فصل: باب الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب لَا صَفَرَ وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَطْنَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن‏)‏ كذا جزم بتفسير الصفر، وهو بفتحتين‏.‏

وقد نقل أبو عبيدة معمر بن المثنى في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ له عن يونس بن عبيد الجرمي أنه سأل رؤبة بن العجاج فقال‏:‏ هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب‏.‏

فعلى هذا فالمراد بنفي الصفر ما كانوا يعتقدونه فيه من العدوى‏.‏

ورجح عند البخاري هذا القول لكونه قرن في الحديث بالعدوى‏.‏

وكذا رجح الطبري هذا القول واستشهد له بقول الأعشى ‏"‏ ولا يعض على شرسوفة الصفر ‏"‏ والشرسوف بضم المعجمة وسكون الراء ثم مهملة ثم فاء‏:‏ الضلع، والصفر دود يكون في الجوف فربما عض الضلع أو الكبد فقتل صاحبه، وقيل‏:‏ المراد بالصفر الحية لكن المراد بالنفي نفي ما كانوا يعتقدونه أن من أصابه قتله، فرد ذلك الشارع بأن الموت لا يكون إلا إذا فرغ الأجل‏.‏

وقد جاء هذا التفسير عن جابر وهو أحد رواة حديث ‏"‏ لا صفر ‏"‏ قاله الطبري‏.‏

وقيل‏:‏ في الصفر قول آخر، وهو أن المراد به شهر صفر، وذلك أن العرب كانت تحرم صفر وتستحل الحرم كما تقدم في كتاب الحج، فجاء الإسلام برد ما كانوا يفعلونه من ذلك فلذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا صفر‏"‏، قال ابن بطال‏:‏ وهذا القول مروي عن مالك، والصفر أيضا وجع في البطن يأخذ من الجوع ومن اجتماع الماء الذي يكون منه الاستسقاء، ومن الأول حديث ‏"‏ صفرة في سبيل الله خير من حمر النعم ‏"‏ أي جوعة، ويقولون صفر الإناء إذا خلا عن الطعام، ومن الثاني ما سبق في الأشربة في حديث ابن مسعود ‏"‏ أن رجلا أصابه الصفر فنعت له السكر ‏"‏ أي حصل له الاستسقاء فوصف له النبيذ، وحمل الحديث على هذا لا يتجه، بخلاف ما سبق‏.‏

وسيأتي شرح الهامة والعدوى كل منهما في باب مفرد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ إِبِلِي تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِي الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا فَقَالَ فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن صالح‏)‏ هو ابن كيسان، وقوله‏:‏ ‏"‏ أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وغيره ‏"‏ وقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح بن كيسان عند مسلم في هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة، وقوله في آخر الباب‏:‏ ‏"‏ رواه الزهري عن أبي سلمة وسنان بن أبي سنان ‏"‏ يعني كلاهما عن أبي هريرة، وسيأتي ذلك في ‏"‏ باب لا عدوى ‏"‏ من رواية شعيب عن الزهري عنهما، وفيه تفصيل لفظ أبي سلمة من لفظ سنان، ويأتي البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب ذَاتِ الْجَنْبِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ذات الجنب‏)‏ هو ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع، وقد يطلق على ما يعارض في نواحي الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات والعضل التي في الصدر والأضلاع فتحدث وجعا، فالأول‏:‏ ذات الجنب الحقيقي الذي تكلم عليه الأطباء، قالوا ويحدث بسببه خمسة أعراض‏:‏ الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشاري‏.‏

ويقال لذات الجنب أيضا وجع الخاصرة وهي من الأمراض المخوفة لأنها تحدث بين القلب والكبد وهي من سيئ الأسقام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما كان الله ليسلطها علي ‏"‏ والمراد بذات الجنب في حديثي الباب الثاني، لأن القسط وهو العود الهندي كما تقدم بيانه قريبا هو الذي تداوى به الريح الغليظة، قال المسبحي‏:‏ العود حار يابس قابض يحبس البطن ويقوي الأعضاء الباطنة ويطرد الريح ويفتح السدد ويذهب فضل الرطوبة؛ قال‏:‏ ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقي أيضا إذا كانت ناشئة عن مادة بلغمية، ولا سيما في وقت انحطاط العلة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أُمَّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ اللَّاتِي بَايَعْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أُخْتُ عُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنٍ لَهَا قَدْ عَلَّقَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُذْرَةِ فَقَالَ اتَّقُوا اللَّهَ عَلَى مَا تَدْغَرُونَ أَوْلَادَكُمْ بِهَذِهِ الْأَعْلَاقِ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُرِيدُ الْكُسْتَ يَعْنِي الْقُسْطَ قَالَ وَهِيَ لُغَةٌ

الشرح‏:‏

حديث أم قيس بنت محصن في قصة ولدها والأعلاق عليه من العذرة، وقد تقدم شرح ذلك وبيانه قبل ببابين‏.‏

وقوله في أوله‏:‏ ‏"‏ حدثنا محمد ‏"‏ هو الذهلي، وقوله‏:‏ ‏"‏ عتاب بن بشير ‏"‏ بمهملة ومثناة ثقيلة وآخره موحدة وأبوه بموحدة ومعجمة وزن عظيم وشيخه إسحاق هو ابن راشد الجزري وقوله في آخره‏:‏ ‏"‏ يريد الكست، يعني القسط، قال وهي لغة ‏"‏ هو تفسير العود الهندي بأنه القسط، والقائل ‏"‏ قال هي لغة ‏"‏ هو الزهري‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَارِمٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ قَالَ قُرِئَ عَلَى أَيُّوبَ مِنْ كُتُبِ أَبِي قِلَابَةَ مِنْهُ مَا حَدَّثَ بِهِ وَمِنْهُ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ وَكَانَ هَذَا فِي الْكِتَابِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ وَأَنَسَ بْنَ النَّضْرِ كَوَيَاهُ وَكَوَاهُ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِهِ وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنْ يَرْقُوا مِنْ الْحُمَةِ وَالْأُذُنِ قَالَ أَنَسٌ كُوِيتُ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ وَشَهِدَنِي أَبُو طَلْحَةَ وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو طَلْحَةَ كَوَانِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عارم‏)‏ هو محمد بن الفضل أبو النعمان السدوسي، وحماد هو ابن زيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قرئ على أيوب‏)‏ هو السختياني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من كتب أبي قلابة منه ما حدث به ومنه ما قرئ عليه، فكان هذا في الكتاب‏)‏ أي كتاب أبي قلابة، كذا للأكثر‏.‏

ووقع في رواية الكشميهني بدل قوله ‏"‏ في الكتاب ‏"‏‏:‏ ‏"‏ قرأ الكتاب ‏"‏ وهو تصحيف ووقع عند الإسماعيلي بعد قوله‏:‏ ‏"‏ في الكتاب ‏"‏‏:‏ ‏"‏ غير مسموع ‏"‏ ولم أر هذه اللفظة في شيء من نسخ البخاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أنس‏)‏ هو ابن مالك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن أبا طلحة‏)‏ هو زيد بن سهل زوج والدة أنس أم سليم، وأنس بن النضر هو عم أنس بن مالك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كوياه وكواه أبو طلحة بيده‏)‏ نسب الكي إليهما معا لرضاهما به، ثم نسب الكي لأبي طلحة وحده لمباشرته‏.‏

وعند الإسماعيلي من وجه آخر عن أيوب ‏"‏ وشهدني أبو طلحة وأنس بن النضر وزيد بن ثابت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عباد بن منصور‏)‏ هو الناجي بالنون والجيم، وأراد بهذا التعليق فائدة من جهة الإسناد، وأخرى من جهة المتن، أما الإسناد فبين أن حماد بن زيد بين في روايته صورة أخذ أيوب هذا الحديث عن أبي قلابة، وأنه كان قرأه عليه من كتابه، وأطلق عباد بن منصور روايته بالعنعنة‏.‏

وأما المتن فلما فيه من الزيادة، وهي أن الكي المذكور كان بسبب ذات الجنب، وأن ذلك كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن زيد بن ثابت كان فيمن حضر ذلك‏.‏

وفي رواية عباد بن منصور زيادة أخرى في أوله أفردها بعضهم، وهي حديث إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار أن يرقوا من الحمة والأذن‏.‏

وليس لعباد بن منصور - وكنيته أبو سلمة - في البخاري سوى هذا الموضع المعلق، وهو من كبار أتباع التابعين، تكلموا فيه من عدة جهات‏:‏ إحداها‏:‏ أنه رمي بالقدر، لكنه لم يكن داعية‏.‏

ثانيها‏:‏ أنه كان يدلس‏.‏

ثالثها‏:‏ أنه قد تغير حفظه‏.‏

وقال يحيى القطان‏:‏ لما رأيناه كان لا يحفظ‏.‏

ومنهم من أطلق ضعفه‏.‏

وقد قال ابن عدي‏:‏ هو من جملة من يكتب حديثه‏.‏

ووصل الحديث المذكور أبو يعلى عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن ريحان بن سعيد عن عباد بطوله، وأخرجه عند الإسماعيلي كذلك، وفرقه البزار حديثين وقال في كل منهما‏:‏ تفرد به عباد بن منصور‏.‏

والحمة بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم وقد تشدد، وأنكره الأزهري، هي السم‏.‏

وقد تقدم شرحها في ‏"‏ باب من اكتوى ‏"‏ وسيأتي الكلام على حكمها في ‏"‏ باب رقية الحية والعقرب ‏"‏ بعد أبواب‏.‏

وأما رقية الأذن فقال ابن بطال‏:‏ المراد وجع الأذن، أي رخص في رقية الأذن إذا كان بها وجع، وهذا يرد على الحصر الماضي في الحديث المذكور في ‏"‏ باب من اكتوى ‏"‏ حيث قال‏:‏ لا رقية إلا من عين أو حمة، فيجوز أن يكون رخص فيه بعد أن منع منه، ويحتمل أن يكون المعنى لا رقية أنفع من رقية العين والحمة، ولم يرد نفي الرقى عن غيرهما‏.‏

وحكى الكرماني عن ابن بطال أنه ضبطه ‏"‏ الأدر ‏"‏ بضم الهمزة وسكون المهملة بعدها راء‏.‏

وأنه جمع أدرة وهي نفخة الخصية، قال‏:‏ وهو غريب شاذ انتهى‏.‏

ولم أر ذلك في كتاب ابن بطال، فليحرر‏.‏

ووقع عند الإسماعيلي في سياق رواية عباد بن منصور بلفظ ‏"‏ أن يرقوا من الحمة، وأذن برقيه العين والنفس ‏"‏ فعلى هذا فقوله ‏"‏ والأذن ‏"‏ في الرواية المعلقة تصحيف من قوله ‏"‏ أذن ‏"‏ فعل ماض من الإذن، لكن زاد الإسماعيلي في رواية من هذا الوجه ‏"‏ وكان زيد بن ثابت يرقى من الأذن والنفس ‏"‏ فالله أعلم‏.‏

وسيأتي بعد أبواب ‏"‏ باب رقية العين ‏"‏ وغير ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ رخص لأهل بيت من الأنصار ‏"‏ هم آل عمرو بن حزم، وقع ذلك عند مسلم من حديث جابر، والمخاطب بذلك منهم عمارة بن حزم كما بينته في ترجمته في كتاب الصحابة‏.‏

*3*باب حَرْقِ الْحَصِيرِ لِيُسَدَّ بِهِ الدَّمُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب حرق الحصير‏)‏ كذا لهم، وأنكره ابن التين فقال‏:‏ والصواب إحراق الحصير لأنه من أحرق، أو تحريق من حرق، قال فأما الحرق فهو حرق الشيء يؤذيه‏.‏

قلت‏:‏ لكن له توجيه، وقوله‏:‏ ‏"‏ ليسد به الدم ‏"‏ هو بالسين المهملة أي مجاري الدم، أو ضمن ‏"‏ سد ‏"‏ معنى قطع وهو الوجه، وكأنه أشار إلى أن هذا ليس من إضاعة المال لأنه إنما يفعل للضرورة المبيحة، وقد كان أبو الحسن القابسي يقول‏:‏ وددنا لو علمنا ذلك الحصير مما كان لنتخذه دواء لقطع الدم، قال ابن بطال‏:‏ قد زعم أهل الطب أن الحصير كلها إذا أحرمت تبطل زيادة الدم، بل الرماد كله كذلك، لأن الرماد من شأنه القبض، ولهذا ترجم الترمذي لهذا الحديث ‏"‏ التداوي بالرماد ‏"‏ وقال المهلب‏:‏ فيه أن قطع الدم بالرماد كان معلوما عندهم، لا سيما إن كان الحصير من ديس السعد فهي معلومة بالقبض وطيب الرائحة، فالقبض يسد أفواه الجرح، وطيب الرائحة يذهب بزهم الدم، وأما غسل الدم أولا فينبغي أن يكون إذا كان الجرح غير غائر، أما لو كان غائرا فلا يؤمن معه ضرر الماء إذا صب فيه‏.‏

وقال الموفق عبد اللطيف‏:‏ الرماد فيه تجفيف وقلة لذع، والمجفف إذا كان فيه قوة لذع ربما هيج الدم وجلب الورم‏.‏

ووقع عند ابن ماجه من وجه آخر عن سهل بن سعد ‏"‏ أحرقت له - حين لم يرقأ - قطعه حصير خلق فوضعت رماده عليه‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ لَمَّا كُسِرَتْ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَةُ وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ وَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَام الدَّمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَاءِ كَثْرَةً عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَقَأَ الدَّمُ

الشرح‏:‏

تقدم شرح حديث الباب، وهو حديث سهل بن سعد في غسل فاطمة وجه النبي صلى الله عليه وسلم من الدم لما جرح يوم أحد، في كتاب الجهاد‏.‏

وقوله في آخر الحديث ‏"‏ فرقأ ‏"‏ بقاف وهمزة أي بطل خروجه‏.‏

وفي رواية ‏"‏ فاستمسك الدم‏"‏‏.‏

*3*باب الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الحمى من فيح جهنم‏)‏ بفتح الفاء وسكون التحتانية بعدها مهملة، وسيأتي في حديث رافع آخر الباب ‏"‏ من فوح ‏"‏ بالواو، وتقدم من حديثه في صفة النار بلفظ ‏"‏ فور ‏"‏ بالراء بدل الحاء وكلها بمعنى، والمراد سطوع حرها ووهجه‏.‏

والحمى أنواع كما سأذكره‏.‏

واختلف في نسبتها إلى جهنم فقيل حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة‏.‏

وقد جاء في حديث أخرجه البزار من حديث عائشة بسند حسن، وفي الباب عن أبي أمامة عند أحمد، وعن أبي ريحانة عند الطبراني، وعن ابن مسعود في مسند الشهاب ‏"‏ الحمى حظ المؤمن من النار ‏"‏ وهذا كما تقدم في حديث الأمر بالإبراد أن شدة الحر من فيح جهنم وأن الله أذن لها بنفسين، وقيل‏:‏ بل الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى أن حر الحمى شبيه بحر جهنم تنبيها للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب منها من حرها كما قيل بذلك في حديث الإبراد، والأول أولى، والله أعلم‏.‏

ويؤيده قول ابن عمر في آخر الباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر أخرجه من طريق عبد الله بن وهب عن مالك، وكذا مسلم‏.‏

وأخرجه النسائي من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك، قال الدار قطني في ‏"‏ الموطئات ‏"‏‏:‏ لم يروه من أصحاب مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ إلا ابن وهب وابن القاسم وتابعهما الشافعي وسعيد بن عفير وسعيد بن داود، قال‏:‏ ولم يأت به معن ولا القعنبي ولا أبو مصعب ولا ابن بكير انتهى‏.‏

وكذا قال ابن عبد البر في التقصي‏.‏

وقد أخرجه شيخنا في تقريبه من رواية أبي مصعب عن مالك، وهو ذهول منه، لأنه اعتمد فيه على الملخص للقابسي، والقابسي إنما أخرج الملخص من طريق ابن القاسم عن مالك، وهذا ثاني حديث عثرت عليه في تقريب الأسانيد لشيخنا عفا الله تعالى عنه من هذا الجنس، وقد نبهت عليه نصيحة لله تعالى والله أعلم، وقد أخرجه الدار قطني والإسماعيلي من رواية حرملة عن الشافعي، وأخرجه الدار قطني من طريق سعيد بن عفير، ومن طريق سعيد بن داود، ولم يخرجه ابن عبد البر في ‏"‏ التمهيد ‏"‏ لأنه ليس في رواية يحيى بن يحيى الليثي، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأطفئوها‏)‏ بهمزة قطع ثم طاء مهملة وفاء مكسورة ثم همزة أمر بالإطفاء، وتقدم في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع في صفة النار من بدء الخلق بلفظ ‏"‏ فأبردوها ‏"‏ والمشهور في ضبطها بهمزة وصل والراء مضمومة، وحكي كسرها، يقال بردت الحمى أبردها بردا بوزن قتلتها أقتلها قتلا أي أسكنت حرارتها، قال شاعر الحماسة‏:‏ إذا وجدت لهيب الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد هبني بردت ببرد المـاء ظاهره فمن لنار على الأحشاء تتقد وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء، من أبرد الشيء إذا عالجه فصيره باردا، مثل أسحنه إذا صيره سخنا، وقد أشار إليها الخطابي‏.‏

وقال الجوهري‏:‏ إنها لغة رديئة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالماء‏)‏ في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه ‏"‏ بالماء البارد ‏"‏ ومثله في حديث سمرة عند أحمد، ووقع في حديث ابن عباس ‏"‏ بماء زمزم ‏"‏ كما مضى في صفة النار من رواية أبي جمرة بالجيم قال‏:‏ ‏"‏ كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى ‏"‏ وفي رواية أحمد ‏"‏ كنت أدفع للناس عن ابن عباس فاحتبست أياما فقال‏:‏ ما حبسك‏؟‏ قلت الحمى، قال‏:‏ أبردها بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو بماء زمزم ‏"‏ شك همام‏.‏

كذا في راوية البخاري من طريق أبي عامر العقدي عن همام‏.‏

وقد تعلق به من قال بأن ذكر ماء زمزم ليس قيدا لشك راوية فيه‏.‏

وممن ذهب إلى ذلك ابن القيم‏.‏

وتعقب بأنه وقع في رواية أحمد عن عفان عن همام ‏"‏ فأبردوها بماء زمزم ‏"‏ ولم يشك، وكذا أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية عفان، وإن كان الحاكم وهم في استدراكه‏.‏

وترجم له ابن حبان بعد إيراده حديث ابن عمر فقال‏:‏ ذكر الخبر المفسر للماء المجمل في الحديث الذي قبله، وهو أن شدة الحمى تبرد بماء زمزم دون غيره من المياه، وساق حديث ابن عباس، وقد تعقب - على تقدير أن لا شك في ذكر ماء زمزم فيه - بأن الخطاب لأهل مكة خاصة لتيسر ماء زمزم عندهم، كما خص الخطاب بأصل الأمر بأهل البلاد الحارة‏.‏

وحفي ذلك على بعض الناس‏.‏

قال الخطابي ومن تبعه‏:‏ اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث بأن قال‏:‏ اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك، لأنه يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم فيكون ذلك سببا للتلف، قال الخطابي‏:‏ غلط بعض من ينسب إلى العلم فانغمس في الماء لما أصابته الحمى فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث، والجواب أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولا من أين حملت الأمر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل، وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد، وإنما قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع، فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به، وهو كما وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى ما صنعته أسماء بنت الصديق، فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئا من الماء بين يديه وثوبه فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، والصحابي ولا سيما مثل أسماء التي هي ممن كان يلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها، ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثها عقب حديث ابن عمر المذكور، وهذا من بديع ترتيبه‏.‏

وقال المازري‏:‏ ولا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل، حتى أن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ثم يصير داء له في الساعة التي تليها، لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه مثلا فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو بغيره في سائر الأحوال، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع‏.‏

ثم ذكر نحو ما تقدم‏.‏

قالوا‏:‏ وعلى تقدير أن يريد التصريح بالاغتسال في جميع الجسد، فيجاب بأنه يحتمل أن يكون أراد أنه يقع بعد إقلاع الحمى، وهو بعيد‏.‏

ويحتمل أن يكون في وقت مخصوص بعدد مخصوص فيكون من الخواص التي اطلع صلى الله عليه وسلم عليها بالوحي، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب‏.‏

وقد أخرج الترمذي من حديث ثوبان مرفوعا ‏"‏ إذا أصاب أحدكم الحمى - وهي قطعة من النار - فليطفئها عنه بالماء، يستنقع في نهر جار ويستقبل جريته وليقل‏:‏ بسم الله، اللهم اشف عبدك وصدق رسولك، بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ فخمس، وإلا فسبع، وإلا فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله ‏"‏ قال الترمذي غريب‏.‏

قلت‏:‏ وفي سنده سعيد بن زرعة مختلف فيه‏.‏

قال‏:‏ ويحتمل أن يكون لبعض الحميات دون بعض، في بعض الأماكن دون بعض، لبعض الأشخاص دون بعض‏.‏

وهذا أوجه‏.‏

فإن خطابه صلى الله عليه وسلم قد يكون عاما وهو الأكثر، وقد يكون خاصا كما قال‏:‏ ‏"‏ لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا ‏"‏ فقوله ‏"‏ شرقوا أو غربوا ‏"‏ ليس عاما لجميع أهل الأرض بل هو خاص لمن كان بالمدينة النبوية وعلى سمتها كما تقدم تقريره في كتاب الطهارة، فكذلك هذا يحتمل أن يكون مخصوصا بأهل الحجاز وما والأهم إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من العرضية الحادثة عن شدة الحرارة، وهذه ينفعها الماء البارد شربا واغتسالا، لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق إلى جميع البدن، وهي قسمان‏:‏ عرضية وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك، ومرضية وهي ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهي حمى يوم لأنها تقع غالبا في يوم ونهايتها إلى ثلاثة، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية فهي حمى دق وهي أخطرها، وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفنية وهي بعدد الأخلاط الأربعة، وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الإفراد والتركيب‏.‏

وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد وشرب الماء المبرد بالثلج وبغيره ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر، وقد قال جالينوس في كتاب حيلة البرء لو أن شابا حسن اللحم خصب البدن ليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه وقت القيظ عند منتهى الحمى لا ينتفع بذلك‏.‏

وقال أبو بكر الرازي‏:‏ إذا كانت القوى قوية والحمى حادة والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق فإن الماء البارد ينفع شربه، فإن كان العليل خصب البدن والزمان حارا وكان معتادا باستعمال الماء البارد اغتسالا فليؤدن له فيه‏.‏

وقد نزل ابن القيم حديث ثوبان على هذه القيود فقال‏:‏ هذه الصفة تنفع في فصل الصيف في البلاد الحارة في الحمى العرضية أو الغب الخالصة التي لا ورم معها ولا شيء من الأعراض الرديئة، والمراد الفاسدة، فيطفئها بإذن الله، فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس، ووفور القوي في ذلك الوقت لكونه عقب النور والسكون وبرد الهواء، قال‏:‏ والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحرارة الأمراض الحادة غالبا ولا سيما في البلاد الحارة‏.‏

والله أعلم‏.‏

قالوا‏:‏ وقد تكرر في الحديث استعماله صلى الله عليه وسلم الماء البارد في علته كما قال ‏"‏ صبوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن ‏"‏ وقد تقدم شرحه‏.‏

وقال سمرة ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على قرنه فاغتسل ‏"‏ أخرجه البزار وصححه الحاكم، ولكن في سنده راو ضعيف‏.‏

وقال أنس‏:‏ ‏"‏ إذا حم أحدكم فليشن عليه من الماء البارد من السحر ثلاث ليال ‏"‏ أخرجه الطحاوي وأبو نعيم في الطب والطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ وصححه الحاكم وسنده قوي، وله شاهد من حديث أم خالد بنت سعيد أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الطب من طريقه‏.‏

وقال عبد الرحمن بن المرقع رفعه ‏"‏ الحمى رائد الموت، وهي سجن الله في الأرض فبردوا لها الماء في الشنان، وصبوه عليكم فيما بين الأذانين المغرب والعشاء‏.‏

قال ففعلوا فذهب عنهم ‏"‏ أخرجه الطبراني‏.‏

وهذه الأحاديث كلها ترد التأويل الذي نقله الخطابي عن ابن الأنباري أنه قال‏:‏ المراد بقوله فأبردوها الصدقة به، قال ابن القيم‏:‏ أظن الذي حمل قائل هذا أنه أشكل عليه استعمال الماء في الحمى فعدل إلى هذا، وله وجه حسن لأن الجزاء من جنس العمل، فكأنه لما أخمد لهيب العطشان بالماء أخمد الله لهيب الحمى عنه، ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته، وأما المراد به بالأصل فهو استعماله في البدن حقيقة كما تقدم، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال نافع وكان عبد الله‏)‏ أي ابن عمر ‏(‏يقول اكشف عنا الرجز‏)‏ أي العذاب، وهذا موصول بالسند الذي قبله، وكأن ابن عمر فهم من كون أصل الحمى من جهنم أن من أصابته عذب بها، وهذا التعذيب يختلف باختلاف محله‏:‏ فيكون للمؤمن تكفيرا لذنوبه وزيادة في أجوره كما سبق، وللكافر عقوبة وانتقاما‏.‏

وإنما طلب ابن عمر كشفه مع ما فيه من الثواب لمشروعية طلب العافية من الله سبحانه، إذ هو قادر على أن يكفر سيئات عبده ويعظم ثوابه، من غير أن يصيبه شيء يشق عليه، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ قَدْ حُمَّتْ تَدْعُو لَهَا أَخَذَتْ الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَبْرُدَهَا بِالْمَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن هشام‏)‏ هو ابن عروة بن الزبير، وفاطمة بنت المنذر أي ابن الزبير هي بنت عمه وزوجته، وأسماء بنت أبي بكر جدتهما لأبويهما معا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بينها وبين جيبها‏)‏ بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة‏:‏ هو ما يكون مفرجا من الثوب كالكم والطوق‏.‏

وفي رواية عبدة عن هشام عند مسلم ‏"‏ فتصبه في جيبها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن نبردها‏)‏ بفتح أوله وضم الراء الخفيفة‏.‏

وفي رواية لأبي ذر بضم أوله وفتح الموحدة وتشديد الراء من التبريد، وهو بمعنى رواية أبرد بهمزة مقطوعة، زاد عبدة في روايته ‏"‏ وقال إنها من فيح جهنم‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏يحيى‏)‏ هو القطان، وهشام هو ابن عروة أيضا‏.‏

وأشار بإيراد روايته هذه عقب الأولى إلى أنه ليس اختلافا على هشام، بل له في هذا المتن إسنادان، بقرينة مغايرة السياقين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْحُمَّى مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏من فيح جهنم‏)‏ في رواية السرخسي ‏"‏ من فوح ‏"‏ بالواو، وتقدم في صفة النار من بدء الخلق من هذا الوجه بلفظ ‏"‏ من فور ‏"‏ وكلها بمعنى، وتقدم هناك بلفظ ‏"‏ فأبردوها عنكم ‏"‏ بزيادة ‏"‏ عنكم ‏"‏ وكذا زادها مسلم في روايته عن هناد بن السري عن أبي الأحوص بالسند المذكور هنا‏.‏

*3*باب مَنْ خَرَجَ مِنْ أَرْضٍ لَا تُلَايِمُهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من خرج من أرض لا تلايمه‏)‏ بتحتانية مكسورة، وأصله بالهمز ثم كثر استعماله فسهل، وهو من الملاءمة بالمد أي الموافقة وزنا ومعنى‏.‏

وذكر فيه قصة العرنيين، وقد تقدمت الإشارة إليها قريبا، وكأنه أشار إلى أن الحديث الذي أورده بعده في النهي عن الخروج من الأرض التي وقع فيها الطاعون ليس على عمومه‏.‏

وإنما هو مخصوص بمن خرج فرارا منه كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب مَا يُذْكَرُ فِي الطَّاعُونِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يذكر في الطاعون‏)‏ أي مما يصح على شرطه‏.‏

والطاعون بوزن فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله ورضعوه دالا على الموت العام كالوباء، ويقال طعن فهو مطعون وطعين إذا أصابه الطاعون، وإذا أصابه الطعن بالرمح فهو مطعون، هذا كلام الجوهري‏.‏

وقال الخليل‏:‏ الطاعون الوباء‏.‏

وقال صاحب ‏"‏ النهاية ‏"‏‏:‏ الطاعون المرض العام الذي يفسد له الهواء، وتفسد به الأمزجة والأبدان‏.‏

وقال أبو بكر بن العربي‏:‏ الطاعون الوجه الغالب الذي يطفئ الروح كالذبحة، سمي بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله‏.‏

وقال أبو الوليد الباجي‏:‏ هو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس، ويكون مرضهم واحدا بخلاف بقية الأوقات فتكون الأمراض مختلفة‏.‏

وقال الداودي‏:‏ الطاعون حبة تخرج من الأرقاع وفي كل طي من الجسد والصحيح أنه الوباء‏.‏

وقال عياض‏:‏ أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسميت طاعونا لشبهها بها في الهلاك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا‏.‏

قال‏:‏ ويدل على ذلك أن وباء الشام الذي وقع في عمواس إنما كان طاعونا، وما ورد في الحديث أن الطاعون وخز الجن‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ الطاعون غدة تخرج في المراق والآباط، وقد تخرج في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله‏.‏

وقال النووي في ‏"‏ الروضة ‏"‏‏:‏ قيل‏:‏ الطاعون انصباب الدم إلى عضو‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هو هيجان الدم وانتفاخه‏.‏

قال المتولي‏:‏ وهو قريب من الجذام، من أصابه تأكلت أعضاؤه وتساقط لحمه‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ هو انتفاخ جميع البدن من الدم مع الحمى أو انصباب الدم إلى بعض الأطراف، ينتفخ ويحمر؛ وقد يذهب ذلك العضو‏.‏

وقال النووي أيضا في تهذيبه‏:‏ هو بثر وورم مؤلم جدا، يخرج مع لهب، ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة شديد بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان وقيء، ويخرج غالبا في المراق والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد‏.‏

وقال جماعة من الأطباء منهم أبو علي بن سينا‏:‏ الطاعون مادة سمية تحدث ورما قتالا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن؛ وأغلب ما تكون تحت الإبط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة‏.‏

قال‏:‏ وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد يستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسية، والأسود منه قل من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر‏.‏

والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده‏.‏

قلت‏:‏ فهذا ما بلغنا من كلام أهل اللغة وأهل الفقه والأطباء في تعريفه‏.‏

والحاصل أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونا بطريق المجاز لاشتراكهما في عموم المرض به أو كثرة الموت، والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء ما سيأتي في رابع أحاديث الباب ‏"‏ أن الطاعون لا يدخل المدينة ‏"‏ وقد سبق في حديث عائشة ‏"‏ قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله - وفيه قول بلال - أخرجونا إلى أرض الوباء ‏"‏ وما سبق في الجنائز من حديث أبي الأسود ‏"‏ قدمت المدينة في خلافة عمر وهم يموتون موتا ذريعا ‏"‏ وما سبق في حديث العرنيين في الطهارة أنهم استوخموا المدينة، وفي لفظ أنهم قالوا إنها أرض وبئة، فكل ذلك يدل على أن الوباء كان موجودا بالمدينة‏.‏

وقد صرح الحديث الأول بأن الطاعون لا يدخلها فدل على أن الوباء غير الطاعون‏.‏

وأن من أطلق على كل وباء طاعونا فبطريق المجاز‏.‏

قال أهل اللغة‏:‏ الوباء هو المرض العام، يقال أوبأت الأرض فهي موبئة، ووبئت بالفتح فهي وبئة، وبالضم فهي موبوءة‏.‏

والذي يفترق به الطاعون من الوباء أصل الطاعون الذي لم يتعرض له الأطباء ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون وهو كونه من طعن الجن، ولا يخالف ذلك ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة فتحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها أو ينصب وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يعرف من الشارع فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم‏.‏

وقال الكلاباذي في ‏"‏ معاني الأخبار ‏"‏‏:‏ يحتمل أن يكون الطاعون على قسمين‏:‏ قسم محصل من غلبة بعض الأخلاط من دم أو صفراء محترقة أو غير ذلك من غير سبب يكون من الجن، وقسم يكون من وخز الجن كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن من غلبة بعض الأخلاط وإن لم يكن هناك طعن، وتقع الجراحات أيضا من طعن الإنس‏.‏

انتهى‏.‏

ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعه غالبا في أعدل الفصول وفي أصح البلاد هواء وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانا ويجيء أحيانا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير ولا يصيب من هم بجانبهم مما هم في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد ولا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدل على أنه من طعن الحن كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك‏:‏ منها حديث أبي موسى رفعه ‏"‏ فناء أمتي بالطعن والطاعون‏.‏

قيل‏:‏ يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون‏؟‏ قال‏:‏ وخز أعدائكم من الجن، وفي كل شهادة ‏"‏ أخرجه أحمد من رواية زياد بن علاقة عن رجل عن أبي موسى‏.‏

وفي رواية له عن زياد ‏"‏ حدثني رجل من قومي قال‏:‏ كنا على باب عثمان ننتظر الإذن، فسمعت أبا موسى، قال زياد‏:‏ فلم أرض بقوله فسألت سيد الحي فقال‏:‏ صدق ‏"‏ وأخرجه البزار والطبراني من وجهين آخرين عن زياد فسميا المبهم يزيد بن الحارث، وسماه أحمد في رواية أخرى أسامة بن شريك، فأخرجه من طريق أبي بكر النهشلي عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال‏:‏ ‏"‏ خرجنا في بضع عشرة نفسا من بني ثعلبة، فإذا نحن بأبي موسى ‏"‏ ولا معارضة بينه وبين من سماه يزيد بن الحارث لأنه يحمل على أن أسامة هو سيد الحي الذي أشار إليه في الرواية الأخرى واستثبته فيما حدثه به الأول وهو يزيد بن الحارث، ورجاله رجال الصحيحين إلا المبهم، وأسامة بن شريك صحابي مشهور، والذي سماه وهو أبو بكر النهشلي من رجال مسلم، فالحديث صحيح بهذا الاعتبار، وقد صححه ابن خزيمة والحاكم وأخرجاه وأحمد والطبراني من وجه آخر عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ ‏"‏ سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هو وخز أعدائكم من الجن، وهو لكم شهادة ‏"‏ ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا بلج بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها جيم واسمه يحيى وثقه ابن معين والنسائي وجماعة، وضعفه جماعة بسبب التشيع وذلك لا يقدح في قبول روايته عند الجمهور‏.‏

وللحديث طريق ثالثة أخرجها الطبراني من رواية عبد الله بن المختار عن كريب بن الحارث بن أبي موسى عن أبيه عن جده، ورجاله رجال الصحيح إلا كريبا وأباه وكريب وثقه ابن حبان، وله حديث آخر في الطاعون أخرجه أحمد وصححه الحاكم من رواية عاصم الأحول عن كريب بن الحارث عن أبي بردة بن قيس أخي أبي موسى الأشعري رفعه ‏"‏ اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن والطاعون ‏"‏ قال العلماء‏:‏ أراد صلى الله عليه وسلم أن يحصل لأمته أرفع أنواع الشهادة وهو القتل في سبيل الله بأيدي أعدائهم إما من الإنس وإما من الجن‏.‏

ولحديث أبي موسى شاهد من حديث عائشة أخرجه أبو يعلى من رواية ليث بن أبي سليم عن رجاله عن عطاء عنها، وهذا سند ضعيف، وآخر من حديث ابن عمر سنده أضعف منه، والعمدة في هذا الباب على حديث أبي موسى فإنه يحكم له بالصحة لتعدد طرقه إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ وخز ‏"‏ بفتح أوله وسكون المعجمة بعدها زاي قال أهل اللغة‏:‏ هو الطعن إذا كان غير نافذ، ووصف طعن الجن بأنه وخز لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر بالباطن أولا ثم يؤثر في الظاهر وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف طعن الإنس فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن فيؤثر في الظاهر أولا ثم يؤثر في الباطن، وقد لا ينفذ‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ يقع في الألسنة وهو في ‏"‏ النهاية ‏"‏ لابن الأثير تبعا لغريبي الهروي بلفظ ‏"‏ وخز إخوانكم ‏"‏ ولم أره بلفظ ‏"‏ إخوانكم ‏"‏ بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرق الحديث المسند لا في الكتب المشهورة ولا الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد أو الطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا ولا وجود لذلك في واحد منها والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ سَعْداً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فَقُلْتُ أَنْتَ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ سَعْداً وَلَا يُنْكِرُهُ قَالَ نَعَمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حبيب بن أبي ثابت سمعت إبراهيم بن سعد‏)‏ أي ابن أبي وقاص، وقع في سياق أحمد فيه قصة عن حبيب قال‏:‏ ‏"‏ كنت بالمدينة، فبلغني أن الطاعون بالكوفة، فلقيت إبراهيم بن سعد فسألته ‏"‏ وأخرجه مسلم أيضا من هذا الوجه وزاد ‏"‏ فقال لي عطاء بن يسار وغيره ‏"‏ فذكر الحديث المرفوع ‏"‏ فقلت‏:‏ عمن‏؟‏ قالوا عن عامر بن سعد فأتيته فقالوا غائب، فلقيت أخاه إبراهيم بن سعد فسألته‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سمعت أسامة بن زيد يحدث سعدا‏)‏ أي والد إبراهيم المذكور‏.‏

ووقع في رواية الأعمش عن حبيب عن إبراهيم بن سعد عن أسامة بن زيد وسعد أخرجه مسلم، ومثله في رواية الثوري عن حبيب وزاد ‏"‏ وخزيمة بن ثابت ‏"‏ أخرجه أحمد ومسلم أيضا، وهذا الاختلاف لا يضر لاحتمال أن يكون سعد تذكر لما حدثه به أسامة أو نسبت الرواية إلى سعد لتصديقه أسامة‏.‏

وأما خزيمة فيحتمل أن يكون إبراهيم بن سعد سمعه منه بعد ذلك فضمه إليها تارة وسكت عنه أخرى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم بالطاعون‏)‏ وقع في رواية عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة في هذا الحديث زيادة على رواية أخيه إبراهيم أخرجها المصنف في ‏"‏ ترك الحيل ‏"‏ من طريق شعيب عن الزهري ‏"‏ أخبرني عامر بن سعد أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال‏:‏ رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم، ثم بقي منه بقية، فيذهب المرة ويأتي الأخرى ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرجه مسلما من رواية يونس بن يزيد عن الزهري وقاله فيه‏:‏ ‏"‏ إن هذا الوجع أو السقم ‏"‏ وأخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل ومسلم أيضا والنسائي من طريق مالك ومسلم أيضا من طريق الثوري ومغيرة بن عبد الرحمن كلهم عن محمد بن المنكدر، زاد مالك‏:‏ وسالم أبي النضر كلاهما عن عامر بن سعد ‏"‏ أنه سمع أباه يسأل أسامة بن زيد‏:‏ ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون‏؟‏ فقال أسامة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم ‏"‏ الحديث كذا وقع بالشك، ووقع بالجزم عند ابن خزيمة من طريق عمرو بن دينار عن عامر بن سعد بلفظ ‏"‏ فإنه رجز سلط على طائفة من بني إسرائيل ‏"‏ وأصله عند مسلم، ووقع عند ابن خزيمة بالجزم أيضا من رواية عكرمة بن خالد عن ابن سعد عن سعد لكن قال‏:‏ ‏"‏ رجز أصيب به من كان قبلكم‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع الرجس بالسن المهملة موضع الرجز بالزاي، والذي بالزاي هو المعروف وهو العذاب، والمشهور في الذي بالسين أنه الخبيث أو النجس أو القذر، وجزم الفارابي والجوهري بأنه يطلق على العذاب أيضا، ومنه قوله تعالى ‏(‏ويجعل الرجس على الذين لا يؤمنون‏)‏ وحكاه الراغب أيضا‏.‏

والتخصيص على بني إسرائيل أخص، فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين عن سيار‏:‏ أن رجلا كان يقال له بلعام كان مجاب الدعوة، وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام، فأتاه قومه فقالوا‏:‏ ادع الله عليهم، فقال‏:‏ حتى أؤامر ربي، فمنع، فأتوه بهدية فقبلها وسألوه ثانيا فقال حتى أؤامر ربي، فلم يرجع إليه بشيء، فقالوا‏:‏ لو كره لنهاك، فدعا عليهم فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك فقال‏:‏ سأدلكم على ما فيه هلاكهم أرسلوا النساء في عسكرهم ومروهن أن لا يمتنعن من أحد، فعسى أن يزنوا فيهلكوا، فكان فيمن خرج بنت الملك فأرادها رأس بعض الأسباط وأخبرها بمكانه فمكنته من نفسها، فوقع في بني إسرائيل الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا في يوم، وجاء رجل من بني هارون ومعه الرمح فطعنهما وأيده الله فانتظمهما جميعا‏.‏

وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق‏.‏

وقد ذكر الطبري هذه القصة من طريق محمد بن إسحاق عن سالم أبي النضر فذكر نحوه، وسمي المرأة كشتا بفتح الكاف وسكون المعجمة بعدها مثناة، والرجل زمري بكسر الزي وسكون الميم وكسر الراء رأس سبط شمعون، وسمي الذي طعنهما فنحاص بكسر الفاء وسكون النون بعدها مهملة ثم مهملة ابن هارون‏.‏

وقال في آخره‏:‏ فحسب من هلك من الطاعون سبعون ألفا، والمقلل يقول عشرون ألفا‏.‏

وهذه الطريق تعضد الأولى‏.‏

وقد أشار إليها عياض فقال‏:‏ قوله‏:‏ أرسل على بني إسرائيل قيل‏:‏ مات منهم في ساعة واحدة عشرون ألفا وقيل‏:‏ سبعون ألفا‏.‏

وذكر ابن إسحاق في ‏"‏ المبتدأ ‏"‏ أن الله أوحى إلى داود أن بني إسرائيل كثر عصيانهم، فخيرهم بين ثلاث‏:‏ إما أن أبتليهم بالقحط، أو العدو شهرين، أو الطاعون ثلاثة أيام‏.‏

فأخبرهم، فقالوا‏:‏ اختر لنا‏.‏

فاختار الطاعون‏.‏

فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفا وقيل مائة ألف‏.‏

فتضرع داود إلى الله تعالى، فرفعه‏.‏

وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل، فيحتمل أن يكون هو المراد بقوله‏:‏ ‏"‏ من كان قبلكم ‏"‏ فمن ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال‏:‏ ‏"‏ أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشا، ثم ليخضب كفه في دمه، ثم ليضرب به على بابه‏.‏

ففعلوا‏.‏

فسألهم القبط عن ذلك فقالوا‏:‏ إن الله سيبعث عليكم عذابا وإنما ننجو منه بهذه العلامة‏.‏

فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفا، فقال فرعون عند ذلك لموسى‏:‏ ‏(‏ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز‏)‏ الآية، فدعا فكشفه عنهم ‏"‏ وهذا مرسل جيد الإسناد‏.‏

وأخرج عبد الرزاق في تفسيره والطبري من طريق الحسن في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت‏)‏ قال‏:‏ فروا من الطاعون ‏(‏فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم‏)‏ ليكملوا بقية آجالهم‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قصتهم مطولة‏.‏

فأقدم من وقفنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام، ومن غيرهم في قصة فرعون، وتكرر بعد ذلك لغيرهم والله أعلم‏.‏

وسيأتي شرح قوله‏:‏ ‏"‏ إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها الخ ‏"‏ في شرح الحديث الذي بعده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ عُمَرُ ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ ادْعُوا لِي الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فَقَالُوا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَفِرَاراً مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِياً لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ قَالَ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّباً فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْماً سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ

الشرح‏:‏

حديث عبد الرحمن بن عوف، وفيه قصة عمر وأبي عبيدة، ذكره من وجهين مطولا ومختصرا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الحميد‏)‏ هو بتقديم الحاء المهملة على الميم، وروايته عن شيخه فيه من رواية الأقران، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق، وصحابيان في نسق، وكلهم مدنيون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث‏)‏ أي ابن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، لجد أبيه نوفل ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم صحبة، وكذا لولده الحارث، وولد عبد الله بن الحارث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فعد لذلك في الصحابة فهم ثلاثة من الصحابة في نسق، وكان عبد الله بن الحارث يلقب ببة بموحدتين مفتوحتين الثانية مثقلة ومعناه الممتلئ البدن من النعمة، ويكنى أبا محمد، ومات سنه أربع وثمانين‏.‏

وأما ولده راوي هذا الحديث فهو ممن وافق اسمه اسم أبيه، وكان يكنى أبا يحيى ومات سنة تسع وتسعين، وما له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد وافق مالكا على روايته عن ابن شهاب هكذا معمر وغيره وخالفهم يونس فقال علي بن شهاب عن عبد الله بن الحارث أخرجه مسلم ولم يسق لفظه، وساقه ابن خزيمة وقال‏:‏ قول مالك ومن تابعه أصح‏.‏

وقال الدار قطني‏:‏ تابع يونس صالح بن نصر عن مالك‏.‏

وقد رواه ابن وهب عن مالك ويونس جميعا عن ابن شهاب عن عبد الله بن الحارث، والصواب الأول، وأظن ابن وهب حمل رواية مالك على رواية يونس، قال‏:‏ وقد رواه إبراهيم بن عمر بن أبي الوزير عن مالك كالجماعة، لكن قال‏:‏ ‏"‏ عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث عن أبيه عن ابن عباس ‏"‏ زاد في السند ‏"‏ عن أبيه ‏"‏ وهو خطأ‏.‏

قلت‏:‏ وقد خالف هشام بن سعد جميع أصحاب ابن شهاب فقال‏:‏ ‏"‏ عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبيه وعمر ‏"‏ أخرجه ابن خزيمة، وهشام صدوق سيئ الحفظ وقد اضطرب فيه فرواه تارة هكذا ومرة أخرى ‏"‏ عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه وعمر ‏"‏ أخرجه ابن خزيمة أيضا، ولابن شهاب فيه شيخ آخر قد ذكره البخاري أثر هذا السند‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام‏)‏ ذكر سيف بن عمر في ‏"‏ الفتوح ‏"‏ أن ذلك كان في ربيع الآخر سنة ثماني عشرة، وأن الطاعون كان وقع أولا في المحرم وفي صفر ثم ارتفع، فكتبوا إلى عمر فخرج حتى إذا كان قريبا من الشام بلغه أنه أشد ما كان، فذكر القصة‏.‏

وذكر خليفة بن خياط أن خروج عمر إلى سرغ كان في سنة سبع عشرة، فالله أعلم‏.‏

وهذا الطاعون الذي وقع بالشام حينئذ هو الذي يسمى طاعون عمواس بفتح المهملة والميم وحكي تسكينها وآخره مهملة، قيل‏:‏ سمي بذلك لأنه عم وواسى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى إذا كان بسرغ‏)‏ بفتح المهملة وسكون الراء بعدها معجمة وحكي عن ابن وضاح تحريك الراء وخطأه بعضهم‏:‏ مدينة افتتحها أبو عبيدة، وهي واليرموك والجابية متصلات وبينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ قيل‏:‏ إنه واد بتبوك، وقيل‏:‏ بقرب تبوك‏.‏

وقال الحازمي‏:‏ هي أول الحجاز، وهي من منازل حاج الشام، وقيل‏:‏ بينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه‏)‏ هم خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص، وكان أبو بكر قد قسم البلاد بينهم وجعل أمر القتال إلى خالد، ثم رده عمر إلى أبي عبيدة، وكان عمر رضي الله تعالى عنه قسم الشام أجنادا‏:‏ الأردن جند، وحمص جند، ودمشق جند، وفلسطين جند، وقنسرين جند، وجعل على كل جند أميرا، ومنهم من قال‏:‏ إن قنسرين كانت مع حمص فكانت أربعة، ثم أفردت قنسرين في أيام يزيد بن معاوية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام‏)‏ في رواية يونس ‏"‏ الوجع ‏"‏ بدل ‏"‏ الوباء ‏"‏ وفي رواية هشام بن سعد ‏"‏ أن عمر لما خرج إلى الشام سمع بالطاعون ‏"‏ ولا مخالفة بينها، فإن كل طاعون وباء ووجع من غير عكس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال عمر‏:‏ ادع لي المهاجرين الأولين‏)‏ في رواية يونس ‏"‏ اجمع لي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ارتفعوا عني‏)‏ في رواية يونس ‏"‏ فأمرهم فخرجوا عنه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من مشيخة قريش‏)‏ ضبط ‏"‏ مشيخة ‏"‏ بفتح الميم والتحتانية بينهما معجمة ساكنة‏.‏

وبفتح الميم وكسر المعجمة وسكون التحتانية جمع شيخ ويجمع أيضا على شيوخ بالضم، وبالكسر، وأشياخ، وشيخة بكسر ثم فتح، وشيخان بكسر ثم سكون، ومشايخ، ومشيخاء بفتح ثم سكون ثم ضم ومد، وقد تشبع الضمة حتى تصير واوا فتتم عشرا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من مهاجرة الفتح‏)‏ أي الذين هاجروا إلى المدينة عام الفتح، أو المراد مسلمة الفتح، أو أطلق على من تحول إلى المدينة بعد فتح مكة مهاجرا صورة وإن كان الهجرة بعد الفتح حكما قد ارتفعت، وأطلق عليهم ذلك احترازا من مشيخة قريش ممن أقام بمكة ولم يهاجر أصلا، وهذا يشعر بأن لمن هاجر فضلا في الجملة على من لم يهاجر وإن كانت الهجرة الفاضلة في الأصل إنما هي لمن هاجر قبل الفتح لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا هجرة بعد الفتح‏"‏، وإنما كان كذلك لأن مكة بعد الفتح صارت دار إسلام، فالذي يهاجر منها للمدينة إنما يهاجر لطلب العلم أو الجهاد لا للفرار بدينه، بخلاف ما قبل الفتح، وقد تقدم بيان ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بقية الناس‏)‏ أي الصحابة، أطلق عليهم ذلك تعظيما لهم أي ليس الناس إلا هم، ولهذا عطفهم على الصحابة عطف تفسير، ويحتمل أن يكون المراد ببقية الناس أي الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم عموما، والمراد بالصحابة الذين لازموه وقاتلوا معه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فنادى عمر في الناس‏:‏ إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه‏)‏ زاد يونس في روايته ‏"‏ فإني ماض لما أرى، فانظروا ما آمركم به فامضوا له، قال فأصبح على ظهر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال أبو عبيدة‏)‏ وهو إذ ذاك أمير الشام ‏(‏أفرارا من قدر الله‏)‏ ‏؟‏ أي أترجع فرارا من قدر الله‏؟‏ وفي رواية هشام بن سعد ‏"‏ وقالت طائفة منهم أبو عبيدة‏:‏ أمن الموت نفر‏؟‏ إنما نحن بقدر، لن يصبنا إلا ما كتب الله لنا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة‏)‏ أي لعاقبته، أو لكان أولى منك بذلك، أو لم أتعجب منه، ولكني أتعجب منك مع علمك وفضلك كيف تقول هذا‏؟‏ ويحتمل أن يكون المحذوف‏:‏ لأدبته، أو هي للتمني فلا يحتاج إلى جواب، والمعني أن غيرك ممن لا فهم له إذا قال ذلك يعذر‏.‏

وقد بين سبب ذلك بقوله وكان عمر يكره خلافه، أي مخالفته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله‏)‏ في رواية هشام بن سعد ‏"‏ إن تقدمنا فبقدر الله، وإن تأخرنا فبقدر الله ‏"‏ وأطلق عليه فرارا لشبهه به في الصورة وإن كان ليس فرارا شرعيا‏.‏

والمراد أن هجوم المرء على ما يهلكه منهي عنه‏.‏

ولو فعل لكان من قدر الله، وتجنبه ما يؤذيه مشروع وقد يقدر الله وقوعه فيما فر منه فلو فعله أو تركه لكان من قدر الله، فهما مقامان‏:‏ مقام التوكل، ومقام التمسك بالأسباب كما سيأتي تقريره‏.‏

ومحصل قول عمر‏:‏ ‏"‏ نفر من قدر الله إلى قدر الله ‏"‏ أنه أراد أنه لم يفر من قدر الله حقيقة، وذلك أن الذي فر منه أمر خاف على نفسه منه فلم يهجم عليه، والذي فر إليه أمر لا يخاف على نفسه منه إلا الأمر الذي لا بد من وقوعه سواء كان ظاعنا أو مقيما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏له عدوتان‏)‏ بضم العين المهملة وبكسرها أيضا وسكون الدال المهملة‏:‏ تثنية عدوة، وهو المكان المرتفع من الوادي، وهو شاطئه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إحداهما خصيبة‏)‏ بوزن عظيمة، وحكى ابن التين سكون الصاد بغير ياء، زاد مسلم في رواية معمر ‏"‏ وقال له أيضا‏:‏ أرأيت لو أنه رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه‏؟‏ وهو بتشديد الجيم قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فسر إذا، فسار حتى أتى المدينة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجاء عبد الرحمن بن عوف‏)‏ هو موصول عن ابن عباس بالسند المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان متغيبا في بعض حاجته‏)‏ أي لم يحضر معهم المشاورة المذكورة لغيبته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن عندي في هذا علما‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ لعلما ‏"‏ بزيادة لام التأكيد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه الخ‏)‏ هو موافق للمتن الذي قبله عن أسامة بن زيد وسعد وغيرهما، فلعلهم لم يكونوا مع عمر في تلك السفرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلا تخرجوا فرارا منه‏)‏ في رواية عبد الله بن عامر التي بعد هذه وفي حديث أسامة عند النسائي ‏"‏ فلا تفروا منه ‏"‏ وفي رواية لأحمد من طريق ابن سعد عن أبيه مثله، ووقع في ذكر بني إسرائيل ‏"‏ إلا فرارا منه ‏"‏ وتقدم الكلام على إعرابه هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ فَلَمَّا كَانَ بِسَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله بن عامر‏)‏ هو ابن ربيعة، وثبت كذلك في رواية القعنبي كما سيأتي في ترك الحيل وعبد الله بن عامر هذا معدود في الصحابة لأنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع منه ابن شهاب هذا الحديث عاليا عن عبد الرحمن بن عوف وعمر، لكنه اختصر القصة واقتصر على حديث عبد الرحمن بن عوف‏.‏

وفي رواية القعنبي عقب هذه الطريق ‏"‏ وعن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عمر إنما انصرف ‏"‏ من حديث عبد الرحمن، وهو لمسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك وقال‏:‏ ‏"‏ إنما رجع بالناس من سرغ ‏"‏ عن حديث عبد الرحمن بن عوف وكذا هو في الموطأ، وقد رواه جويرية بن أسماء عن مالك خارج ‏"‏ الموطأ ‏"‏ مطولا أخرجه الدار قطني في ‏"‏ الغرائب ‏"‏ فزاد بعد قوله عن حديث عبد الرحمن بن عوف ‏"‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقدم عليه إذا سمع به، وأن يخرج عنه إذا وقع بأرض هو بها ‏"‏ وأخرجه أيضا من رواية بشر بن عمر عن مالك بمعناه، ورواية سالم هذه منقطعة لأنه لم يدرك القصة ولا جده عمر ولا عبد الرحمن بن عوف، وقد رواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن سالم فقال‏:‏ ‏"‏ عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عبد الرحمن أخبر عمر وهو في طريق الشام لما بلغه أن بها الطاعون ‏"‏ فذكر الحديث أخرجه الطبراني فإن كان محفوظا فيكون ابن شهاب سمع أصل الحديث من عبد الله بن عامر وبعضه من سالم عنه، واختصر مالك الواسطة بين سالم وعبد الرحمن والله أعلم، وليس مراد سالم بهذا الحصر نفي سبب رجوع عمر أنه كان عن رأيه الذي وافق عليه مشيخة قريش من رجوعه بالناس، وإنما مراده أنه لما سمع الخبر رجح عنده ما كان عزم عليه من الرجوع، وذلك أنه قال‏:‏ ‏"‏ إني مصبح على ظهر ‏"‏ فبات على ذلك ولم يشرع في الرجوع حتى جاء عبد الرحمن بن عوف فحدث بالحديث المرفوع فوافق رأي عمر الذي رآه فحضر سالم سبب رجوعه في الحديث لأنه السبب الأقوى، ولم يرد نفي السبب الأول وهو اجتهاد عمر، فكأنه يقول‏:‏ لولا وجود النص لأمكن إذا أصبح أن يتردد في ذلك أو يرجع عن رأيه، فلما سمع الخبر استمر على عزمه الأول، ولولا الخبر لما استمر‏.‏

فالحاصل أن عمر أراد بالرجوع ترك الإلقاء إلى التهلكة، فهو كمن أراد الدخول إلى دار فرأى بها مثلا حريقا تعذر طفؤه فعدل عن دخولها لئلا يصيبه‏.‏

فعدل عمر لذلك، فلما بلغه الخبر جاء موافقا لرأيه فأعجبه، فلأجل ذلك قال من قال‏:‏ إنما رجع لأجل الحديث، لا لما اقتضاه نظره فقط‏.‏

وقد أخرج الطحاوي بسند صحيح ‏"‏ عن أنس أن عمر أتى الشام فاستقبله أبو طلحة وأبو عبيدة فقالا‏:‏ يا أمير المؤمنين إن معك وجوه الصحابة وخيارهم، وإنا تركنا من بعدنا مثل حريق النار، فارجع العام‏.‏

فرجع ‏"‏ وهذا في الظاهر يعارض حديث الباب، فإن فيه الجزم بأن أبا عبيدة أنكر الرجوع ويمكن الجمع بأن أبا عبيدة أشار أولا بالرجوع ثم غلب عليه مقام التوكل لما رأى أكثر المهاجرين والأنصار جنحوا إليه فرجع عن رأي الرجوع، وناظر عمر في ذلك، فاستظهر عليه عمر بالحجة فتبعه، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف بالنص فارتفع الإشكال‏.‏

وفي هذا الحديث جواز رجوع من أراد دخول بلدة فعلم أن بها الطاعون، وأن ذلك ليس من الطيرة، وإنما هي من منع الإلقاء إلى التهلكة، أو سد الذريعة لئلا يعتقد من يدخل إلى الأرض التي وقع بها أن لو دخلها وطعن العدوى المنهي عنها كما سأذكره، وقد زعم قوم أن النهي عن ذلك إنما هو للتنزيه، وأنه يجوز الإقدام عليه لمن قوي توكله وصح يقينه، وتمسكوا بما جاء عن عمر أنه ندم على رجوعه من سرغ كما أخرج ابن أبي شيبة بسند جيد من رواية عروة بن رويم عن القاسم بن محمد عن ابن عمر قال‏:‏ ‏"‏ جئت عمر حين قدم فوجدته قائلا في خبائه، فانتظرته في ظل الخباء، فسمعته يقول حين تضور‏:‏ اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ ‏"‏ وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده أيضا‏.‏

وأجاب القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ بأنه لا يصح عن عمر، قال‏:‏ وكيف يندم على فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ويرجع عنه ويستغفر منه‏؟‏ وأجيب بأن سنده قوي والأخبار القوية لا ترد بمثل هذا مع إمكان الجمع فيحتمل أن يكون كما حكاه البغوي في شرح السنة عن قوم أنهم حملوا النهي على التنزيه، وأن القدوم عليه جائز لمن غلب عليه التوكل، والانصراف عنه رخصة‏.‏

ويحتمل - وهو أقوى - أن يكون سبب ندمه أنه خرج لأمر مهم من أمور المسلمين، فلما وصل إلى قرب البلد المقصود رجع، مع أنه كان يمكنه أن يقيم بالقرب من البلد المقصود إلى أن يرتفع الطاعون فيدخل إليها ويقضي حاجة المسلمين، ويؤيد ذلك أن الطاعون ارتفع عنها عن قرب، فلعله كان بلغه ذلك فندم على رجوعه إلى المدينة، لا على مطلق رجوعه، فرأى أنه لو انتظر لكان أولى لما في رجوعه على العسكر الذي كان صحبته من المشقة، والخبر لم يرد بالأمر بالرجوع وإنما ورد بالنهي عن القدوم‏.‏

والله أعلم‏.‏

وأخرج الطحاوي بسند صحيح ‏"‏ عن زيد بن أسلم عن أبيه قال قال عمر‏:‏ اللهم إن الناس قد نحلوني ثلاثا أنا أبرأ إليك منهن‏:‏ زعموا أني فررت الطاعون وأنا أبرأ إليك من ذلك ‏"‏ وذكر الطلاء والمكس، وقد ورد عن غير عمر التصريح بالعمل في ذلك بمحض التوكل، فأخرج ابن خزيمة بسند صحيح ‏"‏ عن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير بن العوام خرج غازيا نحو مصر، فكتب إليه أمراء مصر أن الطاعون قد وقع، فقال‏:‏ إنما خرجنا للطعن والطاعون، فدخلها فلقي طعنا في جبهته ثم سلم ‏"‏ وفي الحديث أيضا منع من وقع الطاعون ببلد هو فيها من الخروج منها، وقد اختلف الصحابة في ذلك كما تقدم، وكذا أخرج أحمد بسند صحيح إلى أبي منيب ‏"‏ أن عمرو بن العاص قال في الطاعون‏:‏ إن هذا رجز مثل السيل، من تنكبه أخطأه‏.‏

ومثل النار، من أقام أحرقته، فقال شرحبيل بن حسنة‏:‏ إن هذا رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وقبض الصالحين قبلكم ‏"‏ وأبو منيب بضم الميم وكسر النون بعدها تحتانية ساكنه ثم موحدة وهو دمشقي نزل البصرة يعرف بالأحدب، وثقه العجلي وابن حبان، وهو غير أبي منيب الجرشي فيما ترجح عندي، لأن الأحدب أقدم من الجرشي، وقد أثبت البخاري سماع الأحدب من معاذ بن جبل، والجرشي يروي عن سعيد بن المسيب ونحوه‏.‏

وللحديث طريق أخرى أخرجها أحمد أيضا من رواية شرحبيل بن شفعة بضم المعجمة وسكون الفاء عن عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة بمعناه‏.‏

وأخرجه ابن خزيمة والطحاوي وسنده صحيح‏.‏

وأخرجه أحمد وابن خزيمة أيضا من طريق شهر بن حوشب عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن شرحبيل بمعناه‏.‏

وأخرج أحمد من طريق أخرى أن المراجعة في ذلك أيضا وقعت من عمرو بن العاص ومعاذ بن جبل‏.‏

وفي طريق أخرى بينه وبين واثلة الهذلي‏.‏

وفي معظم الطرق أن عمرو بن العاص صدق شرحبيل وغيره على ذلك‏.‏

ونقل عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي يقع بها الطاعون عن جماعة من الصحابة، منهم أبو موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق، ومنهم من قال‏:‏ النهي فيه للتنزيه فيكره ولا يحرم، وخالفهم جماعة فقالوا‏:‏ يحرم الخروج منها لظاهر النهي الثابت في الأحاديث الماضية، وهذا هو الراجح عند الشافعية وغيرهم، ويؤيده ثبوت الوعيد على ذلك‏:‏ فأخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة مرفوعا في أثناء حديث بسند حسن ‏"‏ قلت يا رسول الله فما الطاعون‏؟‏ قال غدة كغدة الإبل، المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف‏"‏‏.‏

وله شاهد من حديث جابر رفعه ‏"‏ الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف ‏"‏ أخرجه أحمد أيضا وابن خزيمة وسنده صالح للمتابعات‏.‏

وقال الطحاوي استدل من أجاز الخروج بالنهي الوارد عن الدخول إلى الأرض التي يقع بها، قالوا‏:‏ وإنما نهى عن ذلك خشية أن يعدي من دخل عليه، قال‏:‏ وهو مردود لأنه لو كان النهي لهذا لجاز لأهل الموضع الذي وقع فيه الخروج، وقد ثبت النهي أيضا عن ذلك فعرف أن المعنى الذي لأجله منعوا من القدوم عليه غير معنى العدوى، والذي يظهر - والله أعلم - أن حكمة النهي عن القدوم عليه لئلا يصيب من قدم عليه بتقدير الله فيقول‏:‏ لولا أني قدمت هذه الأرض لما أصابني، ولعله لو أقام في الموضع الذي كان فيه لأصابه‏.‏

فأمر أن لا يقدم عليه حسما للمادة‏.‏

ونهى من وقع وهو بها أن يخرج من الأرض التي نزل بها لئلا يسلم فيقول مثلا‏:‏ لو أقمت في تلك الأرض لأصابني ما أصاب أهلها، ولعله لو كان أقام بها ما أصابه من ذلك شيء ا هـ‏.‏

ويؤيده ما أخرجه الهيثم بن كليب والطحاوي والبيهقي بسند حسن عن أبي موسى أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن هذا الطاعون قد وقع، فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل، واحذروا اثنتين‏:‏ أن يقول قائل خرج خارج فسلم، وجلس جالس فأصيب فلو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان، أو لو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان ‏"‏ لكن أبو موسى حمل النهي على من قصد الفرار محضا‏.‏

ولا شك أن الصور ثلاث‏:‏ من خرج لقصد الفرار محضا فهذا يتناوله النهي لا محالة، ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد الفرار أصلا، ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلا ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهي، والثالث من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون فهذا محل النزاع، ومن جملة هذه الصورة الأخيرة أن تكون الأرض التي وقع بها وخمة والأرض التي يريد التوجه إليها صحيحة فيتوجه بهذا القصد، فهذا جاء النقل فيه عن السلف مختلفا‏:‏ فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة، ومن أجاز نظر إلى أنه مستثنى من عموم الخروج فرارا لأنه لم يتمحض للفرار وإنما هو لقصد التداوي، وعلى ذلك يحمل ما وقع في أثر أبي موسى المذكور ‏"‏ أن عمر كتب إلى أبي عبيدة إن لي إليك حاجة فلا تضع كتابي من يدك حتى تقبل إلي‏.‏

فكتب إليه‏:‏ إني قد عرفت حاجتك، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم‏.‏

فكتب إليه‏:‏ أما بعد فإنك نزلت بالمسلمين أرضا غميقة، فارفعهم إلى أرض نزهة‏.‏

فدعا أبو عبيدة أبا موسى فقال‏.‏

أخرج فارتد للمسلمين منزلا حتى أنتقل لهم ‏"‏ فذكر القصة في اشتغال أبي موسى بأهله‏.‏

ووقوع الطاعون بأبي عبيدة لما وضع رجله في الركاب متوجها، وأنه نزل بالناس في مكان آخر فارتفع الطاعون، وقوله‏:‏ ‏"‏ غميقة ‏"‏ بغين معجمة وقاف بوزن عظيمة أي قريبة من المياه والنزوز، وذلك مما يفسد غالبا به الهواء لفساد المياه، والنزهة الفسيحة البعيدة عن الوخم‏.‏

فهذا يدل على أن عمر رأى أن النهي عن الخروج إنما هو لمن قصد الفرار متمحضا، ولعله كانت له حاجة بأبي عبيدة في نفس الأمر فلذلك استدعاه، وظن أبو عبيدة أنه إنما طلبه ليسلم من وقوع الطاعون به فاعتذر عن إجابته لذلك، وقد كان أمر عمر لأبي عبيدة بذلك بعد سماعهما للحديث المذكور من عبد الرحمن بن عوف، فتأول عمر فيه ما تأول، واستمر أبو عبيدة على الأخذ بظاهره، وأيد الطحاوي صنيع عمر بقصة العرنيين، فإن خروجهم من المدينة كان للعلاج لا للفرار، وهو واضح من قصتهم لأنهم شكوا وخم المدينة وأنها لم توافق أجسامهم، وكان خروجهم من ضرورة الواقع لأن الإبل التي أمروا أن يتداووا بألبانها وأبوالها واستنشاق روائحها ما كانت تتهيأ إقامتها بالبلد، وإنما كانت في مراعيها فلذلك خرجوا، وقد لحظ البخاري ذلك فترحم قبل ترجمة الطاعون من خرج من الأرض التي لا تلائمه، وساق قصة العرنيين، ويدخل فيه ما أخرجه أبو داود من حديث فروة بن مسيك بمهملة وكاف مصغر، قال‏.‏

‏"‏ قلت يا رسول الله إن عندنا أرضا يقال لها أبين هي أرض ريفنا وميرتنا وهي وبئة، فقال‏:‏ دعها عنك، فإن من القرف التلف ‏"‏ قال ابن قتيبة القرف القرب من الوباء‏.‏

وقال الخطابي‏.‏

ليس في هذا إثبات العدوى، وإنما هو من باب التداوي، فإن استصلاح الأهوية من أنفع الأشياء في تصحيح البدن وبالعكس، واحتجوا أيضا بالقياس على الفرار من المجذوم وقد ورد الأمر به كما تقدم، والجواب أن الخروج من البلد التي وقع بها الطاعون قد ثبت النهي عنه، والمجذوم قد ورد الأمر بالفرار منه فكيف يصح القياس‏؟‏ وقد تقدم في ‏"‏ باب الجذام ‏"‏ من بيان الحكمة في ذلك ما يغني عن إعادته‏.‏

وقد ذكر العلماء في النهي عن الخروج حكما‏:‏ منها أن الطاعون في الغالب يكون عاما في البلد الذي يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن بها فلا يفيده الفرار، لأن المفسدة إذا تعينت - حتى لا يقع الانفكاك عنها - كان الفرار عبثا فلا يليق بالعاقل، ومنها أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه - بالمرض المذكور أو بغيره - ضائع المصلحة لفقد من يتعهده حيا وميتا، وأيضا فلو شرع الخروج فخرج الأقوياء لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء، وقد قالوا إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر وإدخال الرعب عليه بخذلانه، وقد جمع الغزالي بين الأمرين فقال‏:‏ الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر في الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي يقع به لا يخلص غالبا مما استحكم به‏.‏

وينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لبقي المرضى لا يجدون من يتعاهدهم فتضيع مصالحهم‏.‏

ومنها ما ذكره بعض الأطباء أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة وتألفها وتصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم، فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم يوافقهم، بل ربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الرديئة التي حصل تكيف بدنه بها فأفسدته، فمنع من الخروج لهذه النكتة‏.‏

ومنها ما تقدم أن الخارج يقول لو أقمت لأصبت، والمقيم يقول لو خرجت لسلمت، فيقع في اللغو المنهي عنه والله أعلم‏.‏

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في قوله‏:‏ ‏"‏ فلا تقدموا عليه ‏"‏‏:‏ فيه منع معارضة متضمن الحكمة بالقدر، وهو من مادة قوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏)‏ وفي قوله‏:‏ ‏"‏ فلا تخرجوا فرارا منه ‏"‏ إشارة إلى الوقوف مع المقدور والرضا به، قال‏:‏ وأيضا فالبلاء إذا نزل إنما يقصد به أهل البقعة لا البقعة نفسها، فمن أراد الله إنزال البلاء به فهو واقع به ولا محالة، فأينما توجه يدركه، فأرشده الشارع إلى عدم النصب من غير أن يدفع ذلك المحذور‏.‏

وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد‏:‏ الذي يترجح عندي في الجمع بينهما أن في الإقدام عليه تعريض النفس للبلاء، ولعلها لا تصبر عليه، وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكل فمنع ذلك حذرا من اغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند الاختبار، وأما الفرار فقد يكون داخلا في التوغل في الأسباب بصورة من يحاول النجاة بما قدر عليه، فأمرنا الشارع بترك التكلف في الحالتين، ومن هذه المادة قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا ‏"‏ فأمر بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء، وخوف اغترار النفس، إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع، ثم أمرهم بالصبر عند الوقوع تسليما لأمر الله تعالى‏.‏

وفي قصة عمر من الفوائد مشروعية المناظرة، والاستشارة في النوازل، وفي الأحكام، وأن الاختلاف لا يوجب حكما، وأن الاتفاق هو الذي يوجبه، وأن الرجوع عند الاختلاف إلى النص، وأن النص يسمى علما، وأن الأمور كلها تجري بقدر الله وعلمه، وأن العالم قد يكون عنده ما لا يكون عند غيره ممن هو أعلم منه‏.‏

وفيه وجوب العمل بخبر الواحد، وهو من أقوى الأدلة على ذلك، لأن ذلك كان باتفاق أهل الحل والعقد من الصحابة فقبلوه من عبد الرحمن بن عوف ولم يطلبوا معه مقويا‏.‏

وفيه الترجيح بالأكثر عددا والأكثر تجربة لرجوع عمر لقول مشيخة قريش مع ما انضم إليهم ممن وافق رأيهم من المهاجرين والأنصار، فإن مجموع ذلك أكثر من عدد من خالفه من كل من المهاجرين والأنصار، ووازن ما عند الذين خالفوا ذلك من مزيد في العلم والدين ما عند المشيخة من السن والتجارب، فلما تعادلوا من هذه الحيثية رجح بالكثرة ووافق اجتهاده النص، فلذلك حمد الله تعالى على توفيقه لذلك‏.‏

وفيه تفقد الإمام أحوال رعيته لما فيه من إزالة ظلم المظلوم وكشف كربة المكروب وردع أهل الفساد وإظهار الشرائع والشعائر وتنزيل الناس منازلهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ المَسِيحُ وَلَا الطَّاعُونُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ لا يدخل المدينة المسيح ولا الطاعون ‏"‏ كذا أورده مختصرا وقد أورده في الحج عن إسماعيل بن أويس عن مالك أتم من هذا بلفظ ‏"‏ على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال ‏"‏ وقدمت هناك ما يتعلق بالدجال، وأخرجه في الفتن عن القعنبي عن مالك كذلك، ومن حديث أنس رفعه ‏"‏ المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة فلا يدخلها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى ‏"‏ وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كون الطاعون شهادة وكيف قرن بالدجال ومدحت المدينة بعدم دخولهما، والجواب أن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه وينشأ عنه لكونه سببه فإذا استحضر ما تقدم من أنه طعن الجن حسن مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة ومن اتفق دخوله إليها لا يتمكن من طعن أحد منهم، فإن قيل‏:‏ طعن الجن لا يختص بكفارهم بل قد يقع من مؤمنيهم، قلنا‏:‏ دخول كفار الأنس المدينة ممنوع فإذا لم يسكن المدينة إلا من يظهر الإسلام جرت عليه أحكام المسلمين ولو لم يكن خالص الإسلام، فحصل الأمن من وصول الجن إلى طعنهم بذلك، فلذلك لم يدخلها الطاعون أصلا‏.‏

وقد أجاب القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ عن ذلك فقال‏:‏ المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عمواس والجارف، وهذا الذي قاله يقتضي تسليم أنه دخلها في الجملة، وليس كذلك فقد جزم ابن قتيبة في ‏"‏ المعارف ‏"‏ وتبعه جمع جم من آخرهم الشيخ محيي الدين النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏ بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلا ولا مكة أيضا، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه وقع بها الطاعون أصلا، ولعل القرطبي بني على أن الطاعون أعم من الوباء، أو أنه هو وأنه الذي ينشأ عن فساد الهواء فيقع به الموت الكثير، وقد مضى في الجنائز من صحيح البخاري قول أبي الأسود ‏"‏ قدمت المدينة وهم يموتون بها موتا ذريعا ‏"‏ فهدا وقع بالمدينة وهو وباء بلا شك، ولكن الشأن في تسميته طاعونا، والحق أن المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة الذي ينشأ عن طعن الجن فيهيج بذلك الطعن الدم في البدن فيقتل فهذا لم يدخل المدينة قط فلم يتضح جواب القرطبي، وأجاب غيره بأن سبب الترجمة لم ينحصر في الطاعون، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ولكن عافيتك أوسع لي ‏"‏ مكان منع دخول الطاعون المدينة من خصائص المدينة ولوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصحة‏.‏

وقال آخر‏:‏ هذا من المعجزات المحمدية، لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة‏.‏

قلت‏:‏ وهو كلام صحيح، ولكن ليس هو جوابا عن الإشكال‏.‏

ومن الأجوبة أنه صلى الله عليه وسلم عوضهم عن الطاعون بالحمى لأن الطاعون يأتي مرة بعد مرة والحمى تتكرر في كل حين فيتعادلان في الأجر ويتم المراد من عدم دخول الطاعون لبعض ما تقدم من الأسباب، ويظهر لي جواب آخر بعد استحضار الحديث الذي أخرجه أحمد من رواية أبي عسيب بمهملتين آخره موحدة وزن عظيم رفعه ‏"‏ أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام ‏"‏ وهو أن الحكمة قي ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددا ومددا وكانت المدينة وبئة كما سبق من حديث عائشة ثم خير النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين يحصل بكل منهما الأجر الجزيل فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبا، بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار وأذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمى أن تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التي هي حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزا لها عن غيرها لتحقق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره هذه المدة المتطاولة‏.‏

والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ سيأتي في ذكر الدجال في أواخر كتاب الفتن حديث أنس وفيه ‏"‏ فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى ‏"‏ وإنه اختلف في هذا الاستثناء فقيل‏:‏ هو للتبرك فيشملهما، وقيل‏:‏ هو للتعليق وأنه يختص بالطاعون وأن مقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة، ووقع في بعض طرق حديث أبي هريرة ‏"‏ المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقب منهما ملك لا يدخلهما الدجال ولا الطاعون ‏"‏ أخرجه عمر بن شبة في ‏"‏ كتاب مكة ‏"‏ عن شريح عن فليح عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ورجاله رجال الصحيح، وعلى هذا فالذي نقل أنه وجد في سنة تسع وأربعين وسبعمائة منه ليس كما ظن من نقل ذلك، أو يجاب إن تحقق ذلك بجواب القرطبي المتقدم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ قَالَتْ قَالَ لِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْيَى بِمَ مَاتَ قُلْتُ مِنْ الطَّاعُونِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد الواحد‏)‏ هو ابن زياد، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، والإسناد كله بصريون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت قال لي أنس‏)‏ ليس لحفصة بنت سيرين عن أنس في البخاري إلا هذا الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يحيى بم مات‏)‏ ‏؟‏ أي بأي شهر مات‏؟‏ ووقع في رواية ‏"‏ بما مات ‏"‏‏؟‏ بإشباع الميم وهو للأصيلي وهي ما الاستفهامية، لكن اشتهر حذف الألف منها إذا دخل عليها حرف جر، ويحيى المذكور هو ابن سيرين أخو حفصة، ووقع في رواية مسلم يحيى بن أبي عمرة وهو ابن سيرين لأنها كنية سيرين، وكانت وفاة يحيى في حدود التسعين من الهجرة على ما يورد من هذا الحديث، لكن أخرج البخاري في ‏"‏ التاريخ الأوسط ‏"‏ من طريق حماد عن يحيى بن عتيق ‏"‏ سمعت يحيى بن سيرين ومحمد بن سيرين يتذاكران الساعة التي في الجمعة ‏"‏ نقله بعد موت أنس بن مالك، أراد أن يحيى بن سيرين مات بعد أنس بن مالك فيكون حديث حفصة خطأ، انتهى‏.‏

وتخريجه لحديث حفصة في الصحيح يقتضي أنه ظهر له أن حديث يحيى بن عتيق خطأ، وقد قال في ‏"‏ التاريخ الصغير ‏"‏ حديث يحيى بن عتيق عن حفصة خطأ، فإذا جوز عليه الخطأ في حديثه عن حفصة جاز تجويزه عليه في قوله‏:‏ ‏"‏ يحيى بن سيرين ‏"‏ فلعله كان أنس بن سيرين، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الطاعون شهادة لكل مسلم‏)‏ أي يقع به، هكذا جاء مطلقا في حديث أنس، وسيأتي مقيدا بثلاثة قيود في حديث عائشة الذي في الباب بعده، وكأن هذا هو السر في إيراده عقبه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ المبطون شهيد، والمطعون شهيد ‏"‏ هكذا أورده مختصرا مقتصرا على هاتين الخصلتين، وقد أورده في الجهاد من رواية عبد الله بن يوسف عن مالك مطولا بلفظ ‏"‏ الشهداء خمسة‏:‏ المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والمقتول في سبيل الله ‏"‏ وأشرت هناك إلى الأخبار الواردة في الزيادة على الخمسة، والمراد بالمطعون من طعنه الجن كما تقدم تقريره في أول الباب‏.‏

*3*باب أَجْرِ الصَّابِرِ فِي الطَّاعُونِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب أجر الصابر على الطاعون‏)‏ أي سواء وقع به أو وقع في بلد هو مقيم بها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ عَذَاباً يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِراً يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ تَابَعَهُ النَّضْرُ عَنْ دَاوُدَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إسحاق‏)‏ هو ابن راهويه، وحبان بفتح المهملة وتشديد الموحدة هو ابن هلال ويحيى بن يعمر بفتح التحتانية والميم بينهما عين مهملة ساكتة وآخره راء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون‏)‏ في رواية أحمد من هذا الوجه عن عائشة ‏"‏ قالت سألت‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ على من شاء ‏"‏ أي من كافر أو عاص كما تقدم في قصة آل فرعون وفي قصة أصحاب موسى مع بلعام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فجعله الله رحمة للمؤمنين‏)‏ أي من هذه الأمة، وفي حديث أبي عسيب عند أحمد ‏"‏ فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم، ورجس على الكافر ‏"‏ وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة، وأما العاصي من هذه الأمة فهل يكون الطاعون له شهادة أو يختص بالمؤمن الكامل‏؟‏ فيه نظر‏.‏

والمراد بالعاصي من يكون مرتكب الكبيرة ويهجم عليه ذلك وهو مصر، فإنه يحتمل أن يقال لا يكرم بدرجة الشهادة لشؤم ما كان متلبسا به لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات‏)‏ ‏؟‏ وأيضا فقد وقع في حديث ابن عمر ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة، أخرجه ابن ماجه والبيهقي بلفظ ‏"‏ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم ‏"‏ الحديث، وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك وكان من فقهاء الشام، لكنه ضعيف عند أحمد وابن معين وغيرهما، ووثقه أحمد بن صالح المصري وأبو زرعة الدمشقي وقال ابن حبان‏:‏ كان يخطئ كثيرا، وله شاهد عن ابن عباس في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ بلفظ ‏"‏ ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت ‏"‏ الحديث، وفيه انقطاع‏.‏

وأخرجه الحاكم من وجه آخر موصولا بلفظ ‏"‏ إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله ‏"‏ وللطبراني موصولا من وجه آخر عن ابن عباس نحو سياق مالك وفي سنده مقال، وله من حديث عمرو بن العاص بلفظ ‏"‏ ما من قوم يظهر فيهم الزنا إلا أخذوا بالفناء ‏"‏ الحديث وسنده ضعيف، وفي حديث بريدة عند الحاكم بسند جيد بلفظ ‏"‏ ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت ‏"‏ ولأحمد من حديث عائشة مرفوعا ‏"‏ لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب ‏"‏ وسنده حسن‏.‏

ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة‏؟‏ ويحتمل أن يقال‏:‏ بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة، ولا سيما في الحديث الذي قبله عن أنس ‏"‏ الطاعون شهادة لكل مسلم ‏"‏ ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترع السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، لأن درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهدا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا مقبلا غير مدبر، ومن رحمة الله بهذه الأمة المحمدية أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة، ولا سيما وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة، وإنما عمهم - والله أعلم - لتقاعدهم عن إنكار المنكر‏.‏

وقد أخرج أحمد وصححه ابن حبان من حديث عتبة بن عبيد رفعه ‏"‏ القتل ثلاثة‏:‏ رجل جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذاك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة‏.‏

ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فانمحت خطاياه، إن السيف محاء للخطايا‏.‏

ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى يقل فهو في النار، إن السيف لا يمحو النفاق ‏"‏ وأما الحديث الآخر الصحيح ‏"‏ إن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين ‏"‏ فإنه يستفاد منه أن الشهادة لا تكفر التبعات، وحصول التبعات لا يمنع حصول درجة الشهادة، وليس للشهادة معنى إلا أن الله يثيب من حصلت له ثوابا مخصوصا ويكرمه كرامة زائدة، وقد بين الحديث أن الله يتجاوز عنه ما عدا التبعات، فلو فرض أن للشهيد أعمالا صالحة وقد كفرت الشهادة أعماله السيئة غير التبعات فإن أعماله الصالحة تنفعه في موازنة ما عليه من التبعات وتبقى له درجة الشهادة خالصة، فإن لم يكن له أعمال صالحة فهو في المشيئة، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليس من عبد‏)‏ أي مسلم ‏(‏يقع الطاعون‏)‏ أي في مكان هو فيه ‏(‏فيمكث في بلده‏)‏ في رواية أحمد ‏"‏ في بيته‏"‏، ويأتي في القدر بلفظ ‏"‏ يكون فيه ويمكث فيه ولا يخرج من البلد ‏"‏ أي التي وقع فيها الطاعون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صابرا‏)‏ أي غير منزعج ولا قلق، بل مسلما لأمر الله راضيا بقضائه، وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج فرارا منه كما تقدم النهي عنه في الباب قبله صريحا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ‏"‏ قيد آخر، وهي جملة حالية تتعلق بالإقامة، فلو مكث وهو قلق أو متندم على عدم الخروج ظانا أنه لو خرج لما وقع به أصلا ورأسا وأنه بإقامته يقع به فهذا لا يحصل له أجر الشهيد ولو مات بالطاعون، هذا الذي يقتضيه مفهوم هذا الحديث كما اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت بالطاعون ومدخل تحته ثلاث صور‏:‏ أن من اتصف بذلك فوقع به الطاعون فمات به، أو وقع به ولم يمت به، أو لم يقع به أصلا ومات بغيره عاجلا أو آجلا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مثل أجر الشهيد‏)‏ لعل السر في التعبير بالمثلية مع ثبوت التصريح بأن من مات بالطاعون كان شهيدا أن من لم يمت من هؤلاء بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد وإن لم تحصل له درجة الشهادة بعينها وذلك أن من اتصف بكونه شهيدا أعلى درجة ممن وعد بأنه يعطي مثل أجر الشهيد، ويكون كمن خرج على نية الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا فمات بسبب غير القتل، وأما ما اقتضاه مفهوم حديث الباب أن من اتصف بالصفات المذكورة ووقع به الطاعون ثم لم يمت منه أنه يحصل له ثواب الشهيد فشهد له حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة أن أبا محمد أخبره وكان من أصحاب ابن مسعود أنه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏.‏

‏"‏ إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته ‏"‏ والضمير في قوله أنه لابن مسعود فإن أحمد أخرجه في مسند ابن مسعود ورجال سنده موثقون، واستنبط من الحديث أن من اتصف بالصفات المذكورة ثم وقع به الطاعون فمات به أن يكون له أجر شهيدين، ولا مانع من تعدد الثواب بتعدد الأسباب كمن يموت غريبا بالطاعون، أو نفساء مع الصبر والاحتساب، والتحقيق فيما اقتضاه حديث الباب أنه يكون شهيدا بوقوع الطاعون به ويضاف له مثل أجر الشهيد لصبره وثباته، فإن درجة الشهادة شيء وأجر الشهادة شيء، وقد أشار إلى ذلك الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة وقال‏:‏ هذا هو السر في قوله ‏"‏ والمطعون شهيد ‏"‏ وفي قوله في هذا‏:‏ ‏"‏ فله مثل أجر شهيد ‏"‏ ويمكن أن يقال‏:‏ بل درجات الشهداء متفاوتة، فأرفعها من اتصف بالصفات المذكورة ومات بالطاعون، ودونه في المرتبة من اتصف بها وطعن ولم يمت به، ودونه من اتصف ولم يطعن ولم يمت به‏.‏

ويستفاد من الحديث أيضا أن من لم يتصف بالصفات المذكورة لا يكون شهيدا ولو وقع الطاعون ومات به فضلا عن أن يموت بغيره، وذلك ينشأ عن شؤم الاعتراض الذي ينشأ عنه التضجر والتسخط لقدر الله وكراهة لقاء الله، وما أشبه ذلك من الأمور التي تفوت معها الخصال المشروطة، والله أعلم‏.‏

وقد جاء في بعض الأحاديث استواء شهيد الطاعون وشهيد المعركة، فأخرج أحمد بسند حسن عن عتبة بن عبد السلمي رفعه ‏"‏ يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون‏:‏ نحن شهداء، فيقال‏:‏ انظروا فإن كان جراحهم كجراح الشهداء تسيل دما وريحها كريح المسك فهم شهداء، فيجدونهم كذلك‏"‏‏.‏

وله شاهد من حديث العرباض بن سارية أخرجه أحمد أيضا والنسائي بسند حسن أيضا بلفظ ‏"‏ يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا عز وجل في الذين ماتوا بالطاعون، فيقول الشهداء‏:‏ إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول الذين ماتوا على فرشهم إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقول الله عز وجل‏:‏ انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم، فإذا جراحهم أشبهت جراحهم ‏"‏ زاد الكلاباذي في ‏"‏ معاني الأخبار ‏"‏ من هذا الوجه في آخره ‏"‏ فيلحقون بهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه النضر عن داود‏)‏ النضر هو ابن شميل، وداود هو ابن أبي الفرات، وقد أخرج طريق النضر في ‏"‏ كتاب القدر ‏"‏ عن إسحاق بن إبراهيم عنه، وتقدم موصولا أيضا في ذكر بني إسرائيل عن موسى بن إسماعيل، وأخرجه أحمد عن عفان وعبد الصمد بن عبد الوارث وأبي عبد الرحمن المقري والنسائي من طريق يونس بن محمد المؤدب كلهم عن داود بن أبي الفرات، وإنما ذكرت ذلك لئلا يتوهم أن البخاري أراد بقوله ‏"‏ تابعه النضر ‏"‏ إزالة توهم من يتوهم تفرد حبان بن هلال به فيظن أنه لم يروه غيرهما، ولم يرد البخاري ذلك وإنما أراد إزالة توهم التفرد به فقط، ولم يرد الحصر فيهما، والله أعلم‏.‏