فصل: كِتَاب كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب كَفَّارَاتِ الْأَيْمَانِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم كتاب كفارات الأيمان‏)‏ في رواية غير أبي ذر ‏"‏ باب ‏"‏ وله عن المستملي ‏"‏ كتاب الكفارات ‏"‏ وسميت كفارة لأنها تكفر الذنب أي تستره، ومنه قيل للزارع كافر لأنه يغطي البذر‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الكفارة ما يعطي الحانث في اليمين، واستعمل في كفارة القتل والظهار، وهو من التكفير وهو ستر الفعل وتغطيته فيصير بمنزلة ما لم يعمل، قال ويصح أن يكون أصله إزالة الكفر نحو التمريض في إزالة المرض، وقد قال الله تعالى ‏(‏ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم‏)‏ أي أزلناها، وأصل الكفر الستر يقال كفرت الشمس النجوم سترتها، ويسمى السحاب الذي يستر الشمس كافرا، ويسمى الليل كافرا لأنه يستر الأشياء عن العيون، وتكفر الرجل بالسلاح إذا تستر به‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ

وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَوْ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ وَقَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏وقول الله تعالى‏:‏ فكفارته إطعام عشرة مساكين‏)‏ يريد إلى آخر الآية، وقد تمسك به من قال بتعين العدد المذكور وهو قول الجمهور خلافا لمن قال لو أعطى ما يجب للعشرة واحدا كفى، وهو مروي عن الحسن أخرجه ابن أبي شيبة، ولمن قال كذلك لكن قال عشرة أيام متوالية، وهو مروي عن الأوزاعي حكاه ابن المنذر، وعن الثوري مثله لكن قال‏:‏ إن لم يجد العشرة‏.‏

قوله ‏(‏وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت‏:‏ ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏)‏ يشير إلى حديث كعب بن عجرة الموصول في الباب‏.‏

قوله ‏(‏وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبا في الفدية‏)‏ يعني كعب بن عجرة كما ذكره في الباب‏.‏

قوله ‏(‏ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة‏:‏ ما كان في القرآن ‏"‏ أو أو ‏"‏ فصاحبه بالخيار‏)‏ أما أثر ابن عباس فوصله سفيان الثوري في تفسيره عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ كل شيء في القرآن أو نحو قوله تعالى ‏(‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏)‏ فهو فيه مخير، وما كان ‏(‏فمن لم يجد‏)‏ فهو على الولاء أي على الترتيب‏.‏

وليث ضعيف ولذلك لم يجزم به المصنف، وقد جاء عن مجاهد من قوله بسند صحيح عند الطبري وغيره، وأما أثر عطاء فوصله الطبري من طريق ابن جريج قال قال عطاء‏:‏ ما كان في القرآن ‏"‏ أو أو ‏"‏ فلصاحبه أن يختار أيه شاء‏.‏

قال ابن جريج وقال لي عمرو بن دينار نحوه وسنده صحيح‏.‏

وقد أخرجه ابن عيينة في تفسيره عن ابن جريج عن عطاء بلفظ الأصل وسنده صحيح أيضا‏.‏

وأما أثر عكرمة فوصله الطبري من طريق داود بن أبي هند عنه قال‏:‏ كل شيء في القرآن ‏"‏ أو أو ‏"‏ فليتخير أي الكفارات شاء، فإذا كان ‏(‏فمن لم يجد‏)‏ فالأول الأول قال ابن بطال‏:‏ هذا متفق عليه بين العلماء، وإنما اختلفوا في قدر الإطعام فقال الجمهور لكل إنسان مد من طعام بمد الشارع صلى الله عليه وسلم وفرق مالك في جنس الطعام بين أهل المدينة فاعتبر ذلك في حقهم لأنه وسط من عيشهم بخلاف سائر الأمصار فالمعتبر في حق كل منهم ما هو وسط من عيشه وخالفه ابن القاسم فوافق الجمهور‏.‏

وذهب الكوفيون إلى أن الواجب إطعام نصف صاع، والحجة للأول أنه صلى الله عليه وسلم أمر في كفارة المواقع في رمضان بإطعام مد لكل مسكين، قال وإنما ذكر البخاري حديث كعب هنا من أجل آية التخيير فإنها وردت في كفارة اليمين كما وردت في كفارة الأذى‏.‏

وتعقبه ابن المنير فقال يحتمل أن يكون البخاري وافق الكوفيين في هذه المسألة فأورد حديث كعب بن عجرة لأنه وقع التنصيص في خبر كعب على نصف صاع ولم يثبت في قدر طعام الكفارة فحمل المطلق على المقيد‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيده أن كفارة المواقع ككفارة الظهار وكفارة الظهار ورد النص فيها بالترتيب بخلاف كفارة الأذى فإن النص ورد فيها بالتخيير، وأيضا فإنهما متفقان في قدر الصيام بخلاف الظهار فكان حمل كفارة اليمين عليها لموافقتها لها في التخيير أولى من حملها على كفارة المواقع مع مخالفتها، وإلى هذا أشار ابن المنير‏.‏

وقد يستدل لذلك بما أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس قال ‏"‏ كفر النبي صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك، فمن لم يجد فنصف صاع من بر ‏"‏ وهذا لو ثبت لم يكن حجة لأنه لا قائل به، وهو من رواية عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة وهو ضعيف جدا‏.‏

والذي يظهر لي أن البخاري أراد الرد على من أجاز في كفارة اليمين أن تبعض الخصلة من الثلاثة المخير فيها كمن أطعم خمسة وكساهم أو كسا خمسة غيرهم أو أعتق نصف رقبة وأطعم خمسة أو كساهم، وقد نقل ذلك عن بعض الحنفية والمالكية، وقد احتج من ألحقها بكفارة الظهار بأن شرط حمل المطلق على المقيد أن لا يعارضه مقيد آخر، فلما عارضه هنا والأصل براءة الذمة أخذ بالأقل، وأيده الماوردي من حيث النظر بأنه في كفارة اليمين وصف بالأوسط وهو محمول على الجنس وأوسط ما يشبع الشخص رطلان من الخبز والمد رطل وثلث من الحب فإذا خبز كان قدر رطلين‏.‏

وأيضا فكفارة اليمين وإن وافقت كفارة الأذى في التخيير لكنها زادت عليها بأن فيها ترتيبا، لأن التخيير وقع بين الإطعام والكسوة والعتق، والترتيب وقع بين الثلاثة وصيام ثلاثة أيام وكفارة الأذى وقع التخيير فيها بين الصيام والإطعام والذبح حسب، قال ابن الصباغ‏:‏ ليس في الكفارات ما فيه تخيير وترتيب إلا كفارة اليمين وما ألحق بها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ أَتَيْتُهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ادْنُ فَدَنَوْتُ فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَوْنٍ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَالنُّسُكُ شَاةٌ وَالْمَسَاكِينُ سِتَّةٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أحمد بن يونس‏)‏ هو ابن عبد الله بن يونس نسب لجده، وأبو شهاب هو الأصغر واسمه عبد ربه ابن نافع، وابن عون هو عبد الله‏.‏

قوله ‏(‏أتيته يعني النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا في الأصل، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق بشر بن المفضل عن ابن عون بهذا السند عن كعب بن عجرة قال ‏"‏ في نزلت هذه الآية، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكره‏.‏

وفي رواية معتمر بن سليمان عن ابن عون عند الإسماعيلي ‏"‏ نزلت في هذه الآية ‏(‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏)‏ قال فرآني النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادن‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال وأخبرني ابن عون‏)‏ هو مقول أبي شهاب وهو موصول بالأول، وقد أخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق أزهر بن سعد عن ابن عون به وقال في آخره‏:‏ فسره لي مجاهد فلم أحفظه، فسألت أيوب فقال‏:‏ الصيام ثلاثة أيام والصدقة على ستة مساكين والنسك ما استيسر من الهدي‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم في الحج وفي التفسير من طرق أخرى عن مجاهد وفي الطب والمغازي من طريق أيوب عن مجاهد به وسياقها أتم، وتقدم شرحه مستوفى في كتاب الحج‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

مَتَى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب متى تجب الكفارة على الغني والفقير‏؟‏ وقول الله تعالى ‏(‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏)‏ إلى قوله‏:‏ العليم الحكيم‏)‏ كذا لأبي ذر، ولغيره ‏"‏ باب قول الله تعالى ‏(‏قد فرض الله لكم‏)‏ ‏"‏ وساقوا الآية وبعدها ‏"‏ متى تجب الكفارة على الغني والفقير ‏"‏‏؟‏ وسقط لبعضهم ذكر الآية؛ وأشار الكرماني إلى تصويبه فقال‏:‏ قوله تحلة أيمانكم أي تحليلها بالكفارة، والمناسب أن يذكر هذه الآية في الباب الذي قبله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ فِيهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلَكْتُ قَالَ وَمَا شَأْنُكَ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ قَالَ تَسْتَطِيعُ تُعْتِقُ رَقَبَةً قَالَ لَا قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لَا قَالَ اجْلِسْ فَجَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ قَالَ خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ قَالَ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ أَطْعِمْهُ عِيَالَكَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في قصة المجامع في نهار رمضان، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصيام، وقوله فيه ‏"‏ سفيان عن الزهري ‏"‏ وقع في رواية الحميدي ‏"‏ عن سفيان حدثنا الزهري ‏"‏ وتقدم أيضا بيان الاختلاف فيمن لا يجد ما يكفر به ولا يقدر على الصيام هل يسقط عنه أو يبقى في ذمته‏؟‏ قال ابن المنير‏:‏ مقصوده أن ينبه على أن الكفارة إنما تجب بالحنث كما أن كفارة المواقع إنما تجب باقتحام الذنب، وأشار إلى أن الفقير لا يسقط عنه إيجاب الكفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم فقره وأعطاه مع ذلك ما يكفر به كما لو أعطى الفقير ما يقضي به دينه، قال‏:‏ ولعله كما نبه على احتجاج الكوفيين بالفدية نبه هنا على ما احتج به من خالفهم من إلحاقها بكفارة المواقع وأنه مد لكل مسكين‏.‏

*3*باب مَنْ أَعَانَ الْمُعْسِرَ فِي الْكَفَّارَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من أعان المعسر في الكفارة‏)‏ ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور قبل وهو ظاهر فيما ترجم له، فكما جاز إعانة المعسر بالكفارة عن وقاعه في رمضان كذلك تجوز إعانة المعسر بالكفارة عن يمينه إذا حنث فيه‏.‏

*3*باب يُعْطِي فِي الْكَفَّارَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب يعطي في الكفارة عشرة مساكين قريبا كان‏)‏ أي المسكين ‏(‏أو بعيدا‏)‏ أما العدد فبنص القرآن في كفارة اليمين، وقد ذكرت الخلاف فيه قريبا، وأما التسوية بين القريب والبعيد فقال ابن المنير‏:‏ ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور قبله وليس فيه إلا قوله ‏"‏ أطعمه أهلك ‏"‏ لكن إذا جاز إعطاء الأقرباء‏.‏

فالبعداء أجوز، وقاس كفارة اليمين على كفارة الجماع في الصيام في إجازة الصرف إلى الأقرباء‏.‏

قلت‏:‏ وهو على رأي من حمل قوله ‏"‏ أطعمه أهلك ‏"‏ على أنه في الكفارة، وأما من حمله على أنه أعطاه التمر المذكور في الحديث لينفقه عليهم وتستمر الكفارة في ذمته إلى أن يحصل له يسرة فلا يتجه الإلحاق، وكذا على قول من يقول تسقط عن المعسر مطلقا، وقد تقدم البحث في ذلك وبيان الاختلاف فيه في كتاب الصيام، ومذهب الشافعي جواز إعطاء الأقرباء إلا من تلزمه نفقته‏.‏

ومن فروع المسألة اشتراط الإيمان فيمن يعطيه وهو قول الجمهور، وأجاز أصحاب الرأي إعطاء أهل الذمة منه ووافقهم أبو ثور‏.‏

وقال الثوري‏:‏ يجزئ إن لم يجد المسلمين‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة عن النخعي والشعبي مثله وعن الحكم كالجمهور‏.‏

*3*باب صَاعِ الْمَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَكَتِهِ وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب صاع المدينة ومد النبي صلى الله عليه وسلم وبركته‏)‏ أشار في الترجمة إلى وجوب الإخراج في الواجبات بصاع أهل المدينة لأن التشريع وقع على ذلك أولا وأكد ذلك بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالبركة في ذلك‏.‏

قوله ‏(‏وما توارث أهل المدينة من ذلك قرنا بعد قرن‏)‏ أشار بذلك إلى أن مقدار المد والصاع في المدينة لم يتغير لتواتره عندهم إلى زمنه، وبهذا احتج مالك على أبي يوسف في القصة المشهورة بينهما فرجع أبو يوسف عن قول الكوفيين في قدر الصاع إلى قول أهل المدينة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيُّ حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمْ الْيَوْمَ فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مدا وثلثا بمدكم اليوم، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا يدل على أن مدهم حين حدث به السائب كان أربعة أرطال فإذا زيد عليه ثلثه وهو رطل وثلث قام منه خمسة أرطال وثلث وهو الصاع بدليل أن مده صلى الله عليه وسلم رطل وثلث وصاعه أربعة أمداد، ثم قال مقدار ما زيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز لا نعلمه، وإنما الحديث يدل على أن مدهم ثلاثة أمداد بمده انتهى، ومن لازم ما قال أن يكون صاعهم ستة عشر رطلا لكن لعله لم يعلم مقدار الرطل عندهم إذ ذاك، وقد تقدم في ‏"‏ باب الوضوء بالمد ‏"‏ من كتاب الطهارة بيان الاختلاف في مقدار المد والصاع، ومن فرق بين الماء وغيره من المكيلات فخص صاع الماء بكونه ثمانية أرطال ومده برطلين فقصر الخلاف على غير الماء من المكيلات‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجَارُودِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ وَهْوَ سَلْمٌ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُدِّ الْأَوَّلِ وَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ لَنَا مَالِكٌ مُدُّنَا أَعْظَمُ مِنْ مُدِّكُمْ وَلَا نَرَى الْفَضْلَ إِلَّا فِي مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لِي مَالِكٌ لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ فَضَرَبَ مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ قُلْتُ كُنَّا نُعْطِي بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَفَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو قتيبة وهو سلم‏)‏ بفتح المهملة وسكون اللام‏.‏

وفي رواية الدار قطني من وجه آخر عن المنذر ‏"‏ حدثنا أبو قتيبة سلم بن قتيبة‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وهو الشعيري بفتح الشين المعجمة وكسر المهملة بصري أصله من خراسان أدركه البخاري بالسن ومات قبل أن يلقاه، وهو غير سلم بن قتيبة الباهلي ولد أمير خراسان قتيبة بن مسلم وقد ولي هو إمرة البصرة وهو أكبر من الشعيري ومات قبله بأكثر من خمسين سنة‏.‏

قوله ‏(‏المد الأول‏)‏ هو نعت مد النبي صلى الله عليه وسلم وهي صفة لازمة له، وأراد نافع بذلك أنه كان لا يعطي بالمد الذي أحدثه هشام، قال ابن بطال‏:‏ وهو أكبر من مد النبي صلى الله عليه وسلم بثلثي رطل وهو كما قال فإن المد الهشامي رطلان والصاع منه ثمانية أرطال‏.‏

قوله ‏(‏قال لنا مالك‏)‏ هو مقول أبي قتيبة وهو موصول‏.‏

قوله ‏(‏مدنا أعظم من مدكم‏)‏ يعني في البركة أي مد المدينة وإن كان دون مد هشام في القدر لكن مد المدينة مخصوص بالبركة الحاصلة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها فهو أعظم من مد هشام، ثم فسر مالك مراده بقوله‏:‏ ولا ترى الفضل إلا في مد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله ‏(‏وقال لي مالك لو جاءكم أمير إلخ‏)‏ أراد مالك بذلك إلزام مخالفه إذ لا فرق بين الزيادة والنقصان في مطلق المخالفة، فلو احتج الذي تمسك بالمد الهشامي في إخراج زكاة الفطر وغيرها مما شرع إخراجه بالمد كإطعام المساكين في كفارة اليمين بأن الأخذ بالزائد أولى، قيل‏:‏ كفى باتباع ما قدره الشارع بركة، فلو جازت المخالفة بالزيادة لجازت مخالفته بالنقص، فلما امتنع المخالف من الأخذ بالناقص قال له أفلا ترى أن الأمر إنما يرجع إلى مد النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا تعارضت الأمداد الثلاثة الأول والحادث وهو الهشامي وهو زائد عليه والثالث المفروض وقوعه وإن لم يقع وهو دون الأول كان الرجوع إلى الأول أولى لأنه الذي تحققت شرعيته‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ والحجة فيه نقل أهل المدينة له قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل، قال‏:‏ وقد رجع أبو يوسف بمثل هذا في تقدير المد والصاع إلى مالك وأخذ بقوله‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ هذا الحديث غريب لم يروه عن مالك إلا أبو قتيبة ولا عنه إلا المنذر، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وعلى أبي نعيم فلم يستخرجاه بل ذكراه من طريق البخاري، وقد أخرجه الدار قطني في ‏"‏ غرائب مالك ‏"‏ من طريق البخاري وأخرجه أيضا عن ابن عقدة عن الحسين بن القاسم البجلي عن المنذر به دون كلام مالك وقال‏:‏ صحيح أخرجه البخاري عن المنذر به‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ

الشرح‏:‏

حديث أنس في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اللهم بارك لهم في مكيالهم وصاعهم ومدهم ‏"‏ وقد تقدم في البيوع عن القعنبي عن مالك وزاد في آخره ‏"‏ يعني أهل المدينة ‏"‏ وكذا عند رواة الموطأ عن - مالك قال ابن المنير‏:‏ يحتمل أن تختص هذه الدعوة بالمد الذي كان حينئذ حتى لا يدخل المد الحادث بعده ويحتمل أن تعم كل مكيال لأهل المدينة إلى الأبد، قال والظاهر الثاني، كذا قال، وكلام مالك المذكور في الذي قبله يجنح إلى الأول وهو المعتمد‏.‏

وقد تغيرت المكاييل في المدينة بعد عصر مالك وإلى هذا الزمان، وقد وجد مصداق الدعوة بأن بورك في مدهم وصاعهم بحيث اعتبر قدرهما أكثر فقهاء الأمصار ومقلدوهم إلى اليوم في غالب الكفارات، وإلى هذا أشار المهلب والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَأَيُّ الرِّقَابِ أَزْكَى

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله عز وجل‏:‏ أو تحرير رقبة‏)‏ يشير إلى أن الرقبة في آية كفارة اليمين مطلقة بخلاف آية كفارة القتل فإنها قيدت بالإيمان، قال ابن بطال‏:‏ حمل الجمهور ومنهم الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق المطلق على المقيد كما حملوا المطلق في قوله تعالى ‏(‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏)‏ على المقيد في قوله ‏(‏وأشهدوا ذوي عدل منكم‏)‏ وخالف الكوفيون فقالوا‏:‏ يجوز إعتاق الكافر، ووافقهم أبو ثور وابن المنذر، واحتج له في كتابه الكبير بأن كفارة القتل مغلظة بخلاف كفارة اليمين، ومن ثم اشترط التتابع في صيام القتل دون اليمين‏.‏

قوله ‏(‏وأي الرقاب أزكى‏)‏ ‏؟‏ يشير إلى الحديث الماضي في أوائل العتق عن أبي ذر وفيه ‏"‏ قلت فأي الرقاب أفضل‏؟‏ قال‏:‏ أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى هناك، وكأن البخاري رمز بذلك إلى موافقة الكوفيين لأن أفعل التفضيل يقتضي الاشتراك في أصل الحكم‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ لم يبت البخاري الحكم في ذلك ولكنه ذكر الفضل في عتق المؤمنة لينبه على مجال النظر، فلقائل أن يقول‏:‏ إذا وجب عتق الرقبة في كفارة اليمين كان الأخذ بالأفضل أحوط، وإلا كان المكفر بغير المؤمنة على شك في براءة الذمة‏.‏

قال‏:‏ وهذا أقوى من الاستشهاد بحمل المطلق على المقيد لظهور الفرق بينهما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ من أعتق رقبة مسلمة ‏"‏ وقد تقدم أيضا في أوائل العتق من وجه آخر عن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة، وذكر فيه قصة لسعيد ابن مرجانة مع علي بن حسين أي ابن علي بن أبي طالب الملقب زين العابدين وهو المذكور هنا أيضا، وكأنه بعد أن سمعه من سعيد بن مرجانة وعمل به حدث به عن سعيد فسمعه منه زيد بن أسلم‏.‏

وفي رواية الباب زيادة في آخره وهي قوله ‏"‏ حتى فرجه بفرجه ‏"‏ وحتى هنا عاطفة لوجود شرائط العطف فيها فيكون فرجه بالنصب، وقد تقدمت فوائد هذا الحديث وبيان ما ورد فيه من الزيادة هناك‏.‏

وأخرج مسلم حديث الباب عن داود بن رشيد شيخ شيخ البخاري فيه، وقد نزل البخاري في هذا الإسناد درجتين فإن بينه وبين أبي غسان محمد بن مطرف في عدة أحاديث في كتابه راويا واحدا كسعيد بن أبي مريم في الصيام والنكاح والأشربة وغيرها وكعلي بن عياش في البيوع والأدب، ومحمد بن عبد الرحيم شيخه فيه هو المعروف بصاعقة وهو من أقرانه، وداود بن رشيد بشين ومعجمة مصغر من طبقة شيوخه الوسطى، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق زيد وعلي وسعيد والثلاثة مدنيون وزيد وعلي قرينان‏.‏

*3*باب عِتْقِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ فِي الْكَفَّارَةِ وَعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا

وَقَالَ طَاوُسٌ يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب عتق المدبر وأم الولد والمكاتب في الكفارة وعتق ولد الزنا‏)‏ ذكر فيه حديث جابر في عتق المدبر، وعمرو في السند هو ابن دينار، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب العتق وبيان الاختلاف فيه والاحتجاج لمن قال بصحة بيعه، وقضية ذلك صحة عتقه في الكفارة لأن صحة بيعه فرع بقاء الملك فيه فيصح تنجيز عتقه، وأما أم الولد فحكمها حكم الرقيق في أكثر الأحكام كالجناية والحدود واستمتاع السيد، وذهب كثير من العلماء إلى جواز بيعها، ولكن استقر الأمر على عدم صحته، وأجمعوا على جواز تنجيز عتقها فتجزئ في الكفارة، وأما عتق المكاتب فأجازه مالك والشافعي والثوري كذا حكاه ابن المنذر، وعن مالك أيضا لا يجزئ أصلا‏.‏

وقال أصحاب الرأي إن كان أدى بعض الكتابة لم يجزئ لأنه يكون أعتق بعض الرقبة وبه قال الأوزاعي والليث، وعن أحمد وإسحاق إن أدى الثلث فصاعدا لم يجزئ‏.‏

قوله ‏(‏وقال طاوس يجزئ المدبر وأم الولد‏)‏ وصله ابن أبي شيبة من طريقه بلفظ يجزئ عتق المدبر في الكفارة وأم الولد في الظهار، وقد اختلف السلف فوافق طاوسا الحسن في المدبر والنخعي في أم الولد وخالفه فيهما الزهري والشعبي‏.‏

وقال مالك والأوزاعي لا يجزئ في الكفارة مدبر ولا أم ولد ولا معلق عتقه وهو قول الكوفيين‏.‏

وقال الشافعي يجزئ عتق المدبر‏.‏

وقال أبو ثور يجزئ عتق المكاتب ما دام عليه شيء من كتابته، واحتج لمالك بأن هؤلاء ثبت لهم عقد الحرية لا سبيل إلى رفعها والواجب في الكفارة تحرير رقبة، وأجاب الشافعي بأنه لو كانت في المدبر شعبة من حرية ما جاز بيعه، وأما عتق ولد الزنا فقال ابن المنير لا أعلم مناسبة بين عتق ولد الزنا وبين ما أدخله في الباب إلا أن يكون المخالف في عتقه خالف في عتق ما تقدم ذكره، فاستدل عليه بأنه لا قائل بالفرق ثم قال‏:‏ ويظهر أنه لما جوز عتق المدبر استدل له ولم يأت في أم الولد إلا بقول طاوس ولا في ولد الزنا بشيء أشار إلى أنه قد تقدم الحث على عتق الرقبة المؤمنة فيدخل ما ذكر بعده في العموم بل في الخصوص لأن ولد الزنا مع إيمانه أفضل من الكافر‏.‏

قلت‏:‏ جاء المنع من ذلك في الحديث الذي أخرجه البيهقي بسند صحيح عن الزهري أخبرني أبو حسن مولى عبد الله بن الحارث وكان من أهل العلم والصلاح أنه سمع امرأة تقول لعبد الله بن نوفل تستفتيه في غلام لها ابن زنية تعتقه في رقبة كانت عليها فقال‏:‏ لا أراه يجزئك، سمعت عمر يقول لأن أحمل على نعلين في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ابن زنية، وصح عن أبي هريرة قال‏:‏ لأن أتبع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد زنية، أخرجه ابن أبي شيبة‏.‏

نعم في الموطأ عن أبي هريرة أنه أفتى بعتق ولد الزنا، وعن ابن عمر أنه أعتق ابن زنا، وأخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي بسند صحيح عنه وزاد‏:‏ قد أمرنا الله أن نمن على من هو شر منه، قال الله تعالى ‏(‏فإما منا بعد وإما فداء‏)‏ وقال الجمهور‏:‏ يجزئ عتقه، وكرهه علي وابن عباس وابن عمرو بن العاص أخرجه ابن أبي شيبة عنهم بأسانيد لينة، ومنع الشعبي والنخعي والأوزاعي‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة ذلك بسند صحيح عن الأولين، والحجة للجمهور قوله تعالى ‏(‏أو تحرير رقبة‏)‏ وقد صح ملك الحالف له فيصح إعتاقه له، وقد أخرج ابن المنذر بسند صحيح عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أنه سئل عن ذلك فمنع، قال أبو الخير‏:‏ فسألنا فضالة بن عبيد فقال‏:‏ يغفر الله لعقبة، وهل هو إلا نسمة من النسم‏؟‏ وذكر المصنف حديث جابر في بيع المدبر فأشار في الترجمة إلى أنه إذا جاز بيعه جاز ما ذكر معه بطريق الأولى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ

الشرح‏:‏

حديث جابر في عتق المدبر، وعمرو في السند هو ابن دينار، وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب العتق‏.‏

*3*باب إِذَا أَعْتَقَ فِي الْكَفَّارَةِ لِمَنْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا أعتق في الكفارة لمن يكون ولاؤه‏)‏ أي العتيق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا الْوَلَاءَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اشْتَرِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في قصة بريرة مختصرا وفي آخره ‏"‏ فإنما الولاء لمن أعتق ‏"‏ وقضيته أن كل من أعتق فصح عتقه كان الولاء له، فيدخل في ذلك ما لو أعتق العبد المشترك فإنه إن كان موسرا صح وضمن لشريكه حصته، ولا فرق بين أن يعتقه مجانا أو عن الكفارة وهذا قول الجمهور ومنهم صاحبا أبي حنيفة، وعن أبي حنيفة لا يجزئه عتق العبد المشترك عن الكفارة لأنه يكون أعتق بعض عبد لا جميعه، لأن الشريك عنده يخير بين أن يقوم عليه نصيبه وبين أن يعتقه هو وبين أن يستسعي العبد في نصيب الشريك‏.‏

*3*باب الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَيْمَانِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الاستثناء في الأيمان‏)‏ وقع في بعض النسخ ‏"‏ اليمين ‏"‏ وعليها شرح ابن بطال، والاستثناء استفعال من الثنيا بضم المثلثة وسكون النون بعدها تحتانية ويقال لها الثنوي أيضا بواو بدل الياء مع فتح أوله، وهي من ثنيت الشيء إذا عطفته كأن المستثني عطف بعض ما ذكره، لأنها في الاصطلاح إخراج بعض ما يتناوله اللفظ‏.‏

وأداتها إلا وأخواتها، وتطلق أيضا على التعاليق ومنها التعليق على المشيئة وهو المراد في هذه الترجمة، فإذا قال لأفعلن كذا إن شاء الله تعالى استثنى، وكذا إذا قال لا أفعل كذا إن شاء الله، ومثله في الحكم أن يقول إلا أن يشاء الله، أو إلا إن شاء الله، ولو أتى بالإرادة والاختيار بدل المشيئة جاز، فلو لم يفعل إذا أثبت أو فعل إذا نفى لم يحنث، فلو قال إلا أن غير الله نيتي أو بدل، أو إلا أن يبدو لي أو يظهر، أو إلا أن أشاء أو أريد أو أختار فهو استثناء أيضا، لكن يشترط وجود المشروط، واتفق العلماء كما حكاه ابن المنذر على أن شرط الحكم بالاستثناء أن يتلفظ المستثنى به وأنه لا يكفي القصد إليه بغير لفظ‏.‏

وذكر عياض أن بعض المتأخرين منهم خرج من قول مالك إن اليمين تنعقد بالنية أن الاستثناء يجزئ بالنية، لكن نقل في التهذيب أن مالكا نص على اشتراط التلفظ باليمين وأحاب الباجي بالفرق أن اليمين عقد والاستثناء حل، والعقد أبلغ من الحل فلا يلتحق باليمين، قال ابن المنذر‏:‏ واختلفوا في وقته فالأكثر على أنه يشترط أن يتصل بالحلف، قال مالك‏:‏ إذا سكت أو قطع كلامه فلا ثنيا‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ يشترط وصل الاستثناء بالكلام الأول، ووصله أن يكون نسقا فإن كان بينهما سكوت انقطع إلا إن كانت سكتة تذكر أو تنفس أو عي أو انقطاع صوت، وكذا يقطعه الأخذ في كلام آخر‏.‏

ولخصه ابن الحاجب فقال‏:‏ شرطه الاتصال لفظا أو في ما في حكمه كقطعه لتنفس أو سعال ونحوه مما لا يمنع الاتصال عرفا، واختلف هل يقطعه ما يقطعه القبول عن الإيجاب‏؟‏ على وجهين للشافعية أصحهما أنه ينقطع بالكلام اليسير الأجنبي وإن لم ينقطع به الإيجاب والقبول، وفي وجه لو تخلل أستغفر الله لم ينقطع، وتوقف فيه النووي ونص الشافعي يؤيده حيث قال‏:‏ تذكر فإنه من صور التذكر عرفا، ويلتحق به لا إله إلا الله ونحوها، وعن طاوس والحسن له أن يستثنى ما دام في المجلس، وعن أحمد نحوه وقال‏:‏ ما دام في ذلك الأمر، وعن إسحاق مثله وقال‏:‏ إلا أن يقع السكوت، وعن قتادة إذا استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم، وعن عطاء قدر حلب ناقة، وعن سعيد بن جبير إلى أربعة أشهر، وعن مجاهد بعد سنتين، وعن ابن عباس أقوال منها له ولو بعد حين، وعنه كقول سعيد، وعنه شهر، وعنه سنة، وعنه أبدا‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وهذا لا يؤخذ على ظاهره لأنه يلزم منه أن لا يحنث أحد في يمينه وأن لا تتصور الكفارة التي أوجبها الله تعالى على الحالف، قال‏:‏ ولكن وجه الخبر سقوط الإثم عن الحالف لتركه الاستثناء لأنه مأمور به في قوله تعالى ‏(‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله‏)‏ فقال ابن عباس‏:‏ إذا نسي أن يقول إن شاء الله يستدركه، ولم يرد أن الحالف إذا قال ذلك بعد أن انقضى كلامه أن ما عقده باليمين ينحل‏.‏

وحاصله حمل الاستثناء المنقول عنه على لفظ إن شاء الله فقط وحمل إن شاء الله على التبرك‏.‏

وعلى ذلك حمل الحديث المرفوع الذي أخرجه أبو داود وغيره موصولا ومرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ والله لأغزون قريشا ثلاثا ثم سكت ثم قال‏:‏ إن شاء الله ‏"‏ أو على السكوت لتنفس أو نحوه، وكذا ما أخرجه ابن إسحاق في سؤال من سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة أصحاب الكهف‏:‏ غدا أجيبكم، فتأخر الوحي فنزلت ‏(‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله‏)‏ فقال إن شاء الله مع أن هذا لم يرد هكذا من وجه ثابت‏.‏

ومن الأدلة على اشتراط اتصال الاستثناء بالكلام قوله في حديث الباب ‏"‏ فليكفر عن يمينه ‏"‏ فإنه لو كان الاستثناء يفيد بعد قطع الكلام لقال فليستثن لأنه أسهل من التكفير وكذا قوله تعالى لأيوب ‏(‏وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث‏)‏ فإن قوله استثن أسهل من التحيل لحل اليمين بالضرب، وللزم منه بطلان الإقرارات والطلاق والعتق فيستثنى من أقر أو طلق أو عتق بعد زمان ويرتفع حكم ذلك، فالأولى تأويل ما نقل عن ابن عباس وغيره من السلف في ذلك، وإذا تقرر ذلك فقد اختلف هل يشترط قصد الاستثناء من أول الكلام أو لا حكى الرافعي فيه وجهين، ونقل عن أبي بكر الفارسي أنه نقل الإجماع على اشتراط وقوعه قبل فراغ الكلام، وعلله بأن الاستثناء بعد الانفصال ينشأ بعد وقوع الطلاق مثلا وهو واضح، ونقله معارض بما نقله ابن حزم أنه لو وقع متصلا به كفى، واستدل بحديث ابن عمر رفعه ‏"‏ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث‏)‏ واحتج بأنه عقب الحلف بالاستثناء باللفظ، وحينئذ يتحصل ثلاث صور‏:‏ أن يقصد من أوله أو من أثنائه ولو قبل فراغه أو بعد تمامه، فيختص نقل الإجماع بأنه لا يفيد في الثالث، وأبعد من فهم أنه لا يفيد في الثاني أيضا، والمراد بالإجماع المذكور إجماع من قال يشترط الاتصال وإلا فالخلاف ثابت كما تقدم والله أعلم‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ قال بعض علمائنا يشترط الاستثناء قبل تمام اليمين، قال‏:‏ والذي أقول أنه لو نوى الاستثناء مع اليمين لم يكن يمينا ولا استثناء وإنما حقيقة الاستثناء أن يقع بعد عقد اليمين فيحلها الاستثناء المتصل باليمين، واتفقوا على أن من قال لا أفعل كذا إن شاء الله إذا قصد به التبرك فقط ففعل يحنث وإن قصد الاستثناء فلا حنث عليه، واختلفوا إذا أطلق أو قدم الاستثناء على الحلف أو أخره هل يفترق الحكم‏؟‏ وقد تقدم في كتاب الطلاق، واتفقوا على دخول الاستثناء في كل ما يحلف به إلا الأوزاعي فقال‏:‏ لا يدخل في الطلاق والعتق والمشي إلى بيت الله، وكذا جاء عن طاووس وعن مالك مثله، وعنه إلا المشي‏.‏

وقال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى والليث يدخل في الجميع إلا الطلاق، وعن أحمد يدخل الجميع إلا العتق واحتج بتشوف الشارع له، وورد فيه حديث عن معاذ رفعه ‏"‏ إذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم تطلق وإن قال لعبده أنت حر إن شاء الله فإنه حر ‏"‏ قال البيهقي‏:‏ تفرد به حميد بن مالك وهو مجهول، واختلف عليه في إسناده، واحتج من قال لا يدخل في الطلاق بأنه لا تحله الكفارة وهي أغلظ على الحالف من النطق بالاستثناء‏.‏

فلما لم يحله الأقوى لم يحله الأضعف‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ الاستثناء أخو الكفارة وقد قال الله تعالى ‏(‏ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم‏)‏ فلا يدخل في ذلك إلا اليمين الشرعية وهي الحلف بالله

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللَّهُ فَأُتِيَ بِإِبِلٍ فَأَمَرَ لَنَا بِثَلَاثَةِ ذَوْدٍ فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ لَا يُبَارِكُ اللَّهُ لَنَا أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا فَحَمَلَنَا فَقَالَ أَبُو مُوسَى فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ بَلْ اللَّهُ حَمَلَكُمْ إِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَقَالَ إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ أَوْ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حماد‏)‏ هو ابن زيد لأن قتيبة لم يدرك حماد بن سلمة، وغيلان بفتح المعجمة وسكون التحتانية‏.‏

قوله ‏(‏فأتى بإبل‏)‏ كذا للأكثر ووقع هنا في رواية الأصيلي وكذا لأبي ذر عن السرخسي والمستملي ‏"‏ بشائل ‏"‏ بعد الموحدة شين معجمة وبعد الألف تحتانية مهموزة ثم لام‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ إن صحت فأظنها شوائل، كأنه ظن أن لفظ شائل خاص بالمفرد وليس كذلك بل هو اسم جنس‏.‏

وقال ابن التين جاء هكذا بلفظ الواحد والمراد به الجمع كالسامر‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ ناقة شائلة ونوق شائل التي جف لبنها، وشولت الإبل بالتشديد لصقت بطونها بظهورها‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ ناقة شائل قل لبنها وأصله من شال الشيء إذا ارتفع كالميزان والجمع شول كصاحب وصحب وجاء شوائل جمع شائل، وفيما نقل من خط الدمياطي الحافظ‏:‏ الشائل الناقة التي تشول بذنبها اللقاح وليس لها لبن والجمع شول بالتشديد كراكع وركع، وحكى قاسم بن ثابت في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ عن الأصمعي‏:‏ إذا أتى على الناقة من يوم حملها سبعة أشهر جف لبنها فهي شائلة والجمع شول بالتخفيف، وإذا شالت بذنبها بعد اللقاح فهي شائل والجمع شول بالتشديد، وهذا تحقيق بالغ‏.‏

وأما ما وقع في ‏"‏ المطالع ‏"‏ أن شائل جمع شائلة فليس بجيد‏.‏

قوله ‏(‏فأمر لنا‏)‏ أي أمر أنا نعطي ذلك‏.‏

قوله ‏(‏بثلاث ذود‏)‏ كذا لأبي ذر، ولغيره بثلاثة ذود، وقيل الصواب الأول لأن الذود مؤنث‏.‏

وقد وقع في رواية أبي السليل عن زهدم كذلك أخرجه البيهقي، وأخرجه مسلم بسنده، وتوجيه الأخرى أنه ذكر باعتبار لفظ الذود، أو أنه يطلق على الذكور والإناث، أو الرواية بالتنوين وذود إما بدل فيكون مجرورا أو مستأنف فيكون مرفوعا والذود بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها مهملة من الثلاث إلى العشر وقيل إلى السبع وقيل من الاثنين إلى التسع من النوق، قال في الصحاح‏:‏ لا واحد له من لفظه، والكثير أذواد والأكثر على أنه خاص بالإناث وقد يطلق على الذكور أو على أعم من ذلك كما في قوله ‏"‏ وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقه ‏"‏ ويؤخذ من هذا الحديث أيضا أن الذود يطلق على الواحد بخلاف ما أطلق الجوهري، وتقدم في المغازي بلفظ ‏"‏ خمس ذود ‏"‏ وقال ابن التين‏:‏ الله أعلم أيهما يصح‏.‏

قلت‏:‏ لعل الجمع بينهما يحصل من الرواية التي تقدمت في غزوة تبوك بلفظ ‏"‏ خذ هذين القرينين ‏"‏ فلعل رواية الثلاث باعتبار ثلاثة أزواج ورواية الخمس باعتبار أن أحد الأزواج كان قرينه تبعا فاعتد به تارة ولم يعتد به أخرى، ويمكن أن يجمع بأنه أمر لهم بثلاث ذود أولا ثم زادهم اثنين فإن لفظ زهدم ‏"‏ ثم أتى بنهب ذود غر الذري فأعطاني خمس ذود ‏"‏ فوقعت في رواية زهدم جملة ما أعطاهم وفي رواية غيلان عن أبي بردة مبدأ ما أمر لهم به ولم يذكر الزيادة، وأما رواية ‏"‏ خذ هذين القرينين ثلاث مرار ‏"‏ وقد مضى في المغازي بلفظ أصرح منها وهو قوله ‏"‏ ستة أبعرة ‏"‏ فعلى ما تقدم أن تكون السادسة كانت تبعا ولم تكن ذروتها موصوفة بذلك‏.‏

قوله ‏(‏إني والله إن شاء الله‏)‏ قال أبو موسى المديني في كتابه ‏"‏ الثمين في استثناء اليمين ‏"‏ لم يقع قوله ‏"‏ إن شاء الله ‏"‏ في أكثر الطرق لحديث أبي موسى، وسقط لفظ ‏"‏ والله ‏"‏ من نسخة ابن المنير فاعترض بأنه ليس في حديث أبي موسى يمين، وليس كما ظن بل هي ثابتة في الأصول، وإنما أراد البخاري بإيراده بيان صيغة الاستثناء بالمشيئة، وأشار أبو موسى المديني في الكتاب المذكور إلى أنه صلى الله عليه وسلم قالها للتبرك لا للاستثناء وهو خلاف الظاهر‏.‏

قوله ‏(‏إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي خير وكفرت‏)‏ كذا وقع لفظ ‏"‏ وكفرت ‏"‏ مكررا في رواية السرخسي‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو النعمان‏)‏ هو محمد بن الفضل، وحماد أيضا هو ابن زيد‏.‏

قوله ‏(‏وقال إلا كفرت‏)‏ يعني ساق الحديث كله بالإسناد المذكور ولكنه قال ‏"‏ كفرت عن يمني وأتيت الذي هو خير، أو أتيت الذي هو خير وكفرت ‏"‏ فزاد فيه التردد في تقديم الكفارة وتأخيرها، وكذا أخرجه أبو داود عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد بالترديد فيه أيضا‏.‏

ثم ذكر البخاري حديث أبي هريرة في قصة سليمان وفيه ‏"‏ فقال له صاحبه قل إن شاء الله فنسي ‏"‏ وفيه ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو قال إن شاء الله ‏"‏ قال ‏"‏ وقال مرة لو استثنى ‏"‏ وقد استدل به من جوز الاستثناء بعد انفصال اليمين بزمن يسير كما تقدم تفصيله، وأجاب القرطبي عن ذلك بأن يمين سليمان طالت كلماتها فيجوز أن يكون قول صاحبه له ‏"‏ قل إن شاء الله ‏"‏ وقع في أثنائه فلا يبقى فيه حجة، ولو عقبه بالرواية بالفاء فلا يبقى الاحتمال‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ ليس الاستثناء في قصة سليمان الذي يرفع حكم اليمين ويحل عقده، وإنما هو بمعنى الإقرار لله بالمشيئة والتسليم لحكمه فهو نحو قوله ‏(‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله‏)‏ وقال أبو موسى في كتابه المذكور نحو ذلك ثم قال بعد ذلك‏:‏ وإنما أخرج مسلم من رواية عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ‏"‏ كذا قال، وليس هو عند مسلم بهذا اللفظ، وإنما أخرج قصة سليمان وفي آخره ‏"‏ لو قال إن شاء الله لم يحنث ‏"‏ نعم أخرجه الترمذي والنسائي من هذا الوجه بلفظ ‏"‏ من قال إلخ ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ سألت محمدا عنه فقال هذا خطأ، أخطأ فيه عبد الرازق فاختصره من حديث معمر بهذا الإسناد في قصة سليمان بن داود‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخرجه البخاري في كتاب النكاح عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق بتمامه وأشرت إلى ما فيه من فائدة، وكذا أخرجه مسلم، وقد اعترض ابن العربي بأن ما جاء به عبد الرزاق في هذه الرواية لا يناقض غيرها لأن ألفاظ الحديث تختلف باختلاف أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في التعبير عنها لتبين الأحكام بألفاظ، أي فيخاطب كل قوم بما يكون أوصل لأفهامهم وإما بنقل الحديث على المعنى على أحد القولين‏.‏

وأجاب شيخنا في شرح الترمذي بأن الذي جاء به عبد الرزاق في هذه الرواية ليس وافيا بالمعنى الذي تضمنته الرواية التي اختصره منها، فإنه لا يلزم من قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لو قال سليمان إن شاء الله لم يحنث ‏"‏ أن يكون الحكم كذلك في حق كل أحد غير سليمان، وشرط الرواية بالمعنى عدم التخالف، وهنا تخالف بالخصوص والعموم‏.‏

قلت‏:‏ وإذا كان مخرج الحديث واحدا فالأصل عدم التعدد، لكن قد جاء لرواية عبد الرزاق المختصرة شاهد من حديث ابن عمر أخرجه أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترمذي وصححه الحاكم من طريق عبد الوارث عن أيوب وهو السختياني عن نافع عن ابن عمر مرفوعا ‏"‏ من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه ‏"‏ قال الترمذي رواه غير واحد عن نافع موقوفا، وكذا رواه سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، ولا نعلم أحدا رفعه غير أيوب‏.‏

وقال إسماعيل بن إبراهيم‏:‏ كان أيوب أحيانا يرفعه وأحيانا لا يرفعه وذكر في ‏"‏ العلل ‏"‏ أنه سأل محمدا عنه فقال‏:‏ أصحاب نافع رووه موقوفا إلا أيوب، ويقولون إن أيوب في آخر الأمر وقفه‏.‏

وأسند البيهقي عن حماد بن زيد قال‏:‏ كان أيوب يرفعه ثم تركه‏.‏

وذكر البيهقي أنه جاء من رواية أيوب بن موسى وكثير بن فرقد وموسى بن عقبة وعبد الله بن العمري المكبر وأبي عمرو بن العلاء وحسان بن عطية كلهم عن نافع مرفوعا انتهى‏.‏

ورواية أيوب بن موسى وأخرجها ابن حبان في صحيحه، ورواية كثير أخرجها النسائي والحاكم في مستدركه، ورواية موسى بن عقبة أخرجها ابن عدي في ترجمة داود بن عطاء أحد الضعفاء عنه وكذا أخرج رواية أبي عمرو بن العلاء‏.‏

وأخرج البيهقي رواية حسان بن عطية ورواية العمري، وأخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والبيهقي من طريق مالك وغيره عن نافع موقوفا، وكذا أخرج سعيد والبيهقي من طريقه رواية سالم والله أعلم‏.‏

وتعقب بعض الشراح كلام الترمذي في قوله ‏"‏ لم يرفعه غير أيوب ‏"‏ وكذا رواه سالم عن أبيه موقوفا، قال شيخنا‏:‏ قلت قد رواه هو من طريق موسى بن عقبة مرفوعا ولفظه ‏"‏ من حلف على يمين فاستثنى على أثره ثم لم يفعل ما قال لم يحنث ‏"‏ انتهى‏.‏

ولم أر هذا في الترمذي ولا ذكره المزي في ترجمة موسى بن عقبة عن نافع في ‏"‏ الأطراف‏"‏، وقد جزم جماعة أن سليمان عليه السلام كان قد حلف كما سأبينه، والحق أن مراد البخاري من إيراد قصة سليمان في هذا الباب أن يبين أن الاستثناء في اليمين يقع بصيغة ‏"‏ إن شاء الله ‏"‏ فذكر حديث أبي موسى المصرح بذكرها مع اليمين ثم ذكر قصة سليمان لمجيء قوله صلى الله عليه وسلم فيها تارة بلفظ ‏"‏ لو قال إن شاء الله ‏"‏ وتارة بلفظ ‏"‏ لو استثنى ‏"‏ فأطلق على لفظ إن شاء الله أنه استثناء فلا يعترض عليه بأنه ليس في قصة سليمان يمين‏.‏

وقال ابن المنير في الحاشية‏:‏ وكأن البخاري يقول إذا استثنى من الأخبار فكيف لا يستثنى من الأخبار المؤكد بالقسم وهو أحوج في التفويض إلى المشيئة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً كُلٌّ تَلِدُ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي الْمَلَكَ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَنَسِيَ فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ تَأْتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ بِوَلَدٍ إِلَّا وَاحِدَةٌ بِشِقِّ غُلَامٍ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ قَالَ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي حَاجَتِهِ وَقَالَ مَرَّةً قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ اسْتَثْنَى وَحَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن هشام بن حجير‏)‏ بمهملة ثم جيم مصغر هو المكي، ووقع في رواية الحميدي عن سفيان بن عيينة ‏"‏ حدثنا هشام بن حجير‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لأطوفن‏)‏ اللام جواب القسم كأنه قال مثلا والله لأطوفن، ويرشد إليه ذكر الحنث في قوله ‏"‏ لم يحنث ‏"‏ لأن ثبوته ونفيه يدل على سبق اليمين‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ اللام ابتدائية والمراد بعدم الحنث وقوع ما أراد، وقد مشى ابن المنذر على هذا في كتابه الكبير فقال ‏"‏ باب استحباب الاستثناء في غير اليمين لمن قال سأفعل كذا ‏"‏ وساق هذا الحديث، وجزم النووي بأن الذي جرى منه ليس بيمين لأنه ليس في الحديث تصريح بيمين، كذا قال، وقد ثبت ذلك في بعض طرق الحديث، واختلف في الذي حلف عليه هل هو جميع ما ذكر أو دورانه على النساء فقط دون ما بعده من الحمل والوضع وغيرهما، والثاني أوجه لأنه الذي يقدر عليه، بخلاف ما بعده فإنه ليس إليه وإنما هو مجرد تمني حصول ما يستلزم جلب الخير له، وإلا فلو كان حلف على جميع ذلك لم يكن إلا بوحي، ولو كان بوحي لم يتخلف، ولو كان بغير وحي لزم أنه حلف على غير مقدور له وذلك لا يليق بجنابه‏.‏

قلت‏:‏ وما المانع من جواز ذلك ويكون لشدة وثوقه بحصول مقصوده وجزم بذلك وأكد بالحلف، فقد ثبت في الحديث الصحيح ‏"‏ إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ‏"‏ وقد مضى شرحه في غزوة أحد‏.‏

قوله ‏(‏تسعين‏)‏ تقدم بيان الاختلاف في العدد المذكور في ترجمة سليمان عليه السلام من أحاديث الأنبياء، وذكر أبو موسى المديني في كتابه المذكور أن في بعض نسخ مسلم عقب قصة سليمان هذا الاختلاف في هذا العدد وليس هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من الناقلين، ونقل الكرماني أنه ليس في الصحيح أكثر اختلافا في العدد من هذه القصة‏.‏

قلت‏:‏ وغاب عن هذا القائل حديث جابر في قدر ثمن الجمل وقد مضى بيان الاختلاف فيه في الشروط، وتقدم جواب النووي ومن وافقه في الجواب عن اختلاف العدد في قصة سليمان بأن مفهوم العدد ليس بحجة عند الجمهور فذكر القليل لا ينفي ذكر الكثير، وقد تعقب بأن الشافعي نص على أن مفهوم العدد حجة وجزم بنقله عنه الشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهما، ولكن شرطه أن لا يخالفه المنطوق‏.‏

قلت‏:‏ والذي يظهر مع كون مخرج الحديث عن أبي هريرة واختلاف الرواة عنه أن الحكم للزائد لأن الجميع ثقات، وتقدم هناك توجيه آخر‏.‏

قوله ‏(‏تلد‏)‏ فيه حذف تقديره فتعلق فتحمل فتلد، وكذا في قوله ‏"‏ يقاتل ‏"‏ تقديره فينشأ فيتعلم الفروسية فيقاتل، وساغ الحذف لأن كل فعل منها مسبب عن الذي قبله، وسبب السبب سبب‏.‏

قوله ‏(‏فقال له صاحبه قال سفيان يعني الملك‏)‏ هكذا فسر سفيان بن عيينة في هذه الرواية أن صاحب سليمان الملك، وتقدم في النكاح من وجه آخر الجزم بأنه الملك‏.‏

قوله ‏(‏فنسي‏)‏ زاد في النكاح ‏"‏ فلم يقل ‏"‏ قيل الحكمة في ذلك أنه صرف عن الاستثناء السابق القدر، وأبعد من قال في الكلام تقديم وتأخير والتقدير فلم يقل إن شاء الله فقيل له قل إن شاء الله، وهذا إن كان سببه أن قوله فنسي يغني عن قوله فلم يقل فكذا يقال إن قوله فقال له صاحبه قل إن شاء الله فيستلزم أنه كان لم يقلها، فالأولى عدم ادعاء التقديم والتأخير، ومن هنا يتبين أن تجويز من ادعى أنه تعمد الحنث مع كونه معصية لكونها صغيرة لا يؤاخذ بها لم يصب دعوى ولا دليلا‏.‏

وقال القرطبي قوله ‏"‏ فلم يقل ‏"‏ أي لم ينطق بلفظ إن شاء الله بلسانه، وليس المراد أنه غفل عن التفويض إلى الله بقلبه، والتحقيق أن اعتقاد التفويض مستمر له لكن المراد بقوله ‏"‏ فنسي ‏"‏ أنه نسي أن يقصد الاستثناء الذي يرفع حكم اليمين، ففيه تعقب على من استدل به لاشتراط النطق في الاستثناء‏.‏

قوله ‏(‏فقال أبو هريرة‏)‏ هو موصول بالسند المذكور أولا‏.‏

قوله ‏(‏يرويه‏)‏ هو كناية عن رفع الحديث، وهو كما لو قال مثلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في رواية الحميدي التصريح بذلك ولفظه ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وكذا أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان‏.‏

قوله ‏(‏لو قال إن شاء الله لم يحنث‏)‏ تقدم المراد بمعنى الحنث، وقد قيل هو خاص بسليمان عليه السلام وأنه لو قال في هذه الواقعة إن شاء الله حصل مقصوده، وليس المراد أن كل من قالها وقع ما أراد، ويؤيد ذلك أن موسى عليه السلام قالها عندما وعد الخضر أنه يصبر عما يراه منه ولا يسأله عنه ومع ذلك فلم يصبر كما أشار إلى ذلك في الحديث الصحيح ‏"‏ رحم الله موسى، لوددنا لو صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما ‏"‏ وقد مضى ذلك مبسوطا في تفسير سورة طه، وقد قالها الذبيح فوقع ما ذكر في قوله عليه السلام ‏(‏ستجدني إن شاء الله من الصابرين‏)‏ فصبر حتى فداه الله بالذبح، وقد سئل بعضهم عن الفرق بين الكليم والذبيح في ذلك فأشار إلى أن الذبيح بالغ في التواضع في قوله ‏(‏من الصابرين‏)‏ حيث جعل نفسه واحدا من جماعة فرزقه الله الصبر‏.‏

قلت‏:‏ وقد وقع لموسى عليه السلام أيضا نظير ذلك مع شعيب حيث قال له ‏(‏ستجدني إن شاء الله من الصالحين‏)‏ فرزقه الله ذلك‏.‏

قوله ‏(‏وكان دركا‏)‏ بفتح المهملة والراء أي لحاقا، يقال أدركه إدراكا ودركا، وهو تأكيد لقوله ‏"‏ لم يحنث‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال وحدثنا أبو الزناد‏)‏ القائل هو سفيان بن عيينة، وقد أفصح به مسلم في روايته، وهو موصول بالسند الأول أيضا، وفرقه أبو نعيم في المستخرج من طريق الحميدي عن سفيان بهما‏.‏

قوله ‏(‏مثل حديث أبي هريرة‏)‏ أي الذي ساقه من طريق طاووس عنه‏.‏

والحاصل أن لسفيان فيه سندين إلى أبي هريرة‏:‏ هشام عن طاووس، وأبو الزناد عن الأعرج‏.‏

ووقع في رواية مسلم بدل قوله ‏"‏ مثل حديث أبي هريرة ‏"‏ بلفظ ‏"‏ عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو نحوه ‏"‏ ويستفاد منه نفي احتمال الإرسال في سياق البخاري لكونه اقتصر على قوله ‏"‏ عن الأعرج مثل حديث أبي هريرة ‏"‏ ويستفاد منه أيضا احتمال المغايرة بين الروايتين في السياق لقوله ‏"‏ مثله أو نحوه ‏"‏ وهو كذلك فبين الروايتين مغايرة في مواضع تقدم بيانها عند شرحه في أحاديث الأنبياء، وبالله التوفيق‏.‏