فصل: باب إِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*19 باب إِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ

وَكَانَ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ أَوْ الْخَوْفِ مِنْ الْقَتْلِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا‏.‏ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا‏)‏ فَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ‏(‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة‏)‏ حذف جواب قوله‏:‏ ‏"‏ إذا ‏"‏ للعلم به كأنه يقول‏:‏ إذا كان الإسلام كذلك لم ينتفع به في الآخرة‏.‏

ومحصل ما ذكره واستدل به أن الإسلام يطلق ويراد به الحقيقة الشرعية، وهو الذي يرادف الإيمان وينفع عند الله، وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الدين عند الله الإسلام‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين‏)‏ ، ويطلق ويراد به الحقيقة اللغوية وهو مجرد الانقياد والاستسلام، فالحقيقة في كلام المصنف هنا هي الشرعية، ومناسبة الحديث للترجمة ظاهرة من حيث أن المسلم يطلق على من أظهر الإسلام وإن لم يعلم باطنه، قلا يكون مؤمنا لأنه ممن لم تصدق عليه الحقيقة الشرعية، وأما اللغوية فحاصـلة‏.‏

الحديث‏:‏

-27- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِا عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ‏"‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَعْطَى رَهْطًا -وَسَعْدٌ جَالِسٌ -فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ‏.‏

فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ‏؟‏ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا‏.‏ فَقَالَ‏:‏ أَوْ مُسْلِمًا، فَسَكَتُّ قَلِيلًا‏.‏

ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، فَقُلْتُ‏:‏ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ‏؟‏ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا‏.‏ فَقَالَ أَوْ مُسْلِمًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ثُمَّ قَالَ‏:‏ يَا سَعْدُ، إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ‏.‏‏"‏

وَرَوَاهُ يُونُسُ وَصَالِحٌ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ‏.‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن سعد‏)‏ هو ابن أبي وقاص كما صرح الإسماعيلي في روايته، وهو والد عامر الراوي عنه، كما وقع في الزكاة عند المصنف من رواية صالح بن كيسان قال فيها‏:‏ ‏"‏ عن عامر بن سعد عن أبيه ‏"‏ واسم أبي وقاص مالك، وسيأتي تمام نسبه في مناقب سعد إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أعطى رهطا‏)‏ الرهط‏:‏ عدد من الرجال من ثلاثة إلى عشرة، قال القزاز‏:‏ وربما جاوزوا ذلك قليلا، ولا واحد له من لفظه، ورهط الرجل‏:‏ بنو أبيه الأدنى، وقيل‏:‏ قبيلته‏.‏

وللإسماعيلي من طريق ابن أبي ذئب أنه جاءه رهط، فسألوه فأعطاهم فترك رجلا منهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسعد جالس‏)‏ فيه تجريد، وقوله‏:‏ ‏"‏ أعجبهم إلي ‏"‏ فيه التفات، ‏(‏1/80‏)‏ ولفظه في الزكاة‏:‏ ‏"‏ أعطى رهطا وأنا جالس ‏"‏ فساقه بلا تجريد ولا التفات، وزاد فيه‏:‏

‏"‏ فقمت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فساررته‏"‏‏.‏

وغفل بعضهم فعزا هذه الزيادة إلى مسلم فقط، والرجل المتروك اسمه جعيل بن سراقة الضمري، سماه الواقدي في المغازي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مالك عن فلان‏)‏ يعني‏:‏ أي سبب لعدولك عنه إلى غيره‏؟‏

ولفظ فلان كناية عن اسم أبهم بعد أن ذكر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوالله‏)‏ فيه القسم في الإخبار على سبيل التأكيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لأراه‏)‏ وقع في روايتنا من طريق أبي ذر وغيره بضم الهمزة هنا وفي الزكاة، وكذا هو في رواية الإسماعيلي وغيره‏.‏

وقال الشيخ محيي الدين -رحمه الله-‏:‏ بل هو بفتحها أي‏:‏ أعلمه، ولا يجوز ضمها فيصير بمعنى أظنه، لأنه قال بعد ذلك‏:‏ غلبني ما أعلم منه‏.‏ ا هـ‏.‏

ولا دلالة فيما ذكر على تعين الفتح لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فإن علمتموهن مؤمنات‏)‏ ، سلمنا لكن لا يلزم من إطلاق العلم أن لا تكون مقدماته ظنية، فيكون نظريا لا يقينيا وهو الممكن هنا، وبهذا جزم صاحب المفهم في شرح مسلم فقال‏:‏ الرواية بضم الهمزة، واستنبط منه جواز الحلف على غلبة الظن، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -ما نهاه عن الحلف، كذا قال، وفيه نظر لا يخفى، لأنه أقسم على وجدان الظن وهو كذلك، ولم يقسم على الأمر المظنون كما ظن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ أو مسلما‏)‏ هو بإسكان الواو لا بفتحها، فقيل‏:‏ هي للتنويع‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هي للتشريك، وأنه أمره أن يقولهما معا لأنه أحوط، ويرد هذا رواية ابن الأعرابي في معجمه في هذا الحديث فقال‏:‏

‏"‏ لا تقل مؤمن بل مسلم ‏"‏ فوضح أنها للإضراب، وليس معناه الإنكار بل المعنى أن إطلاق المسلم على من لم يختبر حاله الخبرة الباطنة أولى من إطلاق المؤمن، لأن الإسلام معلوم بحكم الظاهر، قاله الشيخ محيي الدين ملخصا‏.‏

وتعقبه الكرماني بأنه يلزم منه أن لا يكون الحديث دالا على ما عقد له الباب، ولا يكون لرد الرسول -صلى الله عليه وسلم -على سعد فائدة‏.‏

وهو تعقب مردود، وقد بينا وجه المطابقة بين الحديث والترجمة قبل، ومحصل القصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم -كان يوسع العطاء لمن أظهر الإسلام تألفا، فلما أعطى الرهط وهم من المؤلفة، وترك جعيلا وهو من المهاجرين مع أن الجميع سألوه‏.‏

خاطبه سعد في أمره لأنه كان يرى أن جعيلا أحق منهم لما اختبره منه دونهم، ولهذا راجع فيه أكثر من مرة، فأرشده النبي -صلى الله عليه وسلم -إلى أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك، وحرمان جعيل مع كونه أحب إليه ممن أعطى، لأنه لو ترك إعطاء المؤلف لم يؤمن ارتداده فيكون من أهل النار‏.‏

ثانيهما‏:‏ إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، فوضح بهذا فائدة رد الرسول -صلى الله عليه وسلم -على سعد، وأنه لا يستلزم محض الإنكار عليه، بل كان أحد الجوابين على طريق المشورة بالأولى، والآخر على طريق الاعتذار‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف لم تقبل شهادة سعد لجعيل بالإيمان، ولو شهد له بالعدالة لقبل منه وهي تستلزم الإيمان‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن كلام سعد لم يخرج مخرج الشهادة، وإنما خرج مخرج المدح له، والتوسل في الطلب لأجله، فلهذا نوقش في لفظه، حتى ولو كان بلفظ الشهادة لما استلزمت المشورة عليه بالأمر الأولى رد شهادته، بل السياق يرشد إلى أنه قبل قوله فيه، بدليل أنه اعتذر إليه‏.‏

وروينا في مسند محمد بن هارون الروياني وغيره، بإسناد صحيح إلى أبي سالم الجيشاني عن أبي ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال له‏:‏ كيف ترى جعيلا‏؟‏

قال قلت‏:‏ كشكله من الناس، يعني‏:‏ المهاجرين‏.‏

قال‏:‏ فكيف ترى فلانا‏؟‏

قال قلت‏:‏ سيد من سادات الناس‏.‏

قال‏:‏ فجعيل خير من ملء الأرض من فلان‏.‏

قال قلت‏:‏ ففلان هكذا وأنت تصنع به ما تصنع، قال‏:‏ إنه رأس قومه، فأنا أتألفهم به‏.‏

فهذه منزلة جعيل المذكور عند النبي -صلى الله عليه وسلم -كما ترى، فظهرت بهذا الحكمة في حرمانه وإعطاء غيره، وأن ذلك لمصلحة التأليف كما قررناه‏.‏

وفي حديث الباب من الفوائد التفرقة بين حقيقتي الإيمان والإسلام، وترك القطع بالإيمان الكامل لمن لم ينص عليه، وأما منع القطع بالجنة فلا يؤخذ من هذا صريحا وإن تعرض له بعض الشارحين‏.‏‏(‏1/81‏)‏

نعم هو كذلك فيمن لم يثبت فيه النص، وفيه الرد على غلاة المرجئة في اكتفائهم في الإيمان بنطق اللسان‏.‏

وفيه جواز تصرف الإمام في مال المصالح وتقديم الأهم فالأهم، وإن خفي وجه ذلك على بعض الرعية‏.‏

وفيه جواز الشفاعة عند الإمام فيما يعتقد الشافع جوازه، وتنبيه الصغير للكبير على ما يظن أنه ذهل عنه، ومراجعة المشفوع إليه في الأمر إذا لم يؤد إلى مفسدة، وأن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان كما ستأتي الإشارة إليه في كتاب الزكاة ‏"‏ فقمت إليه فساررته‏"‏، وقد يتعين إذا جر الإعلان إلى مفسدة‏.‏

وفيه أن من أشير عليه بما يعتقده المشير مصلحة لا ينكر عليه، بل يبين له وجه الصواب‏.‏

وفيه الاعتذار إلى الشافع إذا كانت المصلحة في ترك إجابته، وأن لا عيب على الشافع إذا ردت شفاعته لذلك‏.‏

وفيه استحباب ترك الإلحاح في السؤال كما استنبطه المؤلف منه في الزكاة، وسيأتي تقريره هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إني لأعطي الرجل‏)‏ حذف المفعول الثاني للتعميم، أي‏:‏ أي عطاء كان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أعجب إلي‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أحب ‏"‏ وكذا لأكثر الرواة‏.‏

ووقع عند الإسماعيلي بعد قوله‏:‏ أحب إلي منه ‏"‏ وما أعطيه إلا مخافة أن يكبه الله ‏"‏ الخ‏.‏

ولأبي داود من طريق معمر‏:‏ ‏"‏ إني أعطي رجالا، وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئا، مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن يكبه‏)‏ هو بفتح أوله وضم الكاف يقال‏:‏ أكب الرجل إذا أطرق، وكبه غيره إذا قلبه، وهذا على خلاف القياس لأن الفعل اللازم يتعدى بالهمزة وهذا زيدت عليه الهمزة فقصر‏.‏

وقد ذكر المؤلف هذا في كتاب الزكاة فقال‏:‏ يقال أكب الرجل إذا كان فعله غير واقع على أحدا، فإذا وقع الفعل قلت‏:‏ كبه وكببته‏.‏

وجاء نظير هذا في أحرف يسيرة منها‏:‏

أنسل ريش الطائر ونسلته، وأنزفت البئر ونزفتها، وحكى ابن الأعرابي في المتعدي كبه وأكبه معا‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ ليس فيه إعادة السؤال ثانيا ولا الجواب عنه، وقد روي عن ابن وهب ورشدين بن سعد جميعا عن يونس عن الزهري بسند آخر قال‏:‏ عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏

ونقل عن أبيه أنه خطأ من راويه وهو الوليد بن مسلم عنهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورواه يونس‏)‏ يعني ابن يزيد الأيلي، وحديثه موصول في كتاب الإيمان لعبد الرحمن بن عمر الزهري الملقب رسته بضم الراء وإسكان السين المهملتين، وقبل الهاء مثناة من فوق مفتوحة، ولفظه قريب من سياق الكشميهني، ليس فيه إعادة السؤال ثانيا ولا الجواب عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وصالح‏)‏ يعني‏:‏ ابن كيسان، وحديثه موصول عند المؤلف في كتاب الزكاة‏.‏

وفيه من اللطائف رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض وهم صالح والزهري وعامر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومعمر‏)‏ يعني‏:‏ ابن راشد، وحديثه عند أحمد بن حنبل والحميدي وغيرهما عن عبد الرزاق عنه‏.‏

وقال فيه‏:‏ إنه أعاد السؤال ثلاثا‏.‏

ورواه مسلم عن محمد بن يحيى بن أبي عمر عن سفيان بن عيينة عن الزهري‏.‏

ووقع في إسناده وهم منه أو من شيخه، لأن معظم الروايات في الجوامع والمسانيد عن ابن عيينة عن معمر عن الزهري بزيادة معمر بينهما، وكذا حدث به ابن أبي عمر شيخ مسلم في مسنده عن ابن عيينة، وكذا أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريقه، وزعم أبو مسعود في الأطراف أن الوهم من ابن أبي عمر، وهو محتمل لأن يكون الوهم صدر منه لما حدث به مسلما، لكن لم يتعين الوهم في جهته، وحمله الشيخ محيي الدين على أن ابن عيينة حدث به مرة بإسقاط معمر ومرة بإثباته، وفيه بعد، لأن الروايات قد تضافرت عن ابن عيينة بإثبات معمر، ولم يوجد بإسقاطه إلا عند مسلم، والموجود في مسند شيخه بلا إسقاط كما قدمناه، وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتابي ‏"‏ تعليق التعليق‏"‏‏.‏

وفي رواية عبد الرزاق عن معمر من الزيادة‏:‏ قال الزهري‏:‏ فنرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل‏.‏

وقد استشكل هذا بالنظر إلى حديث سؤال جبريل، فإن ظاهره يخالفه‏.‏

ويمكن أن يكون مراد الزهري أن المرء يحكم بإسلامه ‏(‏1/82‏)‏ ويسمى مسلما إذا تلفظ بالكلمة - أي كلمة الشهادة - وأنه لا يسمى مؤمنا إلا بالعمل، والعمل يشمل عمل القلب والجوارح، وعمل الجوارح يدل على صدقه‏.‏

وأما الإسلام المذكور في حديث جبريل فهو الشرعي الكامل المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه‏.‏ ‏(‏

قوله‏:‏ ‏(‏وابن أخي الزهري عن الزهري‏)‏ يعني‏:‏ أن الأربعة المذكورين رووا هذا الحديث عن الزهري بإسناده كما رواه شعيب عنه، وحديث ابن أخي الزهري موصول عند مسلم، وساق فيه السؤال والجواب ثلاث مرات‏.‏

وقال في آخره‏:‏ ‏"‏ خشية أن يكب ‏"‏ على البناء للمفعول‏.‏

وفي رواية ابن أخي الزهري لطيفة، وهي رواية أربعة من بني زهرة على الولاء، هو وعمه وعامر وأبوه‏.‏

*3*20 باب إِفْشَاءُ السَّلَامِ مِنْ الْإِسْلَامِ

وَقَالَ عَمَّارٌ‏:‏ ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ‏:‏ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ، وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ‏.‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ هو منون‏.‏

و قوله‏:‏ ‏(‏السلام من الإسلام‏)‏ زاد في رواية كريمة‏:‏ ‏"‏ إفشاء السلام ‏"‏ والمراد بإفشائه نشره سرا أو جهرا، وهو مطابق للمرفوع في قوله‏:‏ ‏"‏ على من عرفت ومن لم تعرف‏"‏‏.‏

وبيان كونه من الإسلام تقدم في باب إطعام الطعام مع بقية فوائده‏.‏

وغاير المصنف بين شيخيه اللذين حدثاه عن الليث مراعاة للإتيان بالفائدة الإسنادية، وهي تكثير الطرق حيث يحتاج إلى إعادة المتن، فإنه لا يعيد الحديث الواحد في موضعين على صورة واحدة‏.‏

فإن قيل‏:‏ كان يمكنه أن يجمع الحكمين في ترجمة واحدة ويخرج الحديث عن شيخيه معا، أجاب الكرماني‏:‏ باحتمال أن يكون كل من شيخيه أورده في معرض غير المعرض الآخر، وهذا ليس بطائل، لأنه متوقف على ثبوت وجود تصنيف مبوب لكل من شيخيه، والأصل عدمه‏.‏

ولأن من اعتنى بترجمة كل من قتيبة وعمرو بن خالد لم يذكر أن لواحد منهما تصنيفا على الأبواب، ولأنه لزم منه أن البخاري يقلد في التراجم، والمعروف الشائع عنه أنه هو الذي يستنبط الأحكام في الأحاديث، ويترجم لها، ويتفنن في ذلك بما لا يدركه فيه غيره‏.‏

ولأنه يبقى السؤال بحاله إذ لا يمتنع معه أن يجمعهما المصنف، ولو كان سمعهما مفترقين‏.‏

والظاهر من صنيع البخاري أنه يقصد تعديد شعب الإيمان كما قدمناه، فخص كل شعبة بباب تنويها بذكرها، وقصد التنويه يحتاج إلى التأكيد فلذلك غاير بين الترجمتين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عمار‏)‏ هو ابن ياسر، أحد السابقين الأولين، وأثره هذا أخرجه أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان من طريق سفيان الثوري، ورواه يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق شعبة وزهير ابن معاوية وغيرهما كلهم عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر عن عمار، ولفظ شعبة‏:‏ ‏"‏ ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان ‏"‏ وهو بالمعنى، وهكذا رويناه في جامع معمر عن أبي إسحاق‏.‏

وكذا حدث به عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، وحدث به عبد الرزاق بأخرة فرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، كذا أخرجه البزار في مسنده وابن أبي حاتم في العلل كلاهما عن الحسن بن عبد الله الكوفي، وكذا رواه البغوي في شرح السنة من طريق أحمد بن كعب الواسطي، وكذا أخرجه ابن الأعرابي في معجمه عن محمد بن الصباح الصنعاني ثلاثتهم عن عبد الرزاق مرفوعا‏.‏‏(‏1/83‏)‏

واستغربه البزار‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ هو خطأ‏.‏

قلت‏:‏ وهو معلول من حيث صناعة الإسناد، لأن عبد الرزاق تغير بأخرة، وسماع هؤلاء منه في حال تغيره، إلا أن مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع، وقد رويناه مرفوعا من وجه آخر عن عمار أخرجه الطبراني في الكبير وفي إسناده ضعف، وله شواهد أخرى بينتها في ‏"‏ تعليق التعليق‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثلاث‏)‏ أي‏:‏ ثلاث خصال، وإعرابه نظير ما مر في قوله‏:‏ ‏"‏ ثلاث من كن فيه‏"‏، والعالم بفتح اللام والمراد به هنا جميع الناس، والإقتار‏:‏ القلة وقيل‏:‏ الافتقار، وعلى الثاني فمن في قوله‏:‏ ‏"‏ من الإقتار ‏"‏ بمعنى مع، أو بمعنى عند‏.‏

قال أبو الزناد بن سراج وغيره‏:‏ إنما كان من جمع الثلاث مستكملا للإيمان لأن مداره عليها، لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقا واجبا عليه إلا أداه، ولم يترك شيئا مما نهاه عنه إلا اجتنبه، وهذا يجمع أركان الإيمان‏.‏

وبذل السلام يتضمن مكارم الأخلاق والتواضـع، وعدم الاحتقار، ويحصل به التآلف والتحابب، والإنفاق من الإقتار يتضمن غاية الكرم، لأنه إذا أنفق من الاحتياج كان مع التوسع أكثر إنفاقا، والنفقة أعم من أن تكون على العيال واجبة ومندوبة، أو على الضيف والزائر، وكونه من الإقتار يستلزم الوثوق بالله، والزهد في الدنيا، وقصر الأمل، وغير ذلك من مهمات الآخرة‏.‏

وهذا التقرير يقوي أن يكون الحديث مرفوعا، لأنه يشبه أن يكون كلام من أوتي جوامع الكلم‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*21 باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ

وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ‏.‏ فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب كفران العشير، وكفر دون كفر‏)‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه‏:‏ مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد الكفر المخرج من الملة‏.‏

قال‏:‏ وخص كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة وهي قوله -صلى الله عليه وسلم -‏"‏ لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ‏"‏ فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله، فإذا كفرت المرأة حق زوجها - وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية - كان ذلك دليلا على تهاونها بحق الله، فلذلك يطلق عليها الكفر لكنه كفر لا يخرج عن الملة‏.‏

ويؤخذ من كلامه مناسبة هذه الترجمة لأمور الإيمان من جهة كون الكفر ضد الإيمان‏.‏

وأما قول المصنف‏:‏ ‏"‏ وكفر دون كفر ‏"‏ فأشار إلى أثر رواه أحمد في كتاب الإيمان من طريق عطاء بن أبي رباح وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ فيه أبو سعيد ‏"‏ أي‏:‏ يدخل في الباب حديث رواه ‏"‏ أبو سعيد ‏"‏ وفي رواية كريمة‏:‏ ‏"‏ فيه عن أبي سعيد ‏"‏ أي‏:‏ مروي عن أبي سعيد‏.‏

وفائدة هذا الإشارة إلى أن للحديث طريقا غير الطريق المساقة‏.‏

وحديث أبي سعيد أخرجه المؤلف في الحيض وغيره من طريق عياض بن عبد الله عنه وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم -للنساء‏:‏ ‏"‏ تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار ‏"‏ فقلن‏:‏ ولم يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏"‏ تكثرن اللعن، وتكفرن العشير ‏"‏ الحديث‏.‏

ويحتمل أن يريد بذلك حديث أبي سعيد أيضا‏:‏ ‏"‏ لا يشكر الله من لا يشكر الناس‏"‏

قالها القاضي أبو بكر المذكور، ‏(‏1 /84‏)‏‏.‏

والأول أظهر وأجرى على مألوف المصنف، ويعضده إيراده لحديث ابن عباس بلفظ‏:‏ ‏"‏ وتكفرن العشير ‏"‏ والعشير الزوج، قيل له عشير بمعنى معاشر مثل أكيل بمعنى مؤاكل، وحديث ابن عباس المذكور طرف من حديث طويل أورده المصنف في باب صلاة الكسوف بهذا الإسناد تاما، وسيأتي الكلام عليه ثم‏.‏

وننبه هنا على فائدتين‏:‏

إحداهما‏:‏ أن البخاري يذهب إلى جواز تقطيع الحديث، إذا كان ما يفصله منه لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلقا يفضي إلى فساد المعنى، فصنيعه كذلك يوهم من لا يحفظ الحديث أن المختصر غير التام، لا سيما إذا كان ابتداء المختصر من أثناء التام كما وقع في هذا الحديث، فإن أوله هنا قوله -صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏"‏ أريت النار ‏"‏ إلى آخر ما ذكر منه، وأول التام عن ابن عباس قال‏:‏ خسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فذكر قصة صلاة الخسوف ثم خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم -وفيها القدر المذكور هنا، فمن أراد عد الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب يظن أن هذا الحديث حديثان أو أكثر لاختلاف الابتداء، وقد وقع في ذلك من حكى أن عدته بغير تكرار أربعة آلاف أو نحوها كابن الصلاح والشيخ محيي الدين ومن بعدهما، وليس الأمر كذلك بل عدته على التحرير ألفا حديث وخمسمائة حديث وثلاثة عشر حديثا، كما بينت ذلك مفصلا في المقدمة‏.‏

الفائدة الثانية‏:‏ تقرر أن البخاري لا يعيد الحديث إلا لفائدة، لكن تارة تكون في المتن، وتارة في الإسناد، وتارة فيهما‏.‏

وحيث تكون في المتن خاصة لا يعيده بصورته بل يتصرف فيه، فإن كثرت طرقه أورد لكل باب طريقا، وإن قلت اختصر المتن أو الإسناد‏.‏

وقد صنع ذلك في هذا الحديث، فإنه أورده هنا عن عبد الله بن مسلمة - وهو القعنبي - مختصرا مقتصرا على مقصود الترجمة كما تقدمت الإشارة إليه من أن الكفر يطلق على بعض المعاصي، ثم أورده في الصلاة في باب من صلى وقدامه نار بهذا الإسناد بعينه، لكنه لما لم يغاير اقتصر على مقصود الترجمة منه فقط، ثم أورده في صلاة الكسوف بهذا الإسناد فساقه تاما، ثم أورده في بدء الخلق في ذكر الشمس والقمر عن شيخ غير القعنبي مقتصرا على موضع الحاجة، ثم أورده في عشرة النساء عن شيخ غيرهما عن مالك أيضا‏.‏

وعلى هذه الطريقة يحمل جميع تصرفه، فلا يوجد في كتابه حديث على صورة واحدة في موضعين فصاعدا إلا نادرا، والله الموفق‏.‏

وسيأتي الكلام على ما تضمنه حديث الباب من الفوائد حيث ذكره تاما إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*22 باب الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ

وَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلَّا بِالشِّرْكِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ ‏"‏ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ‏"‏

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏)

الشرح‏:‏ ‏(‏1/85‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب‏)‏ هو منون‏.‏

وقوله‏:‏ المعاصي مبتدأ ومن أمر الجاهلية خبره، والجاهلية ما قبل الإسلام، وقد يطلق في شخص معين أي‏:‏ في حال جاهليته‏.‏

و قوله‏:‏ ‏(‏ولا يكفر‏)‏ بتشديد الفاء المفتوحة‏.‏

وفي رواية أبي الوقت بفتح أوله وإسكان الكاف، و قوله‏:‏ ‏(‏إلا بالشرك‏)‏ أي‏:‏ إن كل معصية تؤخذ من ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية، والشرك أكبر المعاصي ولهذا استثناه‏.‏

ومحصل الترجمة أنه لما قدم أن المعاصي يطلق عليها ‏"‏ الكفر ‏"‏ مجازا على إرادة كفر النعمة لا كفر الجحد، أراد أن يبين أنه كفر لا يخرج عن الملة، خلافا للخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ونص القرآن يرد عليهم وهو قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏)‏ فصير ما دون الشرك تحت إمكان المغفرة، والمراد بالشرك في هذه الآية الكفر، لأن من جحد نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- مثلا كان كافرا ولو لم يجعل مع الله إلها آخر، والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف‏.‏

وقد يرد الشرك ويراد به ما هو أخص من الكفر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ غرض البخاري الرد على من يكفر بالذنوب كالخوارج، ويقول‏:‏ إن من مات على ذلك يخلد في النار، والآية ترد عليهم لأن المراد بقوله‏:‏ ‏(‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏)‏ من مات على كل ذنب سوى الشرك‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ في استدلاله بقول أبي ذر‏:‏ ‏"‏ عيرته بأمه ‏"‏ نظر لأن التعيير ليس كبيرة، وهم لا يكفرون بالصغائر‏.‏

قلت‏:‏ استدلاله عليهم من الآية ظاهر، ولذلك اقتصر عليه ابن بطال، وأما قصة أبي ذر فإنما ذكرت ليستدل بها على أن من بقيت فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشرك لا يخرج عن الإيمان بها، سواء كانت من الصغائر أم الكبائر، وهو واضح‏.‏

واستدل المؤلف أيضا على أن المؤمن إذا ارتكب معصية لا يكفر بأن الله تعالى أبقى عليه اسم المؤمن فقال ‏(‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‏)‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم‏.‏ ‏(‏

واستدل أيضا بقوله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏"‏ إذا التقى المسلمان بسيفيهما ‏"‏ فسماهما مسلمين مع التوعد بالنار، والمراد هنا إذا كانت المقاتلة بغير تأويل سائغ‏.‏

واستدل أيضا بقوله -صلى الله عليه وسلم -لأبي ذر‏:‏ ‏"‏ فيك جاهلية ‏"‏ أي‏:‏ خصلة جاهلية، مع أن منزلة أبي ذر من الإيمان في الذروة العالية، وإنما وبخه بذلك - على عظيم منزلته عنده - تحذيرا له عن معاودة مثل ذلك، لأنه وإن كان معذورا بوجه من وجوه العذر، لكن وقوع ذلك من مثله يستعظم أكثر ممن هو دونه، وقد وضح بهذا وجه دخول الحديثين تحت الترجمة، وهذا على مقتضى هذه الرواية رواية أبي ذر عن مشايخه، لكن سقط حديث أبي بكرة من رواية المستملى، وأما رواية الأصيلي وغيره فأفرد فيها حديث أبي بكرة بترجمة ‏(‏وإن طائفتان من المؤمنين‏)‏ كل من الروايتين جمعا وتفريقا حسن‏.‏

والطائفة‏:‏ القطعة من الشيء، ويطلق على الواحد فما فوقه عند الجمهور‏.‏

وأما اشتراط حضور أربعة في رجم الزاني قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين‏)‏ فالآية واردة في الجلد ولا اشتراط فيه والاشتراط في الرجم بدليل آخر‏.‏

وأما اشتراط ثلاثة في صلاة الخوف مع قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فلتقم طائفة منهم معك‏)‏ فذاك لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وليأخذوا أسلحتهم‏)‏ فذكره بلفظ الجمع وأقله ثلاثة على الصحيح‏.‏

‏(‏1/86‏)‏

الحديث‏:‏

-30- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ‏:‏

لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ‏:‏

إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ ‏"‏ يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ‏؟‏ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ‏.‏

إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ‏"‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن واصل‏)‏ هو ابن حيان، وللأصيلي هو الأحدب، وللمصنف في العتق حدثنا واصل الأحدب‏.‏ قوله‏:‏ ‏(‏عن المعرور‏)‏ وفي العتق‏:‏ سمعت المعرور بن سويد، وهو بمهملات ساكن العين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالربذة‏)‏ هو بفتح الراء والموحدة والمعجمة‏:‏ موضع بالبادية، بينه وبين المدينة ثلاث مراحل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعليه حلة وعلى غلامه حلة‏)‏ هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة عنه، لكن في رواية الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة ‏"‏ أتيت أبا ذر، فإذا حلة عليه منها ثوب وعلى عبده منها ثوب ‏"‏ وهذا يوافق ما في اللغة أن الحلة ثوبان من جنس واحد، ويؤيده ما في رواية الأعمش عن المعرور عند المؤلف في الأدب بلفظ‏:‏ ‏"‏ رأيت عليه بردا وعلى غلامه بردا فقلت‏:‏ لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة ‏"‏ وفي رواية مسلم ‏"‏ فقلنا‏:‏ يا أبا ذر، لو جمعت بينهما كانت حلة ‏"‏ ولأبي داود ‏"‏ فقال القوم‏:‏ يا أبا ذر، لو أخذت الذي على غلامك فجعلته مع الذي عليك لكانت حلة ‏"‏ فهذا موافق لقول أهل اللغة، لأنه ذكر أن الثوبين يصيران بالجمع بينهما حلة، ولو كان كما في الأصل على كل واحد منهما حلة لكان إذا جمعهما يصير عليه حلتان، ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه كان عليه برد جيد تحته ثوب خلق من جنسه وعلى غلامه كذلك، وكأنه قيل له‏:‏ لو أخذت البرد الجيد فأضفته إلى البرد الجيد الذي عليك وأعطيت الغلام البرد الخلق بدله لكانت حلة جيدة، فتلتئم بذلك الروايتان، ويحمل قوله في حديث الأعمش ‏"‏ لكانت حلة ‏"‏ أي‏:‏ كاملة الجودة، فالتنكير فيه للتعظيم‏.‏

والله أعلم‏.‏

وقد نقل بعض أهل اللغة أن الحلة لا تكون إلا ثوبين جديدين يحلهما من طيهما، فأفاد أصل تسمية الحلة‏.‏

وغلام أبي ذر المذكور لم يسم، ويحتمل أن يكون أبا مراوح مولى أبي ذر، وحديثه عنه في الصحيحين‏.‏

وذكر مسلم في الكنى أن اسمه سعد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسألته‏)‏ أي‏:‏ عن السبب في إلباسه غلامه نظير لبسه، لأنه على خلاف المألوف، فأجابه بحكاية القصة التي كانت سببا لذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ساببت‏)‏ في رواية الإسماعيلي ‏"‏ شاتمت ‏"‏ وفي الأدب للمؤلف ‏"‏ كان بيني وبين رجل كلام ‏"‏ وزاد مسلم ‏"‏ من إخواني ‏"‏ وقيل‏:‏ إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن مولى أبي بكر، وروى ذلك الوليد ابن مسلم منقطعا‏.‏

ومعنى ‏"‏ ساببت ‏"‏‏:‏ وقع بيني وبينه سباب بالتخفيف، وهو من السب بالتشديد وأصله القطع وقيل مأخوذ من السبة وهي حلقة الدبر، سمى الفاحش من القول بالفاحش من الجسد، فعلى الأول المراد قطع المسبوب، وعلى الثاني المراد كشف عورته لأن من شأن الساب إبداء عورة المسبوب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فعيرته بأمه‏)‏ أي‏:‏ نسبته إلى العار، زاد في الأدب ‏"‏ وكانت أمه أعجمية فنلت منها ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ قلت له‏:‏ يا ابن السوداء‏"‏، والأعجمي‏:‏ من لا يفصح باللسان العربي سواء كان عربيا أو عجميا،‏(‏1/87‏)‏

والفاء في ‏"‏ فعيرته ‏"‏ قيل‏:‏ هي تفسيرية كأنه بين أن التعيير هو السب، والظاهر أنه وقع بينهما سباب وزاد عليه التعيير فتكون عاطفة، ويدل عليه رواية مسلم قال‏:‏ ‏"‏ أعيرته بأمه‏؟‏ فقلت‏:‏ من سب الرجال سبوا أباه وأمه‏.‏

قال‏:‏ إنك امرؤ فيك جاهلية ‏"‏ أي‏:‏ خصلة من خصال الجاهلية‏.‏

ويظهر لي أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، فلهذا قال كما عند المؤلف في الأدب ‏"‏ قلت‏:‏ على ساعتي هذه من كير السن‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏"‏ كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه، فبين له كون هذه الخصلة مذمومة شرعا، وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذا بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي اشتراط المواساة لا المساواة، وسنذكر ما يتعلق ببقية ذلك في كتاب العتق حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي السياق دلالة على جواز تعدية ‏"‏ عيرته ‏"‏ بالباء، وقد أنكره ابن قتيبة وتبعه بعضهم، وأثبت آخرون أنها لغة‏.‏

وقد جاء في سبب إلباس أبي ذر غلامه مثل لبسه أثر مرفوع أصرح من هذا وأخص، أخرجه الطبراني من طريق أبي غالب عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -أعطى أبا ذر عبدا فقال‏:‏ ‏"‏ أطعمه مما تأكل، وألبسه مما تلبس ‏"‏ وكان لأبي ذر ثوب فشقه نصفين، فأعطى الغلام نصفه، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال‏:‏ قلت يا رسول الله‏:‏ ‏"‏ أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون ‏"‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

الحديث‏:‏

-31- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الْأَحْنَفِ ابْنِ قَيْسٍ قَالَ‏:‏ ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ‏:‏ أَيْنَ تُرِيدُ‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ‏.‏

قَالَ‏:‏ ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ‏.‏

فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ‏؟‏

قَالَ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ‏.‏‏"‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أيوب‏)‏ هو السختياني، ويونس هو ابن عبيد، والحسن هو ابن أبي الحسن البصري، والأحنف بن قيس مخضرم، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن قبل إسلامه، وكان رئيس بني تميم في الإسلام، وبه يضرب المثل في الحلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ ذهبت لأنصر هذا الرجل ‏"‏ يعني‏:‏ عليا، كذا هو في مسلم من هذا الوجه، وقد أشار إليه المؤلف في الفتن ولفظه‏:‏ ‏"‏ أريد نصرة ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ‏"‏ زاد الإسماعيلي في روايته يعني‏:‏ عليا‏.‏

وأبو بكرة بإسكان الكاف هو الصحابي المشهور، وكان الأحنف أراد أن يخرج بقومه إلى علي بن أبي طالب ليقاتل معه يوم الجمل فنهاه أبو بكرة فرجع، وحمل أبو بكرة الحديث على عمومه في كل مسلمين التقيا بسيفيهما حسما للمادة، وإلا فالحق أنه محمول على ما إذا كان القتال منهما بغير تأويل سائغ كما قدمناه، ويخص ذلك من عموم الحديث المتقدم بدليله الخاص في قتال أهل البغي، وقد رجع الأحنف عن رأي أبي بكرة في ذلك وشهد مع علي باقي حروبه، وسيأتي الكلام على حديث أبي بكرة في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى‏.‏

ورجال إسناده كلهم بصريون، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم أيوب والحسن والأحنف‏.‏

*3*23 باب ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ظلم دون ظلم‏)‏ دون يحتمل أن تكون بمعنى غير، أي‏:‏ أنواع الظلم متغايرة‏.‏

أو بمعنى الأدنى، أي‏:‏ بعضها أخف من بعض، وهو أظهر في مقصود المصنف‏.‏

وهذه الجملة لفظ حديث رواه أحمد في كتاب الإيمان من حديث عطاء، ورواه أيضا من طريق طاوس عن ابن عباس بمعناه، وهو في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ومن لم يحكم بما أنزل الله‏)‏ الآية، فاستعمله المؤلف ترجمة، واستدل له بالحديث المرفوع‏.‏

ووجه الدلالة منه أن الصحابة فهموا من قوله‏:‏ ‏"‏ بظلم ‏"‏ عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإنما بين لهم أن المراد أعظم أنواع الظلم وهو الشرك على ما سنوضحه، فدل على أن للظلم مراتب متفاوتة‏.‏

ومناسبة إيراد هذا عقب ما تقدم من أن المعاصي غير الشرك لا ينسب صاحبها إلى الكفر المخرج عن الملة على هذا التقرير ظاهرة‏.‏

الحديث‏:‏

-32- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ‏.‏

ح‏.‏

قَالَ‏:‏ و حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ ‏(‏الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ‏)

قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ‏؟‏

فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏)

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو الوليد‏)‏ هو الطيالسي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحدثني بشر‏)‏ هو في الروايات المصححة بواو العطف، وفي بعض النسخ قبلها صورة ح، فإن كان من أصل التصنيف فهي مهملة مأخوذة من التحويل على المختار‏.‏

وإن كانت مزيدة من بعض الرواة فيحتمل أن تكون مهملة كذلك، أو معجمة مأخوذة من البخاري لأنها رمزه، أي‏:‏ قال البخاري‏:‏ وحدثني بشر، وهو ابن خالد العسكري وشيخه محمد هو ابن جعفر المعروف بغندر، وهو أثبت الناس في شعبة، ولهذا أخرج المؤلف روايته مع كونه أخرج الحديث عاليا عن أبي الوليد، واللفظ المساق هنا لفظ بشر،‏(‏1/ 88‏)‏

وكذلك أخرج النسائي عنه وتابعه ابن أبي عدي عن شعبة، وهو عند المؤلف في تفسير الأنعام، وأما لفظ أبي الوليد فساقه المؤلف في قصة لقمان بلفظ‏:‏ ‏"‏ أينا لم يلبس إيمانه بظلم ‏"‏ وزاد فيه أبو نعيم في مستخرجه من طريق سليمان ابن حرب عن شعبة بعد قوله‏:‏ ‏(‏إن الشرك لظلم عظيم‏)‏ ‏:‏ فطابت أنفسنا‏.‏

واقتضت رواية شعبة هذه أن هذا السؤال سبب نزول الآية الأخرى التي في لقمان، لكن رواه البخاري ومسلم من طريق أخرى عن الأعمش وهو سليمان المذكور في حديث الباب‏.‏

ففي رواية جرير عنه‏:‏ ‏"‏ فقالوا‏:‏ أينا لم يلبس إيمانه بظلم‏؟‏ فقال‏:‏ ليس بذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان‏"‏‏.‏

وفي رواية وكيع عنه‏:‏ ‏"‏ فقال ليس كما تظنون‏"‏‏.‏

وفي رواية عيسى بن يونس‏:‏ ‏"‏ إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان‏"‏‏.‏

وظاهر هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومة عندهم ولذلك نبههم عليها، ويحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال فتلاها عليهم ثم نبههم فتلتئم الروايتان‏.‏

قال الخطابي‏:‏ كان الشرك عند الصحابة أكبر من أن يلقب بالظلم، فحملوا الظلم في الآية على ما عداه - يعني من المعاصي - فسألوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية‏.‏

كذا قال، وفيه نظر، والذي يظهر لي أنهم حملوا الظلم على عمومه، الشرك فما دونه، وهو الذي يقتضيه صنيع المؤلف‏.‏

وإنما حملوه على العموم لأن قوله‏:‏ ‏(‏بظلم‏)‏ نكرة في سياق النفي، لكن عمومها هنا بحسب الظاهر‏.‏

قال المحققون‏:‏ إن دخل على النكرة في سياق النفي ما يؤكد العموم ويقويه نحو ‏"‏ من ‏"‏ في قوله‏:‏ ما جاءني من رجل، أفاد تنصيص العموم، وإلا فالعموم مستفاد بحسب الظاهر كما فهمه الصحابة من هذه الآية، وبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ظاهرها غير مراد، بل هو من العام الذي أريد به الخاص، فالمراد بالظلم أعلى أنواعه وهو الشرك‏.‏

فإن قيل‏:‏ من أين يلزم أن من لبس الإيمان بظلم لا يكون آمنا ولا مهتديا، حتى شق عليهم، والسياق إنما يقتضي أن من لم يوجد منه الظلم فهو آمن ومهتد، فما الذي دل على نفي ذلك عمن وجد منه الظلم‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن ذلك مستفاد من المفهوم وهو مفهوم الصفة، أو مستفاد من الاختصاص المستفاد من تقديم ‏"‏ لهم ‏"‏ على الأمن، أي‏:‏ لهم الأمن لا لغيرهم، كذا قال الزمخشري قي قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إياك نعبد‏.‏ ‏(‏

وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏كلا إنها كلمة هو قائلها‏)‏ تقديم ‏"‏ هو ‏"‏ على ‏"‏ قائلها ‏"‏ يفيد الاختصاص، أي‏:‏ هو قائلها لا غيره‏.‏

فإن قيل‏:‏ لا يلزم من قوله‏:‏ ‏(‏إن الشرك لظلم عظيم‏)‏ أن غير الشرك لا يكون ظلما‏.‏

فالجواب‏:‏ أن التنوين في قوله لظلم للتعظيم، وقد بين ذلك استدلال الشارع بالآية الثانية، فالتقدير‏:‏ لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم أي بشرك، إذ لا ظلم أعظم منه، وقد ورد ذلك صريحا عند المؤلف في قصة إبراهيم الخليل - عليه السلام - من طريق حفص بن غياث عن الأعمش ولفظه ‏"‏ قلنا‏:‏ يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه‏؟‏

قال‏:‏ ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم‏:‏ بشرك‏.‏

أو لم تسمعوا إلى قول لقمان ‏"‏ فذكر الآية‏.‏

واستنبط منه المازري جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونازعه القاضي عياض فقال‏:‏ ليس في هذه القصة تكليف عمل، بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر، واعتقاد التصديق لازم لأول وروده فما هي الحاجة‏؟‏

ويمكن أن يقال‏:‏ المعتقدات أيضا تحتاج إلى البيان، فلما أجمل الظلم حتى تناول إطلاقه جميع المعاصي شق عليهم حتى ورد البيان فما انتفت الحاجة‏.‏

والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم يلبسوا‏)‏ أي‏:‏ لم يخلطوا، تقول‏:‏ لبست الأمر بالتخفيف، ألبسه بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل، أي‏:‏ خلطته‏.‏

وتقول‏:‏ لبست الثوب ألبسه بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل‏.‏

وقال محمد ابن إسماعيل التيمي في شرحه‏:‏ خلط الإيمان بالشرك لا يتصور فالمراد أنهم لم تحصل لهم الصفتان كفر متأخر عن إيمان متقدم‏.‏

أي‏:‏ لم يرتدوا‏.‏

ويحتمل أن يراد أنهم لم يجمعوا بينهما ظاهرا وباطنا، أي‏:‏ لم ينافقوا‏.‏

وهذا أوجه، ولهذا عقبه المصنف بباب علامات المنافق، وهذا من بديع ترتيبه‏.‏

ثم في هذا الإسناد رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض وهم الأعمش عن شيخه إبراهيم بن يزيد النخعي عن خاله علقمة بن قيس النخعي، ‏(‏1/ 89‏)‏

والثلاثة كوفيون فقهاء، وعبد الله الصحابي هو ابن مسعود‏.‏

وهذه الترجمة أحد ما قيل فيه إنه أصح الأسانيد‏.‏

والأعمش موصوف بالتدليس ولكن في رواية حفص بن غياث التي تقدمت الإشارة إليها عند المؤلف عنه ‏"‏ حدثنا إبراهيم ‏"‏ ولم أر التصريح بذلك في جميع طرقه عند الشيخين وغيرهما إلا في هذا الطريق‏.‏

وفي المتن من الفوائد‏:‏

الحمل على العموم حتى يرد دليل الخصوص، وأن النكرة في سياق النفي تعم، وأن الخاص يقضي على العام والمبين عن المجمل، وأن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره لمصلحة دفع التعارض، وأن درجات الظلم تتفاوت كما ترجم له، وأن المعاصي لا تسمى شركا، وأن من لم يشرك بالله شيئا فله الأمن وهو مهتد‏.‏

فإن قيل‏:‏ فالعاصي قد يعذب فما هو الأمن والاهتداء الذي حصل له‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنه آمن من التخليد في النار، مهتد إلى طريق الجنة‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*24 باب عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب علامات المنافق‏)‏ لما قدم أن مراتب الكفر متفاوتة وكذلك الظلم أتبعه بأن النفاق كذلك‏.‏

وقال الشيخ محيي الدين‏:‏ مراد البخاري بهذه الترجمة أن المعاصي تنقص الإيمان، كما أن الطاعة تزيده‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ مناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان أن النفاق علامة عدم الإيمان، أو ليعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض‏.‏

والنفاق لغة‏:‏ مخالفة الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه‏.‏

الحديث‏:‏

-33- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ‏:‏ ‏"‏ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ‏:‏ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ‏.‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سليمان أبو الربيع‏)‏ هو الزهراني، بصري نزل بغداد، ومن شيخه فصاعدا مدنيون، ونافع بن مالك هو عم مالك بن أنس الإمام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏آية المنافق ثلاث‏)‏ الآية‏:‏ العلامة، وإفراد الآية إما على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، والأول أليق بصنيع المؤلف، ولهذا ترجم بالجمع وعقب بالمتن الشاهد لذلك‏.‏

وقد رواه أبو عوانة في صحيحه بلفظ‏:‏ ‏"‏ علامات المنافق‏"‏، فإن قيل‏:‏ ظاهره الحصر في الثلاث فكيف جاء في الحديث الآخر بلفظ ‏"‏ أربع من كن فيه‏.‏‏.‏ الحديث ‏"‏‏؟‏

أجاب القرطبي‏:‏ باحتمال أنه استجد له - صلى الله عليه وسلم - من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده‏.‏

وأقول‏:‏ ليس بين الحديثين تعارض، لأنه لا يلزم من عد الخصلة المذمومة الدالة على كمال النفاق كونها علامة على النفاق، ‏(‏1/ 90‏)‏

لاحتمال أن تكون العلامات دالات على أصل النفاق، والخصلة الزائدة إذا أضيفت إلى ذلك كمل بها خلوص النفاق‏.‏

على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على إرادة عدم الحصر، فإن لفظه‏:‏ ‏"‏ من علامة المنافق ثلاث ‏"‏ وكذا أخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري، وإذا حمل اللفظ الأول على هذا لم يرد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت، وببعضها في وقت آخر‏.‏

وقال القرطبي أيضا والنووي‏:‏ حصل من مجموع الروايتين خمس خصال، لأنهما تواردتا على الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة، وزاد الأول الخلف في الوعد والثاني الغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة‏.‏

قلت‏:‏ وفي رواية مسلم الثاني بدل الغدر في المعاهدة الخلف في الوعد كما في الأول، فكأن بعض الرواة تصرف في لفظه لأن معناهما قد يتحد، وعلى هذا فالمزيد خصلة واحدة وهي الفجور في الخصومة‏.‏

والفجور‏:‏ الميل عن الحق والاحتيال في رده‏.‏

وهذا قد يندرج في الخصلة الأولى وهي الكذب في الحديث‏.‏

ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أنها منبهة على ما عداها، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث‏:‏ القول، والفعل، والنية‏.‏

فنبه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف‏.‏

لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنا للوعد، أما لو كان عازما ثم عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم توجد منه صورة النفاق، قاله الغزالي في الإحياء‏.‏

وفي الطبراني في حديث طويل ما يشهد له، ففيه من حديث سلمان ‏"‏ إذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف ‏"‏ وكذا قال في باقي الخصال، وإسناده لا بأس به ليس فيهم من أجمع على تركه، وهو عند أبي داود والترمذي من حديث زيد بن أرقم مختصر بلفظ‏:‏ ‏"‏ إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف فلا إثم عليه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا وعد‏)‏ قال صاحب المحكم‏:‏ يقال وعدته خيرا، ووعدته شرا‏.‏

فإذا أسقطوا الفعل قالوا في الخير‏:‏ وعدته، وفي الشر‏:‏ أوعدته‏.‏

وحكى ابن الأعرابي في نوادره‏:‏ أوعدته خيرا بالهمزة‏.‏

فالمراد بالوعد في الحديث الوعد بالخير، وأما الشر فيستحب إخلافه‏.‏

وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة‏.‏

وأما الكذب في الحديث فحكى ابن التين عن مالك أنه سئل عمن جرب عليه كذب فقال‏:‏ أي نوع من الكذب‏؟‏ لعله حدث عن عيش له سلف فبالغ في وصفه، فهذا لا يضر، وإنما يضر من حدث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصدا الكذب‏.‏ انتهى‏.‏

وقال النووي‏:‏ هذا الحديث عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره‏.‏

قال‏:‏ وليس فيه إشكال، بل معناه صحيح والذي قاله المحققون‏:‏ إن معناه أن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم‏.‏

قلت‏:‏ ومحصل هذا الجواب الحمل في التسمية على المجاز، أي‏:‏ صاحب هذه الخصال كالمنافق، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر‏.‏

وقد قيل في الجواب عنه‏:‏ إن المراد بالنفاق نفاق العمل كما قدمناه‏.‏

وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة‏:‏ هل تعلم في شيئا من النفاق‏؟‏

فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر، وإنما أراد نفاق العمل‏.‏

ويؤيده وصفه بالخالص في الحديث الثاني بقوله‏:‏ ‏"‏كان منافقا خالصا‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال وإن الظاهر غير مراد، وهذا ارتضاه الخطابي‏.‏

وذكر أيضا أنه يحتمل أن المتصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنا‏.‏

قال‏:‏ ويدل عليه التعبير بإذا، فإنها تدل على تكرر الفعل‏.‏

كذا قال‏.‏

والأولى ما قال الكرماني‏:‏ إن حذف المفعول من ‏"‏ حدث ‏"‏ يدل على العموم، أي‏:‏ إذا حدث في كل شيء كذب فيه‏.‏

أو يصير قاصرا، أي‏:‏ إذا وجد ماهية التحديث كذب‏.‏

‏(‏1/ 91‏)‏

وقيل‏:‏ هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال، وتهاون بها، واستخف بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبا‏.‏

وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس، ومنهم من ادعى أنها للعهد فقال‏:‏ إنه ورد في حق شخص معين أو في حق المنافقين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إليه‏.‏

وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي‏.‏

والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

-34- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ‏:‏

‏"‏ أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا‏:‏

إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ‏.‏‏"‏

تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه شعبة‏)‏ وصل المؤلف هذه المتابعة في كتاب المظالم، ورواية قبيصة عن سفيان - وهو الثوري - ضعفها يحيى بن معين‏.‏

وقال الشيخ محيي الدين‏:‏ إنما أوردها البخاري على طريق المتابعة لا الأصالة‏.‏

وتعقبه الكرماني بأنها مخالفة في اللفظ والمعنى من عدة جهات، فكيف تكون متابعة‏؟‏

وجوابه‏:‏ أن المراد بالمتابعة هنا كون الحديث مخرجا في صحيح مسلم وغيره من طرق أخرى عن الثوري، وعند المؤلف من طرق أخرى عن الأعمش، منها رواية شعبة المشار إليها، وهذا هو السر في ذكرها هنا‏.‏

وكأنه فهم أن المراد بالمتابعة حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وليس كذلك إذ لو أراده لسماه شاهدا‏.‏

وأما دعواه أن بينهما مخالفة في المعنى فليس بمسلم، لما قررناه آنفا‏.‏

وغايته أن يكون في أحدهما زيادة وهي مقبولة لأنها من ثقة متقن‏.‏

والله أعلم‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ رجال الإسناد الثاني كلهم كوفيون، إلا الصحابي وقد دخل الكوفة أيضا‏.‏

والله أعلم‏.‏