوٌ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا جَمَعَتْ فِعْلًا عَلَى أَفْعُلٍ، كَضِرْسٍ وَأَضْرُسٍ، وَكَلْبٍ وَأَكْلُبٍ أَيْ صِغَارٍ (مِنْ قِثَّاءِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَبِضَمٍّ (زُغْبٍ) بِضَمِّ الزَّايِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، جَمْعُ الْأَزْغَبِ مِنَ الزَّغَبِ بِالْفَتْحِ، هُوَ صِغَارُ الرِّيشِ أَوَّلُ مَا طَلَعَ شَبَّهَ بِهِ مَا عَلَى الْقِثَّاءِ مِنَ الزَّغَبِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَرُوِيَ زُغْبٌ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ أَجْرٍ، وَمَجْرُورًا عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ قِثَّاءٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ وَأَجْرٍ زُغْبٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أُخْرَى بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ وَعَلَى قِنَاعِ الرُّطَبِ قِنَاعٌ آخَرُ مِنْ قِثَّاءِ زُغْبٍ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ جَرُّ زُغْبٍ (كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْقِثَّاءَ) أَيْ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الرُّطَبِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُؤَيِّدُ لِمَا سَبَقَ مِنْ جَمْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا (فَأَتَيْتُ بِهِ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ جِئْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِنَاعِ الْمَذْكُورِ، وَفِي نُسَخٍ بِهَا أَيِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ (وَعِنْدَهُ) الْوَاوُ لِلْحَالِ (حُلِيَّةٌ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ جَمْعُ حُلِيٍّ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَقَدْ يُكْسَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ} قُرِئَ فِي الْمُتَوَاتِرِ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَكَذَا بِكَسْرِهَا عَلَى الْإِتْبَاعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَتَخْفِيفِ تَحْتِيَّةٍ عَلَى وَزْنٍ لِحْيَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}، {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِوُجُودِ التَّاءِ وَاخْتَارَهُ الْحَنَفِيُّ.
وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: الْحُلِيُّ عَلَى فُعُولٍ جَمْعٌ كَثُدِيٍّ فِي جَمْعِ ثَدْيٍ، وَهِيَ مِمَّا تَتَحَلَّى بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، انْتَهَى. وَأَمَّا وَجْهُ الْحُلِيَّةِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَعَ تَاءِ التَّأْنِيثِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا إِذَا جَوَّزَ إِلْحَاقَ التَّاءِ بِالْجَمْعِ، انْتَهَى.
وَفِي الْقَامُوسِ الْحَلْيُ بِالْفَتْحِ مَا يُزَيَّنُ بِهِ مِنْ مَصُوغِ الْمَعْدِنِيَّاتِ أَوِ الْحِجَارَةِ، جَمْعُهُ حُلِيٌّ كَدُلِيٍّ أَوْ هُوَ جَمْعٌ وَالْوَاحِدُ حَلْيَةٌ كَظَبْيَةٍ، وَالْحِلْيَةُ بِالْكَسْرِ الْحَلْيُ الْجَمْعُ حَلًى وَحُلًى، انْتَهَى. وَبِهَذَا يُعْرَفُ مَا فِي كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: حِلْيَةٌ بِكَسْرٍ أَوْ فَتْحٍ فَسُكُونٍ فَتَخْفِيفٍ وَبِكَسْرٍ فَسُكُونٍ انْتَهَى.
أَمَّا قَوْلُهُ: حَلْيَةٌ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ مَعْنَى الْجَمْعِ أَوِ الْجِنْسِ لَا الْوَحْدَةُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَبِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَتَشْدِيدٍ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ خَطَأٌ مِنَ الْكِتَابِ أَوْ سَهْوُ قَلَمٍ مِنْ صَاحِبِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (قَدْ) لِلتَّحْقِيقِ وَمَدْخُولُهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْحِلْيَةِ أَوْ حَالٌ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ: (قَدِمَتْ عَلَيْهِ) بِكَسْرِ الدَّالِ مِنَ الْقُدُومِ، وَهُوَ الْعَوْدُ مِنَ السَّفَرِ فَالْإِسْنَادُ فِيهِ مَجَازِيٌّ، أَيْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْحِلْيَةُ (مِنَ الْبَحْرَيْنِ) بَلَدٌ مَشْهُورٌ (فَمَلَأَ يَدَهُ مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْحِلْيَةِ (فَأَعْطَانِيهِ) أَيْ مَلَأَ يَدَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ كَرَمِهِ وَمُرُؤَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرِعَايَتِهِ الْمُنَاسِبَةِ التَّامَّةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ أَحَقُّ مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ.
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، (أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أَخُو عَلِيٍّ بِتَقْدِيرِ هُوَ الرَّاجِعِ إِلَى عَقِيلٍ (عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوَّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِنَاعٍ مِنْ رُطَبٍ وَأَجْرِ) بِالْجَرِّ (زُغْبٍ فَأَعْطَانِي مِلْءَ كَفِّهِ حُلِيًّا) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَتَخْفِيفِ تَحْتِيَّةٍ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيِّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، فَلَا وَجْهَ لَهُ لَا رِوَايَةً وَلَا دِرَايَةً (أَوْ قَالَتْ: ذَهَبًا) وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي عَنِ الرُّبَيِّعِ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.