فصل: باب إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالِانْتِقَامِ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب مَا يُكْرَهُ مِنْ لَعْنِ شَارِبِ الْخَمْرِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْ الْمِلَّةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة‏)‏ يشير إلى طريق الجمع بين ما تضمنه حديث الباب من النهي عن لعنه وما تضمنه حديث الباب الأول ‏"‏ لا يشرب الخمر وهو مؤمن ‏"‏ وأن المراد به نفي كمال الإيمان لا أنه يخرج عن الإيمان جملة، وعبر بالكراهة هنا إشارة إلى أن النهي للتنزيه في حق من يستحق اللعن إذا قصد به اللاعن محض السب لا إذا قصد معناه الأصلي وهو الإبعاد عن رحمة الله، فأما إذا قصده فيحرم ولا سيما في حق من لا يستحق اللعن كهذا الذي يحب الله ورسوله ولا سيما مع إقامة الحد عليه، بل يندب الدعاء له بالتوبة والمغفرة كما تقدم تقريره في الباب الذي قبله في الكلام على حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب، وبسبب هذا التفصيل عدل عن قوله في الترجمة كراهية لعن شارب الخمر إلى قوله‏:‏ ‏"‏ ما يكره من ‏"‏ فأشار بذلك إلى التفصيل، وعلى هذا التقرير فلا حجة فيه لمنع لعن الفاسق المعين مطلقا، وقيل إن المنع خاص بما يقع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتوهم الشارب عند عدم الإنكار أنه مستحق لذلك، فربما أوقع الشيطان في قلبه ما يتمكن به من فتنه، وإلى ذلك الإشارة بقوله في حديث أبي هريرة ‏"‏ لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم ‏"‏ وقيل المنع مطلقا في حق من أقيم عليه الحد، لأن الحد قد كفر عنه الذنب المذكور، وقيل المنع مطلقا في حق ذي الزلة والجواز مطلقا في حق المجاهرين، وصوب ابن المنير أن المنع مطلقا في حق المعين والجواز في حق غير المعين لأنه في حق غير المعين زجر عن تعاطي ذلك الفعل وفي حق المعين أذى له وسب وقد ثبت النهي عن آذى المسلم، واحتج من أجاز لعن المعين بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن من يستحق اللعن فيستوي المعين وغيره، وتعقب بأنه إنما يستحق اللعن بوصف الإبهام ولو كان لعنه قبل الحد جائزا لاستمر بعد الحد كما لا يسقط التغريب بالجلد، وأيضا فنصيب غير المعين من ذلك يسير جدا والله أعلم‏.‏

قال النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏‏:‏ وأما الدعاء على إنسان بعينه ممن اتصف بشيء من المعاصي فظاهر الحديث أنه لا يحرم وأشار الغزالي إلى تحريمه وقال في ‏"‏ باب الدعاء على الظلمة ‏"‏ بعد أن أورد أحاديث صحيحة في الجواز قال الغزالي‏:‏ وفي معنى اللعن الدعاء على الإنسان بالسوء حتى على الظالم مثل ‏"‏ لا أصح الله جسمه ‏"‏ وكل ذلك مذموم انتهى‏.‏

والأولى حمل كلام الغزالي على الأول، وأما الأحاديث فتدل على الجواز كما ذكره النووي في قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال كل بيمينك فقال لا أستطيع فقال ‏"‏ لا استطعت ‏"‏ فيه دليل على جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي، ومال هنا إلى الجواز قبل إقامة الحد والمنع بعد إقامته، وصنيع البخاري يقتضي لعن المتصف بذلك من غير أن يعين باسمه فيجمع بين المصلحتين، لأن لعن المعين والدعاء عليه قد يحمله على التمادي أو يقنطه من قبول التوبة، بخلاف ما إذا صرف ذلك إلى المتصف فإن فيه زجرا وردعا عن ارتكاب ذلك وباعثا لفاعله على الإقلاع عنه، ويقويه النهي عن التثريب على الأمة إذا جلدت على الزنا كما سيأتي قريبا‏.‏

واحتج شيخنا الإمام البلقيني على جواز لعن المعين بالحديث الوارد في المرأة إذا دعاها زوجها إلى فراشه فأبت لعنتها الملائكة حتى تصبح وهو في الصحيح، وقد توقف فيه بعض من لقيناه بأن اللاعن لها الملائكة فيتوقف الاستدلال به على جواز التأسي بهم وعلى التسليم فليس في الخبر تسميتها، والذي قاله شيخنا أقوى فإن الملك معصوم والتأسي بالمعصوم مشروع والبحث في جواز لعن المعين وهو الموجود‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏إن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا‏)‏ ذكر الواقدي في غزوة خيبر من مغازيه عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال ووجد في حصن الصعب بن معاذ فذكر ما وجد من الثياب وغيرها إلى أن قال ‏"‏ وزقاق خمر فأريقت، وشرب يومئذ من تلك الخمر رجل يقال له عبد الله الحمار ‏"‏ وهو باسم الحيوان المشهور، وقد وقع في حديث الباب أن الأول اسمه والثاني لقبه، وجوز ابن عبد البر أنه ابن النعيمان المبهم في حديث عقبة بن الحارث فقال في ترجمة النعمان ‏"‏ كان رجلا صالحا وكان لم ابن انهمك في الشراب فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فعلى هذا يكون كل من النعيمان وولده عبد الله جلد في الشرب، وقوى هذا عنده بما أخرجه الزبير بن بكار في الفاكهة من حديث محمد بن عمرو بن حزم قال‏:‏ كان بالمدينة رجل يصيب الشراب فكان يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه بنعله ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم ويحثون عليه التراب، فلما كثر ذلك منه قال له رجل لعنك الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله ‏"‏ وحديث عقبة اختلف ألفاظ ناقليه هل الشارب النعيمان أو ابن النعيمان والراجح النعيمان فهو غير المذكور هنا لأن قصة عبد الله كانت في خيبر فهي سابقة على قصة النعيمان فإن عقبة بن الحارث من مسلمة الفتح والفتح كان بعد خيبر بنحو من عشرين شهرا، والأشبه أنه المذكور في حديث عبد الرحمن بن أزهر لأن عقبة بن الحارث ممن شهدها من مسلمة الفتح لكن في حديثه أن النعيمان ضرب في البيت وفي حديث عبد الرحمن بن أزهر أنه أتى به والنبي صلى الله عليه وسلم عند رحل خالد بن الوليد، ويمكن الجمع بأنه أطلق على رحل خالد بيتا فكأنه كان بيتا من شعر فإن كان كذلك فهو الذي في حديث أبي هريرة لأن في كل منهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ‏"‏ بكتوه ‏"‏ كما تقدم‏.‏

قوله ‏(‏وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي يقول بحضرته أو يفعل ما يضحك منه، وقد أخرج أبو يعلى من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم بسند الباب ‏"‏ أن رجلا كان يلقب حمارا وكان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العكة من السمن والعسل فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتسم ويأمر به فيعطى ‏"‏ ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم بعد قوله ‏"‏ يحب الله ورسوله ‏"‏ قال ‏"‏ وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء فقال‏:‏ يا رسول الله هذا أهديت لك، فإذا جاء صاحبه طلب ثمنه جاء به فقال‏:‏ أعط هذا الثمن، فيقول ألم تهده إلي‏؟‏ فيقول‏:‏ ليس عندي، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه ‏"‏ وهذا مما يقوى أن صاحب الترجمة والنعيمان واحد والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏قد جلده في الشراب‏)‏ أي بسبب شربه الشراب المسكر وكان فيه مضمرة أي كان قد جلده، ووقع في رواية معمر عن زيد بن أسلم بسنده هذا عند عبد الرزاق ‏"‏ أتى برجل قد شرب الخمر فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد، ثم أتى به فحد أربع مرات‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأتى به يوما‏)‏ فذكر سفيان اليوم الذي أتى به فيه والشراب الذي شربه من عند الواقدي، ووقع في روايته ‏"‏ وكان قد أتى به في الخمر مرارا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأمر به فجلد‏)‏ في رواية الواقدي ‏"‏ فأمر به فخفق بالنعال، وعلى هذا فقوله ‏"‏ فجلد ‏"‏ أي ضرب ضربا أصاب جلده، وقد يؤخذ منه أنه المذكور في حديث أنس في الباب الأول‏.‏

قوله ‏(‏قال رجل من القوم‏)‏ لم أر هذا الرجل مسمى، وقد وقع في رواية معمر المذكورة ‏"‏ فقال رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثم رأيته مسمى في رواية الواقدي فعنده ‏"‏ فقال عمر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ما أكثر ما يؤتى به‏)‏ في رواية الواقدي ‏"‏ ما يضرب ‏"‏ وفي رواية معمر ‏"‏ ما أكثر ما يشرب وما أكثر ما يجلد‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لا تلعنوه‏)‏ في رواية الواقدي ‏"‏ لا تفعل يا عمر ‏"‏ وهذا قد يتمسك به من يدعي اتحاد القصتين، وهو بعيد لما بينته من اختلاف الوقتين، ويمكن الجمع بأن ذلك وقع للنعيمان ولابن النعيمان وأنه اسمه عبد الله ولقبه حمار، والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله‏)‏ كذا للأكثر بكسر الهمزة ويجوز على رواية ابن السكن الفتح والكسر‏.‏

وقال بعضهم الرواية بفتح الهمزة، على أن ‏"‏ ما ‏"‏ نافية يحيل المعنى إلى ضده، وأغرب بعض شراح المصابيح فقال ما موصولة وإن مع اسمها وخبرها سدت مسد مفعولي علمت لكونه مشتملا على المنسوب والمنسوب إليه والضمير في أنه يعود إلى الموصول والموصول مع صلته خبر مبتدأ محذوف تقديره هو الذي علمت والجملة في جواب القسم، قال الطيبي‏:‏ وفيه تعسف‏.‏

وقال صاحب ‏"‏ المطالع ‏"‏‏:‏ ما موصولة وإنه بكسر الهمزة مبتدأ، وقيل بفتحها وهو مفعول علمت‏.‏

قال الطيبي‏:‏ فعلى هذا علمت بمعنى عرفت وأنه خبر الموصول‏:‏ وقال أبو البقاء في إعراب الجمع‏:‏ ما زائدة أي فوالله علمت أنه والهمزة على هذا مفتوحة‏.‏

قال‏:‏ ويحتمل أن يكون المفعول محذوفا أي ما علمت عليه أو فيه سوءا، ثم استأنف فقال‏:‏ إنه يحب الله ورسوله‏.‏

ونقل عن رواية ابن السكن أن التاء بالفتح للخطاب تقريرا، ويصح على هذا كسر الهمزة وفتحها، والكسر على جواب القسم والفتح معمول علمت، وقيل ما زائدة للتأكيد والتقدير لقد علمت‏.‏

قلت‏:‏ وقد حكى في ‏"‏ المطالع ‏"‏ أن في بعض الروايات ‏"‏ فوالله لقد علمت ‏"‏ وعلى هذا فالهمزة مفتوحة، ويحتمل أن تكون ما مصدرية وكسرت إن لأنها جواب القسم‏.‏

قال الطيبي‏:‏ وجعل ما نافية أظهر لاقتضاء القسم أن يلتقي بحرف النفي وبإن وباللام خلاف الموصولة، ولأن الجملة القسمية جيء بها مؤكدة لمعنى النفي مقررة للإنكار، ويؤيده أنه وقع في شرح السنة ‏"‏ فوالله ما علمت إلا أنه قال ‏"‏ فمعنى الحصر في هذه الرواية بمنزلة تاء الخطاب في الرواية الأخرى لإرادة مزيد الإنكار على الخاطب‏.‏

قلت‏:‏ وقد وقع في رواية أبي ذر‏:‏ عن الكشميهني مثل ما عزاه لشرح السنة، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي زرعة الرازي عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه ‏"‏ فوالله ما علمت إنه ليحب الله ورسوله ‏"‏ ويصح معه أن تكون ما زائدة وأن تكون ظرفية أي مدة علي، ووقع في رواية معمر والواقدي ‏"‏ فإنه يحب الله ورسوله ‏"‏ وكذا في رواية محمد بن عمرو بن حزم، ولا إشكال فيها لأنها جاءت تعليلا لقوله ‏"‏ لا تفعل يا عمر ‏"‏ والله أعلم‏.‏

وفي هذا الحديث من الفوائد جواز التلقيب وقد تقدم القول فيه في كتاب الأدب، وهو محمود هنا على أنه كان لا يكرهه، أو أنه ذكر به على سبيل التعريف لكثرة من كان يسمى بعبد الله، أو أنه لما تكرر منه الإقدام على الفعل المذكور نسب إلى البلادة فأطلق عليه اسم من يتصف بها ليرتدع بذلك‏.‏

وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعنه والأمر بالدعاء له‏.‏

وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه‏.‏

وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية بل نفي كماله كما تقدم، ويحتمل أن يكون استمرار ثبوت محبة الله ورسوله في قلب العاصي مقيدا بما إذا ندم على وقوع المعصية وأقيم عليه الحد فكفر عنه الذنب المذكور، بخلاف من لم يقع منه ذلك فإنه يخشى عليه بتكرار الذنب أن يطبع على قلبه شيء حتى يسلب منه ذلك نسأل الله العفو والعافية‏.‏

وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتى به أكثر من خمسين مرة، والأمر المنسوخ أخرجه الشافعي في رواية حرملة عنه وأبو داود وأحمد والنسائي والدارمي وابن المنذر وصححه ابن حبان كلهم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاجلده، ثم إذا سكر فاقتلوه ‏"‏ ولبعضهم ‏"‏ فاضربوا عنقه ‏"‏ وله من طريق أخرى عن أبي هريرة أخرجها عبد الرزاق وأحمد والترمذي تعليقا والنسائي كلهم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه بلفظ ‏"‏ إذا شربوا فاجلدوهم ثلاثا، فإذا شربوا الرابعة فاقتلوهم ‏"‏ وروي عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح فقال أبو بكر بن عياش عنه عن أبي صالح عن أبي سعيد كذا أخرجه ابن حبان من رواية عثمان بن أبي شيبة عن أبي بكر، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عنه فقال ‏"‏ عن معاوية ‏"‏ بدل ‏"‏ أبي سعيد ‏"‏ وهو المحفوظ، وكذا أخرجه أبو داود من رواية أبان العطار عنه، وتابعه الثوري وشيبان بن عبد الرحمن وغيرهما عن عاصم، ولفظ الثوري عن عاصم ‏"‏ ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه ‏"‏ ووقع في رواية أبان عند أبي داود ‏"‏ ثم إن شربوا فاجلدوهم ‏"‏ ثلاث مرات بعد الأولى ثم قال ‏"‏ إن شربوا فاقتلوهم ‏"‏ ثم ساقه أبو داود من طريق حميد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر قال ‏"‏ وأحسبه قال في الخامسة ثم إن شربها فاقتلوه ‏"‏ قال وكذا في حديث عطيف في الخامسة، قال أبو داود ‏"‏ وفي رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه وسهيل بن أبي صالح عن أبيه كلاهما عن أبي هريرة في الرابعة ‏"‏ وكذا في رواية ابن أبي نعيم عن ابن عمر، وكذا في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص والشريد‏.‏

وفي رواية معاوية‏:‏ ‏"‏ فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه ‏"‏ وقال الترمذي بعد تخريجه‏:‏ وفي الباب عن أبي هريرة والشريد وشرحبيل بن أوس وأبي الرمداء وجرير وعبد الله بن عمرو‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكرت حديث أبي هريرة، وأما حديث الشريد وهو ابن أوس الثقفي فأخرجه أحمد والدارمي والطبراني وصححه الحاكم بلفظ ‏"‏ إذا شرب فاضربوه ‏"‏ وقال في آخره ‏"‏ ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه ‏"‏ وأما حديث شرحبيل وهو الكندي فأخرجه أحمد والحاكم والطبراني وابن منده في ‏"‏ المعرفة ‏"‏ ورواته ثقات نحو رواية الذي قبله، وصححه الحاكم من وجه آخر‏.‏

وأما حديث أبي الرمداء وهو بفتح الراء وسكون الميم بعدها دال مهملة وبالمد وقيل بموحدة ثم ذال معجمة وهو بدوي نزل مصر فأخرجه الطبراني وابن منده وفي سنده ابن لهيعة وفي سياق حديثه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذي شرب الخمر في الرابعة أن تضرب عنقه فضربت ‏"‏ فأفاد أن ذلك عمل به قبل النسخ، فإن ثبت كان فيه رد على من زعم أنه لم بعمل به‏.‏

وأما حديث جرير فأخرجه الطبراني والحاكم ولفظه ‏"‏ من شرب الخمر فاجلدوه ‏"‏ وقال فيه ‏"‏ فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ‏"‏ وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه أحمد والحاكم من وجهين عنه وفي كل منهما مقال، ففي رواية شهر بن حوشب عنه ‏"‏ فإن شربها الرابعة فاقتلوه‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ورويناه عن أبي سعيد أيضا كما تقدم وعن ابن عمر، وأخرجه النسائي والحاكم من رواية عبد الرحمن بن أبي نعيم عن ابن عمر ونفر من الصحابة بنحوه، وأخرجه الطبراني موصولا من طريق عياض بن عطيف عن أبيه وفيه ‏"‏ في الخامسة ‏"‏ كما أشار إليه أبو داود، وأخرجه الترمذي تعليقا والبزار والشافعي والنسائي والحاكم موصولا من رواية محمد بن المنكدر عن جابر، وأخرجه البيهقي والخطيب في ‏"‏ المبهمات ‏"‏ من وجهين آخرين عن ابن المنكدر‏.‏

وفي رواية الخطيب ‏"‏ جلد‏"‏‏.‏

وللحاكم من طريق يزيد بن أبي كبشة سمعت رجلا من الصحابة يحدث عبد الملك بن مروان رفعه بنحوه ‏"‏ ثم إن عاد في الرابعة فاقتلوه ‏"‏ وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر مرسلا وفيه ‏"‏ أتى بابن النعيمان بعد الرابعة فجلده ‏"‏ وأخرجه الطحاوي من رواية عمرو بن الحارث عن ابن المنكدر أنه بلغه، وأخرجه الشافعي وعبد الرزاق وأبو داود من رواية الزهري عن قبيصة بن ذؤيب قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من شرب الخمر فاجلدوه - إلى أن قال - ثم إذا شرب في الرابعة فاقتلوه، قال فأتى برجل قد شرب فجلده ثم أتى به قد شرب فجلده ثم أتى به وقد شرب فجلده، ثم أتى به في الرابعة قد شرب فجلده فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة ‏"‏ وعلقه الترمذي فقال روى الزهري وأخرجه الخطيب في ‏"‏ المبهمات ‏"‏ من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري وقال فيه ‏"‏ فأتى برجل من الأنصار يقال له نعيمان فضربه أربع مرات، فرأى المسلمون أن القتل قد أخر وأن الضرب قد وجب ‏"‏ وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة وولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، ورجال هذا الحديث ثقات مع إرساله، لكنه أعل بما أخرجه الطحاوي من طريق الأوزاعي عن الزهري قال‏:‏ ‏"‏ بلغني عن قبيصة ‏"‏ ويعارض ذلك رواية ابن وهب عن يونس عن الزهري أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح لأن يونس أحفظ لرواية الزهري من الأوزاعي، والظاهر أن الذي بلغ قبيصة ذلك صحابي فيكون الحديث على شرط الصحيح لأن إبهام الصحابي لا يضر، وله شاهد أخرجه عبد الرزاق عن معمر قال حدثت به ابن المنكدر فقال‏:‏ ترك ذلك، قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن نعيمان فجلده ثلاثا ثم أتى به في الرابعة فجلده ولم يزده ووقع عند النسائي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر ‏"‏ عن جابر فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منا قد شرب في الرابعة فلم يقتله ‏"‏ وأخرجه من وجه آخر عن محمد بن إسحاق بلفظ ‏"‏ فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد رفع ‏"‏ قال الشافعي بعد تخريجه‏:‏ هذا ما لا اختلاف فيه بين أهل العلم علمته‏.‏

وذكره أيضا عن أبي الزبير مرسلا‏.‏

وقال‏:‏ أحاديث القتل منسوخة، وأخرجه أيضا من رواية ابن أبي ذئب حدثني ابن شهاب ‏"‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بشارب فجلده ولم يضرب عنقه‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ لا نعلم بين أهل العلم في هذا اختلافا في القديم والحديث‏.‏

قال وسمعت محمدا يقول‏:‏ حديث معاوية في هذا أصح، وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد‏.‏

وقال في ‏"‏ العلل ‏"‏ آخر الكتاب‏:‏ جميع ما في هذا الكتاب قد عمل به أهل العلم إلا هذا الحديث وحديث الجمع بين الصلاتين في الحضر، وتعقبه النووي فسلم قوله في حديث الباب دون الآخر، ومال الخطابي إلى تأويل الحديث في الأمر بالقتل فقال‏:‏ قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل وإنما قصد به الردع والتحذير، ثم قال‏:‏ ويحتمل أن يكون القتل في الخامسة كان واجبا ثم تسخ بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل، وأما ابن المنذر فقال‏:‏ كان العمل فيمن شرب الخمر أن يضرب وينكل به، ثم نسخ بالأمر بجلده فإن تكرر ذلك أربعا قتل، ثم نسخ ذلك بالأخبار الثابتة وبإجماع أهل العلم إلا من شذ ممن لا يعد ‏[‏خلافه‏]‏ خلافا‏.‏

قلت‏:‏ وكأنه أشار إلى بعض أهل الظاهر، فقد نقل عن بعضهم واستمر عليه ابن حزم منهم واحتج له وادعى أن لا إجماع وأورد من مسند الحارث بن أبي أسامة ما أخرجه هو والإمام أحمد من طريق الحسن البصري عن عبد الله بن عمرو أنه قال‏:‏ ائتوني برجل أقيم عليه الحد يعني ثلاثا ثم سكر فإن لم أقتله فأنا كذاب، وهذا منقطع لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو كما جزم به بن المديني وغيره فلا حجة فيه، وإذا لم يصح هذا عن عبد الله في عمرو لم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك حتى ولو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ وعد ذلك من نزره المخالف، وقد جاء عن عبد الله بن عمرو أشد من الأول فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند لين قال‏:‏ لو رأيت أحدا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته‏.‏

وأما قول بعض من انتصر لابن حزم فطعن في النسخ بأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح وليس في شيء من أحاديث غيره الدالة على نسخه التصريح بأن ذلك متأخر عنه، وجوابه أن معاوية أسلم قبل الفتح وقيل في الفتح، وقصة ابن النعيمان كانت بعد ذلك لأن عقبة بن الحارث حضرها إما بحنين وإما بالمدينة، وهو إنما أسلم في الفتح وحنين، وحضور عقبة إلى المدينة كان بعد الفتح جزما فثبت ما نفاه هذا القائل، وقد عمل بالناسخ بعض الصحابة فأخرج عبد الرزاق في مصنفه بسند لين عن عمر بن الخطاب أنه جلد أبا محجن الثقفي في الخمر ثمان مرار، وأورد نحو ذلك عن سعد بن أبي وقاص‏.‏

وأخرج حماد بن سلمة في مصنفه من طريق أخرى رجالها ثقات أن عمر جلد أبا محجن في الخمر أربع مرار ثم قال له‏:‏ أنت خليع، فقال‏:‏ أما إذ خلعتني فلا أشربها أبدا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر‏)‏ هو المعروف بابن المديني‏.‏

قوله ‏(‏أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فأمر بضربه‏)‏ وقع في رواية المستملى ‏"‏ فقام ليضربه ‏"‏ وهو تصحيف فقد تقدم الحديث في الباب الذي قبله من وجه آخر عن أبي ضمرة على الصواب بلفظ ‏"‏ فقال اضربوه ‏"‏ قال القرطبي ظاهره ويقتضي أن السكر بمجرده موجب للحد لأن الفاء للتعليل كقوله سهى فسجد، ولم يفصل هل سكر من ماء عنب أو غيره ولا هل شرب قليلا أو كثيرا، ففيه حجة للجمهور على الكوفيين في التفرقة، وقد مضى بيان ذلك في الأشربة‏.‏

*3*باب السَّارِقِ حِينَ يَسْرِقُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب السارق حين يسرق‏)‏ ذكر فيه حديث ابن عباس نحو حديث أبي هريرة الماضي في أول الحدود مقتصرا فيه على الزنا والسرقة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس نحو حديث أبي هريرة الماضي في أول الحدود مقتصرا فيه على الزنا والسرقة، ولأبي ذر ‏"‏ ولا يسرق السارق ‏"‏ وسقط لفظ السارق من رواية غيره، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عمرو بن علي شيخ البخاري فيه، وأخرجه أيضا من طريق إسحاق بن يوسف الأزرق عن الفضيل بن غزوان بسنده فيه ‏"‏ ولا يشرب الخمر حين يشربها هو مؤمن، ولا يقتل وهو مؤمن ‏"‏ قال عكرمة قلت لابن عباس‏:‏ كيف ينتزع منه الإيمان‏؟‏ قال‏:‏ هكذا فإن تاب راجعه الإيمان‏.‏

وقد تقدم بسط هذا في أول كتاب الحدود‏.‏

*3*باب لَعْنِ السَّارِقِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب لعن السارق إذا لم يسم‏)‏ أي إذا لم يعين، إشارة إلى الجمع بين النهي عن لعن الشارب المعين كما مضى تقريره وبين حديث الباب‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ معناه لا ينبغي تعيين أهل المعاصي ومواجهتهم باللعن وإنما ينبغي أن يلعن في الجملة من فعل ذلك ليكون ردعا لهم وزجرا عن انتهاك شيء منها، ولا يكون لمعين لئلا يقنط، قال‏:‏ فإن كان هذا مراد البخاري فهو غير صحيح لأنه إنما نهى عن لعن الشارب وقال ‏"‏ لا تعينوا عليه الشيطان بعد إقامة الحد عليه ‏"‏ قلت‏:‏ وقد تقدم تقرير ذلك قريبا‏.‏

وقال الداودي‏:‏ قوله في هذا الحديث ‏"‏ لعن الله السارق ‏"‏ يحتمل أن يكون خبرا ليرتدع من سمعه عن السرقة، ويحتمل أن يكون دعاء، قلت‏:‏ ويحتمل أن لا يراد به حقيقة اللعن بل التنفير فقط‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ لعل هنا المراد باللعن الإهانة والخذلان، كأنه قيل لما استعمل أعز شيء في أحقر شيء خذله الله حتى قطع‏.‏

وقال عياض‏:‏ جوز بعضهم لعن المعين ما لم يحد لأن الحد كفارة، قال‏:‏ وليس هذا بسديد لثبوت النهي عن اللعن في الجملة فحمله على المعين أولى، وقد قيل‏:‏ إن لعن النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المعاصي كان تحذيرا لهم عنها قبل وقوعها، فإذا فعلوها استغفر لهم ودعا لهم بالتوبة، وأما من أغلظ له ولعنه تأديبا على فعل فعله فقد دخل في عموم شرطه حيث قال ‏"‏ سألت ربي أن يجعل لعني له كفارة ورحمة‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم الكلام عليه فيما مضى، وبينت هناك أنه مقيد بما إذا صدر في حق من ليس له بأهل كما قيد بذلك في صحيح مسلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ قَالَ الْأَعْمَشُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يَسْوَى دَرَاهِمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أبي هريرة‏)‏ في رواية محمد بن الحسين عن أبي الحنين عن عمر بن حفص شيخ البخاري فيه ‏"‏ سمعت أبا هريرة ‏"‏ وكذا في رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح ‏"‏ سمعت أبا هريرة ‏"‏ وسيأتي بعد سبعة أبواب في ‏"‏ باب توبة السارق ‏"‏ وقال ابن حزم‏:‏ وقد سلم من تدليس الأعمش قلت‏:‏ ولم ينفرد به الأعمش، أخرجه أبو عوانة في صحيحه من رواية أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح‏.‏

قوله ‏(‏لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده‏)‏ في رواية عيسى بن يونس عن الأعمش عند مسلم والإسماعيلي ‏"‏ إن سرق بيضة قطعت يده وإن سرق حبلا قطعت يده‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال الأعمش‏)‏ هو موصول بالإسناد المذكور‏.‏

قوله ‏(‏كانوا يرون‏)‏ بفتح أوله من الرأي وبضمه من الظن‏.‏

قوله ‏(‏أنه بيض الحديد‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ بيضة الحديد‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏والحبل كانوا يرون أنه منها ما يساوي دراهم‏)‏ وقع لغير أبي ذر ‏"‏ يسوى ‏"‏ وقد أنكر بعضهم صحتها والحق أنها جائزة لكن بقلة قال الخطابي‏:‏ تأويل الأعمش هذا غير مطابق لمذهب الحديث ومخرج الكلام فيه وذلك أنه ليس بالشائع في الكلام أن يقال في مثل ما ورد فيه الحديث من اللوم والتثريب‏:‏ أخزى الله فلانا عرض نفسه للتلف في مال له قدر ومزية وفي عرض له قيمة إنما يضرب المثل في مثله بالشيء الذي لا وزن له ولا قيمة، هذا حكم العرف الجاري في مثله، وإنما وجه الحديث وتأويله ذم السرقة وتهجين أمرها وتحذير سوء مغبتها فيما قل وكثر من المال كأنه يقول إن سرقة الشيء اليسير الذي لا قيمة له كالبيضة المذرة والحبل الخلق الذي لا قيمة له إذا تعاطاه فاستمرت به العادة لم ييأس أن يؤديه ذلك إلى سرقة ما فوقها حتى يبلغ قدر ما تقطع فيه اليد فتقطع يده، كأنه يقول فليحذر هذا الفعل وليتوقه قبل أن تملكه العادة ويمرن عليها ليسلم من سوء مغبته ووخيم عاقبته‏.‏

قلت‏:‏ وسبق الخطابي إلى ذلك أبو محمد بن قتيبة فيما حكاه ابن بطال فقال‏:‏ احتج الخوارج بهذا الحديث على أن القطع يجب في قليل الأشياء وكثيرها، ولا حجة لهم فيه، وذلك أن الآية لما نزلت قال عليه الصلاة والسلام ذلك على ظاهر ما نزل، ثم أعلمه الله أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار فكان بيانا لما أجمل فوجب المصير إليه‏.‏

قال‏:‏ وأما قول الأعمش إن البيضة في هذا الحديث بيضة الحديد التي تجعل في الرأس في الحرب وأن الحبل من حبال السفن فهذا تأويل بعيد لا يجوز عند من يعرف صحيح كلام العرب لأن كل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة وهذا ليس موضع تكثير لما سرقه السارق ولأن من عادة العرب والعجم أن يقولوا قبح الله فلانا عرض نفسه للضرب في عقد جوهر وتعرض للعقوبة بالغلول في جراب مسك، وإنما العادة في مثل هذا أن يقال لعنه الله تعرض لقطع اليد في حبل رث أو في كبة شعر أو رداء خلق؛ وكل ما كان نحو ذلك كان أبلغ انتهى ورأيته في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ لابن قتيبة وفيه‏:‏ حضرت يحيى بن أكثم بمكة قال فرأيته يذهب إلى هذا التأويل ويعجب به ويبدئ ويعيد، قال وهذا لا يجوز فذكره، وقد تعقبه أبو بكر بن الأنباري فقال‏:‏ ليس الذي طعن به ابن قتيبة على تأويل الخبر بشيء لأن البيضة من السلاح ليست علما في كثرة الثمن ونهاية في غلو القيمة فتجري مجرى العقد من الجوهر والجراب من المسك اللذين ربما يساويان الألوف من الدنانير، بل البيضة من الحديد ربما اشتريت بأقل مما يجب فيه القطع، وإنما مراد الحديث أن السارق يسرق قطع يده بما لا غنى له به لأن البيضة من السلاح لا يستغني بها أحد، وحاصله أن المراد بالخبر أن السارق يسرق الجليل قطع يده ويسرق الحقير فتقطع يده، فكأنه تعجيز له وتضعيف لاختياره لكونه باع يده بقليل الثمن وكثيره وقال المازري‏:‏ تأول بعض الناس البيضة في الحديث بيضة الحديد لأنه يساوي نصاب القطع، وحمله بعضهم على المبالغة في التنبيه على عظم ما خسر وحقر ما حصل، وأراد من جنس البيضة والحبل ما يبلغ النصاب‏.‏

قال القرطبي‏:‏ ونظير حمله على المبالغة ما حمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من بني لله مسجدا ولو كمفحص قطاة ‏"‏ فإن أحد ما قيل فيه إنه أراد المبالغة في ذلك، وإلا فمن المعلوم أن مفحص القطاة وهو قدر ما تحضن فيه بيضها لا يتصور أن يكون مسجدا، قال‏:‏ ومنه ‏"‏ تصدقن ولو بظلف محرق‏)‏ وهو مما لا يتصدق به، ومثله كثير في كلامهم‏.‏

وقال عياض‏:‏ لا ينبغي أن يلتفت لما ورد أن البيضة بيضة الحديد والحبل حبل السفن لأن مثل ذلك له قيمة وقدر، فإن سياق الكلام يقتضي ذم من أخذ القليل لا الكثير، والخبر إنما ورد لتعظيم ما جنى على نفسه بما تقل به قيمته لا بأكثر، والصواب تأويله على ما تقدم من تقليل أمره وتهجين فعله وأنه إن لم يقطع في هذا القدر جرته عادته إلى ما هو أكثر منه‏.‏

وأجاب بعض من انتصر لتأويل الأعمش‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله عند نزول الآية مجملة قبل بيان نصاب القطع انتهى‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أنه قطع يد سارق في بيضة حديد ثمنها ربع دينار ورجاله ثقات مع انقطاعه، ولعل هذا مستند التأويل الذي أشار إليه الأعمش‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ البيضة في اللغة تستعمل في المبالغة في المدح وفي المبالغة في الذم، فمن الأول قولهم فلان بيضة البلد إذا كان فردا في العظمة وكذا في الاحتقار، ومنه قول أخت عمرو بن عبدود لما قتل على أخاها يوم الخندق في مرثيتها له‏:‏ لكن قاتله من لا يعاب به من كان يدعي قديم بيضة البلد ومن الثاني قول الآخر يهجو قوما‏:‏ تأبى قضاعة أن تبدي لكم نسبا وابنا نزار فأنتم بيضة البلد ويقال في المدح أيضا بيضة القوم أي وسطهم وبيضة السنام أي شحمته، فكلما كانت البيضة تستعمل في كل من الأمرين حسن التمثيل بها كأنه قال يسرق الجليل والحقير فيقطع فرب أنه عذر بالجليل فلا عذر له بالحقير، وأما الحبل فأكثر ما يستعمل في التحقير كقولهم‏:‏ ما ترك فلان عقالا ولا ذهب من فلان عقال ‏"‏ فكأن المراد أنه إذا اعتاد السرقة لم يتمالك مع غلبة العادة التمييز بين الجليل والحقير ‏"‏ وأيضا فالعار الذي يلزمه بالقطع لا يساوي ما حصل له ولو كان جليلا، وإلى هذا أشار القاضي عبد الوهاب بقوله‏:‏ صيانة العضو أغلاها وأرخصها صيانة المال فافهم حكمة الباري ورد بذلك على قول المعري‏:‏ يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار وسيأتي مزيد لهذا في ‏"‏ باب السرقة ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*بَاب الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّهَا فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا محمد بن يوسف‏)‏ لم أره منسوبا ويحتمل أن يكون هو البيكندي ويحتمل أن يكون الفريابي وبه جزم أبو نعيم في المستخرج، وابن عيينة هو سفيان‏.‏

قوله ‏(‏عن الزهري‏)‏ في رواية الحميدي عن سفيان بن عيينة ‏"‏ سمعت الزهري ‏"‏ أخرجه أبو نعيم‏.‏

وذكر حديث عبادة بن الصامت وفيه ‏"‏ ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة ‏"‏ وقد تقدم أن عند مسلم من وجه آخر ‏"‏ ومن أتى منكم حدا ‏"‏ ولأحمد من حديث خزيمة بن ثابت رفعه ‏"‏ من أصاب ذنبا أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته ‏"‏ وسنده حسن‏.‏

وفي الباب عن جرير بن عبد الله نحوه عند أبي الشيخ، وفي حديث عمرو في شعيب عن أبيه عن جده عنده بسند صحيح إليه نحو حديث عبادة وفيه ‏"‏ فمن فعل من ذلك شيئا فأقيم عليه الحد فهو كفارته ‏"‏ وعن ثابت بن الضحاك نحوه عند أبي الشيخ، وقد ذكرت شرح حديث الباب مستوفى في الباب العاشر من كتاب الإيمان في أول الصحيح‏.‏

وقد استشكل ابن بطال قوله ‏"‏ الحدود كفارة ‏"‏ مع قوله في الحديث الآخر ‏"‏ ما أدري الحدود كفارة لأهلها أو لا ‏"‏ وأجاب بأن سند حديث عبادة أصح، وأجيب بأن الثاني كان قبل أن يعلم بأن الحدود كفارة ثم أعلم فقال الحديث الثاني، وبهذا جزم ابن التين وهو المعتمد‏.‏

وقد أجيب من توقف في ذلك لأجل أن الأول من حديث أبي هريرة وهو متأخر الإسلام عن بيعة العقبة، والثاني وهو التردد من حديث عبادة بن الصامت وقد ذكر في الخبر أنه ممن بايع ليلة العقبة وبيعة العقبة كانت قبل إسلام أبي هريرة بست سنين‏.‏

وحاصل الجواب أن البيعة المذكورة في حديث الباب كانت متأخرة عن إسلام أبي هريرة بدليل أن الآية المشار إليها في قوله ‏"‏ وقرأ الآية كلها ‏"‏ هي قوله تعالى ‏(‏يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا‏)‏ إلى آخرها وكان نزولها في فتح مكة وذلك بعد إسلام أبي هريرة بنحو سنتين، وقررت ذلك تقريرا بينا‏.‏

وإنما وقع الإشكال من قوله هناك إن عبادة بن الصامت وكان أحد النقباء ليلة العقبة قال ‏"‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال بايعوني على أن لا تشركوا ‏"‏ فإنه يوهم أن ذلك كان ليلة العقبة، وليس كذلك بل البيعة التي وقعت في ليلة العقبة كانت على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره إلخ وهو من حديث عبادة أيضا كما أوضحته هناك، قال ابن العربي‏:‏ دخل في عموم قوله المشرك، أو هو مستثنى فإن المشرك إذا عوقب على شركه لم يكن ذلك كفارة له بل زيادة في نكاله، قلت‏:‏ وهذا لا خلاف فيه قال‏:‏ وأما القتل فهو كفارة بالنسبة إلى الولي المستوفي للقصاص في حق المقتول، لأن القصاص ليس بحق له بل يبقى حق المقتول فيطالبه به في الآخرة كسائر الحقوق‏.‏

قلت‏:‏ والذي قاله في مقام المنع، وقد نقلت في الكلام على قوله تعالى ‏(‏ومن يقتل مؤمنا متعمدا‏)‏ قول من قال‏:‏ يبقى للمقتول حق التشفي، وهو أقرب من إطلاق ابن العربي هنا‏.‏

قال‏:‏ وأما السرقة فتتوقف براءة السارق فيها على رد المسروق لمستحقه وأما الزنا فأطلق الجمهور أنه حق الله، وهي غفلة لأن لآل المزني بها في ذلك حقا لما يلزم منه من دخول العار على أبيها وزوجها وغيرهما‏.‏

ومحصل ذلك أن الكفارة تختص بحق الله تعالى دون حق الآدمي في جميع ذلك‏.‏

*3*باب ظَهْرُ الْمُؤْمِنِ حِمًى إِلَّا فِي حَدٍّ أَوْ حَقٍّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب ظهر المؤمن حمى‏)‏ أي محمي معصوم من الإيذاء‏.‏

قوله ‏(‏إلا في حد أو في حق‏)‏ أي لا يضرب ولا يذل إلا على سبيل الحد والتعزير تأديبا، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه أبو الشيخ في كتاب السرقة من طريق محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ظهور المسلمين حمى إلا في حدود الله ‏"‏ وفي محمد بن عبد العزيز ضعف، وأخرجه الطبراني من حديث عصمة بن مالك الخطمي بلفظ ‏"‏ ظهر المؤمن حمى إلا بحقه ‏"‏ وفي سنده الفضل بن المختار وهو ضعيف، ومن حديث أبي أمامة ‏"‏ من جرد ظهر مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان ‏"‏ وفي سنده أيضا مقال‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَلَا أَيُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً قَالُوا أَلَا شَهْرُنَا هَذَا قَالَ أَلَا أَيُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً قَالُوا أَلَا بَلَدُنَا هَذَا قَالَ أَلَا أَيُّ يَوْمٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً قَالُوا أَلَا يَوْمُنَا هَذَا قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ أَلَا نَعَمْ قَالَ وَيْحَكُمْ أَوْ وَيْلَكُمْ لَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا محمد بن عبد الله‏)‏ في رواية غير أبي ذر ‏"‏ حدثني ‏"‏ قال الحاكم‏:‏ محمد بن عبد الله هذا هو الذهلي‏.‏

وقال أبو علي الجياني‏:‏ لم أره منسوبا في شيء من الروايات‏.‏

قلت‏:‏ وعلى قول الحاكم فيكون نسب لجده لأنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس، وقد حدث البخاري في الصحيح عن محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي وعن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج بالمثلثة والجيم وعن غيرهما، وقد بينت ذلك موضحا في آخر حديث في كتاب الأيمان والنذور، وقد سقط محمد بن عبد الله من رواية أبي أحمد الجرجاني عن الفربري، واعتمد أبو نعيم في مستخرجه على ذلك فقال‏:‏ رواه البخاري عن عاصم بن علي وعاصم المذكور هو ابن عاصم الواسطي، وشيخه عاصم بن محمد أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر، وشيخه واقد هو أخوه‏.‏

قوله ‏(‏قال عبد الله‏)‏ هو ابن عمر جد الراوي عنه‏.‏

قوله ‏(‏ألا أي شهر تعلمونه‏؟‏‏)‏ هو بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف افتتاح للتنبيه لما يقال، وقد كررت في هذه الرواية سؤالا وجوابا، وقوله في هذه الرواية ‏"‏ أي يوم تعلمونه أعظم حرمة‏؟‏ قالوا‏:‏ يومنا هذا ‏"‏ يعارضه أن يوم عرفة أعظهم الأيام، وأجاب الكرماني بأن المراد باليوم الوقت الذي تؤدي فيه المناسك، ويحتمل أن يختص يوم النحر بمزيد الحرمة، ولا يلزم من ذلك حصول المزية التي اختص بها يوم عرفة، وقد تقدم بعض الكلام على هذا الحديث في كتاب العلم، وتقدم ما يتعلق بالسؤال والجواب مبسوطا في ‏"‏ باب الخطبة أيام مني ‏"‏ من كتاب الحج، ومضى ما يتعلق بقوله‏:‏ ‏"‏ ويلكم أو ويحكم ‏"‏ في كتاب الأدب، ويأتي ما يتعلق بقوله ‏"‏ لا ترجعوا بعدي ‏"‏ مستوفى في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالِانْتِقَامِ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله‏)‏ ذكر فيه حديث عائشة ‏"‏ ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في ‏"‏ باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كتاب المناقب، وقوله هنا ‏"‏ ما لم يأثم ‏"‏ في رواية المستملي ‏"‏ ما لم يكن إثم ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا التخيير ليس من الله لأن الله لا يخير رسوله بين أمرني أحدهما إثم إلا إن كان في الدين وأحدهما يؤول إلى الإثم كالغلو فإنه مذموم كما لو أوجب الإنسان على نفسه شيئا شاقا من العبادة فعجز عنه، ومن ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الترهب، قال ابن التين‏:‏ المراد التخيير في أمر الدنيا وأما أمر الآخرة فكلما صعب كان أعظم ثوابا، كذا قال، وما أشار إليه ابن بطال أولى، وأولى منهما أن ذلك في أمور الدنيا لأن بعض أمورها قد يفضي إلى الإثم كثيرا، والأقرب أن فاعل التخيير الآدمي وهو ظاهر وأمثلته كثيرة ولا سيما إذا صدر من الكافر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ فَإِذَا كَانَ الْإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ

الشرح‏:‏

حديث عائشة ‏"‏ ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في ‏"‏ باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من كتاب المناقب، وقوله هنا ‏"‏ ما لم يأثم ‏"‏ في رواية المستملي ‏"‏ ما لم يكن إثم ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا التخيير ليس من الله لأن الله لا يخير رسوله بين أمرني أحدهما إثم إلا إن كان في الدين وأحدهما يؤول إلى الإثم كالغلو فإنه مذموم كما لو أوجب الإنسان على نفسه شيئا شاقا من العبادة فعجز عنه، ومن ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الترهب، قال ابن التين‏:‏ المراد التخيير في أمر الدنيا وأما أمر الآخرة فكلما صعب كان أعظم ثوابا، كذا قال، وما أشار إليه ابن بطال أولى، وأولى منهما أن ذلك في أمور الدنيا لأن بعض أمورها قد يفضي إلى الإثم كثيرا، والأقرب أن فاعل التخيير الآدمي وهو ظاهر وأمثلته كثيرة ولا سيما إذا صدر من الكافر‏.‏

*3*باب إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع‏)‏ هو من الوضع وهو النقص، ووقع هنا بلفظ الوضيع وفي الطريق التي تليه بلفظ الضعيف، وهي رواية الأكثر في هذا الحديث، وقد رواه بلفظ الوضيع أيضا النسائي من طريق إسماعيل بن أمية عن الزهري، والشريف يقابل الاثنين لما يستلزم الشرف من الرفعة والقوة، ووقع للنسائي أيضا في رواية لسفيان بلفظ ‏"‏ الدون الضعيف‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُسَامَةَ كَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةٍ فَقَالَ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الْحَدَّ عَلَى الْوَضِيعِ وَيَتْرُكُونَ الشَّرِيفَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو الوليد‏)‏ هو الطيالسي‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا الليث عن ابن شهاب‏)‏ في رواية أبي النضر هاشم بن القاسم عن الليث عند أحمد ‏"‏ حدثنا ابن شهاب ‏"‏ ولا يعارض ذلك رواية أبي صالح عن الليث عن يونس عن ابن شهاب فيما أخرجه أبو داود لأن لفظ السياقين مختلف فيحمل على أنه عند الليث بلا واسطة باللفظ الأول وعنده باللفظ الثاني بواسطة وسأوضح ذلك‏.‏

قوله ‏(‏عن عروة‏)‏ في رواية ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب ‏"‏ أخبرني عروة بن الزبير ‏"‏ وقد مضى سياقه في غزوة الفتح‏.‏

قوله ‏(‏أن أسامة‏)‏ هو ابن زيد بن حارثة‏.‏

قوله ‏(‏كل النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة‏)‏ هكذا رواه أبو الوليد مختصرا، ورواه غيره عن الليث مطولا كما في الباب بعده‏.‏

قوله ‏(‏ويتركون على الشريف‏)‏ كذا لأبي ذر عن الكشميهني وفيه حذف تقديره ويتركون إقامة الحد على الشريف فلا يقيمون عليه الحد‏.‏

قوله ‏(‏لو فاطمة‏)‏ كذا للأكثر، قال ابن التين‏:‏ التقدير لو فعلت فاطمة ذلك لأن لو يليها الفعل دون الاسم‏.‏

قلت‏:‏ الأولى التقدير بما جاء في الطريق الأخرى ‏"‏ لو أن فاطمة ‏"‏ كذا في رواية الكشميهني هنا وهي ثابتة في سائر طرق هذا الحديث في غير هذا الموضع، ولو هنا شرطية وحذف أن ورد معها كثيرا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي عند مسلم لو أهل عمان أتاهم رسولي فالتقدير لو أن أهل عمان، وقد أنكر بعض الشراح من شيوخنا على ابن التين إيراده هنا بحذف أن، ولا إنكار عليه فإن ذلك ثابت هنا في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني، وكذا هو في رواية النسفي، ووقع في رواية إسحاق بن راشد عن ابن شهاب عند النسائي ‏"‏ لو سرقت فاطمة ‏"‏ وهو يساعد تقدير ابن التين‏.‏