فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب كَرَاهِيَةِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحَدِّ إِذَا رُفِعَ إِلَى السُّلْطَانِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان‏)‏ كذا قيد ما أطلقه في حديث الباب ‏"‏ أتشفع في حد من حدود الله‏)‏ وليس القيد صريحا فيه، وكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه صريحا، وهو في مرسل حبيب بن أبي ثابت الذي أشرت إليه وفيه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة لما شفع فيها‏:‏ لا تشفع في حد فإن الحدود إذا انتهت إلي فليس لها مترك ‏"‏ وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه ‏"‏ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب ‏"‏ ترجم له أبو داود ‏"‏ العفو عن الحد ما لم يبلغ السلطان ‏"‏ وصححه الحاكم وسنده إلى عمرو بن شعيب صحيح‏.‏

وأخرج أبو داود أيضا وأحمد وصححه الحاكم من طريق يحيى بن راشد قال خرج علينا ابن عمر فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ‏"‏ وأخرجه ابن أي شيبة من وجه آخر أصح منه عن ابن عمر موقوفا، وللمرفوع شاهد من حديث أبي هريرة في الأوسط للطبراني وقال‏:‏ ‏"‏ فقد ضاد الله في ملكه ‏"‏ وأخرج أبو يعلي من طريق أبي المحياة عن أبي مطر‏:‏ رأيت عليا أتى بسارق فذكر قصة فيها ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق ‏"‏ فذكر قصة فيها ‏"‏ قالوا يا رسول الله أفلا عفوت‏؟‏ قال ذلك سلطان سوء الذي يعفو عن الحدود بينكم ‏"‏ وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قال‏:‏ ‏"‏ لقي الزبير سارقا فشفع فيه، فقيل له حتى يبلغ الإمام فقال إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع ‏"‏ وأخرج الموطأ عن ربيعة عن الزبير نحوه وهو منقطع مع وقفه، وهو عند ابن أبي شيبة بسند حسن عن الزبير موقوفا وبسند آخر حسن عن علي نحوه كذلك، وبسند صحيح عن عكرمة أن ابن عباس وعمارا والزبير أخذوا سارقا فخلوا سبيله فقلت لابن عباس‏:‏ بئسما صنعتم حين خليتم سبيله، فقال‏:‏ لا أم لك أما لو كنت أنت لسرك أن يخلي سبيلك‏.‏

وأخرجه الدار قطني من حديث الزبير موصولا مرفوعا بلفظ ‏"‏ اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي فإذا وصل الوالي فعفا فلا عفا الله عنه ‏"‏ والموقوف هو المعتمد، وفي الباب غير ذلك حديث صفوان بن أمية عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في قصة الذي سرق رداؤه ثم أراد أن لا يقطع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ هل لا قبل أن تأتيني به ‏"‏ وحدث ابن مسعود في قصة الذي سرق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه فرأوا منه أسفا عليه فقالوا‏:‏ يا رسول الله كأنك كرهت قطعه، فقال‏:‏ ‏"‏ وما يمنعني‏؟‏ لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم، أنه ينبغي للإمام إذا أنهى إليه حد أن يقيمه، والله عفو يحب العفو ‏"‏ وفي الحديث قصة مرفوعة‏.‏

وأخرج موقوفا أخرجه أحمد وصححه الحاكم وحديث عائشة مرفوعا ‏"‏ أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم إلا في الحدود ‏"‏ أخرجه أبو داود‏.‏

ويستفاد منه جواز الشفاعة فيما يقتضي التعزير‏.‏

وقد نقل ابن عبد البر وغيره فيه الاتفاق، ويدخل فيه سائر الأحاديث الواردة في ندب الستر على المسلم، وهي محمولة على ما لم يبلغ الإمام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمْ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن عائشة‏)‏ كذا قال الحفاظ من أصحاب ابن شهاب عن عروة، وشذ عمر بن قيس الماصر بكسر المهملة فقال‏:‏ ‏"‏ ابن شهاب عن عروة عن أم سلمة ‏"‏ فذكر حديث الباب سواء أخرجه أبو الشيخ في كتاب السرقة والطبراني وقال‏:‏ تفرد به عمر بن قيس، يعني من حديث أم سلمة‏.‏

قال الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏‏:‏ الصواب رواية الجماعة‏.‏

قوله ‏(‏أن قريشا‏)‏ أي القبيلة المشهورة، وقد تقدم بيان المراد بقريش الذي انتسبوا إليه في المناقب وأن الأكثر أنه فهر بن مالك، والمراد بهم هنا من أدرك القصة التي تذكر بمكة‏.‏

قوله ‏(‏أهمتهم المرأة‏)‏ أي أجلبت إليهم هما أو صيرتهم ذوي هم بسبب ما وقع منها، يقال أهمني الأمر أي أقلقني، ومضى في المناقب من رواية قتيبة عن الليث بهذا السند ‏"‏ أهمهم شأن المرأة ‏"‏ أي أمرها المتعلق بالسرقة وقد وقع في رواية مسعود بن الأسود الآتي التنبيه عليها ‏"‏ لما سرقت تلك المرأة أعظمنا ذلك فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ومسعود المذكور من بطن آخر من قريش، وهو من بني عدي بن كعب رهط عمر‏.‏

وسبب إعظامهم ذلك خشية أن تقطع يدها لعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرخص في الحدود، وكان قطع السارق معلوما عندهم قبل الإسلام، ونزل القرآن بقطع السارق فاستمر الحال فيه، وقد عقد ابن الكلبي بابا لمن قطع في الجاهلية بسبب السرقة فذكر قصة الذين سرقوا غزال الكعبة فقطعوا في عهد عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر من قطع في السرقة عوف بن عبد بن عمرو بن مخزوم ومقيس ابن قيس بن عدي بن سعد بن سهم وغيرهما وأن عوفا السابق لذلك‏.‏

قوله ‏(‏المخزومية‏)‏ نسبة إلى مخزوم بن يقظة بفتح التحتانية والقاف بعدها ظاء معجمة مشالة ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، ومخزوم أخو كلاب بن مرة الذي نسب إليه بنو عبد مناف‏.‏

ووقع في رواية إسماعيل بن أمية عن محمد بن مسلم وهو الذي عند النسائي ‏"‏ سرقت امرأة من قريش من بني مخزوم ‏"‏ واسم المرأة على الصحيح فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وهي بنت أخي أبي سلمة ابن عبد الأسد الصحابي الجليل الذي كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، قتل أبوها كافرا يوم بدر قتله حمزة بن عبد المطلب، ووهم من زعم أن له صحبة‏.‏

وقيل هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد وهي بنت عم المذكورة أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج قال‏:‏ ‏"‏ أخبرني بشر بن تيم أنها أم عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وهذا معضل، ووقع مع ذلك في سياقه أنه قاله ‏"‏ عن ظن وحسبان ‏"‏ وهو غلط ممن قاله لأن قصتها مغايرة للقصة المذكورة في هذا الحديث كما سأوضحه‏.‏

قال ابن عبد البر في ‏"‏ الاستيعاب ‏"‏‏:‏ فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد هي التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها لأنها سرقت حليا فكلمت قريش أسامة فشفع فيها وهو غلام‏.‏

الحديث‏.‏

قلت‏:‏ وقد ساق ذلك ابن سعد في ترجمتها في الطبقات من طريق الأجلح بن عبد الله الكندي عن حبيب بن أبي ثابت رفعه ‏"‏ أن فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد سرقت حليا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشفعوا ‏"‏ الحديث‏.‏

وأورد عبد الغني بن سعيد المصري في ‏"‏ المبهمات ‏"‏ من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل عن عمار الدهني عن شقيق قال‏:‏ ‏"‏ سرقت فاطمة بنت أبي أسد بنت أخي أبي سلمة، فأشفقت قريش أن يقطعها النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحديث‏.‏

والطريق الأولى أقوى، ويمكن أن يقال‏:‏ لا منافاة بين قوله بنت الأسود وبنت أبي الأسود لاحتمال أن تكون كنية الأسود أبا الأسود، وأما قصة أم عمرو فذكرها ابن سعد أيضا وابن الكلبي في المثالب وتبعه الهيثم بن عدي فذكروا أنها خرجت ليلا فوقعت بركب نزول فأخذت عيبة لهم فأخذها القوم فأوثقوها، فلما أصبحوا أتوا بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بحقوي أم سلمة، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت، وأنشدوا في ذلك شعرا قاله خنيس بن يعلي بن أمية‏.‏

وفي رواية ابن سعد أن ذلك كان في حجة الوداع، وقد تقدم في الشهادات وفي غزوة الفتح أن قصة فاطمة بنت الأسود كانت عام الفتح، فظهر تغاير القصتين وأن بينهما أكثر من سنتين، ويظهر في ذلك خطأ من اقتصر على أنها أم عمرو كابن الجوزي، ومن رددها بين فاطمة وأم عمرو كابن طاهر وابن بشكوال ومن تبعهما فلله الحمد‏.‏

وقد تقلد ابن حزم ما قاله بشر بن تيم لكنه جعل قصة أم عمرو بنت سفيان في جحد العارية وقصة فاطمة في السرقة، وهو غلط أيضا لوقوع التصريح في قصة أم عمرو بأنها سرقت‏.‏

قوله ‏(‏التي سرقت‏)‏ زاد يونس في روايته ‏"‏ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ‏"‏ ووقع بيان المسروق في حديث مسعود بن أبي الأسود المعروف بابن العجماء‏.‏

فأخرج ابن ماجه وصححه الحاكم من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن طلحة بن ركانة عن أمه عائشة بنت مسعود بن الأسود عن أبيها قال‏:‏ ‏"‏ لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا ذلك، فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمه ‏"‏ وسنده حسن، وقد صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث في رواية الحاكم، وكذا علقه أبو داود فقال‏:‏ ‏"‏ روى مسعود بن الأسود ‏"‏ وقال الترمذي بعد حديث عائشة المذكور هنا ‏"‏ وفي الباب عن مسعود بن العجماء ‏"‏ وقد أخرجه أبو الشيخ في ‏"‏ كتاب السرقة ‏"‏ من طريق يزيد بن أبي حبيب عن محمد ابن طلحة فقال‏:‏ ‏"‏ عن خالته بنت مسعود بن العجماء عن أبيها ‏"‏ فيحتمل أن يكون محمد بن طلحة سمعه من أمه ومن خالته، ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت الذي أشرت إليه أنها سرقت حليا، ويمكن الجمع بأن الحلي كان في القطيفة فالذي ذكر القطيفة أراد بما فيها، والذي ذكر الحلي ذكر المظروف دون الظرف‏.‏

ثم رجح عندي أن ذكر الحلي في قصة هذه المرأة وهم كما سأبينه، ووقع في مرسل الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب فيما أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أن الحسن أخبره قال‏:‏ سرقت امرأة، قال عمرو‏:‏ وحسبت أنه قال‏:‏ ‏"‏ من ثياب الكعبة ‏"‏ الحديث، وسنده إلى الحسن صحيح فإن أمكن الجمع وإلا فالأول أقوى‏.‏

وقد وقع في رواية معمر عن الزهري في هذا الحديث ‏"‏ أن المرأة المذكورة كانت تستعير المتاع وتجحده ‏"‏ أخرجه مسلم وأبو داود، وأخرجه النسائي من رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري بلفظ ‏"‏ استعارت امرأة على ألسنة ناس يعرفون وهي لا تعرف حليا فباعته وأخذت ثمنه ‏"‏ الحديث وقد بينه أبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فيما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح إليه ‏"‏ أن امرأة جاءت امرأة فقالت‏:‏ إن فلانة تستعيرك حليا فأعارتها إياه، فمكثت لا تراه، فجاءت إلى التي استعارت لها فسألتها فقالت‏:‏ ما استعرتك شيئا، فرجعت إلى الأخرى فأنكرت فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاها فسألها فقالت‏:‏ والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا فقال‏:‏ اذهبوا إلى بيتها تجدوه تحت فراشها‏.‏

فأتوه فأخذوه، وأمر بها فقطعت ‏"‏ الحديث فيحتمل أن تكون سرقت القطيفة وجحدت الحلي، وأطلق عليها في جحد الحلي في رواية حبيب بن أبي ثابت سرقت مجازا‏.‏

قال شيخنا في ‏"‏ شرح الترمذي ‏"‏ اختلف على الزهري‏:‏ فقال الليث ويونس وإسماعيل بن أمية وإسحاق بن راشد سرقت‏.‏

وقال معمر وشعيب إنها استعارت وجحدت، قال ورواه سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن الزهري فاختلف عليه سندا ومتنا‏:‏ فرواه البخاري - يعني كما تقدم في الشهادات - عن علي بن المديني عن ابن عيينة قال‏:‏ ذهبت أسأل الزهري عن حديث المخزومية فصاح علي، فقلت لسفيان‏:‏ فلم يحفظه عن أحد قال‏:‏ وجدت في كتاب كتبه أيوب بن موسى عن الزهري وقال فيه إنها سرقت، وهكذا قال محمد بن منصور عن ابن عيينة إنها سرقت أخرجه النسائي عنه، وعن رزق الله بن موسى عن سفيان كذلك لكن قال‏:‏ ‏"‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه ‏"‏ فذكره مختصرا، ومثله لأبي يعلى عن محمد بن عباد عن سفيان، وأخرجه أحمد عن سفيان كذلك لكن في آخره ‏"‏ قال سفيان لا أدري ما هو‏)‏ وأخرجه النسائي أيضا عن إسحاق بن راهويه عن سفيان عن الزهري بلفظ ‏"‏ كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده ‏"‏ الحديث وقال في آخره ‏"‏ قيل لسفيان من ذكره‏؟‏ قال أيوب بن موسى ‏"‏ فذكره بسنده المذكور، وأخرجه من طريق ابن أبي زائدة عن ابن عيينة عن الزهري بغير واسطة وقال فيه ‏"‏ سرقت ‏"‏ قال شيخنا‏:‏ وابن عيينة لم يسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري إنما وجده في كتاب أيوب بن موسى ولم يصرح بسماعه من أيوب بن موسى ولهذا قال في رواية أحمد ‏"‏ لا أدري كيف هو ‏"‏ كما تقدم، وجزم جماعة بأن معتمرا تفرد عن الزهري بقوله‏:‏ ‏"‏ استعارت وجحدت ‏"‏ وليس كذلك بل تابعه شعيب كما ذكره شيخنا عند النسائي، ويونس كما أخرجه أبو داود من رواية أبي صالح كاتب الليث عن الليث عنه، وعلقه البخاري لليث عن يونس لكن لم يسق لفظه كما نبهت عليه وكذا ذكر البيهقي أن شبيب بن سعيد رواه عن يونس، وكذلك رواه ابن أخي الزهري عن الزهري أخرجه ابن أيمن في مصنفه عن إسماعيل القاضي بسنده إليه‏.‏

وأخرج أصله أبو عوانة في صحيحه، والذي اتضح لي أن الحديثين محفوظان عن الزهري وأنه كان يحدث تارة بهذا وتارة بهذا، فحدث يونس عنه بالحديثين، واقتصرت كل طائفة من أصحاب الزهري غير يونس على أحد الحديثين، فقد أخرج أبو داود والنسائي وأبو عوانة في صحيحه من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر ‏"‏ أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها ‏"‏ وأخرجه النسائي وأبو عوانة أيضا من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ ‏"‏ استعارت حليا ‏"‏ وقد اختلف نظر العلماء في ذلك فأخذ بظاهره أحمد في أشهر الروايتين عنه وإسحاق وانتصر له ابن حزم من الظاهرية، وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع في جحد العارية وهي رواية عن أحمد أيضا، وأجابوا عن الحديث بأن رواية من روى ‏"‏ سرقت ‏"‏ أرجح، وبالجمع بين الروايتين بضرب من التأويل فأما الترجيح فنقل النووي أن رواية معمر شاذة مخالفة لجماهير الرواة، قال‏:‏ والشاذة لا يعمل بها‏.‏

وقال ابن المنذر في الحاشية وتبعه المحب الطبري‏:‏ قيل إن معمرا انفرد بها‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ رواية أنها سرقت أكثر وأشهر من رواية الجحد، فقد انفرد بها معمر وحده من بين الأئمة الحفاظ، وتابعه على ذلك من لا يقتدى بحفظه كابن أخي الزهري ونمطه‏.‏

هذا قول المحدثين‏.‏

قلت سبقه لبعضه القاضي عياض، وهو يشعر بأنه لم يقف على روايته شعيب ويونس بموافقة معمر إذ لو وقف عليها لم يجزم بتفرد معمر وأن من وافقه كابن أخي الزهري ونمطه ولا زاد القرطبي نسبة ذلك للمحدثين إذ لا يعرف عن أحد من المحدثين أنه قرن شعيب بن أبي حمزة ويونس بن يزيد وأيوب بن موسى بابن أخي الزهري بل هم متفقون على أن شعيبا ويونس أرفع درجة في حديث الزهري من ابن أخيه، ومع ذلك فليس في هذا الاختلاف عن الزهري ترجيح بالنسبة إلى اختلاف الرواة عنه إلا لكون رواية ‏"‏ سرقت ‏"‏ متفقا عليها ورواية ‏"‏ جحدت ‏"‏ انفرد بها مسلم، وهذا لا يدفع تقديم الجمع إذا أمكن بين الروايتين، وقد جاء عن بعض المحدثين عكس كلام القرطبي فقال‏:‏ لم يختلف على معمر ولا على شعيب وهما في غاية الجلالة في الزهري، وقد وافقهما ابن أخي الزهري، وأما الليث ويونس وإن كانا في الزهري كذلك فقد اختلف عليهما فيه، وأما إسماعيل بن أمية وإسحاق بن راشد فدون معمر وشعيب في الحفظ قلت‏:‏ وكذا اختلف على أيوب بن موسى كما تقدم، وعلى هذا فيتعادل الطريقان ويتعين الجمع فهو أولى من إطراح أحد الطريقين، فقال بعضهم كما تقدم عن ابن حزم وغيره‏:‏ هما قصتان مختلفتان لامرأتين مختلفتين، وتعقب بأن في كل من الطريقين أنهم استشفعوا بأسامة وأنه شفع وأنه قيل له‏:‏ ‏"‏ لا تشفع في حد من حدود الله ‏"‏ فيبعد أن أسامة يسمع النهي المؤكد عن ذلك ثم يعود إلى ذلك مرة أخرى ولا سيما أن اتحد زمن القصتين، وأجاب ابن حزم بأنه يجوز أن ينسى ويجوز أن يكون الزجر عن الشفاعة في حد السرقة تقدم فظن أن الشفاعة في جحد العارية جائز وأن لا حد فيه فشفع فأجيب بأن فيه الحد أيضا، ولا يخفى ضعف الاحتمالين‏.‏

وحكى ابن المنذر عن بعض العلماء أن القصة لامرأة واحدة استعارت وجحدت وسرقت فقطعت للسرقة لا للعارية، قال‏:‏ وبذلك نقول وقال الخطابي في ‏"‏ معالم السنن ‏"‏ بعد أن حكى الخلاف وأشار إلى ما حكاه ابن المنذر‏:‏ وإنما ذكرت العارية والجحد في هذه القصة تعريفا لها بخاص صفتها إذ كانت تكثر ذلك كما عرفت بأنها مخزومية، وكأنها لما كثر منها ذلك ترقت إلى السرقة وتجرأت عليها‏.‏

وتلقف هذا الجواب من الخطابي جماعة منهم البيهقي فقال‏:‏ تحمل رواية من ذكر جحد الجارية على تعريفها بذلك والقطع على السرقة‏.‏

وقال المنذري نحوه، ونقله المازري ثم النووي عن العلماء‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ يترجح أن يدها قطعت على السرقة لا لأجل جحد العارية من أوجه‏:‏ أحدها قوله في آخر الحديث الذي ذكرت فيه العارية ‏"‏ لو أن فاطمة سرقت ‏"‏ فإن فيه دلالة قاطعة على أن المرأة قطعت في السرقة، إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغيا، ولقال‏:‏ لو أن فاطمة جحدت العارية‏.‏

قلت‏:‏ وهذا قد أشار إليه الخطابي أيضا‏.‏

ثانيها لو كانت قطعت في جحد العارية لوجب قطع كل من جحد شيئا إذا ثبت عليه ولو لم يكن بطريق العارية‏.‏

ثالثها أنه عارض ذلك حديث ‏"‏ ليس على خائن ولا مختلس ولا منتهب قطع ‏"‏ وهو حديث قوي‏.‏

قلت‏:‏ أخرجه الأربعة وصححه أبو عوانة والترمذي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رفعه، وصرح ابن جريج في رواية للنسائي بقوله ‏"‏ أخبرني أبو الزبير ‏"‏ ووهم بعضهم هذه الرواية، فقد صرح أبو داود بأن ابن جريج لم يسمعه من أبي الزبير، قال‏:‏ وبلغني عن أحمد إنما سمعه ابن جريج من ياسين الزيات، ونقل ابن عدي في ‏"‏ الكامل ‏"‏ عن أهل المدينة أنهم قالوا‏:‏ لم يسمع ابن جريج من أبي الزبير‏.‏

وقال النسائي‏:‏ رواه الحفاظ من أصحاب ابن جريج عنه عن أبي الزبير فلم يقل أجد منهم أخبرني ولا أحسبه سمعه‏.‏

قلت‏:‏ لكن وجد له متابع عن أبي الزبير أخرجه النسائي أيضا من طريق المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير، لكن أبو الزبير مدلس أيضا وقد عنعنه عن جابر، لكن أخرجه ابن حبان من وجه آخر عن جابر بمتابعة أبي الزبير فقوي الحديث، وقد أجمعوا على العمل به إلا من شذ، فنقل ابن المنذر عن إياس بن معاوية أنه قال‏:‏ المختلس يقطع، كأنه ألحقه بالسارق لاشتراكهما في الأخذ خفية، ولكنه خلاف ما صرح به في الخبر، وإلا ما ذكر من قطع جاحد العارية، وأجمعوا على أن لا قطع على الخائن في غير ذلك ولا على المنتهب إلا إن كان قاطع طريق والله أعلم‏.‏

وعارضه غيره ممن خالف فقال ابن القيم الحنبلي‏:‏ لا تنافي بين جحد العارية وبين السرقة، فإن الجحد داخل في اسم السرقة فيجمع بين الروايتين بأن الذين قالوا سرقت أطلقوا على الجحد سرقة، كذا قال ولا يخفى بعده‏.‏

قال‏:‏ والذي أجاب به الخطابي مردود لأن الحكم المرتب على الوصف معمول به، ويقويه أن لفظ الحديث وترتيبه في إحدى الروايتين القطع على السرقة وفي الأخرى على الجحد على حد سواء، وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلمية، فكل من الروايتين دل على أن علة القطع كل من السرقة وجحد العارية على انفراده، ويؤيد ذلك أن سياق حديث ابن عمر ليس فيه ذكر للسرقة ولا للشفاعة من أسامة، وفيه التصريح بأنها قطعت في ذلك، وأبسط ما وجدت من طرقه ما أخرجه النسائي في رواية له ‏"‏ أن امرأة كانت تستعير الحلي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعارت من ذلك حليا فجمعته ثم أمسكته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لتتب امرأة إلى الله تعالى وتؤد ما عندها، مرارا‏.‏

فلم تفعل، فأمر بها فقطعت ‏"‏ وأخرج النسائي بسند صحيح من مرسل سعيد بن المسيب ‏"‏ أن امرأة من بني مخزوم استعارت حليا على لسان أناس فجحدت، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت ‏"‏ وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح أيضا إلى سعيد قال‏:‏ ‏"‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة في بيت عظيم من بيوت قريش قد أتت أناسا فقالت إن آل فلان يستعيرونكم كذا فأعاروها ثم أتوا أولئك فأنكروا، ثم أنكرت هي، فقطعها النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ صنيع صاحب ‏"‏ العمدة ‏"‏ حيث أورد الحديث بلفظ الليث ثم قال وفي لفظ فذكر لفظ معمر يقتضي أنها قصة واحدة واختلف فيها هل كانت سارقة أو جاحدة، يعني لأنه أورد حديث عائشة باللفظ الذي أخرجاه من طريق الليث ثم قال‏:‏ وفي لفظ كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، وهذه رواية معمر في مسلم فقط قال‏:‏ وعلى هذا فالحجة في هذا الخبر في قطع المستعير ضعيفة لأنه اختلاف في واقعة واحدة فلا يبت الحكم فيه بترجيح من روى أنها جاحدة على الرواية الأخرى، يعني وكذا عكسه فيصح أنها قطعت بسبب الأمرين، والقطع في السرقة متفق عليه فيترجح على القطع في الجحد المختلف فيه‏.‏

قلت‏:‏ وهذه أقوى الطرق في نظري، وقد تقدم الرد على من زعم أن القصة وقعت لامرأتين فقطعتا في أوائل الكلام على هذا الحديث، والإلزام الذي ذكره القرطبي في أنه لو ثبت القطع في جحد العارية للزم القطع في جحد غير العارية قوي أيضا، فإن من يقول بالقطع في جحد العارية لا يقول به في جحد غير العارية فيقاس المختلف فيه على المتفق عليه إذ لم يقل أحد بالقطع في الجحد على الإطلاق، وأجاب ابن القيم بأن الفرق بين جحد العارية وجحد غيرها أن السارق لا يمكن الاحتراز منه وكذلك جاحد العارية بخلاف المختلس من غير حرز والمنتهب، قال‏:‏ ولا شك أن الحاجة ماسة بين الناس إلى العارية، فلو علم المعير أن المستعير إذا جحد لا شيء عليه لجر ذلك إلى سد باب العارية وهو خلاف ما تدل عليه حكمة الشريعة، بخلاف ما إذا علم أنه يقطع فإن ذلك يكون أدعى إلى استمرار العارية‏.‏

وهي مناسبة لا تقوم بمجردها حجة إذا ثبت حديث جابر في أن لا قطع على خائن، وقد فر من هذا بعض من قال بذلك فخص القطع بمن استعار على لسان غيره مخادعا للمستعار منه ثم تصرف في العارية وأنكرها لما طولب بها، فإن هذا لا يقطع بمجرد الخيانة بل لمشاركته السارق في أخذ المال خفية‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ قول سفيان المتقدم‏:‏ ذهبت أسأل الزهري عن حديث المخزومية التي سرقت فصاح على مما يكثر السؤال عنه وعن سببه، وقد أوضح ذلك بعض الرواة عن سفيان، فرأينا في كتاب المحدث الفاضل لأبي محمد الرامهرمزي من طريق سليمان بن عبد العزيز أخبرني محمد بن إدريس قال‏:‏ قلت لسفيان بن عيينة كم سمعت من الزهري‏؟‏ قال‏:‏ أما مع الناس فما أحصى، وأما وحدي فحديث واحد، دخلت يوما من باب بني شيبة فإذا أنا به جالس إلى عمود فقلت‏:‏ يا أبا بكر حدثني حديث المخزومية التي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها، قال فضرب وجهي بالحصى ثم قال‏:‏ قم؛ فما يزال عبد يقدم علينا بما نكره، قال‏:‏ فقمت منكسرا، فمر رجل فدعاه فلم يسمع فرماه بالحصى فلم يبلغه فاضطر إلى فقال‏:‏ ادعه لي، فدعوته له فأتاه فقضى حاجته، فنظر إلي فقال‏:‏ تعال، فجئت فقال‏:‏ ‏"‏ أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ العجماء جبار ‏"‏ الحديث، ثم قال لي‏:‏ هذا خير لك من الذي أردت‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الحديث الأخير أخرجه مسلم والأربعة من طريق سفيان بدون القصة‏.‏

قوله ‏(‏فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي يشفع عنده فيها أن لا تقطع إما عفوا وإما بفداء، وقد وقع ما يدل على الثاني في حديث مسعود بن الأسود ولفظه بعد قوله أعظمنا ذلك ‏"‏ فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا‏:‏ نحن نفديها بأربعين أوقية، فقال‏:‏ تطهر خير لها ‏"‏ وكأنهم ظنوا أن الحد يسقط بالفدية كما ظن ذلك من أفتى والد العسيف الذي زنى بأنه يفتدي منه بمائة شاة ووليدة‏.‏

ووجدت لحديث مسعود هذا شاهدا عند أحمد من حديث عبد الله بن عمرو ‏"‏ أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قومها‏:‏ نحن نفديها‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏من يجترئ عليه‏)‏ بسكون الجيم وكسر الراء يفتعل الجرأة بضم الجيم وسكون الراء وفتح الهمزة، ويجوز فتح الجيم والراء مع المد‏.‏

ووقع في رواية قتيبة ‏"‏ فقالوا ومن يجترئ عليه ‏"‏ وهو أوضح لأن الذي استفهم بقوله‏:‏ ‏"‏ من يكلم ‏"‏ غير الذي أجاب بقوله ‏"‏ ومن يجترئ ‏"‏ والجرأة هي الإقدام بإدلال، والمعنى ما يجترئ عليه إلا أسامة‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ الواو عاطفة على محذوف تقديره لا يجترئ عليه أحد لمهابته، لكن أسامة له عليه إدلال فهو يجسر على ذلك‏.‏

ووقع في حديث مسعود بن الأسود بعد قوله تطهر خير لها ‏"‏ فلما سمعنا لين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أتينا أسامة ‏"‏ ووقع في رواية يونس الماضية في الفتح ‏"‏ ففزع قومها إلى أسامة ‏"‏ أي لجئوا وفي رواية أيوب بن موسى في الشهادات ‏"‏ فلم يجترئ أحد أن يكلمه إلا أسامة ‏"‏ وكان السبب في اختصاص أسامة بذلك ما أخرجه ابن سعد من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة‏:‏ لا تشفع في حد، وكان إذا شفع شفعه ‏"‏ بتشديد الفاء أي قبل شفاعته، وكذا وقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت ‏"‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفعه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏حب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ بكسر المهملة بمعنى محبوب مثل قسم بمعنى مقسوم، وفي ذلك تلميح بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم إني أحبه فأحبه ‏"‏ وقد تقدم في المناقب‏.‏

قوله ‏(‏فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ بالنصب‏.‏

وفي رواية قتيبة ‏"‏ فكلمه أسامة ‏"‏ وفي الكلام شيء مطوي تقديره فجاءوا إلى أسامة فكلموه في ذلك فجاء أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، ووقع في رواية يونس ‏"‏ فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها‏)‏ فأفادت هذه الرواية أن الشافع يشفع بحضرة المشفوع له ليكون أعذر له عنده إذا لم تقبل شفاعته‏.‏

وعند النسائي من رواية إسماعيل بن أمية ‏"‏ فكلمه فزبره ‏"‏ بفتح الزاي والموحدة أي أغلظ له في النهي حتى نسبه إلى الجهل، لأن الزبر بفتح ثم سكون هو العقل‏.‏

وفي رواية يونس ‏"‏ فكلمه فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ زاد شعيب عند النسائي ‏"‏ وهو يكلمه ‏"‏ وفي مرسل حبيب بن أبي ثابت ‏"‏ فلما أقبل أسامة ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا تكلمني يا أسامة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال‏:‏ أتشفع في حد من حدود الله‏)‏ بهمزة الاستفهام الإنكاري لأنه كان سبق له منع الشفاعة في الحد قبل ذلك، زاد يونس وشعيب ‏"‏ فقال أسامة‏:‏ استغفر لي يا رسول الله ‏"‏ ووقع في حديث جابر عند مسلم والنسائي ‏"‏ أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بأم سلمة ‏"‏ بذال معجمة أي استجارت أخرجاه من طريق معقل بن يسار عن عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر، وذكره أبو داود تعليقا، والحاكم موصولا من طريق موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر ‏"‏ فعاذت بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قال المنذري‏:‏ يجوز أن تكون عاذت بكل منهما، وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ماتت قبل هذه القصة لأن هذه القصة كما تقدم كانت في غزوة الفتح وهي في رمضان سنة ثمان وكان موت زينب قبل ذلك في جمادى الأولى من السنة فلعل المراد أنها عاذت بزينب ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت أم سلمة فتصحفت على بعض الرواة‏.‏

قلت‏:‏ أو نسبت زينب بنت أم سلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجازا لكونها ربيبته فلا يكون فيه تصحيف‏.‏

ثم قال شيخنا‏:‏ وقد أخرج أحمد هذا الحديث من طريق ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة وقال فيه‏:‏ ‏"‏ فعاذت بربيب النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ براء وموحدة مكسورة وحذف لفظ بنت‏.‏

وقال في آخره‏:‏ قال ابن أبي الزناد وكان ربيب النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة وعمر بن أبي سلمة فعاذت بأحدهما‏.‏

قلت‏:‏ وقد ظفرت بما يدل على أنه عمر بن أبي سلمة، فأخرج عبد الرزاق من مرسل الحسن بن محمد بن علي ‏"‏ قال سرقت امرأة - فذكر الحديث وفيه - فجاء عمر بن أبي سلمة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي أبه، إنها عمتي، فقال‏:‏ لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ‏"‏ قال عمرو بن دينار الراوي عن الحسن‏:‏ فلم أشك أنها بنت الأسود بن عبد الأسد‏.‏

قلت‏:‏ ولا منافاة بين الروايتين عن جابر، فإنه يحمل على أنها استجارت بأم سلمة بأولادها واختصها بذلك لأنها قريبتها وزوجها عمها، وإنما قال عمر بن أبي سلمة ‏"‏ عمتي ‏"‏ من جهة السن، وإلا فهي بنت عمه أخي أبيه، وهو كما قالت خديجة لورقة في قصة المبعث ‏"‏ أي عم اسمع من ابن أخيك ‏"‏ وهو ابن عمها أخي أبيها أيضا‏.‏

ووقع عند أبي الشيخ من طريق أشعث عن أبي الزبير عن جابر ‏"‏ أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فعاذت بأسامة ‏"‏ وكأنها جاءت مع قومها فكلموا أسامة بعد أن استجارت بأم سلمة، ووقع في مرسل حبيب بن أبي ثابت ‏"‏ فاستشفعوا على النبي صلى الله عليه وسلم بغير واحد فكلموا أسامة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ثم قام فخطب‏)‏ في رواية قتيبة ‏"‏ فاختطب ‏"‏ وفي رواية يونس ‏"‏ فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال يا أيها الناس‏)‏ في رواية قتيبة بحذف يا من أوله‏.‏

وفي رواية يونس فقام خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال‏:‏ ‏"‏ أما بعد‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إنما ضل من كان قبلكم‏)‏ في رواية أبي الوليد ‏"‏ هلك ‏"‏ وكذا لمحمد بن رمح عند مسلم‏.‏

وفي رواية‏.‏

سفيان عند النسائي ‏"‏ إنما هلك بنو إسرائيل ‏"‏ وفي رواية قتيبة ‏"‏ أهلك من كان قبلكم ‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ الظاهر أن هذا الحصر ليس عاما، فإن بني إسرائيل كان فيهم أمور كثيرة تقتضي الإهلاك، فيحمل ذلك على حصر مخصوص وهو الإهلاك بسبب المحاباة في الحدود فلا ينحصر ذلك في حد السرقة‏.‏

قلت‏:‏ يؤيد هذا الاحتمال ما أخرجه أبو الشيخ في ‏"‏ كتاب السرقة ‏"‏ من طريق زازان عن عائشة مرفوعا ‏"‏ أنهم عطلوا الحدود عن الأغنياء وأقاموها على الضعفاء ‏"‏ والأمور التي أشار إليها الشيخ سبق منها في ذكر بني إسرائيل حديث ابن عمر في قصة اليهوديين اللذين زنيا وسيأتي شرحه بعد هذا، وفي التفسير حديث ابن عباس في أخذ الدية من الشريف إذا قتل عمدا والقصاص من الضعيف وغير ذلك‏.‏

قوله ‏(‏إنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه‏)‏ في رواية قتيبة ‏"‏ إذا سرق فيهم الشريف ‏"‏ وفي رواية سفيان عند النسائي ‏"‏ حين كانوا إذا أصاب فيهم الشريف الحد تركوه ولم يقيموه عليه ‏"‏ وفي رواية إسماعيل بن أمية ‏"‏ وإذا سرق فيهم الوضيع قطعوه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وايم الله‏)‏ تقدم ضبطها في كتاب الأيمان والنذور، ووقع مثله في رواية إسحاق بن راشد، ووقع في رواية أبي الوليد ‏"‏ والذي نفسي بيده ‏"‏ وفي رواية يونس ‏"‏ والذي نفس محمد بيده‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏لو أن فاطمة بنت محمد سرقت‏)‏ هذا من الأمثلة التي صح فيها أن لو حرف امتناع لامتناع، وقد أتقن القول في ذلك صاحب المغني وسيأتي بسط ذلك في كتاب التمني إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد ذكر ابن ماجد عن محمد بن رمح شيخه في هذا الحديث ‏"‏ سمعت الليث يقول عقب هذا الحديث‏:‏ قد أعاذها الله من أن تسرق ‏"‏ وكل مسلم ينبغي له أن يقول هذا، ووقع للشافعي أنه لما ذكر هذا الحديث قال‏:‏ فذكر عضوا شريفا من امرأة شريفة واستحسنوا ذلك منه لما فيه من الأدب البالغ، وإنما خص صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته بالذكر لأنها أعز أهله عنده، ولأنه لم يبق من بناته حينئذ غيرها، فأراد المبالغة في إثبات إقامة الحد على كل مكلف وترك المحاباة في ذلك، ولأن اسم السارقة وافق اسمها عليها السلام فناسب أن يضرب المثل بها‏.‏

قوله ‏(‏لقطع محمد يدها‏)‏ في رواية أبي الوليد والأكثر ‏"‏ لقطعت يدها ‏"‏ وفي الأول تجريد، زاد يونس في روايته من رواية ابن المبارك عنه كما مضى في غزوة الفتح ‏"‏ ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها ‏"‏ ووقع في حديث ابن عمر في رواية للنسائي ‏"‏ قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها ‏"‏ وفي أخرى له ‏"‏ فأمر بها فقطعت ‏"‏ وفي حديث جابر عند الحاكم ‏"‏ فقطعها‏"‏‏.‏

وذكر أبو داود تعليقا عن محمد بن عبد الرحمن بن غنج عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد نحو حديث المخزومية وزاد فيه ‏"‏ قال فشهد عليها ‏"‏ وزاد يونس أيضا في روايته ‏"‏ قالت عائشة فحسنت توبتها بعد وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وأخرجه الإسماعيلي من طريق نعيم بن حماد عن ابن المبارك وفيه ‏"‏ قال عروة قالت عائشة ‏"‏ ووقع في رواية شعيب عند الإسماعيلي في الشهادات وفي رواية ابن أخي الزهري عند أبي عوانة كلاهما عن الزهري ‏"‏ قال وأخبرني القاسم بن محمد أن عائشة قالت‏:‏ فنكحت تلك المرأة رجلا من بني سليم وتابت وكانت حسنة التلبس وكانت تأتيني فأرفع حاجتها ‏"‏ الحديث وكأن هذه الزيادة كانت عند الزهري عن عروة وعن القاسم جميعا عن عائشة وعندهما زيادة على الآخر، وفي آخر حديث مسعود بن الحكم عند الحاكم ‏"‏ قال ابن إسحاق وحدثني عبد الله بن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد ذلك يرحمها ويصلها ‏"‏ وفي حديث عبد الله ابن عمرو عند أحمد أنها قالت ‏"‏ هل لي من توبة يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك ‏"‏ وفي هذا الحديث من الفوائد منع الشفاعة في الحدود، وقد تقدمت في الترجمة الدلالة على تقييد المنع بما إذا انتهى ذلك إلى أولي الأمر، واختلف العلماء في ذلك فقال أبو عمر بن عبد البر لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته‏.‏

وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف، فقال‏:‏ لا يشفع للأول مطلقا سواء بلغ الإمام أم لا، وأما من لم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام‏.‏

وتمسك بحديث الباب من أوجب إقامة الحد على القاذف إذا بلغ الإمام ولو عفا المقذوف، وهو قول الحنفية والثوري والأوزاعي‏.‏

وقال مالك والشافعي وأبو يوسف‏:‏ يجوز العفو مطلقا ويدرأ بذلك الحد لأن الإمام لو وجده بعد عفو المقذوف لجاز أن يقيم البينة بصدق القاذف فكانت تلك شبهة قوية‏.‏

وفيه دخول النساء مع الرجال في حد السرقة‏.‏

وفيه قبول توبة السارق، ومنقبة لأسامة‏.‏

وفيه ما يدل على أن فاطمة عليها السلام عند أبيها صلى الله عليه وسلم في أعظم المنازل فإن في القصة إشارة إلى أنها الغاية في ذلك عنده ذكره ابن هبيرة، وقد تقدمت مناسبة اختصاصها بالذكر دون غيرها من رجال أهله، ولا يؤخذ منه أنها أفضل من عائشة لأن من جملة ما تقدم من المناسبة كون اسم صاحبة القصة وافق اسمها ولا تنتفي المساواة‏.‏

وفيه ترك المحاباة في إقامة الحد على من وجب عليه ولو كان ولدا أو قريبا أو كبير القدر والتشديد في ذلك والإنكار على من رخص فيه أو تعرض للشفاعة فيمن وجب عليه‏.‏

وفيه جواز ضرب المثل بالكبير القدر للمبالغة في الزجر عن الفعل ومراتب ذلك مختلفة، ولا يحق ندب الاحتراز من ذلك حيث لا يترجح التصريح بحسب المقام كما تقدم نقله عن الليث والشافعي‏.‏

ويؤخذ منه جواز الإخبار عن أمر مقدر يفيد القطع بأمر محقق‏.‏

وفيه أن من حلف على أمر لا يتحقق أنه يفعله أو لا يفعله لا يحنث كمن قال لمن خاصم أخاه‏:‏ والله لو كنت حاضرا لهشمت أنفك، خلافا لمن قال يحنث مطلقا وفيه جواز التوجع لمن أقيم عليه الحد بعد إقامته عليه وقد حكى ابن الكلبي في قصة أم عمرو بنت سفيان أن امرأة أسيد بن حضير أوتها بعد أن قطعت وصنعت لها طعاما وأن أسيدا ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم كالمنكر على امرأته فقال‏:‏ رحمتها رحمها الله‏.‏

وفيه الاعتبار بأحوال من مضى من الأمم ولا سيما من خالف أمر الشرع، وتمسك به بعض من قال إن شرع من قبلنا شرع لنا لأن فيه إشارة إلى تحذير من فعل الشيء الذي جر الهلاك إلى الذين من قبلنا لئلا نهلك كما هلكوا وفيه نظر، وإنما يتم أن لو لم يرد قطع السارق في شرعنا، وأما اللفظ العام فلا دلالة فيه على المدعي أصلا‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا

وَفِي كَمْ يُقْطَعُ وَقَطَعَ عَلِيٌّ مِنْ الْكَفِّ وَقَالَ قَتَادَةُ فِي امْرَأَةٍ سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ شِمَالُهَا لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏)‏ كذا أطلق في الآية اليد وأجمعوا على أن المراد اليمنى إن كانت موجودة، واختلفوا فيما لو قطعت الشمال عمدا أو خطأ هل يجزئ‏؟‏ وقدم السارق على السارقة، وقدمت الزانية على الزاني لوجود السرقة غالبا في الذكورية ولأن داعية الزنا في الإناث أكثر، ولأن الأنثى سبب في وقوع الزنا إذ لا يتأتى غالبا إلا بطواعيتها‏.‏

وقوله‏:‏ بصيغة الجمع ثم التثنية، إشارة إلى أن المراد جنس السارق فلوحظ فيه المعنى فجمع، والتثنية بالنظر إلى الجنسين المتلفظ بهما‏.‏

والسرقة بفتح السين وكسر الراء ويجوز إسكانها ويجوز كسر أوله وسكون ثانيه‏:‏ الأخذ خفية، وعرفت في الشرع بأخذ شيء خفية ليس للآخذ أخذه، ومن اشترط الحرز وهم الجمهور زاد فيه من حرز مثله، قال ابن بطال‏:‏ الحرز مستفاد من معنى السرقة يعني في اللغة، ويقال لسارق الإبل الخارب بخاء معجمة، وللسارق في المكيال مطفف وللسارق في الميزان مخسر، في أشياء أخرى ذكرها ابن خالويه في ‏"‏ كتاب ليس ‏"‏ قال المازري ومن تبعه‏:‏ صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغصب ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة بخلافها وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع فيه حماية لليد، ثم لما خانت هانت، وفي ذلك إشارة إلى الشبهة التي نسبت إلى أبي العلاء المعري في قوله‏:‏ يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار‏؟‏ فأجابه القاسم عبد الوهاب المالكي بقوله‏:‏ صيانة العضو أغلاها وأرخصها صيانة المال فافهم حكمة الباري وشرح ذلك أن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين، وقد عسر فهم المعنى المقدم ذكره في الفرق بين السرقة وبين النهب ونحوه على بعض منكري القياس فقال‏:‏ القطع في السرقة دون الغصب وغيره غير معقول المعنى، فإن الغصب أكثر هتكا للحرمة من السرقة، فدل على عدم اعتبار القياس لأنه إذا لم يعمل به في الأعلى فلا يعمل به في المساوي، وجوابه أن الأدلة على العمل بالقياس أشهر من أن يتكلف لإيرادها، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏وقطع علي من الكف‏)‏ أشار بهذا الأثر إلى الاختلاف في محل القطع، وقد اختلف في حقيقة اليد فقيل‏:‏ أولها من المنكب؛ وقيل من المرفق، وقيل من الكوع، وقيل من أصول الأصابع‏.‏

فحجة الأول أن العرب تطلق الأيدي على ذلك، ومن الثاني آية الوضوء ففيها ‏(‏وأيديكم إلى المرافق‏)‏ ومن الثالث آية التيمم، ففي القرآن ‏(‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه‏)‏ وبينت السنة كما تقدم في بابه أنه عليه الصلاة والسلام مسح على كفيه فقط، وأخذ بظاهر الأول بعض الخوارج ونقل عن سعيد بن المسيب واستنكره جماعة، والثاني لا نعلم من قال به في السرقة، والثالث قول الجمهور ونقل بعضهم فيه الإجماع، والرابع نقل عن علي واستحسنه أبو ثور، ورد بأنه لا يسمى مقطوع اليد لغة ولا عرفا بل مقطوع الأصابع وبحسب هذا الاختلاف وقع الخلف في محل القطع فقال بالأول الخوارج وهم محجوجون بإجماع السلف على خلاف قولهم، وألزم ابن حزم الحنفية بأن يقولوا بالقطع من المرفق قياسا على الوضوء وكذا التيمم عندهم، قال‏:‏ وهو أولى من قياسهم قدر المهر على نصاب السرقة، ونقله عياض قولا شاذا وحجة الجمهور الأخذ بأقل ما ينطلق عليه الاسم لأن اليد قبل السرقة كانت محترمة فلما جاء النص بقطع اليد وكانت تطلق على هذه المعاني وجب أن لا يترك المتيقن وهو تحريمها إلا بمتيقن وهو القطع من الكف، وأما الأثر عن علي فوصله الدار قطني من طريق حجبة بن عدي أن عليا قطع من المفصل‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل رجاء بن حيوة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع من المفصل ‏"‏ وأورده أبو الشيخ في كتاب حد السرقة من وجه آخر عن رجاء عن عدي رفعه مثله، ومن طريق وكيع عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر رفعه مثله‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال‏:‏ كان عمر يقطع من المفصل وعلي يقطع من مشط القدم‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي حيوة أن عليا قطعه من المفصل، وجاء عن علي أنه قطع اليد من الأصابع والرجل من مشط القدم أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عنه وهو منقطع وإن كان رجال السند من رجال الصحيح، وقد أخرج عبد الرزاق من وجه آخر أن عليا كان يقطع الرجل من الكعب، وذكر الشافعي في ‏"‏ كتاب اختلاف علي وابن مسعود ‏"‏ أن عليا كان يقطع من يد السارق الخنصر والبنصر والوسطى خاصة ويقول‏:‏ أستحيي من الله أن أتركه بلا عمل، وهذا يحتمل أن يكون بقي الإبهام والسبابة وقطع الكف والأصابع الثلاثة ويحتمل أن يكون بقي الكف أيضا والأول أليق لأنه موافق لما نقل البخاري أنه قطع من الكف، وقد وقع في بعض النسخ بحذف ‏"‏ من ‏"‏ بلفظ ‏"‏ وقطع على الكف‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏وقال قتادة في امرأة سرقت فقطعت شمالها‏:‏ ليس إلا ذلك‏)‏ وصله أحمد في تاريخه عن محمد بن الحسين الواسطي عن عوف الأعرابي عنه هكذا قرأت بخط مغلطاي في شرحه ولم يسق لفظه، وقد أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فذكر مثل قول الشعبي‏:‏ لا يزاد على ذلك قد أقيم عليه الحد‏.‏

وكان ساق بسنده عن الشعبي أنه سئل عن سارق قدم ليقطع فقدم شماله فقطعت فقال‏:‏ لا يزاد على ذلك، وأشار المصنف بذكره إلى أن الأصل أن أول شيء يقطع من السارق اليد اليمنى وهو قول الجمهور، وقد قرأ ابن مسعود ‏(‏فاقطعوا أيمانهما‏)‏ وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم قال‏:‏ هي قراءتنا يعني أصحاب ابن مسعود‏.‏

ونقل فيه عياض الإجماع وتعقب، نعم قد شذ من قال إذا قطع الشمال أجزأت مطلقا كما هو ظاهر النقل عن قتادة‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن كان عمدا وجب القصاص على القاطع ووجب قطع اليمين، وإن كان خطأ وجبت الدية ويجزئ عن السارق، وكذا قال أبو حنيفة، وعن الشافعي وأحمد قولان في السارق، واختلف السلف فيمن سرق فقطع ثم سرق ثانيا فقال الجمهور تقطع رجله اليسرى، ثم إن سرق فاليد اليسرى، ثم إن سرق فالرجل اليمنى، واحتج لهم بآية المحاربة وبفعل الصحابة وبأنهم فهموا من الآية أنها في المرة الواحدة فإذا عاد السارق وجب عليه القطع ثانيا إلى أن لا يبقى له ما يقطع، ثم إن سرق عزر وسجن، وقيل يقتل في الخامسة قاله أبو مصعب الزهري المدني صاحب مالك، وحجته ما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث جابر قال ‏"‏ جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اقتلوه، فقالوا يا رسول الله إنما سرق، قال‏:‏ اقطعوه، ثم جيء به الثانية فقال اقتلوه - فذكر مثله إلى أن قال - فأتى به الخامسة فقال‏:‏ اقتلوه‏.‏

قال جابر‏:‏ فانطلقنا به فقتلناه ورميناه في بئر، قال النسائي هذا حديث منكر ومصعب بن ثابت راويه ليس بالقوي، وقد قال بعض أهل العلم كابن المنكدر والشافعي‏:‏ إن هذا منسوخ‏.‏

وقال بعضهم هو خاص بالرجل المذكور فكأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على أنه واجب القتل ولذلك أمر بقتله من أول مرة، ويحتمل أنه كان من المفسدين في الأرض‏.‏

قلت‏:‏ وللحديث شاهد من حديث الحارث في حاطب أخرجه النسائي ولفظه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص فقال‏:‏ اقتلوه، فقالوا إنما سرق ‏"‏ فذكر نحو حديث جابر في قطع أطرافه الأربع إلا أنه قال في آخره ‏"‏ ثم سرق الخامسة في عهد أبي بكر فقال أبو بكر‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال اقتلوه، ثم دفعه إلى فتية من قريش فقتلوه ‏"‏ قال النسائي‏:‏ لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا، قلت‏:‏ نقل المنذري تبعا لغيره فيه الإجماع، ولعلهم أرادوا أنه استقر على ذلك، وإلا فقد جزم الباجي في ‏"‏ اختلاف العلماء ‏"‏ أنه قول مالك ثم قال‏:‏ وله قول آخر لا يقتل‏.‏

وقال عياض‏:‏ لا أعلم أحدا من أهل العلم قال به إلا ما ذكره أبو مصعب صاحب مالك في مختصره عن مالك وغيره من أهل المدينة فقال‏:‏ ومن سرق ممن بلغ الحلم قطع يمينه ثم إن عاد فرجله اليسرى ثم إن عاد فيده اليسرى ثم إن عاد فرجله اليمنى فإن سرق في الخامسة قتل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن عبد العزيز انتهى، وفيه قول ثالث بقطع اليد بعد اليد ثم الرجل بعد الرجل نقل عن أبي بكر وعمر ولا يصح‏.‏

وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن القاسم بن محمد أن أبا بكر قطع يد سارق في الثالثة، ومن طريق سالم بن عبد الله أن أبا بكر إنما قطع رجله وكان مقطوع اليد ورجال السندين ثقات مع انقطاعهما، وفيه قول رابع تقطع الرجل اليسرى بعد اليمنى ثم لا قطع أخرجه عبد الرزاق من طريق الشعبي عن علي وسنده ضعيف، ومن طريق أبي الضحى أن عليا نحوه ورجاله ثقات مع انقطاعه، وبسند صحيح عن إبراهيم النخعي‏:‏ كانوا يقولون لا يترك ابن آدم مثل البهيمة ليس له يد يأكل بها ويستنجى بها، وبسند حسن عن عبد الرحمن بن عائذ أن عمر أراد أن يقطع في الثالثة فقال له على‏:‏ اضربه واحبسه ففعل، وهذا قول النخعي والشعبي والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة، وفيه قول خامس قاله عطاء لا يقطع شيء من الرجلين أصلا على ظاهر الآية وهو قول الظاهرية‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ حديث القتل في الخامسة منكر وقد ثبت ‏"‏ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ‏"‏ وثبت ‏"‏ السرقة فاحشة وفيها عقوبة ‏"‏ وثبت عن الصحابة قطع الرجل بعد اليد وهم يقرءون ‏(‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏)‏ كما اتفقوا على الجزاء في الصيد وإن قتل خطأ وهم يقرءون ‏(‏ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم‏)‏ ويمسحون على الخفين وهم يقرءون غسل الرجلين، وإنما قالوا جميع ذلك بالسنة‏.‏

ثم ذكر المصنف في الباب ثلاثة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ

الشرح‏:‏

حديث عائشة من طريقين الأولى‏:‏ قوله ‏(‏عن عمرة‏)‏ قال الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏ اقتصر إبراهيم بن سعد وسائر من رواه عن ابن شهاب على عمرة، ورواه يونس عنه فزاد مع عمرة عروة‏.‏

قلت‏:‏ وحكى ابن عبد البر أن بعض الضعفاء وهو إسحاق الحنيني بمهملة ونونين مصغر رواه عن مالك عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة، وكذا روى عن الأوزاعي عن الزهري قال ابن عبد البر‏:‏ وهذان الإسنادان ليسا صحيحين وقول إبراهيم ومن تابعه هو المعتمد، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية زكريا بن يحيى وحمويه عن إبراهيم بن سعد ورواية يونس بجمعهما صحيحة‏.‏

قلت‏:‏ وقد صرح ابن أخي ابن شهاب عن عمه بسماعه له من عمرة وبسماع عمرة له من عائشة أخرجه أبو عوانة، وكذا عند مسلم من وجه آخر عن عمرة أنها سمعت عائشة‏.‏

قوله ‏(‏تقطع اليد في ربع دينار‏)‏ في رواية يونس ‏"‏ تقطع يد السارق ‏"‏ وفي رواية حرملة عن ابن وهب عند مسلم ‏"‏ لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار ‏"‏ وكذا عنده من طريق سليمان بن يسار عن عمرة‏.‏

قوله ‏(‏فصاعدا‏)‏ قال صاحب المحكم‏:‏ يختص هذا بالفاء ويجوز ثم بدلها ولا تجوز الواو‏.‏

وقال ابن جني‏:‏ هو منصوب على الحال المؤكدة أي ولو زاد ومن المعلوم أنه إذا زاد لم يكن إلا صاعدا‏.‏

قلت‏:‏ ووقع في رواية سليمان بن يسار عن عمرة عند مسلم ‏"‏ فما فوقه ‏"‏ بدل ‏"‏ فصاعدا ‏"‏ وهو بمعناه‏.‏

قوله ‏(‏وتابعه عبد الرحمن بن خالد وابن أخي الزهري ومعمر عن الزهري‏)‏ أي في الاقتصار على عمرة ‏"‏ ثم ساق رواية يونس وليس في آخره ‏"‏ فصاعدا ‏"‏ وقد أخرجه مسلم عن حرملة والإسماعيلي من طريق همام كلاهما عن ابن وهب بإثباتها، وأما متابعة عبد الرحمن بن خالد وهو ابن مسافر فوصلها الذهلي في ‏"‏ الزهريات ‏"‏ عن عبد الله بن صالح عن الليث عنه نحو رواية إبراهيم بن سعد، وقرأت بخط مغلطاي وقلده شيخنا ابن الملقن أن الذهلي أخرجه في ‏"‏ علل حديث الزهري ‏"‏ عن محمد بن بكر وروح بن عبادة جميعا عن عبد الرحمن، وهذا الذي قاله لا وجود له بل ليس لروح ولا لمحمد بن بكر عن عبد الرحمن هذا رواية أصلا، وأما متابعة ابن أخي الزهري وهو محمد بن عبد الله بن مسلم فوصلها أبو عوانة في صحيحه من طريق يعقوب ابن إبراهيم بن سعد عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه، وقرأت بخط مغلطاي وقلده شيخنا أيضا أن الذهلي أخرجه عن روح بن عبادة عنه‏.‏

قلت‏:‏ ولا وجود له أيضا، وإنما أخرجه عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد‏.‏

وأما متابعة معمر فوصلها أحمد عن عبد الرزاق عنه، وأخرجه مسلم من رواية عبد الرزاق لكن لم يسق لفظه، وساقه النسائي ولفظه ‏"‏ تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا ‏"‏ ووصلها أيضا هو وأبو عوانة من طريق سعيد بن أبي عروبة عن معمر‏.‏

وقال أبو عوانة في آخره‏:‏ قال سعيد نبلنا معمرا رويناه عنه وهو شاب، وهو بنون وموحدة ثقيلة أي صيرناه نبيلا‏.‏

قلت‏:‏ وسعيد أكبر من معمر وقد شاركه في كثير من شيوخه، ورواه ابن المبارك عن معمر لكن لم يرفعه أخرجه النسائي، وقد رواه عن الزهري أيضا سليمان ابن كثير أخرجه مسلم من رواية يزيد بن هارون عنه مقرونا برواية إبراهيم بن سعد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن يونس‏)‏ في رواية مسلم عن حرملة وأبي داود عن أحمد بن صالح كلاهما عن ابن وهب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَتْهُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا الحسين‏)‏ هو ابن ذكوان المعلم وهو بصري ثقة وفي طبقة حسين بن واقد قاضي مرو وهو دونه في الإتقان‏.‏

قوله ‏(‏عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري‏)‏ في رواية الإسماعيلي من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث سمعت أبي يقول حدثنا الحسين المعلم عن يحيى حدثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، قال الإسماعيلي رواه حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير كذلك‏.‏

وقال همام بن يحيى عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن زرارة، قلت‏:‏ نسب عبد الرحمن إلى جده وهو عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال الإسماعيلي‏:‏ ورواه إبراهيم القناد عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان كذا حدثناه ابن صاعد عن لوين عن القناد، والذي قبله أصح وبه جزم البيهقي وأن من قال فيه ابن ثوبان فقد غلط، قلت‏:‏ وأخرجه النسائي من رواية عبد الرحمن بن أبي الرجال عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرة عن عائشة مرفوعا ولفظه ‏"‏ تقطع يد السارق في ثمن المجن وثمن المجن ربع دينار‏"‏، وأخرجه من طريق سليمان بن يسار عن عمرة بلفظ ‏"‏ لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن، قيل لعائشة‏:‏ ما ثمن المجن‏؟‏ قالت ربع دينار ‏"‏ وقد توبع حسين المعلم عن يحيى أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريق هقل بن زياد عنه بلفظه‏.‏

قوله ‏(‏عن عمرة بنت عبد الرحمن حدثته‏)‏ أي أنها حدثته، وكذا في قوله عن عائشة حدثتهم، وقد جرت عادتهم بحذفها في مثل هذا كما أكثروا من حذف قال في مثل حدثنا عثمان حدثنا عبدة وفي مثل سمعت أبي حدثنا فلان، وذكر ابن الصلاح أنه لا بد من النطق بقال وفيه بحث، ولم ينبه على حذف أن التي أشرت إليها‏.‏

وفي رواية عبد الصمد المذكورة أن عمرة حدثته أن عائشة أم المؤمنين حدثتها‏.‏

قوله ‏(‏تقطع اليد في ربع دينار‏)‏ هكذا في هذه الرواية مختصرا وكذا في رواية مسلم وأخرجه أبو داود عن أحمد بن صالح عن ابن وهب بلفظ ‏"‏ القطع في ربع دينار فصاعدا ‏"‏ وعن وهب بن بيان عن ابن وهب بلفظ ‏"‏ تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا ‏"‏ وأخرجه النسائي من طريق عبد الله بن المبارك عن يونس بلفظ ‏"‏ تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا‏)‏ ورواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة ‏"‏ ما طال علي ولا نسيت، القطع في ربع دينار فصاعدا ‏"‏ وهو إن لم يكن رفعه صريحا لكنه في معنى المرفوع، وأخرجه الطحاوي من رواية ابن عيينة عن يحيى كذلك، ومن رواية جماعة عن عمرة موقوفا على عائشة، قال ابن عيينة‏:‏ ورواية يحيى مشعرة بالرفع ورواية الزهري صريحة فيه وهو أحفظهم‏.‏

وقد أخرجه مسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة مثل رواية سليمان بن يسار عنها التي أشرت إليها آنفا‏.‏

وكذا أخرجه النسائي من طريق ابن الهاد بلفظ ‏"‏ لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ‏"‏ وأخرجه من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة موقوفا، وحاول الطحاوي تعليل رواية أبي بكر المرفوعة برواية ولده الموقوفة وأبو بكر أتقن وأعلم من ولده، على أن الموقوف في مثل هذا لا يخالف المرفوع لأن الموقوف محمول على طريق الفتوى، والعجب أن الطحاوي ضعف عبد الله بن أبي بكر في موضع آخر ورام هنا تضعيف الطريق القويمة بروايته، وكأن البخاري أراد الاستظهار لرواية الزهري عن عمرة بموافقة محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عنها لما وقع في رواية ابن عيينة عن الزهري من الاختلاف في لفظ المتن هل هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من فعله، وكذا رواه ابن عيينة عن غير الزهري فيما أخرجه النسائي عن قتيبة عنه عن يحيى بن سعيد وعبد ربه بن سعيد وزريق صاحب أيلة أنهم سمعوا عمرة عن عائشة قالت ‏"‏ القطع في ربع دينار فصاعدا، ثم أخرجه النسائي من طريق عن يحيى ابن سعيد به مرفوعا وموقوفا وقال‏:‏ الصواب ما وقع في رواية مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة ما طال علي العهد ولا نسيت القطع في ربع دينار فصاعدا وفي هذا إشارة إلى الرفع والله أعلم‏.‏

وقد تعلق بذلك بعض من لم يأخذ بهذا الحديث فذكره يحيى بن يحيى وجماعة عن ابن عيينة بلفظ ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا ‏"‏ أورده الشافعي والحميدي وجماعة عن ابن عيينة بلفظ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقطع اليد ‏"‏ الحديث، وعلى هذا التعليل عول الطحاوي فأخرج الحديث عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن عيينة بلفظ ‏"‏ كان يقطع ‏"‏ وقال‏:‏ هذا الحديث لا حجة فيه لأن عائشة إنما أخبرت عما قطع فيه فيحتمل أن يكون ذلك لكونها قومت ما وقع القطع فيه إذ ذاك فكان عندها ربع دينار فقالت ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع في ربع دينار ‏"‏ مع احتمال أن تكون القيمة يومئذ أكثر‏.‏

وتعقب باستبعاد أن تجزم عائشة بذلك مستندة إلى ظنها المجرد، وأيضا فاختلاف التقويم وإن كان ممكنا لكن محال في العادة أن يتفاوت هذا التفاوت الفاحش بحيث يكون عند قوم أربعة أضعاف قيمته عند آخرين، وإنما يتفاوت بزيادة قليلة أو نقص قليل ولا يبلغ المثل غالبا، وادعى الطحاوي اضطراب الزهري في هذا الحديث لاختلاف الرواة عنه في لفظه، ورد بأن من شرط الاضطراب أن تتساوى وجوهه فأما إذا رجح بعضها فلا، ويتعين الأخذ بالراجح، وهو هنا كذلك لأن جل الرواة عن الزهري ذكروه عن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم على تقرير قاعدة شرعية في النصاب وخالفهم ابن عيينة تارة ووافقهم تارة فالأخذ بروايته الموافقة للجماعة أولى، وعلى تقدير أن يكون ابن عيينة اضطرب فيه فلا يقدح ذلك في رواية من ضبطه، وأما نقل الطحاوي عن المحدثين أنهم يقدمون ابن عيينة في الزهري على يونس فليس متفقا عليه عندهم بل أكثرهم على العكس، وممن جزم بتقديم يونس على سفيان في الزهري يحيى بن معين وأحمد بن صالح المصري وذكر أن يونس صحب الزهري أربع عشرة سنة وكان يزامله في السفر وينزل عليه الزهري إذا قدم أيلة وكان يذكر أنه كان يسمع الحديث الواحد من الزهري مرارا، وأما ابن عيينة فإنما سمع منه سنة ثلاث وعشرين ومائة ورجع الزهري فمات في التي بعدها، ولو سلم أن ابن عيينة أرجح في الزهري من يونس فلا معارضة بين روايتيهما فتكون عائشة أخبرت بالفعل والقول معا وقد وافق الزهري في الرواية عن عمرة جماعة كما سبق، وقد وقع الطحاوي فيما عابه على من احتج بحديث الزهري مع اضطرابه على رأيه فاحتج بحديث محمد بن إسحاق عن أيوب ابن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال ‏"‏ قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم ‏"‏ أخرجه أبو داود واللفظ له وأحمد والنسائي والحاكم، ولفظ الطحاوي ‏"‏ كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم ‏"‏ وهو أشد في الاضطراب من حديث الزهري فقيل عنه هكذا وقيل عنه عن عمرو بن شعيب عن عطاء عن ابن عباس وقيل عنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه ‏"‏ كانت قيمة المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم ‏"‏ وقيل عنه عن عمرو عن عطاء مرسلا وقيل عن عطاء عن أيمن ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته دينار ‏"‏ كذا قال منصور والحكم بن عتيبة عن عطاء وقيل عن منصور عن مجاهد وعطاء جميعا عن أيمن وقيل عن مجاهد عن أيمن بن أم أيمن عن أم أيمن قالت ‏"‏ لم يقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن وثمنه يومئذ دينار ‏"‏ أخرجه النسائي، ولفظ الطحاوي ‏"‏ لا تقطع يد السارق إلا في حجفة وقومت يومئذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا أو عشرة دراهم ‏"‏ وفي لفظ له ‏"‏ أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن، وكان يقوم يومئذ بدينار ‏"‏ واختلف في لفظه أيضا على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقال حجاج ابن أرطاة عنه بلفظ ‏"‏ لا قطع فيما دون عشرة دراهم ‏"‏ وهذه الرواية لو ثبتت لكانت نصا في تحديد النصاب إلا أن حجاج بن أرطاة ضعيف ومدلس حتى ولو ثبتت روايته لم تكن مخالفة لرواية الزهري بل يجمع بينهما بأنه كان أولا لا قطع فيما دون العشرة ثم شرع القطع في الثلاثة فما فوقها فزيد في تغليظ الحد كما زيد في تغليظ حد الخمر كما تقدم، وأما سائر الروايات فليس فيها إلا إخبار عن فعل وقع في عهده صلى الله عليه وسلم وليس فيه تحديد النصاب فلا ينافي رواية ابن عمر الآتية أنه ‏"‏ قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم ‏"‏ وهو مع كونه حكاية فعل فلا يخالف حديث عائشة من رواية الزهري فإن ربع دينار صرفه ثلاثة دراهم، وقد أخرج البيهقي من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن سليمان بن يسار عن عمرة قالت ‏"‏ قيل لعائشة ما ثمن المجن‏؟‏ قالت ربع دينار ‏"‏ وأخرج أيضا من طريق ابن إسحاق عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال ‏"‏ أتيت بنبطي قد سرق فبعثت إلى عمرة فقالت‏:‏ أي بني إن لم يكن بلغ ما سرق ربع دينار فلا تقطعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثتني عائشة أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ‏"‏ فهذا يعارض حديث ابن إسحاق الذي اعتمده الطحاوي وهو من رواية ابن إسحاق أيضا، وجمع البيهقي بين ما اختلف في ذلك عن عائشة بأنها كانت تحدث به تارة وتارة تستفتي فتفتى، واستند إلى ما أخرجه من طريق عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة ‏"‏ أن جارية سرقت، فسئلت عائشة فقالت‏:‏ القطع في ربع دينار فصاعدا‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ يَدَ السَّارِقِ لَمْ تُقْطَعْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا فِي ثَمَنِ مِجَنٍّ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة‏)‏ هو ابن سليمان ثم قال ‏(‏حدثنا عثمان حدثنا حميد بن عبد الرحمن‏)‏ وقد أخرجه مسلم عن عثمان هذا قال ‏"‏ حدثنا عبدة بن سليمان وحميد بن عبد الرحمن ‏"‏ جمعهما وضمهما إلا غيرهما فقال ‏"‏ كلهم عن هشام ‏"‏ وحميد بن عبد الرحمن هذا هو الرؤاسي بضم الراء ثم همزة خفيفة ثم سين مهملة، وقد أخرجه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير عنه ونسبه كذلك‏.‏

قوله ‏(‏عن أبيه أخبرتني عائشة أن يد السارق لم تقطع إلخ‏)‏ وقع عند الإسماعيلي من طريق هارون ابن إسحاق عن عبدة بن سليمان فيه زيادة قصة في السند ولفظه عن هشام بن عروة ‏"‏ أن رجلا سرق قدحا فأتى به عمر بن عبد العزيز فقال هشام بن عروة قال أبي إن اليد لا تقطع في الشيء التافه ‏"‏ ثم قال ‏"‏ حدثتني عائشة ‏"‏ وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن عبدة بن سليمان، وهكذا رواه وكيع وغيره عن هشام لكن أرسله كله‏.‏

قوله ‏(‏لم يقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن مجن حجفة أو ترس‏)‏ المجن بكسر الميم وفتح الجيم مفعل من الاجتنان وهو الاستتار مما يحاذره المستتر وكسرت ميمه لأنه آلة في ذلك، والحجفة بفتح المهملة والجيم ثم فاء هي الدرقة وقد تكون من خشب أو عظم وتغلف بالجلد أو غيره، والترس مثله لكن يطارق فيه بين جلدين وقيل هما بمعنى واحد، وعلى الأول ‏"‏ أو ‏"‏ في الخبر للشك وهو المعتمد ويؤيده رواية عبد الله بن المبارك عن هشام التي تلي رواية حميد بن عبد الرحمن بلفظ ‏"‏ في أدنى ثمن حجفة أو ترس كل واحد منهما ذو ثمن ‏"‏ والتنوين في قوله ‏"‏ ثمن ‏"‏ للتكثير والمراد أنه ثمن يرغب فيه، فأخرج الشيء التافه كما فهمه عروة راوي الخبر وليس المراد ترسا بعينه ولا حجفة بعينها وإنما المراد الجنس وأن القطع كان يقع في كل شيء يبلغ قدر ثمن المجن سواء كان ثمن المجن كثيرا أو قليلا، والاعتماد إنما هو على الأقل فيكون نصابا ولا يقطع فيما دونه، ورواية أبي أسامة عن هشام جامعة بين الروايتين المذكورتين أولا، وقوله فيها ‏"‏ كان كل واحد منهما ذا ثمن ‏"‏ كذا ثبت في الأصول، وأفاد الكرماني أنه وقع في بعض النسخ ‏"‏ وكان كل واحد منهما ذو ثمن ‏"‏ بالرفع وخرجه على تقدير ضمير الشأن في كان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمْ تَكُنْ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي أَدْنَى مِنْ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذُو ثَمَنٍ رَوَاهُ وَكِيعٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏رواه وكيع وابن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا‏)‏ أما رواية وكيع فأخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه عنه ولفظه عن هشام بن عروة عن أبيه قال ‏"‏ كان السارق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقطع في ثمن المجن وكان المجن يومئذ له ثمن ولم يكن يقطع في الشيء التافه ‏"‏ وأما رواية ابن إدريس وهو عبد الله الأودي الكوفي فأخرجها الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏ والبيهقي من طريق يوسف بن موسى عن جرير وعبد الله بن إدريس ووكيع ثلاثتهم عن هشام عن أبيه ‏"‏ أن يد السارق لم تقطع ‏"‏ فذكر مثل سياق أبي أسامة سواء وزاد ‏"‏ ولم يكن يقطع في الشيء التافه ‏"‏ وقرأت بخط مغلطاي وتبعه شيخنا ابن الملقن أن رواية ابن إدريس عند عبد الرزاق عنه فيما ذكره الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ كذا قال الإسماعيلي، ووصله أيضا عن هشام عمر بن علي المقدمي وعثمان الغطفاني وعبد الله بن قبيصة الفزاري، وأرسله أيضا عبد الرحيم بن سليمان وحاتم بن إسماعيل وجرير‏.‏

قلت‏:‏ وقد ذكرت رواية جرير، وأما عبد الرحيم فاختلف عليه فقيل عنه مرسلا ووصله عنه أبو بكر بن أبي شيبة أخرجه مسلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ لم تختلف الرواة عن هشام بن عروة عن أبيه في هذا المتن، وأما الزهري فاختلف عليه في سنده ولم يختلف عليه في المتن أيضا كما تقدم وهو حافظ فيحتمل أن يكون عروة حدثه به على الوجهين كما تقدم، ويحتمل أن يكون لفظ عروة هو الذي حفظه هشام عنه، وحمل يونس حديث عروة على حديث عمرة فساقه على لفظ عمرة وهذا يقع لهم كثيرا، ويشهد للأول أن النسائي أخرجه من طريق حفص بن حسان عن يونس عن الزهري عن عروة وحده عن عائشة بلفظ رواية ابن عيينة، ورواه أيضا من رواية القاسم بن مبرور عن يونس بهذا السند لكن لفظ المتن ‏"‏ أو نصف دينار فصاعدا ‏"‏ وهي رواية شاذة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قِيمَتُهُ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم ‏"‏ أورده من حديث مالك، قال ابن حزم لم يروه عن ابن عمر إلا نافع‏.‏

وقال ابن عبد البر هو أصح حديث روي في ذلك‏.‏

قوله ‏(‏تابعه محمد بن إسحاق‏)‏ يعني عن نافع أي في قوله ‏"‏ ثمنه ‏"‏ وروايته موصولة عند الإسماعيلي من طريق عبد الله بن المبارك عن مالك ومحمد بن إسحاق وعبيد الله بن عمر ثلاثتهم عن نافع ‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ‏"‏ وقد أخرجه المؤلف رحمه الله من رواية جويرية وهو ابن أسماء مثل هذا السياق سواء، ومن رواية عبيد الله وهو ابن عمر أي العمري مثله، ومن رواية موسى بن عقبة عن نافع بلفظ ‏"‏ قطع النبي صلى الله عليه وسلم يد سارق ‏"‏ مثله‏.‏

قوله ‏(‏وقال الليث حدثني نافع قيمته‏)‏ يعني أن الليث رواه عن نافع كالجماعة لكن قال ‏"‏ قيمته ‏"‏ بدل قولهم ‏"‏ ثمنه ‏"‏ ورواية الليث وصلها مسلم عن قتيبة ومحمد بن رمح عن الليث عن نافع عن ابن عمر ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم ‏"‏ وأخرجه مسلم أيضا من رواية سفيان الثوري عن أبي أيوب السختياني وأيوب بن موسى وإسماعيل بن أمية، ومن رواية ابن وهب عن حنظلة بن أبي سفيان ومالك وأسامة بن زيد كلهم عن نافع، قال بعضهم ثمنه وقال بعضهم قيمته، هذا لفظ مسلم ولم يميز، وقد أخرجه أبو داود من رواية ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن نافع ولفظه ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد رجل سرق ترسا من صيغة النساء ثمنه ثلاثة دراهم ‏"‏ وأخرجه النسائي من رواية ابن وهب عن حنظلة وحده بلفظ ‏"‏ ثمنه ‏"‏ ومن طريق مخلد بن يزيد عن حنظلة بلفظ ‏"‏ قيمته ‏"‏ فوافق الليث في قوله ‏"‏ قيمته ‏"‏ لكن خالف الجميع فقال ‏"‏ خمسة دراهم ‏"‏ وقول الجماعة ‏"‏ ثلاثة دراهم ‏"‏ هو المحفوظ، وقد أخرجه الطحاوي من طريق عبيد الله بن عمر بلفظ ‏"‏ قطع في مجن قيمته ‏"‏ ومن رواية أيوب ومن رواية مالك قال مثله، ومن رواية ابن إسحاق بلفظ ‏"‏ أتى برجل سرق حجفة قيمتها ثلاثة دراهم فقطعه‏"‏‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قوله ‏"‏ قطع ‏"‏ معناه أمر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يباشر القطع بنفسه ‏"‏ وقد تقدم في الباب قبله أن بلالا هو الذي باشر قطع يد المخزومية، فيحتمل أن يكون هو الذي كان موكلا بذلك ويحتمل غيره وقوله ‏"‏ قيمته ‏"‏ قيمة الشيء ما تنتهي إليه الرغبة فيه، وأصله قومة فأبدلت الواو ياء لوقوعها بعد كسرة، والثمن ما يقابل به المبيع عند البيع، والذي يظهر أن المراد هنا، القيمة وأن من رواه بلفظ الثمن إما تجوزا وإما أن القيمة والثمن كانا حينئذ مستويين، قال ابن دقيق العيد‏:‏ القيمة والثمن قد يختلفان والمعتبر إنما هو القيمة، ولعل التعبير بالثمن لكونه صادف القيمة في ذلك الوقت في ظن الراوي أو باعتبار الغلبة‏.‏

وقد تمسك مالك بحديث ابن عمر في اعتبار النصاب بالفضة، وأجاب الشافعية وسائر من خالفه بأنه ليس في طرقه أنه لا يقطع في أقل من ذلك، وأورد الطحاوي حديث سعد الذي أخرجه ابن مالك أيضا وسنده ضعيف ولفظه ‏"‏ لا يقطع السارق إلا في المجن ‏"‏ قال فعلمنا أنه لا يقطع في أقل من ثمن المجن، ولكن اختلف في ثمن المجن، ثم ساق حديث ابن عباس قال ‏"‏ كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم ‏"‏ قال فالاحتياط أن لا يقطع إلا فيما اجتمعت فيه هذه الآثار وهو عشرة، ولا يقطع فيما دونها لوجود الاختلاف فيه وتعقب بأنه لو سلم في الدراهم لم يسلم في النص الصريح في ربع دينار كما تقدم إيضاحه، ودفع ما أعله به‏.‏

والجمع بين ما اختلفت الروايات في ثمن المجن ممكن بالحمل على اختلاف الثمن والقيمة أو على تعدد المجان التي قطع فيها وهو أولى‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ الاستدلال بقوله ‏"‏ قطع في مجن ‏"‏ على اعتبار النصاب ضعيف لأنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا المقدار عدم القطع فيما دونه بخلاف قوله ‏"‏ يقطع في ربع دينار فصاعدا ‏"‏ فإنه بمنطوقه يدل على أنه يقطع فيما إذا بلغه وكذا فيما زاد عليه، وبمفهومه على أنه لا قطع فيما دون ذلك، قال‏:‏ واعتماد الشافعي على حديث عائشة وهو قول أقوى في الاستدلال من الفعل المجرد، وهو قوي في الدلالة على الحنفية لأنه صريح في القطع في دون القدر الذي يقولون بجواز القطع فيه، ويدل على القطع فيما يقولون به بطريق الفحوى، وأما دلالته على عدم القطع في دون ربع دينار فليس هو من حيث منطوقه بل من حيث مفهومه فلا يكون حجة على من لا يقول بالمفهوم‏.‏

قلت‏:‏ وقرر الباجي طريق الأخذ بالمفهوم هنا فقال‏:‏ دل التقويم على أن القطع يتعلق بقدر معلوم وإلا فلا يكون لذكره فائدة، وحينئذ فالمعتمد ما ورد به النص صريحا مرفوعا في اعتبار ربع دينار، وقد خالف من المالكية في ذلك من القدماء ابن عبد الحكم وممن بعدهم ابن العربي فقال‏:‏ ذهب سفيان الثوري مع جلالته في الحديث إلى أن القطع لا يكون إلا في عشرة دراهم، وحجته أن اليد محترمة بالإجماع فلا تستباح إلا بما أجمع عليه والعشرة متفق على القطع فيها عند الجميع فيتمسك به ما لم يقع الاتفاق على ما دون ذلك، وتعقب بأن الآية دلت على القطع في كل قليل وكثير، وإذا اختلفت الروايات في النصاب أخذ بأصح ما ورد في الأقل، ولم يصح أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم، فكان اعتبار ربع دينار أقوى من وجهين‏:‏ أحدهما أنه صريح في الحصر حيث ورد بلفظ ‏"‏ لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا ‏"‏ وسائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل لا عموم فيها، والثاني أن المعول عليه في القيمة الذهب لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها، ويؤيده ما نقل الخطابي استدلالا على أن أصل النقد في ذلك الزمان الدنانير بأن الصكاك القديمة كان يكتب فيها عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل فعرفت الدراهم بالدنانير وحصرت بها والله أعلم‏.‏

وحاصل المذاهب في القدر الذي يقطع السارق فيه يقرب من عشرين مذهبا‏:‏ الأول يقطع في كل قليل وكثير تافها كان أو غير تافه نقل عن أهل الظاهر والخوارج ونقل عن الحسن البصري وبه قال أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي‏.‏

ومقابل هذا القول في الشذوذ ما نقله عياض ومن تبعه عن إبراهيم النخعي أن القطع لا يجب إلا في أربعين درهما أو أربعة دنانير وهذا هو القول الثاني‏.‏

الثالث مثل الأول إلا إن كان المسروق شيئا تافها لحديث عروة الماضي ‏"‏ لم يكن القطع في شيء من التافه ‏"‏ ولأن عثمان قطع في فخارة خسيسة وقال لمن يسرق السياط لئن عدتم لأقطعن فيه، وقطع ابن الزبير في نعلين أخرجهما ابن أبي شيبة وعن عمر بن عبد العزيز أنه قطع في مد أو مدين‏.‏

الرابع تقطع في درهم فصاعدا وهو قول عثمان ألبتي بفتح الموحدة وتشديد المثناة من فقهاء البصرة وربيعة من فقهاء المدينة ونسبه القرطبي إلى عثمان فأطلق ظنا منه أنه الخليفة وليس كذلك الخامس في درهمين وهو قول الحسن البصري جزم به ابن المنذر عنه‏.‏

السادس فيما زاد على درهمين ولو لم يبلغ الثلاثة أخرجه ابن أبي شيبة بسند قوي عن أنس ‏"‏ أن أبا بكر قطع في شيء ما يساوي درهمين ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ لا يساوي ثلاثة دراهم‏"‏‏.‏

السابع في ثلاثة دراهم ويقوم ما عداها بها ولو كان ذهبا، وهي رواية عن أحمد، وحكاه الخطابي عن مالك‏.‏

الثامن مثله لكن إن كان المسروق ذهبا فنصابه ربع دينار وإن كان غيرهما فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطع به وإن لم تبلغ لم يقطع ولو كان نصف دينار، وهذا قول مالك المعروف عند أتباعه، وهي رواية عن أحمد، واحتج له بما أخرجه أحمد من طريق محمد ابن راشد عن يحيى بن يحيى الغساني عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة مرفوعا ‏"‏ اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا في أدنى من ذلك ‏"‏ قالت‏:‏ وكان ربع الدينار قيمته يومئذ ثلاثة دراهم، والمرفوع من هذه الرواية نص في أن المعتمد والمعتبر في ذلك الذهب، والموقوف منه يقتضي أن الذهب يقوم بالفضة، وهذا يمكن تأويله فلا يرتفع به النص الصريح، التاسع مثله إلا إن كان المسروق غيرهما قطع به إذا بلغت قيمته أحدهما، وهو المشهور عن أحمد ورواية عن إسحاق‏.‏

العاشر مثله لكن لا يكتفى بأحدهما إلا إذا كانا غالبين فإن كان أحدهما غالبا فهو المعول عليه، وهو قول جماعة من المالكية وهو الحادي عشر‏.‏

الثاني عشر ربع دينار أو ما يبلغ قيمته من فضة أو عرض، وهو مذهب الشافعي وقد تقدم تقريره، وهو قول عائشة وعمرة وأبي بكر بن حزم وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث ورواية عن إسحاق وعن داود، ونقله الخطابي وغيره عن عمر وعثمان وعلي، وقد أخرجه ابن المنذر عن عمر بسند منقطع أنه قال ‏"‏ إذا أخذ السارق ربع دينار قطع ‏"‏ ومن طريق عمرة ‏"‏ أتى عثمان بسارق سرق أترجة قومت بثلاثة دراهم من حساب الدينار باثني عشر فقطع ‏"‏ ومن طريق جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا قطع في ربع دينار كانت قيمته درهمين ونصفا‏.‏

الثالث عشر أربعة دراهم نقله عياض عن بعض الصحابة ونقله ابن المنذر عن أبي هريرة وأبي سعيد‏.‏

الرابع عشر ثلث دينار حكاه ابن المنذر عن أبي جعفر الباقر، الخامس عشر خمسة دراهم وهو قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى من فقهاء الكوفة ونقل عن الحسن البصري وعن سليمان بن يسار أخرجه النسائي جاء عن عمر بن الخطاب لا تقطع الخمس إلا في خمس أخرجه ابن المنذر من طريق منصور عن مجاهد عن سعيد بن المسيب عنه وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة وأبي سعيد مثله ونقله أبو زيد الدبوسي عن مالك وشذ بذلك‏.‏

السادس عشر عشرة دراهم أو ما بلغ قيمتها من ذهب أو عرض، وهو قول أبي حنيفة والثوري وأصحابهما‏.‏

السابع عشر دينار أو ما بلغ قيمته من فضة أو عرض‏.‏

حكاه ابن حزم عن طائفة، وجزم ابن المنذر بأنه قول النخعي‏.‏

الثامن عشر دينار أو عشرة دراهم أو ما يساوي أحدهما حكاه ابن حزم أيضا، وأخرجه ابن المنذر عن علي بسند ضعيف وعن ابن مسعود بسند منقطع قال وبه قال عطاء‏.‏

التاسع عشر ربع دينار فصاعدا من الذهب على ما دل عليه حديث عائشة ويقطع في القليل والكثير من الفضة والعروض، وهو قول ابن حزم، ونقل ابن عبد البر نحوه عن داود واحتج بأن التحديد في الذهب ثبت صريحا في حديث عائشة ولم يثبت التحديد صريحا في غيره فبقى عموم الآية على حاله فيقطع فيما قل أو كثر إلا إذا كان الشيء تافها، وهو موافق للشافعي إلا في قياس أحد النقدين على الآخر وقد أيده الشافعي بأن الصرف يومئذ كان موافقا لذلك، واستدل بأن الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الفضة اثنا عشر ألف درهم، وتقدم في قصة الأترجة قريبا ما يؤيده، ويخرج من تفصيل جماعة من المالكية أن التقويم يكون بغالب نقد البلد إن ذهبا فبالذهب وإن فضة فبالفضة تمام العشرين مذهبا وقد ثبت في حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم‏.‏

وثبت لا قطع في أقل من ثمن المجن وأقل ما ورد في ثمن المجن ثلاثة دراهم وهي موافقة للنص الصريح في القطع في ربع دينار وإنما ترك القول بأن الثلاثة دراهم نصاب يقطع فيه مطلقا لأن قيمة الفضة بالذهب تختلف فبقي الاعتبار بالذهب كما تقدم والله أعلم، واستدل به على وجوب قطع السارق ولو لم يسرق من حرز، وهو قول الظاهرية أبي عبيد الله البصري من المعتزلة، وخالفهم الجمهور فقالوا‏:‏ العام إذا خص منه شيء بدليل بقي ما عداه على عمومه، وحجته سواء كان لفظه ينبئ عما ثبت في ذلك الحكم بعد التخصيص أم لا لأنه آية السرقة عامة في كل من سرق فخص الجمهور منها من سرق من غير حرز فقالوا لا يقطع، وليس في الآية ما ينبئ عن اشتراط الحرز وطرد البصري أصله في الاشتراط المذكور فلم يشترط الحرز ليستمر الاحتجاج بالآية، نعم وزعم ابن بطال أن شرط الحرز مأخوذ من معنى السرقة فإن صح ما قال سقطت حجة البصري أصلا، واستدل به على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن آية السرقة نزلت في سارق رداء صفوان أو سارق المجن وعمل بها الصحابة في غيرهما من السارقين، واستدل بإطلاق ربع دينار على أن القطع يجب بما صدق عليه ذلك من الذهب سواء كان مضروبا أو غير مضروب جيدا كان أو رديئا، وقد اختلف فيه الترجيح عند الشافعية ونص الشافعي في الزكاة على ذلك وأطلق في السرقة فجزم الشيخ أبو حامد وأتباعه بالتعميم هنا‏.‏

وقال الإصطخري لا يقع إلا في المضروب ورجحه الرافعي‏.‏

وقيد الشيخ أبو حامد النقل عن الأصطخري بالقدر الذي ينقص بالطبع، واستدل بالقطع في المجن على مشروعية القطع في كل ما يتمول قياسا واستثنى الحنفية ما يسرع إليه الفساد وما أصله الإباحة كالحجارة واللبن والخشب والملح والتراب والكلأ والطير، وفيه رواية عن الحنابلة، والراجح عندهم في مثل السرجين القطع تفريعا على جواز بيعه، وفي هذا تفاريع أخرى محل بسطها كتب الفقه وبالله التوفيق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ

الشرح‏:‏

-10126 سبق شرحه بالحديث السابق

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ

الشرح‏:‏

-10126 سبق شرحه بالحديث السابق

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ سَارِقٍ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ قِيمَتُهُ

الشرح‏:‏

-10126 سبق شرحه بالحديث السابق

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في لعن السارق يسرق البيضة فيقطع ختم به الباب إشارة إلى أن طريق الجمع بين الأخبار أن يجعل حديث عمرة عن عائشة أصلا فيقطع في ربع دينار فصاعدا وكذا فيما بلغت قيمته ذلك، فكأنه قال المراد بالبيضة ما يبلغ قيمتها ربع دينار فصاعدا وكذا الحبل، ففيه إيماء إلى ترجيح ما سبق من التأويل الذي نقله الأعمش، وقد تقدم البحث فيه‏.‏

*3*باب تَوْبَةِ السَّارِقِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب توبة السارق‏)‏ أي هل تفيده في رفع اسم الفسق عنه حتى تقبل شهادته أو لا‏؟‏ وقد وقع في آخر هذا الباب‏:‏ قال أبو عبد الله إذا تاب السارق وقطعت يده قبلت شهادته، وكذلك كل الحدود إذا تاب أصحابها قبلت شهادتهم، وهو في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده، وأبو عبد الله هو البخاري المصنف، وقد تقدمت هذه المسألة في الشهادات فيما يتعلق بالقاذف والسارق في شهادتهما‏.‏

ونقل البيهقي عن الشافعي أنه قال‏:‏ يحتمل أن يسقط كل حق لله بالتوبة، قال وجزم به في كتاب الحدود، وروى الربيع عنه أن حد الزنا لا يسقط، وعن الليث والحسن لا يسقط شيء من الحدود أبدا، قال وهو قول مالك، وعن الحنفية يسقط إلا الشرب‏.‏

وقال الطحاوي ولا يسقط إلا قطع الطريق لورود النص فيه والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَابَتْ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا

الشرح‏:‏

حديث عائشة في قصة التي سرقت مختصرا، ووقع في آخره ‏"‏ وتابت وحسنت توبتها ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى قبيل هذا، ووجه مناسبته للترجمة وصف التوبة بالحسن فإن ذلك يقتضي أن هذا الوصف يثبت للتائب المذكور فيعود لحالته التي كان عليها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ فَقَالَ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ إِذَا تَابَ السَّارِقُ بَعْدَ مَا قُطِعَ يَدُهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَكُلُّ مَحْدُودٍ كَذَلِكَ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ

الشرح‏:‏

وحديث عبادة بن الصامت في البيعة وفيه ذكر السرقة وفي آخره ‏"‏ فمن أصاب من ذلك شيئا فأخذ به في الدنيا فهو كفارة له وطهور ‏"‏ ووجه الدلالة منه أن الذي أقيم عليه الحد وصف بالتطهر فإذا انضم إلى ذلك أنه تاب فإنه يعود إلى ما كان عليه قبل ذلك فتضمن ذلك قبول شهادته أيضا‏.‏

والله أعلم‏.‏