فصل: باب وُفُودِ الْأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَبَيْعَةِ الْعَقَبَةِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب وُفُودِ الْأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَبَيْعَةِ الْعَقَبَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وبيعة العقبة‏)‏ ذكر ابن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد موت أبي طالب قد خرج إلى ثقيف بالطائف يدعوهم إلى نصره، فلما امتنعوا منه كما تقدم في بدء الخلق شرحه رجع إلى مكة فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج، وذكر بأسانيد متفرقة أنه أتى كندة وبني كعب وبني حذيفة وبني عامر بن صعصعة وغيرهم فلم يجبه أحد منهم إلى ما سأل‏.‏

وقال موسى بن عقبة عن الزهري‏:‏ ‏"‏ فكان في تلك السنين - أي التي قبل الهجرة - يعرض نفسه على القبائل، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول‏:‏ لا أكره أحدا منكم على شيء، بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالة ربي، فلا يقبله أحد بل يقولون‏:‏ قوم الرجل أعلم به ‏"‏ وأخرج البيهقي وأصله عند أحمد وصححه ابن حبان من حديث ربيعة بن عباد بكسر المهملة وتخفيف الموحدة قال‏:‏ ‏"‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله عز وجل ‏"‏ الحديث‏.‏

وروى أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث جابر ‏"‏ كان رسول الله يعرض نفسه على الناس بالموسم فيقول‏:‏ هل من رجل يحملني إلى قومه‏؟‏ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي‏.‏

فأتاه رجل من همدان فأجابه، ثم خشي أن لا يتبعه قومه فجاء إليه فقال‏:‏ آتي قومي فأخبرهم ثم آتيك من العام المقبل‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

فانطلق الرجل وجاء وفد الأنصار في رجب ‏"‏ وقد أخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ بإسناد حسن عن ابن عباس ‏"‏ حدثني علي بن أبي طالب قال‏:‏ لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا منه وأبو بكر إلى منى، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أبو بكر وكان نسابة فقال‏:‏ من القوم‏؟‏ فقالوا‏:‏ من ربيعة‏.‏

فقال من أي ربيعة أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ من ذهل - ذكروا حديثا طويلا في مراجعتهم وتوقفهم أخيرا عن الإجابة - قال‏:‏ ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، وهم الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال‏:‏ فما نهضوا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ انتهى‏.‏

وذكر ابن إسحاق أن أهل العقبة الأولى كانوا ستة نفر وهم‏:‏ أبو أمامة أسعد بن زرارة النجاري ورافع ابن مالك بن العجلان العجلاني وقطبة بن عامر بن حديدة وجابر بن عبد الله بن رثاب، وعقبة بن عامر - وهؤلاء الثلاثة من بني سلمة - وعوف بن الحارث بن رفاعة من بني مالك بن النجار‏.‏

وقال موسى بن عقبة عن الزهري وأبو الأسود عن عروة‏:‏ هم أسعد بن زرارة ورافع بن مالك ومعاذ بن عفراء ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة، ويقال كان فيهم عبادة بن الصامت وذكوان‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ‏"‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قال لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من أنتم‏؟‏ قالوا من الخزرج‏.‏

قال‏:‏ أفلا تجلسون أكلمكم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏

فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن‏.‏

وكان مما صنع الله لهم أن اليهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا‏:‏ إن نبينا سيبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه، فنقتلكم معه، فلما كلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض‏:‏ لا تسبقنا إليه يهود، فآمنوا وصدقوا، وانصرفوا إلى بلادهم ليدعوا قومهم، فلما أخبروهم لم يبق دور من قومهم إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الموسم وافاه منهم اثنا عشر رجلا‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِطُولِهِ قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ فِي حَدِيثِهِ وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا

الشرح‏:‏

حديث كعب بن مالك في قصة توبته، ذكر منه طرفا وسيأتي مطولا في مكانه والغرض منه قوله‏:‏ ‏"‏ ولقد شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة‏"‏‏.‏

وعنبسة هو ابن خالد بن يزيد الإيلي يروي عن عمه يونس بن يزيد، وقوله‏:‏ ‏"‏ قال ابن بكير في حديثه ‏"‏ يريد أن اللفظ المساق لعقيل لا ليونس، وقوله‏:‏ ‏"‏ تواثقنا ‏"‏ بالمثلثة والقاف أي وقع بيننا الميثاق على ما تبايعنا عليه، وقوله‏:‏ ‏"‏ وما أحب أن لي بها مشهد بدر ‏"‏ لأن من شهد بدرا وإن كان فاضلا بسبب أنها أول غزوة نصر فيها الإسلام، لكن بيعة العقبة كانت سببا في فشو الإسلام، ومنها نشأ مشهد بدر، وقوله‏:‏ ‏"‏ أذكر منها ‏"‏ هو أفعل تفضيل بمعنى المذكور، أي أكثر ذكرا بالفضل وشهرة بين الناس‏.‏

قلت‏:‏ وكان كعب من أهل العقبة الثانية، وقد عمد ثالثة كما أشرت إليه قبل، ولعل المصنف لمح بما أخرجه ابن إسحاق وصححه ابن حبان من طريقه بطوله، قال ابن إسحاق ‏"‏ حدثني معبد بن كعب بن مالك أن أخاه عبد الله - وكان من أعلم الأنصار - حدثه أن أباه كعبا حدثه، وكان ممن شهد العقبة وبايع بها قال‏:‏ خرجنا حجاجا مع مشركي قومنا وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا - فذكر شأن صلاته إلى الكعبة قال -‏:‏ فلما وصلنا إلى مكة ولم نكن رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، سألنا عنه فقيل‏:‏ هو مع العباس في المسجد، فدخلنا فجلسنا إليه، فسأله البراء عن القبلة، ثم خرجنا إلى الحج، وواعدناه العقبة ومعنا عبد الله بن عمرو والد جابر ولم يكن أسلم قبل فعرفناه أمر الإسلام فأسلم حينئذ وصار من النقباء، قال فاجتمعنا عند العقبة ثلاثة وسبعين رجلا، ومعنا امرأتان أم عمارة بنت كعب إحدى نساء بني مازن وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة، قال فجاء ومعه العباس فتكلم فقال‏:‏ إن محمدا منا من حيث علمتم، وقد منعناه وهو في عز، فإن كنتم تريدون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وذاك، وإلا فمن الآن‏.‏

قال فقلنا‏:‏ تكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ما أحببت‏.‏

فتكلم، فدعا إلى الله وقرأ القرآن ورغب في الإسلام ثم قال‏:‏ أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده فقال‏:‏ نعم ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم‏.‏

ثم قال‏:‏ أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا ‏"‏ وذكر ابن إسحاق النقباء وهم أسعد بن زرارة ورافع بن مالك والبراء بن معرور وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو بن حرام وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو بن حبيش وأسيد بن حضير وسعد بن خيثمة وأبو الهيثم بن التيهان، وقيل بدله‏:‏ رفاعة بن عبد المنذر‏"‏‏.‏

وفي ‏"‏ المستدرك ‏"‏ عن ابن عباس ‏"‏ كان البراء بن معرور أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ‏"‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء‏:‏ أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، قالوا‏:‏ نعم ‏"‏ وذكر أيضا أن قريشا بلغهم أمر البيعة فأنكروا عليهم، فحلف المشركون منهم وكانوا أكثر منهم - قيل‏:‏ كانوا خمسمائة نفس - أن ذلك لم يقع، وذلك لأنهم ما علموا بشيء مما جرى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ كَانَ عَمْرٌو يَقُولُ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ شَهِدَ بِي خَالَايَ الْعَقَبَةَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَحَدُهُمَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان عمرو‏)‏ هو ابن دينار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شهد بي خالاي العقبة‏)‏ لم يسمهما في هذه الرواية؛ ونقل عن عبد الله بن محمد - وهو الجعفي - أن ابن عيينة قال‏:‏ أحدهما‏:‏ البراء بن معرور، كذا في رواية أبي ذر، ولغيره‏:‏ قال أبو عبد الله يعني المصنف، فعلى هذا فتفسير المبهم من كلامه، لكنه ثبت أنه من كلام ابن عيينة من وجه آخر عند الإسماعيلي، فترجحت رواية أبي ذر‏.‏

ووقع في رواية الإسماعيلي ‏"‏ قال سفيان‏:‏ خالاه البراء بن معرور وأخوه ‏"‏ ولم يسمه‏.‏

والبراء بتخفيف الراء ومعرور بمهملات يقال إنه كان أول من أسلم من الأنصار، وأول من بايع في العقبة الثانية كما تقدم، ومات قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر واحد‏.‏

وهو أول من صلى إلى الكعبة في قصة ذكرها ابن إسحاق وغيره، وقد تعقبه الدمياطي فقال‏:‏ أم جابر هي أنيسة بنت غنمة بن عدي وأخواها ثعلبة وعمرو وهما خالا جابر، وقد شهدا العقبة الأخيرة‏.‏

وأما البراء بن معرور فليس من أخوال جابر قلت‏:‏ لكن من أقارب أمه، وأقارب الأم يمسون أخوالا مجازا، وقد روى ابن عساكر بإسناد حسن عن جابر قال‏:‏ ‏"‏ حملني خالي الحر بن قيس في السبعين راكبا الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، فخرج إلينا معه العباس عمه فقال‏:‏ يا عم، خذ لي على أخوالك ‏"‏ فسمى الأنصار أخوال العباس لكون جدته أم أبيه عبد المطلب منهم، وسمى الحر بن قيس خاله لكونه من أقارب أمه وهو ابن عم البراء بن معرور، فلعل قول سفيان ‏"‏ وأخوه ‏"‏ عني به الحر بن قيس، وأطلق عليه أخا وهو ابن عم لأنهما في منزلة واحدة في النسب، وهذا أول من توهيم مثل ابن عيينة، لكن لم يذكر أحد من أهل السير الحر بن قيس في أصحاب العقبة، فكأنه لم يكن أسلم، فعلى هذا فالخال الآخر لجابر إما ثعلبة وإما عمرو، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ أَنَا وَأَبِي وَخَالِي مِنْ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرنا هشام‏)‏ هو ابن يوسف الصنعاني، وعطاء هو ابن أبي رباح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنا وأبي‏)‏ عبد الله بن عمرو بن حرام بالمهملتين، وقد تقدم أنه كان من النقباء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وخالي‏)‏ تقدم القول فيهما، وقرأت بخط مغلطاي‏:‏ يريد عيسى بن عامر بن عدي بن سنان وخالد بن عمرو بن عدي بن سنان لأن أم جابر أنيسة بنت غنمة بن عدي بن سنان، يعني فكل منهما ابن عمها بمنزلة أخيها، فأطلق عليهما جابر أنهما خالاه مجازا‏.‏

قلت‏:‏ إن حمل على الحقيقة تعين كما قاله الدمياطي، وإلا فتغليط ابن عيينة مع أن كلامه يمكن حمله على المجاز بأمر فيه مجاز ليس بمتجه، والله المستعان‏.‏

ووقع عند ابن التين ‏"‏ وخالى ‏"‏ بغير ألف وتشديد التحتانية وقال‏:‏ لعل الواو واو المعية أي مع خالي، ويحتمل أن يكون بالإفراد بكسر اللام وتخفيف الياء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ مِنْ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَصْحَابِهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ تَعَالَوْا بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ قَالَ فَبَايَعْتُهُ عَلَى ذَلِكَ

الشرح‏:‏

حديث عبادة بن الصامت في قصة البيعة ليلة العقبة، وقد تقدم شرحه مستوفى في أوائل كتاب الإيمان مع مباحث نفيسة تتعلق بقوله في الحديث ‏"‏ فعوقب به فهو كفارة له ‏"‏ وأوضحت هناك أن بيعة العقبة إنما كانت على الإيواء والنصر، وأما ما ذكره من الكفارة فتلك بيعة أخرى وقعت بعد فتح مكة، ثم رأيت ابن إسحاق جزم بأن بيعة العقبة وقعت بما صدر في الرواية الثانية التي في هذا الباب ففال‏:‏ ‏"‏ حدثني يزيد بن أبي حبيب ‏"‏ فذكر بسند الباب ‏"‏ عن عبادة قال‏:‏ كنت فيمن حضر العقبة الأولى، فكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ‏"‏ أي على وفق بيعة النساء التي نزلت بعد ذلك عند فتح مكة، وهذا محتمل، لكن ليست الزيادة في طريق الليث بن سعد عن يزيد في الصحيحين، وعلى تقدير ثبوتها فليس فيه ما ينافي ما قررته من أن قوله ‏"‏ فهو كفارة ‏"‏ إنما ورد بعد ذلك، لأنه يعارضه حديث أبي هريرة ‏"‏ ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا ‏"‏ مع تأخر إسلام أبي هريرة عن ليلة العقبة، كما استوفيت مباحثه هناك‏.‏

وممن ذكر صورة بيعة العقبة كعب بن مالك كما أسلفته آنفا عنه، وروى البيهقي من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبد الله بن رفاعة عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ قال عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم علينا يثرب بما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا‏.‏

ولنا الجنة‏.‏

فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بايعناه عليها ‏"‏ وعند أحمد بإسناد حسن وصححه الحاكم وابن حبان عن جابر مثله وأوله ‏"‏ مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسب بمنى وغيرها يقول‏:‏ من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة‏؟‏ حتى بعثنا الله له من يثرب فصدقناه ‏"‏ فذكر الحديث حتى قال‏:‏ ‏"‏ فرحل إليه منا سبعون رجلا، فوعدناه بيعة العقبة، فقلنا‏:‏ علام نبايعك‏؟‏ فقال‏:‏ على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة ‏"‏ الحديث‏.‏

ولأحمد من وجه آخر عن جابر قال‏:‏ ‏"‏ كان العباس آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغنا قال رسول الله‏:‏ أخذت وأعطيت ‏"‏ وللبزار من وجه آخر عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء من الأنصار‏:‏ تؤوني، وتمنعوني‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏

قالوا‏:‏ فما لنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ الجنة ‏"‏ وروى البيهقي بإسناد قوي عن الشعبي، ووصله الطبراني من حديث أبي موسى الأنصاري قال‏:‏ ‏"‏ انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة فقال له أبو أمامة - يعني أسعد بن زرارة - سل يا محمد لربك ولنفسك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب‏.‏

قال‏:‏ أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا‏:‏ فما لنا‏؟‏ قال‏:‏ الجنة‏.‏

قالوا‏:‏ ذلك لك ‏"‏ وأخرجه أحمد من الوجهين جميعا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِنِّي مِنْ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَلَا نَنْتَهِبَ وَلَا نَعْصِيَ بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا نقضي‏)‏ بالقاف والضاد المعجمة للأكثر، وفي بعض النسخ عن شيوخ أبي ذر ‏"‏ ولا نعصي ‏"‏ بالعين والصاد المهملتين، وقد بينت الصواب من ذلك في أوائل كتاب الإيمان‏.‏

وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مع الاثني عشر رجلا مصعب بن عمير العبدري، وقيل‏:‏ بعثه إليهم بعد ذلك بطلبهم ليفقههم ويقرئهم، فنزل على أسعد بن زرارة، فروى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال‏:‏ ‏"‏ كان أبي إذا سمع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته، فقال‏:‏ كان أول من جمع بنا بالمدينة ‏"‏ وللدار قطني من حديث ابن عباس ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير أن اجمع بهم ‏"‏ ا ه، فأسلم خلق كثير من الأنصار على يد مصعب بن عمير بمعاونة أسعد بن زرارة حتى فشا الإسلام بالمدينة، فكان ذلك سبب رحلتهم في السنة المقبلة، حتى وافى منهم العقبة سبعون مسلما وزيادة، فبايعوا كما تقدم‏.‏

*3*باب تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ وَقُدُومِهَا الْمَدِينَةَ وَبِنَائِهِ بِهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ لأبي ذر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقدومها المدينة‏)‏ أي بعد الهجرة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وبنائه بها‏)‏ أي بالمدينة‏.‏

وكان دخولها عليه في شوال من السنة الأولى وقيل‏:‏ من الثانية، وقد تعقب قوله ‏"‏ بنائه بها ‏"‏ اعتمادا على قول صاحب الصحاح‏:‏ العامة تقول بنى بأهله وهو خطأ، وإنما يقال بني على أهله‏.‏

والأصل فيه أن الداخل على أهله يضرب عليه قبة ليلة الدخول، ثم قيل لكل داخل بأهله بأن، انتهى‏.‏

ولا معنى لهذا التغليط لكثرة استعمال الفصحاء له، وحسبك بقول عائشة ‏"‏ بنى بي ‏"‏ وبقول عروة في آخر الحديث الثالث ‏"‏ وبنى بها‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ فَوُعِكْتُ فَتَمَرَّقَ شَعَرِي فَوَفَى جُمَيْمَةً فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا لَا أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ وَإِنِّي لَأُنْهِجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ فَقُلْنَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ

الشرح‏:‏

قوله في الحديث ‏"‏ تزوجني وأنا بنت ست سنين ‏"‏ أي عقد علي‏.‏

وقولها‏:‏ ‏"‏ فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج ‏"‏ أي لما قدمت هي وأمها وأختها أسماء بنت أبي بكر كما سأبينه، وأما أبوها فقدم قبل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتمزق شعري‏)‏ بالزاي أي تقطع، وللكشميهني ‏"‏ فتمرق ‏"‏ بالراء أي انتتف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوفى‏)‏ أي كثر، وفي الكلام حذف تقديره ‏"‏ ثم فصلت من الوعك فتربى شعري فكثر، وقولها ‏"‏ جميمة ‏"‏ بالجيم مصغر الجمة بالضم وهي مجتمع شعر الناصية، ويقال للشعر إذا سقط عن المنكبين جمة، وإذا كان إلى شحمة الأذنين وفرة‏.‏

وقولها‏:‏ ‏"‏ في أرجوحة ‏"‏ بضم أوله معروفة وهي التي تلعب بها الصبيان، وقوله‏:‏ ‏"‏ أنهج ‏"‏ أي أتنفس تنفسا عاليا، وقولهن ‏"‏ على خير طائر ‏"‏ أي على خير حظ ونصيب، وقولها‏:‏ ‏"‏ فلم يرعني ‏"‏ بضم الراء وسكون العين أي لم يفزعني شيء إلا دخوله علي، وكنت بذلك عن المفاجأة بالدخول على غير عالم بذلك فإنه يفزع غالبا، وروى أحمد من وجه آخر هذه القصة مطولة ‏"‏ قالت عائشة‏:‏ قدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا، فجاءت بي أمي وأنا في أرجوحة ولي جميمة، ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت بي تقودني حتى وقفت بي عند الباب حتى سكن نفسي ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سريره وعنده رجال ونساء من الأنصار فأجلستني في حجره، ثم قالت‏:‏ هؤلاء أهلك يا رسول الله، بارك الله فيهم فوثب الرجال والنساء، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا وأنا يومئذ بنت تسع سنين‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُعَلًّى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ عَنْهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أريتك‏)‏ بضم أوله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سرقة‏)‏ بفتح المهملة والراء والقاف أي قطعة، أي يريه صورتها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقول‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وقال ‏"‏ ويأتي في النكاح بلفظ ‏"‏ فقال لي هذه امرأتك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا هي أنت‏)‏ سيأتي الكلام على شرحه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ هذا صورته مرسل، لكنه لما كان من رواية عروة مع كثرة خبرته بأحوال عائشة يحمل على أنه حمله عنها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فلبث سنتين أو قريبا من ذلك ونكح عائشة وهي بنت ست سنين ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين‏)‏ فيه إشكال لأن ظاهره يقتضي أنه لم يبن بها إلا بعد قدومه المدينة بسنتين ونحو ذلك، لأن قوله‏:‏ ‏"‏ فلبث سنتين أو نحو ذلك ‏"‏ أي بعد موت خديجة، وقوله‏:‏ ‏"‏ ونكح عائشة ‏"‏ أي عقد عليها لقوله بعد ذلك ‏"‏ وبنى بها وهي بنت تسع ‏"‏ فيخرج من ذلك أنه بنى بها بعد قدومه المدينة بسنتين، وليس كذلك، لأنه وقع عند المصنف في النكاح من رواية الثوري عن هشام بن عروة في هذا الحديث ‏"‏ ومكثت عنده تسعا ‏"‏ وسيأتي ما قيل من إدراج النكاح في هذه الطريق، وهو في الجملة صحيح، فإن عند مسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة في هذا الحديث ‏"‏ وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبتها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة ‏"‏ وله من طريق الأسود عن عائشة نحوه، ومن طريق عبد الله بن عروة عن أبيه عن عائشة ‏"‏ تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال ‏"‏ فعلى هذا فقوله‏:‏ ‏"‏ فلبث سنتين أو قريبا من ذلك ‏"‏ أي لم يدخل على أحد من النساء، ثم دخل على سودة بنت زمعة قبل أن يهاجر، ثم بنى بعائشة بعد أن هاجر، فكأن ذكر سودة سقط على بعض رواته‏.‏

وقد روى أحد والطبراني بإسناد حسن عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون‏:‏ يا رسول الله ألا تزوج‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فما عندك‏؟‏ قالت‏:‏ بكر وثيب، البكر بنت أحب خلق الله إليك عائشة، والثيب سودة بنت زمعة‏.‏

قال‏:‏ فاذهبي فاذكريهما علي فدخلت على أبي بكر فقال‏:‏ إنما هي بنت أخيه، قال‏:‏ قولي له أنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي‏.‏

فجاءه فأنكحه‏.‏

ثم دخلت على سودة فقالت لها‏:‏ أخبري أبي، فذكرت له، فزوجه ‏"‏ وذكر ابن إسحاق وغيره أنه دخل على سودة بمكة‏.‏

وأخرج الطبراني من وجه آخر عن عائشة قالت‏.‏

‏"‏ لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفنا بمكة، فلما استقر بالمدينة بعث زيد بن حارثة وأبا رافع، وبعث أبو بكر عبد الله بن أريقط وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يحمل معه أم رومان وأم أبي بكر وأنا وأختي أسماء، فخرج بنا، وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة، وأخذ زيد امرأته أم أيمن وولديها أيمن وأسامة، واصطحبنا، حتى قدمنا المدينة فنزلت في عيال أبي بكر، ونزل آل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ عنده، وهو يومئذ يبني المسجد وبيوته، فأدخل سودة بنت زمعة أحد تلك البيوت، وكان يكون عندها، فقال له أبو بكر‏:‏ ما يمنعك أن تبني بأهلك‏؟‏ فبني بي ‏"‏ الحديث‏.‏

قال الماوردي‏:‏ الفقهاء يقولون‏:‏ تزوج عائشة قبل سودة، والمحدثون يقولون‏:‏ تزوج سودة قبل عائشة، وقد يجمع بينهما بأنه عقد على عائشة ولم يدخل بها ودخل بسودة‏.‏

قلت‏:‏ والرواية التي ذكرتها عن الطبراني ترفع الإشكال وتوجه الجمع المذكور، والله أعلم‏.‏

وقد أخرج الإسماعيلي من طريق عبد الله بن محمد بن يحيى عن هشام عن أبيه ‏"‏ أنه كتب إلى الوليد‏:‏ إنك سألتني متى توفيت خديجة‏؟‏ وإنها توفيت قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بثلاث سنين أو قريب من ذلك، نكح النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بعد متوفى خديجة، وعائشة بنت ست سنين‏.‏

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بها بعدما قدم المدينة وهي بنت تسع سنين ‏"‏ وهذا السياق لا إشكال فيه، ويرتفع به ما تقدم من الإشكال أيضا، والله أعلم‏.‏

إذا ثبت أنه بنى بها في شوال من السنة الأولى من الهجرة قوي قول من قال إنه دخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، وقد وهاه النووي في تهذيبه، وليس بواه إذا عددناه من ربيع الأول، وجزمه بأن دخوله بها كان في السنة الثانية يخالف ما ثبت كما تقدم أنه دخل بها بعد خديجة بثلاث سنين‏.‏

وقال الدمياطي في السيرة له‏:‏ ماتت خديجة في رمضان، وعقد على سودة في شوال ثم على عائشة، ودخل بسودة قبل عائشة‏.‏