فصل: كتاب الأشربة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كتاب الأشربة

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏كتاب الأشربة‏)‏ وقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس‏)‏ الآية، كذا لأبي ذر، وساق الباقون إلى ‏(‏المفلحون‏)‏ كذا ذكر الآية وأربعة أحاديث تتعلق بتحريم الخمر، وذلك أن الأشربة منها ما يحل وما يحرم فينظر في حكم كل منهما ثم في الآداب المتعلقة بالشرب، فبدأ بتبيين المحرم منها لقلته بالنسبة إلى الحلال، فإذا عرف ما يحرم كان ما عداه حلالا، وقد بينت في تفسير المائدة الوقت الذي نزلت فيه الآية المذكورة وأنه كان في عام الفتح قبل الفتح، ثم رأيت الدمياطي في سيرته جزم بأن تحريم الخمر كان سنة الحديبية، والحديبية كانت سنة ست‏.‏

وذكر ابن إسحاق أنه كان في واقعة بني النضير، وهي بعد وقعة أحد وذلك سنة أربع على الراجح، وفيه نظر لأن أنسا كما سيأتي في الباب الذي بعده كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع لكان أنس يصغر عن ذلك، وكأن المصنف لمح بذكر الآية إلى بيان السبب في نزولها، وقد مضى بيانه في تفسير المائدة أيضا من حديث عمر وأبي هريرة وغيرهما‏.‏

وأخرج النسائي والبيهقي بسند صحيح عن ابن عباس أنه لما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر فيقول‏:‏ صنع هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول‏:‏ والله لو كان بي رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر - إلى - منتهون‏)‏ قال فقال ناس من المتكلفين‏:‏ هي رجس، وهي في بطن فلان وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏(‏ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا - إلى - المحسنين‏)‏ ووقعت هذه الزيادة في حديث أنس في البخاري كما مضى في المائدة، ووقعت أيضا في حديث البراء عند الترمذي وصححه، ومن حديث ابن عباس عند أحمد ‏"‏ لما حرمت الخمر قال ناس‏:‏ يا رسول الله، أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ‏"‏ وسنده صحيح‏.‏

وعند البزار من حديث جابر أن الذي سأل عن ذلك اليهود، وفي حديث أبي هريرة الذي ذكرته في تفسير المائدة نحو الأول، وزاد في آخره ‏"‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم ‏"‏ قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن‏:‏ يستفاد تحريم الخمر من هذه الآية من تسميتها رجسا‏.‏

وقد سمي به ما أجمع على تحريمه وهو لحم الخنزير ومن قوله‏:‏ ‏(‏من عمل الشيطان‏)‏ لأن مهما كان من عمل الشيطان حرم تناوله، ومن الأمر بالاجتناب وهو للوجوب وما وجب اجتنابه حرم تناوله، ومن الفلاح المرتب على الاجتناب، ومن كون الشرب سببا للعداوة والبغضاء بين المؤمنين وتعاطي ما يوقع ذلك حرام، ومن كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن ختام الآية بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فهل أنتم منتهون‏)‏ ‏؟‏ فإنه استفهام معناه الردع والزجر، ولهذا قال عمر لما سمعها‏:‏ انتهينا انتهينا‏.‏

وسبقه إلى نحو ذلك الطبري‏.‏

وأخرجه الطبراني وابن مردويه وصححه الحاكم من طريق طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزل تحريم الخمر مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض فقالوا‏:‏ حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك ‏"‏ قيل‏:‏ يشير إلى قوله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر‏)‏ الآية، فإن الأنصاب والأزلام من عمل المشركين بتزيين الشيطان، فنسب العمل إليه‏.‏

قال أبو الليث السمرقندي‏:‏ المعنى أنه لما نزل فيها أنها رجس من عمل الشيطان وأمر باجتنابها عادلت قوله تعالى‏:‏ ‏(‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏)‏ ‏.‏

وذكر أبو جعفر النحاس أن بعضهم استدل لتحريم الخمر بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق‏)‏ وقد قال تعالى في الخمر والميسر ‏(‏فيهما إثم كبير ومنافع للناس‏)‏ فلما أخبر أن في الخمر إثما كبيرا ثم صرح بتحريم الإثم ثبت تحريم الخمر بذلك، قال‏:‏ وقول من قال إن الخمر تسمى الإثم لم نجد له أصلا في الحديث ولا في اللغة، ولا دلالة أيضا في قول الشاعر‏:‏ شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول فإنه أطلق الإثم على الخمر مجازا بمعنى أنه ينشأ عنها الإثم‏.‏

واللغة الفصحى تأنيث الخمر، وأثبت أبو حاتم السجستاني وابن قتيبة وغيرهما جواز التذكير، ويقال لها الخمرة أثبته فيها جماعة من أهل اللغة منهم الجوهري‏.‏

وقال ابن مالك في المثلث‏:‏ الخمرة هي الخمر في اللغة، وقيل‏:‏ سميت الخمر لأنها تغطي العقل وتخامره أي تخالطه، أو لأنها هي تخمر أي تغطى حتى تغلي، أو لأنها تختمر أي تدرك كما يقال للعجين اختمر، أقوال سيأتي بسطها عند شرح قول عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ والخمر ما خامر العقل ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر من طريق مالك عن نافع عنه وهو من أصح الأسانيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة‏)‏ حرمها بضم المهملة وكسر الراء الخفيفة من الحرمان، زاد مسلم عن القعنبي عن مالك في آخره ‏"‏ لم يسقها‏"‏، وله من طريق أيوب عن نافع بلفظ ‏"‏ فمات وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة ‏"‏ وزاد مسلم في أول الحديث مرفوعا ‏"‏ كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام ‏"‏ وأورد هذه الزيادة مستقلة أيضا من رواية موسى بن عقبة وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع، وسيأتي الكلام عليها في ‏"‏ باب الخمر من العسل ‏"‏ ويأتي كلام ابن بطال فيها في آخر هذا الباب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ ثم لم يتب منها ‏"‏ أي من شربها، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه‏.‏

قال الخطابي والبغوي في ‏"‏ شرح السنة ‏"‏‏:‏ معنى الحديث لا يدخل الجنة، لأن الخمر شراب أهل الجنة، فإذا حرم شربها دل على أنه لا يدخل الجنة‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة، لأن الله تعالى أخبر أن في الجنة أنهار الخمر لذة للشاربين، وأنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون‏.‏

فلو دخلها - وقد علم أن فيها خمرا أو أنه حرمها عقوبة له - لزم وقوع الهم والحزن في الجنة، ولا هم فيها ولا حزن، وإن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في فقدها ألم، فلهذا قال بعض من تقدم‏:‏ إنه لا يدخل الجنة أصلا، قال‏:‏ وهو مذهب غير مرضي، قال‏:‏ ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة، فعلى هذا فمعنى الحديث‏:‏ جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا إن عفا الله عنه‏.‏

قال‏:‏ وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرا ولا تشتهيها نفسه وإن علم بوجودها فيها، ويؤيده حديث أبي سعيد مرفوعا ‏"‏ من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو ‏"‏ قلت‏:‏ أخرجه الطيالسي وصححه ابن حبان‏.‏

وقريب منه حديث عبد الله بن عمرو رفعه ‏"‏ من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة ‏"‏ أخرجه أحمد بسند حسن، وقد لخص عياض كلام ابن عبد البر وزاد احتمالا آخر وهو أن المراد بحرمانه شربها أنه يحبس عن الجنة مدة إذا أراد الله عقوبته، ومثله الحديث الآخر ‏"‏ لم يرح رائحة الجنة ‏"‏ قال‏:‏ ومن قال لا يشربها في الجنة بأن ينساها أو لا يشتهيها يقول ليس عليه في ذلك حسرة ولا يكون ترل شهوته إياها عقوبة في حقه، بل هو نقص نعيم بالنسبة إلى من هو أتم نعيما منه كما تختلف درجاتهم، ولا يلحق من هو أنقص درجة حينئذ بمن هو أعلى درجة منه استغناء بما أعطي واغتباطا له‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة ولا يلبس الحرير فيها، وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه عند ميقاته، كالوارث فإنه إذا قتل مورثه فإنه يحرم ميراثه لاستعجاله‏.‏

وبهذا قال نفر من الصحابة ومن العلماء، وهو موضع احتمال وموقف إشكال، والله أعلم كيف يكون الحال‏.‏

وفصل بعض المتأخرين بين من يشربها مستحلا فهو الذي لا يشربها أصلا لأنه لا يدخل الجنة أصلا، وعدم الدخول يستلزم حرمانها، وبين من يشربها عالما بتحريمها فهو محل الخلاف، وهو الذي يحرم شربها مدة ولو في حال تعذيبه إن عذب، أو المعنى أن ذلك جزاؤه إن جوزي والله أعلم‏.‏

وفي الحديث أن التوبة تكفر المعاصي الكبائر، وهو في التوبة من الكفر قطعي وفي غيره من الذنوب خلاف بين أهل السنة هل هو قطعي أو ظني‏.‏

قال النووي‏:‏ الأقوى أنه ظني‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ من استقرأ الشريعة علم أن الله يقبل توبة الصادقين قطعا‏.‏

وللتوبة الصادقة شروط سيأتي البحث فيها في كتاب الرقاق، ويمكن أن يستدل بحديث الباب على صحة التوبة من بعض الذنوب دون بعض، وسيأتي تحقيق ذلك‏.‏

وفيه أن الوعيد يتناول من شرب الخمر وإن لم يحصل له السكر، لأنه رتب الوعيد في الحديث على مجرد الشرب من غير قيد، وهو مجمع عليه في الخمر المتخذ من عصير العنب وكذا فيما يسكر من غيرها، وأما ما لا يسكر من غيرها فالأمر فيه كذلك عند الجمهور كما سيأتي بيانه، ويؤخذ من قوله‏:‏ ‏"‏ ثم لم يتب منها ‏"‏ أن التوبة مشروعة في جميع العمر ما لم يصل إلى الغرغرة، لما دل عليه ‏"‏ ثم ‏"‏ من التراخي، وليس المبادرة إلى التوبة شرطا في قبولها، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَابْنُ الْهَادِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَالزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بإيلياء‏)‏ بكسر الهمز وسكون التحتانية وكسر اللام وفتح التحتانية الخفيفة مع المد‏:‏ هي مدينة بيت المقدس، وهو ظاهر في أن عرض ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وقع وهو في بيت المقدس، لكن وقع في رواية الليث التي تأتي الإشارة إليها ‏"‏ إلى إيلياء ‏"‏ وليست صريحة في ذلك، لجواز أن يريد تعيين ليلة الإيتاء لا محله، وقد تقدم بيان ذلك مع بقية شرحه في أواخر الكلام على حديث الإسراء قبل الهجرة إلى المدينة‏.‏

وقوله فيه‏:‏ ‏"‏ ولو أخذت الخمر غوت أمتك ‏"‏ هو محل الترجمة قال ابن عبد البر يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم نفر من الخمر لأنه تفرس أنها ستحرم لأنها كانت حينئذ مباحة، ولا مانع من افتراق مباحين مشتركين في أصل الإباحة في أن أحدهما سيحرم والآخر تستمر إباحته‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون نفر منها لكونه لم يعتد شربها فوافق بطبعه ما سيقع من تحريمها بعد، حفظا من الله تعالى له ورعاية، واختار اللبن لكونه مألوفا له، سهلا طيبا طاهرا، سائغا للشاربين، سليم العاقبة، بخلاف الخمر في جميع ذلك‏.‏

والمراد بالفطرة هنا الاستقامة على الدين الحق‏.‏

وفي الحديث مشروعية الحمد عند حصول ما يحمد ودفع ما يحذر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ غوت أمتك ‏"‏ يحتمل أن يكون أخذه من طريق الفأل، أو تقدم عنده علم بترتب كل من الأمرين وهو أظهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه معمر وابن الهاد وعثمان بن عمر عن الزهري‏)‏ يعني بسنده‏.‏

ووقع في غير رواية أبي ذر زيادة الزبيدي مع المذكورين بعد عثمان بن عمر، فأما متابعة معمر فوصلها المؤلف في قصة موسى من أحاديث الأنبياء، وأول الحديث ذكر موسى وعيسى وصفتهما، وليس فيه ذكر إيلياء، وفيه ‏"‏ اشرب أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته‏"‏‏.‏

وأما رواية ابن الهاد - وهو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي ينسب لجد أبيه - فوصلها النسائي وأبو عوانة والطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ من طريق الليث عنه عن عبد الوهاب بن بخت عن ابن شهاب وهو الزهري، قال الطبراني‏:‏ تفرد به يزيد بن الهاد عن عبد الوهاب، فعلى هذا فقد سقط ذكر عبد الوهاب من الأصل بين ابن الهاد وابن شهاب، على أن ابن الهاد قد روى عن الزهري أحاديث غير هذا بغير واسطة، منها ما تقدم في تفسير المائدة قال البخاري فيه ‏"‏ وقال يزيد بن الهاد عن الزهري ‏"‏ فذكره، ووصله أحمد وغيره من طريق ابن الهاد عن الزهري بغير واسطة‏.‏

وأما رواية الزبيدي فوصلها النسائي وابن حبان والطبراني في ‏"‏ مسند الشاميين ‏"‏ من طريق محمد بن حرب عنه لكن ليس فيه ذكر إيلياء أيضا‏.‏

وأما رواية عثمان بن عمر فوصلها ‏"‏ تمام الرازي في فوائده ‏"‏ من طريق إبراهيم بن المنذر عن عمر بن عثمان عن أبيه عن الزهري به‏.‏

وأما ما ذكره المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ عن الحاكم أنه قال‏:‏ أراد البخاري بقوله‏:‏ ‏"‏ تابعه ابن الهاد وعثمان بن عمر عن الزهري ‏"‏ حديث ابن الهاد عن عبد الوهاب وحديث عثمان بن عمر بن فارس عن يونس كلاهما عن الزهري‏.‏

قلت‏:‏ وليس كما زعم الحاكم وأقره المزي في عثمان بن عمر، فإنه ظن أنه عثمان بن عمر بن فارس الراوي عن يونس بن يزيد، وليس به، وإنما هو عثمان بن عمر بن موسى بن عبد الله بن عمر التيمي، وليس لعثمان بن عمر بن فارس ولد اسمه عمر يروي عنه، وإنما هو ولد التيمي كما ذكرته من ‏"‏ فوائد تمام ‏"‏ وهو مدني، وقد ذكر عثمان الدارمي أنه سأل يحيى بن معين عن عمر بن عثمان بن عمر المدني عن أبيه عن الزهري فقال‏:‏ لا أعرفه ولا أعرف أباه‏.‏

قلت‏:‏ وقد عرفهما غيره، وذكر الزبير بن بكار في النسب عن عثمان المذكور فقال‏:‏ إنه ولي قضاء المدينة في زمن مروان بن محمد، ثم ولي القضاء للمنصور ومات معه بالعراق وذكره ابن حبان في الثقات، وأكثر الدار قطني من ذكره في ‏"‏ العلل ‏"‏ عند ذكره للأحاديث التي تختلف رواتها عن الزهري، وكثيرا ما ترجح روايته عن الزهري، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثاً لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ غَيْرِي قَالَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏هشام‏)‏ هو الدستوائي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يحدثكم به غيري‏)‏ كأن أنسا حدث به في أواخر عمره فأطلق ذلك، أو كان يعلم أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا من كان قد مات‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتشرب الخمر‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وشرب الخمر ‏"‏ بالإضافة، ورواية الجماعة أولى للمشاكلة‏.‏

قوله ‏(‏حتى يكون لخمسين‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ حتى يكون خمسون امرأة قيمهن رجل واحد ‏"‏ وسبق شرح الحديث مستوفى في كتاب العلم، والمراد أن من أشراط الساعة كثرة شرب الخمر كسائر ما ذكر في الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولَانِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ‏"‏ وقع في أكثر الروايات هنا ‏"‏ لا يزني حين يزني ‏"‏ بحذف الفاعل، فقدر بعض الشراح الرجل أو المؤمن أو الزاني، وقد بينت هذه الرواية تعيين الاحتمال الثالث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا أشد ما ورد في شرب الخمر، وبه تعلق الخوارج فكفروا مرتكب الكبيرة عامدا عالما بالتحريم، وحمل أهل السنة الإيمان هنا على الكامل، لأن العاصي يصير أنقص حالا في الإيمان ممن لا يعصي، ويحتمل أن يكون المراد أن فاعل ذلك يئول أمره إلى ذهاب الإيمان، كما وقع في حديث عثمان الذي أوله ‏"‏ اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث - وفيه - وإنها لا تجتمع هي والإيمان إلا وأوشك أحدهما أن يخرج صاحبه ‏"‏ أخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا، وصححه ابن حبان مرفوعا‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وإنما أدخل البخاري هذه الأحاديث المشتملة على الوعيد الشديد في هذا الباب ليكون عوضا عن حديث ابن عمر ‏"‏ كل مسكر حرام ‏"‏ وإنما لم يذكره في هذا الباب لكونه روي موقوفا، كذا قال، وفيه نظر، لأن في الوعيد قدرا زائدا على مطلق التحريم، وقد ذكر البخاري ما يؤدي معنى حديث ابن عمر كما سيأتي قريبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن شهاب‏)‏ هو موصول بالإسناد المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن أبا بكر أخبره‏)‏ هو والد عبد الملك شيخ ابن شهاب فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يقول كان أبو بكر‏)‏ هو ابن عبد الرحمن المذكور، والمعنى أنه كان يزيد ذلك في حديث أبي هريرة، وقد مضى بيان ذلك عند ذكر شرح الحديث في كتاب المظالم، ويأتي مزيد لذلك في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب الْخَمْرُ مِنْ الْعِنَبِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الخمر من العنب وغيره‏)‏ كذا في شرح ابن بطال، ولم أر لفظ ‏"‏ وغيره ‏"‏ في شيء من نسخ الصحيح ولا المستخرجات ولا الشروح سواه‏.‏

قال ابن المنير‏:‏ غرض البخاري الرد على الكوفيين إذ فرقوا بين ماء العنب وغيره فلم يحرموا من غيره إلا القدر المسكر خاصة، وزعموا أن الخمر ماء العنب خاصة، قال‏:‏ لكن في استدلاله بقول ابن عمر - يعني الذي أورده في الباب ‏"‏ حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء ‏"‏ - على أن الأنبذة التي كانت يومئذ تسمى خمرا نظر، بل هو بأن يدل على أن الخمر من العنب خاصة أجدر، لأنه قال‏:‏ وما منها بالمدينة شيء - يعني الخمر - وقد كانت الأنبذة من غير العنب موجودة حينئذ بالمدينة، فدل على أن الأنبذة ليست خمرا، إلا أن يقال إن كلام ابن عمر يتنزل على جواب قول من قال لا خمر إلا من العنب، فيقال‏:‏ قد حرمت الخمر وما بالمدينة من خمر العنب شيء، بل كان الموجود بها من الأشربة ما يصنع من البسر والتمر ونحو ذلك، وفهم الصحابة من تحريم الخمر تحريم ذلك كله، ولولا ذلك ما بادروا إلى إراقتها‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون مراد البخاري بهذه الترجمة وما بعدها أن الخمر يطلق على ما يتخذ من عصير العنب، ويطلق على نبيذ البسر والتمر، ويطلق على ما يتخذ من العسل، فعقد لكل واحد منها بابا، ولم يرد حصر التسمية في العنب، بدليل ما أورده بعده‏.‏

ويحتمل أن يريد بالترجمة الأولى الحقيقة وبما عداها المجاز، والأول أظهر من تصرفه‏.‏

وحاصله أنه أراد بيان الأشياء التي وردت فيها الأخبار على شرطه لما يتخذ منه الخمر، فبدأ بالعنب لكونه المتفق عليه، ثم أردفه بالبسر والتمر، والحديث الذي أورده فيه عن أنس ظاهر في المراد جدا، ثم ثلث بالعسل إشارة إلى أن ذلك لا يختص بالتمر والبسر، ثم أتى بترجمة عامة لذلك وغيره وهي ‏"‏ الخمر ما خامر العقل ‏"‏ والله أعلم‏.‏

وفيه إشارة إلى ضعف الحديث الذي جاء عن أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ الخمر من هاتين الشجرتين‏:‏ النخلة والعنبة ‏"‏ أو أنه ليس المراد به الحصر فيهما، والمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد فإنه يحرم تناول قليله وكثيره بالاتفاق‏.‏

وحكى ابن قتيبة عن قوم من مجان أهل الكلام أن النهي عنها للكراهة، وهو قول مهجور لا يلتفت إلى قائله‏.‏

وحكى أبو جعفر النحاس عن قوم أن الحرام ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه ليس بحرام، قال‏:‏ وهذا عظيم من القول يلزم منه القول بحل كل شيء اختلف في تحريمه، ولو كان مستند الخلاف واهيا‏.‏

ونقل الطحاوي في ‏"‏ اختلاف العلماء ‏"‏ عن أبي حنيفة‏:‏ الخمر حرام قليلها وكثيرها، والسكر من غيرها حرام وليس كتحريم الخمر، والنبيذ المطبوخ لا بأس به من أي شيء كان، وإنما يحرم منه القدر الذي يسكر‏.‏

وعن أبي يوسف‏:‏ لا بأس بالنقيع من كل شيء وإن غلا إلا الزبيب والتمر، قال‏:‏ وكذا حكاه محمد عن أبي حنيفة‏.‏

وعن محمد‏:‏ ما أسكر كثيره فأحب إلي أن لا أشربه ولا أحرمه‏.‏

وقال الثوري‏:‏ أكره نقيع التمر ونقيع الزبيب إذا غلى، ونقيع العسل لا بأس به‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَقَدْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني الحسن بن صباح‏)‏ هو البزار آخره راء، ومحمد بن سابق من شيوخ البخاري، وقد يحدث عنه بواسطة كهذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا مالك هو ابن مغول‏)‏ كان شيخ البخاري حدث به فقال ‏"‏ حدثنا مالك ‏"‏ ولم ينسبه فنسبه هو لئلا يلتبس بمالك بن أنس، وقد أخرج الإسماعيلي الحديث المذكور من طريق محمد بن إسحاق الصغاني عن محمد بن سابق فقال‏:‏ ‏"‏ عن مالك بن مغول‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما بالمدينة منها شيء‏)‏ يحتمل أن يكون ابن عمر نفى ذلك بمقتضى ما علم، أو أراد المبالغة من أجل قلتها حينئذ بالمدينة فأطلق النفي، كما يقال فلان ليس بشيء مبالغة، ويؤيده قول أنس المذكور في الباب ‏"‏ وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا ‏"‏ ويحتمل أن يكون مراد ابن عمر وما بالمدينة منها شيء أي يعصر، وقد تقدم في تفسير المائدة من وجه آخر عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب ‏"‏ وحمل على ما كان يصنع بها لا على ما يجلب إليها‏.‏

وأما قول عمر في ثالث أحاديث الباب ‏"‏ نزل تحريم الخمر وهي من خمسة ‏"‏ فمعناه أنها كانت حينئذ تصنع من الخمسة المذكورة في البلاد، لا في خصوص المدينة كما سيأتي تقريره بعد بابين مع شرحه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ وَمَا نَجِدُ يَعْنِي بِالْمَدِينَةِ خَمْرَ الْأَعْنَابِ إِلَّا قَلِيلاً وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن يونس‏)‏ هو ابن عبيد البصري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعامة خمرنا البسر والتمر‏)‏ أي النبيذ الذي يصير خمرا كان أكثر ما يتخذ من البسر والتمر‏.‏

قال الكرماني‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏ البسر والتمر ‏"‏ مجاز عن الشراب الذي يصنع منهما، وهو عكس ‏(‏إني أراني أعصر خمرا‏)‏ أو فيه حذف تقديره عامة أصل خمرنا أو مادته، وسيأتي في الباب الذي بعده من وجه آخر عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ إن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر ‏"‏ وتقرير الحذف فيه ظاهر‏.‏

وأخرج النسائي وصححه الحاكم من رواية محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الزبيب والتمر هو الخمر ‏"‏ وسنده صحيح، وظاهره الحصر لكن المراد المبالغة، وهو بالنسبة إلى ما كان حينئذ بالمدينة موجودا كما تقرر في حديث أنس، وقيل‏:‏ مراد أنس الرد على من خص اسم الخمر بما يتخذ من العنب، وقيل‏:‏ مراده أن التحريم لا يختص بالخمر المتخذة من العنب بل يشركها في التحريم كل شراب مسكر، وهذا أظهر والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ حَدَّثَنَا عَامِرٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏يحيى‏)‏ هو ابن سعيد القطان، وأبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي، وعامر هو الشعبي‏.‏

قوله ‏(‏قام عمر على المنبر فقال‏:‏ أما بعد نزل تحريم الخمر‏)‏ ساقه من هذا الوجه مختصرا، وسيأتي بعد قليل مطولا‏.‏

قال ابن مالك‏:‏ فيه جواز حذف الفاء في جواب ‏"‏ أما بعد‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ لا حجة فيه، لأن هذه رواية مسدد هنا، وسيأتي قريبا عن أحمد بن أبي رجاء عن يحيى القطان بلفظ ‏"‏ خطب عمر على المنبر فقال‏:‏ إنه قد نزل تحريم الخمر ‏"‏ ليس فيه ‏"‏ أما بعد ‏"‏ وأخرجه الإسماعيلي هنا من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي عن يحيى بن سعيد القطان شيخ مسدد وفيه بلفظ ‏"‏ أما بعد فإن الخمر ‏"‏ فظهر أن حذف الفاء وإثباتها من تصرف الرواة‏.‏

*3*باب نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر‏)‏ أي تصنع أو تتخذ، وذكر فيه حديث أنس من رواية إسحاق بن أبي طلحة عنه أتم سياقا من رواية ثابت عنه المتقدمة في الباب قبله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا فَأَهْرَقْتُهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏كنت أسقي أبا عبيدة‏)‏ هو ابن الجراح، ‏(‏وأبا طلحة‏)‏ هو زيد بن سهل زوج أم سليم أم أنس، ‏(‏وأبي بن كعب‏)‏ ، كذا اقتصر في هذه الرواية على هؤلاء الثلاثة، فأما أبو طلحة فلكون القصة كانت في منزله كما مضى في التفسير من طريق ثابت عن أنس ‏"‏ كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة ‏"‏ وأما أبو عبيدة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين أبي طلحة كما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس، وأما أبي بن كعب فكان كبير الأنصار وعالمهم‏.‏

ووقع في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس في تفسير المائدة ‏"‏ إني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا ‏"‏ كذا وقع بالإبهام، وسمى في رواية مسلم منهم أبا أيوب، وسيأتي بعد أبواب من رواية هشام عن قتادة عن أنس ‏"‏ إني كنت لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل ابن بيضاء ‏"‏ وأبو دجانة بضم الدال المهملة وتخفيف الجيم وبعد الألف نون اسمه سماك بن خرشة بمعجمتين بينهما راء مفتوحات، ولمسلم من طريق سعيد عن قتادة نحوه وسمى فيهم معاذ بن جبل، ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس ‏"‏ كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل ابن بيضاء ونفرا من الصحابة عند أبي طلحة ‏"‏ ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس أن القوم كانوا أحد عشر رجلا، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم، وأبهمهم في رواية سليمان التيمي عن أنس وهي في هذا الباب ولفظه ‏"‏ كنت قائما على الحي أسقيهم عمومتي ‏"‏ وقوله عمومتي في موضع خفض على البدل من قوله‏:‏ ‏"‏ الحي ‏"‏ وأطلق عليهم عمومته لأنهم كانوا أسن منه ولأن أكثرهم من الأنصار‏.‏

ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس أن أبا بكر وعمر كانا فيهم، وهو منكر مع نظافة سنده، وما أظنه إلا غلطا‏.‏

وقد أخرج أبو نعيم في ‏"‏ الحلية ‏"‏ في ترجمة شعبة من حديث عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ حرم أبو بكر الخمر على نفسه فلم يشربها في جاهلية ولا إسلام ‏"‏ ويحتمل إن كان محفوظا أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم‏.‏

ثم وجدت عند البزار من وجه آخر عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ كنت ساقي القوم، وكان في القوم رجل يقال له أبو بكر، فلما شرب قال‏:‏ ‏"‏ تحيى بالسلامة أم بكر ‏"‏ الأبيات، فدخل علينا رجل من المسلمين فقال‏:‏ قد نزل تحريم الخمر ‏"‏ الحديث‏.‏

وأبو بكر هذا يقال له ابن شغوب، فظن بعضهم أنه أبو بكر الصديق، وليس كذلك، لكن قرينة ذكر عمر تدل على عدم الغلط في وصف الصديق، فحصلنا تسمية عشرة، وقد قدمت في غزوة بدر من المغازي ترجمة أبي بكر بن شغوب المذكور‏.‏

وفي ‏"‏ كتاب مكة للفاكهي ‏"‏ من طريق مرسل ما يشيد ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من فضيخ زهو وتمر‏)‏ أما الفضيخ فهو بفاء وضاد معجمتين وزن عظيم‏:‏ اسم للبسر إذا شدخ ونبذ، وأما الزهو فبفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو‏:‏ وهو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب‏.‏

وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب، كما يطلق على خليط البسر والتمر، وكما يطلق على البسر وحده وعلى التمر وحده كما في الرواية التي آخر الباب‏.‏

وعند أحمد من طريق قتادة عن أنس ‏"‏ وما خمرهم يومئذ إلا البسر والتمر مخلوطين ‏"‏ ووقع عند مسلم من طريق قتادة عن أنس ‏"‏ أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجاءهم آت‏)‏ لم أقف على اسمه، ووقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد بعد قوله ‏"‏ أسقيهم ‏"‏‏:‏ ‏"‏ حتى كاد الشراب يأخذ فيهم ‏"‏ ولابن مردويه ‏"‏ حتى أسرعت فيهم ‏"‏ ولابن أبي عاصم ‏"‏ حتى مالت رءوسهم، فدخل داخل ‏"‏ ومضى في المظالم من طريق ثابت عن أنس ‏"‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى ‏"‏ ولمسلم من هذا الوجه ‏"‏ فإذا مناد ينادي أن الخمر قد حرمت ‏"‏ وله من رواية سعيد عن قتادة عن أنس نحوه وزاد ‏"‏ فقال أبو طلحة‏:‏ أخرج فانظر ما هذا الصوت ‏"‏ ومضى في التفسير من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس بلفظ ‏"‏ إذ جاء رجل فقال‏:‏ هل بلغكم الخبر‏؟‏ قالوا‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ قد حرمت الخمر ‏"‏ وهذا الرجل يحتمل أن يكون هو المنادي، ويحتمل أن يكون غيره سمع المنادي فدخل إليهم فأخبرهم‏.‏

وقد أخرج ابن مردويه من طريق بكر بن عبد الله عن أنس قال ‏"‏ لما حرمت الخمر وحلف على أناس من أصحابي وهي بين أيديهم، فضربتها برجلي وقلت‏:‏ نزل تحريم الخمر ‏"‏ فيحتمل أن يكون أنس خرج فاستخبر الرجل، لكن أخرجه من وجه آخر أن الرجل قام على الباب فذكر لهم تحريمها، ومن وجه آخر ‏"‏ أتانا فلان من عند نبينا فقال‏:‏ قد حرمت الخمر، قلنا‏:‏ ما تقول‏؟‏ فقال‏:‏ سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم الساعة، ومن عنده أتيتكم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال أبو طلحة‏:‏ قم يا أنس، فهرقها‏)‏ بفتح الهاء وكسر الراء وسكون القاف، والأصل أرقها، فأبدلت الهمزة هاء، وكذا قوله‏:‏ ‏"‏ فهرقتها ‏"‏ وقد تستعمل هذه الكلمة بالهمزة والهاء معا وهو نادر، وقد تقدم بسطه في الطهارة‏.‏

ووقع في رواية ثابت عن أنس في التفسير بلفظ ‏"‏ فأرقها‏"‏، ومن رواية عبد العزيز بن صهيب ‏"‏ فقالوا أرق هذه القلال يا أنس ‏"‏ وهو محمول على أن المخاطب له بذلك أبو طلحة، ورضي الباقون بذلك فنسب الأمر بالإراقة إليهم جميعا‏.‏

ووقع في الرواية الثانية في الباب ‏"‏ أكفئها ‏"‏ بكسر الفاء مهموز بمعنى أرقها، وأصل الإكفاء الإمالة‏.‏

ووقع في ‏"‏ باب إجازة خبر الواحد ‏"‏ من رواية أخرى عن مالك في هذا الحديث ‏"‏ قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس‏:‏ فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت ‏"‏ وهذا لا ينافي الروايات الأخرى بل يجمع بأنه أراقها وكسر أوانيها، أو أراق بعضا وكسر بعضا‏.‏

وقد ذكر ابن عبد البر أن إسحاق بن أبي طلحة تفرد عن أنس بذكر الكسر، وأن ثابتا وعبد العزيز بن صهيب وحميدا وعد جماعة من الثقات رووا الحديث بتمامه عن أنس منهم من طوله ومنهم من اختصره، فلم يذكروا إلا إراقتها‏.‏

والمهراس بكسر الميم وسكون الهاء وآخره مهملة إناء يتخذ من صخر وينقر وقد يكون كبيرا كالحوض وقد يكون صغيرا بحيث يتأتى الكسر به، وكأنه لم يحضره ما يكسر به غيره، أو كسر بآلة المهراس التي يدق بها فيه كالهاون فأطلق اسمه عليها مجازا‏.‏

ووقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد ‏"‏ فوالله ما قالوا حتى ننظر ونسأل ‏"‏ وفي رواية عبد العزيز بن صهيب في التفسير ‏"‏ فوالله ما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل ‏"‏ ووقع في المظالم ‏"‏ فجرت في سكك المدينة ‏"‏ أي طرقها، وفيه إشارة إلى توارد من كانت عنده من المسلمين على إراقتها حتى جرت في الأزقة من كثرتها‏.‏

قال القرطبي تمسك بهذه الزيادة بعض من قال إن الخمر المتخذة من غير العنب ليست نجسة لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التخلي في الطرق، فلو كانت نجسة ما أقرهم على إراقتها في الطرقات حتى تجري‏.‏

والجواب أن القصد بالإراقة كان لإشاعة تحريمها، فإذا اشتهر ذلك كان أبلغ فتحتمل أخف المفسدتين لحصول المصلحة العظيمة الحاصلة من الاشتهار، ويحتمل أنها إنما أريقت في الطرق المنحدرة بحيث تنصب إلى الأسربة والحشوش أو الأودية فتستهلك فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن مردويه من حديث جابر بسند جيد في قصة صب الخمر قال‏:‏ ‏"‏ فانصبت حتى استنقعت في بطن الوادي‏"‏‏.‏

والتمسك بعموم الأمر باجتنابها كاف في القول بنجاستها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَنَساً قَالَ كُنْتُ قَائِماً عَلَى الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ عُمُومَتِي وَأَنَا أَصْغَرُهُمْ الْفَضِيخَ فَقِيلَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فَقَالُوا أَكْفِئْهَا فَكَفَأْتُهَا قُلْتُ لِأَنَسٍ مَا شَرَابُهُمْ قَالَ رُطَبٌ وَبُسْرٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت لأنس‏)‏ القائل هو سليمان التيمي والد معتمر، وقوله‏:‏ ‏"‏ فقال أبو بكر بن أنس‏:‏ وكانت خمرهم ‏"‏ زاد مسلم من هذا الوجه ‏"‏ يومئذ ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ فلم ينكر أنس ‏"‏ زاد مسلم ‏"‏ ذلك ‏"‏ والمعنى أن أبا بكر بن أنس كان حاضرا عند أنس لما حدثهم فكأن أنسا حينئذ لم يحدثهم بهذه الزيادة إما نسيانا وإما اختصارا، فذكره بها ابنه أبو بكر فأقره عليها، وقد ثبت تحديث أنس بها كما سأذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وحدثني بعض أصحابي‏)‏ القائل هو سليمان التيمي أيضا، وهو موصول بالسند المذكور، وقد أفرد مسلم هذه الطريق عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال ‏"‏ حدثني بعض من كان معي أنه سمع أنسا يقول‏:‏ ‏"‏ كان خمرهم يومئذ ‏"‏ فيحتمل أن يكون أنس حدث بها حينئذ فلم يسمعه سليمان، أو حدث بها في مجلس آخر فحفظها عنه الرجل الذي حدث بها سليمان، وهذا المبهم يحتمل أن يكون هو بكر بن عبد الله المزني، فإن روايته في آخر الباب تومئ إلى ذلك‏.‏

ويحتمل أن يكون قتادة، فسيأتي بعد أبواب من طريقه عن أنس بلفظ ‏"‏ وإنا نعدها يومئذ الخمر ‏"‏ وهو من أقوى الحجج على أن الخمر اسم جنس لكل ما يسكر، سواء كان من العنب أو من نقيع الزبيب أو التمر أو العسل أو غيرها‏.‏

وأما دعوى بعضهم أن الخمر حقيقة في ماء العنب، مجاز في غيره، فإن سلم في اللغة لزم من قال به جواز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والكوفيون لا يقولون بذلك انتهى‏.‏

وأما من حيث الشرع فالخمر حقيقة في الجميع، لثبوت حديث ‏"‏ كل مسكر خمر ‏"‏ فمن زعم أنه جمع بين الحقيقة والمجاز في هذا اللفظ لزمه أن يجيزه، وهذا ما لا انفكاك لهم عنه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا يُوسُفُ أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني يوسف‏)‏ هو ابن يزيد، وهو أبو معشر البراء بالتشديد، وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه، ويقال له أيضا القطان وشهرته بالبراء أكثر، وكان يبري السهام؛ وهو بصرى، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر سيأتي في الطب وكلاهما في المتابعات، وقد لينه ابن معين وأبو داود، ووثقه المقدمي، وسعيد بن عبيد الله بالتصغير اسم جده جبير بالجيم والموحدة مصغرا ابن حية بالمهملة وتشديد التحتانية وثقه أحمد وابن معين‏.‏

وقال الحاكم عن الدار قطني‏:‏ ليس بالقوي، وما له أيضا في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر تقدم في الجزية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر‏)‏ هكذا رواه أبو معشر مختصرا، وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن عبيد الله بهذا السند مطولا ولفظه عن أنس ‏"‏ نزل تحريم الخمر، فدخلت على أناس من أصحابي وهي بين أيديهم فضربتها برجلي فقلت‏:‏ انطلقوا فقد نزل تحريم الخمر، وشرابهم يومئذ البسر والتمر ‏"‏ وهذا الفعل من أنس كأنه بعد أن خرج فسمع النداء بتحريم الخمر، فرجع فأخبرهم‏.‏

ووقع عند ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أنس ‏"‏ فأراقوا الشراب وتوضأ بعض واغتسل بعض، وأصابوا من طيب أم سليم وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ ‏(‏إنما الخمر والميسر‏)‏ الآية‏.‏

واستدل بهذا الحديث على أن شرب الخمر كان مباحا لا إلى نهاية، ثم حرمت‏.‏

وقيل‏:‏ كان المباح الشرب لا السكر المزيل للعقل، وحكاه أبو نصر بن القشيري في تفسيره عن القفال، ونازعه فيه‏.‏

وبالغ النووي في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏ فقال‏:‏ ما يقوله بعض من لا تحصيل عنده أن السكر لم يزل محرما باطل لا أصل له، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏)‏ فإن مقتضاه وجود السكر حتى يصل إلى الحد المذكور، ونهوا عن الصلاة في تلك الحالة لا في غيرها، فدل على أن ذلك كان واقعا‏.‏

ويؤيده قصة حمزة والشارفين كما تقدم تقريره في مكانه‏.‏

وعلى هذا فهل كانت مباحة بالأصل أو بالشرع ثم نسخت‏؟‏ فيه قولان للعلماء، والراجح الأول، واستدل به على أن المتخذ من غير العنب يسمى خمرا، وسيأتي البحث في ذلك قريبا في ‏"‏ باب ما جاء أن الخمر ما خامر العقل ‏"‏ وعلى أن السكر المتخذ من غير العنب يحرم شرب قليله كما يحرم شرب القليل من المتخذ من العنب إذا أسكر كثيره، لأن الصحابة فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم ما يتخذ للسكر من جميع الأنواع، ولم يستفصلوا‏.‏

وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين‏.‏

وخالف في ذلك الحنفية ومن قال بقولهم من الكوفيين فقالوا‏:‏ يحرم المتخذ من العنب قليلا كان أو كثيرا إلا إذا طبخ على تفصيل سيأتي بيانه في باب مفرد، فإنه يحل‏.‏

وقد انعقد الإجماع على أن القليل من الخمر المتخذ من العنب يحرم قليله وكثيره، وعلى أن العلة في تحريم قليله كونه يدعو إلى تناول كثيره، فيلزم ذلك من فرق في الحكم بين المتخذ من العنب وبين المتخذ من غيرها فقال في المتخذ من العنب‏:‏ يحرم القليل منه والكثير إلا إذا طبخ كما سيأتي بيانه، وفي المتخذ من غيرها لا يحرم منه إلا القدر الذي يسكر وما دونه لا يحرم، ففرقوا بينهما بدعوى المغايرة في الاسم مع اتحاد العلة فيهما، فإن كل قدر في المتخذ من العنب يقدر في المتخذ من غيرها، قال القرطبي‏:‏ وهذا من أرفع أنواع القياس لمساواة الفرع فيه للأصل في جميع أوصافه، مع موافقته فيه لظواهر النصوص الصحيحة، والله أعلم‏.‏

قال الشافعي‏:‏ قال لي بعض الناس الخمر حرام، والسكر من كل شراب حرام، ولا يحرم المسكر منه حتى يسكر، ولا يحد شاربها‏.‏

فقلت‏:‏ كيف خالفت ما جاء به عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن عمر ثم عن علي ولم يقل أحد من الصحابة خلافه‏؟‏ قال‏:‏ وروينا عن عمر، قلت‏:‏ في سنده مجهول عنده فلا حجة فيه‏.‏

قال البيهقي‏:‏ أشار إلى رواية سعيد بن ذي لعوة أنه شرب من سطيحة لعمر فكسر فجلده عمر، قال‏:‏ إنما شربت من سطيحتك‏.‏

قال‏:‏ أضربك على السكر‏.‏

وسعيد قال البخاري وغيره‏:‏ لا يعرف‏.‏

قال‏:‏ وقال بعضهم سعيد بن ذي حدان، وهو غلط‏.‏

ثم ذكر البيهقي الأحاديث التي جاءت في كسر النبيذ بالماء، منها حديث همام بن الحارث عن عمر ‏"‏ أنه كان في سفر، فأتي بنبيذ فشرب منه فقطب، ثم قال‏:‏ إن نبيذ الطائفة له عرام - بضم المهملة وتخفيف الراء - ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شرب ‏"‏ وسنده قوي، وهو أصح شيء ورد في ذلك، وليس نصا في أنه بلغ حد الإسكار، فلو كان بلغ حد الإسكار لم يكن صب الماء عليه مزيلا لتحريمه، وقد اعترف الطحاوي بذلك فقال‏:‏ لو كان بلغ التحريم لكان لا يخل، ولو ذهبت شدته بصب الماء، فثبت أنه قبل أن يصب عليه الماء كان غير حرام‏.‏

قلت‏:‏ وإذا لم يبلغ حد الإسكار فلا خلاف في إباحة شرب قليله وكثيره، فدل على أن تقطيبه لأمر غير الإسكار‏.‏

قال البيهقي‏:‏ حمل هذه الأشربة على أنهم خشوا أن تتغير فتشتد، فجوزوا صب الماء فيها ليمتنع الاشتداد، أولى من حملها على أنها كانت بلغت حد الإسكار، فكان صب الماء عليها لذلك‏.‏

لأن مزجها بالماء لا يمنع إسكارها إذا كانت قد بلغت حد الإسكار‏.‏

ويحتمل أن يكون سبب صب الماء كون ذلك الشراب كان حمض، ولهذا قطب عمر لما شربه، فقد قال نافع‏:‏ والله ما قطب عمر وجهه لأجل الإسكار حين ذاقه، ولكنه كان تخلل‏.‏

وعن عتبة بن فرقد قال‏:‏ كان النبيذ الذي شربه عمر قد تخلل، قلت‏:‏ وهذا الثاني أخرجه النسائي بسند صحيح، وروى الأثرم عن الأوزاعي وعن العمري أن عمر إنما كسره بالماء لشدة حلاوته‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن الحمل على حالتين‏:‏ هذه لما لم يقطب حين ذاقه وأما عندما قطب فكان لحموضته‏.‏

واحتج الطحاوي لمذهبهم أيضا بما أخرجه من طريق النخعي عن علقمة عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏"‏ كل مسكر حرام ‏"‏ قال‏:‏ هي الشربة التي تسكر‏.‏

وتعقب بأنه ضعيف لأنه تفرد به حجاج بن أرطاة عن حماد بن أبي سليمان عن النخعي وحجاج هو ضعيف ومدلس أيضا‏.‏

قال البيهقي‏:‏ ذكر هذا لعبد الله بن المبارك فقال‏:‏ هذا باطل‏.‏

وروى بسند له صحيح عن النخعي قال‏:‏ إذا سكر من شراب لم يحل له أن يعود فيه أبدا‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أيضا عند النسائي بسند صحيح ثم روى النسائي عن ابن المبارك قال‏:‏ ما وجدت الرخصة فيه من وجه صحيح إلا عن النخعي من قوله‏.‏

وأخرج النسائي والأثرم من طريق خالد بن سعد عن أبي مسعود قال‏:‏ عطش النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف فأتي بنبيذ من السقاية فقطب، فقيل‏:‏ أحرام هو‏؟‏ قال لا‏:‏ علي بذنوب من ماء زمزم، فصب عليه وشرب ‏"‏ قال الأثرم‏:‏ احتج به الكوفيون لمذهبهم، ولا حجة فيه، لأنهم متفقون على أن النبيذ إذا اشتد بغير طبخ لا يحل شربه، فإن زعموا أن الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم كان من هذا القبيل فقد نسبوا إليه أنه شرب المسكر، ومعاذ الله من ذلك‏.‏

وإن زعموا أنه قطب من حموضته لم يكن لهم فيه حجة، لأن النقيع ما لم يشتد فكثيره وقليله حلال بالاتفاق‏.‏

قلت‏:‏ وقد ضعف حديث أبي مسعود المذكور النسائي وأحمد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم، لتفرد يحيى بن يمان برفعه وهو ضعيف‏.‏

ثم روى النسائي عن ابن المبارك قال‏:‏ ما وجدت الرخصة فيه من وجه صحيح إلا عن النخعي من قوله‏.‏

*3*باب الْخَمْرُ مِنْ الْعَسَلِ وَهُوَ الْبِتْعُ

وَقَالَ مَعْنٌ سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ الْفُقَّاعِ فَقَالَ إِذَا لَمْ يُسْكِرْ فَلَا بَأْسَ وَقَالَ ابْنُ الدَّرَاوَرْدِيِّ سَأَلْنَا عَنْهُ فَقَالُوا لَا يُسْكِرُ لَا بَأْسَ بِهِ

الشرح‏:‏

قوله في حديث البراء ‏"‏ إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر ‏"‏ وقع في بعض الروايات ‏"‏ في يومنا هذا نصلي ‏"‏ بحذف ‏"‏ أن ‏"‏ وعليها شرح الكرماني فقال‏:‏ هو مثل ‏"‏ تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ‏"‏ وهو على تنزيل الفعل منزلة المصدر، والمراد بالسنة هنا في الحديثين معا الطريقة لا السنة بالاصطلاح التي تقابل الوجوب، والطريقة أعم من أن تكون للوجوب أو للندب، فإذا لم يقم دليل على الوجوب بقي الندب وهو وجه إيرادها في هذه الترجمة‏.‏

وقد استدل من قال بالوجوب بوقوع الأمر فيهما بالإعادة، وأجيب بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة، فهو كما لو قال لمن صلى راتبة الضحى مثلا قبل طلوع الشمس‏:‏ إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك، وقوله في حديث البراء ‏"‏ وليس من النسك في شيء ‏"‏ النسك يطلق ويراد به الذبيحة ويستعمل في نوع خاص من الدماء المراقة، ويستعمل بمعنى العبادة وهو أعم يقال فلان ناسك أي عابد، وقد استعمل في حديث البراء بالمعنى الثالث وبالمعنى الأول أيضا في قوله في الطريق الأخرى ‏"‏ من نسك قبل الصلاة فلا نسك له ‏"‏ أي من ذبح قبل الصلاة فلا ذبح له أي لا يقع عن الأضحية، وقوله فيه ‏"‏ وقال مطرف ‏"‏ يعني ابن طريف بالطاء المهملة وزن عظيم، وعامر هو الشعبي، وقد تقدمت رواية مطرف موصولة في العيدين وتأتي أيضا بعد ثمانية أبواب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ فَقَالَ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سئل عن البتع‏)‏ زاد شعيب عن الزهري وهو ثاني أحاديث الباب ‏"‏ وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه ‏"‏ ومثله لأبي داود من طريق الزبيدي عن الزهري، وظاهره أن التفسير من كلام عائشة، ويحتمل أن يكون من كلام من دونها، ووقع في رواية معمر عن الزهري عند أحمد مثل رواية مالك، لكن قال في آخره‏:‏ ‏"‏ والبتع نبيذ العسل ‏"‏ وهو أظهر في احتمال الإدراج‏.‏

لأنه أكثر ما يقع في آخر الحديث‏.‏

وقد أخرجه مسلم من طريق معمر لكن لم يسق لفظه، ولم أقف على اسم السائل في حديث عائشة صريحا، لكنني أظنه أبا موسى الأشعري، فقد تقدم في المغازي من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه ‏"‏ عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فسأله عن أشربة تصنع بها فقال‏:‏ ما هي‏؟‏ قال‏:‏ البتع والمزر، فقال‏:‏ كل مسكر حرام‏.‏

قلت لأبي بردة‏:‏ ما البتع‏؟‏ قال‏:‏ نبيذ العسل ‏"‏ وهو عند مسلم من وجه آخر عن سعيد بن أبي بردة بلفظ ‏"‏ فقلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن‏:‏ البتع من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر من الشعير والذرة ينبذ حتى يشتد، قال‏:‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم وخواتمه، فقال‏:‏ أنهى عن كل مسكر ‏"‏ وفي رواية أبي داود التصريح بأن تفسير البتع مرفوع ولفظه ‏"‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل، فقال‏:‏ ذاك البتع، قلت‏:‏ ومن الشعير والذرة، قال‏:‏ ذاك المزر‏.‏

ثم قال‏:‏ أخبر قومك أن كل مسكر حرام ‏"‏ وقد سأل أبو وهب الجيشاني عن شيء ما سأله أبو موسى، فعند الشافعي وأبي داود من حديثه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المزر فأجاب بقوله ‏"‏ كل مسكر حرام ‏"‏ وهذه الرواية تفسير المراد بقوله في حديث الباب ‏"‏ كل شراب أسكر ‏"‏ وأنه لم يرد تخصيص التحريم بحالة الإسكار، بل المراد أنه إذا كانت فيه صلاحية الإسكار حرم تناوله ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه‏.‏

ويؤخذ من لفظ السؤال أنه وقع عن حكم جنس البتع لا عن القدر المسكر منه، لأنه لو أراد السائل ذلك لقال‏:‏ أخبرني عما يحل منه وما يحرم، وهذا هو المعهود من لسان العرب إذا سألوا عن الجنس قالوا‏:‏ هل هذا نافع أو ضار‏؟‏ مثلا‏.‏

وإذا سألوا عن القدر قالوا‏:‏ كم يؤخذ منه‏؟‏ وفي الحديث أن المفتي يجيب السائل بزيادة عما سأل عنه إذا كان ذلك مما يحتاج إليه السائل‏.‏

وفيه تحريم كل مسكر سواء كان متخذا من عصير العنب أو من غيره، قال المازري‏:‏ أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال، وعلى أنه إذا اشتد وغلى وقذف بالزبد حرم قليله وكثيره، ثم لو حصل له تخلل بنفسه حل بالإجماع أيضا، فوقع النظر في تبدل هذه الأحكام عند هذه المتخذات فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض، ودل على أن علة التحريم الإسكار فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الإسكار حرم تناول قليله وكثيره انتهى‏.‏

وما ذكره استنباطا ثبت التصريح به في بعض طرق الخبر، فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أسكر كثيره فقليله حرام ‏"‏ وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله، وسنده إلى عمرو صحيح‏.‏

ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعا، ‏"‏ كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ‏"‏ ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره ‏"‏ وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث، لكن قال‏:‏ اختلفوا في تأويل الحديث، فقال بعضهم‏:‏ أراد به جنس ما يسكر‏.‏

وقال بعضهم أراد به ما يقع السكر عنده، ويؤيده أن القاتل لا يسمى قاتلا حتى يقتل، قال‏:‏ ويدل له حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ حرمت الخمر قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وهو حديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه، وعلى تقدير صحته فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ ‏"‏ والمسكر ‏"‏ بضم الميم وسكون السين لا ‏"‏ السكر ‏"‏ بضم ثم سكون أو بفتحتين، وعلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد ولفظه محتمل، فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع صحتها وكثرتها‏؟‏ وجاء أيضا عن علي عند الدار قطني وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني وعن خوات بن جبير عند الدار قطني والحاكم والطبراني وعن زيد بن ثابت عند الطبراني وفي أسانيدها مقال، لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة‏.‏

قال أبو المظفر بن السمعاني - وكان حنفيا فتحول شافعيا -‏:‏ ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر، ثم ساق كثيرا منها ثم قال‏:‏ والأخبار في ذلك كثيرة ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافها، فإنها حجج قواطع‏.‏

قال‏:‏ وقد زل الكوفيون في هذا الباب ورووا أخبارا معلولة لا تعارض هذه الأخبار بحال، ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب مسكرا فقد دخل في أمر عظيم وباء بإثم كبير، وإنما الذي شربه كان حلوا ولم يكن مسكرا‏.‏

وقد روى ثمامة بن حزن القشيري أنه ‏"‏ سأل عائشة عن النبيذ فدعت جارية حبشية فقالت‏:‏ سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الحبشية‏:‏ كنت أنبذ له في سقاء من الليل وأوكؤه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه ‏"‏ أخرجه مسلم‏.‏

وروى الحسن البصري عن أمه عن عائشة نحوه ثم قال‏:‏ فقياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها، والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النبيذ، ومن ذلك أن علة الإسكار في الخمر لكون قليله يدعو إلى كثيره موجودة في النبيذ، لأن السكر مطلوب على العموم، والنبيذ عندهم عند عدم الخمر يقوم مقام الخمر لأن حصول الفرح والطرب موجود في كل منهما، وإن كان في النبيذ غلظ وكدرة وفي الخمر رقة وصفاء لكن الطبع يحتمل ذلك في النبيذ لحصول السكر كما تحتمل المرارة في الخمر لطلب السكر، قال‏:‏ وعلى الجملة فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر قل أو كثر مغنية عن القياس والله أعلم‏.‏

وقد قال عبد الله بن المبارك‏:‏ لا يصح في حل النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة شيء ولا عن التابعين، إلا عن إبراهيم النخعي، قال‏:‏ وقد ثبت حديث عائشة ‏"‏ كل شراب أسكر فهو حرام ‏"‏ وأما ما أخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي وائل‏:‏ كنا ندخل على ابن مسعود فيسقينا نبيذا شديدا، ومن طريق علقمة‏:‏ أكلت مع ابن مسعود فأتينا بنبيذ شديد نبذته سيرين فشربوا منه، فالجواب عنه من ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ لو حمل على ظاهره لم يكن معارضا للأحاديث الثابتة في تحريم كل مسكر‏.‏

ثانيها‏:‏ أنه ثبت عن ابن مسعود تحريم المسكر قليله وكثيره، فإذا اختلف القليل عنه كان الموافق لقول إخوانه من الصحابة مع موافقة الحديث المرفوع أولى‏.‏

ثالثها‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بالشدة شدة الحلاوة أو شدة الحموضة فلا يكون فيه حجة أصلا‏.‏

وأسند أبو جعفر النحاس عن يحيى بن معين أن حديث عائشة ‏"‏ كل شراب أسكر فهو حرام ‏"‏ أصح شيء في الباب، وفي هذا تعقب على من نقل عن ابن معين أنه قال‏:‏ لا أصل له‏.‏

وقد ذكر الزيلعي في ‏"‏ تخريج أحاديث الهداية ‏"‏ وهو من أكثرهم إطلاعا أنه لم يثبت في شيء من كتب الحديث نفل هذا عن ابن معين اهـ‏.‏

وكيف يتأتى القول بتضعيفه مع وجود مخارجه الصحيحة ثم مع كثرة طرقه، حتى قال الإمام أحمد‏:‏ إنها جاءت عن عشرين صحابيا، فأورد كثيرا منها في ‏"‏ كتاب الأشربة ‏"‏ المفرد، فمنها ما تقدم ومنها حديث ابن عمر المتقدم ذكره أول الباب، وحديث عمر بلفظ ‏"‏ كل مسكر حرام ‏"‏ عند أبي يعلى وفيه الإفريقي، وحديث علي بلفظ ‏"‏ اجتنبوا ما أسكر ‏"‏ عند أحمد وهو حسن، وحديث ابن مسعود عند ابن ماجه من طريق لين بلفظ عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر لين أيضا بلفظ علي، وحديث أنس أخرجه أحمد بسند صحيح بلفظ ‏"‏ ما أسكر فهو حرام ‏"‏ وحديث أبي سعيد أخرجه البزار بسند صحيح بلفظ عمر، وحديث الأشج العصري أخرجه أبو يعلى كذلك بسند جيد وصححه ابن حبان، وحديث ديلم الحميري أخرجه أبو داود بسند حسن في حديث فيه ‏"‏ قال هل يسكر‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فاجتنبوه ‏"‏ وحديث ميمونة أخرجه أحمد بسند حسن بلفظ ‏"‏ وكل شراب أسكر فهو حرام ‏"‏ وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود من طريق جيد بلفظ عمر، والبزار من طريق لين بلفظ ‏"‏ واجتنبوا كل مسكر ‏"‏ وحديث قيس بن سعد أخرجه الطبراني بلفظ حديث ابن عمر، وأخرجه أحمد من وجه آخر بلفظ حديث عمر، وحديث النعمان بن بشير أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ ‏"‏ وإني أنهاكم عن كل مسكر ‏"‏ وحديث معاوية أخرجه ابن ماجه بسند حسن بلفظ عمر، وحديث وائل بن حجر أخرجه ابن أبي عاصم، وحديث قرة بن إياس المزني أخرجه البزار بلفظ عمر بسند لين، وحديث عبد الله بن مغفل أخرجه أحمد بلفظ ‏"‏ اجتنبوا المسكر ‏"‏ وحديث أم سلمة أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ ‏"‏ نهي عن كل مسكر ومفتر ‏"‏ وحديث بريدة أخرجه مسلم في أثناء حديث ولفظه مثل لفظ عمر، وحديث أبي هريرة أخرجه النسائي بسند حسن كذلك، ذكر أحاديث هؤلاء الترمذي في الباب، وفيه أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي بلفظ عمر، وعن زيد بن الخطاب أخرجه الطبراني بلفظ علي ‏"‏ اجتنبوا كل مسكر ‏"‏ وعن الرسيم أخرجه أحمد بلفظ ‏"‏ اشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرا ‏"‏ وعن أبي بردة بن نيار أخرجه ابن أبي شيبة بنحو هذا اللفظ، وعن طلق بن علي رواه ابن أبي شيبة بلفظ ‏"‏ يا أيها السائل عن المسكر لا تشربه ولا تسقه أحدا من المسلمين ‏"‏ وعن صحار العبدي أخرجه الطبراني بنحو هذا، وعن أم حبيبة عند أحمد في ‏"‏ كتاب الأشربة ‏"‏ وعن الضحاك بن النعمان عند ابن أبي عاصم في الأشربة وكذا عنده عن خوات بن جبير، فإذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث ابن عمر وأبي موسى وعائشة زادت عن ثلاثين صحابيا، وأكثر الأحاديث عنهم جياد ومضمونها أن المسكر لا يحل تناوله بل يجب اجتنابه والله أعلم‏.‏

وقد رد أنس الاحتمال الذي جنح إليه الطحاوي فقال أحمد‏:‏ ‏"‏ حدثنا عبد الله بن إدريس سمعت المختار بن فلفل يقول‏:‏ سألت أنسا فقال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزفت وقال‏:‏ كل مسكر حرام‏.‏

قال فقلت له‏:‏ صدقت المسكر حرام، فالشربة والشربتان على الطعام‏؟‏ فقال‏:‏ ما أسكر كثيره فقليله حرام ‏"‏ وهذا سند صحيح على شرط مسلم والصحابي أعرف بالمراد ممن تأخر بعده، ولهذا قال عبد الله بن المبارك ما قال، واستدل بمطلق قوله‏:‏ ‏"‏ كل مسكر حرام ‏"‏ على تحريم ما يسكر ولو لم يكن شرابا، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها، وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة، وهو مكابرة لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من الطرب والنشأة والمداومة عليها والانهماك فيها، وعلى تقدير تسليم أنها ليست بمسكرة فقد ثبت في أبي داود النهي عن كل مسكر ومفتر وهو بالفاء، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَنْتَبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَلَا فِي الْمُزَفَّتِ وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهَا الْحَنْتَمَ وَالنَّقِيرَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وعن الزهري‏)‏ هو من رواية شعيب أيضا عن الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور‏.‏

وقد أخرجه الطبراني في ‏"‏ مسند الشاميين ‏"‏ وأفرده عن أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان شيخ البخاري به، وأخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ عن الطبراني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان أبو هريرة يلحق معهما الحنتم والنقير‏)‏ القائل هذا هو الزهري، وقع ذلك عند شعيب عنه مرسلا، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت ‏"‏ ثم يقول أبو هريرة ‏"‏ واجتنبوا الحناتم ‏"‏ ورفعه كله من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ نهي عن المزفت والحنتم والنقير ‏"‏ ومثله لابن سعد من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة وزاد فيه ‏"‏ والدباء ‏"‏ وقد تقدم ضبط هذه الأشياء في شرح حديث وفد عبد القيس في أوائل الصحيح من كتاب الإيمان‏.‏

وأخرج مسلم من طريق زاذان قال‏:‏ ‏"‏ سألت ابن عمر عن الأوعية فقلت‏:‏ أخبرناه بلغتكم وفسره لنا بلغتنا، فقال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتمة وهي الجرة، وعن الدباء وهي القرعة، وعن النقير وهي أصل النخلة تنقر نقرا، وعن المزفت وهو المقير‏"‏‏.‏

وأخرج أبو داود الطيالسي وابن أبي عاصم والطبراني من حديث أبي بكر قال‏:‏ ‏"‏ نهينا عن الدباء والنقير والحنتم والمزفت، فأما الدباء فإنا معشر ثقيف بالطائف كنا نأخذ الدباء فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها ثم نتركها حتى تهدر ثم تموت، وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة فيشدخون فيه الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت، وأما الحنتم فجرار جاءت تحمل إلينا فيها الخمر، وأما المزفت فهي هذه الأوعية التي فيها هذا الزفت‏.‏

وسيأتي بيان نسخ النهي عن الأوعية بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال المهلب‏:‏ وجه إدخال حديث أنس في النهي في الانتباذ في الأوعية المذكورة في ترجمة الخمر من العسل أن العسل لا يكون مسكرا إلا بعد الانتباذ، والعسل قبل الانتباذ مباح، فأشار إلى اجتناب بعض ما ينتبذ فيه لكونه يسرع إليه الإسكار‏.‏