فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ

فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ إِلَى قَوْلِهِ غَفُورٌ رَحِيمٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم - إلى - غفور رحيم‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق غيره إلى قوله‏:‏ ‏(‏ثم أنزل الله سكينته - ثم قال إلى - غفور رحيم‏)‏ ووقع في رواية النسفي‏:‏ باب غزوة حنين، وقول الله عز وجل ‏(‏ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت - إلى - غفور رحيم‏)‏ وحنين بمهملة ونون مصغر واد إلى جنب ذي المجاز قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات، قال أبو عبيد البكري‏:‏ سمي باسم حنين بن قابثة بن مهلائيل‏.‏

قال أهل المغازي‏:‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين لست خلت من شوال، وقيل لليلتين بقيتا من رمضان‏.‏

وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان وسار سادس شوال؛ وكان وصوله إليها في عاشره، وكان السبب في ذلك أن مالك بن عوف النضري جمع القبائل من هوازن ووافقه على ذلك الثقفيون، وقصدوا محاربة المسلمين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم‏.‏

قال عمر بن شبة في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏‏:‏ حدثنا الحزامي يعني إبراهيم بن المنذر حدثنا ابن وهب عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة أنه كتب إلى الوليد‏:‏ أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني عن قصة الفتح، فذكر له وقتها، فأقام عامئذ بمكة نصف شهر، ولم يزد على ذلك حتى أتاه أن هوازن وثقيفا قد نزلوا حنينا يريدون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا قد جمعوا إليه ورئيسهم عوف بن مالك‏.‏

ولأبي داود بإسناد حسن من حديث سهل ابن الحنظلية ‏"‏ أنهم ساروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين فأطنبوا السير، فجاء رجل فقال‏:‏ إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم قد اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى ‏"‏ وعند ابن إسحاق من حديث جابر ما يدل على أن هذا الرجل هو عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم‏)‏ روى يونس بن بكير في ‏"‏ زيادات المغازي ‏"‏ عن الربيع بن أنس قال‏:‏ قال رجل يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ثم وليتم مدبرين‏)‏ إلى آخر الآيات، يأتي بيان ذلك في شرح أحاديث الباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ رَأَيْتُ بِيَدِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى ضَرْبَةً قَالَ ضُرِبْتُهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قُلْتُ شَهِدْتَ حُنَيْنًا قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي خالد، وكذا هو منسوب في رواية أحمد عن يزيد بن هارون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ضربة‏)‏ زاد أحمد ‏"‏ فقلت ما هذه ‏"‏ وفي رواية الإسماعيلي ‏"‏ ضربة على ساعده ‏"‏ وفي رواية له ‏"‏ أثر ضربة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شهدت حنينا قال قبل ذلك‏)‏ في رواية أحمد ‏"‏ قال نعم وقبل ذلك ‏"‏ ومراده بما قبل ذلك ما قبل حنين من المشاهد، وأول مشاهده الحديبية فيما ذكره من صنف في الرجال، ووقفت في بعض حديثه على ما يدل أنه شهد الخندق، وهو صحابي ابن صحابي‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عُمَارَةَ أَتَوَلَّيْتَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ وَلَكِنْ عَجِلَ سَرَعَانُ الْقَوْمِ فَرَشَقَتْهُمْ هَوَازِنُ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرَأْسِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ يَقُولُ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

الشرح‏:‏

حديث البراء، قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي إسحاق‏)‏ هو السبيعي، ومدار هذا الحديث عليه، وقد تقدم في الجهاد من وجه آخر عن سفيان وهو الثوري قال‏:‏ ‏"‏ حدثني أبو إسحاق‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجاءه رجل‏)‏ لم أقف على اسمه، وقد ذكر في الرواية الثالثة أنه من قيس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يا أبا عمارة‏)‏ هي كنية البراء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أتوليت يوم حنين‏)‏ الهمزة للاستفهام وتوليت أي انهزمت، وفي الرواية الثانية ‏"‏ أوليتم مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين ‏"‏ وفي الثالثة ‏"‏ أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وكلها بمعنى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أما أنا فأشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يول‏)‏ تضمن جواب البراء إثبات الفرار لهم، لكن لا على طريق التعميم، وأراد أن إطلاق السائل يشمل الجميع حتى النبي صلى الله عليه وسلم لظاهر الرواية الثانية، ويمكن الجمع بين الثانية والثالثة بحمل المعية على ما قبل الهزيمة فبادر إلى استثنائه ثم أوضح ذلك، وختم حديثه بأنه لم يكن أحد يومئذ أشد منه صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال النووي‏:‏ هذا الجواب من بديع الأدب، لأن تقدير الكلام فررتم كلكم‏.‏

فيدخل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال البراء‏:‏ لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جرى كيت وكيت، فأوضح أن فرار من فر لم يكن على نية الاستمرار في الفرار، وإنما انكشفوا من وقع السهام وكأنه لم يستحضر الرواية الثانية‏.‏

وقد ظهر من الأحاديث الواردة في هذه القصة أن الجميع لم يفروا كما سيأتي بيانه، ويحتمل أن البراء فهم من السائل أنه اشتبه عليه حديث سلمة بن الأكوع الذي أخرجه مسلم بلفظ ‏"‏ ومررت برسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما ‏"‏ فلذلك حلف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يول، ودل ذلك على أن منهزما حال من سلمة، ولهذا وقع في طريق أخرى ‏"‏ ومررت برسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما وهو على بغلته فقال‏:‏ لقد رأى ابن الأكوع فزعا ‏"‏ ويحتمل أن يكون السائل أخذ التعميم من قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ثم وليتم مدبرين‏)‏ فبين له أنه من العموم الذي أريد به الخصوص‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولكن عجل سرعان القوم فرشقتهم هوازن‏)‏ فأما سرعان فبفتح المهملة والراء، ويجوز سكون الراء، وقد تقدم ضبطه في سجود السهو في الكلام على حديث ذي اليدين، والرشق بالشين المعجمة والقاف رمي السهام، وأما هوازن فهي قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بمعجمة ثم مهملة ثم فاء مفتوحات ابن قيس بن عيلان بن إلياس بن مضر، والعذر لمن انهزم من غير المؤلفة أن العدو كانوا ضعفهم في العدد وأكثر من ذلك، وقد بين شعبة في الرواية الثالثة السبب في الإسراع المذكور قال‏:‏ كانت هوازن رماة، قال‏:‏ وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا‏.‏

وللمصنف في الجهاد ‏"‏ انهزموا ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ فأكببنا ‏"‏ وفي روايته في الجهاد في باب من قاد دابة غيره في الحرب ‏"‏ فأقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام‏"‏، وللمصنف في الجهاد أيضا من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق تكملة السبب المذكور قال‏:‏ ‏"‏ خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا - بضم المهملة وتشديد السين المهملة - ليس عليهم سلاح، فاستقبلهم جمع هوازن وبني نضر ما يكادون يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون ‏"‏ الحديث‏.‏

وفيه ‏"‏ فنزل واستنصر، ثم قال‏:‏ أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب‏.‏

ثم وصف أصحابه ‏"‏ وفي رواية مسلم من طريق زكريا عن أبي إسحاق ‏"‏ فرموهم برشق من نبل كأنها رجل جراد فانكشفوا ‏"‏ وذكر ابن إسحاق من حديث جابر وغيره في سبب انكشافهم أمرا آخر، وهو أن مالك بن عوف سبق بهم إلى حنين فأعدوا وتهيأوا في مضايق الوادي، وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين‏.‏

وفي حديث أنس عند مسلم وغيره من رواية سليمان التيمي عن السميط عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ افتتحنا مكة، ثم إنا غزونا حنينا، قال‏:‏ فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت‏:‏ صف الخيل، ثم المقاتلة، ثم النساء من وراء ذلك، ثم الغنم ثم النعم‏.‏

قال‏:‏ ونحن بشر كثير، وعلى ميمنة خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب ومن تعلم من الناس ‏"‏ وسيأتي للمصنف قريبا من رواية هشام بن زيد عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ أقبلت هوازن وغطفان بذراريهم ونعمهم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف ومعه الطلقاء، قال‏:‏ فأدبروا عنه حتى بقي وحده ‏"‏ الحديث‏.‏

ويجمع بين قوله‏:‏ ‏"‏ حتى بقي وحده ‏"‏ وبين الأخبار الدالة على أنه بقي معه جماعة بأن المراد بقي وحده متقدما مقبلا على العدو، والذين ثبتوا معـه كانوا وراءه، أو الوحدة بالنسبة لمباشرة القتال، وأبو سفيان بن الحارث وغيره كانوا يخدمونه في إمساك البغلة ونحو ذلك‏.‏

ووقع في رواية أبي نعيم في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ تفصيل المائة‏:‏ بضعة وثلاثون من المهاجرين والبقية من الأنصار ومن النساء أم سليم وأم حارثة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأبو سفيان بن الحارث‏)‏ أي ابن عبد المطلب بن هاشم وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامه قبل فتح مكة لأنه خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه في الطريق وهو سائر إلى فتح مكة فأسلم وحسن إسلامه، وخرج إلى غزوة حنين فكان فيمن ثبت‏.‏

وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة قال‏:‏ لما فر الناس يوم حنين جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، فلم يبق معه إلا أربعة نفر، ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم‏:‏ علي والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر‏.‏

قال‏:‏ وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل‏.‏

وروى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال‏:‏ ‏"‏ لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل ‏"‏ وهذا أكثر ما وقفت عليه من عدد من ثبت يوم حنين‏.‏

وروى أحمد والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس؛ وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا، ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة ‏"‏ وهذا لا يخالف حديث ابن عمر فإنه نفى أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين، وأما ما ذكره النووي في شرح مسلم أنه ثبت معه اثنا عشر رجلا فكأنه أخذه مما ذكره ابن إسحاق في حديثه أنه ثبت معه العباس وابنه الفضل وعلي وأبو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة وأسامة بن زيد وأخوه من أمه أيمن ابن أم أيمن، ومن المهاجرين أبو بكر وعمر، فهؤلاء تسعة، وقد تقدم ذكر ابن مسعود في مرسل الحاكم فهؤلاء عشرة، ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط وذلك قوله‏:‏ نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا وعاشرنا وافى الحمام بنفسه لما مسـه في الله لا يتوجع ولعل هذا هو الثبت، ومن زاد على ذلك يكون عجل في الرجوع فعد فيمن لم ينهزم، وممن ذكر الزبير بن بكار وغيره أنه ثبت يوم حنين أيضا جعفر بن أبي سفيان بن الحارث وقثم بن العباس وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وشيبة بن عثمان الحجبي، فقد ثبت عنه أنه لما رأى الناس قد انهزموا استدبر النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، فأقبل عليه فضربه في صدره وقال له‏:‏ قاتل الكفار، فقاتلهم حتى انهزموا‏.‏

قال الطبري‏:‏ الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏آخذ برأس بغلته‏)‏ في رواية زهير ‏"‏ فأقبلوا أي المشركون هنالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته البيضاء وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل واستنصر‏"‏‏.‏

قال العلماء‏:‏ في ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة يومئذ دلالة على النهاية في الشجاعة والثبات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ فنزل ‏"‏ أي عن البغلة ‏"‏ فاستنصر ‏"‏ أي قال‏:‏ اللهم أنزل نصرك‏.‏

وقع مصرحا به في رواية مسلم من طريق زكريا عن أبي إسحاق‏.‏

وفي حديث العباس عند مسلم ‏"‏ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث فلم نفارقه ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال العباس‏:‏ وأنا آخذ بلجام رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركابه ‏"‏ ويمكن الجمع بأن أبا سفيان كان آخذا أولا بزمامها فلما ركضها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين خشي العباس فأخذ بلجام البغلة يكفها، وأخذ أبو سفيان بالركاب وترك اللجام للعباس إجلالا له لأنه كان عمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بغلته‏)‏ هذه البغلة هي البيضاء، وعند مسلم من حديث العباس ‏"‏ وكان على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي ‏"‏ وله من حديث سلمة ‏"‏ وكان على بغلته الشهباء ‏"‏ ووقع عند ابن سعد وتبعه جماعة ممن صنف السيرة أنه صلى الله عليه وسلم كان على بغلته دلدل، وفيه نظر لأن دلدل أهداها له المقوقس؛ وقد ذكر القطب الحلبي أنه استشكل عند الدمياطي ما ذكره ابن سعد فقال له‏:‏ كنت تبعته فذكرت ذلك في السيرة وكنت حينئذ سيريا محضا، وكان ينبغي لنا أن نذكر الخلاف‏.‏

قال القطب الحلبي‏:‏ يحتمل أن يكون يومئذ ركب كلا من البغلتين إن ثبت أنها كانت صحبته، وإلا فما في الصحيح أصح‏.‏

ودل قول الدمياطي أنه كان يعتقد الرجوع عن كثير مما وافق فيه أهل السير وخالف الأحاديث الصحيحة، وأن ذلك كان منه قبل أن يتضلع من الأحاديث الصحيحة ولخروج نسخ من كتابه وانتشاره لم يتمكن من تغييره‏.‏

وقد أغرب النووي فقال‏:‏ وقع عند مسلم ‏"‏ على بغلته البيضاء ‏"‏ وفي أخرى ‏"‏ الشهباء ‏"‏ وهي واحدة ولا نعرف له بغلة غيرها‏.‏

وتعقب بدلدل فقد ذكرها غير واحد، لكن قيل إن الاسمين لواحدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب‏)‏ قال ابن التين‏:‏ كان بعض أهل العلم يقوله بفتح الباء من قوله‏:‏ ‏"‏ لا كذب ‏"‏ ليخرجه عن الوزن، وقد أجيب عن مقالته صلى الله عليه وسلم هذا الرجز بأجوبة أحدها أنه نظم غيره، وأنه كان فيه‏:‏ أنت النبي لا كذب أنت ابن عبد المطلب، فذكره بلفظ ‏"‏ أنا ‏"‏ في الموضعين‏.‏

ثانيها أن هذا رجز وليس من أقسام الشعر، وهذا مردود‏.‏

ثالثها أنه لا يكون شعرا حتى يتم قطعة، وهذه كلمات يسيرة ولا تسمى شعرا‏.‏

رابعها أنه خرج موزونا ولم يقصد به الشعر، وهذا أعدل الأجوبة، وقد تقدم هذا المعنى في غير هذا المكان، ويأتي تاما في كتاب الأدب‏.‏

وأما نسبته إلى عبد المطلب دون أبيه عبد الله فكأنها لشهرة عبد المطلب بين الناس لما رزق من نباهة الذكر وطـول العمر، بخلاف عبد الله فإنه مات شابا، ولهذا كان كثير من العرب يدعونه ابن عبد المطلب، كما قال ضمام بن ثعلبة لما قدم‏:‏ أيكم ابن عبد المطلب وقيل لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله ويهدي الله الخلق على يديه ويكون خاتم الأنبياء، فانتسب إليه ليتذكر ذلك من كان يعرفه، وقد اشتهر ذلك بينهم، وذكره سيف بن ذي يزن قديما لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة وأراد النبي صلى الله عليه وسلم تنبيه أصحابه بأنه لا بد من ظهوره وأن العاقبة له لتقوى قلوبهم إذا عرفوا أنه ثابت غير منهزم‏.‏

وأما قوله ‏"‏ لا كذب ‏"‏ ففيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال‏:‏ أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، وأنا متيقن بأن الذي وعدني الله به من النصر حق، فلا يجوز علي الفرار‏.‏

وقيل‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏"‏ لا كذب ‏"‏ أي أنا النبي حقا لا كذب في ذلك‏.‏

‏(‏تنبيهان‏)‏ ‏:‏ أحدهما ساق البخاري الحديث عاليا عن أبي الوليد عن شعبة، لكنه مختصر جدا‏.‏

ثم ساقه من رواية غندر عن شعبة مطولا بنزول درجة‏.‏

وقد أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة الفضل بن الحباب عن أبي الوليد مطولا، فكأنه لما حدث به البخاري حدثه به مختصرا‏.‏

‏(‏الثاني‏)‏ اتفقت الطرق التي أخرجها البخاري لهذا الحديث من سياق هذا الحديث إلى قوله‏:‏ ‏"‏ أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ‏"‏ إلا رواية زهير بن معاوية فزاد في آخرها ‏"‏ ثم صف أصحابه ‏"‏ وزاد مسلم في حديث البراء من رواية زكريا عن أبي إسحاق قال البراء‏:‏ ‏"‏ كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذيه ‏"‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولمسلم من حديث العباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ صار يركض بغلته إلى جهة الكفار ‏"‏ وزاد فقال‏:‏ ‏"‏ أي عباس ناد أصحاب الشجرة، وكان العباس صيتا، قال‏:‏ فناديت بأعلى صوتي أين أصحاب الشجرة، قال فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا‏:‏ يا لبيك‏.‏

قال فاقتتلوا والكفار، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس‏.‏

ثم أخذ حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال‏:‏ انهزموا ورب الكعبة، قال‏:‏ فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا ‏"‏ ولابن إسحاق نحوه وزاد ‏"‏ فجعل الرجل يعطف بغيره فلا يقدر، فيقذف درعه ثم يأخذ بسيفه ودرقته ثم يؤم الصوت‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ لَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ انْكَشَفُوا فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ فَاسْتُقْبِلْنَا بِالسِّهَامِ وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِزِمَامِهَا وَهُوَ يَقُولُ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ قَالَ إِسْرَائِيلُ وَزُهَيْرٌ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال إسرائيل وزهير‏:‏ نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته‏)‏ أي إن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق وزهير بن معاوية الجعفي رويا هذا الحديث عن أبي إسحاق عن البراء فقالا في آخره‏:‏ ‏"‏ نزل النبي صلى الله عليه وسلم عن بغلته ‏"‏ فأما رواية إسرائيل فوصلها المصنف في ‏"‏ باب من قال خذها وأنا ابن فلان ‏"‏ من كتاب الجهاد ولفظه ‏"‏ كان أبو سفيان بن الحارث آخذا بعنان بغلته، فلما غشيه المشركون نزل ‏"‏ وقد تقدم شرح ذلك‏.‏

وأما رواية زهير فوصلها أيضا في ‏"‏ باب من صف أصحابه عند الهزيمة ‏"‏ وقد ذكرت لفظه قريبا‏.‏

ولمسلم من حديث سلمة بن الأكوع ‏"‏ لما غشوا النبي صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب، ثم استقبل به وجوههم فقال‏:‏ شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا منهزمين‏"‏‏.‏

ولأحمد وأبي داود والترمذي من حديث أبي عبد الرحمن الفهري في قصة حنين قال‏:‏ ‏"‏ فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيا عباد الله، أنا عبد الله ورسوله‏.‏

ثم اقتحم عن فرسه فأخذ كفا من تراب، قال‏:‏ فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم وقال‏:‏ شاهت الوجوه، فهزمهم ‏"‏ قال يعلى بن عطاء راويه عن أبي همام عن أبي عبد الرحمن الفهري ‏"‏ قال‏:‏ فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا‏:‏ لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا ‏"‏ ولأحمد والحاكم من حديث ابن مسعود ‏"‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته قدما، فحادت به بغلته فمال عن السرج فقلت ارتفع رفعك الله، فقال‏:‏ ناولني كفا من تراب، فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا‏.‏

وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، فولى المشركون الأدبار ‏"‏ وللبزار من حديث ابن عباس ‏"‏ أن عليا ناول النبي صلى الله عليه وسلم التراب، فرمى به في وجوه المشركين يوم حنين‏"‏‏.‏

ويجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم أولا قال لصاحبه‏:‏ ناولني فناوله فرماهم، ثم نزل عن البغلة فأخذ بيده فرماهم أيضا‏.‏

فيحتمل أن الحصى في إحدى المرتين وفي الأخرى التراب، والله أعلم‏.‏

وفي الحديث من الفوائد حسن الأدب في الخطاب، والإرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب‏.‏

وذم الإعجاب‏.‏

وفيه جواز الانتساب إلى الآباء ولو ماتوا في الجاهلية، والنهي عن ذلك محمول على ما هو خارج الحرب‏.‏

ومثله الرخصة في الخيلاء في الحرب دون غيرها‏.‏

وجواز التعرض إلى الهلاك في سبيل الله، ولا يقال كان النبي صلى الله عليه وسلم متيقنا للنصر لوعد الله تعالى له بذلك وهو حق، لأن أبا سفيان بن الحارث قد ثبت معه آخذا بلجام بغلته وليس هو في اليقين مثل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد استشهد في تلك الحالة أيمن ابن أم أيمن كما تقدمت الإشارة إليه في شعر العباس‏.‏

وفيه ركوب البغلة إشارة إلى مزيد الثبات، لأن ركوب الفحولة مظنة الاستعداد للفرار والتولي، وإذا كان رأس الجيش قد وطن نفسه على عدم الفرار وأخذ بأسباب ذلك كان ذلك أدعى لأتباعه على الثبات‏.‏

وفيه شهرة الرئيس نفسه في الحرب مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ وَزَعَمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حِينَ جَاءَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا السَّبْيَ وَإِمَّا الْمَالَ وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ وَكَانَ أَنْظَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنْ الطَّائِفِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ فَقَالَ النَّاسُ قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْ سَبْيِ هَوَازِنَ

الشرح‏:‏

حديث المسور ومروان، تقدم ذكره من وجهين عن الزهري، وقد تقدم في أول الشروط في قصة صلح الحديبية أن الزهري رواه عن عروة عن المسور ومروان عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه في بقية المواضع حيث لا يذكر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرسله، فإن المسور يصغر عن إدراك القصة ومروان أصغر منه‏.‏

نعم كان المسور في قصة حنين مميزا، فقد ضبط في ذلك الأوان قصة خطبة علي لابنة أبي جهل، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا ابن أخي ابن شهاب قال محمد بن مسلم بن شهاب‏)‏ هو الزهري، وسقط ابن مسلم من بعض النسخ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وزعم عروة بن الزبير‏)‏ هو معطوف على قصة صلح الحديبية، وقد أخرجه موسى بن عقبة عن الزهري بلفظ ‏"‏ حدثني عروة بن الزبير إلخ ‏"‏ وسيأتي في الأحكام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين‏)‏ ساق الزهري هذه القصة من هذا الوجه مختصرة، وقد ساقها موسى بن عقبة في المغازي مطولة ولفظه ‏"‏ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف في شوال إلى الجعرانة وبها السبي يعني سبي هوازن، وقدمت عليه وفد هوازن مسلمين فيهم تسعة نفر من أشرافهم فأسلموا وبايعوا، ثم كلموه فقالوا‏:‏ يا رسول الله إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات وهن مخازي الأقوام، فقال‏:‏ سأطلب لكم، وقد وقعت المقاسم فأي الأمرين أحب إليكم‏:‏ السبي أم المال‏؟‏ قالوا‏:‏ خيرتنا يا رسول الله بين الحسب والمال، فالحسب أحب إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير‏.‏

فقال‏:‏ أما الذي لبني هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين، فكلموهم وأظهروا إسلامكم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الهاجرة قاموا فتكلم خطباؤهم فأبلغوا ورغبوا إلى المسلمين في رد سبيهم، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغوا فشفع لهم وحض المسلمين عليه وقال‏:‏ قد رددت الذي لبني هاشم عليهم ‏"‏ فاستفيد من هذه القصة عدد الوفد وغير ذلك مما لا يخفى‏.‏

وقد أغفل محمد بن سعد لما ذكر الوفود وفد هوازن هؤلاء مع أنه لم يجمع أحد في الوفود أكثر مما جمع‏.‏

وممن سمي من وفد هوازن زهير بن صرد كما سيأتي، وأبو مروان - ويقال أبو ثروان أوله مثلثة بدل الميم ويقال بموحدة وقاف - وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، ذكره ابن سعد‏.‏

وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ‏"‏ تعيين الذي خطب لهم في ذلك ولفظه ‏"‏ وأدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنا أهل وعشيرة قد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك‏.‏

وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال‏:‏ يا رسول الله إن اللواتي في الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، وأنت خير مكفول، ثم أنشده الأبيات المشهورة أولها‏:‏ امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وندخر يقول فيها‏:‏ امنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر ثم ساق القصة نحو سياق موسى بن عقبة‏.‏

وأورد الطبراني شعر زهير بن صرد من حديثه فزاد على ما أورده ابن إسحاق خمسة أبيات‏.‏

وقد وقع لنا عاليا جـدا في ‏"‏ المعجم الصغير ‏"‏ عشاري الإسناد، ومن بين الطبراني فيه وزهير لا يعرف، لكن يقوى حديثه بالمتابعة المذكورة فهو حسن، وقد بسطت القول فيه في ‏"‏ الأربعين المتباينة ‏"‏ وفي ‏"‏ الأمالي ‏"‏ وفي ‏"‏ الصحابة ‏"‏ وفي ‏"‏ العشرة العشارية ‏"‏ وبينت وهم من زعم أن الإسناد منقطع، والله الموفق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد كنت استأنيت بكم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ لكم ‏"‏ ومعنى استأنيت استنظرت، أي أخرت قسم السبي لتحضروا فأبطأتم، وكان ترك السبي بغير قسمة وتوجه إلى الطائف فحاصرها كما سيأتي، ثم رجع عنها إلى الجعرانة ثم قسم الغنائم هناك، فجاءه وفد هوازن بعد ذلك، فبين لهم أنه أخر القسم ليحضروا فأبطأوا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ بضع عشرة ليلة ‏"‏ فيه بيان مدة التأخير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ قفل ‏"‏ بفتح القاف والفاء أي رجع‏.‏

وذكر الواقدي أن وفد هوازن كانوا أربعة وعشرين بيتا فيهم أبو برقان السعدي فقال‏:‏ يا رسول الله إن في هذه الحظائر إلا أمهاتك وخالاتك وحواضنك ومرضعاتك فامنن علينا، من الله عليك‏.‏

فقال‏:‏ قد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسمت السبي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمن أحب أن يطيب ذلك‏)‏ بفتح الطاء المهملة وتشديد الياء التحتانية أي يعطيه عن طيب نفس منه من غير عوض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على حظه‏)‏ أي بأن يرد السبي بشرط أن يعطي عوضه‏.‏

ووقع في رواية موسى بن عقبة ‏"‏ فمن أحب منكم أن يعطي غير مكره فليفعل، ومن كره أن يعطي فعلي فداؤهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال الناس قد طيبنا ذلك‏)‏ في رواية موسى بن عقبة ‏"‏ فأعطى الناس ما بأيديهم، إلا قليلا من الناس سألوا الفداء ‏"‏ وفي رواية عمرو بن شعيب المذكورة ‏"‏ فقال المهاجرون‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول الله‏.‏

وقالت الأنصار كذلك‏.‏

وقال الأقرع بن حابس‏:‏ أما أنا وبنو تميم فلا‏.‏

وقال عيينة‏:‏ أما أنا وبنو فزارة فلا‏.‏

وقال العباس بن مرداس‏:‏ أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم‏:‏ بل ما كان لنا فهو لرسول الله‏.‏

قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من تمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء نصيبه، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال إنا لا ندري من أذن منكم إلخ‏)‏ يأتي الكلام عليه في ‏"‏ باب العرفاء ‏"‏ من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا الذي بلغني عن سبي هوازن‏)‏ بين المصنف في الهبة أن الذي قال هذا إلخ هو الزهري، قال‏:‏ وذلك بعد أن خرج هذا الحديث عن يحيى بن بكير عن الليث بسنده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ح حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قَفَلْنَا مِنْ حُنَيْنٍ سَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَذْرٍ كَانَ نَذَرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ اعْتِكَافٍ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَفَائِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن نافع أن عمر قال‏:‏ يا رسول الله‏)‏ هكذا ذكره مرسلا مختصرا، ثم عقبه برواية معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولا تاما‏.‏

وقد عاب عليه الإسماعيلي جمعهما لأن قوله‏:‏ ‏"‏ لما قفلنا من حنين ‏"‏ لم يقع في رواية حماد بن زيد أي الرواية الأولى المرسلة، والجواب أن البخاري إنما نظر إلى أصل الحديث لا إلى النقص والزيادة في ألفاظ الرواة، وإنما أورد طريق حماد بن زيد المرسلة للإشارة إلى أن روايته مرجوحة، لأن جماعة من أصحاب شيخه أيوب خالفوه فيه فوصلوه، بل بعض أصحاب حماد بن زيد رواه عنه موصولا كما أشار إليه البخاري أيضا هنا، على أن رواية حماد بن زيد وإن لم يقع فيها ذكر القفول من حنين صريحا لكنه فيها ضمنا كما سأبينه، وقد وقع في رواية بعضهم ما ليس عند معمر أيضا مما هو أدخل في مقصود الباب كما سأبينه، فأما بقية لفظ الرواية الأولى فقد ساقها هو في فرض الخمس بلفظ ‏"‏ أن عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان علي اعتكاف ليلة في الجاهلية، فأمره أن يفي به‏.‏

قال‏:‏ وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين فوضعهما في بعض بيوت مكة ‏"‏ الحديث، وكذا أورده الإسماعيلي من طريق سليمان بن حرب وأبي الربيع الزهراني وخلف بن هشام كلهم عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع ‏"‏ أن عمر كان عليه اعتكاف ليلة في الجاهلية، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة سأله عنه، فأمره أن يعتكف ‏"‏ لفظ أبي الربيع قلت‏:‏ وكان نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة بعد رجوعه من الطائف بالاتفاق، وكذا سبي حنين إنما قسم بعد الرجوع منها فاتحدت رواية حماد بن زيد ومعمر معنى، وظهر رد ما اعترض به الإسماعيلي‏.‏

وأما رواية من رواه عن حماد بن زيد موصولا فأشار إليه البخاري بقوله‏:‏ ‏"‏ وقال بعضهم عن حماد إلخ ‏"‏ فالمراد بحماد ابن زيد، فإنه ذكر عقبه رواية حماد بن سلمة وهي مخالفة لسياقه، والمراد بالبعض المبهم أحمد بن عبدة الضبي، كذلك أخرجه الإسماعيلي من طريقه فقال‏:‏ ‏"‏ أخبرني القاسم هو ابن زكريا حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ كان عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يفي به ‏"‏ وكذا أخرجه مسلم وابن خزيمة عن أحمد بن عبدة وذكرا فيه إنكار ابن عمر عمرة الجعرانة، ولم يسق مسلم لفظه، وقد أوضحته في ‏"‏ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة ‏"‏ من كتاب فرض الخمس‏.‏

وأما رواية من رواه عن أيوب موصولا فأشار إليه البخاري بقوله‏:‏ ‏"‏ ورواه جرير بن حازم وحماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر ‏"‏ فرواية جرير بن حازم وصلها مسلم وغيره من رواية ابن وهب عن جرير بن حازم ‏"‏ أن أيوب حدثه أن نافعا حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بعد أن رجع من الطائف فقال‏:‏ يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما في المسجد الحرام فكيف ترى‏؟‏ قال‏:‏ اذهب فاعتكف يوما‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس، فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس قال عمر‏:‏ يا عبد الله اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها ‏"‏ فاشتمل هذا السياق على فوائد زوائد، وعرف وجه دخول هذا الحديث في ‏"‏ باب غزوة حنين ‏"‏ ورواية حماد بن سلمة وصلها مسلم من طريق حجاج بن منهال ‏"‏ حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب ‏"‏ مقرونة برواية محمد بن إسحاق كلاهما عن نافع عن ابن عمر، قال في قصة النذر يعني دون غيره من ذكر الجارية والسبي، وقد ذكرت في فرض الخمس كلام الدار قطني على هذا الحديث وأنه قال‏:‏ رواه ابن عيينة عن أيوب، فاختلف الرواة عنه، فمنهم من أرسله ومنهم من وصله، وممن رواه موصولا محمد بن أبي خلف وهو من شيوخ مسلم أخرجه الإسماعيلي من طريقه وفيه ذكر النذر والسبي والجارية كما في رواية جرير بن حازم، وفي المغازي لابن إسحاق في قصة الجارية فائدة أخرى ‏"‏ قال‏:‏ حدثني أبو وجزة يزيد بن عبيد السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى من سبي هوازن علي بن أبي طالب جارية يقال لها ريطة بنت حبان بن عمير، وأعطى عثمان جارية يقال لها زينب بنت خناس، وأعطى عمر قلابة فوهبها لابنه، قال ابن إسحاق‏:‏ فحدثني نافع عن ابن عمر قال‏.‏

بعثت جاريتي إلى أخوالي في بني جمح ليصلحوا لي منها حتى أطوف بالبيت، ثم أتيتهم فخرجت من المسجد فإذا الناس يشتدون، قلت ما شأنكم‏؟‏ قالوا‏:‏ رد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءنا وأبناءنا ففلت دونكم صاحبتكم فهي في بني جمح، فانطلقوا فأخذوها ‏"‏ وهذا لا ينافي قوله في رواية حماد بن زيد أنه وهب عمر جاريتين، فيجمع بينهما بأن عمر أعطى إحدى جاريتيه لولده عبد الله، والله أعلم‏.‏

وذكر الواقدي أنه أعطى لعبد الرحمن بن عوف وآخرين معه من الجواري، وأن جارية سعد بن أبي وقاص اختارته فأقامت عنده وولدت له والله أعلم‏.‏

وقد تقدم ما يتعلق بالاعتكاف في بابه، ويأتي ما يتعلق بالنذر في بابه إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَضَرَبْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقُلْتُ مَا بَالُ النَّاسِ قَالَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ رَجَعُوا وَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ قَالَ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ فَقُمْتُ فَقُلْتُ مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْتُ قَالَ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ فَقُمْتُ فَقَالَ مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ رَجُلٌ صَدَقَ وَسَلَبُهُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنِّي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَاهَا اللَّهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَ فَأَعْطِهِ فَأَعْطَانِيهِ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَآخَرُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَخْتِلُهُ مِنْ وَرَائِهِ لِيَقْتُلَهُ فَأَسْرَعْتُ إِلَى الَّذِي يَخْتِلُهُ فَرَفَعَ يَدَهُ لِيَضْرِبَنِي وَأَضْرِبُ يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا ثُمَّ أَخَذَنِي فَضَمَّنِي ضَمًّا شَدِيدًا حَتَّى تَخَوَّفْتُ ثُمَّ تَرَكَ فَتَحَلَّلَ وَدَفَعْتُهُ ثُمَّ قَتَلْتُهُ وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَانْهَزَمْتُ مَعَهُمْ فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ فَقُلْتُ لَهُ مَا شَأْنُ النَّاسِ قَالَ أَمْرُ اللَّهِ ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي فَجَلَسْتُ ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ سِلَاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَلَّا لَا يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ

الشرح‏:‏

حديث أبي قتادة، قوله‏:‏ ‏(‏عن يحيى بن سعيد‏)‏ هو الأنصاري وعمر بن كثير بن أفلح مدني مولى أبي أيوب الأنصاري، وثقه النسائي وغيره، وهو تابعي صغير، ولكن ابن حبان ذكره في أتباع التابعين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث بهذا الإسناد، لكن ذكره في مواضع‏:‏ فتقدم في البيوع مختصرا، وفي فرض الخمس تاما، وسيأتي في الأحكام‏.‏

وقد ذكرت في البيوع أن يحيى بن يحيى الأندلسي حرفه في روايته فقال‏:‏ عن عمرو بن كثير والصواب ‏"‏ عمر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي محمد‏)‏ هو نافع بن عباس معروف باسمه وكنيته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما التقينا كانت للمسلمين جولة‏)‏ بفتح الجيم وسكون الواو أي حركة فيها اختلاف، وقد أطلق في رواية الليث الآتية بعدها أنهم انهزموا، لكن بعد القصة التي ذكرها أبو قتادة، وقد تقدم في حديث البراء أن الجميع لم ينهزموا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين‏)‏ لم أقف على اسمهما، وقوله‏:‏ ‏"‏ علا ‏"‏ أي ظهر‏.‏

وفي رواية الليث التي بعدها ‏"‏ نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلا من المشركين وآخر من المشركين يختله ‏"‏ بفتح أوله وسكون الخاء المعجمة وكسر المثناة أي يريد أن يأخذه على غرة، وتبين من هذه الرواية أن الضمير في قوله في الأولى‏:‏ ‏"‏ فضربته من ورائه ‏"‏ لهذا الثاني الذي كان يريد أن يختل المسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على حبل عاتقه‏)‏ حبل العاتق عصبه، والعاتق موضع الرداء من المنكب، وعرف منه أن قوله في الرواية الثانية‏:‏ ‏"‏ فأضرب يده فقطعتها ‏"‏ أن المراد باليد الذراع والعضد إلى الكتف، وقوله‏:‏ ‏"‏ فقطعت الدرع ‏"‏ أي التي كان لابسها وخلصت الضربة إلى يده فقطعتها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجدت منها ريح الموت‏)‏ أي من شدتها، وأشعر ذلك بأن هذا المشرك كان شديد القوة جدا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أدركه الموت فأرسلني‏)‏ أي أطلقني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلحقت عمر‏)‏ في السياق حذف بينته الرواية الثانية حيث قال‏:‏ ‏"‏ فتحلل ودفعته ثم قتلته وانهزم المسلمون وانهزمت معهم فإذا بعمر بن الخطاب‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أمر الله‏)‏ أي حكم الله وما قضى به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم رجعوا‏)‏ في الرواية الثانية ‏"‏ ثم تراجعوا ‏"‏ وقد تقدم في الحديث الأول كيفية رجوعهم وهزيمة المشركين بما يغني عن إعادته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه‏)‏ تقدم شرح ذلك مستوفى في فرض الخمس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت من يشهد لي‏)‏ زاد في الرواية التي تلي هذه ‏"‏ فلم أر أحدا يشهد لي ‏"‏ وذكر الواقدي أن عبد الله بن أنيس شهد له، فإن كان ضبطه احتمل أن يكون وجده في المرة الثانية فإن في الرواية الثانية ‏"‏ فجلست ثم بدا لي فذكرت أمره‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال رجل‏)‏ في الرواية الثانية ‏"‏ من جلسائه ‏"‏ وذكر الواقدي أن اسمه أسود بن خزاعي، وفيه نظر لأن في الرواية الصحيحة أن الذي أخذ السلب قرشي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صدق، وسلبه عندي فأرضه منه‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فأرضه مني‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال أبو بكر الصديق‏:‏ لاها الله، إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه‏)‏ هكذا ضبطناه في الأصول المعتمدة من الصحيحين وغيرهما بهذه الأحرف ‏"‏ لاها الله إذا ‏"‏ فأما لاها الله فقال الجوهري‏:‏ ها للتنبيه وقد يقسم بها يقال لاها الله ما فعلت كذا، قال ابن مالك‏.‏

فيه شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه، قال‏:‏ ولا يكون ذلك إلا مع الله أي لم يسمع لاها الرحمن كما سمع لا والرحمن، قال‏:‏ وفي النطق بها أربعة أوجه، أحدها ها الله باللام بغير الهاء بغير إظهار شيء من الألفين، ثانيها مثله لكن بإظهار ألف واحدة بغير همز كقولهم التقت حلقتا البطان، ثالثها ثبوت الألفين بهمزة قطع، رابعها بحذف الألف وثبوت همزة القطع، انتهى كلامه‏.‏

والمشهور في الراوية من هذه الأوجه الثالث ثم الأول‏.‏

وقال أبو حاتم السجستاني‏:‏ العرب تقول لاهأ الله ذا بالهمز، والقياس ترك الهمز، وحكى ابن التين عن الداودي أنه روى برفع الله، قال‏:‏ والمعنى يأبى الله‏.‏

وقال غيره‏:‏ إن ثبتت الرواية بالرفع فتكون ‏"‏ ها ‏"‏ للتنبيه و ‏"‏ الله ‏"‏ مبتدأ و ‏"‏ لا يعمد ‏"‏ خبره انتهى‏.‏

ولا يخفى تكلفه‏.‏

وقد نقل الأئمة الاتفاق على الجر فلا يلتفت إلى غيره‏.‏

وأما إذا فثبتت في جميع الروايات المعتمدة والأصول المحققة من الصحيحين وغيرهما بكسر الألف ثم ذال معجمة منونة‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ هكذا يروونه، وإنما هو في كلامهم - أي العرب - لاها الله ذا، والهاء فيه بمنزلة الواو، والمعنى لا والله يكون ذا‏.‏

ونقل عياض في ‏"‏ المشارق ‏"‏ عن إسماعيل القاضي أن المازني قال قول الرواة‏:‏ ‏"‏ لاها الله إذا ‏"‏ خطأ، والصواب لاها الله ذا أي ذا يميني وقسمي‏.‏

وقال أبو زيد‏:‏ ليس في كلامهم لاها الله إذا، وإنما هو لاها الله ذا، وذا صلة في الكلام، والمعنى لا والله، هذا ما أقسم به، ومنه أخذ الجوهري قال‏:‏ قولهم لاها الله ذا معناه لا والله هذا، ففرقوا بين حرف التنبيه والصلة، والتقدير لا والله ما فعلت ذا‏.‏

وتوارد كثير ممن تكلم على هذا الحديث أن الذي وقع في الخبر بلفظ ‏"‏ إذا ‏"‏ خطأ وإنما هو ‏"‏ ذا ‏"‏ تبعا لأهل العربية، ومن زعم أنه ورد في شيء من الروايات بخلاف ذلك فلم يصب، بل يكون ذلك من إصلاح بعض من قلد أهل العربية في ذلك‏.‏

وقد اختلف في كتابة ‏"‏ إذا ‏"‏ هذه هل تكتب بألف أو بنون، وهذا الخلاف مبني على أنها اسم أو حرف فمن قال هي اسم قال الأصل فيمن قيل له سأجيء إليك فأجاب إذا أكرمك أي إذا جئتني أكرمك ثم حذف جئتني وعوض عنها التنوين وأضمرت أن، فعلى هذا يكتب بالنون‏.‏

ومن قال هي حرف - وهم الجمهور - اختلفوا، فمنهم من قال هي بسيطة وهو الراجح، ومنهم من قال مركبة من إذا وإن فعلى الأول تكتب بألف وهو الراجح وبه وقع رسم المصاحف، وعلى الثاني تكتب بنون، واختلف في معناها قال سيبويه‏:‏ معناها الجواب والجزاء، وتبعه جماعة فقالوا‏:‏ هي حرف جواب يقتضي التعليل‏.‏

وأفاد أبو علي الفارسي أنها قد تتمحض للجواب، وأكثر ما تجيء جوابا للو وإن ظاهرا أو مقدرا، فعلى هذا لو ثبتت الرواية بلفظ ‏"‏ إذا ‏"‏ لاختل نظم الكلام لأنه يصير هكذا‏:‏ لا والله، إذا لا يعمد إلى أسد إلخ‏.‏

وكان حق السياق أن يقول‏:‏ إذا يعمد، أي لو أجابك إلى ما طلبت لعمد إلى أسد إلخ، وقد ثبتت الرواية بلفظ لا يعمد إلخ، فمن ثم ادعى من ادعى أنها تغيير، ولكن قال ابن مالك‏:‏ وقع في الرواية ‏"‏ إذا ‏"‏ بألف وتنوين وليس ببعيد‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ هو بعيد، ولكن يمكن أن يوجه بأن التقدير‏:‏ لا والله لا يعطي إذا، يعني ويكون لا يعمد إلخ تأكيدا للنفي المذكور وموضحا للسبب فيه‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ ثبت في الرواية ‏"‏ لاها الله إذا ‏"‏ فحمله بعض النحويين على أنه من تغيير بعض الرواة لأن العرب لا تستعمل لاها الله بدون ذا، وإن سلم استعماله بدون ذا فليس هذا موضع إذا لأنها حرف جزاء والكلام هنا على نقيضه، فإن مقتضى الجزاء أن لا يذكر ‏"‏ لا ‏"‏ في قوله‏:‏ ‏"‏ لا يعمد ‏"‏ بل كان يقول‏:‏ إذا يعمد إلى أسد إلخ ليصح جوابا لطلب السلب، قال‏:‏ والحديث صحيح والمعنى صحيح، وهو كقولك لمن قال لك افعل كذا فقلت له‏:‏ والله إذا لا أفعل، فالتقدير إذا والله لا يعمد إلى أسد إلخ، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون ‏"‏ إذا ‏"‏ زائدة كما قال أبو البقاء إنها زائدة في قول الحماسي ‏"‏ إذا لقام بنصري معشر خشن ‏"‏ في جواب قوله‏:‏ ‏"‏ لو كنت من مازن لم تستبح أبلي ‏"‏ قال‏:‏ والعجب ممن يعتني بشرح الحديث ويقدم نقل بعض الأدباء على أئمة الحديث وجهابذته وينسبون إليهم الخطأ والتصحيف، ولا أقول إن جهابذة المحدثين أعدل وأتقن في النقل إذ يقتضي المشاركة بينهم، بل أقول‏:‏ لا يجوز العدول عنهم في النقل إلى غيرهم‏.‏

قلت‏:‏ وقد سبقه إلى تقرير ما وقع في الرواية ورد ما خالفها الإمام أبو العباس القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ فنقل ما تقدم عن أئمة العربية ثم قال‏:‏ وقع في رواية العذري والهوزني في مسلم ‏"‏ لاها الله ذا ‏"‏ بغير ألف ولا تنوين، وهو الذي جزم به من ذكرناه‏.‏

قال‏:‏ والذي يظهر لي أن الرواية المشهورة صواب وليست بخطأ، وذلك أن هذا الكلام وقع على جواب إحدى الكلمتين للأخرى، والهاء هي التي عوض بها عن واو القسم، وذلك أن العرب تقول في القسم ‏"‏ الله لأفعلن ‏"‏ بمد الهمزة وبقصرها، فكأنهم عوضوا عن الهمزة ها فقالوا ‏"‏ ها الله ‏"‏ لتقارب مخرجيهما، وكذلك قالوا بالمد والقصر، وتحقيقه أن الذي مد مع الهاء كأنه نطق بهمزتين أبدل من إحداهما ألفا استثقالا لاجتماعهما كما تقول‏:‏ الله والذي قصر كأنه نطق بهمزة واحدة كما تقول‏:‏ الله، وأما ‏"‏ إذا ‏"‏ فهي بلا شك حرف جواب وتعليل، وهي مثل التي وقعت في قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال‏:‏ ‏"‏ أينقص الرطب إذا جف‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فلا إذا ‏"‏ فلو قال فلا والله إذا لكان مساويا لما وقع هنا وهو قوله‏:‏ ‏"‏ لاها الله إذا ‏"‏ من كل وجه؛ لكنه لم يحتج هناك إلى القسم فتركه، قال‏:‏ فقد وضح تقرير الكلام ومناسبته واستقامته معني ووضعا من غير حاجة إلى تكلف بعيد يخرج عن البلاغة، ولا سيما من ارتكب أبعد وأفسد فجعل الهاء للتنبيه وذا للإشارة وفصل بينهما بالمقسم به، قال‏:‏ وليس هذا قياسا فيطرد، ولا فصيحا فيحمل عليه الكلام النبوي، ولا مرويا برواية ثابتة‏.‏

قال‏:‏ وما وجد للعدوي وغيره فإصلاح من اغتر بما حكي عن أهل العربية، والحق أحق أن يتبع‏.‏

وقال بعض من أدركناه وهو أبو جعفر الغرناطي نزيل حلب في حاشية نسخته من البخاري‏:‏ استرسل جماعة من القدماء في هذا الإشكال إلى أن جعلوا المخلص منه أن اتهموا الأثبات بالتصحيف فقالوا‏:‏ والصواب ‏"‏ لاها الله ذا ‏"‏ باسم الإشارة‏.‏

قال‏:‏ ويا عجب من قوم يقبلون التشكيك على الروايات الثابتة ويطلبون لها تأويلا‏.‏

جوابهم أن ها الله لا يستلزم اسم الإشارة كما قال ابن مالك، وأما جعل، ‏"‏ لا يعمد ‏"‏ جواب فأرضه فهو سبب الغلط، وليس بصحيح ممن زعمه، وإنما هو جواب شرط مقدر يدل عليه صدق فأرضه، فكأن أبا بكر قال‏:‏ إذا صدق في أنه صاحب السلب إذا لا يعمد إلى السلب فيعطيك حقه، فالجزاء على هذا صحيح لأن صدقه سبب أن لا يفعل ذلك‏.‏

قال‏:‏ وهذأ واضح لا تكلف فيه انتهى‏.‏

وهو توجيه حسن‏.‏

والذي قبله أقعد‏.‏

ويؤيد ما رجحه من الاعتماد على ما ثبتت به الرواية كثرة وقوع هذه الجملة في كثير من الأحاديث، منها ما وقع في حديث عائشة في قصة بريرة لما ذكرت أن أهلها يشترطون الولاء قالت‏:‏ فانتهرتها فقلت‏:‏ ‏"‏ لاها الله إذا ‏"‏ ومنها ما وقع في قصة جليبيب بالجيم والموحدتين مصغرا ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عليه امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال‏:‏ حتى أستأمر أمها، قال‏:‏ فنعم إذا‏.‏

قال فذهب إلى امرأته فذكر لها فقالت‏:‏ لاها الله إذا، وقد منعناها فلانا ‏"‏ الحديث، صححه ابن حبان من حديث أنس‏.‏

ومنها ما أخرجه أحمد في ‏"‏ الزهد ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ قال مالك بن دينار للحسن‏:‏ يا أبا سعيد لو لبست مثل عباءتي هذه، قال‏:‏ لاها الله إذا ألبس مثل عباءتك هذه ‏"‏ وفي ‏"‏ تهذيب الكمال ‏"‏ في ترجمة ابن أبي عتيق ‏"‏ أنه دخل على عائشة في مرضها فقال‏:‏ كيف أصبحت جعلني الله فداك‏؟‏ قالت‏:‏ أصبحت ذاهبة‏.‏

قال‏:‏ فلا إذا‏.‏

وكان فيه دعابة ‏"‏ ووقع في كثير من الأحاديث في سياق الإثبات بقسم وبغير قسم، فمن ذلك في قصة جليبيب، ومنها حديث عائشة في قصة صفية لما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أحابستنا هي‏؟‏ وقال إنها طافت بعدما أفاضت فقال‏:‏ فلتنفر إذا ‏"‏ وفي رواية ‏"‏ فلا إذا ‏"‏ ومنها حديث عمرو بن العاص وغيره في سؤاله عن أحب الناس ‏"‏ فقال‏:‏ عائشة‏.‏

فقال‏:‏ لم أعن النساء‏؟‏ قال‏:‏ فأبوها إذا ‏"‏ ومنها حديث ابن عباس في قصة الأعرابي الذي أصابته الحمى فقال‏:‏ ‏"‏ بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور‏.‏

قال‏:‏ فنعم إذا ‏"‏ ومنها ما أخرجه الفاكهي من طريق سفيان قال‏:‏ ‏"‏ لقيت ليطة بن الفرزدق فقلت‏:‏ أسمعت هذا الحديث من أبيك‏؟‏ قال‏:‏ أي ها الله إذا، سمعت أبي يقوله ‏"‏ فذكر القصة‏.‏

ومنها ما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج قال‏:‏ ‏"‏ قلت لعطاء أرأيت لو أني فرغت من صلاتي فلم أرض كمالها، أفلا أعود لها‏؟‏ قال‏:‏ بلى ها الله إذا ‏"‏ والذي يظهر من تقدير الكلام بعد أن تقرر أن ‏"‏ إذا ‏"‏ حرف جواب وجزاء أنه كأنه قال‏:‏ إذا والله أقول لك نعم، وكذا في النفي كأنه أجابه بقوله‏:‏ إذا والله لا نعطيك، إذا والله لا أشترط، إذا والله لا ألبس، وأخر حرف الجواب في الأمثلة كلها‏.‏

وقد قال ابن جريج في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏أم لهم نصيب من الملك، فإذا لا يؤتون الناس نقيرا‏)‏ ‏:‏ فلا يؤتون الناس إذا، وجعل ذلك جوابا عن عدم النصيب بها، مع أن الفعل مستقبل وذكر أبو موسى المديني في ‏"‏ المغيث ‏"‏ له في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا‏)‏ إذا قيل هو اسم بمعنى الحروف الناصبة وقيل أصله إذا الذي هو من ظروف الزمان وإنما نون للفرق ومعناه حينئذ أي إن أخرجوك من مكة، فحينئذ لا يلبثون خلفك إلا قليلا‏.‏

وإذا تقرر ذلك أمكن حمل ما ورد من هذه الأحاديث عليه فيكون التقدير‏:‏ لا والله حينئذ‏.‏

ثم أراد بيان السبب في ذلك فقال‏:‏ لا يعمد إلخ والله أعلم‏.‏

وإنما أطلت في هذا الموضع لأنني منذ طلبت الحديث ووقفت على كلام الخطابي وقعت عندي منه نفرة للإقدام على تخطئة الروايات الثابتة، خصوصا ما في الصحيحين، فما زلت أتطلب المخلص من ذلك إلى أن ظفرت بما ذكرته، فرأيت إثباته كله هنا، والله الموفق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يعمد إلخ‏)‏ أي لا يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل كأنه أسد في الشجاعة يقاتل عن دين الله ورسوله فيأخذ حقه ويعطيكه بغير طيبة من نفسه، هكذا ضبط للأكثر بالتحتانية فيه وفي يعطيك، وضبطه النووي بالنون فيهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيعطيك سلبه‏)‏ أي سلب قتيله فأضافه إليه باعتبار أنه ملكه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في حديث أنس أن الذي خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عمر أخرجه أحمد من طريق حماد بن سلمة عن إسحاق بن أبي طلحة عنه ولفظه ‏"‏ إن هوازن جاءت يوم حنين ‏"‏ فذكر القصة قال‏:‏ ‏"‏ فهزم الله المشركين، فلم يضرب بسيف ولم يطعن برمح‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ‏:‏ من قتل كافرا فله سلبه، فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين راجلا وأخذ أسلابهم‏.‏

وقال أبو قتادة‏:‏ إني ضربت رجلا على حبل العاتق وعليه درع فأعجلت عنه، فقام رجل فقال‏:‏ أخذتها فأرضه منها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل شيئا إلا أعطاه أو سكت، فسكت‏.‏

فقال عمر‏.‏

والله لا يفيئها الله على أسد من أسده ويعطيكها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ صدق عمر ‏"‏ وهذا الإسناد قد أخرج به مسلم بعض هذا الحديث وكذلك أبو داود، لكن الراجح أن الذي قال ذلك أبو بكر كما رواه أبو قتادة وهو صاحب القصة فهو أتقن لما وقع فيها من غيره‏.‏

ويحتمل الجمع بأن يكون عمر أيضا قال ذلك تقوية لقول أبي بكر‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صدق‏)‏ أي القائل‏:‏ ‏(‏فأعطه‏)‏ بصيغة الأمر للذي اعترف بأن السلب عنده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فابتعت به‏)‏ ذكر الواقدي أن الذي اشتراه منه حاطب بن أبي بلتعة وأن الثمن كان سبع أواقي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مخرفا‏)‏ بفتح الميم والراء ويجوز كسر الراء أي بستانا، سمي بذلك لأنه يخترف منه التمر أي يجتنى، وأما بكسر الميم فهو اسم الآلة التي يخترف بها، وفي الرواية التي بعدها ‏"‏ خرافا ‏"‏ وهو بكسر أوله وهو التمر الذي يخترف أي يجتنى، وأطلقه على البستان مجازا فكأنه قال‏:‏ بستان خراف‏.‏

وذكر الواقدي أن البستان المذكور كان يقال له الوديين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في بني سلمة‏)‏ بكسر اللام هم بطن من الأنصار وهم قوم أبي قتادة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تأثلته‏)‏ بمثناة ثم مثلثة أي أصلته، وأثلة كل شيء أصله‏.‏

وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ أول مال اعتقدته ‏"‏ أي جعلته عقدة، والأصل فيه من العقد لأن من ملك شيئا عقد عليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال الليث حدثني يحيى بن سعيد‏)‏ هو الأنصاري شيخ مالك فيه، وروايته هذه وصلها المصنف في الأحكام عن قتيبة عنه لكن باختصار وقال فيه‏:‏ ‏"‏ عن يحيى ‏"‏ لم يقل حدثني، وذكر في آخره كلمة قال فيها‏:‏ ‏"‏ قال لي عبد الله حدثنا الليث ‏"‏ يعني بالإسناد المذكور، وعبد الله هو ابن صالح كاتب الليث، وأكثر ما يعلقه البخاري عن الليث ما أخذه عن عبد الله بن صالح المذكور، وقد أشبع القول في ذلك في المقدمة، وقد وصل الإسماعيلي هذا الحديث من طريق حجاج بن محمد عن الليث قال‏:‏ ‏"‏ حدثني يحيى بن سعيد ‏"‏ وذكره بتمامه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تخوفت‏)‏ حذف المفعول والتقدير الهلاك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم برك‏)‏ كذا للأكثر بالموحدة‏.‏

ولبعضهم بالمثناة أي تركني‏.‏

وفي رواية الإسماعيلي ‏"‏ ثم نزف ‏"‏ بضم النون وكسر الزاي بعدها فاء ويؤيده قوله بعدها ‏"‏ فتحلل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سلاح هذا القتيل الذي يذكر‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ الذي ذكره ‏"‏ وتبين بهذه الرواية أن سلبه كان سلاحا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصيبغ‏)‏ بمهملة ثم معجمة عند القابسي، وبمعجمة ثم مهملة عند أبي ذر‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ وصفه بالضعف والمهانة، والأصيبغ نوع من الطير، أو شبهه بنبات ضعيف يقال له الصبغاء إذا طلع من الأرض يكون أول ما يلي الشمس منه أصفر ذكر ذلك الخطابي، وعلى هذا رواية القابسي، وعلى الثاني تصغير الضبع على غير قياس، كأنه لما عظم أبا قتادة بأنه أسد صغر خصمه وشبهه بالضبع لضعف افتراسه وما يوصف به من العجز‏.‏

وقال ابن مالك‏:‏ أضيبع بمعجمة وعين مهملة تصغير أضبع ويكنى به عن الضعيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويدع‏)‏ أي يترك وهو بالرفع ويجوز للنصب والجر‏.‏