فصل: باب الشَّرْطِ فِي الرُّقْيَةِ بِقَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب الرُّقَى بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الرقى‏)‏ بضم الراء وبالقاف مقصور‏:‏ جمع رقية بسكون القاف، يقال رقي بالفتح في الماضي يرقى بالكسر في المستقبل، ورقيت فلانا بكسر القاف أرقيه، واسترقى طلب الرقية، والجمع بغير همز، وهو بمعنى التعويذ بالذال المعجمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالقرآن والمعوذات‏)‏ هو من عطف الخاص على العام، لأن المراد بالمعوذات سورة الفلق والناس والإخلاص كما تقدم في أواخر التفسير، فيكون من باب التغليب‏.‏

أو المراد الفلق والناس وكل ما ورد من التعويذ في القرآن كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين‏)‏ ، ‏(‏فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏)‏ وغير ذلك، والأول أولى، فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من رواية عبد الرحمن بن حرملة عن ابن مسعود ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال ‏"‏ فذكر فيها الرقى إلا بالمعوذات، وعبد الرحمن بن حرملة قال البخاري لا يصح حديثه‏.‏

وقال الطبري لا يحتج بهذا الخبر لجهالة راويه، وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بالإذن في الرقبة بفاتحة الكتاب، وأشار المهلب إلى الجواب عن ذلك بأن في الفاتحة معنى الاستعاذة وهو الاستعانة فعلى هذا يختص الجواز بما يشتمل على هذا المعنى، وقد أخرج الترمذي وحسنه والنسائي من حديث أبي سعيد ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعودات فأحذ بها وترك ما سواها‏"‏‏.‏

وهذا لا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل يدل على الأولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما، وإنما اجتزأ بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا، وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط‏:‏ أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى‏.‏

واختلفوا في كونها شرطا، والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط المذكورة، ففي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك قال‏:‏ ‏"‏ كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا‏:‏ يا رسول الله كيف ترى في ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ‏"‏ وله من حديث جابر ‏"‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب، قال‏:‏ فعرضوا عليه فقال‏:‏ ما أرى بأسا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه ‏"‏ وقد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمتنع احتياطا، والشرط الآخر لا بد منه‏.‏

وقال قوم لا تجوز الرقية إلا من العين واللدغة كما تقدم في ‏"‏ باب من اكتوى ‏"‏ من حديث عمران بن حصين ‏"‏ لا رقية إلا من عين أو حمة‏"‏، وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصلا كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مس ونحو ذلك لاشتراكها في كونها تنشأ عن أحوال شيطانية من إنسي أو جني، ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية‏.‏

وقد وقع عند أبي داود في حديث أنس مثل حديث عمران وزاد ‏"‏ أو دم ‏"‏ وفي مسلم من طريق يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقى من العين والحمة والنملة ‏"‏ وفي حديث آخر ‏"‏ والأذن ‏"‏ ولأبي داود من حديث الشفاء بنت عيد الله ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ألا تعلمين هذه - يعني حفصة - رقية النملة ‏"‏ والنملة قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد، وقيل المراد بالحصر معنى الأفضل، أي لا رقية أنفع كما قيل‏:‏ لا سيف إلا ذو الفقار‏.‏

وقال قوم‏:‏ المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما، وفيه نظر، وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى، فأخرج أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم من طريق ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها عن ابن مسعود رفعه ‏"‏ إن الرقى والتمائم والتولة شرك ‏"‏ وفي الحديث قصة، والتمائم جمع تميمة وهي خرز أو قلادة تعلق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن دلك يدفع الآفات، والتولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله، ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه، فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه كما سيأتي قريبا في ‏"‏ باب المرأة ترقى الرجل ‏"‏ من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كان إذا أوى إلى فراشه ينفث بالمعوذات ويمسح بهما وجهه ‏"‏ الحديث، ومضى في أحاديث الأنبياء حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة ‏"‏ الحديث، وصحح الترمذي من حديث خولة بنت حكيم مرفوعا ‏"‏ من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يتحول ‏"‏ وعند أبي داود والنسائي بسند صحيح عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن رجل من أسلم ‏"‏ جاء رجل فقال‏:‏ لدغت الليلة فلم أنم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك ‏"‏ والأحاديث في هذا المعنى موجودة، لكن يحتمل أن يقال‏:‏ إن الرقى أخص من التعوذ، وإلا فالخلاف في الرقى مشهور، ولا خلافه في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقع‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم، ويقال‏:‏ إن الحية لعداوتها للإنسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذا اللديغ إذا رقى بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من الشرك، وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ الرقى ثلاثة أقسام، أحدها ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى الشرك‏.‏

الثاني‏:‏ ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورا فيستحب‏.‏

الثالث‏:‏ ما كان بأسماء غير الله من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش، قال‏:‏ فهذا ليس من الواجب اجتنابه ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ ويأتي بسط ذلك في كتاب الأيمان إن شاء الله تعالى‏.‏

وقال الربيع‏:‏ سألت الشافعي عن الرقية فقال‏:‏ لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله، قلت‏:‏ أيرقى أهل الكتاب المسلمين‏؟‏ قال‏:‏ نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله ا هـ‏.‏

وفي ‏"‏ الموطأ ‏"‏ أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقى عائشة‏:‏ ارقيها بكتاب الله‏.‏

وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال‏:‏ لم يكن ذلك من أمر الناس القديم‏.‏

وقال المازري‏:‏ اختلف في استرقاء أهل الكتاب فأجازها قوم وكرهها مالك لئلا يكون مما بدلوه‏.‏

وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه، وهو كالطب سواء كان غير الحاذق لا يحسن أن يقول والحاذق يأنف أن يبدل حرصا على استمرار وصفه بالحذق لترويح صناعته‏.‏

والحق أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال‏.‏

وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة فمنع منها ما لا يعرف لئلا يكون فيها كفر‏.‏

وسيأتي الكلام على من منع الرقى أصلا في ‏"‏ باب من لم يرق ‏"‏ بعد خمسة أبواب إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ كَيْفَ يَنْفِثُ قَالَ كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏هشام‏)‏ هو ابن يوسف الصنعاني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات‏)‏ دلالته على المعطوف في الترجمة ظاهرة، وفي دلالته على المعطوف عليه نظر، لأنه لا يلزم من مشروعية الرقى بالمعوذات أن يشرع بغيرها من القرآن لاحتمال أن يكون في المعوذات سر ليس في غيرها‏.‏

وقد ذكرنا من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم ترك ما عدا المعوذات، لكن ثبتت الرقية بفاتحة الكتاب فدل على أن لا اختصاص للمعوذات، ولعل هذا هو السر في تعقيب المصنف هذه الترجمة بباب الرقى بفاتحة الكتاب، وفي الفاتحة من معنى الاستعاذة بالله الاستعانة به، فمهما كان فيه استعاذة أو استعانة بالله وحده أو ما يعطي معنى ذلك فالاسترقاء به مشروع‏.‏

ويجاب عن حديث أبي سعيد بأن المراد أنه ترك ما كان يتعوذ به من الكلام غير القرآن، ويحتمل أن يكون المراد بقوله في الترجمة ‏"‏ الرقى بالقرآن ‏"‏ بعضه فإنه اسم جنس يصدق على بعضه، والمراد ما كان فيه التجاء إلى الله سبحانه، ومن ذلك المعوذات، وقد ثبت الاستعاذة بكلمات الله في عدة أحاديث كما مضى‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ في المعوذات جوامع من الدعاء‏.‏

نعم أكثر المكروهات من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك، فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بها‏.‏

قلت‏:‏ وسيأتي في ‏"‏ باب السحر ‏"‏ شيء من هذا، وقوله ‏"‏في المرض الذي مات فيه ‏"‏ ليس قيدا في ذلك وإنما أشارت عائشة إلى أن ذلك وقع في آخر حياته وأن ذلك لم ينسخ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنفث عنه‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ عليه ‏"‏ وسيأتي باب مفرد في النفث في الرقية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأمسح بيده نفسه‏)‏ بالنصب على المفعولية أي أمسح جسده بيده، وبالكسر على البدل‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ بيد نفسه ‏"‏ وهو يؤيد الاحتمال الثاني‏.‏

قال عياض‏:‏ فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر، وقد يكون على سبيل التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض كانفصال ذلك عن الراقي انتهى‏.‏

وليس بين قوله في هذه الرواية ‏"‏ كان ينفث على نفسه ‏"‏ وبين الرواية الأخرى ‏"‏ كان يأمرني أن أفعل ذلك ‏"‏ معارضة لأنه محمول على أنه في ابتداء المرض كان يفعله بنفسه وفي اشتداده كان يأمرها به وتفعله هي من قبل نفسها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فسألت الزهري‏)‏ القائل معمر، وهو موصول بالإسناد المذكور، وفي الحديث التبرك بالرجل الصالح وسائر أعضائه وخصوصا اليد اليمنى‏.‏

*3*باب الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ

وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الرقى بفاتحة الكتاب، ويذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هكذا ذكره بصيغة التمريض، وهو يعكر على ما تقرر بين أهل الحديث أن الذي يورده البخاري بصيغة التمريض لا يكون على شرطه، مع أنه أخرج حديث ابن عباس في الرقية بفاتحة الكتاب عقب هذا الباب‏.‏

وأجاب شيخنا في كلامه على علوم الحديث بأنه قد يصنع ذلك إذا ذكر الخبر بالمعنى، ولا شك أن خبر ابن عباس ليس فيه التصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرقبة بفاتحة الكتاب وإنما فيه تقريره على ذلك فنسبة ذلك إليه صريحا تكون نسبة معنوية، وقد علق البخاري بعض هذا الحديث بلفظه فأتى به مجزوما كما تقدم في الإجارة في ‏"‏ باب ما يعطى في الرقية بفاتحة الكتاب ‏"‏ وقال ابن عباس ‏"‏ إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ‏"‏ ثم قال شيخنا‏:‏ لعل لابن عباس حديثا آخر صريحا في الرقية بفاتحة الكتاب ليس على شرطه فلذلك أتى به بصيغة التمريض‏.‏

قلت‏:‏ ولم يقع لي ذلك بعد التتبع‏.‏

وقال ابن القيم‏:‏ إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع فما الظن بكلام رب العالمين ثم بالفاتحة التي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها لتضمنها جميع معاني الكتاب، فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء الله ومجامعها وإثبات المعاد وذكر التوحيد والافتقار إلى الرب في طلب الإعانة به والهداية منه، وذكر أفضل الدعاء وهو طلب الهداية إلى الصراط المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والاستقامة عليه، ولتضمنها ذكر أصناف الخلائق وقسمتهم إلى منعم عليه لمعرفته بالحق والعمل به، ومغضوب عليه لعدوله عن الحق بعد معرفته، وضال لعدم معرفته له، مع ما تضمنته من إثبات القدر والشرع والأسماء والمعاد والتوبة وتزكية النفس وإصلاح القلب والرد على جميع أهل البدع، وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كل داء، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ فَقَالُوا هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ فَقَالُوا إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا وَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعاً مِنْ الشَّاءِ فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ فَبَرَأَ فَأَتَوْا بِالشَّاءِ فَقَالُوا لَا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقَالَ وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد في قصة الذين أتوا على الحي فلم يقروهم، فلدغ سيد الحي فرقاه أبو سعيد بفاتحة الكتاب، وقد تقدم شرحه في كتاب الإجارة مستوفى‏.‏

*3*باب الشَّرْطِ فِي الرُّقْيَةِ بِقَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب‏)‏ تقدم التنبيه على هذه الترجمة في كتاب الإجارة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي سِيدَانُ بْنُ مُضَارِبٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ الْبَصْرِيُّ هُوَ صَدُوقٌ يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ الْبَرَّاءُ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَخْنَسِ أَبُو مَالِكٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَراً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ إِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلاً لَدِيغاً أَوْ سَلِيماً فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ فَبَرَأَ فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْراً حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْراً

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْراً كِتَابُ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سيدان‏)‏ بكسر المهملة وسكون التحتانية ‏(‏ابن مضارب‏)‏ بضاد معجمة وموحدة آخره ‏(‏أبو محمد الباهلي‏)‏ هو بصري قواه أبو حاتم وغيره، وشيخه البراء بفتح الموحدة وتشديد الراء نسب إلى بري العود كان عطارا، وقد ضعفه ابن معين، ووثقه المقدمي‏.‏

وقال أبو حاتم‏:‏ يكتب حديثه، واتفق الشيخان على التخريج له‏.‏

ووقع في نسخة الصغاني ‏"‏ أبو معشر البصري وهو صدوق‏"‏، وشيخه عبيد الله بالتصغير ابن الأخنس بخاء معجمة ساكنة ونون مفتوحة هو نخعي كوفي يكنى أبا مالك‏.‏

ويقال إنه من موالي الأزد، وثقه الأئمة، وشذ ابن حبان فقال في الثقات يخطئ كثيرا، وما للثلاثة في البخاري سوى هذا الحديث؛ ولكن لعبيد الله بن الأخنس عنده حديث آخر في كتاب الحج، ولأبي معشر آخر في الأشربة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مروا بماء‏)‏ أي بقوم نزول على ماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيهم لديغ‏)‏ بالغين المعجمة ‏(‏أو سليم‏)‏ شك من الراوي، والسليم هو اللديغ سمي بذلك تفاؤلا من السلامة لكون غالب من يلدغ يعطب، وقيل سليم فعيل بمعنى مفعول لأنه أسلم للعطب، واستعمال اللدغ في ضرب العقرب مجاز، والأصل أنه الذي يضرب بفيه، والذي يضرب بمؤخره يقال لسع، وبأسنانه نهيس بالمهملة والمعجمة، وبأنفه نكز بنون وكاف وزاي، وبنابه نشط، هذا هو الأصل وقد يستعمل بعضها مكان بعض تجوزا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فعرض لهم رجل من أهل الماء‏)‏ لم أقف على اسمه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فانطلق رجل منهم‏)‏ لم أقفه على اسمه، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الإجارة، وبينت فيه أن حديث ابن عباس وحديث أبي سعيد في قصة واحدة وأنها وقعت لهم مع الذي لدغ، وأنه وقعت للصحابة قصة أخرى مع رجل مصاب بعقله فأغنى ذلك عن إعادته هنا‏.‏

*3*باب رُقْيَةِ الْعَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب رقية العين‏)‏ أي رقية الذي يصاب بالعين، تقول عنت الرجل أصبته بعينك فهو معين ومعيون ورحل عائن ومعيان وعيون‏.‏

والعين نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر، وقد وقع عند أحمد - من وجه آخر - عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ العين حق، ويحضرها الشيطان، وحسد ابن آدم‏"‏‏.‏

وقد أشكل ذلك على بعض الناس فقال‏:‏ كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون‏؟‏ والجواب أن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون، وقد نقل عن بعض من كان معيانا أنه قال‏:‏ إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني‏.‏

ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد، وكذا تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس من غير أن تمسها يدها، ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد، ويتثاءب واحد بحضرته فيتثاءب هو، أشار إلى ذلك ابن بطال‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ في الحديث أن للعين تأثيرا في النفوس، وإبطال قول الطبائعيين أنه لا شيء إلا ما تدرك الحواس الخمس وما عدا ذلك لا حقيقة له‏.‏

وقال المازري‏:‏ زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد، وهو كإصابة السم من نظر الأفاعي‏.‏

وأشار إلى منع الحصر في ذلك مع تجويزه‏.‏

وأن الذي يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص لآخر، وهل ثم جواهر خفية أو لا‏؟‏ هو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه، ومن قال ممن ينتمي إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بأن جواهر لطيفة غير مرئية تنبعث من العائن فتتصل أخطأ بدعوى القطع، ولكن جائز أن يكون عادة ليست ضرورة ولا طبيعة ا هـ‏.‏

وهو كلام سديد وقد بالغ ابن العربي في إنكاره قال‏:‏ ذهبت الفلاسفة إلى أن الإصابة بالعين صادرة عن تأثير النفس بقوتها فيه، فأول ما تؤثر في نفسها ثم تؤثر في غيرها‏.‏

وقيل‏:‏ إنما هو سم في عين العائن يصيب بلفحه عند التحديق إليه كما يصيب لفح سم الأفعى من يتصل به، ثم رد الأول بأنه لو كان كذلك لما تخلفت الإصابة في كل حال، والواقع خلافه‏.‏

والثاني‏:‏ بأن سم الأفعى جزء منها وكلها قاتل، والعائن ليس يقتل منه شيء في قولهم إلا نظره وهو معني خارج عن ذلك، قال‏:‏ والحق أن الله يخلق عند نظر العائن إليه وإعجابه به إذا شاء ما شاء من ألم أو هلكة، وقد يصرف قبل وقوعه إما بالاستعاذة أو بغيرها، وقد يصرفه بعد وقوعه بالرقبة أو بالاغتسال أو بغير ذلك‏.‏

ا هـ‏.‏

كلامه، وفيه بعض ما يتعقب، فإن الذي مثل بالأفعى لم يرد أنها تلامس المصاب حتى يتصل به من سمها، وإنما أراد أن جنسا من الأفاعي اشتهر أنها إذا وقع بصرها على الإنسان هلك فكذلك العائن وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أبي لبابه الماضي في بدء الخلق عند ذكر الأبتر وذي الطفيتين قال‏:‏ فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبل، وليس مراد الخطابي بالتأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون، وقد أخرج البزار بسند حسن عن جابر رفعه ‏"‏ أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس ‏"‏ قال الراوي‏:‏ يعني بالعين، وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوي والخواص في الأجسام والأرواح كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك، وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من الناس يسقم بمجرد النظر إليه وتضعف قواه، وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات ولشدة ارتباطها بالعين نسب الفعل إلى العين، وليست هي المؤثرة وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها‏:‏ فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة‏.‏

والحاصل أن التأثير بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتصال الجسماني، بل يكون تارة به وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية وأخرى بتوجه الروح كالذي يحدث من الأدعية والرقى والالتجاء إلى الله، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنوي إن صادف البدن لا وقاية له أثر فيه، وإلا لم ينفذ السهم، بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسي سواء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنْ الْعَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سفيان‏)‏ هو الثوري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني معبد بن خالد‏)‏ هو الجدلي الكوفي تابعي، وشيخه عبد الله بن شداد هو المعروف بابن الهاد له رؤية وأبوه صحابي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عائشة‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وكذا لمسلم من طريق مسعر عن معبد بن خالد، ووقع عند الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن مهدي مثله، لكن شك فيه فقال‏:‏ ‏"‏ أو قال عن عبد الله بن شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت أمرني النبي صلى الله عليه وسلم، أو أمر أن يسترقى من العين‏)‏ أي يطلب الرقية ممن يعرف الرقى بسبب العين، كذا وقع بالشك هل قالت ‏"‏ أمر ‏"‏ بغير إضافة أو ‏"‏ أمرني ‏"‏ وقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه عن الطبراني عن معاذ بن المثنى عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه فقال‏:‏ ‏"‏ أمرني ‏"‏ جزما وكذا أخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق أبي نعيم عن سفيان الثوري، ولمسلم من طريق عبد الله بن نمير عن سفيان ‏"‏ كان يأمرني أن أسترقي ‏"‏ وعنده من طريق مسعر عن معبد بن خالد ‏"‏ كان يأمرها ‏"‏ ولابن ماجه من طريق وكيع عن سفيان ‏"‏ أمرها أن تسترقي ‏"‏ وهو للإسماعيلي في رواية عبد الرحمن بن مهدي‏.‏

وفي هذا الحديث مشروعية الرقية لمن أصابه العين، وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي من طريق عبيد بن رفاعة ‏"‏ عن أسماء بنت عميس أنها قالت‏:‏ يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين أفأسترقي لهم‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏"‏ الحديث، وله شاهد من حديث جابر أخرجه مسلم قال‏:‏ ‏"‏ رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل حزم في الرقية‏.‏

وقال لأسماء‏:‏ ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة‏؟‏ أتصيبهم الحاجة‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكن العين تسرع إليهم، قال‏:‏ ارقيهم، فعرضت عليه فقال‏:‏ ارقيهم ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ ضارعة ‏"‏ بمعجمة أوله أي نحيفة، وورد في مداواة المعيون أيضا ما أخرجه أبو داود من رواية الأسود عن عائشة أيضا قالت‏:‏ ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين ‏"‏ وسأذكر كيفية اغتساله في شرح حديث الباب الذي بعد هذا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ عَنْ الزُّبَيْدِيِّ وَقَالَ عُقَيْلٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد بن خالد‏)‏ قال الحاكم والجوزقي والكلاباذي وأبو مسعود ومن تبعهم، هو الذهلي نسب إلى جد أبيه فإنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس، وقد كان أبو داود يروي عن محمد بن يحيى فينسب أباه إلى جد أبيه أيضا فيقول‏:‏ حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، قالوا وقد حدث أبو محمد بن الجارود بحديث الباب عن محمد بن يحيى الذهلي، وهي قرينة في أنه المراد، وقد وقع في رواية الأصيلي هنا ‏"‏ حدثنا محمد بن خالد الذهلي ‏"‏ فانتفى أن يظن أنه محمد بن خالد بن جبلة الرافعي الذي ذكره ابن عدي في شيوخ البخاري، وقد أخرج الإسماعيلي وأبو نعيم أيضا حديث الباب من طريق محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن وهب بن عطية المذكور، وكذا هو في ‏"‏ كتاب الزهريات ‏"‏ جمع الذهلي، وهذا الإسناد مما نزل فيه البخاري في حديث عروة بن الزبير ثلاث درجات، فإنه أخرج في صحيحه حديثا عن عبد الله بن موسى عن هشام بن عروة عن أبيه وهو في العتق فكان بينه وبين عروة رجلان، وهنا بينه وبينه فيه خمسة أنفس، ومحمد بن وهب بن عطية سلمي قد أدركه البخاري وما أدري لقيه أم لا، وهو من أقران الطبقة الوسطى من شيوخه، وما له عنده إلا هذا الحديث، وقد أخرجه مسلم عاليا بالنسبة لرواية البخاري هذه قال‏:‏ حدثنا أبو الربيع حدثنا محمد بن حرب فذكره، ومحمد بن حرب شيخه خولاني حمصي كان كاتبا للزبيدي شيخه في هذا الحديث وهو ثقة عند الجميع‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ اجتمع في هدا السند من البخاري إلى الزهري ستة أنفس في نسق كل منهم اسمه محمد، وإذا روينا الصحيح من طريق الفراوي عن الحفص عن الكشميهني عن الفربري كانوا عشرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏رأى في بيتها جارية‏)‏ لم أقف على اسمها، ووقع في مسلم قال لجارية في بيت أم سلمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في وجهها سفعة‏)‏ بفتح المهملة ويجور ضمها وسكون الفاء بعدها عين مهملة وحكى عياض ضم أوله، قال إبراهيم الحربي‏:‏ هو سواد في الوجه ومنه سفعة الفرس سواد ناصيته، وعن الأصمعي‏:‏ حمرة يعلوها سواد، وقيل‏:‏ صفرة، وقيل‏:‏ سواد مع لون آخر‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ لون يخالف لون الوجه، وكلها متقاربة، وحاصلها أن بوجهها موضعا على غير لونه الأصلي، وكأن الاختلاف بحسب اللون الأصلي، فإن كان أحمر فالسفعة سواد صرف، وإن كان أبيض فالسفعة صفرة وإن كان أسمر فلسفعة حمرة يعلوها سواد‏.‏

وذكر صاحب ‏"‏ البارع ‏"‏ في اللغة أن السفع سواد الخدين من المرأة الشاحبة، والشحوب بمعجمة ثم مهملة‏:‏ تغير اللون بهزال أو غيره، ومنه سفعاء الخدين، وتطلق السفعة على العلامة، ومنه بوجهها سفعة غضب‏.‏

وهو راجع إلى تغير اللون، وأصل السفع الأخذ بقهر، ومنه قوله تعالى ‏(‏لنسفعا بالناصية‏)‏ ويقال أن أصل السفع الأخذ بالناصية ثم استعمل في غيرها، وقيل في تفسيرها‏:‏ لنعلمنه بعلامة أهل النار من سواد الوجه ونحوه، وقيل‏:‏ معناه لنذلنه، ممكن رد الجميع إلى معنى واحد فإنه إذا أخذ بناصيته بطريق القهر أذله وأحدث له تغير لونه فظهرت قيه تلك العلامة ومنه قوله في حديث الشفاعة ‏"‏ قوم أصابهم سفع من النار‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏استرقوا لها‏)‏ بسكون الراء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن بها النظرة‏)‏ بسكون الظاء المعجمة‏.‏

وفي رواية مسلم ‏"‏ فقال إن بها نظرة فاسترقوا لها ‏"‏ يعني بوجهها صفرة، وهدا التفسير ما عرفت قائله إلا أنه يغلب على ظني أنه الزهري، وقد أنكره عياض من حيث اللغة، وتوجيهه ما قدمته واختلف في المراد بالنظرة فقيل‏:‏ عين من نظر الجن، وقيل من الإنس وبه جزم أبو عبيد الهروي، والأولى أنه أعم من ذلك وأنها أصيبت بالعين فلذلك أذن صلى الله عليه وسلم في الاسترقاء لها، وهو دال على مشروعية الرقية من العين على وفق الترجمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تابعه عبد الله بن سالم‏)‏ يعني الحمصي، وكنيته أبو يوسف ‏(‏عن الزبيدي‏)‏ أي على وصل الحديث‏.‏

‏"‏ وقال عقيل عن الزهري أخبرني عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يعني لم يذكر في إسناده زينب ولا أم سلمه، فأما رواية عبد الله بن سالم فوصلها الذهلي في ‏"‏ الزهريات ‏"‏ والطبراني في ‏"‏ مسند الشاميين ‏"‏ من طريق إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي عن عمرو بن الحارث الحمصي عن عبد الله بن سالم به سندا ومتنا، وأما رواية عقيل فرواها ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل ولفظه ‏"‏ أن جارية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة فقال ‏"‏ كأن بها سفعة أو خطرت بنار ‏"‏ هكذا وقع لنا مسموعا في جزء من ‏"‏ فوائد أبي الفضل بن طاهر ‏"‏ بسنده إلى ابن وهب، ورواه الليث عن عقيل أيضا، ووجدته في ‏"‏ مستدرك الحاكم ‏"‏ من حديثه لكن زاد فيه عائشة بعد عروة، وهو وهم فيما أحسب، ووجدته في ‏"‏ جامع ابن وهب ‏"‏ عن يونس عن الزهري قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجارية ‏"‏ فذكر الحديث، واعتمد الشيخان في هذا الحديث على رواية الزبيدي لسلامتها من الاضطراب ولم يلتفتا إلى تقصير يونس فيه، وقد روى الترمذي من طريق الوليد بن مسلم أنه سمع الأوزاعي يفضل الزبيدي على جميع أصحاب الزهري، يعني في الضبط، وذلك أنه كان يلازمه كثيرا حضرا وسفرا، وقد تمسك بهذا من زعم أن العمدة لمن وصل على من أرسل لاتفاق الشيخين على تصحيح الموصول هنا على المرسل، والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد بل هو دائر مع القرينة، فمهما ترجح بها اعتمداه، وإلا فكم حديث أعرضا عن تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله، وقد جاء حديث عروة هذا من غير رواية الزهري أخرجه البزار من رواية أبي معاوية عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عروة عن أم سلمة، فسقط من روايته ذكر زينب بنت أم سلمة‏.‏

وقال الدار قطني‏:‏ رواه مالك وابن عيينة وسمي جماعة كلهم عن يحيى بن سعيد فلم يجاوزا به عروة، وتفرد أبو معاوية بذكر أم سلمة فيه ولا يصح، وإنما قال ذلك بالنسبة لهذه الطريق لانفراد الواحد عن العدد الجم، وإذا انضمت هذه الطريق إلى رواية الزبيدي قويت جدا، والله أعلم‏.‏

*3*باب الْعَيْنُ حَقٌّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب العين حق‏)‏ أي الإصابة بالعين شيء ثابت موجود، أو هو من جملة ما تحقق كونه‏.‏

قال المازري‏:‏ أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف المبتدعة لغير معنى، لأن كل شيء ليس محالا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل، فهو من متجاوزات العقول، فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى، وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعَيْنُ حَقٌّ وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏العين حق، ونهى عن الوشم‏)‏ لم تظهر المناسبة بين هاتين الجملتين، فكأنهما حديثان مستقلان، ولهذا حذف مسلم وأبو داود الجملة الثانية من روايتهما مع أنهما أخرجاه من رواية عبد الرزاق الذي أخرجه البخاري من جهته، ويحتمل أن يقال‏:‏ المناسبة بينهما اشتراكهما في أن كلا منهما يحدث في العضو لونا غير لونه الأصلي، والوشم بفتح الواو وسكون المعجمة أن يغرز إبرة أو نحوها في موضع من البدن حتى يسيل الدم ثم يحشى ذلك الموضع بالكحل أو نحوه فيخضر، وسيأتي بيان حكمه في ‏"‏ باب المستوشمة ‏"‏ من أواخر كتاب اللباس إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد ظهرت لي مناسبة بين هاتين الجملتين لم أر من سبق إليها، وهي أن من جملة الباعث على عمل الوشم تغير صفة الموشوم لئلا تصيبه العين، فنهى عن الوشم مع إثبات العين، وأن التحيل بالوشم وغيره مما لا يستند إلى تعليم الشارع لا يفيد شيئا، وأن الذي قدره الله سيقع وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا ‏"‏ فأما الزيادة الأولى ففيها تأكيد وتنبيه على سرعة نفوذها وتأثيره في الذات، وفيها إشارة إلى الرد على من زعم من المتصوفة أن قوله‏:‏ ‏"‏ العين حق ‏"‏ يريد به القدر أي العين التي تجري منها الأحكام، فإن عين الشيء حقيقته، والمعني أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر إنما هو بقدر الله السابق لا بشيء يحدثه الناظر في المنظور‏.‏

ووجه الرد أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين، وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور، لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب إما بما جعل الله تعالى فيها من ذلك وأودعه فيها، وإما بإجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر، وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين لا أنه يمكن أن يرد القدر شيء إذ القدر عبارة عن سابق علم الله، وهو لا راد لأمره، أشار إلى ذلك القرطبي‏.‏

وحاصله لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين‏.‏

لكنها لا تسبق، فكيف غيرها‏؟‏ وقد أخرج البزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالأنقس ‏"‏ قال الراوي‏:‏ يعني بالعين‏.‏

وقال النووي‏:‏ في الحديث إثبات القدر وصحة أمر العين وأنها قوية الضرر، وأما الزيادة الثانية وهي أمر العاين بالاغتسال عند طلب المعيون منه ذلك ففيها إشارة إلى أن الاغتسال لذلك كان معلوما بينهم، فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، وأدنى ما في ذلك رفع الوهم الحاصل في ذلك، وظاهر الأمر الوجوب‏.‏

وحكى المازري فيه خلافا وصحح الوجوب وقال‏:‏ متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى، ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال، وقد وقعت في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ‏"‏ أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف - وكان أبيض حسن الجسم والجلد - فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال‏:‏ ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط - أي صرع وزنا ومعنى - سهل‏.‏

فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هل تتهمون به من أحد‏؟‏ قالوا‏.‏

عامر بن ربيعة‏.‏

فدعا عامرا فتغيظ علمه فقال‏:‏ علام يقتل أحدكم أخاه‏؟‏ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت‏.‏

ثم قال‏:‏ اغتسل له، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلقه على رأسه وظهره ثم يكفأ القدح؛ ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس ‏"‏ لفظ أحمد من رواية أبي أويس عن الزهري، ولفظ النسائي من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري بهذا السند أنه يصب صبة على وجهه بيده اليمنى، وكذلك سائر أعضائه صبة صبة في القدح‏.‏

وقال في آخره ‏"‏ ثم يكفأ القدح وراءه على الأرض ‏"‏ ووقع في رواية ابن ماجه من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل، فذكر الحديث وفيه ‏"‏ فليدع بالبركة‏.‏

ثم دعا بماء فأمر عامرا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه ‏"‏ قال سفيان قال معمر عن الزهري‏:‏ ‏"‏ وأمر أن يكفأ الإناء من خلفه ‏"‏ قال المازري‏:‏ المراد بداخلة الإزار الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن، قال فظن بعضهم أنه كناية عن الفرج انتهى‏.‏

وزاد عياض أن المراد ما يلي جسده من الإزار، وقيل‏:‏ أراد موضع الإزار من الجسد، وقيل‏:‏ أراد وركه لأنه معقد الإزار‏.‏

والحديث في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ وفيه عن مالك ‏"‏ حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل أنه سمع أباه يقول، اغتسل سهل - فذكر نحوه وفيه - فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر فقال‏:‏ ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، فوعك سهل مكانه واشتد وعكه - وفيه - إلا بركت‏؟‏ إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر فراح سهل ليس به بأس‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيهات‏)‏ ‏:‏ الأول‏:‏ اقتصر النووي في ‏"‏ الأذكار ‏"‏ على قوله‏:‏ الاستغسال أن يقال للعائن‏:‏ اغسل داخلة إزارك مما يلي الجلد، فإذا فعل صبه على المنظور إليه‏.‏

وهذا يوهم الاقتصار على ذلك، وهو عجيب، ولا سيما وقد نقل في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏ كلام عياض بطوله‏.‏

الثاني‏:‏ قال المازري هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ إن توقف فيه متشرع قلنا له‏:‏ قل الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة‏.‏

أو متفلسف فالرد عليه أظهر لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله الخواص‏.‏

وقال ابن القيم‏:‏ هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربا غير معتقد، وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصية فما الذي تنكر جهلتهم من الخواص الشرعية‏؟‏ هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة، فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها، وهذا علاج النفس الغضبية توضع اليد على بدن الغضبان فيسكن، فكان أثر تلك العين كشعلة نار وقعت على جسد، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة‏.‏

ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها، ولا شيء أرق من المغابن، فكان في غسلها إبطال لعملها، ولا سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصا‏.‏

وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذا، فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء‏.‏

الثالث‏:‏ هذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة مسهل بن حنيف المذكورة كما مضى ‏"‏ ألا بركت عليه ‏"‏ وفي رواية ابن ماجه ‏"‏ فليدع بالبركة ‏"‏ ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة‏.‏

وأخرج البزار وابن السني من حديث أنس رفعه ‏"‏ من رأى شيئا فأعجبه فقال‏:‏ ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم يضره‏"‏‏.‏

وفي الحديث من الفوائد أيضا أن العائن إذا عرف يقضي عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح، وأن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الماء المستعمل طاهر، وفيه جواز الاغتسال بالفضاء، وأن الإصابة بالعين قد تقتل‏.‏

وقد اختلف في جريان القصاص بذلك فقال القرطبي‏:‏ لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا، انتهى‏.‏

ولم يتعرض الشافعية للقصاص في ذلك، بل منعوه وقالوا‏:‏ إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا‏.‏

وقال النووي في ‏"‏ الروضة‏:‏ ولا دية فيه ولا كفارة‏.‏

لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال مما لا انضباط له، كيف ولم يقع منه فعل أصلا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال نعمة‏.‏

وأيضا فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين ا هـ‏.‏

ولا يعكر على ذلك إلا الحكم بقتل الساحر فإنه في معناه، والفرق بينهما فيه عسر‏.‏

ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم فإنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر رضي الله عنه بمنعه من مخالطة الناس كما تقدم واضحا في بابه، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة‏.‏

قال النووي‏:‏ وهذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه‏.‏