فصل: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*2أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ

الحديث‏:‏

-2-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا _أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ _ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ‏؟‏

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا، فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ‏.‏ قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -‏:‏ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا‏.‏

الشرح‏:‏

‏(‏الحديث الثاني‏)‏ من أحاديث بدء الوحي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبد الله بن يوسف‏)‏ هو التنيسي، كان نزل تنيس من عمل مصر، وأصله دمشقي، وهو من أتقن الناس في الموطأ، كذا وصفه يحيى بن معين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أم المؤمنين‏)‏ هو مأخوذ من قوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأزواجه أمهاتهم‏)‏ أي‏:‏ في الاحترام وتحريم نكاحهن لا في غير ذلك مما اختلف فيه على الراجح، وإنما قيل للواحدة منهن أم المؤمنين للتغليب، وإلا فلا مانع من أن يقال لها أم المؤمنات على الراجح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن الحارث بن هشام‏)‏ هو المخزومي، أخو أبي جهل شقيقه، أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، واستشهد في فتوح الشام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سأل‏)‏ هكذا رواه أكثر الرواة عن هشام بن عروة، فيحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك، وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة‏.‏

ويحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة، وهو محكوم بوصله عند الجمهور‏.‏

وقد جاء ما يؤيد الثاني، ففي مسند أحمد ومعجم البغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث ابن هشام قال‏:‏ سألت‏.‏

وعامر فيه ضعف، لكن وجدت له متابعا عند ابن منده، والمشهور الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كيف يأتيك الوحي‏)‏ يحتمل أن يكون المسؤول عنه صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون صفة حامله أو ما هو أعم من ذلك، وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز، لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله‏.‏

واعترض الإسماعيلي فقال‏:‏ هذا الحديث لا يصلح لهذه الترجمة، وإنما المناسب لكيف بدء الوحي الحديث الذي بعده، وأما هذا فهو لكيفية إتيان الوحي لا لبدء الوحي ا ه‏.‏

قال الكرماني‏:‏ لعل المراد منه السؤال عن كيفية ابتداء الوحي، أو عن كيفية ظهور الوحي، فيوافق ترجمة الباب‏.‏

قلت‏:‏ سياقه يشعر بخلاف ذلك لإتيانه بصيغة المستقبل دون الماضي، لكن يمكن أن يقال إن المناسبة تظهر من الجواب، لأن فيه إشارة إلى انحصار صفة الوحي أو صفة حامله في الأمرين فيشمل حالة الابتداء، وأيضا فلا أثر للتقديم والتأخير هنا ولو لم تظهر المناسبة، فضلا عن أنا قدمنا أنه أراد البداءة بالتحديث عن إمامي الحجاز فبدأ بمكة ثم ثنى بالمدينة‏.‏

وأيضا فلا يلزم أن تتعلق جميع أحاديث الباب ببدء الوحي، بل يكفي أن يتعلق بذلك وبما يتعلق به وبما يتعلق بالآية أيضا، وذلك أن أحاديث الباب تتعلق بلفظ الترجمة وبما اشتملت عليه، ولما كان في الآية أن الوحي إليه نظير الوحي إلى الأنبياء قبله، ناسب تقديم ما يتعلق بها، وهو صفة الوحي وصفة حامله إشارة إلى أن الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه، فحسن إيراد هذا الحديث عقب حديث الأعمال، الذي تقدم التقدير بأن تعلقه بالآية الكريمة أقوى تعلق، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أحيانا‏)‏ جمع حين، يطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قال‏:‏ أوقاتا يأتيني، وانتصب على الظرفية، وعامله ‏"‏ يأتيني ‏"‏ مؤخر عنه‏.‏

وللمصنف من وجه آخر عن هشام في بدء الخلق قال‏:‏ كل ذلك يأتي الملك، أي كل ذلك حالتان فذكرهما‏.‏

وروى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون، أنه بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم -كان يقول‏:‏ ‏"‏ كان الوحي يأتيني على نحوين‏:‏ يأتيني به جبريل فيلقيه على كما يلقى الرجل على الرجل، فذاك ينفلت مني‏.‏

ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني ‏"‏ وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا تحرك به لسانك‏)‏ كما سيأتي، فإن الملك قد تمثل رجلا في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية وفي صورة أعرابي، وغير ذلك وكلها في الصحيح‏.‏

وأورد على ما اقتضاه الحديث - وهو أن الوحي منحصر في الحالتين - حالات أخرى‏:‏ إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة‏.‏

وإما من صفة حامل الوحي، كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق‏.‏

والجواب‏:‏ منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله‏.‏

وأما فنون الوحي، فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين - كما في حديث عمر - يسمع عنده كدوي النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبهه هو -صلى الله عليه وسلم -بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه‏.‏

وأما النفث في الروع، فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفس حينئذ في روعه‏.‏

وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه، لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء‏.‏ ‏(‏1/ 20‏)‏

وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال‏:‏ لا ترد، لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس، لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره ا ه‏.‏

والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك، ويحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة، أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له -صلى الله عليه وسلم -في المنام أيضا على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني‏:‏ وفيه نظر‏.‏

وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا - فذكرها - وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر، وحديث‏:‏ ‏"‏ أن روح القدس نفث في روعي‏"‏، أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثل صلصلة الجرس‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ في مثل صلصلة الجرس ‏"‏ والصلصلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة‏:‏ في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل‏:‏ هو صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة، والجرس الجلجل الذي يعلق في رءوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحس‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ الجرس ناقوس صغير أو سطل في داخله قطعة نحاس يعلق منكوسا على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحصلت الصلصلة‏.‏ ا ه‏.‏

وهو تطويل للتعريف بما لا طائل تحته‏.‏

وقوله‏:‏ قطعة نحاس، معترض لا يختص به، وكذا البعير، وكذا قوله منكوسا، لأن تعليقه على تلك الصورة هو وضعه المستقيم له‏.‏

فإن قيل‏:‏ المحمود لا يشبه بالمذموم، إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، والمشبه الوحي وهو محمود، والمشبه به صوت الجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة كما أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة‏؟‏ والجواب‏:‏ أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما‏.‏ فالمقصود هنا بيان الجنس، فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبا لأفهامهم‏.‏

والحاصل أن الصوت له جهتان‏:‏ جهة قوة وجهة طنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، ويحتمل أن يكون النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور وفيه نظر‏.‏

قيل‏:‏ والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي، قال الخطابي‏:‏ يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل‏:‏ بل هو صوت حفيف أجنحة الملك 0 والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره، ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من الآلات، وسيأتي كلام ابن بطال في هذا المقام في الكلام على حديث ابن عباس‏:‏ ‏"‏ إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها ‏"‏ الحديث عند تفسير قوله‏:‏ ‏(‏حتى إذا فزع عن قلوبهم‏)‏ في تفسير سورة سبأ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو أشده علي‏)‏ يفهم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذه الصفة أشدها، وهو واضح، لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك‏.‏

وقال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني‏:‏ سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما سيأتي في حديث ابن عباس‏:‏ ‏"‏ كان يعالج من التنزيل شدة ‏"‏ قال وقال بعضهم‏:‏ وإنما كان شديدا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع‏.‏ ا ه‏.‏

وقيل‏:‏ إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد، وهذا فيه نظر، والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما سيأتي بيانه في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج، فإن فيه أنه‏:‏ ‏"‏ رآه -صلى الله عليه وسلم -حال نزول الوحي عليه وإنه ليغط‏"‏، وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى، والدرجات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيفصم‏)‏ بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة أي‏:‏ يقلع ويتجلى ما يغشاني، ويروى بضم أوله من الرباعي‏.‏ ‏(‏1/21‏)‏

وفي رواية لأبي ذر بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏(‏لا انفصام لها‏)‏ ، وقيل الفصم بالفاء‏:‏ القطع بلا إبانة، وبالقاف‏:‏ القطع بإبانة، فذكر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العلقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقد وعيت عنه ما قال‏)‏ أي‏:‏ القول الذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عمن قال من الكفار‏:‏ ‏(‏إن هذا إلا قول البشر‏)‏ لأنهم كانوا ينكرون الوحي، وينكرون مجيء الملك به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يتمثل لي الملك رجلا‏)‏ التمثل مشتق من المثل، أي‏:‏ يتصور‏.‏

واللام في الملك للعهد وهو‏:‏ جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد المقدم ذكرها‏.‏

وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر‏.‏

قال المتكلمون‏:‏ الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية، و ‏"‏ رجلا ‏"‏ منصوب بالمصدرية، أي‏:‏ يتمثل مثل رجل، أو بالتمييز، أو بالحال والتقدير هيئة رجل‏.‏

قال إمام الحرمين‏:‏ تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بعد‏.‏

وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حيا، لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه‏.‏

ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة‏.‏

وقال شيخنا شيخ الإسلام‏:‏ ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشا فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير‏.‏

وهذا على سبيل التقريب، والحق أن تمثل الملك رجلا، ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه‏.‏

والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيكلمني‏)‏ كذا للأكثر، ووقع في رواية البيهقي من طريق القعنبي عن مالك ‏"‏ فيعلمني ‏"‏ بالعين بدل الكاف، والظاهر أنه تصحيف، فقد وقع في الموطأ رواية القعنبي بالكاف، وكذا للدار قطني في حديث مالك من طريق القعنبي وغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأعي ما يقول‏)‏ زاد أبو عوانة في صحيحه ‏"‏ وهو أهونه على‏"‏‏.‏

وقد وقع التغاير في الحالتين حيث قال في الأول‏:‏ ‏"‏ وقد وعيت ‏"‏ بلفظ الماضي، وهنا ‏"‏ فأعي ‏"‏ بلفظ الاستقبال، لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم، وفي الثاني حصل حال المكالمة، أو أنه كان في الأول قد تلبس بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلية، كان حافظا لما قيل له فعبر عنه بالماضي، بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت عائشة‏)‏ هو بالإسناد الذي قبله، وإن كان بغير حرف العطف كما يستعمل المصنف وغيره كثيرا، وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف‏.‏

وقد أخرجه الدارقطني في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك مفصولا عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام‏.‏ ونكتة هذا الاقتطاع هنا اختلاف التحمل، لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدا للخبر الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ليتفصد‏)‏ بالفاء وتشديد المهملة، مأخوذ من الفصد وهو‏:‏ قطع العرق لإسالة الدم، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق‏.‏

وفي قولها‏:‏ ‏"‏ في اليوم الشديد البرد ‏"‏ دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي، لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ عرقا ‏"‏ بالنصب على التمييز، زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في الدلائل‏:‏ ‏"‏ وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ حكى العسكري في التصحيف عن بعض شيوخه أنه قرأ ‏"‏ ليتقصد ‏"‏ بالقاف، ثم قال العسكري‏:‏ إن ثبت فهو من قولهم‏:‏ تقصد الشيء إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده انتهى‏.‏

وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر، فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء، قال‏:‏ فأصر على القاف، وذكر الذهبي في ترجمة ابن طاهر عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف، قال‏:‏ فكابرني‏.‏ ‏(‏1/ 22‏)‏

قلت‏:‏ ولعل ابن طاهر وجهها بما أشار إليه العسكري‏.‏

والله أعلم‏.‏

وفي حديث الباب من الفوائد - غير ما تقدم - إن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره، وأن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*3قَالَ‏:‏ مَا أَنَا بِقَارِئٍ

الحديث‏:‏

-3 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ -أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏

أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ‏.‏

ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ -اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ‏:‏ اقْرَأْ‏.‏

قَالَ‏:‏ مَا أَنَا بِقَارِئٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ‏:‏ اقْرَأْ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ مَا أَنَا بِقَارِئٍ‏.‏

فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ‏:‏ اقْرَأْ‏.‏

فَقُلْتُ‏:‏ مَا أَنَا بِقَارِئٍ‏.‏

فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏)

فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَقَالَ‏:‏ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي‏.‏

فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ‏:‏ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي‏.‏

فَقَالَتْ خَدِيجَةُ‏:‏ كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ‏.‏

فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى -ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ -وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ‏.‏

فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ‏:‏ يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ‏.‏

فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ‏:‏ يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى‏؟‏

فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -خَبَرَ مَا رَأَى‏.‏

فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ‏:‏ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ‏.‏

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا‏.‏ ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ‏.‏

-4- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ -وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ -فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ‏:‏ ‏"‏ بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ‏.‏

فَقُلْتُ‏:‏ زَمِّلُونِي‏.‏

فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ -إِلَى قَوْلِهِ -وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏)‏ فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ‏"‏‏.‏

تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ، وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ ‏"‏ بَوَادِرُهُ‏"‏‏.‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا يحيى بن بكير‏)‏ هو يحيى بن عبد الله بن بكير، نسبه إلى جده لشهرته بذلك، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبت الناس في الليث بن سعد الفهمي فقيه المصريين‏.‏

وعقيل بالضم على التصغير، وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب، وهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه، نسب إلى جد جده لشهرته، الزهري نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أم النبي -صلى الله عليه وسلم-، على إتقانه وإمامته‏.‏ ‏(‏1/ 23‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏من الوحي‏)‏ يحتمل أن تكون ‏"‏ من ‏"‏ تبعيضية، أي‏:‏ من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكون بيانية، ورجحه القزاز‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الرؤيا الصالحة‏)‏ وقع في رواية معمر ويونس عند المصنف في التفسير ‏"‏ الصادقة ‏"‏ وهي التي ليس فيها ضغث، وبدئ بذلك ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة، ثم مهد له في اليقظة أيضا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في النوم‏)‏ لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثل فلق الصبح‏)‏ بنصب مثل على الحال، أي مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف، أي جاءت مجيئا مثل فلق الصبح‏.‏

والمراد بفلق الصبح‏:‏ ضياؤه‏.‏

وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حبب‏)‏ لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام‏.‏

والخلاء بالمد‏:‏ الخلوة، والسر فيه‏:‏ أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له‏.‏

وحراء بالمد وكسر أوله كذا في الرواية وهو صحيح‏.‏

وفي رواية الأصيلي بالفتح والقصر وقد حكى أيضا، وحكى فيه غير ذلك جوازا لا رواية‏.‏

هو جبل معروف بمكة‏.‏

والغار‏:‏ نقب في الجبل وجمعه غيران‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيتحنث‏)‏ هي بمعنى يتحنف، أي يتبع الحنفية وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم‏.‏

وقد وقع في رواية ابن هشام في السيرة ‏"‏ يتحنف ‏"‏ بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم، كما قيل‏:‏ يتأثم ويتحرج ونحوهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهو التعبد‏)‏ هذا مدرج في الخبر، وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله‏.‏ نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الليالي ذوات العدد‏)‏ يتعلق بقوله يتحنث، وإبهام العدد لاختلافه، كذا قيل‏.‏

وهو بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهي شهر، وذلك الشهر كان رمضان، رواه ابن إسحاق‏.‏

والليالي منصوبة على الظرف، وذوات منصوبة أيضا، وعلامة النصب فيه كسر التاء‏.‏

وينزع بكسر الزاي أي‏:‏ يرجع وزنا ومعنى، ورواه المؤلف بلفظه في التفسير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لمثلها‏)‏ أي‏:‏ الليالي‏.‏

والتزود استصحاب الزاد‏.‏

ويتزود معطوف على يتحنث‏.‏

وخديجة هي أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، تأتي أخبارها في مناقبها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى جاءه الحق‏)‏ أي‏:‏ الأمر الحق، وفي التفسير‏:‏ حتى فجئه الحق - بكسر الجيم - أي بغته‏.‏

وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحي إليه بذلك في المنام أولا قبل اليقظة، أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عقب ما تقدم في المنام‏.‏

وسمي حقا لأنه وحي من الله تعالى‏.‏

وقد وقع في رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول شأنه يرى في المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد، صرخ جبريل‏:‏ ‏"‏ يا محمد ‏"‏ فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا، فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال‏:‏ ‏"‏ يا محمد، جبريل جبريل ‏"‏ فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئا، ثم خرج عنهم فناداه فهرب‏.‏

ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، فذكر قصة إقرائه ‏(‏اقرأ باسم ربك‏)‏ ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر، وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود، وابن لهيعة ضعيف‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا‏:‏ ‏"‏ لم أره - يعني جبريل - على صورته التي خلق عليها إلا مرتين‏"‏، وبين أحمد في حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها، والثانية عند المعراج‏.‏

وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة‏:‏ ‏"‏ لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين‏:‏ مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد ‏"‏ وهذا يقوي رواية ابن لهيعة، وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين، وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند الله تعالى‏.‏

ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيمي فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم -في حراء وأقرأه ‏(‏اقرأ باسم ربك‏)‏ ثم انصرف، فبقي مترددا، فأتاه من أمامه في صورته فرأى أمرا عظيما‏.‏ ‏(‏1/24‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجاءه‏)‏ هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيبية، لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى تعقب به، بل هو نفسه، ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏ ثلاثا‏.‏

‏"‏ ما ‏"‏ نافية، إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء، وإن حكي عن الأخفش، جوازه فهو شاذ، والباء زائدة لتأكيد النفي، أي ما أحسن القراءة‏.‏

فلما قال ذلك ثلاثا قيل له‏:‏ ‏(‏اقرأ باسم ربك‏)

أي‏:‏ لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته، فهو يعلمك، كما خلقك وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية، ذكره السهيلي‏.‏

وقال غيره‏:‏ إن هذا التركيب - وهو قوله ما أنا بقارئ - يفيد الاختصاص‏.‏

ورده الطيبي بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد، والتقدير‏:‏ لست بقارئ البتة‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم كرر ذلك ثلاثا‏؟‏

أجاب أبو شامة‏:‏ بأن يحمل قوله أولا‏:‏ ‏"‏ ما أنا بقارئ ‏"‏ على الامتناع، وثانيا‏:‏ على الإخبار بالنفي المحض، وثالثا‏:‏ على الاستفهام‏.‏

ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال‏:‏ كيف أقرأ وفي رواية عبيد بن عمير عن ابن إسحاق‏:‏ ماذا أقرأ‏؟‏ وفي مرسل الزهري في دلائل البيهقي‏:‏ كيف أقرأ‏؟‏ كل ذلك يؤيد أنها استفهامية‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فغطني‏)‏ بغين معجمة وطاء مهملة‏.‏

وفي رواية الطبري بتاء مثناة من فوق كأنه أراد ضمني وعصرني، والغط حبس النفس، ومنه غطه في الماء، أو أراد غمني ومنه الخنق‏.‏

ولأبي داود الطيالسي في مسنده بسند حسن‏:‏ فأخذ بحلقي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى بلغ مني الجهد‏)‏ روي بالفتح والنصب، أي‏:‏ بلغ الغط مني غاية وسعي‏.‏

وروي بالضم والرفع أي‏:‏ بلغ مني الجهد مبلغه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ أرسلني ‏"‏ أي أطلقني، ولم يذكر الجهد هنا في المرة الثالثة، وهو ثابت عند المؤلف في التفسير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرجع بها‏)‏ أي‏:‏ بالآيات أو بالقصة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فزملوه‏)‏ أي‏:‏ لفوه‏.‏

والروع بالفتح‏:‏ الفزع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقد خشيت على نفسي‏)‏ دل هذا مع قوله ‏"‏ يرجف فؤاده ‏"‏ على انفعال حصل له من مجيء الملك، ومن ثم قال‏:‏ ‏"‏ زملوني‏"‏‏.‏

والخشية المذكورة اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولا‏:‏ أولها‏:‏ الجنون، وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة، جاء مصرحا به في عدة طرق، وأبطله أبو بكر بن العربي وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضروري له أن الذي جاءه ملك وأنه من عند الله تعالى‏.‏

ثانيها‏:‏ الهاجس، وهو باطل أيضا لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة‏.‏

ثالثها‏:‏ الموت من شدة الرعب‏.‏

رابعها‏:‏ المرض، وقد جزم به ابن أبي جمرة‏.‏

خامسها‏:‏ دوام المرض‏.‏

سادسها‏:‏ العجز عن حمل أعباء النبوة‏.‏

سابعها‏:‏ العجز عن النظر إلى الملك من الرعب‏.‏

ثامنها‏:‏ عدم الصبر على أذى قومه‏.‏

تاسعها‏:‏ أن يقتلوه‏.‏

عاشرها‏:‏ مفارقة الوطن‏.‏

حادي عشرها‏:‏ تكذيبهم إياه‏.‏

ثاني عشرها‏:‏ تعييرهم إياه‏.‏

وأولى هذه الأقوال بالصواب وأسلمها من الارتياب الثالث واللذان بعده، وما عداها فهو معترض‏.‏

والله الموفق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقالت خديجة‏:‏ كلا‏)‏ معناها‏:‏ النفي والإبعاد، ويحزنك‏:‏ بفتح أوله والحاء المهملة والزاي المضمومة والنون من الحزن‏.‏

ولغير أبي ذر بضم أوله والخاء المعجمة والزاي المكسورة ثم الياء الساكنة من الخزي‏.‏

ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدا بأمر استقرائي وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفته به‏.‏

والكل بفتح الكاف‏:‏ هو من لا يستقل بأمره كما قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏وهو كل على مولاه‏)‏ وقولها‏:‏ ‏"‏ وتكسب المعدوم ‏"‏ في رواية الكشميهني وتكسب بضم أوله، وعليها قال الخطابي‏:‏ الصواب المعدم بلا واو أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب‏.‏

قلت‏:‏ ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، والكسب هو الاستفادة‏.‏

فكأنها قالت‏:‏ إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودا رغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزا فتعاونه‏.‏

وقال قاسم بن ثابت في الدلائل‏:‏ قوله يكسب معناه‏:‏ ما يعدمه غيره ويعجز عته يصيبه هو ويكسبه‏.‏ ‏(‏1/25‏)‏

قال أعرابي يمدح إنسانا‏:‏ كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم وأنشد في وصف ذئب ‏"‏ كسوب كذا المعدوم من كسب واحد ‏"‏ أي‏:‏ مما يكسبه وحده‏.‏

انتهى‏.‏

ولغير الكشميهني ‏"‏ وتكسب ‏"‏ بفتح أوله، قال عياض‏:‏ وهذه الرواية أصح‏.‏

قلت‏:‏ قد وجهنا الأولى، وهذه الراجحة، ومعناها‏:‏ تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، ويقال‏:‏ كسبت الرجل مالا وأكسبته بمعنى‏.‏

وقيل‏:‏ معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه مالا يصيب غيرك‏.‏

وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش‏.‏

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم -قبل البعثة محظوظا في التجارة‏.‏

وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به، من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت في المكرمات‏.‏

وقولها‏:‏ ‏"‏ وتعين على نوائب الحق ‏"‏ هي كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم‏.‏

وفي رواية المصنف في التفسير من طريق يونس عن الزهري من الزيادة ‏"‏ وتصدق الحديث ‏"‏ وهي من أشرف الخصال‏.‏

وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة ‏"‏ وتؤدى الأمانة‏"‏‏.‏

وفي هذه القصة من الفوائد استحباب تأنيس من نزل به أمر، بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأن من نزلت به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فانطلقت به‏)‏ أي مضت معه، فالباء للمصاحبة‏.‏

وورقة بفتح الراء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ ابن عم خديجة ‏"‏ هو بنصب ابن ويكتب بالألف، وهو بدل من ورقة أو صفة أو بيان، ولا يجوز جره فإنه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، ولا كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تنصر‏)‏ أي‏:‏ صار نصرانيا، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل، لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبي -صلى الله عليه وسلم -والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل‏.‏

وأما زيد بن عمرو فسيأتي خبره في المناقب إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية‏)‏ ‏.‏

وفي رواية يونس ومعمر‏:‏ ويكتب من الإنجيل بالعربية‏.‏

ولمسلم‏:‏ فكان يكتب الكتاب العربي‏.‏

والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي، لتمكنه من الكتابين واللسانين‏.‏

ووقع لبعض الشراح هذا خبط فلا يعرج عليه‏.‏

وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا، كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها ‏"‏ أناجيلها صدورها‏"‏‏.‏

قولها‏:‏ ‏"‏ يا ابن عم ‏"‏ هذا النداء على حقيقته، ووقع في مسلم ‏"‏ يا عم ‏"‏ وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة‏.‏

وإنما جوزنا ذلك فيما مضى في العبراني والعربي لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطرد في جميع ما أشبهه‏.‏

وقالت في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ اسمع من ابن أخيك‏.‏

لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته‏.‏

أو قالته على سبيل التوقير لسنه‏.‏

وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة‏:‏

‏"‏ اسمع من ابن أخيك ‏"‏ أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي -صلى الله عليه وسلم -وذلك أبلغ في التعليم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ماذا ترى‏؟‏‏)‏ فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرح به في دلائل النبوة لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شداد في هذه القصة قال‏:‏ فأتت به ورقة ابن عمها، فأخبرته بالذي رأى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هذا الناموس الذي نزل الله على موسى‏)‏ ‏.‏

وللكشميهني ‏"‏ أنزل الله‏"‏، وفي التفسير ‏"‏ أنزل ‏"‏ على البناء للمفعول وأشار بقوله‏:‏ ‏"‏ هذا ‏"‏ إلى الملك الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم -في خبره، ونزله منزلة القريب لقرب ذكره‏.‏ ‏(‏1/26‏)‏

والناموس‏:‏ صاحب السر، كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء‏.‏

وزعم ابن ظفر أن الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر‏.‏

والأول‏:‏ الصحيح الذي عليه الجمهور‏.‏

وقد سوى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب‏.‏

والمراد بالناموس هنا‏:‏ جبريل -عليه السلام-‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ على موسى ‏"‏ ولم يقل‏:‏ على عيسى مع كونه نصرانيا، لأن كتاب موسى -عليه السلام -مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى‏.‏

وكذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-‏.‏

أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى‏.‏

كذلك وقعت النقمة على يد النبي -صلى الله عليه وسلم -بفرعون هذه الأمة وهو‏:‏ أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر‏.‏

أو قاله تحقيقا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته، وأما ما تمحل له السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال، لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمن بدل‏.‏

على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال‏:‏ ناموس عيسى‏.‏

والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف‏.‏

نعم في دلائل النبوة لأبي نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة، أن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال‏:‏ لئن كنت صدقتني، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم‏.‏

فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة‏:‏ ناموس عيسى وتارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها‏:‏ ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- له قال له‏:‏ ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح‏.‏

والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يا ليتني فيها جذع‏)‏ كذا في رواية الأصيلي، وعند الباقين‏:‏ ‏"‏ يا ليتني فيها جذعا ‏"‏ بالنصب على أنه خبر كان المقدرة، قاله الخطابي، وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏انتهوا خيرا لكم‏)‏ ‏.‏

وقال ابن بري‏:‏ التقدير‏:‏ يا ليتني جعلت فيها جذعا‏.‏

وقيل‏:‏ النصب على الحال، إذا جعلت فيها خبر ليت، والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار، قاله السهيلي‏.‏

وضمير ‏"‏ فيها ‏"‏ يعود على أيام الدعوة‏.‏

والجذع - بفتح الجيم والذال المعجمة - هو‏:‏ الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سر وصفه بكونه كان كبيرا أعمى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذ يخرجك‏)‏ قال ابن مالك‏:‏ فيه استعمال ‏"‏ إذ ‏"‏ في المستقبل كإذا، وهو صحيح، وغفل عنه أكثر النحاة، وهو كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر‏)‏ هكذا ذكره ابن مالك وأقره عليه غير واحد‏.‏

وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام‏:‏ بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا‏:‏ استعمل الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير ‏"‏ حين يخرجك قومك ‏"‏ وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم أولى، لما ينبني عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضي، تحقيقا لوقوعه أو استحضارا للصورة الآتية في هذه دون تلك مع وجوده في أفصح الكلام، وكأنه أراد بمنع الورود ورودا محمولا على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال، وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابا، هو مستحيل عادة‏.‏

ويظهر لي أن التمني ليس مقصودا على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو مخرجي هم‏)‏ بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج، فهم مبتدأ مؤخر، ومخرجي خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبي -صلى الله عليه وسلم -أن يخرجوه، لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها‏.‏

وقد استدل ابن الدغنة بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يخرج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا عودي‏)‏ وفي رواية يونس في التفسير ‏"‏ إلا أوذي ‏"‏ فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من ثم، وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن يدركني يومك‏)‏ إن شرطية، والذي بعدها مجزوم‏.‏ ‏(‏1/27‏)‏

زاد في رواية يونس في التفسير‏:‏ ‏"‏ حيا ‏"‏ ولابن إسحاق‏:‏ ‏"‏ إن أدركت ذلك اليوم ‏"‏ يعني‏:‏ يوم الإخراج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مؤزرا‏)‏ بهمزة أي‏:‏ قويا، مأخوذ من الأزر، وهو القوة وأنكر القزاز أن يكون في اللغة مؤزر من الأزر‏.‏

وقال أبو شامة‏:‏ يحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره في نصرته، قال الأخطل‏:‏

‏"‏ قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ‏"‏ البيت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم لم ينشب‏)‏ بفتح الشين المعجمة أي‏:‏ لم يلبث‏.‏

وأصل النشوب التعلق، أي‏:‏ لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات‏.‏

وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام‏.‏

فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال‏:‏ الواو في قوله‏:‏ وفتر الوحي، ليست للترتيب، فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكرا بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع‏.‏

وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان -صلى الله عليه وسلم -وجده من الورع، وليحصل له التشوف إلى العود، فقد روى المؤلف في التعبير من طريق معمر ما يدل على ذلك‏.‏

‏(‏فائدة‏)‏ ‏:‏ وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي، أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان‏.‏

وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول ‏"‏ اقرأ ‏"‏ و ‏"‏ يا أيها المدثر ‏"‏ عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط‏.‏

ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد، ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي‏:‏ أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه‏.‏

فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة‏.‏

وأخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصرا عن داود بلفظ‏:‏ بعث لأربعين، ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل‏.‏

فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبت - الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل ثلاث عشرة، وقيل عشر، ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة، والله أعلم‏.‏

وقد حكى ابن التين هذه القصة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل، وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال‏:‏ لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل، انتهى‏.‏

ولا يخفى ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم‏.‏

وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه -صلى الله عليه وسلم -بمكة، فإنه قال‏:‏ جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف‏.‏

وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال‏:‏ مكث عشر سنين، حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال‏:‏ ثلاث عشرة، أضافهما‏.‏

وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس‏:‏ أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى‏.‏ ‏(‏1/28‏)‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن شهاب‏:‏ أخبرني أبو سلمة‏)‏ إنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال‏:‏ أخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا‏.‏

وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وأخطأ من زعم أن هذا معلق وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقدم شيء عطفته، وقد تقدم قوله‏:‏ عن ابن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال‏:‏ قال ابن شهاب - أي بالسند المذكور - وأخبرني أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا، ودل قوله عن فترة الوحي وقوله الملك الذي جاءني بحراء على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ، ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في التفسير عن أبي سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن ‏(‏يا أيها المدثر‏)‏ أول ما نزل، ورواية الزهري هذه الصحيحة ترفع هذا الإشكال، وسياق بسط القول في ذلك في تفسير سورة اقرأ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فرعبت منه‏)‏ بضم الراء وكسر العين، وللأصيلي بفتح الراء وضم العين، أي‏:‏ فزعت، دل على بقية بقيت معه من الفزع الأول ثم زالت بالتدريج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت‏:‏ زملوني زملوني‏)‏ وفي رواية الأصيلي وكريمة زملوني مرة واحدة‏.‏

وفي رواية يونس في التفسير فقلت دثروني فنزلت ‏(‏يا أيها المدثر قم فأنذر‏)‏ أي‏:‏ حذر من العذاب من لم يؤمن بك ‏(‏وربك فكبر‏)‏ أي‏:‏ عظم ‏(‏وثيابك فطهر‏)‏ أي‏:‏ من النجاسة، وقيل‏:‏ الثياب النفس، وتطهيرها اجتناب النقائص، والرجز هنا الأوثان كما سيأتي من تفسير الراوي عند المؤلف في التفسير، والرجز في اللغة‏:‏ العذاب، وسمي الأوثان هنا رجزا لأنها سببه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فحمى الوحي‏)‏ أي جاء كثيرا، وفيه مطابقة لتعبيره عن تأخره بالفتور، إذ لم ينته إلى انقطاع كلي فيوصف بالضد وهو البرد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتتابع‏)‏ تأكيد معنوي، ويحتمل أن يراد بحمي‏:‏ قوي، وتتابع‏:‏ تكاثر، وقد وقع في رواية الكشميهني وأبى الوقت ‏"‏ وتواتر‏"‏، والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير تخلل‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ خرج المصنف بالإسناد في التاريخ حديث الباب عن عائشة، ثم عن جابر بالإسناد المذكور هنا فزاد فيه بعد قوله ‏"‏ تتابع ‏"‏‏:‏ قال عروة - يعني بالسند المذكور إليه - وماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏"‏ رأيت لخديجة بيتا من قصب، لا صحب فيه ولا نصب ‏"‏ قال البخاري‏:‏ يعني قصب اللؤلؤ‏.‏

قلت‏:‏ وسيأتي مزيد لهذا في مناقب خديجة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه‏)‏ الضمير يعود على يحيى بن بكير، ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف في قصة موسى‏.‏

وفيه من اللطائف قوله عن الزهري‏:‏ سمعت عروة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأبو صالح‏)‏ هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد أكثر البخاري عنه من المعلقات، وعلق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبي صالح عنه‏.‏

ورواية عبد الله بن صالح عن الليث لهذا الحديث أخرجها يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير، ووهم من زعم - كالدمياطي - أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحراني، فإنه لم يذكر من أسنده عن عبد الغفار وقد وجد في مسنده عن كاتب الليث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتابعه هلال بن رداد‏)‏ بدالين مهملتين الأولى مثقلة، وحديثه في الزهريات للذهلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال يونس‏)‏ يعني ابن يزيد الأيلي، ومعمر هو ابن راشد‏.‏

‏(‏بوادره‏)‏ يعني‏:‏ أن يونس ومعمرا رويا هذا الحديث عن الزهري فوافقا عقيلا عليه، إلا أنهما قالا بدل قوله يرجف فؤاده ترجف بوادره، والبوادر‏:‏ جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان، فالروايتان مستويتان في أصل المعنى لأن كلا منهما دال على الفزع، وقد بينا ما في رواية يونس ومعمر من المخالفة لرواية عقيل غير هذا في أثناء السياق، والله الموفق‏.‏

وسيأتي بقية شرح هذا الحديث في تفسير سورة ‏(‏اقرأ باسم ربك‏)‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*4كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً

الحديث‏:‏

-5 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏)

قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ‏.‏

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُحَرِّكُهُمَا‏.‏

وَقَالَ سَعِيدٌ‏:‏ أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا -فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏(‏لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏)‏ قَالَ‏:‏ جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ‏.‏

(‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏)‏ قَالَ‏:‏ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ‏.‏

(‏ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ‏.‏

فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كَمَا قَرَأَهُ‏.‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا موسى بن إسماعيل‏)‏ هو أبو سلمة التبوذكي، وكان من حفاظ المصريين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو عوانة‏)‏ هو الوضاح بن عبد الله اليشكري مولاهم البصري، كان كتابه في غاية الإتقان‏.‏

وموسى بن أبي عائشة لا يعرف اسم أبيه، وقد تابعه على بعضه عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان مما يعالج‏)‏ المعالجة محاولة الشيء بمشقة، أي‏:‏ كان العلاج ناشئا من تحريك الشفتين، أي‏:‏ مبدأ العلاج منه، أو ‏"‏ ما ‏"‏ موصولة وأطلقت على من يعقل مجازا، هكذا قرره الكرماني، وفيه نظر لأن الشدة حاصلة له قبل التحرك، والصواب ما قاله ثابت السرقسطي أن المراد كان كثيرا ما يفعل ذلك، وورودهما في هذا كثير ومنه حديث الرؤيا ‏"‏ كان مما يقول لأصحابه‏:‏ من رأى منكم رؤيا ‏"‏‏؟‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

وإنا لمما نضرب الكبش ضربة * على وجهه يلقى اللسان من الفم

قلت‏:‏ ويؤيده أن رواية المصنف في التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبي عائشة ولفظها ‏"‏ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إذا نزل جبريل بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه‏"‏‏.‏

فأتى بهذا اللفظ مجردا عن تقدم العلاج الذي قدره الكرماني، فظهر ما قال ثابت، ووجه ما قال غيره‏:‏ إن ‏"‏ من ‏"‏ إذا وقع بعدها ‏"‏ ما ‏"‏ كانت بمعنى ربما، وهي تطلق على القليل والكثير‏.‏

وفي كلام سيبويه مواضع من هذا منها قوله‏:‏ اعلم أنهم مما يحذفون كذا‏.‏

والله أعلم‏.‏

ومنه حديث البراء‏:‏ ‏"‏ كنا إذا صلينا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم -مما نحب أن نكون عن يمينه ‏"‏ الحديث، ومن حديث سمرة ‏"‏ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه‏:‏ من رأى منكم رؤيا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال ابن عباس فأنا أحركهما‏)‏ جملة معترضة بالفاء، وفائدة هذا زيادة البيان في الوصف على القول، وعبر في الأول بقوله ‏"‏ كان يحركهما ‏"‏ وفي الثاني برأيت، لأن ابن عباس لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم -في تلك الحالة، لأن سورة القيامة مكية باتفاق، بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر، وإلى هذا جنح البخاري في إيراده هذا الحديث في بدء الوحي، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك ولد، لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، لكن يجوز أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم -أخبره بذلك بعد، أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبي -صلى الله عليه وسلم -، الأول هو الصواب، فقد ثبت ذلك صريحا في مسند أبي داود الطيالسي قال‏:‏ حدثنا أبو عوانة بسنده‏.‏

وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فحرك شفتيه‏)‏ وقوله‏:‏ فأنزل الله ‏(‏لا تحرك به لسانك‏)‏ لا تنافي بينهما، لأن تحريك الشفتين، بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان، ‏(‏1/30‏)‏

أو اكتفى بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل في النطق إذ الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين ناشئ عن ذلك، وقد مضى أن في رواية جرير في التفسير ‏"‏ يحرك به لسانه وشفتيه ‏"‏ فجمع بينهما، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم -في ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة، ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء، قاله الحسن وغيره‏.‏

ووقع في رواية للترمذي ‏"‏ يحرك به لسانه يريد أن يحفظه‏"‏، وللنسائي ‏"‏ يعجل بقراءته ليحفظه‏"‏، ولابن أبي حاتم ‏"‏ يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره‏"‏، وفي رواية الطبري عن الشعبي ‏"‏ عجل يتكلم به من حبه إياه ‏"‏ وكلا الأمرين مراد، ولا تنافي بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك، فأمر بأن ينصت حتى يقضي إليه وحيه، ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره، ونحوه قوله تعالى ‏(‏ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه‏)‏ أي‏:‏ بالقراءة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جمعه لك صدرك‏)‏ كذا في أكثر الروايات وفيه إسناد الجمع إلى الصدر بالمجاز، كقوله‏:‏ أنبت الربيع البقل، أي‏:‏ أنبت الله في الربيع البقل، واللام في ‏"‏ لك ‏"‏ للتبيين أو للتعليل‏.‏

وفي رواية كريمة والحموي ‏"‏ جمعه لك في صدرك ‏"‏ وهو توضيح للأول، وهذا من تفسير ابن عباس‏.‏

وقال في تفسير ‏(‏فاتبع‏)‏ أي‏:‏ فاستمع وأنصت، وفي تفسير ‏(‏بيانه‏)‏ أي‏:‏ علينا أن تقرأه‏.‏

ويحتمل أن يراد بالبيان بيان مجملاته وتوضيح مشكلاته، فيستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الصحيح في الأصول، والكلام في تفسير الآيات المذكورة أخرته إلى كتاب التفسير فهو موضعه‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*5كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ

الحديث‏:‏

-6- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ

ح

و حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ‏.‏

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عبدان‏)‏ هو عبد الله بن عثمان المروزي أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك أخبرنا يونس هو ابن يزيد الأيلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا يونس ومعمر نحوه‏)‏ أي‏:‏ أن عبد الله بن المبارك حدث به عبدان عن يونس وحده، وحدث به بشر بن محمد عن يونس ومعمر معا، أما باللفظ فعن يونس وأما بالمعنى فعن معمر‏.‏

قوله ‏(‏عبيد الله‏)‏ هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الآتي في الحديث الذي بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أجود الناس‏)‏ بنصب أجود لأنها خبر كان، وقدم ابن عباس هذه الجملة على ما بعدها - وإن كانت لا تتعلق بالقرآن - على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها‏.‏

ومعنى أجود الناس‏:‏ أكثر الناس جودا، والجود الكرم، وهو من الصفات المحمودة‏.‏

وقد أخرج الترمذي من حديث سعد رفعه ‏"‏ إن الله جواد يحب الجود ‏"‏ الحديث‏.‏

وله في حديث أنس رفعه ‏"‏ أنا أجود ولد آدم، وأجودهم بعدي رجل علم علما فنشر علمه، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله ‏"‏ وفي سنده مقال، وسيأتي في الصحيح من وجه آخر عن أنس ‏"‏ كان النبي -صلى الله عليه وسلم -أشجع الناس وأجود الناس‏"‏‏.‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان أجود ما يكون‏)‏ هو برفع أجود هكذا في أكثر الروايات، وأجود اسم كان وخبره محذوف، وهو نحو أخطب ما يكون الأمير في يوم الجمعة‏.‏

أو هو مرفوع على أنه مبتدأ مضاف إلى المصدر وهو ‏"‏ ما يكون ‏"‏ وما مصدرية وخبره في رمضان، ‏(‏1/31‏)‏

والتقدير‏:‏ أجود أكوان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في رمضان، وإلى هذا جنح البخاري في تبويبه في كتاب الصيام إذ قال‏:‏ ‏"‏ باب أجود ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم -يكون في رمضان‏"‏‏.‏

وفي رواية الأصيلي ‏"‏ أجود ‏"‏ بالنصب على أنه خبر كان، وتعقب بأنه يلزم منه أن يكون خبرها اسمها، وأجيب بجعل اسم كان ضمير النبي -صلى الله عليه وسلم -وأجود خبرها، والتقدير‏:‏ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره، قال النووي‏:‏ الرفع أشهر، والنصب جائز‏.‏

وذكر أنه سأل ابن مالك عنه فخرج الرفع من ثلاثة أوجه والنصب من وجهين‏.‏

وذكر ابن الحاجب في أماليه للرفع خمسة أوجه، توارد ابن مالك منها في وجهين وزاد ثلاثة ولم يعرج على النصب‏.‏

قلت‏:‏ ويرجح الرفع وروده بدون كان عند المؤلف في الصوم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيدارسه القرآن‏)‏ قيل‏:‏ الحكمة فيه أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود‏.‏

والجود في الشرع‏:‏ إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة‏.‏

وأيضا فرمضان موسم الخيرات، لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم -يؤثر متابعة سنة الله في عباده‏.‏

فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود‏.‏

والعلم عند الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم -‏)‏ الفاء للسببية، واللام للابتداء وزيدت على المبتدأ تأكيدا، أو هي جواب قسم مقدر‏.‏

والمرسلة أي‏:‏ المطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه‏.‏

ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث ‏"‏ لا يسأل شيئا إلا أعطاه ‏"‏ وثبتت هذه الزيادة في الصحيح من حديث جابر ‏"‏ ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -شيئا فقال لا‏"‏‏.‏

وقال النووي‏:‏ في الحديث فوائد‏:‏ منها الحث على الجود في كل وقت، ومنها الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح‏.‏

وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير، وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان وكونها أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعلاه‏.‏

فإن قيل‏:‏ المقصود تجويد الحفظ، قلنا الحفظ كان حاصلا، والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس، وأنه يجوز أن يقال رمضان من غير إضافة غير ذلك مما يظهر بالتأمل‏.‏

قلت‏:‏ وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان، لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث ابن عباس، فكان جبريل يتعاهده في كل سنة فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة -رضي الله عنها-

وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب‏.‏ والله أعلم بالصواب‏.‏