فصل: باب قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب إِذَا عَرَّضَ الذِّمِّيُّ وَغَيْرُهُ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُصَرِّحْ نَحْوَ قَوْلِهِ السَّامُ عَلَيْكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا عرض الذمي أو غيره‏)‏ أي المعاهد ومن يظهر الإسلام‏.‏

قوله ‏(‏بسب النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي وتنقيصه، وقوله ‏"‏ولم يصرح ‏"‏ تأكيد فإن التعريض‏.‏

خلاف التصريح، وقد تقدم بيانه في تفسير قوله تعالى ‏(‏ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏نحو قوله السام عليكم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ السام عليكم ‏"‏ بالإفراد، وكذا وقع في حديثي عائشة وابن عمر في الباب، ولم يختلف في حديث أنس في لفظ ‏"‏ عليك ‏"‏ بالإفراد وتقدمت الأحاديث الثلاثة مع شرحها في كتاب الاستئذان، واعترض بأن هذا اللفظ ليس فيه تعريض بالسب، والجواب أنه أطلق التعريض على ما يخالف التصريح ولم يرد التعريض المصطلح وهو أن يستعمل لفظا في حقيقته يلوح به إلى معنى آخر يقصده‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ حديث الباب يطابق الترجمة بطريق الأولى، لأن الجرح أشد من السب، فكأن البخاري يختار مذهب الكوفيين في هذه المسألة انتهى ملخصا، وفيه نظر لأنه لم يبت الحكم ولا يلزم من تركه قتل من قال ذلك لمصلحة التأليف أن لا يجب قتله حيث لا مصلحة في تركه، وقد نقل ابن المنذر الاتفاق علي أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحا وجب قتله، ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة، وخالفه القفال فقال‏:‏ كفر بالسب فيسقط القتل بالإسلام‏.‏

وقال الصيدلاني‏:‏ يزول القتل ويجب حد القذف، وضعفه الإمام، فإن عرض فقال الخطابي‏:‏ لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم، فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ يقتل إلا أن يسلم، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة‏.‏

ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه، ومن طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك في المسلم‏:‏ هي ردة يستتاب منها‏.‏

وعن الكوفيين إن كان ذميا عزر وإن كان مسلما فهي ردة‏.‏

وحكى عياض خلافا هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلحة التأليف‏؟‏ ونقل عن بعض المالكية أنه إنما لم يقتل اليهود في هذه القصة لأنهم لم تقم عليهم البينة بذلك ولا أقروا به فلم يقض فيهم بعلمه، وقيل إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم‏.‏

وقيل إنه لم يحمل ذلك منهم على السب بل على الدعاء بالموت الذي لا بد منه، ولذلك قال في الرد عليهم ‏"‏ وعليكم ‏"‏ أي الموت نازل علينا وعليكم فلا معنى للدعاء به، أشار إلى ذلك القاضي عياض وتقدمت الإشارة إليه في الاستئذان، وكذا من قال ‏"‏ السأم ‏"‏ بالهمز بمعنى السآمة هر دعاء بأن يملوا الدين وليس بصريح في السب والله أعلم، وعلى القول بوجوب قتل من وقع منه ذلك من ذمي أو معاهد فترك لمصلحة التأليف هل ينتقض بذلك عهده‏؟‏ محل تأمل‏.‏

واحتج الطحاوي لأصحابهم بحديث الباب وأيده بأن هذا الكلام لو صدر من مسلم لكان ردة، وأما صدوره من اليهود فالذي هم عليه من الكفر أشد منه فذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وتعقب بأن دماءهم لم تحقن إلا بالعهد وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبه منهم تعد العهد فينتقض فيصير كافرا بلا عهد فيهدر دمه إلا أن يسلم ويؤيده أنه لو كان كل ما يعتقدونه لا يؤاخذون به لكانوا لو قتلوا مسلما لم يقتلوا لأن من معتقدهم حل دماء المسلمين ومع ذلك لو قتل منهم أحد مسلما قتل، فإن قيل إنما يقتل بالمسلم قصاصا بدليل أنه يقتل به ولو أسلم ولو سب ثم أسلم لم يقتل‏.‏

قلنا الفرق بينهما أن قتل المسلم يتعلق بحق آدمي فلا يهدر، وأما السب فإن وجوب القتل به يرجع إلى حق الدين فيهدمه الإسلام، والذي يظهر أن ترك قتل اليهود إنما كان لمصلحة التأليف أو لكونهم لم يعلنوا به أولهما جميعا وهو أولى، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ السَّامُ عَلَيْكَ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْكَ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ قَالَ السَّامُ عَلَيْكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَقْتُلُهُ قَالَ لَا إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا عرض الذمي أو غيره‏)‏ أي المعاهد ومن يظهر الإسلام‏.‏

قوله ‏(‏بسب النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي وتنقيصه، وقوله ‏"‏ولم يصرح ‏"‏ تأكيد فإن التعريض‏.‏

خلاف التصريح، وقد تقدم بيانه في تفسير قوله تعالى ‏(‏ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏نحو قوله السام عليكم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ السام عليكم ‏"‏ بالإفراد، وكذا وقع في حديثي عائشة وابن عمر في الباب، ولم يختلف في حديث أنس في لفظ ‏"‏ عليك ‏"‏ بالإفراد وتقدمت الأحاديث الثلاثة مع شرحها في كتاب الاستئذان، واعترض بأن هذا اللفظ ليس فيه تعريض بالسب، والجواب أنه أطلق التعريض على ما يخالف التصريح ولم يرد التعريض المصطلح وهو أن يستعمل لفظا في حقيقته يلوح به إلى معنى آخر يقصده‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ حديث الباب يطابق الترجمة بطريق الأولى، لأن الجرح أشد من السب، فكأن البخاري يختار مذهب الكوفيين في هذه المسألة انتهى ملخصا، وفيه نظر لأنه لم يبت الحكم ولا يلزم من تركه قتل من قال ذلك لمصلحة التأليف أن لا يجب قتله حيث لا مصلحة في تركه، وقد نقل ابن المنذر الاتفاق علي أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحا وجب قتله، ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة، وخالفه القفال فقال‏:‏ كفر بالسب فيسقط القتل بالإسلام‏.‏

وقال الصيدلاني‏:‏ يزول القتل ويجب حد القذف، وضعفه الإمام، فإن عرض فقال الخطابي‏:‏ لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم، فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ يقتل إلا أن يسلم، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة‏.‏

ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه، ومن طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك في المسلم‏:‏ هي ردة يستتاب منها‏.‏

وعن الكوفيين إن كان ذميا عزر وإن كان مسلما فهي ردة‏.‏

وحكى عياض خلافا هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلحة التأليف‏؟‏ ونقل عن بعض المالكية أنه إنما لم يقتل اليهود في هذه القصة لأنهم لم تقم عليهم البينة بذلك ولا أقروا به فلم يقض فيهم بعلمه، وقيل إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم‏.‏

وقيل إنه لم يحمل ذلك منهم على السب بل على الدعاء بالموت الذي لا بد منه، ولذلك قال في الرد عليهم ‏"‏ وعليكم ‏"‏ أي الموت نازل علينا وعليكم فلا معنى للدعاء به، أشار إلى ذلك القاضي عياض وتقدمت الإشارة إليه في الاستئذان، وكذا من قال ‏"‏ السأم ‏"‏ بالهمز بمعنى السآمة هر دعاء بأن يملوا الدين وليس بصريح في السب والله أعلم، وعلى القول بوجوب قتل من وقع منه ذلك من ذمي أو معاهد فترك لمصلحة التأليف هل ينتقض بذلك عهده‏؟‏ محل تأمل‏.‏

واحتج الطحاوي لأصحابهم بحديث الباب وأيده بأن هذا الكلام لو صدر من مسلم لكان ردة، وأما صدوره من اليهود فالذي هم عليه من الكفر أشد منه فذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وتعقب بأن دماءهم لم تحقن إلا بالعهد وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبه منهم تعد العهد فينتقض فيصير كافرا بلا عهد فيهدر دمه إلا أن يسلم ويؤيده أنه لو كان كل ما يعتقدونه لا يؤاخذون به لكانوا لو قتلوا مسلما لم يقتلوا لأن من معتقدهم حل دماء المسلمين ومع ذلك لو قتل منهم أحد مسلما قتل، فإن قيل إنما يقتل بالمسلم قصاصا بدليل أنه يقتل به ولو أسلم ولو سب ثم أسلم لم يقتل‏.‏

قلنا الفرق بينهما أن قتل المسلم يتعلق بحق آدمي فلا يهدر، وأما السب فإن وجوب القتل به يرجع إلى حق الدين فيهدمه الإسلام، والذي يظهر أن ترك قتل اليهود إنما كان لمصلحة التأليف أو لكونهم لم يعلنوا به أولهما جميعا وهو أولى، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ قُلْتُ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا عرض الذمي أو غيره‏)‏ أي المعاهد ومن يظهر الإسلام‏.‏

قوله ‏(‏بسب النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي وتنقيصه، وقوله ‏"‏ولم يصرح ‏"‏ تأكيد فإن التعريض‏.‏

خلاف التصريح، وقد تقدم بيانه في تفسير قوله تعالى ‏(‏ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏نحو قوله السام عليكم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ السام عليكم ‏"‏ بالإفراد، وكذا وقع في حديثي عائشة وابن عمر في الباب، ولم يختلف في حديث أنس في لفظ ‏"‏ عليك ‏"‏ بالإفراد وتقدمت الأحاديث الثلاثة مع شرحها في كتاب الاستئذان، واعترض بأن هذا اللفظ ليس فيه تعريض بالسب، والجواب أنه أطلق التعريض على ما يخالف التصريح ولم يرد التعريض المصطلح وهو أن يستعمل لفظا في حقيقته يلوح به إلى معنى آخر يقصده‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ حديث الباب يطابق الترجمة بطريق الأولى، لأن الجرح أشد من السب، فكأن البخاري يختار مذهب الكوفيين في هذه المسألة انتهى ملخصا، وفيه نظر لأنه لم يبت الحكم ولا يلزم من تركه قتل من قال ذلك لمصلحة التأليف أن لا يجب قتله حيث لا مصلحة في تركه، وقد نقل ابن المنذر الاتفاق علي أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحا وجب قتله، ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة، وخالفه القفال فقال‏:‏ كفر بالسب فيسقط القتل بالإسلام‏.‏

وقال الصيدلاني‏:‏ يزول القتل ويجب حد القذف، وضعفه الإمام، فإن عرض فقال الخطابي‏:‏ لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم، فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ يقتل إلا أن يسلم، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة‏.‏

ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه، ومن طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك في المسلم‏:‏ هي ردة يستتاب منها‏.‏

وعن الكوفيين إن كان ذميا عزر وإن كان مسلما فهي ردة‏.‏

وحكى عياض خلافا هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلحة التأليف‏؟‏ ونقل عن بعض المالكية أنه إنما لم يقتل اليهود في هذه القصة لأنهم لم تقم عليهم البينة بذلك ولا أقروا به فلم يقض فيهم بعلمه، وقيل إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم‏.‏

وقيل إنه لم يحمل ذلك منهم على السب بل على الدعاء بالموت الذي لا بد منه، ولذلك قال في الرد عليهم ‏"‏ وعليكم ‏"‏ أي الموت نازل علينا وعليكم فلا معنى للدعاء به، أشار إلى ذلك القاضي عياض وتقدمت الإشارة إليه في الاستئذان، وكذا من قال ‏"‏ السأم ‏"‏ بالهمز بمعنى السآمة هر دعاء بأن يملوا الدين وليس بصريح في السب والله أعلم، وعلى القول بوجوب قتل من وقع منه ذلك من ذمي أو معاهد فترك لمصلحة التأليف هل ينتقض بذلك عهده‏؟‏ محل تأمل‏.‏

واحتج الطحاوي لأصحابهم بحديث الباب وأيده بأن هذا الكلام لو صدر من مسلم لكان ردة، وأما صدوره من اليهود فالذي هم عليه من الكفر أشد منه فذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وتعقب بأن دماءهم لم تحقن إلا بالعهد وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبه منهم تعد العهد فينتقض فيصير كافرا بلا عهد فيهدر دمه إلا أن يسلم ويؤيده أنه لو كان كل ما يعتقدونه لا يؤاخذون به لكانوا لو قتلوا مسلما لم يقتلوا لأن من معتقدهم حل دماء المسلمين ومع ذلك لو قتل منهم أحد مسلما قتل، فإن قيل إنما يقتل بالمسلم قصاصا بدليل أنه يقتل به ولو أسلم ولو سب ثم أسلم لم يقتل‏.‏

قلنا الفرق بينهما أن قتل المسلم يتعلق بحق آدمي فلا يهدر، وأما السب فإن وجوب القتل به يرجع إلى حق الدين فيهدمه الإسلام، والذي يظهر أن ترك قتل اليهود إنما كان لمصلحة التأليف أو لكونهم لم يعلنوا به أولهما جميعا وهو أولى، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ سَامٌ عَلَيْكَ فَقُلْ عَلَيْكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا عرض الذمي أو غيره‏)‏ أي المعاهد ومن يظهر الإسلام‏.‏

قوله ‏(‏بسب النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي وتنقيصه، وقوله ‏"‏ولم يصرح ‏"‏ تأكيد فإن التعريض‏.‏

خلاف التصريح، وقد تقدم بيانه في تفسير قوله تعالى ‏(‏ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء‏)‏ ‏.‏

قوله ‏(‏نحو قوله السام عليكم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ السام عليكم ‏"‏ بالإفراد، وكذا وقع في حديثي عائشة وابن عمر في الباب، ولم يختلف في حديث أنس في لفظ ‏"‏ عليك ‏"‏ بالإفراد وتقدمت الأحاديث الثلاثة مع شرحها في كتاب الاستئذان، واعترض بأن هذا اللفظ ليس فيه تعريض بالسب، والجواب أنه أطلق التعريض على ما يخالف التصريح ولم يرد التعريض المصطلح وهو أن يستعمل لفظا في حقيقته يلوح به إلى معنى آخر يقصده‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ حديث الباب يطابق الترجمة بطريق الأولى، لأن الجرح أشد من السب، فكأن البخاري يختار مذهب الكوفيين في هذه المسألة انتهى ملخصا، وفيه نظر لأنه لم يبت الحكم ولا يلزم من تركه قتل من قال ذلك لمصلحة التأليف أن لا يجب قتله حيث لا مصلحة في تركه، وقد نقل ابن المنذر الاتفاق علي أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحا وجب قتله، ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة، وخالفه القفال فقال‏:‏ كفر بالسب فيسقط القتل بالإسلام‏.‏

وقال الصيدلاني‏:‏ يزول القتل ويجب حد القذف، وضعفه الإمام، فإن عرض فقال الخطابي‏:‏ لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم، فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك‏:‏ يقتل إلا أن يسلم، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة‏.‏

ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهودي ونحوه، ومن طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك في المسلم‏:‏ هي ردة يستتاب منها‏.‏

وعن الكوفيين إن كان ذميا عزر وإن كان مسلما فهي ردة‏.‏

وحكى عياض خلافا هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلحة التأليف‏؟‏ ونقل عن بعض المالكية أنه إنما لم يقتل اليهود في هذه القصة لأنهم لم تقم عليهم البينة بذلك ولا أقروا به فلم يقض فيهم بعلمه، وقيل إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم‏.‏

وقيل إنه لم يحمل ذلك منهم على السب بل على الدعاء بالموت الذي لا بد منه، ولذلك قال في الرد عليهم ‏"‏ وعليكم ‏"‏ أي الموت نازل علينا وعليكم فلا معنى للدعاء به، أشار إلى ذلك القاضي عياض وتقدمت الإشارة إليه في الاستئذان، وكذا من قال ‏"‏ السأم ‏"‏ بالهمز بمعنى السآمة هر دعاء بأن يملوا الدين وليس بصريح في السب والله أعلم، وعلى القول بوجوب قتل من وقع منه ذلك من ذمي أو معاهد فترك لمصلحة التأليف هل ينتقض بذلك عهده‏؟‏ محل تأمل‏.‏

واحتج الطحاوي لأصحابهم بحديث الباب وأيده بأن هذا الكلام لو صدر من مسلم لكان ردة، وأما صدوره من اليهود فالذي هم عليه من الكفر أشد منه فذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وتعقب بأن دماءهم لم تحقن إلا بالعهد وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبه منهم تعد العهد فينتقض فيصير كافرا بلا عهد فيهدر دمه إلا أن يسلم ويؤيده أنه لو كان كل ما يعتقدونه لا يؤاخذون به لكانوا لو قتلوا مسلما لم يقتلوا لأن من معتقدهم حل دماء المسلمين ومع ذلك لو قتل منهم أحد مسلما قتل، فإن قيل إنما يقتل بالمسلم قصاصا بدليل أنه يقتل به ولو أسلم ولو سب ثم أسلم لم يقتل‏.‏

قلنا الفرق بينهما أن قتل المسلم يتعلق بحق آدمي فلا يهدر، وأما السب فإن وجوب القتل به يرجع إلى حق الدين فيهدمه الإسلام، والذي يظهر أن ترك قتل اليهود إنما كان لمصلحة التأليف أو لكونهم لم يعلنوا به أولهما جميعا وهو أولى، والله أعلم‏.‏

*3*باب

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب‏)‏ كذا للأكثر بغير ترجمة، وحذفه ابن بطال فصار حديث ابن مسعود المذكور فيه من جملة الباب الذي قبله، واعترض بأنه إنما ورد في قوم كفار أهل حرب والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالصبر على الأذى منهم فلذلك امتثل أمر ربه‏.‏

قلت‏:‏ فهذا يقتضي ترجيح صنيع الأكثر من جعله في ترجمة مستقلة، لكن تقدم التنبيه على أن مثل ذلك وقع كالفصل من الباب الذي قبله فلا بد له من تعلق به في الجملة، والذي يظهر أنه أشار بإيراده إلى ترجيح القول بأن ترك قتل اليهود لمصلحة التأليف، لأنه إذا لم يؤاخذ الذي ضربه حتى جرحه بالدعاء عليه ليهلك بل صبر على أذاه وزاد فدعا له فلأن يصبر على الأذى بالقول أولى، ويؤخذ منه ترك القتل بالتعريض بطريق الأولى، وقد تقدم شرح حديث ابن مسعود المذكور في غزوة أحد من كتاب المغازي، وحفص المذكور في السند هو ابن غياث، وشقيق هو ابن سلمة أبو وائل، والسند كله كوفيون‏.‏

وقوله ‏"‏قال عبد الله ‏"‏ يعني ابن مسعود، ووقع في رواية مسلم من طريق وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏يحكى نبيا من الأنبياء‏)‏ تقدم في ذكر بني إسرائيل من أحاديث الأنبياء هذا الحديث بهذا السند وذكرت فيه - من طريق مرسلة وفي سندها من لم يسم - من سمي النبي المذكور نوحا عليه السلام، ثم وقع لي من رواية الأعمش بسند له مضموما إلى روايته بسند حديث الباب أخرجه ابن عساكر في ترجمة نوح عليه السلام من ‏"‏ تاريخ دمشق ‏"‏ من رواية يعقوب بن عبد الله الأشعري عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال ‏"‏ إن كان نوح ليضربه قومه حتى يغمى عليه ثم يفيق فيقول‏:‏ اهد قومي فإنهم لا يعلمون ‏"‏ وبه عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله فذكر نحو حديث الباب، وتقدم هناك أيضا قول القرطبي‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الحاكي والمحكي عنه، ووجه الرد عليه، وتقدم في غزوة أحد بيان ما وقع له صلى الله عليه وسلم من الجراحة في وجهه يوم أحد وأنه صلى الله عليه وسلم قال أولا ‏"‏ كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم ‏"‏ فإنه قال أيضا ‏"‏ اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ‏"‏ وأن عند أحمد من رواية عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال نحو ذلك يوم حنين لما ازدحموا عليه عند قسمة الغنائم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فهو يمسح الدم عن وجهه‏)‏ في رواية عبد الله بن نمير عن الأعمش عند مسلم في هذا الحديث ‏"‏ عن جبينه ‏"‏ وقد تقدم في غزوة أحد بيان أنه شج صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وشرح ما وقع في ذلك مبسوطا ولله الحمد‏.‏

*3*باب قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ وَقَالَ إِنَّهُمْ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، وقول الله تعالى ‏(‏وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون‏)‏ أما الخوارج فهم جمع خارجة أي طائفة، وهم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله أو مواطأته إياهم، كذا قال، وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان بل كانوا ينكرون عليه أشياء ويتبرءون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليا فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، فبلغ عليا فخرج إليهم، فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة وانتصر علي وقتل طلحة في المعركة وقتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق، ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك وكان أمير الشام إذ ذاك وكان علي أرسل إليه لأن يبايع له أهل الشام فاعتل بأن عثمان قتل مظلوما وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك، ويلتمس من علي أن يمكنه منهم، ثم يبايع له بعد ذلك، وعلي يقول ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلى أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج علي في أهل العراق طالبا قتال أهل الشام فخرج معاوية في أهل الشام قاصدا إلى قتاله، فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهما أشهرا، وكاد أهل الشام أن ينكسروا فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممن كان مع علي وخصوصا القراء القتال بسبب ذلك تدينا، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم‏)‏ الآية، فراسلوا أهل الشام في ذلك فقالوا ابعثوا حكما منكم وحكما منا ويحضر معهما من لم يباشر القتال فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب علي ومن معه إلى ذلك وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام‏:‏ هذا ما قضى عليه أمير المؤمنين على معاوية فامتنع أهل الشام من ذلك وقالوا اكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك فأنكره عليه الخوارج أيضا‏.‏

ثم انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان ومن معهما بعد مدة عينوها في مكان وسط بين الشام والعراق، ويرجع العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلى الشام، ورجع علي إلى الكوفة، ففارقه الخوارج وهم ثمانية آلاف وقيل كانوا أكثر من عشرة آلاف وقيل ستة آلاف، ونزلوا مكانا يقال له حروراء بفتح المهملة وراءين الأولى مضمومة، ومن ثم قيل لهم الحرورية وكان كبيرهم عبد الله ابن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد اليشكري، وشبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة التميمي فأرسل إليهم علي ابن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم علي، فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة معهم رئيساهم المذكوران، ثم أشاعوا أن عليا تاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك عليا فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد‏:‏ لا حكم إلا لله، فقال‏:‏ كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم‏:‏ لكم علينا ثلاثة‏:‏ أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا‏.‏

وخرجوا شيئا بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم في الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب، ثم راسلهم أيضا فأرادوا قتل رسوله، ثم اجتمعوا على أن من لا يعتقد معتقدهم بكفر ويباح دمه وماله وأهله، وانتقلوا إلى الفعل فاستعرضوا الناس فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت وكان واليا لعلي على بعض تلك البلاد ومعه سرية وهي حامل فقتلوه وبقروا في سريته عن ولد، فبلغ عليا فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام‏.‏

فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينج منهم إلا دون العشرة ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة، فهذا ملخص أول أمرهم، ثم انضم إلى من بقي منهم من مال إلى رأيهم فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان منهم عبد الرحمن ابن ملجم الذي قتل عليا بعد أن دخل علي في صلاة الصبح، ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له النجيلة ثم كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق طول مدة معاوية وولده يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق وولي الخلافة عبد الله بن الزبير وأطاعه أهل الأمصار إلا بعض أهل الشام ثار مروان فادعى الخلافة وغلب على جميع الشام إلى مصر، فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نجدة بن عامر وزاد نجدة على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم، وعظم البلاء بهم وتوسعوا في معتقدهم الفاسد فأبطلوا رجم المحصن وقطعوا يد السارق من الإبط وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرا، وإن لم يكن قادرا فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقا وفتكوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنهب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقا بغير دعوة منهم، ومنهم من يدعو أولا ثم يفتك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم فطاولهم حتى ظفر بهم وتقلل جمعهم، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب‏.‏

وقد صنف في أخبارهم أبو مخنف بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح النون بعدها فاء واسمه لوط بن يحيى كتابا لخصه الطبري في تاريخه وصنف في أخبارهم أيضا الهيثم بن عدي كتابا، ومحمد ابن قدامة الجوهري أحد شيوخ البخاري خارج الصحيح كتابا كبيرا، وجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه ‏"‏ الكامل ‏"‏ لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين قبله، قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ الخوارج صنفان أحدهما يزعم أن عثمان وعليا وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضي بالتحكيم كفار، والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدا‏.‏

وقال غيره‏:‏ بل الصنف الأول مفرع عن الصنف الثاني لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم‏.‏

وقال ابن حزم‏:‏ ذهب نجدة بن عامر من الخوارج إلى أن من أتى صغيرة عذب بغير النار، ومن أدمن على صغيرة فهو كمرتكب الكبيرة في التخليد في النار، وذكر أن منهم من غلا في معتقدهم الفاسد فأنكر الصلوات الخمس وقال‏:‏ الواجب صلاة بالغداة وصلاة بالعشي، ومنهم من جوز نكاح بنت الابن وبنت الأخ والأخت، ومنهم من أنكر أن تكون سورة يوسف من القرآن، وأن من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه‏.‏

وقال أبو منصور البغدادي في المقالات‏:‏ عدة فرق الخوارج عشرون فرقة‏.‏

وقال ابن حزم أسوءوهم حالا الغلاة المذكورون وأقربهم إلى قول أهل الحق الأباضية، وقد بقيت منهم بقية بالمغرب وقد وردت بما ذكرته من أصل حال الخوارج أخبار جياد‏:‏ منها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر وأخرجه الطبري من طريق يونس كلاهما عن الزهري قال‏:‏ لما نشر أهل الشام المصاحف بمشورة عمرو بن العاص حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم هاب أهل الشام ذلك إلى أن آل الأمر إلى التحكيم، ورجع كل إلى بلده إلى أن اجتمع الحكمان في العام المقبل بدومة الجندل وافترقا عن غير شيء، فلما رجعوا خالفت الحرورية عليا وقالوا لا حكم إلا لله‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي رزين قال‏:‏ لما وقع الرضا بالتحكيم ورجع علي إلى الكوفة اعتزلت الخوارج بحروراء فبعث لهم علي عبد الله بن عباس فناظرهم، فلما رجعوا جاء رجل إلى علي فقال‏:‏ إنهم يتحدثون أنك أقررت لهم بالكفر لرضاك بالتحكيم، فخطب وأنكر ذلك فتنادوا من جوانب المسجد لا حكم إلا لله‏.‏

ومن وجه آخر أن رءوسهم حينئذ الذين اجتمعوا بالنهروان عبد الله بن وهب الراسبي وزيد بن حصن الطائي وحرقوص بن زهير السعدي، فاتفقوا على تأمير عبد الله بن وهب، وسيأتي كثر من أسانيد ما أشرت إليه بعد في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى‏.‏

وقال الغزالي في ‏"‏ الوسيط ‏"‏ تبعا لغيره في حكم الخوارج وجهان‏:‏ أحدهما أنه كحكم أهل الردة، والثاني أنه كحكم أهل البغي، ورجح الرافعي الأول، وليس الذي قاله مطردا في كل خارجي فإنهم على قسمين‏:‏ أحدهما من تقدم ذكره، والثاني من خرج في طلب الملك لا للدعاء إلى معتقده، وهم على قسمين أيضا‏:‏ قسم خرجوا غضبا للدين من أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنة النبوية فهؤلاء أهل حق، ومنهم الحسن بن علي وأهل المدينة في الحرة والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وقسم خرجوا لطلب الملك فقط سواء كانت فيهم شبهة أم لا وهم البغاة‏.‏

وسيأتي بيان حكمهم في كتاب الفتن وبالله التوفيق‏.‏

قوله ‏(‏وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله إلخ‏)‏ وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج أنه سأل نافعا كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية‏؟‏ قال‏:‏ كان يراهم شرار خلق الله، انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين‏.‏

قلت‏:‏ وسنده صحيح، وقد ثبت في الحديث الصحيح المرفوع عند مسلم من حديث أبي ذر في وصف الخوارج ‏"‏ هم شرار الخلق والخليقة ‏"‏ وعند أحمد بسند جيد عن أنس مرفوعا مثله، وعند البزار من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت ‏"‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج فقال‏:‏ هم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي ‏"‏ وسنده حسن وعند الطبراني من هذا الوجه مرفوعا هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وفي حديث أبي سعيد عند أحمد ‏"‏ هم شر البرية ‏"‏ وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع عن علي عند مسلم ‏"‏ من أبغض خلق الله إليه ‏"‏ وفي حديث عبد الله بن خباب يعني عن أبيه عند الطبراني ‏"‏ شر قتلى أظلتهم السماء وأقلتهم الأرض ‏"‏ وفي حديث أبي أمامة نحوه، وعند أحمد وابن أبي شيبة من حديث أبي برزة مرفوعا في ذكر الخوارج ‏"‏ شر الخلق والخليقة يقولها ثلاثا ‏"‏ وعند ابن أبي شيبة من طريق عمير بن إسحاق عن أبي هريرة ‏"‏ هم شر الخلق ‏"‏ وهذا مما يؤيد قول من قال بكفرهم‏.‏

ثم ذكر البخاري في الباب ثلاثة أحاديث‏:‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا خَيْثَمَةُ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَوَاللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خِدْعَةٌ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا خيثمة‏)‏ بفتح الخاء المعجمة والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة هو ابن عبد الرحمن بن أبي سبرة بفتح المهملة وسكون الموحدة الجعفي، لأبيه ولجده صحبة، ووقع في رواية سهل ابن بجر عن عمر بن حفص بهذا السند حدثني بالإفراد أخرجه أبو نعيم ولم يصرح بالتحديث فيه إلا حفص بن غياث، فقد أخرجه مسلم من رواية وكيع وعيسى بن يونس والثوري وجرير وأبي معاوية، وتقدم في علامات النبوة وفضائل القرآن من رواية سفيان الثوري، وهو عند أبي داود والنسائي من رواية الثوري أيضا، وعند أبي عوانة من رواية يعلى بن عبيد، وعند الطبري أيضا من رواية يحيى بن عيسى الرملي وعلي بن هشام كلهم عن الأعمش بالعنعنة، وذكر الإسماعيلي أن عيسى بن يونس زاد فيه رجلا فقال عن الأعمش حدثني عمرو بن مرة عن خيثمة‏.‏

قلت‏:‏ لم أر في رواية عيسى عند مسلم ذكر عمرو بن مرة وهو من المزيد في متصل الأسانيد، لأن أبا معاوية هو الميزان في حديث الأعمش‏.‏

قوله ‏(‏سويد بن غفلة‏)‏ بفتح المعجمة والفاء مخضرم من كبار التابعين، وقد قيل إن له صحبة، وتقدم بيان ذلك في أواخر فضائل القرآن‏.‏

قوله ‏(‏قال علي‏)‏ هو على حذف ‏"‏ قال ‏"‏ وهو كثير في الخط والأولى أن ينطق به، وقد مضى في آخر فضائل القرآن من رواية الثوري عن الأعمش بهذا السند قال‏:‏ ‏"‏ قال علي ‏"‏ وعند النسائي من هذا الوجه عن علي، قال الدار قطني‏:‏ لم يصح لسويد بن غفلة عن علي مرفوع إلا هذا‏.‏

قلت‏:‏ وماله في الكتب الستة ولا عند أحمد غيره، وله في المستدرك من طريق الشعبي عنه قال‏:‏ ‏"‏ خطب علي بنت أبي جهل ‏"‏ أخرجه من طريق أحمد عن يحيى بن أبي زائدة عن زكريا عن الشعبي، وسنده جيد، لكنه مرسل لم يقل فيه ‏"‏ عن علي‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إذا حدثتكم‏)‏ في رواية يحيى بن عيسى سبب لهذا الكلام، فأول الحديث عنده عن سويد بن غفلة قال ‏"‏ كان علي يمر بالنهر وبالساقية فيقول‏:‏ صدق الله ورسوله ‏"‏ فقلنا يا أمير المؤمنين ما تزال تقول هذا قال إذا حدثتكم إلخ، وكان علي في حال المحاربة يقول ذلك، وإذا وقع له أمر يوهم أن عنده في ذلك أثرا، فخشي في هذه الكائنة أن يظنوا أن قصة ذي الثدية من ذلك القبيل فأوضح أن عنده في أمره نصا صريحا، وبين لهم أنه إذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكنى ولا يعرض ولا يوري، وإذا لم يحدث عنه فعل ذلك ليخدع بذلك من يحاربه، ولذلك استدل بقوله ‏"‏ الحرب خدعة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فوالله لأن أخر‏)‏ بكسر الخاء المعجمة أي أسقط‏.‏

قوله ‏(‏من السماء‏)‏ زاد أبو معاوية والثوري في روايتهما ‏"‏ إلى الأرض ‏"‏ أخرجه أحمد عنهما، وسقطت للمصنف في علامات النبوة ولم يسق مسلم لفظهما‏.‏

ووقع في رواية يحيى بن عيسى ‏"‏ أخر من السماء فتخطفني الطير أو تهوى بي الريح في مكان سحيق‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فيما بيني وبينكم‏)‏ في رواية يحيى بين عيسى ‏"‏ عن نفسي ‏"‏ وفي رواية الأعمش عن زيد بن وهب عن علي ‏"‏ قام فينا علي عند أصحاب النهر فقال‏:‏ ما سمعتموني أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثوا به، وما سمعتموني أحدث في غير ذلك ‏"‏ ويستفاد من هذه الرواية معرفة الوقت الذي حدث فيه علي بذلك والسبب أيضا‏.‏

قوله ‏(‏فإن الحرب خدعة‏)‏ في رواية يحيى بن عيسى ‏"‏ فإنما الحرب خدعة ‏"‏ وقد تقدم في كتاب الجهاد أن هذا أعنى ‏"‏ الحرب خدعة ‏"‏ حديث مرفوع، وتقدم ضبط خدعة هناك ومعناها، قوله ‏(‏سيخرج قوم في آخر الزمان‏)‏ كذا وقع في هذه الرواية وفي حديث أبي برزة عند النسائي ‏"‏ يخرج في آخر الزمان قوم ‏"‏ وهذا قد يخالف حديث أبي سعيد المذكور في الباب بعده، فإن مقتضاه أنهم خرجوا في خلافة علي، وكذا أكثر الأحاديث الواردة في أمرهم، وأجاب ابن التين بأن المراد زمان الصحابة وفيه نظر، لأن آخر زمان الصحابة كان على رأس المائة وهم قد خرجوا قبل ذلك بأكثر من ستين سنة، ويمكن الجمع بأن المراد بآخر الزمان زمان خلافة النبوة، فإن في حديث سفينة المخرج في السنن وصحيح ابن حبان وغيره مرفوعا ‏"‏ الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا ‏"‏ وكانت قصة الخوارج وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة علي سنة ثمان وعشرين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بدون الثلاثين بنحو سنتين‏.‏

قوله ‏(‏أحداث‏)‏ بمهملة ثم مثلثة جمع حدث بفتحتين والحدث هو الصغير السن هكذا في أكثر الروايات، ووقع هنا للمستملي والسرخسي حداث بضم أوله وتشديد الدال، قال في ‏"‏ المطالع ‏"‏ معناه شباب جمع حديث السن أو جمع حدث، قال ابن التين حداث جمع حديث مثل كرام جمع كريم وكبار جمع كبير، والحديث الجديد من كل شيء ويطلق على الصغير بهذا الاعتبار، وتقدم في التفسير حداث مثل هذا اللفظ لكنه هناك جمع على غير قياس، والمراد سمار يتحدثون قاله في النهاية، وتقدم في علامات النبوة بلفظ حدثاء بوزن سفهاء وهو جمع حديث كما تقدم تقريره، والأسنان جمع سن والمراد به العمر، والمراد أنهم شباب‏.‏

قوله ‏(‏سفهاء الأحلام‏)‏ جمع حلم بكسر أوله والمراد به العقل، والمعنى أن عقولهم رديئة‏.‏

وقال النووي‏:‏ يستفاد منه أن التثبت وقوة البصيرة تكون عند كمال السن وكثرة التجارب وقوة العقل‏.‏

قلت‏:‏ ولم يظهر لي وجه الأخذ منه فإن هذا معلوم بالعادة لا من خصوص كون هؤلاء كانوا بهذه الصفة‏.‏

قوله ‏(‏يقولون من خير قول البرية‏)‏ تقدم في علامات النبوة وفي آخر فضائل القرآن قول من قال إنه مقلوب وأن المراد من قول خير البرية وهو القرآن‏.‏

قلت‏:‏ ويحتمل أن يكون على ظاهره والمراد القول الحسن في الظاهر وباطنه على خلاف ذلك كقولهم ‏"‏ لا حكم إلا لله ‏"‏ في جواب علي كما سيأتي‏.‏

وقد وقع في رواية طارق بن زياد عند الطبري قال ‏"‏ خرجنا مع علي - فذكر الحديث وفيه يخرج قوم يتكلمون كلمة الحق لا تجاوز حلوقهم ‏"‏ وفي حديث أنس عن أبي سعيد عند أبي داود والطبراني ‏"‏ يحسنون القول ويسيئون الفعل ‏"‏ ونحوه في حديث عبد الله بن عمر وعند أحمد وفي حديث مسلم عن علي يقولون الحق لا يجاوز هذا وأشار إلى حلقه‏.‏

قوله ‏(‏لا يجاوز إيمانهم حناجرهم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ لا يجوز ‏"‏ والحناجر بالحاء المهملة والنون ثم الجيم جمع حنجرة بوزن قسورة وهي الحلقوم والبلعوم وكله يطلق على مجرى النفس وهو طرف المرئ مما يلي الفم، ووقع في رواية مسلم من رواية زيد بن وهب عن علي ‏"‏ لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ‏"‏ فكأنه أطلق الإيمان على الصلاة وله في حديث أبي ذر ‏"‏ لا يجاوز إيمانهم حلاقيمهم ‏"‏ والمراد أنهم يؤمنون بالنطق لا بالقلب‏.‏

وفي رواية عبيد الله بن أبي رافع عن علي عند مسلم ‏"‏ يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم وأشار إلى حلقه ‏"‏ وهذه المجاوزة غير المجاوزة الآتية في حديث أبي سعيد‏.‏

قوله ‏(‏يمرقون من الدين‏)‏ في رواية أبي إسحاق عن سويد بن غفلة عند النسائي والطبري ‏"‏ يمرقون من الإسلام ‏"‏ وكذا في حديث ابن عمر في الباب‏.‏

وفي رواية زيد بن وهب المشار إليها، وحديث أبي بكرة في الطبري وعند النسائي من رواية طارق بن زياد عن علي ‏"‏ يمرقون من الحق ‏"‏ وفيه تعقب على من فسر الدين هنا بالطاعة كما تقدمت الإشارة إليه في علامات النبوة‏.‏

قوله ‏(‏كما يمرق السهم من الرمية‏)‏ بفتح الراء وكسر الميم وتشديد التحتانية أي الشيء الذي يرمى به ويطلق على الطريدة من الوحش إذا رماها الرامي، وسيأتي في الباب الذي بعده‏.‏

قوله ‏(‏فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة‏)‏ في رواية زيد بن وهب ‏"‏ لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل ‏"‏ ولمسلم في رواية عبيدة بن عمرو عن علي ‏"‏ لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قال عبيدة قلت لعلي‏:‏ أنت سمعته‏؟‏ قال‏:‏ أي ورب الكعبة ثلاثا‏.‏

وله في رواية زيد بن وهب في قصة قتل الخوارج ‏"‏ أن عليا لما قتلهم قال صدق الله وبلغ رسوله، فقام إليه عبيدة فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ أي والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثا ‏"‏ قال النووي‏:‏ إنما استحلفه ليؤكد الأمر عند السامعين ولتظهر معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وأن عليا ومن معه على الحق‏.‏

قلت‏:‏ وليطمئن قلب المستحلف لإزالة توهم ما أشار إليه على أن الحرب خدعة فخشي أن يكون لم يسمع في ذلك شيئا منصوصا، وإلى ذلك يشير قول عائشة لعبد الله بن شداد في روايته المشار إليها حيث قالت له ‏"‏ ما قال علي حينئذ‏؟‏ قال سمعته يقول‏:‏ صدق الله ورسوله، قالت‏:‏ رحم الله عليا إنه كان لا يرى شيئا يعجبه إلا قال صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق فيكذبون عليه ويزيدونه‏"‏، فمن هذا أراد عبيدة بن عمرو والتثبت في هذه القصة بخصوصها وأن فيها نقلا منصوصا مرفوعا‏.‏

وأخرج أحمد نحو هذا الحديث عن علي وزاد في آخره ‏"‏ قتالهم حق على كل مسلم ‏"‏ ووقع سبب تحديث علي بهذا الحديث في رواية عبيد الله بن أبي رافع فيما أخرجه مسلم من رواية بشر بن سعيد عنه قال ‏"‏ إن الحرورية لما خرجت وهو مع علي قالوا‏:‏ لا حكم إلا لله تعالى، فقال علي‏:‏ كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء يقولون الحق بألسنتهم ولا يجاوز هذا منهم - وأشار بحلقه - من أبغض خلق الله إليه ‏"‏ الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَسَأَلَاهُ عَنْ الْحَرُورِيَّةِ أَسَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا أَدْرِي مَا الْحَرُورِيَّةُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنْ الدَّمِ شَيْءٌ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عبد الوهاب‏)‏ هو ابن عبد المجيد الثقفي، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، ومحمد بن إبراهيم هو التيمي، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق‏.‏

وهذا السياق كأنه لفظ عطاء بن يسار وأما لفظ أبي سلمة فتقدم منفردا في أواخر فضائل القرآن، ورواه الزهري عن أبي سلمة كما في الباب الذي بعده بسياق آخر، فلعل اللفظ المذكور هنا على سياق عطاء بن يسار المقرون به، وقد قرن الزهري مع أبي سلمة في روايته الماضية في الأدب الضحاك المشرقي لكنه أفرده هنا عن أبي سلمة فامتاز لفظه عن لفظ الضحاك‏.‏

قوله ‏(‏فسألاه عن الحرورية أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا للجميع بحذف المسموع، وقد بينه في رواية مسلم عن محمد بن المثنى شيخ البخاري فيه فقال يذكرها‏.‏

وفي رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة ‏"‏ قلت لأبي سعيد هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الحرورية ‏"‏ أخرجه ابن ماجه والطبري‏.‏

وأخرج الطبري من طريق الأسود بن العلاء عن أبي سلمة قال ‏"‏ جئنا أبا سعيد فقلنا ‏"‏ فذكر مثله ومن طريق أبي إسحاق مولى بني هاشم ‏"‏ أنه سأل أبا سعيد عن الحرورية‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال لا أدري ما الحرورية‏)‏ هذا يغاير قوله في أول حديث الباب الذي يليه ‏"‏ وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه ‏"‏ فإن مقتضى الأول أنه لا يدري هل ورد الحديث الذي ساقه في الحرورية أو لا، ومقتضى الثاني أنه ورد فيهم، ويمكن الجمع بأن مراده بالنفي هنا أنه لم يحفظ فيهم نصا بلفظ الحرورية وإنما سمع قصتهم التي دل وجود علامتهم في الحرورية بأنهم هم‏.‏

قوله ‏(‏يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها‏)‏ لم تختلف الطرق الصحيحة على أبي سعيد في ذلك فعند مسلم من رواية أبي نضرة عن أبي سعيد ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته ‏"‏ وله من وجه آخر ‏"‏ تمرق عند فرقة مارقة من المسلمين ‏"‏ وله من رواية الضحاك المشرقي عن أبي سعيد نحوه، وأما ما أخرجه الطبري من وجه آخر عن أبي سعيد بلفظ ‏"‏ من أمتي ‏"‏ فسنده ضعيف، لكن وقع عند مسلم من حديث أبي ذر بلفظ ‏"‏ سيكون بعدي من أمتي قوم ‏"‏ وله من طريق زيد بن وهب عن علي ‏"‏ يخرج قوم من أمتي ‏"‏ ويجمع بينه وبين حديث أبي سعيد بأن المراد بالأمة في حديث أبي سعيد أمة الإجابة وفي رواية غيره أمة الدعوة، قال النووي‏:‏ وفيه دلالة على فقه الصحابة وتحريرهم الألفاظ، وفيه إشارة من أبي سعيد إلى تكفير الخوارج وأنهم من غير هذه الأمة‏.‏

قوله ‏(‏تحقرون‏)‏ بفتح أوله أي تستقلون‏.‏

قوله ‏(‏صلاتكم مع صلاتهم‏)‏ زاد في رواية الزهري عن أبي سلمة كما في الباب بعده ‏"‏ وصيامكم مع صيامهم ‏"‏ وفي رواية عاصم بن شميخ عن أبي سعيد ‏"‏ تحقرون أعمالكم مع أعمالهم ‏"‏ ووصف عاصم أصحاب نجدة الحروري بأنهم ‏"‏ يصومون النهار ويقومون الليل ويأخذون الصدقات على السنة ‏"‏ أخرجه الطبري، ومثله عنده من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة‏.‏

وفي رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنده ‏"‏ يتعبدون يحقر أحدكم صلاته وصيامه مع صلاتهم وصيامهم ‏"‏ ومثله من رواية أنس عن أبي سعيد، وزاد في رواية الأسود بن العلاء عن أبي سلمة ‏"‏ وأعمالكم مع أعمالهم ‏"‏ وفي رواية سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب عن علي ‏"‏ ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئا ولا صلاتكم إلى صلاتهم شيئا ‏"‏ أخرجه مسلم والطبري، وعنده من طريق سليمان التيمي عن أنس ‏"‏ ذكر لي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن فيكم قوما يدأبون ويعملون حتى يعجبوا الناس وتعجبهم أنفسهم ‏"‏ ومن طريق حفص بن أخي أنس عن عمه بلفظ ‏"‏ يتعمقون في الدين ‏"‏ وفي حديث ابن عباس عند الطبراني في قصة مناظرته للخوارج قال ‏"‏ فأتيتهم فدخلت على قوما لم أر أشد اجتهادا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوهم معلمة من آثار السجود ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه ‏"‏ ذكر عنده الخوارج واجتهادهم في العبادة فقال‏:‏ ليبسوا أشد اجتهادا من الرهبان‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية‏)‏ بكسر الميم وتشديد التحتانية فعيلة بمعنى مفعولة فأدخلت فيها الهاء وإن كان فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث للإشارة لنقلها من الوصفية إلى الاسمية، وقيل إن شرط استواء المذكر والمؤنث أن يكون الموصوف مذكورا معه، وقيل شرطه سقوط الهاء من مؤنث قبل وقوع الوصف، تقول خذ ذبيحتك أي الشاة التي تريد ذبحها فإذا ذبحتها قيل لها حينئذ ذبيح‏.‏

قوله ‏(‏فلينظر الرامي إلى سهمه‏)‏ يأتي بيانه في الباب الذي بعده، وقوله ‏"‏إلى نصله ‏"‏ هو بدل من قوله سهمه أي ينظر إليه جملة ثم تفصيلا، وقد وقع في رواية أبي ضمرة عن يحيى بن سعيد عند الطبري ‏"‏ ينظر إلى سهمه فلا يرى شيئا ثم ينظر إلى نصله ثم إلى رصافه ‏"‏ وسيأتي بأبسط من هذا في الباب الذي يليه، وقوله ‏"‏فيتمارى ‏"‏ أي يتشكك هل بقي فيها شيء من الدم، والفوقة موضع الوتر من السهم، قال ابن الأنباري الفوق يذكر ويؤنث وقد يقال فوقة بالهاء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَذَكَرَ الْحَرُورِيَّةَ فَقَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عمر‏)‏ في رواية غير أبي ذر ‏"‏ حدثني ‏"‏ بالإفراد كذا للجميع عمر غير منسوب، لكن ذكر أبو علي الجياني عن الأصيلي قال قرأه علينا أبو زيد في عرضه ببغداد ‏"‏ عمر بن محمد ‏"‏ ونسبه الإسماعيلي في روايته من طريق أحمد بن عيسى عن ابن وهب ‏"‏ أخبرني عمر بن محمد بن زيد العمري‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ وزيد هو ابن عبد الله بن عمر، وقد تقدم في التفسير بهذا السند حديث في تفسير لقمان عن يحيى بن سليمان عن ابن وهب ‏"‏ حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ‏"‏ ووقع في حديث الباب منسوبا هكذا إلى عمر بن الخطاب في رواية الطبري عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب‏.‏

قوله ‏(‏عن عبد الله بن عمر وذكر الحرورية‏)‏ هي جملة حالية، والمراد أنه حدث بالحديث عند ذكر الحرورية، وفي إيراد البخاري له عقب حديث أبي سعيد إشارة إلى أن توقف أبي سعيد المذكور محمول على ما أشرت إليه من أنه لم ينص في الحديث المرفوع على تسميتهم بخصوص هذا الاسم لا أن الحديث لم يرد فيهم‏.‏