فصل: باب الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة‏)‏ كذا هذه الترجمة ثبتت للجميع هنا، وفي كونها في هذا الموضع إشكال، وأظنها مما انقلب على الذين نسخوا كتاب البخاري من المسودة، والذي يظهر لي أن محلها بين كتاب الديات وبين استتابة المرتدين، وذلك أنها تخللت بين أبواب الحدود‏.‏

فإن المصنف ترجم ‏"‏ كتاب الحدود وصدره بحديث ‏"‏ لا يزني الزاني وهو مؤمن ‏"‏ وفيه ذكر السرقة وشرب الخمر، ثم بدأ بما يتعلق بحد الخمر في أبواب ثم بالسرقة كذلك، فالذي يليق أن يثلث بأبواب الزنا على وفق ما جاء في الحديث الذي صدر به ثم بعد ذلك إما أن يقدم كتاب المحاربين وإما أن يؤخره، والأولى أن يؤخره ليعقبه ‏"‏ باب استتابة المرتدين ‏"‏ فإنه يليق أن يكون من جملة أبوابه، ولم أر من نبه على ذلك إلا الكرماني فإنه تعرض لشيء من ذلك في ‏"‏ باب إثم الزناة ‏"‏ ولم يستوفه كما سأنبه عليه‏.‏

ووقع في رواية النسفي زيادة قد يرتفع بها الإشكال، وذلك أنه قال بعد قوله ‏"‏ من أهل الكفر والردة ‏"‏ فزاد ‏"‏ ومن يجب عليه الحد في الزنا ‏"‏ فإن كان محفوظا فكأنه ضم حد الزنا إلى المحاربين لإفضائه إلى القتل في بعض صوره بخلاف الشرب والسرقة، وعلى هذا فالأولى أن يبدل لفظ كتاب بباب وتكون الأبواب كلها داخلة في كتاب الحدود‏.‏

قوله ‏(‏وقول الله‏:‏ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق في رواية كريمة وغيرها إلى ‏(‏أو ينفوا من الأرض‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ ذهب البخاري إلى أن آية المحاربة نزلت في أهل الكفر والردة، وساق حديث العرنيين وليس فيه تصريح بذلك، ولكن أخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة حديث العرنيين وفي آخره قال ‏"‏ بلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم‏:‏ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية‏"‏، ووقع مثله في حديث أبي هريرة، وممن قال ذلك الحسن وعطاء والضحاك والزهري قال‏:‏ وذهب جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطريق، وهو قول مالك والشافعي والكوفيين، ثم قال‏:‏ ليس هذا منافيا للقول الأول لأنها وإن نزلت في العرنيين بأعيانهم لكن لفظها عام يدخل في معناه كل من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد‏.‏

قلت‏:‏ بل هما متغايران، والمرجع إلى تفسير المراد بالمحاربة‏:‏ فمن حملها على الكفر خص الآية بأهل الكفر ومن حملها على المعصية عمم، ثم نقل ابن بطال عن إسماعيل القاضي أن ظاهر القرآن وما مضى عليه عمل المسلمين يدل على أن الحدود المذكورة في هذه الآية نزلت في المسلمين، وأما الكفار فقد نزل فيهم ‏(‏فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب‏)‏ إلى آخر الآية فكان حكمهم خارجا عن ذلك‏.‏

وقال تعالى في آية المحاربة ‏(‏إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‏)‏ وهي دالة على أن من تاب من المحاربين يسقط عنه الطلب بما ذكر بما جناه فيها، ولو كانت الآية في الكافر لنفعته المحاربة، ولكان إذا أحدث الحرابة مع كفره اكتفينا بما ذكر في الآية وسلم من القتل فتكون الحرابة خففت عنه القتل، وأجيب عن هذا الإشكال بأنه لا يلزم من إقامة هذه الحدود على المحارب المرتد مثلا أن تسقط عنه المطالبة بالعود إلى الإسلام أو القتل، وقد تقدم في تفسير المائدة ما نقله المصنف عن سعيد بن جبير أن معنى المحاربة لله الكفر به وأخرج الطبري من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في آخر قصة العرنيين قال‏:‏ فذكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم ‏(‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله‏)‏ ‏.‏

وأخرج نحوه من وجه آخر عن أنس وأخرج الإسماعيلي هناك من طريق مروان بن معاوية عن معاوية بن أبي العباس عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ‏(‏إنما جزاء الدين يحاربون الله ورسوله‏)‏ قال هم من عكل‏.‏

قلت‏:‏ قد ثبت في الصحيحين أنهم كانوا من عكل وعرينة، فقد وجد التصريح الذي نفاه ابن بطال، والمعتمد أن الآية نزلت أولا فيهم وهي تتناول بعمومها من حارب من المسلمين بقطع الطريق، لكن عقوبة الفريقين مختلفة‏:‏ فإن كانوا كفارا يخير الإمام فيهم إذا ظفر بهم، وإن كانوا مسلمين فعلى قولين‏:‏ أحدهما وهو قول الشافعي والكوفيين ينظر في الجناية فمن قتل قتل ومن أخذ المال قطع ومن لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي، وجعلوا ‏"‏ أو ‏"‏ للتنويع‏.‏

وقال مالك‏:‏ بل هي للتخيير فيتخير الإمام في المحارب المسلم بين الأمور الثلاثة، ورجح الطبري الأول، واختلفوا في المراد بالنفي في الآية‏:‏ فقال مالك والشافعي يخرج من بلد الجناية إلى بلدة أخرى، زاد مالك فيحبس فيها‏.‏

وعن أبي حنيفة بل يحبس في بلده، وتعقب بأن الاستمرار في البلد ولو كان مع الحبس إقامة فهو ضد النفي فإن حقيقة النفي الإخراج من البلد، وقد قرنت مفارقة الوطن بالقتل قال تعالى ‏(‏ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم‏)‏ وحجة أبي حنيفة أنه لا يؤمن منه استمرار المحاربة في البلدة الأخرى، فانفصل عنه مالك بأنه يحبس بها‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانا وذلا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ فَأَسْلَمُوا فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَفَعَلُوا فَصَحُّوا فَارْتَدُّوا وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا

الشرح‏:‏

ذكر المصنف حديث أنس في قصة العرنيين، أورده من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة مصرحا فيه بالتحديث في جميعه فأمن فيه من التدليس والتسوية، وقد تقدم شرحه في ‏"‏ باب أبوال الإبل ‏"‏ من كتاب الطهارة‏.‏

ووقع في هذا الموضع ‏"‏ ففعلوا فصحوا فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل‏"‏‏.‏

*3*باب لَمْ يَحْسِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ حَتَّى هَلَكُوا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لم يحسم النبي صلى الله عليه وسلم المحاربين إلخ‏)‏ الحسم بفتح الحاء وسكون السين المهملتين الكي بالنار لقطع الدم حسمته فانحسم كقطعته فانقطع وحسمت العرق معناه حبست دم العرق فمنعته أن يسيل‏.‏

وقال الداودي‏:‏ الحسم هنا أن توضع اليد بعد القطع في زيت حار‏.‏

قلت‏:‏ وهذا من صور الحسم وليس محصورا فيه، وأورد فيه طرفا من قصة العرنيين مقتصرا على قوله ‏"‏ قطع العرنيين ولم يحسمهم ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ إنما ترك حسمهم لأنه أراد إهلاكهم فأما من قطع في سرقة مثلا فإنه يجب حسمه لأنه لا يؤمن معه التلف غالبا بنزف الدم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ الْعُرَنِيِّينَ وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا

الشرح‏:‏

-10236 سبق شرحه بالباب

*3*باب لَمْ يُسْقَ الْمُرْتَدُّونَ الْمُحَارِبُونَ حَتَّى مَاتُوا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا‏)‏ كذا لهم بضم أوله على البناء للمجهول، ولو كان بفتحه لنصب المحاربون وكان راجعا إلى فاعل يحسم في الباب الذي قبله‏.‏

وأورد فيه قصة العرنيين من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس تاما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ وُهَيْبٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي الصُّفَّةِ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْغِنَا رِسْلًا فَقَالَ مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلَّا أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ فَأَتَوْهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّرِيخُ فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا قَالَ أَبُو قِلَابَةَ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حتى صحوا وسمنوا وقتلوا الراعي‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فقتلوا الراعي ‏"‏ بالفاء وهي أوجه، وحكى ابن بطال عن المهلب أن الحكمة في ترك سقيهم كفرهم نعمة السقي التي أنعشتهم من المرض الذي كان بهم، قال‏:‏ وفيه وجه آخر يؤخذ مما أخرجه ابن وهب من مرسل سعيد بن المسيب ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما بلغه ما صنعوا‏:‏ عطش الله من عطش آل محمد الليلة ‏"‏ قال فكان ترك سقيهم إجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا لا ينافي أنه عاقبهم بذلك كما ثبت أنه سملهم لكونهم سملوا أعين الرعاة، وإنما تركهم حتى ماتوا لأنه أراد إهلاكهم كما مضى في الحسم‏.‏

وأبعد من قال إن تركهم بلا سقي لم يكن بعلم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله في هذه الطريق ‏"‏ قالوا أبغنا ‏"‏ بهمزة قطع ثم موحدة ثم معجمة أي اطلب لنا يقال أبغاه كذا طلبه له، وقوله ‏"‏رسلا ‏"‏ بكسر الراء وسكون المهملة أي لبنا، وقوله ‏"‏ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه تجريد وسياق الكلام يقتضي أن يقول بإبلي ولكنه كقول كبير القوم يقول لكم الأمير مثلا، ومنه قول الخليفة يقول لكم أمير المؤمنين، وتقدم في غير هذه الطريق وهو في الباب الأول أيضا بلفظ ‏"‏ فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة ‏"‏ فجمع بعضهم بين الروايتين بأنه صلى الله عليه وسلم كانت له إبل ترعى وإبل الصدقة في جهة واحدة فدل كل من الصنفين على الصنف الآخر، وقيل بل الكل إبل الصدقة وإضافتها إليه إضافة التبعية لكونه تحت حكمه، ويؤيد الأول ما ذكر قريبا من تعطيش آل محمد لأنهم كانوا لا يتناولون الصدقة‏.‏

*3*باب سَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْيُنَ الْمُحَارِبِينَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب‏)‏ بالتنوين ‏(‏سمر النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ بفتح السين المهملة والميم بالفعل الماضي ويجوز مضافا بغير تنوين مع سكون الميم، وأورد فيه حديث العرنيين من وجه آخر عن أيوب، وقوله فيه ‏"‏ حتى جيء بهم ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أتى بهم ‏"‏ وقوله ‏"‏ وسمر أعينهم ‏"‏ وقع في رواية الأوزاعي في أول المحاربين ‏"‏ وسمل ‏"‏ باللام وهما بمعنى، قال ابن التين وغيره‏:‏ وفيه نظر، قال عياض سمر العين بالتخفيف كحلها بالمسمار المحمي فيطابق السمل فإنه فسر بأن يدني من العين حديدة محماة حتى يذهب نظرها فيطابق الأول بأن تكون الحديدة مسمارا، قال وضبطناه بالتشديد في بعض النسخ والأول أوجه، وفسروا السمل أيضا بأنه فقء العين بالشوك وليس هو المراد هنا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ أَوْ قَالَ عُرَيْنَةَ وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ مِنْ عُكْلٍ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَشَرِبُوا حَتَّى إِذَا بَرِئُوا قَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُدْوَةً فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي إِثْرِهِمْ فَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ حَتَّى جِيءَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ فَأُلْقُوا بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ

الشرح‏:‏

أورد حديث العرنيين من وجه آخر عن أيوب، وقوله فيه ‏"‏ حتى جيء بهم ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أتى بهم ‏"‏ وقوله ‏"‏ وسمر أعينهم ‏"‏ وقع في رواية الأوزاعي في أول المحاربين ‏"‏ وسمل ‏"‏ باللام وهما بمعنى، قال ابن التين وغيره‏:‏ وفيه نظر، قال عياض سمر العين بالتخفيف كحلها بالمسمار المحمي فيطابق السمل فإنه فسر بأن يدني من العين حديدة محماة حتى يذهب نظرها فيطابق الأول بأن تكون الحديدة مسمارا، قال وضبطناه بالتشديد في بعض النسخ والأول أوجه، وفسروا السمل أيضا بأنه فقء العين بالشوك وليس هو المراد هنا‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ أشكل قوله في آية المحاربين ‏(‏ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم‏)‏ مع حديث عبادة الدال على أن من أقيم عليه الحد في الدنيا كان له كفارة فإن ظاهر الآية أن المحارب يجمع له الأمران، والجواب أن حديث عبادة مخصوص بالمسلمين بدليل أن فيه ذكر الشرك مع ما انضم إليه من المعاصي، فلما حصل الإجماع على أن الكافر إذا قتل على شركه فمات مشركا أن ذلك القتل لا يكون كفارة له قام إجماع أهل السنة على أن من أقيم عليه الحد من أهل المعاصي كان ذلك كفارة لإثم معصيته، والذي يضبط ذلك قوله تعالى ‏(‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏)‏ والله أعلم‏.‏

*3*باب فَضْلِ مَنْ تَرَكَ الْفَوَاحِشَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب فضل من ترك الفواحش‏)‏ جمع فاحشة وهي كل ما اشتد قبحه من الذنوب فعلا أو قولا، وكذا الفحشاء والفحش ومنه الكلام الفاحش، ويطلق غالبا على الزنا فاحشة ومنه قوله تعالى ‏(‏ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة‏)‏ وأطلقت على اللواط باللام العهدية في قول لوط عليه السلام لقومه ‏(‏أتأتون الفاحشة‏)‏ ومن ثم كان حده حد الزاني عند الأكثر، وزعم الحليمي أن الفاحشة أشد من الكبيرة وفيه نظر‏.‏

ثم ذكر فيه حديثين

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ إِمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلَاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسْجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا قَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله، والمقصود منه قوله فيه ‏"‏ ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال إني أخاف الله تعالى ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الزكاة، ويلتحق بهذه الخصلة من وقع له نحوها كالذي دعا شابا جميلا لأن يزوجه ابنة له جميلة كثيرة الجهاز جدا لينال منه الفاحشة فعفا الشاب عن ذلك وترك المال والجمال، وقد شاهدت ذلك‏.‏

وقوله في أول السند ‏"‏ حدثنا محمد ‏"‏ غير منسوب فقال أبو علي الغساني وقع في رواية الأصيلي محمد بن مقاتل‏.‏

وفي رواية القابسي محمد بن سلام، والأول هو الصواب لأن عبد الله هو ابن المبارك وابن مقاتل معروف بالرواية عنه‏.‏

قلت‏:‏ ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هذا الحديث الخاص عند ابن سلام، والذي أشار إليه الغساني قاعدة في تفسير من أبهم واستمر إبهامه فيكون كثرة أخذه وملازمته قرينة في تعيينه، أما إذا أورد التنصيص عليه فلا‏.‏

وقد صرح أيضا بأنه محمد بن سلام أبو ذر في روايته عن شيوخه الثلاثة وكذا هو في بعض النسخ من رواية كريمة وأبى الوقت‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ ح و حَدَّثَنِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَوَكَّلَ لِي مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عمر بن علي‏)‏ هو المقدمي نسبة إلى جده مقدم بوزن محمد وهو عم محمد بن أبي بكر الراوي عنه، وهو موصوف بالتدليس لكنه صرح بالتحديث في هذه الرواية، وقد أورده في الرقاق عن محمد بن أبي بكر وحده وقرنه هنا بخليفة وساقه على لفظ خليفة‏.‏

قوله ‏(‏من توكل لي‏)‏ أي تكفل، وقد ذكرت في الرقاق من رواه بلفظ تكفل وبلفظ حفظ وهو هناك بلفظ تضمن، وأصل التوكل الاعتماد على الشيء والوثوق به، وقوله ‏"‏توكلت له ‏"‏ من باب المقابلة، وقوله ‏"‏ما بين رجليه ‏"‏ أي فرجه ‏"‏ ولحيته ‏"‏ بفتح اللام وهو منبت اللحية والأسنان ويجوز كسر اللام، وثني لأن له أعلى وأسفل والمراد به اللسان وقيل النطق، وقد ترجم له في الرقاق ‏"‏ حفظ اللسان ‏"‏ وتقدم شرحه مستوفى هناك‏.‏

وقوله في آخره ‏"‏ له بالجنة ‏"‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي بحذف الباء، ويقرأ بالنصب على نزع الخافض، أو كأنه ضمن توكلت معنى ضمنت‏.‏

*3*باب إِثْمِ الزُّنَاةِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَزْنُونَ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إثم الزناة‏)‏ بضم أوله جمع زان كرماة ورام‏.‏

قوله ‏(‏وقول الله تعالى ولا يزنون‏)‏ يشير إلى الآية التي في الفرقان وأولها ‏(‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏)‏ والمراد قوله في الآية التي بعدها ‏(‏ومن يفعل ذلك يلق أثاما‏)‏ وكأنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه وهو في آخر طريق مسدد عن يحيى القطان فقال متصلا بقوله حليلة جارك ‏"‏ قال فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - إلى قوله - ولا يزنون ‏"‏ ووقعت في الأدب من طريق جرير عن الأعمش وساق إلى قوله ‏(‏يلق أثاما‏)‏ ولم يقع ذلك في رواية جرير عن منصور كما بينه مسلم، وأخرجه الترمذي من طريق شعبة والنسائي من طريق مالك بن مغول كلاهما عن واصل الأحدب وساقه إلى قوله تعالى ‏(‏ويخلد فيه مهانا‏)‏ ووقع لغير أبي ذر بحذف الواو في قوله ‏"‏ وقول الله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة‏)‏ زاد في رواية النسفي ‏"‏ إلى آخر الآية ‏"‏ والمشهور في الزنا القصر وجاء المد في بعض اللغات‏.‏

وذكر في الباب أربعة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ أَخْبَرَنَا أَنَسٌ قَالَ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِي سَمِعْتُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ وَإِمَّا قَالَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ حَتَّى يَكُونَ لِلْخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا‏)‏ في رواية غير أبي ذر والنسفي ‏"‏ أخبرنا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏داود بن شبيب‏)‏ بمعجمة وموحدة وزن عظيم هو الباهلي يكني أبا سليمان بصري صدوق قاله أبو حاتم‏.‏

وقال البخاري‏:‏ مات سنة اثنتين وعشرين قلت‏:‏ ولم يخرج عنه إلا في هذا الحديث هنا فقط، وقد تقدم في العلم من طريق شعبة عن قتادة بزيادة في أوله، وتقدم شرحه في كتاب العلم، والغرض منه قوله فيه ‏"‏ ويظهر الزنا ‏"‏ أي يشيع ويشتهر بحيث لا يتكاتم به لكثرة من يتعاطاه، وقد تقدم سبب قول أنس ‏"‏ لا يحدثكموه أحد بعدي‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزْنِي الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ قَالَ عِكْرِمَةُ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ يُنْزَعُ الْإِيمَانُ مِنْهُ قَالَ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس ‏"‏ لا يزني الزاني ‏"‏ قد تقدم شرحه مستوفى في شرح حديث أبي هريرة في أول الحدود وقول ابن جرير إن بعضهم رواه بصيغة النهي ‏"‏ لا يزنين مؤمن ‏"‏ وأن بعضهم حمله على المستحل، وساقه بسنده عن ابن عباس، وإسحاق بن يوسف المذكور في السند هو الواسطي المعروف بالأزرق، والفضيل بفاء ومعجمة مصغر وأبو غزوان بغين معجمة ثم زاي ساكنة بوزن شعبان‏.‏

وقوله فيه ‏"‏ قال عكرمة إلخ ‏"‏ هو موصول بالسند المذكور، وقوله ‏"‏وشبك بين أصابعه ‏"‏ في رواية الإسماعيلي من طريق إسماعيل بن هود الواسطي عن خالد الذي أخرجه البخاري من طريقه وقال ‏"‏ هكذا فوصف صفة لا أحفظها ‏"‏ وقد قدمت الكلام على الصفة المذكورة هناك‏.‏

قال الترمذي بعد تخريج حديث أبي هريرة‏:‏ وحكاية تأويل ‏"‏ لا يزني الزاني وهو مؤمن ‏"‏ لا نعلم أحدا كفر أحدا بالزنا والسرقة والشرب يعني ممن يعتد بخلافه، قال‏:‏ وقد روي عن أبي جعفر يعني الباقر أنه قال في هذا‏:‏ خرج من الإيمان إلى الإسلام يعني أنه جعل الإيمان أخص من الإسلام فإذا خرج من الإيمان بقي في الإسلام وهذا يوافق قول الجمهور إن المراد بالإيمان هنا كماله لا أصله والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في ذلك قد مضى الكلام عليه، وعلى قوله في آخره ‏"‏ والتوبة معروضة بعد‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ قَالَ يَحْيَى وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنِي وَاصِلٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِثْلَهُ قَالَ عَمْرٌو فَذَكَرْتُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ حَدَّثَنَا عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ وَوَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ دَعْهُ دَعْهُ

الشرح‏:‏

حديث عبد الله هو ابن مسعود‏.‏

قوله ‏(‏عمرو بن علي‏)‏ هو الفلاس، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وسفيان هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر، وسليمان هو الأعمش، وأبو وائل هو شقيق، وأبو ميسرة هو عمرو بن شرحبيل، وواصل المذكور في السند الثاني هو ابن حيان بمهملة وتحتانية ثقيلة هو المعروف بالأحدب، ورجال السند من سفيان فصاعدا كوفيون، وقوله ‏"‏قال عمرو ‏"‏ هو ابن علي المذكور ‏(‏فذكرته لعبد الرحمن‏)‏ يعني ابن مهدي ‏(‏وكان حدثنا‏)‏ هكذا ذكره البخاري عن عمرو بن علي قدم رواية يحيى على رواية عبد الرحمن وعقبها بالفاء وقال الهيثم ابن خلف فيما أخرجه الإسماعيلي عنه عن عمرو بن علي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي فساق روايته وحذف ذكر واصل من السند ثم قال ‏"‏ وقال عبد الرحمن مرة عن سفيان عن منصور والأعمش وواصل فقلت لعبد الرحمن حدثنا يحيى بن سعيد فذكره مفصلا فقال عبد الرحمن دعه والحاصل أن الثوري حدث بهذا الحديث عن ثلاثة أنفس حدثوه به عن أبي وائل فأما الأعمش ومنصور فأدخلا بين أبي وائل وبين ابن مسعود أبا ميسرة، وأما واصل فحذفه فضبطه يحيى القطان عن سفيان هكذا مفصلا، وأما عبد الرحمن فحدث به أولا بغير تفصيل فحمل رواية واصل على رواية منصور والأعمش فجمع الثلاثة وأدخل أبا ميسرة في السند، فلما ذكر له عمرو ابن علي أن يحيى فصله كأنه تردد فيه فاقتصر على التحديث به عن سفيان عن منصور والأعمش حسب وترك طريق واصل، وهذا معنى قوله ‏"‏ فقال دعه دعه ‏"‏ أي اتركه والضمير للطريق التي اختلف فيها وهي رواية واصل، وقد زاد الهيثم بن خلف في روايته بعد قوله دعه ‏"‏ فلم يذكر فيه واصلا بعد ذلك ‏"‏ فعرف أن معنى قوله دعه أي اترك السند الذي ليس فيه ذكر أبي ميسرة‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ حاصله أن أبا وائل وإن كان قد روى كثيرا عن عبد الله فإن هذا الحديث لم يروه عنه، قال‏:‏ وليس المراد بذلك الطعن عليه لكن ظهر له ترجيح الرواية بإسقاط الواسطة لموافقة الأكثرين كذا قال، والذي يظهر ما قدمته أنه تركه من أجل التردد فيه لأن ذكر أبي ميسرة إن كان في أصل رواية واصل فتحديثه به بدونه يستلزم أنه طعن فيه بالتدليس أو بقلة الضبط، وإن لم يكن في روايته في الأصل فيكون زاد في السند ما لم يسمعه فاكتفى برواية الحديث عمن لا تردد عنده فيه وسكت عن غيره، وقد كان عبد الرحمن حدث به مرة عن سفيان عن واصل وحده بزيادة أبي ميسرة، كذلك أخرجه الترمذي والنسائي لكن الترمذي بعد أن ساقه بلفظ واصل عطف عليه بالسند المذكور طريق سفيان عن الأعمش ومنصور قال بمثله وكأن ذلك كان في أول الأمر، وذكر الخطيب هذا السند مثالا لنوع من أنواع مدرج الإسناد وذكر فيه أن محمد بن كثير وافق عبد الرحمن على روايته الأولى عن سفيان فيصير الحديث عن الثلاثة بغير تفصيل‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخرجه البخاري في الأدب عن محمد بن كثير لكن اقتصر في السند على منصور، وأخرجه أبو داود عن محمد بن كثير فضم الأعمش إلى منصور، وأخرجه الخطيب من طريق الطبراني عن أبي مسلم الليثي عن معاذ بن المثنى ويوسف القاضي ومن طريق أبي العباس البرقي ثلاثتهم عن محمد بن كثير عن سفيان عن الثلاثة، وكذا أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ عن الطبراني وفيه ما تقدم، وذكر الخطيب الاختلاف فيه على منصور وعلى الأعمش في ذكر أبي ميسرة وحذفه ولم يختلف فيه على واصل في إسقاطه في غير رواية سفيان‏.‏

قلت‏:‏ وقد أخرجه الترمذي والنسائي من رواية شعبة عن واصل بحذف أبي ميسرة لكن قال الترمذي رواية منصور أصح يعني بإثبات أبي ميسرة، وذكر الدار قطني الاختلاف فيه وقال‏:‏ رواه الحسن بن عبيد الله عن أبي وائل عن عبد الله كقول واصل، ونقل عن الحافظ أبي بكر النيسابوري أنه قال‏:‏ يشبه أن يكون الثوري جمع بين الثلاثة لما حدث به ابن مهدي ومحمد بن كثير وفصله لما حدث به غيرهما يعني فيكون الإدارج من سفيان لا من عبد الرحمن والعلم عند الله تعالى‏.‏

وقد تقدم الكلام على شيء من هذا في تفسير سورة الفرقان‏.‏

قوله ‏(‏أي الذنب أعظم‏)‏ ‏؟‏ هذه رواية الأكثر، ووقع في رواية عاصم عن أبي وائل عن عبد الله ‏"‏ أعظم الذنوب عند الله، أخرجها الحارث‏.‏

وفي رواية مسدد الماضية في كتاب الأدب، أي الذنب عند الله أكبر وفي رواية أبي عبيدة بن معن عن الأعمش ‏"‏ أي الذنوب أكبر عند الله ‏"‏ وفي رواية الأعمش عند أحمد وغيره ‏"‏ أي الذنب أكبر ‏"‏‏؟‏ وفي رواية الحسن بن عبيد الله عن أبي وائل ‏"‏ أكبر الكبائر ‏"‏ قال ابن بطال عن المهلب‏:‏ يجوز أن يكون بعض الذنوب أعظم من بعض من الذنبين المذكورين في هذا الحديث بعد الشرك، لأنه لا خلاف بين الأمة أن اللواط أعظم إثما من الزنا فكأنه صلى الله عليه وسلم إنما قصد بالأعظم هنا ما تكثر مواقعته ويظهر الاحتياج إلى بيانه في الوقت كما وقع في حق وفد عبد القيس حيث اقتصر في منهياتهم على ما يتعلق بالأشربة لفشوها في بلادهم‏.‏

قلت‏:‏ وفيما قاله نظر من أوجه‏:‏ أحدها ما نقله من الإجماع، ولعله لا يقدر أن يأتي بنقل صحيح صريح بما ادعاه عن إمام واحد بل المنقول عن جماعة عكسه فإن الحد عند الجمهور، والراجح من الأقوال إنما ثبت فيه بالقياس على الزنا والمقيس عليه أعظم من المقيس أو مساويه، والخبر الوارد في قتل الفاعل والمفعول به أو رجمهما ضعيف‏.‏

وأما ثانيا فما من مفسدة فيه إلا ويوجد مثلها في الزنا وأشد، ولو لم يكن إلا ما قيد به في الحديث المذكور فإن المفسدة فيه شديدة جدا، ولا يتأتى مثلها في الذنب الآخر، وعلى التنزل فلا يزيد‏.‏

وأما ثالثا ففيه مصادمة للنص الصريح على الأعظمية من غير ضرورة إلى ذلك‏.‏

وأما رابعا فالذي مثل به من قصة الأشربة ليس فيه إلا أنه اقتصر لهم على بعض المناهي، وليس فيه تصريح ولا إشارة بالحصر في الذي اقتصر عليه، والذي يظهر أن كلا من الثلاثة على ترتيبها في العظم، ولو جاز أن يكون فيما لم يذكره شيء يتصف بكونه أعظم منها لما طابق الجواب السؤال، نعم يجوز أن يكون فيما لم يذكر شيء يساوي ما ذكر فيكون التقدير في المرتبة الثانية مثلا بعد القتل الموصوف وما يكون في الفحش مثله أو نحوه، لكن يستلزم أن يكون فيما لم يذكر في المرتبة الثانية شيء هو أعظم مما ذكر في المرتبة الثالثة ولا محذور في ذلك، وأما ما مضى في كتاب الأدب من عد عقوق الوالدين في أكبر الكبائر لكنها ذكرت بالواو فيجوز أن تكون رتبة رابعة وهي أكبر مما دونها‏.‏

قول ‏(‏حليلة جارك‏)‏ بفتح الحاء المهملة وزن عظيمة أي التي يحل له وطؤها، وقيل التي تحل معه في فراش واحد، وقوله ‏"‏أجل أن يطعم معك ‏"‏ بفتح اللام أي من أجل فحذف الجار فانتصب، وذكر الأكل لأنه كان الأغلب من حال العرب، وسيأتي الكلام على بقية شرح هذا الحديث في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب رَجْمِ الْمُحْصَنِ

وَقَالَ الْحَسَنُ مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ حَدُّهُ حَدُّ الزَّانِي

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب رجم المحصن‏)‏ هو بفتح الصاد المهملة من الإحصان، ويأتي بمعنى العفة والتزويج والإسلام والحرية لأن كلا منها يمنع المكلف من عمل الفاحشة، قال ابن القطاع‏:‏ رجل محصن بكسر الصاد على القياس وبفتحها على غير قياس‏.‏

قلت‏:‏ يمكن تخريجه على القياس، وهو أن المراد هنا من له زوجة عقد عليها ودخل بها وأصابها فكأن الذي زوجها له أو حمله على التزويج بها ولو كانت نفسه أحصنه أي جعله في حصن من العفة أو منعه من عمل الفاحشة‏.‏

وقال الراغب‏:‏ يقال للمتزوجة محصنة أي أن زوجها أحصنها، ويقال امرأة محصن بالكسر إذا تصور حصنها من نفسها، وبالفتح إذا تصور حصنها من غيرها‏.‏

ووقع هنا قبل الباب عند ابن بطال ‏"‏ كتاب الرجم ‏"‏ ولم يقع في الروايات المعتمدة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمعوا على أنه لا يكون الإحصان بالنكاح الفاسد ولا الشبهة، وخالفهم أبو ثور فقال‏:‏ يكون محصنا، واحتج بأن النكاح الفاسد يعطي أحكام الصحيح في تقدير المهر ووجوب العدة ولحوق الولد وتحريم الربيبة، وأجيب بعموم ‏"‏ ادرءوا الحدود ‏"‏ قال‏:‏ وأجمعوا على أنه لا يكون بمجرد العقد محصنا، واختلفوا إذا دخل بها وادعى أنه لم يصبها قال‏:‏ حتى تقوم البينة أو يوجد منه إقرار أو يعلم له منها واحد، وعن بعض المالكية إذا زنى أحد الزوجين واختلفوا في الوطء لم يصدق الزاني ولو لم يمض لهما إلا ليلة وأما قبل الزنا فلا يكون محصنا ولو أقام معها ما أقام، واختلفا إذا تزوج الحر أمة هل تحصنه‏؟‏ فقال الأكثر‏:‏ نعم، وعن عطاء والحسن وقتادة والثوري والكوفيين وأحمد وإسحاق‏:‏ لا‏.‏

واختلفوا إذا تزوج كتابية فقال إبراهيم وطاوس والشعبي‏:‏ لا تحصنه، وعن الحسن لا تحصنه حتى يطأها في الإسلام، أخرجهما ابن أبي شيبة‏.‏

وعن جابر بن زيد وابن المسيب تحصنه، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدا عالما مختارا فعليه الرجم، ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة واعتلوا بأن الرجم لم يذكر في القرآن، وحكاه ابن العربي عن طائفة من أهل المغرب لقيهم وهم من بقايا الخوارج، واحتج الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم وكذلك الأئمة بعده، ولذلك أشار علي رضي الله عنه بقوله في أول أحاديث الباب ‏"‏ ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وثبت في صحيح مسلم عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا‏.‏

الثيب بالثيب الرجم ‏"‏ وسيأتي في ‏"‏ باب رجم الحبلى من الزنا ‏"‏ من حديث عمر أنه خطب فقال ‏"‏ إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه القرآن فكان مما أنزل آية الرجم ‏"‏ ويأتي الكلام عليه هناك مستوفى إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏وقال الحسن‏)‏ هو البصري كذا للأكثر، وللكشميهني وحده ‏"‏ وقال منصور ‏"‏ بدل الحسن وزيفوه‏.‏

قوله ‏(‏من زنى بأخته فحده حد الزاني‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ الزنا ‏"‏ وصله ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث قال سألت عمر‏:‏ ما كان الحسن يقول فيمن تزوج ذات محرم وهو يعلم‏؟‏ قال‏:‏ عليه الحد‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق جابر بن زيد وهو أبو الشعثاء التابعي المشهور فيمن أتى ذات محرم منه قال‏:‏ تضرب عنقه‏.‏

ووجه الدلالة من حديث على أنه قال ‏"‏ رجمتها بسنة رسول الله ‏"‏ فإنه لم يفرق بين ما إذا كان الزنا بمحرم أو بغير محرم‏.‏

وأشار البخاري إلى ضعف الخبر الذي ورد في قتل من زنى بذات محرم، وهو ما رواه صالح بن راشد قال‏:‏ أتى الحجاج برجل قد اغتصب أخته على نفسها فقال سلوا من هنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن المطرف ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من تخطى الحرمتين فخطوا وسطه بالسيف ‏"‏ فكتبوا إلى ابن عباس فكتب إليهم بمثله ذكره ابن أبي حاتم في ‏"‏ العلل ‏"‏ ونقل عن أبيه أنه روى عن مطرف ابن عبد الله بن الشخير من قوله، قال‏:‏ ولا أدري أهو هذا أو لا يشير إلى تجويز أن يكون الراوي غلط في قوله عبد الله بن مطرف وفي قوله سمعت‏.‏

وإنما هو مطرف بن عبد الله ولا صحبة له‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ يقولون إن الراوي غلط فيه، وأثر مطرف الذي أشار إليه أبو حاتم أخرجه ابن أبي شيبة من طريق بكر بن عبد الله المزي قال‏:‏ أتى الحجاج برجل قد وقع على ابنته وعنده مطرف بن عبد الله بن الشخير وأبو بردة، فقال أحدهما‏:‏ اضرب عنقه، فضربت عنقه‏.‏

قلت‏:‏ والراوي عن صالح بن راشد ضعيف وهو رفدة بكسر الراء وسكون الفاء‏.‏

ويوضح ضعفه قوله ‏"‏ فكتبوا إلى ابن عباس ‏"‏ وابن عباس مات قبل أن يلي الحجاج الإمارة بأكثر من خمس سنين، ولكن له طريق أخرى إلى ابن عباس أخرجها الطحاوي وضعف راويها، وأشهر حديث في الباب حديث البراء ‏"‏ لقيت خالي ومعه الراية فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن اضرب عنقه ‏"‏ أخرجه أحمد وأصحاب السنن وفي سنده اختلاف كثير، وله شاهد من طريق معاوية بن مرة عن أبيه أخرجه ابن ماجه والدار قطني، وقد قال بظاهره أحمد‏.‏

وحمله الجمهور على من استحل ذلك بعد العلم بتحريمه بقرينة الأمر بأخذ ماله وقسمته ثم ذكر في الباب ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ قَدْ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا سلمة بن كهيل‏)‏ في رواية على بن الجعد عن شعبة‏:‏ عن سلمة ومجالد أخرجه الإسماعيلي، وذكر الدار قطني أن قعنب بن محرز رواه عن وهب بن جرير عن شعبة عن سلمة عن مجالد، وهو غلط والصواب سلمة ومجالد‏.‏

قوله ‏(‏سمعت الشعبي عن علي‏)‏ أي يحدث عن علي، قد طعن بعضهم كالحازمي في هذا الإسناد بأن الشعبي لم يسمعه من علي، قال الإسماعيلي‏:‏ رواه عصام بن يوسف عن شعبة فقال ‏"‏ عن سلمة عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي ‏"‏ وكذا ذكر الدار قطني عن حسين بن محمد عن شعبة ووقع في رواية قعنب المذكورة عن الشعبي عن أبيه عن علي وجزم الدار قطني بأن الزيادة في الإسنادين وهم وبأن الشعبي سمع هذا الحديث من على قال ولم يسمع عنه غيره‏.‏

قوله ‏(‏حين رجم المرأة يوم الجمعة‏)‏ في رواية علي بن الجعد ‏"‏ أن عليا أتى بامرأة زنت فضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة ‏"‏ وكذا عند النسائي من طريق بهز بن أسد عن شعبة والدار قطني من طريق أبي حصين بفتح أوله عن الشعبي قال ‏"‏ أتي علي بشراحة - وهي بضم الشين المعجمة وتخفيف الراء ثم حاء مهملة الهمدانية بسكون الميم - وقد فجرت، فردها حتى ولدت وقال‏:‏ ائتوني بأقرب النساء منها فأعطاها الولد ثم رجمها ‏"‏ ومن طريق حصين بالتصغير عن الشعبي قال ‏"‏ أتى علي بمولاة لسعيد بن قيس فجرت وفي لفظ وهي حبلى فضربها مائة ثم رجمها ‏"‏ وذكر ابن عبد البر أن في تفسير سنيد بن داود من طريق أخرى إلى الشعبي قال ‏"‏ أتى علي بشراحة فقال لها‏:‏ لعل رجلا استكرهك، قالت‏:‏ لا، قال فلعله أتاك وأنت نائمة‏؟‏ قالت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ لعل زوجك من عدونا‏؟‏ قالت‏:‏ لا‏.‏

فأمر بها فحبست، فلما وضعت أخرجها يوم الخميس فجلدها مائة ثم ردها إلى الحبس، فلما كان يوم الجمعة حفر لها ورجمها ‏"‏ ولعبد الرزاق من وجه آخر عن الشعبي ‏"‏ إن عليا لما وضعت أمر لها بحفرة في السوق ثم قال‏:‏ إن أولى الناس أن يرجم الإمام إذا كان بالاعتراف، فإن كان الشهود فالشهود ثم رماها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏رجمتها بسنة رسول الله‏)‏ زاد علي بن الجعد ‏"‏ وجلدتها بكتاب الله ‏"‏ زاد إسماعيل بن سالم في أوله عن الشعبي ‏"‏ قيل لعلي جمعت حدين ‏"‏ فذكره‏.‏

وفي رواية عبد الرزاق ‏"‏ أجلدها بالقرآن وأرجمها بالسنة ‏"‏ قال الشعبي‏:‏ وقال أبي بن كعب مثل ذلك، قال الحازمي‏:‏ ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن المنذر إلى أن الزاني المحصن يجلد ثم يرجم‏.‏

وقال الجمهور - وهي رواية عن أحمد أيضا - لا يجمع بينهما، وذكروا أن حديث عبادة منسوخ يعني الذي أخرجه مسلم بلفظ ‏"‏ الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ‏"‏ والبكر بالبكر جلد مائة والنفي والناسخ له ما ثبت في قصة ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمه ولم يذكر الجلد، قال الشافعي‏:‏ فدلت السنة على أن الجلد ثابت على البكر وساقط عن الثيب‏.‏

والدليل على أن قصة ماعز متراخية عن حديث عبادة أن حديث عبادة ناسخ لما شرع أولا من حبس الزاني في البيوت فنسخ الحبس بالجلد وزيد الثيب الرجم، وذلك صريح في حديث عبادة، ثم نسخ الجلد في حق الثيب، وذلك مأخوذ من الاقتصار في قصة ماعز على الرجم وذلك في قصة الغامدية والجهنية واليهوديين لم يذكر الجلد مع الرجم وقال ابن المنذر‏:‏ عارض بعضهم الشافعي فقال الجلد ثابت في كتاب الله والرجم ثابت بسنة رسول الله كما قال علي، وقد ثبت الجمع بينهما في حديث عبادة وعمل به على ووافقه أبي، وليس في قصة ماعز ومن ذكر معه تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم لاحتمال أن يكون ترك ذكره لوضوحه ولكونه الأصل فلا يرد ما وقع التصريح به بالاحتمال، وقد احتج الشافعي بنظير هذا حين عورض إيجابة العمرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من سأله أن يحج على أبيه ولم يذكر العمرة، فأجاب الشافعي بأن السكوت عن ذلك لا يدل على سقوطه، قال فكذا ينبغي أن يجاب هنا‏.‏

قلت‏:‏ وبهذا ألزم الطحاوي أيضا الشافعية، ولهم أن ينفصلوا لكن في بعض طرقه ‏"‏ حج عن أبيك واعتمر ‏"‏ كما تقدم بيانه في كتاب الحج، فالتقصير في ترك ذكر العمرة من بعض الرواة، وأما قصة ماعز فجاءت من طرق متنوعة بأسانيد مختلفة لم يذكر في شيء منها أنه جلد، وكذلك الغامدية والجهنية وغيرهما‏.‏

وقال في ماعز ‏"‏ اذهبوا فارجموه ‏"‏ وكذا في حق غيره ولم يذكر الجلد، فدل ترك ذكره على عدم وقوعه ودل عدم وقوعه على عدم وجوبه‏.‏

ومن المذاهب المستغربة ما حكاه ابن المنذر وابن حزم عن أبي بن كعب زاد ابن حزم وأبي ذر وابن عبد البر عن مسروق أن الجمع بين الجلد والرجم خاص بالشيخ والشيخة، وأما الشاب فيجلد إن لم يحصن ويرجم إن أحصن فقط، وحجتهم في ذلك حديث الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة كما سيأتي بيانه في الكلام على حديث عمر في ‏"‏ باب رجم الحبلى من الزنا ‏"‏ وقال عياض‏:‏ شذت فرقة من أهل الحديث فقالت الجمع على الشيخ الثيب دون الشاب ولا أصل له‏.‏

وقال النووي‏:‏ هو مذهب باطل، كذا قاله ونفى أصله، ووصفه، بالبطلان إن كان المراد به طريقه فليس بجيد لأنه ثابت كما سأبينه في ‏"‏ باب البكران يجلدان ‏"‏ وإن كان المراد دليله ففيه نظر أيضا لأن الآية وردت بلفظ الشيخ ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة، فهو معنى مناسب وفيه جمع بين الأدلة فكيف يوصف بالبطلان، واستدل به على جواز نسخ التلاوة دون الحكم‏.‏

وخالف في ذلك بعض المعتزلة واعتل بأن التلاوة مع حكمها كالعلم مع العالمية فلا ينفكان، وأجيب بالمنع فإن العالمية لا تنافى قيام العلم بالذات، سلمنا لكن التلاوة أمارة الحكم فيدل وجودها على ثبوته ولا دلالة من مجردها على وجوب الدوام فلا يلزم من انتفاء الأمارة في طرف الدوام انتفاء ما دلت عليه، فإذا نسخت التلاوة ولم ينتف المدلول، وكذلك بالعكس‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدُ قَالَ لَا أَدْرِي

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثني‏)‏ في رواية أبي ذر ‏"‏ حدثنا إسحاق ‏"‏ وهو ابن شاهين الواسطي، وخالد هو ابن عبد الله الطحان، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان مشهور بكنيته‏.‏

قوله ‏(‏قبل سورة النور أم بعد‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أم بعدها ‏"‏ وفائدة هذا السؤال أن الرجم إن كان وقع قبلها فيمكن أن يدعي نسخه بالتنصيص فيها على أن حد الزاني الجلد، وإن كان وقع بعدها فيمكن أن يستدل به على نسخ الجلد في حق المحصن، لكن يرد عليه أنه من نسخ الكتاب بالسنة وفيه خلاف، وأجيب بأن الممنوع نسخ الكتاب بالسنة إذا جاءت من طريق الآحاد، وأما السنة المشهورة فلا وأيضا فلا نسخ وإنما هو مخصص بغير المحصن‏.‏

قوله ‏(‏لا أدري‏)‏ يأتي بيانه بعد أبواب، وقد قام الدليل على أن الرجم وقع بعد سورة النور لأن نزولها كان في قصة الإفك، واختلف هل كان سنة أربع أو خمس أو ست على ما تقدم بيانه، والرجم كان بعد ذلك فقد حضره أبو هريرة وإنما أسلم سنة سبع وابن عباس إنما جاء مع أمه إلى المدينة سنة تسع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَ وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا‏)‏ في رواية أبي ذر ‏"‏ أخبرنا ‏"‏ وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد‏.‏

قوله ‏(‏حدثني أبو سلمة‏)‏ في رواية أبي ذر ‏"‏ أخبرني‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏أن رجلا من أسلم‏)‏ أي من بني أسلم القبيلة المشهورة، واسم هذا الرجل ماعز بن مالك كما سيأتي مسمى عن ابن عباس بعد سبعة أبواب‏.‏

*3*باب لَا يُرْجَمُ الْمَجْنُونُ وَالْمَجْنُونَةُ

وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ

الشرح‏:‏

قول ‏(‏باب لا يرجم المجنون والمجنونة‏)‏ أي إذا وقع في الزنا في حال الجنون، وهو إجماع واختلف فيما إذا وقع في حال الصحة ثم طرأ الجنون هل يؤخر إلى الإفاقة‏؟‏ قال الجمهور‏:‏ لا، لأنه يراد به التلف فلا معنى للتأخير، بخلاف من يجلد فإنه يقصد به الإيلام فيؤخر حتى لم يفيق‏.‏

قوله ‏(‏وقال علي رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه‏:‏ أما علمت الخ‏)‏ تقدم بيان من وصله في ‏"‏ باب الطلاق في الإغلاق ‏"‏ وأن أبا داود وابن حبان والنسائي أخرجوه مرفوعا ورجح النسائي الموقوف، ومع ذلك فهو مرفوع حكما، وفي أول الأثر المذكور قصة تناسب هذه الترجمة وهو ‏"‏ عن ابن عباس أتى عمر أي بمجنونة قد زنت وهي حبلى فأراد أن يرجمها، فقال له علي‏:‏ أما بلغك أن القلم قد رفع عن ثلاثة ‏"‏ فذكره، هذا لفظ علي بن الجعد الموقوف في ‏"‏ الفوائد الجعديات ‏"‏ ولفظ الحديث المرفوع عن ابن عباس ‏"‏ مر علي ابن أبي طالب بمجنونة بني فلان قد زنت فأمر عمر برجمها فردها علي وقال لعمر‏:‏ أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ‏؟‏ قال‏:‏ صدقت، فخلى عنها، هذه رواية جرير بن حازم عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن أبي داود وسندها متصل، لكن أعله النسائي بأن جرير بن حازم حدث بمصر بأحاديث غلط فيها‏.‏

وفي رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش بسنده ‏"‏ أتى عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها الناس فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها على بن أبي طالب فقال‏:‏ ارجعوا بها ثم أتاه فقال‏:‏ أما علمت أن القلم قد رفع ‏"‏ فذكر الحديث وفي آخره قال بلى قال فما بال هذه ترجم‏؟‏ فأرسلها، فجعل يكبر ‏"‏ ومن طريق وكيع عن الأعمش نحوه، وأخرجه أبو داود موقوفا من الطريقين ورجحه النسائي، ورواه عطاء بن السائب عن أبي ظبيان عن علي بدون ذكر ابن عباس وفي آخره فجعل عمر يكبر ‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي بلفظ قال ‏"‏ أتى عمر بامرأة ‏"‏ فذكر نحوه وفيه ‏"‏ فخلى على سبيلها، فقال عمر‏:‏ ادع لي عليا، فأتاه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ رفع القلم فذكره لكن بلفظ‏:‏ المعتوه حتى يبرأ، وهذه معتوهة بني فلان لعل الذي أتاها وهي في بلائها ‏"‏ ولأبي داود من طريق أبي الضحى عن علي مرفوعا نحوه لكن قال ‏"‏ عن الخرف ‏"‏ بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء بعدها فاء، ومن طريق حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة مرفوعا ‏"‏ رفع القلم عن ثلاثة ‏"‏ فذكره بلفظ ‏"‏ وعن المبتلي حتى يبرأ ‏"‏ وهذه طرق تقوي بعضها ببعض، وقد أطنب النسائي في تخريجها ثم قال‏:‏ لا يصح منها شيء والمرفوع أولى بالصواب، قلت‏:‏ وللمرفوع شاهد من حديث أبي إدريس الخولاني، أخبرني غير واحد من الصحابة منهم شداد بن أوس وثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ رفع القلم في الحد عن الصغير حتى يكبر وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن المعتوه الهالك ‏"‏ أخرجه الطبراني، وقد أخذ الفقهاء بمقتضى هذه الأحاديث، لكن ذكر ابن حبان أن المراد برفع القلم ترك كتابة الشر عنهم دون الخير‏.‏

وقال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏‏:‏ هو ظاهر في الصبي دون المجنون والنائم لأنهما في حيز من ليس قابلا لصحة العبادة منه لزوال الشعور‏.‏

وحكى ابن العربي أن بعض الفقهاء سئل عن إسلام الصبي فقال‏:‏ لا يصح واستدل بهذا الحديث، فعورض بأن الذي ارتفع عنه قلم المؤاخذة وأما قلم الثواب فلا لقوله للمرأة لما سألته ‏"‏ ألهذا حج‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏"‏ ولقوله ‏"‏ مروهم بالصلاة ‏"‏ فإذا جرى له قلم الثواب فكلمة الإسلام أجل أنواع الثواب فكيف يقال إنها تقع لغوا ويعتد بحجه وصلاته‏؟‏ واستدل بقوله ‏"‏ حتى يحتلم ‏"‏ على أنه لا يؤاخذ قبل ذلك، واحتج من قال‏:‏ يؤاخذ قبل ذلك بالردة، وكذا من قال من المالكية يقام الحد على المراهق ويعتبر طلاقه لقوله في الطريق الأخرى ‏"‏ حتى يكبر ‏"‏ والأخرى ‏"‏ حتى يشب‏"‏‏.‏

وتعقبه ابن العربي بأن الرواية بلفظ ‏"‏ حتى يحتلم ‏"‏ هي العلامة المحققة فيتعين اعتبارها وحمل باقي الروايات عليها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبِكَ جُنُونٌ قَالَ لَا قَالَ فَهَلْ أَحْصَنْتَ قَالَ نَعَمْ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن عقيل‏)‏ هو ابن خالد‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب‏)‏ هذه رواية يحيى بن بكير عن الليث، ووافقه شعيب بن الليث عن أبيه عند مسلم، وسيأتي بعد ستة أبواب من رواية سعيد بن عفير عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب، وجمعها مسلم فوصل رواية عقيل وعلق رواية عبد الرحمن فقال بعد رواية الليث عن عقيل‏:‏ ورواه الليث أيضا عن عبد الرحمن بن خالد‏.‏

قلت‏:‏ ورواه معمر ويونس وابن جريج عن ابن شهاب عن أبي سلمة وحده عن جابر، وجميع مسلم هذه الطرق وأحال بلفظها على رواية عقيل، وسيأتي للبخاري بعد بابين من رواية معمر، وعلق طرفا منه ليونس وابن جريج ووصل رواية يونس قبل هذا، وأما رواية ابن جريج فوصلها مسلم عن إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق عن معمر وابن جريج معا، ووقعت لنا بعلو في ‏"‏ مستخرج أبي نعيم ‏"‏ من رواية الطبراني عن الفربري عن عبد الرزاق عن ابن جريج وحده‏.‏

قوله ‏(‏أتى رجل‏)‏ زاد ابن مسافر في روايته ‏"‏ من الناس ‏"‏ وفي رواية شعيب بن الليث ‏"‏ من المسلمين ‏"‏ وفي رواية يونس ومعمر ‏"‏ أن رجلا من أسلم ‏"‏ وفي حديث جابر بن سمرة عند مسلم رأيت ماعز بن مالك الأسلمي حين جيء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه ‏"‏ رجل قصير أعضل ليس عليه رداء ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ ذو عضلات ‏"‏ بفتح المهملة ثم المعجمة، قال أبو عبيدة‏:‏ العضلة ما اجتمع من اللحم في أعلى باطن الساق‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ كل عصبة مع لحم فهي عضلة‏.‏

وقال ابن القطاع‏:‏ العضلة لحم الساق والذراع وكل لحمة مستديرة في البدن والأعضل الشديد الخلق ومنه أعضل الأمر إذا اشتد، لكن دلت الرواية الأخرى على أن المراد به هنا كثير العضلات‏.‏

قوله ‏(‏فأعرض عنه‏)‏ زاد ابن مسافر ‏"‏ فتنحى لشق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعرض قبله ‏"‏ بكسر القاف وفتح الموحدة‏.‏

وفي رواية شعيب ‏"‏ فتنحى تلقاء وجهه ‏"‏ أي انتقل من الناحية التي كان فيها إلى الناحية التي يستقبل بها وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاء منصوب على الظرفية وأصله مصدر أقيم مقام الظرف أي مكان تلقاء فحذف مكان قبل، وليس من المصادر تفعال بكسر أوله إلا هذا وتبيان وسائرها بفتح أوله، وأما الأسماء بهذا الوزن فكثيرة‏.‏

قوله ‏(‏حتى ردد‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ حتى رد ‏"‏ بدال واحدة‏.‏

وفي رواية شعيب بن الليث ‏"‏ حتى ثنى ذلك عليه ‏"‏ وهو بمثلثة بعدها نون خفيفة أي كرر، وفي حديث بريدة عند مسلم ‏"‏ قال ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه ‏"‏ فرجع غير بعيد ثم جاء فقال ‏"‏ يا رسول الله طهرني ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ فلما كان من الغد أتاه ‏"‏ ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك والنسائي من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد ‏"‏ إن رجلا من أسلم قال لأبي بكر الصديق‏:‏ إن الآخر زنى، قال‏:‏ فتب إلى الله واستتر بستر الله‏.‏

ثم أتى عمر كذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ثلاث مرات، حتى إذا أكثر عليه بعث إلى أهله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فلما شهد على نفسه أربع شهادات‏)‏ في رواية أبي ذر ‏"‏ أربع مرات ‏"‏ وفي رواية بريدة المذكورة ‏"‏ حتى إذا كانت الرابعة قال فبم أطهرك ‏"‏ وفي حديث جابر بن سمرة من طريق أبي عوانة عن سماك ‏"‏ فشهد على نفسه أربع شهادات ‏"‏ أخرجه مسلم وأخرجه من طريق شعبة عن سماك قال ‏"‏ فرده مرتين ‏"‏ وفي أخرى ‏"‏ مرتين أو ثلاثا ‏"‏ قال شعبة قال سماك‏:‏ فذكرته لسعيد بن جبير فقال إنه رده أربع مرات‏.‏

ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم أيضا ‏"‏ فاعترف بالزنا ثلاث مرات ‏"‏ والجمع بينهما أما رواية مرتين فتحمل على أنه اعترف مرتين في يوم ومرتين في يوم آخر لما يشعر به قول بريدة ‏"‏ فلما كان من الغد ‏"‏ فاقتصر الراوي على أحدهما، أو مراده اعترف مرتين في يومين فيكون من ضرب اثنين في اثنين، وقد وقع عند أبي داود من طريق إسرائيل عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ‏"‏ جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا مرتين فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين ‏"‏ وأما رواية الثلاث فكأن المراد الاقتصار على المرات التي رده فيها، وأما الرابعة فإنه لم يرده بل استثبت فيه وسأل عن عقله، لكن وقع في حديث أبي هريرة عند أبي داود من طريق عبد الرحمن بن الصامت ما يدل على أن الاستثبات فيه إنما وقع بعد الرابعة ولفظه ‏"‏ جاء الأسلمي فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل في الخامسة فقال‏:‏ تدري ما الزاني ‏"‏ إلى آخره، والمراد بالخامسة الصفة التي وقعت منه عند السؤال والاستثبات، لأن صفة الإعراض وقعت أربع مرات وصفة الإقبال عليه للسؤال وقعت بعدها‏.‏

قوله ‏(‏فقال أبك جنون‏؟‏ قال لا‏)‏ في رواية شعيب في الطلاق ‏"‏ وهل بك جنون ‏"‏ وفي حديث بريدة ‏"‏ فسأل أبه جنون‏؟‏ فأخبر بأنه ليس بمجنون ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ فأرسل إلى قومه فقالوا‏:‏ ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ ثم سأل قومه فقالوا‏:‏ ما نعلم به بأسا إلا أنه أصاب شيئا يرى أنه لا يخرج منه إلا أن يقام فيه الحد لله ‏"‏ وفي مرسل أبي سعيد ‏"‏ بعث إلى أهله فقال‏:‏ أشتكى به جنة‏؟‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنه لصحيح ‏"‏ ويجمع بينهما بأنه سأله ثم سأل عنه احتياطا، فإن فائدة سؤاله أنه لو ادعى الجنون لكان في ذلك دفع لإقامة الحد عليه حتى يظهر خلاف دعواه، فلما أجاب بأنه لا جنون به سأل عنه لاحتمال أن يكون كذلك ولا يعتد بقوله، وعند أبي داود من طريق نعيم بن هزال قال ‏"‏ كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي‏:‏ ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك ورجاء أن يكون له مخرج ‏"‏ فذكر الحديث فقال عياض‏:‏ فائدة سؤاله أبك جنون سترا لحاله واستبعاد أن يلح عاقل بالاعتراف بما يقتضي إهلاكه، ولعله يرجع عن قوله، أو لأنه سمعه وحده، أو ليتم إقراره أربعا عند من يشترطه‏.‏

وأما سؤاله قومه عنه بعد ذلك فمبالغة في الاستثبات وتعقب بعض الشراح قوله ‏"‏ أو لأنه سمعه وحده ‏"‏ بأنه كلام ساقط لأنه وقع في نفس الخبر أن ذلك كان بمحضر الصحابة في المسجد‏.‏

قلت‏:‏ ويرد بوجه آخر وهو أن انفراده صلى الله عليه وسلم بسماع إقرار المقر كاف في الحكم عليه بعلمه اتفاقا إذ لا ينطق عن الهوى، بخلاف غيره ففيه احتمال‏.‏

قوله ‏(‏قال فهل أحصنت‏)‏ أي تزوجت، هذا معناه جزما هنا، لافتراق الحكم في حد من تزوج ومن لم يتزوج‏.‏

قوله ‏(‏قال‏:‏ نعم‏)‏ زاد في حديث بريدة قبل هذا ‏"‏ أشربت خمرا‏؟‏ قال لا ‏"‏ وفيه ‏"‏ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريحا ‏"‏ وزاد في حديث ابن عباس الآتي قريبا ‏"‏ لعلك قبلت أو غمزت - بمعجمة وزاي - أو نظرت‏)‏ أي فأطلقت على كل ذلك زنا ولكنه لا حد في ذلك ‏"‏ قال‏:‏ لا ‏"‏ وفي حديث نعيم ‏"‏ فقال هل ضاجعتها‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فهل باشرتها‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ هل جامعتها‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏"‏ وفي حديث ابن عباس المذكور ‏"‏ فقال أنكتها ‏"‏ لا يكنى بفتح التحتانية وسكون الكاف من الكناية أي أنه ذكر هذا اللفظ صريحا ولم يكن عنه بلفظ آخر كالجماع، ويحتمل أن يجمع بأنه ذكر بعد ذكر الجماع بأن الجماع قد يحمل على مجرد الاجتماع، وفي حديث أبي هريرة المذكور ‏"‏ أنكتها‏؟‏ قال نعم‏.‏

قال حتى دخل ذلك منك في ذلك منها‏؟‏ قال نعم، قال كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر‏؟‏ قال نعم‏.‏

قال‏:‏ تدري ما الزنا قال‏:‏ نعم‏؟‏ أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا، قال‏:‏ فما تريد بهذا القول‏؟‏ قال‏:‏ تطهرني، فأمر به فرجم ‏"‏ وقبله عند النسائي هنا ‏"‏ هل أدخلته وأخرجته‏؟‏ قال نعم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال ابن شهاب‏)‏ هو موصول بالسند المذكور‏.‏

قوله ‏(‏فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله‏)‏ صرح يونس ومعمر في روايتهما بأنه أبو سلمة ابن عبد الرحمن، فكأن الحديث كان عند أبي سلمة عن أبي هريرة كما عند سعيد بن المسيب وعنده زيادة عليه عن جابر‏.‏

قوله ‏(‏فكنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى‏)‏ في رواية معمر ‏"‏ فأمر به فرجم بالمصلى ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ فما أوثقناه ولا حفرنا له ‏"‏ قال ‏"‏ فرميناه بالعظام والمدر والخزف ‏"‏ بفتح المعجمة والزاي وبالفاء وهي الآنية التي تتخذ من الطين المشوي وكأن المراد ما تكسر منها‏.‏

قوله ‏(‏فلما أذلقته‏)‏ بذال معجمة وفتح اللام بعدها قاف أي أقلقته وزنه ومعناه قال أهل اللغة‏:‏ الذلق بالتحريك القلق وممن ذكره الجوهري‏.‏

وقال في النهاية‏:‏ أذلقته بلغت منه الجهد حتى قلق، يقال أذلقه الشيء أجهده‏.‏

وقال النووي‏:‏ معنى أذلقته الحجارة أصابته بحدها، ومنه انذلق صار له حد يقطع‏.‏

قوله ‏(‏هرب‏)‏ في رواية ابن مسافر ‏"‏ جمز ‏"‏ بجيم وميم مفتوحتين ثم زاي أي وثب مسرعا وليس بالشديد العدو بل كالقفز‏.‏

ووقع في حديث أبي سعيد ‏"‏ فاشتد وأسند لنا خلفه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأدركناه بالحرة فرجمناه‏)‏ زاد معمر في روايته ‏"‏ حتى مات ‏"‏ وفي حديث أبي سعيد ‏"‏ حتى أتى عرض - بضم أوله أي جانب - الحرة، فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت ‏"‏ وعند الترمذي من طريق محمد ابن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة في قصة ماعز ‏"‏ فلما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل فضربه وضربه الناس حتى مات ‏"‏ وعند أبي داود والنسائي من رواية يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه في هذه القصة ‏"‏ فوجد مس الحجارة فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه فقتله ‏"‏ وهذا ظاهره يخالف ظاهر رواية أبي هريرة أنهم ضربوه معه، لكن يجمع بأن قوله في هذا ‏"‏ فقتله ‏"‏ أي كان سببا في قتله، وقد وقع في رواية للطبراني في هذه القصة ‏"‏ فضرب ساقه فصرعه، ورجموه حتى قتلوه‏)‏ والوظيف بمعجمة وزن عظيم‏:‏ خف البعير وقيل مستدق الذراع والساق من الإبل وغيرها، وفي حديث أبي هريرة عند النسائي ‏"‏ فانتهى إلى أصل شجرة فتوسد يمينه حتى قتل ‏"‏ وللنسائي من طريق أبي مالك عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذهبوا به إلى حائط يبلغ صدره فذهب يثب فرماه رجل فأصاب أصل أذنه فصرع فقتله ‏"‏ وفي هذا الحديث من الفوائد منقبة عظيمة لماعز بن مالك لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه مع توبته ليتم تطهيره ولم يرجع عن إقراره مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضى إزهاق نفسه فجاهد نفسه على ذلك وقوى عليها وأقر من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة، ولا يقال لعله لم يعلم أن الحد بعد أن يرفع للإمام يرتفع بالرجوع لأنا نقول كان له طريق أن يبرز أمره في صورة الاستفتاء فيعلم ما يخفى عليه من أحكام المسألة ويبنى على ما يجاب به ويعدل عن الإقرار إلى ذلك، ويؤخذ من قضيته أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى ويستر نفسه ولا يذكر ذلك لأحد كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز، وأن من أطلع على ذلك يستر عليه بما ذكرنا ولا يفضحه ولا يرفعه إلى الإمام كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القصة ‏"‏ لو سترته بثوبك لكان خيرا لك ‏"‏ وبهذا جزم الشافعي رضي الله عنه فقال‏:‏ أحب لمن أصاب ذنبا فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب، واحتج بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ هذا كله في غير المجاهر، فأما إذا كان متظاهرا بالفاحشة مجاهرا فإني أحب مكاشفته والتبريح به لينزجر هو وغيره‏.‏

وقد استشكل استحباب الستر مع ما وقع من الثناء على ماعز والغامدية، وأجاب شيخنا ‏"‏ في شرح الترمذي ‏"‏ بأن الغامدية كان ظهر بها الحبل مع كونها غير ذات زوج فتعذر الاستتار للاطلاع على ما يشعر بالفاحشة، ومن ثم قيد بعضهم ترجيح الاستتار حيث لا يكون هناك ما يشعر بضده، وإن وجد فالرفع إلى الإمام ليقيم عليه الحد أفضل انتهى‏.‏

والذي يظهر أن الستر مستحب والرفع لقصد المبالغة في التطهير أحب والعلم عند الله تعالى‏.‏

وفيه التثبت في إزهاق نفس المسلم والمبالغة في صيانته لما وقع في هذه القصة من ترديده والإيماء إليه بالرجوع والإشارة إلى قبول دعواه إن ادعى إكراها وأخطأ في معنى الزنا أو مباشرة دون الفرج مثلا أو غير ذلك‏.‏

وفيه مشروعية الإقرار بفعل الفاحشة عند الإمام وفي المسجد والتصريح فيه بما يستحي من التلفظ به من أنواع الرفث في القول من أجل الحاجة الملجئة لذلك‏.‏

وفيه نداء الكبير بالصوت العالي وإعراض الإمام عن من أقر بأمر محتمل لإقامة الحد لاحتمال أن يفسره بما لا يوجب حدا أو يرجع، واستفساره عن شروط ذلك ليرتب عليه مقتضاه وأن إقرار المجنون لاغ، والتعريض للمقر بأن يرجع وأنه إذا رجع قبل، قال ابن العربي‏:‏ وجاء عن مالك رواية أنه لا أثر لرجوعه، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع‏.‏

وفيه أنه يستحب لمن وقع في معصية وندم أن يبادر إلى التوبة منها ولا يخبر بها أحدا ويستتر بستر الله، وإن اتفق أنه يخبر أحدا فيستحب أن يأمره بالتوبة وستر ذلك عن الناس كما جرى لماعز مع أبي بكر ثم عمر، وقد أخرج قصته معهما في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب مرسلة، ووصله أبو داود وغيره من رواية يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه‏.‏

وفي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهزال ‏"‏ لو سترته بثوبك لكان خيرا لك ‏"‏ وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد ذكرت هذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم فقال هزال جدي جدي وهذا الحديث حق‏.‏

قال الباجي‏:‏ المعنى خيرا لك مما أمرته به من إظهار أمره، وكان ستره بأن يأمره بالتوبة والكتمان كما أمره أبو بكر وعمر، وذكر الثوب مبالغة أي لو لم تجد السبيل إلى ستره إلا بردائك ممن علم أمره كان أفضل مما أشرت به عليه من الإظهار‏.‏

واستدل به على اشتراط تكرير الإقرار بالزنا أربعا لظاهر قوله ‏"‏ فلما شهد على نفسه أربع شهادات ‏"‏ فإن فيه إشعارا بأن العدد هو العلة في تأخير إقامة الحد عليه وإلا لأمر برجمه في أول مرة، ولأن في حديث ابن عباس ‏"‏ قال لماعز قد شهدت على نفسك أربع شهادات، اذهبوا به فارجموه ‏"‏ وقد تقدم ما يؤيده ويؤيد القياس على عدد شهود الزنا دون غيره من الحدود، وهو قول الكوفيين والراجح عند الحنابلة، وزاد ابن أبي ليلى فاشترط أن تتعدد مجالس الإقرار، وهي رواية عن الحنفية وتمسكوا بصورة الواقعة، لكن الروايات فيها اختلفت، والذي يظهر أن المجالس تعددت لكن لا بعدد الإقرار، فأكثر ما نقل في ذلك أنه أقر مرتين ثم عاد من الغد فأقر مرتين كما تقدم بيانه من عند مسلم وتأول الجمهور بأن ذلك وقع في قصة ماعز وهي واقعة حال فجاز أن يكون لزيادة الاستثبات، ويؤيد هذا الجواب ما تقدم في سياق حديث أبي هريرة وما وقع عند مسلم في قصة الغامدية حيث قالت لما جاءت ‏"‏ طهرني، فقال ويحك ارجعي فاستغفري، قالت‏:‏ أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعزا إنها حبلى من الزنا ‏"‏ فلم يؤخر إقامة الحد عليها إلا لكونها حبلى‏.‏

فلما وضعت أمر برجمها ولم يستفسرها مرة أخرى ولا اعتبر تكرير إقرارها ولا تعدد المجالس، وكذا وقع في قصة العسيف حيث قال ‏"‏ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ‏"‏ وفيه ‏"‏ فغدا عليها فاعترفت فرجمها ‏"‏ ولم يذكر تعدد الاعتراف ولا المجالس، وسيأتي قريبا مع شرحه مستوفى‏.‏

وأجابوا عن القياس المذكور بأن القتل لا يقبل فيه إلا شاهدان بخلاف سائر الأموال فيقبل فيها شاهد وامرأتان، فكان قياس ذلك أن يشترط الإقرار بالقتل مرتين، وقد اتفقوا أنه يكفي فيه مرة‏.‏

فإن قلت‏:‏ والاستدلال بمجرد عدم الذكر في قصة العسيف وغيره فيه نظر، فإن عدم الذكر لا يدل على عدم الوقوع، فإذا ثبت كون العدد شرطا فالسكوت عن ذكره يحتمل أن يكون لعلم المأمور به‏.‏

وأما قول الغامدية ‏"‏ تريد أن ترددني كما رددت ماعزا ‏"‏ فيمكن التمسك به، لكن أجاب الطيبي بأن قولها إنها حبلى من الزنا فيه إشارة إلى أن حالها مغايرة لحال ماعز، لأنهما وإن اشتركا في الزنا لكن العلة غير جامعة لأن ماعزا كان متمكنا من الرجوع عن إقراره بخلافها، فكأنها قالت أنا غير متمكنة من الإنكار بعد الإقرار لظهور الحمل بها بخلافه‏.‏

وتعقب بأنه كان يمكنها أن تدعى إكراها أو خطأ أو شبهة‏.‏

وفيه أن الإمام لا يشترط أن يبدأ بالرجم فيمن أقر وإن كان ذلك مستحبا لأن الإمام إذا بدأ مع كونه مأمورا بالتثبت والاحتياط فيه كان ذلك أدعى إلى الزجر عن التساهل في الحكم وإلى الحض على التثبت في الحكم، ولهذا يبدأ الشهود إذا ثبت الرجم بالبينة‏.‏

وفيه جواز تفويض الإمام إقامة الحد لغيره، واستدل به على أنه لا يشترط الحفر للمرجوم لأنه لم يذكر في حديث الباب بل وقع التصريح في حديث أبي سعيد عند مسلم فقال‏:‏ ‏"‏ فما حفرنا له ولا أوثقناه ‏"‏ ولكن وقع في حديث بريدة عنده ‏"‏ فحفر له حفيرة ‏"‏ ويمكن الجمع بأن المنفي حفيرة لا يمكنه الوثوب منها والمثبت عكسه، أو أنهم في أول الأمر لم يحفروا له ثم لما فر فأدركوه حفروا له حفيرة فانتصب لهم فيها حتى فرغوا منه‏.‏

وعند الشافعية لا يحفر للرجل وفي وجه يتخير الإمام وهو أرجح لثبوته في قصة ماعز فالمثبت مقدم على النافي، وقد جمع بينهما بما دل على وجود حفر في الجملة، وفي المرأة أوجه ثالثها الأصح إن ثبت زناها بالبينة استحب لا بالإقرار وعن الأئمة الثلاثة في المشهور عنهم لا يحفر‏.‏

وقال أبو يوسف وأبو ثور يحفر للرجل وللمرأة‏.‏

وفيه جواز تلقين المقر بما يوجب الحد ما يدفع به عنه الحد وأن الحد لا يجب إلا بالإقرار الصريح، ومن ثم شرط على من شهد بالزنا أن يقول رأيته ولج ذكره في فرجها أو ما أشبه ذلك، ولا يكفي أن يقول أشهد أنه زنى، وثبت عن جماعة من الصحابة تلقين المقر بالحد كما أخرجه مالك عن عمرو بن أبي شيبة عن أبي الدرداء وعن علي في قصة شراحة، ومنهم من خص التلقين بمن يظن به أنه يجهل حكم الزنا وهو قول أبي ثور، وعند المالكية يستثنى تلقين المشتهر بانتهاك الحرمات، ويجوز تلقين من عداه وليس ذلك بشرط‏.‏

وفيه ترك سجن من اعترف بالزنا في مدة الاستثبات وفي الحامل حتى تضع، وقيل إن المدينة لم يكن بها حينئذ سجن، وإنما كان يسلم كل جان لوليه‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ إنما لم يأمر بسجنه ولا التوكيل به لأن رجوعه مقبول فلا فائدة في ذلك مع جواز الإعراض عنه إذا رجع، ويؤخذ من قوله ‏"‏ هل أحصنت ‏"‏ وجوب الاستفسار عن الحال التي تختلف الأحكام باختلافها‏.‏

وفيه أن إقرار السكران لا أثر له يؤخذ من قوله ‏"‏ استنكهوه ‏"‏ والذين اعتبروه وقالوا إن عقله زال بمعصيته، ولا دلالة في قصة ماعز لاحتمال تقدمها على تحريم الخمر أو أن سكره وقع عن غير معصية‏.‏

وفيه أن المقر بالزنا إذا أقر يترك، فإن صرح بالرجوع فذاك وإلا اتبع ورجم وهو قول الشافعي وأحمد ودلالته من قصة ماعز ظاهرة، وقد وقع في حديث نعيم بن هزال ‏"‏ هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه ‏"‏ أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وحسنه، وللترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وصححه الحاكم أيضا، وعند أبي داود من حديث بريدة قال ‏"‏ كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن ماعزا والغامدية لو رجعا لم يطلبهما ‏"‏ وعند المالكية في المشهور لا يترك إذا هرب، وقيل يشترط أن يؤخذ على الفور فإن لم يؤخذ ترك، وعن ابن عيينة إن أخذ في الحال كمل عليه الحد وإن أخذ بعد أيام ترك، وعن أشهب إن ذكر عذرا يقبل ترك وإلا فلا، ونقله القعنبي عن مالك، وحكى الكجي عنه قولين فيمن رجع إلى شبهة، ومنهم من قيده بما بعد إقراره عند الحاكم، واحتجوا بأن الذين رجموه حتى مات بعد أن هرب لم يلزموا بديته فلو شرع تركه لوجبت عليهم الدية، والجواب أنه لم يصرح بالرجوع، ولم يقل أحد إن حد الرجم يسقط بمجرد الهرب، وقد عبر في حديث بريدة بقوله ‏"‏ لعله يتوب ‏"‏ واستدل به على الاكتفاء بالرجم في حد من أحضر من غير جلد وقد تقدم البحث فيه، وأن المصلي إذا لم يكن وقفا لا يثبت له حكم المسجد وسيأتي البحث فيه بعد بابين، وأن المرجوم في الحد لا تشرع الصلاة عليه إذا مات بالحد ويأتي البحث فيه أيضا قريبا، وأن من وجد منه ريح الخمر وجب عليه الحد من جهة استنكاه ماعز بعد أن قال له أشربت خمرا‏؟‏ قال القرطبي‏:‏ وهو قول مالك والشافعي كذا قال‏.‏

وقال المازري استدل به بعضهم على أن طلاق السكران لا يقع وتعقبه عياض بأنه لا يلزم من درء الحد به أنه لا يقع طلاقه لوجود تهمته على ما يظهره من عدم العقل، قال ولم يختلف في غير الطافح أن طلاقه لازم، قال ومذهبنا التزامه بجميع أحكام الصحيح لأنه أدخل ذلك على نفسه وهو حقيقة مذهب الشافعي، واستثنى من أكره ومن شرب ما ظن أنه غير مسكر ووافقه بعض متأخري المالكية‏.‏

وقال النووي‏:‏ الصحيح عندنا صحة إقرار السكران ونفوذ أقواله فيما له وعليه، قال‏:‏ والسؤال عن شربه الخمر محمول عندنا على أنه لو كان سكرانا لم يقم عليه الحد كذا أطلق فألزم التناقض، وليس كذلك فإن مراده لم يقم عليه الحد لوجود الشبهة كما تقدم من كلام عياض‏.‏

قلت‏:‏ وقد مضى ما يتعلق بذلك في كتاب، الطلاق، ومن المذاهب الظريفة فيه قول الليث‏:‏ يعمل بأفعاله ولا يعمل بأقواله لأنه يلتذ بفعله ويشفى غيظه ولا يفقه أكثر ما يقول وقد قال تعالى ‏(‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏)‏ ‏.‏

*3*باب لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب للعاهر الحجر‏)‏ ذكر فيه حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة وقد تقدم شرحه مستوفي في أواخر الفرائض‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اخْتَصَمَ سَعْدٌ وَابْنُ زَمْعَةَ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ زَادَ لَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ اللَّيْثِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في قصة ابن وليدة زمعة قد تقدم شرحه مستوفي في أواخر الفرائض‏.‏

أورده عن أبي الوليد عن الليث وفيه ‏"‏ الولد للفراش ‏"‏ وقال بعده زاد قتيبة عن الليث ‏"‏ وللعاهر الحجر ‏"‏ وفي رواية أبي ذر زادنا وقال في البيوع‏:‏ ‏"‏ حدثنا قتيبة ‏"‏ فذكره بتمامه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ

الشرح‏:‏

ذكر هنا حديث أبي هريرة بالجملتين المذكورتين، وقد أورده في كتاب القدر من وجه آخر مقتصرا على الجملة الأولى، وفي ترجمته هنا إشارة إلى أنه يرجح قول من أول الحجر هنا بأنه الحجر الذي يرجم به الزاني، وقد تقدم ما فيه والمراد منه أن الرجم مشروع للزاني بشرطه لا أن على كل من زنى الرجم‏.‏