فصل: بقية كِتَاب الْمَغَازِي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*1*المجلد الثامن

*2*بقية كِتَاب الْمَغَازِي

*3*باب غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب غزوة الفتح في رمضان‏)‏ أي كانت في رمضان سنة ثمان من الهجرة، وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الصيام في الكلام على حديث ابن عباس المذكور في هذا الباب، وقد تقدم هناك أنهم خرجوا من المدينة لعشر مضين من رمضان، وزاد ابن إسحاق عن الزهري بهذا الإسناد أنه صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة أبا رهم الغفاري‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا غَزْوَةَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ قَالَ وَسَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكَدِيدَ الْمَاءَ الَّذِي بَيْنَ قُدَيْدٍ وَعُسْفَانَ أَفْطَرَ فَلَمْ يَزَلْ مُفْطِرًا حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ وسمعت ابن المسيب يقول مثل ذلك‏)‏ قائل ذلك هو الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن عبيد الله بن عبد الله‏)‏ هو موصول بالإسناد المذكور، وقد تقدم بيان ذلك أيضا في الصيام‏.‏

وبين البيهقي من طريق عاصم بن علي عن الليث ما حذفه البخاري منه فإنه ساقه إلى قوله‏:‏ ‏"‏ وسمعت سعيد بن المسيب يقول مثل ذلك ‏"‏ وزاد ‏"‏ لا أدري أخرج في شعبان فاستقبله رمضان، أو خرج في رمضان بعدما دخل، غير أن عبيد الله بن عبد الله أخبرني ‏"‏ فذكر ما ذكره البخاري، فحذف البخاري منه التردد المذكور‏.‏

ثم أخرج البيهقي من طريق ابن أبي حفصة عن الزهري بهذا الإسناد قال‏:‏ ‏"‏ صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان ‏"‏ ثم ساقه من طريق معمر عن الزهري وبين أن هذا القدر من قول الزهري وأن ابن أبي حفصة أدرجه، وكذا أخرجه يونس عن الزهري، وروى أحمد بإسناد صحيح من طريق قزعة بن يحيى عن أبي سعيد قال‏:‏ ‏"‏ خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان ‏"‏ وهذا يدفع التردد الماضي ويعين يوم الخروج، وقول الزهري يعين يوم الدخول ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوما‏.‏

وأما ما قال الواقدي إنه خرج لعشر خلون من رمضان فليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه، وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخرى‏:‏ منها عند مسلم ‏"‏ لست عشرة ‏"‏ ولأحمد ‏"‏ لثماني عشرة ‏"‏ وفي أخرى ‏"‏ لثنتي عشرة ‏"‏ والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى والأخرى على ما بقي، والذي في المغازي‏:‏ دخل لتسع عشرة مضت، وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر‏.‏

ووقع في أخرى بالشك في تسع عشرة أو سبع عشرة‏.‏

وروى يعقوب بن سفيان من رواية ابن إسحاق عن جماعة من مشايخه أن الفتح كان في عشر بقين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط، قبل أن يدخل العشر الأخير‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي رَمَضَانَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ فَسَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ يَصُومُ وَيَصُومُونَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ وَهُوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ أَفْطَرَ وَأَفْطَرُوا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآخِرُ فَالْآخِرُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ومعه عشرة آلاف‏)‏ أي من سائر القبائل‏.‏

وفي مرسل عروة عند ابن إسحاق وابن عائذ ‏"‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار وأسلم وغفار ومزينة وجهينة وسليم ‏"‏ وكذا وقع في ‏"‏ الإكليل ‏"‏ و ‏"‏ شرف المصطفى ‏"‏ ويجمع بينهما بأن العشرة آلاف خرج بها من المدينة ثم تلاحق بها الألفان‏.‏

وسيأتي تفصيل ذلك في مرسل عروة الذي بعد هذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة‏)‏ هكذا وقع في رواية معمر، وهو وهم، والصواب على رأس سبع سنين ونصف، وإنما وقع الوهم من كون غزوة الفتح كانت في سنة ثمان، ومن أثناء ربيع الأول إلى أثناء رمضان نصف سنة سواء، فالتحرير أنها سبع سنين ونصف ويمكن توجيه رواية معمر بأنه بناء على التاريخ بأول السنة من المحرم، فإذا دخل من السنة الثانية شهران أو ثلاثة أطلق عليها سنة مجازا من تسمية البعض باسم الكل، ويقع ذلك في آخر ربيع الأول، ومن ثم إلى رمضان نصف سنة‏.‏

أو يقال كان آخر شعبان تلك السنة آخر سبع سنين ونصف من أول ربيع الأول، فلما دخل رمضان دخل سنة أخرى‏.‏

وأول السنة يصدق عليه أنه رأسها فيصح أنه رأس ثمان سنين ونصف، أو أن رأس الثمان كان أول ربيع الأول وما بعده نصف سنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يصوم ويصومون‏)‏ تقدم شرحه في كتاب الصيام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ إِلَى حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فَصَائِمٌ وَمُفْطِرٌ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَاءٍ فَوَضَعَهُ عَلَى رَاحَتِهِ أَوْ عَلَى رَاحِلَتِهِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ الْمُفْطِرُونَ لِلصُّوَّامِ أَفْطِرُوا وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏خالد‏)‏ هو الحذاء ‏(‏عن عكرمة عن ابن عباس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان إلى حنين‏)‏ استشكله الإسماعيلي بأن حنينا كانت بعد الفتح فيحتاج إلى تأمل، فإنه ذكر قبل ذلك أنه خرج من المدينة إلى مكة، وكذا حكى ابن التين عن الداودي أنه قال‏:‏ الصواب أنه خرج إلى مكة، أو كانت ‏"‏ خيبر ‏"‏ فتصحفت‏.‏

قلت‏:‏ وحمله على خيبر مردود، فإن الخروج إليها لم يكن في رمضان، وتأويله ظاهر فإن المراد بقوله‏:‏ ‏"‏ إلى حنين ‏"‏ أي التي وقعت عقب الفتح لأنها لما وقعت أثرها أطلق الخروج إليها‏.‏

وقد وقع نظير ذلك في حديث أبي هريرة الآتي قريبا‏.‏

وبهذا جمع المحب الطبري‏.‏

وقال غيره‏:‏ يجوز أن يكون خرج إلى حنين في بقية رمضان قاله ابن التين‏.‏

ويعكر عليه أنه خرج من المدينة في عاشر رمضان فقدم مكة وسطه وأقام بها تسعة عشر كما سيأتي‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الذي جزم به معترض، فإن ابتداء خروجه مختلف فيه كما مضى في آخر الغزوة من حديث ابن عباس، فيكون الخروج إلى حنين في شوال‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دعا بإناء من لبن أو ماء‏)‏ في رواية طاوس عن ابن عباس آخر الباب ‏"‏ دعا بإناء من ماء فشرب نهارا ‏"‏ الحديث‏.‏

قال الداودي‏:‏ يحتمل أن يكون دعا بهذا مرة وبهذا مرة‏.‏

قلت‏:‏ لا دليل على التعدد، فإن الحديث واحد والقصة واحدة، وإنما وقع الشك من الراوي فقدم عليه رواية من جزم، وأبعد ابن التين فقال‏:‏ كانت قصتان إحداهما في الفتح والأخرى في حنين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال المفطرون للصوم أفطروا‏)‏ كذا لأبي ذر ولغيره ‏"‏ للصوام ‏"‏ بألف وكلاهما جمع صائم‏.‏

وفي رواية الطبري في تهذيبه ‏"‏ فقال المفطرون للصوام أفطروا يا عصاة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر‏)‏ وصله أحمد بن حنبل عنه وبقيته ‏"‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان فصام حتى مر بغدير في الطريق ‏"‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس‏)‏ كذا وقع في بعض نسخ أبي ذر، وللأكثر ليس فيه ابن عباس، وبه جزم الدار قطني وأبو نعيم في المستخرج، وكذلك وصله البيهقي من طريق سليمان بن حرب وهو أحد مشايخ البخاري عن حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة، فذكر الحديث بطوله في فتح مكة‏.‏

قال البيهقي في آخر الكلام عليه‏:‏ لم يجاوز به أيوب عكرمة‏.‏

قلت‏:‏ وقد أشرت إليه قبله، وأن ابن أبي شيبة أخرجه هكذا مرسلا عن سليمان بن حرب به بطوله، وسأذكر ما فيه من فائدة في أثناء الكلام على شرح هذه الغزوة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَ نَهَارًا لِيُرِيَهُ النَّاسَ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ

الشرح‏:‏

طريق طاوس عن ابن عباس قد تقدم الكلام عليها في كتاب الصيام أيضا‏.‏

*3*باب أَيْنَ رَكَزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح‏)‏ أي بيان المكان الذي ركزت فيه راية النبي صلى الله عليه وسلم بأمره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ فَإِذَا هُمْ بِنِيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَا هَذِهِ لَكَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ فَقَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ نِيرَانُ بَنِي عَمْرٍو فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا سَارَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ حَطْمِ الْخَيْلِ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ فَجَعَلَتْ الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ قَالَ يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ قَالَ هَذِهِ غِفَارُ قَالَ مَا لِي وَلِغِفَارَ ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ وَمَرَّتْ سُلَيْمُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَالَ مَنْ هَذِهِ قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَهُ الرَّايَةُ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَرَايَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ مَا قَالَ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ كَذَبَ سَعْدٌ وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ قَالَ وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالْحَجُونِ قَالَ عُرْوَةُ وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَا هُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ قَالَ وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُدَا فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ رَجُلَانِ حُبَيْشُ بْنُ الْأَشْعَرِ وَكُرْزُ بْنُ جابِرٍ الْفِهْرِيُّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن هشام‏)‏ هو ابن عروة ‏(‏عن أبيه قال‏:‏ لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح‏)‏ هكذا أورده مرسلا، ولم أره في شيء من الطرق عن عروة موصولا، ومقصود البخاري منه ما ترجم به وهو آخر الحديث، فإنه موصول عن عروة عن نافع بن جبير بن مطعم عن العباس بن عبد المطلب والزبير بن العوام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فبلغ ذلك قريشا‏)‏ ظاهره أنهم بلغهم مسيره قبل خروج أبي سفيان وحكيم بن حزام، والذي عند ابن إسحاق وعند ابن عائذ من مغازي عروة‏:‏ ثم خرجوا وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران ولم تعلم بهم قريش‏.‏

وكذا في رواية أبي سلمة عند ابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالطرق فحبست، ثم خرج، فغم على أهل مكة الأمر، فقال أبو سفيان لحكيم بن حزام‏:‏ هل لك أن تركب إلى أمر لعلنا أن نلقى خبرا‏؟‏ فقال له بديل بن ورقاء‏:‏ وأنا معكم، قالا‏:‏ وأنت إن شئت فركبوا‏.‏

وفي رواية ابن عائذ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏"‏ لم يغز رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا حتى بعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى ثلاث‏:‏ أن يودوا قتيل خزاعة، وبين أن يبرءوا من حلف بكر، أو ينبذ إليهم على سواء‏.‏

فأتاهم ضمرة فخيرهم، فقال قرظة بن عمرو‏:‏ لا نودي ولا نبرأ، ولكنا ننبذ إليه على سواء‏.‏

فانصرف ضمرة بذلك‏.‏

فأرسلت قريش أبا سفيان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تجديد العهد ‏"‏ وكذلك أخرجه مسدد من مرسل محمد بن عباد بن جعفر، فأنكره الواقدي وزعم أن أبا سفيان إنما توجه مبادرا قبل أن يبلغ المسلمين الخبر، والله أعلم‏.‏

وفي مرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة ونحوه في مغازي عروة عند ابن إسحاق وابن عائذ ‏"‏ فخافت قريش، فانطلق أبو سفيان إلى المدينة فقال لأبي بكر‏:‏ جدد لنا الحلف، قال‏:‏ ليس الأمر إلي‏.‏

ثم أتى عمر فأغلظ له عمر‏.‏

ثم أتى فاطمة فقالت له‏:‏ ليس الأمر إلي‏.‏

فأتى عليا فقال‏:‏ ليس الأمر إلي‏.‏

فقال‏:‏ ما رأيت كاليوم رجل أضل - أي من أبي سفيان - أنت كبير الناس، فجدد الحلف‏.‏

قال‏:‏ فضرب إحدى يديه على الأخرى وقال‏:‏ قد أجرت بين الناس‏.‏

ورجع إلى مكة فقالوا له‏:‏ ما جئتنا بحرب فنحذر، ولا بصلح فنأمن ‏"‏ لفظ عكرمة وفي رواية عروة ‏"‏ فقالوا له‏:‏ لعب بك علي وإن إخفار جوارك لهين عليهم ‏"‏ فيحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏"‏ بلغ قريشا ‏"‏ أي غلب على ظنهم ذلك لا أن مبلغا بلغهم ذلك حقيقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خرجوا يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية ابن عائذ ‏"‏ فبعثوا أبا سفيان وحكيم بن حزام فلقيا بديل بن ورقاء فاستصحباه فخرج معهما‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى أتوا مر الظهران‏)‏ بفتح الميم وتشديد الراء مكان معروف، والعامة تقوله بسكون الراء وزيادة واو، والظهران بفتح المعجمة وسكون الهاء بلفظ تثنية ظهر، وفي مرسل أبي سلمة ‏"‏ حتى إذا دنوا من ثنية مر الظهران أظلموا - أي دخلوا في الليل - فأشرفوا على الثنية، فإذا النيران قد أخذت الوادي كله ‏"‏ وعند ابن إسحاق ‏"‏ أن المسلمين أوقدوا تلك الليلة عشرة آلاف نار‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال أبو سفيان ما هذه‏)‏ أي النيران ‏(‏لكأنها‏)‏ جواب قسم محذوف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏نيران عرفة‏)‏ إشارة إلى ما جرت به عادتهم من إيقاد النيران الكثيرة ليلة عرفة، وعند ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه في تلك الليلة فأوقدوا عشرة آلاف نار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال بديل بن ورقاء‏:‏ هذه نيران بني عمرو‏)‏ يعني خزاعة، وعمرو يعني ابن لحي الذي تقدم ذكره مع نسب خزاعة في أول المناقب ‏(‏فقال أبو سفيان‏:‏ عمرو أقل من ذلك‏)‏ ومثل هذا في مرسل أبي سلمة، وفي مغازي عروة عند ابن عائذ عكس ذلك وأنهم لما رأوا الفساطيط وسمعوا صهيل الخيل فراعهم ذلك فقالوا‏:‏ هؤلاء بنو كعب - يعني خزاعة، وكعب أكبر بطون خزاعة - جاشت بهم الحرب‏.‏

فقال بديل‏:‏ هؤلاء أكثر من بني كعب ما بلغ تأليبها هذا‏.‏

قالوا‏:‏ فانتجعت هوازن أرضنا، والله ما نعرف هذا أنه هذا المثل صاح الناس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم‏)‏ في رواية ابن عائذ ‏"‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بين يديه خيلا تقبض العيون، وخزاعة على الطريق لا يتركون أحدا يمضي، فلما دخل أبو سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل تحت الليل ‏"‏ وفي مرسل أبي سلمة ‏"‏ وكان حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرا من الأنصار، وكان عمر بن الخطاب عليهم تلك الليلة فجاءوا بهم إليه فقالوا‏:‏ جئناك بنفر أخذناهم من أهل مكة، فقال عمر‏:‏ والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم، قالوا قد أتيناك بأبي سفيان ‏"‏ وعند ابن إسحاق ‏"‏ أن العباس خرج ليلا فلقي أبا سفيان وبديلا، فحمل أبا سفيان معه على البغلة ورجع صاحباه ‏"‏ ويمكن الجمع بأن الحرس لما أخذوهم استنقذ العباس أبا سفيان‏.‏

وفي رواية ابن إسحاق ‏"‏ فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قال العباس‏:‏ والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش، قال‏:‏ فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جئت الأراك فقلت‏:‏ لعلي أجد بعض الحطابة أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، قال‏:‏ فعرفت صوته فقلت‏:‏ يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال‏:‏ أبا الفضل‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ما الحيلة‏؟‏ قلت‏:‏ فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، قال‏:‏ فركب خلفي ورجع صاحباه ‏"‏ وهذا مخالف للرواية السابقة أنهم أخذوهم، ولكن عند ابن عائذ ‏"‏ فدخل بديل وحكيم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما ‏"‏ فيحمل قوله‏:‏ ‏"‏ ورجع صاحباه ‏"‏ أي بعد أن أسلما، واستمر أبو سفيان عند العباس لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يحبسه حتى يرى العساكر‏.‏

ويحتمل أن يكونا رجعا لما التقى العباس بأبي سفيان فأخذهما العسكر أيضا‏.‏

وفي مغازي موسى بن عقبة ما يؤيد ذلك، وفيه ‏"‏ فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم بديل وحكيم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح ‏"‏ ويجمع بين ما عند ابن إسحاق ومرسل أبي سلمة بأن الحرس أخذوهم، فلما رأوا أبا سفيان مع العباس تركوه معه‏.‏

وفي رواية عكرمة ‏"‏ فذهب به العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له، فقال‏:‏ يا أبا سفيان أسلم تسلم، قال كيف أصنع باللات والعزى‏؟‏ قال‏:‏ فسمعه عمر فقال‏:‏ لو كنت خارجا من القبة ما قلتها أبدا، فأسلم أبو سفيان، فذهب به العباس إلى منزله، فلما أصبح ورأى مبادرة الناس إلى الصلاة أسلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏احبس أبا سفيان‏)‏ في رواية موسى بن عقبة أن العباس قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا آمن أن يرجع أبو سفيان فيكفر، فاحبسه حتى تريه جنود الله، ففعل، فقال أبو سفيان‏:‏ أغدرا يا بني هاشم‏؟‏ قال العباس‏:‏ لا ولكن لي إليك حاجة فتصبح فتنظر جنود الله للمشركين وما أعد الله للمشركين، فحبسه بالمضيق دون الأراك حتى أصبحوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عند خطم الجبل‏)‏ في رواية النسفي والقابسي بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة وبالجيم والموحدة أي أنف الجبل، وهي رواية ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي‏.‏

وفي رواية الأكثر بفتح المهملة من اللفظة الأولى وبالخاء المعجمة وسكون التحتانية أي ازدحامها، وإنما حبسه هناك لكونه مضيقا ليرى الجميع ولا يفوته رؤية أحد منهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعلت القبائل تمر‏)‏ في رواية موسى بن عقبة ‏"‏ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي‏:‏ لتظهر كـل قبيلة ما معها من الأداة والعدة، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم الكتائب فمرت كتيبة فقال أبو سفيان‏:‏ يا عباس أفي هذه محمد‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ فمن هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ قضاعة‏.‏

ثم مرت القبائل فرأى أمرا عظيما أرعبه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كتيبة كتيبة‏)‏ بمثناة وزن عظيمة، وهي القطعة من الجيش، فعيلة من الكتب بفتح ثم سكون وهو الجمع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما لي ولغفار‏.‏

ثم مرت جهينة قال مثل ذلك‏)‏ وفي مرسل أبي سلمة ‏"‏ مرت جهينة فقال‏:‏ أي عباس من هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ هذه جهينة‏.‏

قال‏:‏ مالي ولجهينة، والله ما كان بيني وبينهم حرب قط ‏"‏ والمذكور في مرسل عروة هذا من القبائل غفار وجهينة وسعد بن هذيم وسليم، وفي مرسل أبي سلمة من الزيادة أسلم ومزينة، ولم يذكر سعد بن هذيم وهم من قضاعة، وقد ذكر قضاعة عند موسى بن عقبة وسعد بن هذيم المعروف فيها سعد هذيم بالإضافة، ويصح الآخر على المجاز وهـو سعد بن زيد بن ليث بن سود بضم المهملة ابن أسلم بضم اللام ابن الحاف بمهملة وفاء ابن قضاعة‏.‏

وفي سعد هذيم طوائف من العرب، منهم بنو ضنة بكسر المعجمة ثم نون وبنو عذرة وهي قبيلة كبيرة مشهورة، وهذيم الذي نسب إليه سعد عبد كان رباه فنسب إليه‏.‏

وذكر الواقدي في القبائل أيضا أشجع وأسلم وتميما وفزارة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏معه الراية‏)‏ أي راية الأنصار، وكانت راية المهاجرين مع الزبير كما سيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال سعد بن عبادة‏:‏ يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة‏)‏ بالحاء المهملة أي يوم حرب لا يوجد منه مخلص، أي يوم قتل، يقال لحم فلان فلانا إذا قتله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏اليوم تستحل الكعبة‏.‏

فقال أبو سفيان‏:‏ يا عباس حبذا يوم الذمار‏)‏ وكذا وقع في هذا الموضع مختصرا، ومراد سعد بقوله يوم الملحمة يوم المقتلة العظمى، ومراد أبي سفيان بقوله يوم الذمار وهو بكسر المعجمة وتخفيف الميم أي الهلاك، قال الخطابي‏:‏ تمنى أبو سفيان أن يكون له يد فيحمي قومه ويدفع عنهم‏.‏

وقيل المراد هذا يوم الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل المراد هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي من أن ينالني مكروه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال‏:‏ اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين فقال‏:‏ يا رسول الله ما آمن أن يكون لسعد في قريش صولة‏.‏

فقال لعلي‏:‏ أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ الرجل المذكور هو عمر‏.‏

قلت‏:‏ وفيه بعد، لأن عمر كان معروفا بشدة البأس عليهم‏.‏

وقد روى الأموي في المغازي أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما حاذاه‏:‏ أمرت بقتل قومك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

فذكر له ما قاله سعد بن عبادة، ثم ناشده الله والرحم، فقال‏:‏ يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشا‏.‏

وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس‏.‏

وعند ابن عساكر من طريق أبي الزبير عن جابر قال‏:‏ لما قال سعد بن عبادة ذلك عارضت امرأة من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا نبي الهدى إليك لجاحي قريش ولات حين لجاء حين ضاقت عليهم سعة الأرض وعاداهم إله السماء إن سعدا يريد قاصمة الظهر بأهل الحجون والبطحاء فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة لهم ورحمة، فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس‏.‏

وعند أبي يعلى من حديث الزبير ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها إليه، فدخل مكة بلواءين ‏"‏ وإسناده ضعيف جدا، لكن جزم موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري أنه دفعها إلى الزبير بن العوام فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التي نزعت من سعد‏.‏

والذي يظهر في الجمع أن عليا أرسل بنزعها، وأن يدخل بها، ثم خشي تغير خاطر سعد فأمر بدفعها لابنه قيس، ثم إن سعدا خشي أن يقع من ابنه شيء ينكره النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير‏.‏

وهذه القصة الأخيرة قد ذكرها البزار من حديث أنس بإسناد على شرط البخاري ولفظه ‏"‏ كان قيس في مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، فكلم سعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرفه عن الموضع الذي فيه مخافة أن يقدم على شيء، فصرفه عن ذلك ‏"‏ والشعر الذي أنشدته المرأة ذكر الواقدي أنه لضرار بن الخطاب الفهري، وكأنه أرسل به المرأة ليكون أبلغ في المعاطفة عليهم، وسيأتي في حديث الباب أن أبا سفيان شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما قال سعد فقال‏:‏ ‏"‏ كذب سعد ‏"‏ أي أخطأ‏.‏

وذكر الأموي في المغازي أن سعد بن عبادة لما قال‏:‏ ‏"‏ اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا، فحاذى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان لما مر به فناداه‏:‏ يا رسول الله أمرت بقتل قومك - وذكر له قول سعد بن عبادة - ثم قال له‏:‏ أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس وأوصلهم، فقال‏:‏ يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله فيه قريشا‏.‏

فأرسل إلى سعد فأخذ اللواء من يده فجعله في يد ابنه قيس‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب‏)‏ أي أقلها عددا، قال عياض‏:‏ وقع للجميع بالقاف، ووقع في الجمع للحميدي ‏"‏ أجل ‏"‏ بالجيم وهي أظهر، ولا يبعد صحة الأولى لأن عدد المهاجرين كان أقل من عدد غيرهم من القبائل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال‏:‏ ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة‏)‏ لم يكتف أبو سفيان بما دار بينه وبين العباس حتى شكا للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال كذب سعد‏)‏ فيه إطلاق الكذب على الإخبار بغير ما سيقع ولو كان قائله بناه على غلبة ظنه وقوة القرينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يوم يعظم فيه الكعبة‏)‏ يشير إلى ما وقع من إظهار الإسلام وأذان بلال على ظهرها وغير ذلك مما أزيل عنها مما كان فيها من الأصنام ومحو ما فيها من الصور وغير ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويوم تكسى فيه الكعبة‏)‏ قيل إن قريشا كانوا يكسون الكعبة في رمضان فصادف ذلك اليوم، أو المراد باليوم الزمان كما قال يوم الفتح، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه هو الذي يكسوها في ذلك العام، ووقع ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون‏)‏ بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة هو مكان معروف بالقرب من مقبرة مكة‏.‏

‏(‏قال عروة‏:‏ فأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال‏:‏ سمعت العباس يقول للزبير بن العوام‏:‏ يا أبا عبد الله، هاهنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية‏)‏ وهذا السياق يوهم أن نافعا حضر المقالة المذكورة يوم فتح مكة، وليس كذلك فإنه لا صحبة له، ولكنه محمول عندي على أنه سمع العباس يقول للزبير ذلك بعد ذلك في حجة اجتمعوا فيها إما في خلافة عمر أو في خلافة عثمان، ويحتمل أن يكون التقدير‏:‏ سمعت العباس يقول قلت للزبير إلخ فحذفت ‏"‏ قلت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ القائل ذلك هو عروة وهو من بقية الخبر، وهو ظاهر الإرسال في الجميع إلا في القدر الذي صرح عروة بسماعه له من نافع بن جبير، وأما باقيه فيحتمل أن يكون عروة تلقاه عن أبيه، أو عن العباس فإنه أدركه وهو صغير، أو جمعه من نقل جماعة له بأسانيد مختلفة وهو الراجح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأمر النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء‏)‏ أي بالمد؛ ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدا أي بالقصر، وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها، وكذا جزم ابن إسحاق أن خالدا دخل من أسفل ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها وضربت له هناك قبة، وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا فقال‏:‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وعند البيهقي بإسناد حسن من حديث ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر فقال‏:‏ يا أبا بكر كيف قال حسان‏؟‏ فأنشده قوله‏:‏ عدمت بنيتي إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء ينازعن الأسنة مسرجات يلطمهن بالخمر النساء فقال‏:‏ ‏"‏ أدخلوها من حيث قال حسان‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقتل من خيل خالد بن الوليد رضي الله عنه يومئذ رجلان‏:‏ حبيش‏)‏ بمهملة ثم موحدة ثم معجمة، وعند ابن إسحاق بمعجمة ونون ثم مهملة مصغر ‏(‏ابن الأشعر‏)‏ وهو لقب، واسمه خالد بن سعد بن منقذ بن ربيعة بن أخزم الخزاعي، وهو أخو أم معبد التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا‏.‏

وروى البغوي والطبراني وآخرون قصتها من طريق حزام بن هشام بن حبيش عن أبيه عن جده، وعن أحمد ‏"‏ حدثنا موسى بن داود حدثنا حزام بن هشام بن حبيش قال‏:‏ شهد جدي الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكرز‏)‏ بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي هو ابن جابر بن حسل بمهملتين بكسر ثم سكون ابن الأحب بمهملة مفتوحة وموحدة مشددة ابن حبيب الفهري، وكان من رؤساء المشركين، وهو الذي أغار على سرح النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الأولى، ثم أسلم قديما، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في طلب العرنيين‏.‏

وذكر ابن إسحاق أن هذين الرجلين سلكا طريقا فشذا عن عسكر خالد فقتلهما المشركون يومئذ‏.‏

وذكر ابن إسحاق أن أصحاب خالد لقوا ناسا من قريش، منهم سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية كانوا تجمعوا بالخندمة بالخاء المعجمة والنون مكان أسفل مكة ليقاتلوا المسلمين، فناوشوهم شيئا من القتال، فقتل من خيل خالد مسلمة بن الميلاء الجهني، وقتل من المشركين اثنا عشر رجلا أو ثلاثة عشر وانهزموا، وفي ذلك يقول حماس بن قيس بن خالد البكري - قال ابن هشام‏:‏ ويقال هي للرعاش الهذلي - يخاطب امرأته حين لامته على الفرار من المسلمين‏:‏ إنك لو شهدت يوم الخندمة إذ فر صفوان وفر عكرمـة واستقبلتنا بالسيوف المسلمة يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فلا يسمع إلا غمغمة لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة وعند موسى بن عقبة‏:‏ ‏"‏ واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناة وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا، فقاتلهم، فانهزموا وقتل من بني بكر نحو عشرين رجلا ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا في الدور، وارتفعت طائفة منهم على الجبال، وصاح أبو سفيان‏:‏ من أغلق بابه وكف يده فهو آمن، قال‏:‏ ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة فقال‏:‏ ما هذا وقد نهيت عن القتال‏؟‏ فقالوا‏:‏ نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتل‏.‏

ثم قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن لخالد بن الوليد‏:‏ لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال‏؟‏ فقال‏:‏ هم بدؤونا بالقتال ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت يدي ما استطعت‏.‏

فقال‏:‏ قضاء الله خير ‏"‏ وذكر ابن سعد أن عدة من أصيب من الكفار أربعة وعشرون رجلا، ومن هذيل خاصة أربعة، وقيل مجموع من قتل منهم ثلاثة عشر رجلا‏.‏

وروى الطبراني من حديث ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن الله حرم مكة ‏"‏ الحديث، فقيل له‏:‏ ‏"‏ هذا خالد بن الوليد يقتل، فقال‏:‏ قم يا فلان فقل له فليرفع القتل، فأتاه الرجل فقال له‏:‏ إن نبي الله يقول لك اقتل من قدرت عليه، فقتل سبعين ثم اعتذر الرجل إليه، فسكت ‏"‏ قال‏:‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أمراءه أن لا يقتلوا إلا من قاتلهم، غير أنه أهدر دم نفر سماهم‏.‏

وقد جمعت أسماءهم من مفرقات الأخبار وهم‏:‏ عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيد بنون وقاف مصغر، ومقيس بن صبابة بمهملة مضمومة وموحدتين الأولى خفيفة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن خطل كانتا تغنيان بهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة بني المطلب وهي التي وجد معها كتاب حاطب‏.‏

فأما ابن أبي سرح فكان أسلم ثم ارتد ثم شفع فيه عثمان يوم الفتح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحقن دمه وقبل إسلامه‏.‏

وأما عكرمة ففر إلى اليمن فتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فرجع معها بأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما الحويرث فكان شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقتله علي يوم الفتح‏.‏

وأما مقيس بن صبابة فكان أسلم ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، وكان الأنصاري قتل أخاه هشاما خطأ، فجاء مقيس فأخذ الدية ثم قتل الأنصاري ثم ارتد، فقتله نميلة بن عبد الله يوم الفتح‏.‏

وأما هبار فكان شديد الأذى للمسلمين وعرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجرت فنخس بعيرها فأسقطت، ولم يزل ذلك المرض بها حتى ماتت، فلما كان يوم الفتح بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه أعلن بالإسلام فقبل منه فعفا عنه‏.‏

وأما القينتان فاسمهما فرتني وقرينة، فاستؤمن لإحداهما فأسلمت وقتلت الأخرى‏.‏

وأما سارة فأسلمت وعاشت إلى خلافة عمر‏.‏

وقال الحميدي‏:‏ بل قتلت‏.‏

وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي قتله علي‏.‏

وذكر غير ابن إسحاق أن فرتني هي التي أسلمت وأن قرينة قتلت‏.‏

وذكر الحاكم أيضا ممن أهدر دمه كعب بن زهير وقصته مشهورة، وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح‏.‏

ووحشي بن حرب وقد تقدم شأنه في غزوة أحد‏.‏

وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان وقد أسلمت‏.‏

وأرنب مولاة ابن خطل أيضا قتلت‏.‏

وأم سعد قتلت فيما ذكر ابن إسحاق فكملت العدة ثمانية رجال وست نسوة‏.‏

ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد هما القينتان اختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب‏.‏

قلت‏:‏ وسيأتي في حديث أنس في هذا الباب ذكر ابن خطل‏.‏

وروى أحمد ومسلم والنسائي من طريق عبد الله بن رباح عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بعث على إحدى الجنبتين خالد بن الوليد وبعث الزبير على الأخرى وبعث أبا عبيدة على الحسر - بضم المهملة وتشديد السين المهملة أي الذين بغير سلاح - فقال لي‏:‏ يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار، فهتف بهم فجاءوا فأطافوا به، فقال لهم‏:‏ أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم‏؟‏ ثم قال بإحدى يديه على الأخرى‏:‏ احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان فقال‏:‏ يا رسول الله أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم‏.‏

قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أغلق بابه فهو آمن ‏"‏ وقد تمسك بهذه القصة من قال إن مكة فتحت عنوة وهو قول الأكثر، وعن الشافعي ورواية عن أحمد أنها فتحت صلحا لما وقع هذا التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها، ولأنها لم تقسم، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها‏.‏

وحجة الأولين ما وقع من التصريح من الأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه صلى الله عليه وسلم بأنها أحلت ساعة من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك‏.‏

وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها ويترك لهم دورهم وغنائمهم، لأن قسمة الأرض المغنومة ليست متفقا عليها، بل الخلاف ثابت عن الصحابة فمن بعدهم، وقد فتحت أكثر البلاد عنوة فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان مع وجود أكثر الصحابة، وقد زادت مكة عن ذلك بأمر يمكن أن يدعي اختصاصها به دون بقية البلاد، وهي أنها دار النسك ومتعبد الخلق، وقد جعلها الله تعالى حرما سواء العاكف فيه والباد‏.‏

وأما قول النووي احتج الشافعي بالأحاديث المشهورة بأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر، لأن الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع له من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ‏"‏ كما تقدم وكذا ‏"‏ من دخل المسجد ‏"‏ كما عند ابن إسحاق فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب كما ثبت في حديث أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ أن قريشا وبشت أوباشا لها وأتباعا فقالوا‏:‏ نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذين سألنا‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أترون أوباش قريش‏؟‏ ثم قال بإحدى يديه على الأخرى أي احصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا‏.‏

قال‏:‏ فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدا إلا قتلناه ‏"‏ وإن كان مراده بالصلح وقوع عقد به فهذا لم ينقل ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته‏.‏

وتمسك أيضا من قال إنه مبهم بما وقع عند ابن إسحاق في سياق قصة الفتح‏:‏ فقال العباس لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة‏.‏

ثم قال في القصة بعد قصة أبي سفيان ‏"‏ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد‏"‏‏.‏

وعند موسى بن عقبة في المغازي - وهي أصح ما صنف في ذلك عند الجماعة - ما نصه ‏"‏ أن أبا سفيان وحكيم بن حزام قالا‏:‏ يا رسول الله كنت حقيقا أن تجعل عدتك وكيدك بهوازن، فإنهم أبعد رحما وأشد عداوة، فقال‏:‏ إني لأرجو أن يجمعهما الله لي‏:‏ فتح مكة وإعزاز الإسلام بها، وهزيمة هوازن وغنيمة أموالهم‏.‏

فقال أبو سفيان وحكيم‏:‏ فادع الناس بالأمان، أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها أآمنون هم‏؟‏ قال‏:‏ من كف يده وأغلق داره فهو آمن‏.‏

قالوا‏:‏ فابعثنا نؤذن بذلك فيهم‏.‏

قال‏:‏ انطلقوا، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم فهو آمن، ودار أبي سفيان بأعلى مكة ودار حكيم بأسفلها‏.‏

فلما توجها قال العباس‏:‏ يا رسول الله إني لا آمن أبا سفيان أن يرتد؛ فرده حتى تريه جنود الله‏.‏

قال‏:‏ أفعل ‏"‏ فذكر القصة، وفي ذلك تصريح بعموم التأمين، فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة، فمن ثم قال الشافعي‏:‏ كانت مكة مأمونة ولم يكن فتحها عنوة، والأمان كالصلح‏.‏

وأما الذين تعرضوا للقتال أو الذين استثنوا من الأمان وأمر أن يقتلوا ولو تعلقوا بأستار الكعبة فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة‏.‏

ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره صلى الله عليه وسلم بالقتال وبين حديث الباب في تأمينه صلى الله عليه وسلم لهم بأن يكون التأمين علق بشرط وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك وقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه فقاتلهم حتى قتلهم وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة، لأن العبرة بالأصول لا بالأتباع وبالأكثر لا بالأقل، ولا خلاف مع ذلك أنه لم يجر فيها قسم غنيمة ولا سبي من أهلها ممن باشر القتال أحد، وهو مما يؤيد قول من قال لم يكن فتحها عنوة‏.‏

وعند أبي داود بإسناد حسن ‏"‏ عن جابر أنه سئل‏:‏ هل غنمتم يوم الفتح شيئا‏؟‏ قال‏:‏ لا ‏"‏ وجنحت طائفة - منهم الماوردي - إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد المذكورة، وقرر ذلك الحاكم في ‏"‏ الإكليل‏"‏‏.‏

والحق أن صورة فتحها كان عنوة ومعاملة أهلها معاملة من دخلت بأمان، ومنع جمع منهم السهيلي ترتب عدم قسمتها وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحا، أما أولا فلأن الإمام مخير في قسمة الأرض بين الغانمين إذا انتزعت من الكفار وبين إبقائها وقفا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور وإجارتها‏.‏

وأما ثانيا فقال بعضهم‏:‏ لا تدخل الأرض في حكم الأموال، لأن من مضى كانوا إذا غلبوا على الكفار لم يغنموا الأموال، فتنزل النار فتأكلها وتصير الأرض عموما لهم كما قال الله تعالى ‏(‏ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم‏)‏ الآية‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها‏)‏ الآية‏.‏

والمسألة مشهورة فلا نطيل بها هنا، وقد تقدم كثير من مباحث دور مكة في ‏"‏ باب توريث دور مكة ‏"‏ من كتاب الحج‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ يُرَجِّعُ وَقَالَ لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ حَوْلِي لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو الوليد‏)‏ كذا في الأصول، وزعم أنه وقع بدله سليمان بن حرب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن معاوية بن قرة‏)‏ في رواية حجاج بن منهال عن شعبة ‏"‏ أخبرنا أبو إياس ‏"‏ أخرجه في فضائل القرآن، وأبو إياس هو معاوية بن قرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو يقرأ سورة الفتح‏)‏ زاد في رواية آدم عن شعبة في فضائل القرآن ‏"‏ قراءة لينة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يرجع‏)‏ بتشديد الجيم، والترجيع ترديد القارئ الحرف في الحلق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال‏:‏ لولا أن تجتمع الناس‏)‏ القائل هو معاوية بن قرة راوي الحديث، بين ذلك مسلم بن إبراهيم في روايته لهذا الحديث عن شعبة، وهو في تفسير سورة الفتح وفي أواخر التوحيد من رواية شبابة عن شعبة في هذا الحديث نحوه وأتم منه، ولفظه ‏"‏ ثم قرأ معاوية يحكي قراءة ابن مغفل وقال‏:‏ لولا أن تجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل يحكي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقلت لمعاوية‏:‏ كيف ترجيعه‏؟‏ قال‏:‏ أأأ ثلاث مرات ‏"‏ وللحاكم في ‏"‏ الإكليل ‏"‏ من رواية وهب بن جرير عن شعبة ‏"‏ لقرأت بذلك اللحن الذي قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ زَمَنَ الْفَتْحِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ ثُمَّ قَالَ لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ قَالَ وَرِثَهُ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِهِ وَلَمْ يَقُلْ يُونُسُ حَجَّتِهِ وَلَا زَمَنَ الْفَتْحِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سليمان بن عبد الرحمن‏)‏ هو المعروف بابن بنت شرحبيل وسعدان بن يحيى هو سعيد بن يحيى بن صالح اللخمي أبو يحيى الكوفي نزيل دمشق، وسعدان لقبه، وهو صدوق‏.‏

وأشار الدار قطني إلى لينه‏.‏

وما له في البخاري سوى هذا الموضع‏.‏

وشيخه محمد بن أبي حفصة، واسم أبي حفصة ميسرة، بصري يكنى أبا سلمة، صدوق‏.‏

ضعفه النسائي‏.‏

وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الحج قرنه فيه بغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه قال زمن الفتح‏:‏ يا رسول الله أين ننزل غدا‏؟‏‏)‏ تقدم شرحه مستوفى في ‏"‏ باب توريث دور مكة ‏"‏ من كتاب الحج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قيل للزهري‏:‏ من ورث أبا طالب‏)‏ السائل عن ذلك لم أقف على اسمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ورثه عقيل وطالب‏)‏ ، تقدم في الحج من رواية يونس عن الزهري بلفظ ‏"‏ وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين‏.‏

وكان عقيل وطالب كافرين ‏"‏ انتهى‏.‏

وهذا يدل على تقدم هذا الحكم في أوائل الإسلام، لأن أبا طالب مات قبل الهجرة‏.‏

ويحتمل أن تكون الهجرة لما وقعت استولى عقيل وطالب على ما خلفه أبو طالب، وكان أبو طالب قد وضع يده على ما خلفه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان شقيقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب بعد موت جده عبد المطلب، فلما مات أبو طالب ثم وقعت الهجرة ولم يسلم طالب وتأخر إسلام عقيل استوليا على ما خلف أبو طالب، ومات طالب قبل بدر وتأخر عقيل، فلما تقرر حكم الإسلام بترك توريث المسلم من الكافر استمر ذلك بيد عقيل فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وكان عقيل قد باع تلك الدور كلها‏.‏

واختلف في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عقيلا على ما يخصه هو‏.‏

فقيل‏:‏ ترك له ذلك تفضلا عليه، وقيل استمالة له وتأليفا، وقيل تصحيحا لتصرفات الجاهلية كما تصحح أنكحتهم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏"‏ وهل ترك لنا عقيل من دار ‏"‏ إشارة إلى أنه لو تركها بغير بيع لنزل فيها، وفيه تعقب على الخطابي حيث قال‏:‏ إنما لم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم فيها لأنها دور هجروها في الله تعالى بالهجرة، فلم ير أن يرجع في شيء تركه لله تعالى‏.‏

وفي كلامه نظر لا يخفى، والأظهر ما قدمته، وأن الذي يختص بالترك إنما هو إقامة المهاجر في البلد التي هاجر منها كما تقدم تقريره في أبواب الهجرة، لا مجرد نزوله في دار يملكها إذا أقام المدة المأذون له فيها وهي أيام النسك وثلاثة أيام بعده‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال معمر عن الزهري‏)‏ أي بالإسناد المذكور ‏(‏أين ننزل غدا في حجته‏)‏ طريق معمر تقدمت موصولة في الجهاد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم يقل يونس‏)‏ أي ابن يزيد ‏(‏حجته ولا زمن الفتح‏)‏ أي سكت عن ذلك، بقي الاختلاف بين ابن أبي حفصة ومعمر، ومعمر أوثق وأتقن من محمد بن أبي حفصة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا فَتَحَ اللَّهُ الْخَيْفُ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الرحمن‏)‏ هو الأعرج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏منزلنا إن شاء الله‏)‏ هو للتبرك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا افتتح الله الخيف‏)‏ هو بالرفع وهو مبتدأ خبره منزلنا، وليس هو مفعول افتتح‏.‏

والخيف ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حيث تقاسموا‏)‏ يعني قريشا ‏(‏على الكفر‏)‏ أي لما تحالف قريش أن لا يبايعوا بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يؤووهم وحصروهم في الشعب وتقدم بيان ذلك في المبعث، وتقدم أيضا شرحه في ‏"‏ باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ‏"‏ من كتاب الحج‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ حُنَيْنًا مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد حنينا‏)‏ أي في غزوة الفتح لأن غزوة حنين عقب غزوة الفتح، وقد تقدم في الباب المذكور في الحج من رواية شعيب عن الزهري بلفظ ‏"‏ حين أراد قدوم مكة ‏"‏ ولا مغايرة بين الروايتين بطريق الجمع المذكور، لكن ذكره هناك أيضا من رواية الأوزاعي عن الزهري بلفظ ‏"‏ قال وهو بمنى‏:‏ نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة ‏"‏ وهذا يدل على أنه قال ذلك في حجته لا في غزوة الفتح، فهو شبيه بالحديث الذي قبله في الاختلاف في ذلك، ويحتمل التعدد والله أعلم‏.‏

قيل إنما اختار النبي صلى الله عليه وسلم النزول في ذلك الموضع ليتذكر ما كانوا فيه فيشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الفتح العظيم وتمكنهم من دخول مكة ظاهرا على رغم أنف من سعى في إخراجه منها ومبالغة في الصفح عن الذين أساءوا ومقابلتهم بالمن والإحسان، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ اقْتُلْهُ قَالَ مَالِكٌ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏يحيى بن قزعة‏)‏ بفتح القاف والزاي بعدها مهملة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن شهاب‏)‏ في رواية يحيى بن عبد الحميد عن مالك ‏"‏ حدثني ابن شهاب ‏"‏ أخرجه الدار قطني‏.‏

وفي رواية أحمد عن أبي أحمد الزبيري عن مالك عن ابن شهاب ‏"‏ أن أنس بن مالك أخبره‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المغفر‏)‏ في رواية أبي عبيد القاسم بن سلام عن يحيى بن بكير عن مالك ‏"‏ مغفر من حديد ‏"‏ قال الدار قطني‏:‏ تفرد به أبو عبيد وهو في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ ليحيى بن بكير مثل الجماعة، ورواه عن مالك جماعة من أصحابه خارج الموطأ بلفظ ‏"‏ مغفر من حديد ‏"‏ ثم ساقه من رواية عشرة عن مالك كذلك، وكذلك هو عند ابن عدي من رواية أبي أويس عن ابن شهاب، وعند الدار قطني من رواية شبابة بن سوار عن مالك، وفي هذا الحديث ‏"‏ من رأى منكم ابن خطل فليقتله ‏"‏ ومن رواية زيد بن الحباب عن مالك بهذا الإسناد ‏"‏ وكان ابن خطل يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشعر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال اقتله‏)‏ زاد الوليد بن مسلم عن مالك في آخره ‏"‏ فقتل ‏"‏ أخرجه ابن عائذ وصححه ابن حبان، واختلف في قاتله، وقد جزم ابن إسحاق بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، وحكى الواقدي فيه أقوالا‏:‏ منها أن قاتله شريك بن عبدة العجلاني، ورجح أنه أبو برزة، وقد بينت ما فيه من الاختلاف في كتاب الحج مع بقية شرح هذا الحديث في ‏"‏ باب دخول مكة بغير إحرام ‏"‏ من أبواب العمرة بما يغني عن إعادته‏.‏

واستدل بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة على أن الكعبة لا تعيذ من وجب عليه القتل، وأنه يجوز قتل من وجب عليه القتل في الحرم‏.‏

وفي الاستدلال بذلك نظر لأن المخالفين تمسكوا بأن ذلك إنما وقع في الساعة التي أحل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها القتال بمكة، وقد صرح بأن حرمتها عادت كما كانت، والساعة المذكورة وقع عند أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنها استمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر‏.‏

وأخرج عمر بن شبة في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ من حديث السائب بن يزيد قال‏:‏ ‏"‏ رأيت رسـول الله صلى الله عليه وسلم استخرج من تحت أستار الكعبة عبد الله بن خطل فضربت عنقه صبرا بين زمزم ومقام إبراهيم وقال‏:‏ ‏"‏ لا يقتلن قرشي بعد هذا صبرا ‏"‏ ورجاله ثقات إلا أن في أبي معشر مقالا، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُ مِائَةِ نُصُبٍ فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن أبي نجيح‏)‏ في رواية الحميدي في التفسير عن ابن عيينة حدثنا ابن أبي نجيح وهو عبد الله واسم أبي نجيح يسار، وتقدم في الملازمة عن علي بن عبد الله عن سفيان ‏"‏ حدثنا ابن أبي نجيح ‏"‏ ولابن عيينة في هذا الحديث إسناد آخر أخرجه الطبراني من طريق عبد الغفار بن داود عن ابن عيينة عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عن ابن مسعود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي معمر‏)‏ هو عبد الله بن سخبرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله‏)‏ هو ابن مسعود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ستون وثلاثمائة نصب‏)‏ بضم النون والمهملة وقد تسكن، بعدها موحدة، هي واحدة الأنصاب، وهو ما ينصب للعبادة من دون الله تعالى‏.‏

ووقع في رواية ابن أبي شيبة عن ابن عيينة ‏"‏ صنما ‏"‏ بدل ‏"‏ نصبا‏"‏‏.‏

ويطلق النصب ويراد به الحجارة التي كانوا يذبحون عليها للأصنام وليست مرادة هنا، وتطلق الأنصاب على أعلام الطريق وليست مرادة هنا ولا في الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعل يطعنها‏)‏ بضم العين وبفتحها والأول أشهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعود في يده ويقول‏:‏ جاء الحق‏)‏ في حديث أبي هريرة عند مسلم ‏"‏ يطعن في عينيه بسية القوس ‏"‏ وفي حديث ابن عمر عند الفاكهي وصححه ابن حبان ‏"‏ فيسقط الصنم ولا يمسه‏"‏، وللفاكهي والطبراني من حديث ابن عباس ‏"‏ فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه، مع أنها كانت ثابتة بالأرض، وقد شـد لهم إبليس أقدامها بالرصاص ‏"‏ وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لإذلال الأصنام وعابديها، ولإظهار أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تدفع عن نفسها شيئا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ فَأُخْرِجَ صُورَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ الْأَزْلَامِ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمُوا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْبَيْتِ وَخَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ وَقَالَ وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني إسحاق‏)‏ هو ابن منصور، وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث بن سعيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني أبي‏)‏ سقط من رواية الأصيلي ولا بد منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت‏)‏ وقع في حديث جابر عند ابن سعد وأبي داود ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها حتى محيت الصور، وكان عمر هو الذي أخرجها ‏"‏ والذي يظهر أنه محا ما كان من الصور مدهونا مثلا‏.‏

وأخرج ما كان مخروطا‏.‏

وأما حديث أسامة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فرأى صورة إبراهيم فدعا بماء فجعل يمحوها ‏"‏ وقد تقدم في الحج فهو محمول على أنه بقيت بقية خفي على من محاها أولا‏.‏

وقد حكى ابن عائذ في المغازي عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أن صورة عيسى وأمه بقيتا حتى رآهما بعض من أسلم من نصارى غسان فقال‏:‏ إنكما لببلاد غربة، فلما هدم ابن الزبير البيت ذهبا فلم يبق لهما أثر‏.‏

وقد أطنب عمر بن شبة في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ في تخريج طريق هذا الحديث فذكر ما تقدم وقال‏:‏ ‏"‏ حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج سأل سليمان بن موسى عطاء‏:‏ أدركت في الكعبة تماثيل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، أدركت تماثيل مريم في حجرها ابنها عيسى مزوقا، وكان ذلك في العمود الأوسط الذي يلي الباب‏.‏

قال‏:‏ فمتى ذهب ذلك‏؟‏ قال‏:‏ في الحريق ‏"‏ وفيه عن ابن جريج ‏"‏ أخبرني عمرو بن دينار أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطمس الصور التي كانت في البيت ‏"‏ وهذا سند صحيح، ومن طريق عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فأمرني فأتيته بماء في دلو فجعل يبل الثوب ويضرب به على الصور ويقول‏:‏ قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون ‏"‏ قوله‏:‏ ‏"‏ وخرج ولم يصل ‏"‏ تقدم شرحه في ‏"‏ باب من كبر في نواحي الكعبة ‏"‏ من كتاب الحج، وفيه الكلام على من أثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة ومن نفاها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الأزلام‏)‏ هي السهام التي كانوا يستقسمون بها الخير والشر، وعند ابن أبي شيبة من حديث جابر نحو حديث ابن مسعود وفيه ‏"‏ فأمر بها فكبت لوجوهها ‏"‏ وفيه نحو حديث ابن عباس وزاد ‏"‏ قاتلهم الله، ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام‏.‏

ثم دعا بزعفران فلطخ تلك التماثيل‏"‏‏.‏

وفي الحديث كراهية الصلاة في المكان الذي فيه صور لكونها مظنة الشرك، وكان غالب كفر الأمم من جهة الصور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه معمر عن أيوب‏)‏ وصله أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال وهيب حدثنا أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعني أنه أرسله‏.‏

ووقع في نسخة الصغاني بإثبات ابن عباس في التعليق عن وهيب وهو خطأ، ورجحت الرواية الموصولة عند البخاري لاتفاق عبد الوارث ومعمر على ذلك عن أيوب‏.‏