فصل: باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا

أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم الآية‏)‏ كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة إلى قوله ‏(‏عذاب أليم‏)‏ وقد سبق تفسير العهد قبل خمسة أبواب، ويستفاد من الآية أن العهد غير اليمين لعطف اليمين عليه، ففيه حجة على من احتج بها بأن العهد يمين، واحتج بعض المالكية بأن العرف جرى على أن العهد والميثاق والكفالة والأمانة أيمان لأنها من صفات الذات، ولا يخفي ما فيه‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ وجه الدلالة أن الله خص العهد بالتقدمة على سائر الأيمان فدل على تأكد الحلف به لأن عهد الله ما أخذه على عباده وما أعطاه عباده كما قال تعالى ‏(‏ومنهم من عاهد الله‏)‏ الآية لأنه قدم على ترك الوفاء به‏.‏

قوله ‏(‏وقول الله تعالى‏:‏ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم‏)‏ كذا لأبي ذر‏.‏

وفي رواية غيره ‏"‏ وقوله جل ذكره ‏"‏ قال ابن التين وغيره‏:‏ اختلف في معناه فعن زيد بن أسلم‏:‏ لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بررة، وفائدة ذلك إثبات الهيبة في القلوب، ويشير إليه قوله ‏(‏ولا تطع كل حلاف مهين‏)‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ هو أن يحلف أن لا يصل رحمه مثلا فيقال له صل، فيقول قد حلفت وعلى هذا فمعنى قوله أن تبروا كراهة أن تبروا فينبغي أن يأتي الذي هو خير ويكفر انتهى‏.‏

وقد أخرجه الطبري من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس ولفظه ‏"‏ لا تجعل الله عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر واصنع الخير ‏"‏ وقيل هو أن يحلف أن يفعل نوعا من الخير تأكيدا له بيمينه فنهى عن ذلك حكاه الماوردي، وهو شبيه النهي عن النذر كما سيأتي نظيره، وعلى هذا فلا يحتاج إلى تقدير لا، قال الراغب وغيره‏:‏ العرضة ما يجعل معرضا لشيء آخر كما قالوا بعير عرضة للسفر، ومنه قول الشاعر ‏"‏ ولا يجعلني عرضة للوائم ‏"‏ ويقولون فلان عرضة للناس أي يقعون فيه، وفلانة عرضة للنكاح إذا صلحت له وقويت عليه، وجعلت فلانا عرضة في كذا أي أقمته فيه، وتطلق العرضة أيضا على الهمة كقول حسان ‏"‏ هي الأنصار عرضتها اللقاء‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا - إلى قوله - ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا‏)‏ هكذا وقع في رواية أبي ذر، وسقط ذلك لجميعهم، ووقع فيه تقديم وتأخير، والصواب قوله ‏(‏ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا - إلى قوله - ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا‏)‏ وقد وقع في رواية النسفي بعد قوله عرضة لأيمانكم ما نصه ‏"‏ وقوله ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا الآية وقوله وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم الآية ‏"‏ وقد مشى شرح ابن بطال على ما وقع عند أبي ذر فقال‏:‏ في هذا دليل على تأكيد لوفاء بالعهد لأن الله تعالى قال ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، ولم يتقدم غير ذلك العهد فعلم أنه يمين‏.‏

ثم ظهر لي أنه أراد ما وقع قبل قوله ‏(‏ولا تنقضوا‏)‏ وهو قوله ‏(‏وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم‏)‏ لكن لا يلزم من عطف الأيمان على العهد أن يكون العهد يمينا بل هو كالآية السابقة ‏(‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا‏)‏ فالآيات كلها دالات على تأكيد الوفاء بالعهد، وأما كونه يمينا فشيء آخر، ولعل البخاري أشار إلى ذلك، وقد تقدم كلام الشافعي ‏"‏ من حلف بعهد الله ‏"‏ قبل خمسة أبواب، وقوله ‏(‏وقد جعلتم الله عليكم كفيلا‏)‏ أي شهيدا في العهد أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير‏.‏

وأخرج عن مجاهد قال‏:‏ يعني وكيلا، واستدل بقوله تعالى ‏(‏ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم‏)‏ على أن اليمين الغموس لا كفارة فيها لأن ابن عباس فسرها بأن الرجل يحلف أن لا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير وأمره أن يصل قرابته ويكفر عن يمينه ولم يجعل لحالف الغموس مخرجا كذا قال، وتعقبه الخطابي بأنه لا يدل على ترك الكفارة في اليمين الغموس بل قد يدل لمشروعيتها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالُوا كَذَا وَكَذَا قَالَ فِيَّ أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ قُلْتُ إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا موسى بن إسماعيل‏)‏ هو التبوذكي‏.‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو عوانة‏)‏ هو الوضاح، وقد تقدم عن موسى هذا بعض هذا الحديث بدون قصة الأشعث في الشهادات لكن عن عبد الواحد وهو ابن زياد بدل أبي عوانة فالحديث عند موسى المذكور عنهما جميعا‏.‏

قوله ‏(‏عن أبي وائل‏)‏ هو شقيق بن سلمة، وقد تقدم في الشرب من رواية أبي حمزة وهو السكري، وفي الأشخاص من رواية أبي معاوية كلاهما عن الأعمش عن شقيق، وقد تقدم قريبا من رواية شعبة عن سليمان وهو الأعمش، ويستفاد منه أنه مما لم يدلس فيه الأعمش فلا يضر مجيئه عنه بالعنعنة‏.‏

قوله ‏(‏عن عبد الله‏)‏ في تفسير آل عمران عن حجاج بن منهال عن أبي عوانة بهذا السند عن عبد الله بن مسعود‏.‏

قوله ‏(‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ كذا وقع التصريح بالرفع في رواية الأعمش، ولم يقع ذلك في رواية منصور الماضية في الشهادات وفي الرهن، ووقع مرفوعا في رواية شعبة الماضية قريبا عن منصور والأعمش جميعا‏.‏

قوله ‏(‏من حلف على يمين صبر‏)‏ بفتح الصاد وسكون الموحدة، ويمين الصبر هي التي تلزم ويجبر عليها حالفها يقال أصبره اليمين أحلفه بها في مقاطع الحق، زاد أبو حمزة عن الأعمش ‏"‏ هو بها فاجر ‏"‏ وكذا للأكثر‏.‏

وفي رواية أبي معاوية ‏"‏ هو عليها فاجر ليقتطع ‏"‏ وكأن فيها حذفا تقديره هو في الإقدام عليها، والمراد بالفجور لازمه وهو الكذب، وقد وقع في رواية شعبة ‏"‏ على يمين كاذبة‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏يقتطع بها مال امرئ مسلم‏)‏ في رواية حجاج بن منهال ‏"‏ ليقتطع بها ‏"‏ بزيادة لام تعليل ويقتطع يفتعل من القطع كأنه قطعه عن صاحبه أو أخذ قطعة من ماله بالحلف المذكور‏.‏

قوله ‏(‏لقي الله وهو عليه غضبان‏)‏ في حديث وائل بن حجر عند مسلم ‏"‏ وهو عنه معرض ‏"‏ وفي رواية كردوس عن الأشعث عند أبي داود ‏"‏ إلا لقي الله وهو أجذم ‏"‏ وفي حديث أبي أمامة بن ثعلبة عند مسلم والنسائي نحوه في هذا الحديث ‏"‏ فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ‏"‏ وفي حديث عمران عند أبي داود ‏"‏ فليتبوأ مقعده من النار‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فأنزل الله تصديق ذلك‏:‏ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا‏)‏ كذا في رواية الأعمش ومنصور، ووقع في رواية جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين عند مسلم والترمذي وغيرهما جميعا عن أبي وائل عن عبد الله ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه ‏"‏ الحديث ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله ‏(‏إن الذين يشترون بعهد الله‏)‏ فذكر هذه الآية، ولولا التصريح في رواية الباب بأنها نزلت في ذلك لكان ظاهر هذه الرواية أنها نزلت قبل ذلك، وقد تقدم في تفسير آل عمران أنها نزلت فيمن أقام سلعته بعد العصر فحلف كاذبا، وتقدم أنه يجوز أنها نزلت في الأمرين معا‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ لعل الآية لم تبلغ ابن أبي أوفى إلا عند إقامته السلعة فظن أنها نزلت في ذلك، أو أن القصتين وقعتا في وقت واحد فنزلت الآية، واللفظ عام متناول لهما ولغيرهما‏.‏

قوله ‏(‏فدخل الأشعث بن قيس فقال‏:‏ ما حدثكم أبو عبد الرحمن‏)‏ ‏؟‏ كذا وقع عند مسلم من رواية وكيع عن الأعمش، وأبو عبد الرحمن هي كنية ابن مسعود‏.‏

وفي رواية جرير في الرهن ‏"‏ ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا فقال‏:‏ ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ‏"‏ والجمع بينهما أنه خرج عليهم من مكان كان فيه فدخل المكان الذي كانوا فيه‏.‏

وفي رواية الثوري عن الأعمش ومنصور جميعا - كما سيأتي في الأحكام - فجاء الأشعث وعبد الله يحدثهم، ويجمع بأن خروجه من مكانه الذي كان فيه إلى المكان الذي كان فيه عبد الله وقع وعبد الله يحدثهم فلعل الأشعث تشاغل بشيء فلم يدرك تحديث عبد الله فسأل أصحابه عما حدثهم به‏.‏

قوله ‏(‏فقالوا كذا وكذا‏)‏ في رواية جرير ‏"‏ فحدثناه ‏"‏ وبين شعبة في روايته أن الذي حدثه بما حدثهم به ابن مسعود هو أبو وائل الراوي ولفظه في الأشخاص ‏"‏ قال فلقيني الأشعث فقال‏:‏ ما حدثكم عبد الله اليوم‏؟‏ قلت كذا وكذا ‏"‏ وليس بين قوله فلقيني وبين قوله في الرواية خرج إلينا فقال ما يحدثكم منافاة، وإنما انفرد في هذه الرواية لكونه المجيب‏.‏

قوله ‏(‏قال في أنزلت‏)‏ رواية جرير ‏"‏ قال فقال صدق، لفي والله أنزلت ‏"‏ واللام لتأكيد القسم دخلت على في، ومراده أن الآية ليست بسب خصومته التي يذكرها‏.‏

وفي رواية أبي معاوية ‏"‏ في والله كان ذلك ‏"‏ وزاد جرير عن منصور ‏"‏ صدق ‏"‏ قال ابن مالك ‏"‏ لفي والله نزلت ‏"‏ شاهد على جواز توسط القسم بين جزءي الجواب، وعلى أن اللام يجب وصلها بمعمولي الفعل الجوابي المتقدم لا بالفعل‏.‏

قوله ‏(‏كان لي‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ كانت‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏بئر‏)‏ في رواية أبي معاوية ‏"‏ أرض ‏"‏ وادعى الإسماعيلي في الشرب أن أبا حمزة تفرد بقوله ‏"‏ في بئر ‏"‏ وليس كما قال فقد وافقه أبو عوانة كما ترى، وكذا يأتي في الأحكام من رواية الثوري عن الأعمش ومنصور جميعا، ومثله في رواية شعبة الماضية قريبا عنهم لكن بين أن ذلك في حديث الأعمش وحده، ووقع في رواية جرير عن منصور ‏"‏ في شيء ‏"‏ ولبعضهم ‏"‏ في بئر ‏"‏ ووقع عند أحمد من طريق عاصم عن شقيق أيضا ‏"‏ في بئر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏في أرض ابن عم لي‏)‏ كذا للأكثر أن الخصومة كانت في بئر يدعيها الأشعث في أرض لخصمه‏.‏

وفي رواية أبي معاوية ‏"‏ كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني ‏"‏ ويجمع بأن المراد أرض البئر لا جميع الأرض التي هي أرض البئر والبئر من جملتها، ولا منافاة بين قوله ابن عم لي وبين قوله من اليهود لأن جماعة من اليمن كانوا تهودوا لما غلب يوسف ذو نواس على اليمن فطرد عنها الحبشة فجاء الإسلام وهم على ذلك، وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في أوائل السيرة النبوية مبسوطا، وقد تقدم في الشرب أن اسم ابن عمه المذكور الخفشيش بن معدان بن معد يكرب، وبينت الخلاف في ضبط الخفشيش وأنه لقب واسمه جرير وقيل معدان حكاه ابن طاهر، والمعروف أنه اسم كنيته أبو الخير‏.‏

وأخرج الطبراني من طريق الشعبي عن الأشعث قال‏:‏ ‏"‏ خاصم رجل من الحضرميين رجلا منا يقال له الخفشيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي جيء بشهودك على حقك وإلا حلف لك ‏"‏ الحديث‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يخالف السياق الذي في الصحيح، فإن كان ثابتا حمل على تعدد القصة، وقد أخرج أحمد والنسائي من حديث عدي بن عميرة الكندي قال‏:‏ ‏"‏ خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عابس الكندي رجلا من حضر موت في أرض ‏"‏ فذكر نحو قصة الأشعث وفيه ‏"‏ إن مكنته من اليمين ذهبت أرضي‏.‏

وقال من حلف ‏"‏ فذكر الحديث وتلا الآية، ومعد يكرب جد الخفشيش وهو جد الأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية، فهو ابن عمه حقيقة‏.‏

ووقع في رواية لأبي داود من طريق كردوس عن الأشعث ‏"‏ أن رجلا من كندة ورجلا من حضر موت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرص من اليمن ‏"‏ فذكر قصة تشبه قصة الباب إلا أن بينهما اختلافا في السياق، وأظنها قصة أخرى فإن مسلما أخرج من طريق علقمة بن وائل عن أبيه قال ‏"‏ جاء رجل من حضر موت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي ‏"‏ وإنما جوزت التعدد لأن الحضرمي يغاير الكندي لأن المدعي في حديث الباب هو الأشعث وهو الكندي جزما والمدعي في حديث وائل هو الحضرمي فافترقا، ويجوز أن يكون الحضرمي‏:‏ نسب إلى البلد لا إلى القبيلة فإن أصل نسبة القبيلة كانت إلى البلد ثم اشتهرت النسبة إلى القبيلة، فلعل الكندي في هذه القصة كان يسكن حضر موت فنسب إليها والكندي لم يسكنها فاستمر على نسبته‏.‏

وقد ذكروا الخفشيش في الصحابة، واستشكله بعض مشايخنا لقوله في الطريق المذكورة قريبا إنه يهودي ثم قال يحتمل أنه أسلم‏.‏

قلت‏:‏ وتمامه أن يقال إنما وصفه الأشعث بذلك باعتبار ما كان عليه أولا، ويؤيد إسلامه أنه وقع في رواية كردوس عن الأشعث في آخر القصة أنه لما سمع الوعيد المذكور قال‏:‏ هي أرضه، فترك اليمين تورعا، ففيه إشعار بإسلامه‏.‏

ويؤيده أنه لو كان يهوديا ما بالى بذلك لأنهم يستحلون أموال المسلمين، وإلى ذنك وقعت الإشارة بقوله تعالى حكاية عنهم ‏(‏ليس علينا في الأميين سبيل‏)‏ أي حرج، ويؤيد كونه مسلما أرضا رواية الشعبي الآتية قريبا‏.‏

قوله ‏(‏فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية الثوري ‏"‏ خاصمته ‏"‏ وفي رواية جرير عن منصور ‏"‏ فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وفي رواية أبي معاوية ‏"‏ فجحدني فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال‏:‏ بينتك أو يمينه‏)‏ في رواية أبي معاوية ‏"‏ فقال‏:‏ ألك بينة‏؟‏ فقلت‏:‏ لا‏.‏

فقال لليهودي‏:‏ احلف ‏"‏ وفي رواية أبي حمزة ‏"‏ فقال لي‏:‏ شهودك‏.‏

قلت‏:‏ ما لي شهود‏.‏

قال‏:‏ فيمينه ‏"‏ وفي رواية وكيع عند مسلم ‏"‏ ألك عليه بينة ‏"‏ وفي رواية جرير عن منصور ‏"‏ شاهداك أو يمينه ‏"‏ وتقدم في الشهادات توجيه الرفع وأنه يجوز النصب، ويأتي نظيره في لفظ رواية الباب، ويجوز أن يكون توجيه الرفع‏:‏ لك إقامة شاهديك أو طلب يمينه، فحذف فيهما المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فرفع، والأصل في هذا التقدير قول سيبويه المثبت لك ما تدعيه شاهداك، وتأويله المثبت لك هو شهادة شاهديك إلخ‏.‏

قوله ‏(‏قلت إذا يحلف عليها يا رسول الله‏)‏ لم يقع في رواية أبي حمزة ما بعد قوله ‏"‏ يحلف ‏"‏ وتقدم في الشرب ‏"‏ أن يحلف ‏"‏ بالنص لوجود شرائطه من الاستقبال وغيره وأنه يجوز الرفع وذكر فيه توجيه ذلك، وزاد في رواية أبي معاوية ‏"‏ إذا يحلف ويذهب بمالي ‏"‏ ووقع في حديث وائل من الزيادة بعد قوله ألك بينة ‏"‏ قال لا قال فلك يمينه، قال إنه فاجر ليس يبالي ما حلف عليه وليس يتورع من شيء، قال ليس لك منه إلا ذلك ‏"‏ ووقع في رواية الشعبي عن الأشعث قال ‏"‏ أرضي أعظم شأنا أن يحلف عليها، فقال‏:‏ إن يمين المسلم يدرا بها أعظم من ذلك‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف‏)‏ فذكر مثل حديث ابن مسعود سواء وزاد ‏"‏ وهو فيها فاجر ‏"‏ وقد بينت أن هذه الزيادة وقعت في حديث ابن مسعود عند أبي حمزة وغيره، وزاد أبو حمزة ‏"‏ فأنزل الله ذلك تصديقا له ‏"‏ أي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقع في رواية منصور حديث ‏"‏ من حلف ‏"‏ من رواية الأشعث بل اقتصر على قوله ‏"‏ فأنزل الله ‏"‏ وساق الآية‏.‏

ووقع في رواية كردوس عن الأشعث ‏"‏ فتهيأ الكندي لليمين ‏"‏ وفي حديث وائل ‏"‏ فانطلق ليحلف، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الحديث‏.‏

ووقع في رواية الشعبي عن الأشعث ‏"‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هو حلف كاذبا أدخله الله النار‏.‏

فذهب الأشعث فأخبره القصة فقال‏:‏ أصلح بيني وبينه، قال فأصلح بينهما ‏"‏ وفي حديث عدي بن عميرة ‏"‏ فقال له أمرؤ القيس‏:‏ ما لمن تركها يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ الجنة‏.‏

قال أشهد أني قد تركتها له كلها ‏"‏ وهذا يؤيد ما أشرت إليه من تعدد القصة‏.‏

وفي الحديث سماع الحاكم الدعوى فيما لم يره إذا وصف وحدد وعرفه المتداعيان، لكن لم يقع في الحديث تصريح بوصف ولا تحديد، فاستدل به القرطبي على أن الوصف والتحديد ليس بلازم لذاته بل يكفي في صحة الدعوى تمييز المدعي به تمييزا ينضبط به‏.‏

قلت‏:‏ ولا يلزم من ترك ذكر التحديد والوصف في الحديث أن لا يكون ذلك وقع، ولا يستدل بسكوت الراوي عنه بأنه لم يقع بل يطالب من جعل ذلك شرطا بدليله فإذا ثبت حمل على أنه ذكر في الحديث ولم ينقله الراوي‏.‏

وفيه أن الحاكم يسأل المدعي هل له بينة‏؟‏ وقد ترجم بذلك في الشهادات ‏"‏ وأن البينة على المدعي في الأموال كلها ‏"‏ واستدل به لمالك في قوله إن من رضى بيمين غريمه ثم أراد إقامة البينة بعد حلفه أنها لا تسمع إلا إن أتي بعذر يتوجه له في ترك إقامتها قبل استحلافه، قال ابن دقيق العيد‏:‏ ووجهه أن ‏"‏ أو ‏"‏ تقتضي أحد الشيئين‏.‏

فلو جاز إقامة البينة بعد الاستحلاف لكان له الأمران معا والحديث يقتضي أنه ليس له إلا أحدهما، قال‏:‏ وقد يجاب بأن المقصود من هذا الكلام نفي طريق أخرى لإثبات الحق فيعود المعنى إلى حصر الحجة في البينة واليمين‏.‏

ثم أشار إلى أن النظر إلى اعتبار مقاصد الكلام وفهمه يضعف هذا الجواب، قال وقد يستدل الحنفية به في ترك العمل بالشاهد واليمين في الأموال‏.‏

قلت‏:‏ والجواب عنه بعد ثبوت دليل العمل بالشاهد واليمين أنها زيادة صحيحة يجب المصير إليها لثبوت ذلك بالمنطوق وإنما يستفاد نفيه من حديث الباب بالمفهوم، واستدل به على توجيه اليمين في الدعاوي كلها على من ليست له بينة‏.‏

وفيه بناء الأحكام على الظاهر وإن كان المحكوم له في نفس الأمر مبطلا‏.‏

وفيه دليل للجمهور أن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن حلالا له خلافا لأبي حنيفة كذا أطلقه النووي، وتعقب بأن ابن عبد البر نقل الإجماع على أن الحكم لا يحل حراما في الباطن في الأموال‏.‏

قال‏:‏ واختلفوا في حل عصمة نكاح من عقد عليها بظاهر الحكم وهي في الباطن بخلافه فقال الجمهور‏:‏ الفروج كالأموال‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وبعض المالكية‏:‏ إن ذلك إنما هو في الأموال دون الفروج، وحجتهم في ذلك اللعان انتهى‏.‏

وقد طرد ذلك بعض الحنفية في بعض المسائل في الأموال والله أعلم‏.‏

وفيه التشديد على من حلف باطلا ليأخذ حق مسلم، وهو عند الجميع محمول على من مات على غير توبة صحيحة، وعند أهل السنة محمول على من شاء الله أن يعذبه كما تقدم تقريره مرارا وآخرها في الكلام على حديث أبي ذر في كتاب الرقاق، وقوله ‏"‏ولا ينظر الله إليه ‏"‏ قال في الكشاف‏:‏ هو كناية عن عدم الإحسان إليه عند من يجوز عليه النظر، مجاز عند من لا يجوزه، والمراد بترك التزكية ترك الثناء عليه وبالغضب إيصال الشر إليه وقال المازري‏:‏ ذكر بعض أصحابنا أن فيه دلالة على أن صاحب اليد أولى بالمدعي فيه‏.‏

وفيه التنبيه على صورة الحكم في هذه الأشياء لأنه بدأ بالطالب فقال ليس لك إلا يمين الآخر، ولم يحكم بها للمدعى عليه إذا حلف بل إنما جعل اليمين تصرف دعوى المدعي لا غير، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حلف المدعى عليه أن لا يحكم له بملك المدعى فيه ولا بحيازته بل يقره على حكم يمينه، واستدل به على أنه لا يشترط في المتداعيين أن يكون بينهما اختلاط أو يكونا ممن يتهم بذلك ويليق به لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المدعى عليه هنا بالحلف بعد أن سمع الدعوى ولم يسأل عن حالهما، وتعقب بأنه ليس فيه التصريح بخلاف ما ذهب إليه من قال به من المالكية لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم من حاله ما أغناه عن السؤال فيه وقد قال خصمه عنه إنه فاجر لا يبالي ولا يتورع عن شيء ولم ينكر عليه ذلك ولو كان بريئا مما قال لبادر للإنكار عليه، بل في بعض طرق الحديث ما يدل على أن الغصب المدعى به وقع في الجاهلية ومثل ذلك تسمع الدعوى بيمينه فيه عندهم‏.‏

وفي الحديث أيضا أن يمين الفاجر تسقط عنه الدعوى، وأن فجوره في دينه لا يوجب الحجر عليه ولا إبطال إقراره ولولا ذلك لم يكن لليمين معنى، وأن المدعى عليه إن أقر أن أصل المدعي لغيره لا يكلف لبيان وجه مصيره إليه ما لم يعلم إنكاره لذلك يعني تسليم المطلوب له ما قال، قال‏:‏ وفيه أن من جاء بالبينة قضى له بحقه من غير يمين لأنه محال أن يسأله عن البينة دون ما يجب له الحكم به، ولو كانت اليمين من تمام الحكم له لقال له بينتك ويمينك على صدقها، وتعقب بأنه لا يلزم من كونه لا يحلف مع بينته على صدقها فيما شهدت أن الحكم له لا يتوقف بعد البينة على حلفه بأنه ما خرج عن ملكه ولا وهبه مثلا وأنه يستحق قبضه، فهذا وإن كان لم يذكر في الحديث فليس في الحديث ما ينفيه، بل فيه ما يشعر بالاستغناء عن ذكر ذلك لأن في بعض طرقه أن الخصم اعترف وسلم المدعى به للمدعي فأغنى ذلك عن طلبه يمينه، والغرض أن المدعي ذكر أنه لا بينة له فلم تكن اليمين إلا في جانب المدعى عليه فقط‏.‏

وقال القاضي عياض‏:‏ وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا البداءة بالسماع من الطالب ثم من المطلوب هل يقر أو ينكر، ثم طلب البينة من الطالب إن أنكر المطلوب، ثم توجيه اليمين على المطلوب إذا لم يجد الطالب البينة، وأن الطالب إذا ادعى أن المدعى به في يد المطلوب فاعترف استغنى عن إقامة البينة بأن يد المطلوب عليه، قال‏:‏ وذهب بعض العلماء إلى أن كل ما يجرى بين المتداعيين من تساب بخيانة وفجور هدر لهذا الحديث، وفيه نظر لأنه إنما نسبه إلى الغصب في الجاهلية وإلى الفجور وعدم التوقي في الأيمان في حال اليهودية فلا يطرد ذلك في حق كل أحد‏.‏

وفيه موعظة الحاكم المطلوب إذا أراد أن يحلف خوفا من أن يحلف باطلا فيرجع إلى الحق بالموعظة‏.‏

واستدل به القاضي أبو بكر بن الطيب في سؤال أحد المتناظرين صاحبه عن مذهبه فيقول له ألك دليل على ذلك‏؟‏ فإن قال نعم سأله عنه ولا يقول له ابتداء ما دليلك على ذلك‏؟‏ ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم قال للطالب‏:‏ ألك بينة‏.‏

ولم يقل له قرب بينتك‏.‏

وفيه إشارة إلى أن لليمين مكانا يختص به لقوله في بعض طرقه ‏"‏ فانطلق ليحلف ‏"‏ وقد عهد في عهده صلى الله عليه وسلم الحلف عند منبره، وبذلك احتج الخطابي فقال‏:‏ كانت المحاكمة والنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فانطلق المطلوب ليحلف فلم يكن انطلاقه إلا إلى المنبر لأنه كان في المسجد فلا بد أن يكون انطلاقه إلى موضع أخص منه‏.‏

وفيه أن الحالف يحلف قائما لقوله ‏"‏ فلما قام ليحلف ‏"‏ وفيه نظر لأن المراد بقوله قام ما تقدم من قوله انطلق ليحلف، واستدل به الشافعي أن من أسلم وبيده مال لغيره أنه يرجع إلى مالكه إذا أثبته، وعن المالكية اختصاصه بما إذا كان المال لكافر، وأما إذا كان لمسلم وأسلم عليه الذي هو بيده فإنه يقر بيده والحديث حجة عليهم‏.‏

ومال ابن المنير في الحاشية‏:‏ يستفاد منه أن الآية المذكورة في هذا الحديث نزلت في نقض العهد، وأن اليمين الغموس لا كفارة فيها لأن نقض العهد لا كفارة فيه، كذا قال، وغايته أنها دلالة اقتران‏.‏

وقال النووي يدخل في قوله ‏"‏ من اقتطع حق امرئ مسلم ‏"‏ من حلف على غير مال كجلد الميتة والسرجين وغيرهما مما ينتفع به، وكذا سائر الحقوق كنصيب الزوجة بالقسم، وأما التقييد بالمسلم فلا يدل على عدم تحريم حق الذمي بل هو حرام أيضا، لكن لا يلزم أن يكون فيه هذه العقوبة العظيمة، وهو تأويل حسن لكن ليس في الحديث المذكور دلالة على تحريم حق الذمي بل ثبت بدليل آخر‏.‏

والحاصل أن المسلم والذمي لا يفترق الحكم في الأمر فيهما في اليمين الغموس والوعيد عليها، وفي أخذ حقهما باطلا وإنما يفترق قدر العقوبة بالنسبة إليهما، قال‏:‏ وفيه غلظ تحريم حقوق المسلمين، وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره في ذلك، وكأن مراده عدم الفرق في غلط التحريم لا في مراتب الغلظ، وقد صرح ابن عبد السلام في ‏"‏ القواعد ‏"‏ بالفرق بين القليل والكثير وكذا بين ما يترتب عليه كثير المفسدة وحقيرها، وقد ورد الوعيد في الحالف الكاذب في حق الغير مطلقا في حديث أبي ذر ‏"‏ ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ‏"‏ أخرجه مسلم، وله شاهد عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ ‏"‏ ورجل حلف على سلعته بعد العصر كاذبا‏"‏‏.‏

*3*باب الْيَمِينِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَفِي الْمَعْصِيَةِ وَفِي الْغَضَبِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب اليمين فيما لا يملك وفي المعصية والغضب‏)‏ ذكر فيه ثلاثة أحاديث يؤخذ منها حكم ما في الترجمة على الترتيب، وقد تؤخذ الأحكام الثلاثة من كل منها ولو بضرب من التأويل، وقد ورد في الأمور الثلاثة على غير شرطه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا ‏"‏ لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ‏"‏ أخرجه أبو داود والنسائي ورواته لا بأس بهم، لكن اختلف في سنده على عمرو، وفي بعض طرقه عند أبي داود ‏"‏ ولا في معصية ‏"‏ وللطبراني في الأوسط عن ابن عباس رفعه ‏"‏ لا يمين في غضب ‏"‏ الحديث وسنده ضعيف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ الْحُمْلَانَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ فَقُلْ إِنَّ اللَّهَ أَوْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُكُمْ

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى في قصة طلبهم الحملان في غزوة تبوك، اقتصر منه على بعضه، وفيه ‏"‏ فقال لا أحملكم ‏"‏ وقد ساقه تاما غزوة تبوك بالسند المذكور هنا وفيه ‏"‏ فقال والله لا أحملكم ‏"‏ وهو الموافق للترجمة، وأشار بقوله ‏"‏ فيما لا يملك ‏"‏ إلى ما وقع في بعض طرقه كما سيأتي في ‏"‏ باب الكفارة قبل الحنث ‏"‏ فقال ‏"‏ والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم ‏"‏ وقد أحلت بشرح الحديث على الباب المذكور، قال ابن المنير‏:‏ فهم ابن بطال عن البخاري أنه نحا بهذه الترجمة لجهة تعليق الطلاق قبل ملك العصمة أو الحرية قبل ملك الرقبة، فنقل الاختلاف في ذلك وبسط القول فيه والحجج، والذي يظهر أن البخاري قصد غير هذا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يحملهم فلما حملهم راجعوه في يمينه فقال ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم، فبين أن يمينه إنما انعقدت فيما يملك فلو حملهم على ما يملك لحنث كفر، ولكنه حملهم على ما لا يملكه ملكا خاصا وهو مال الله وبهذا لا يكون قد حنث في يمينه‏.‏

وأما قوله عقب ذلك ‏"‏ لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها ‏"‏ فهو تأسيس قاعدة مبتدأة كأنه يقول ولو كنت حلفت ثم رأيت ترك ما حلفت عليه خيرا منه لأحنثت نفسي وكفرت عن يميني، قال وهم إنما سألوه أن يحملهم ظنا أنه يملك حملانا فحلف لا يحملهم على شيء يملكه لكونه كان حينئذ لا يملك شيئا من ذلك، قال‏:‏ ولا خلاف أن من حلف على شيء وليس في ملكه أنه لا يفعل فعلا معلقا بذلك الشيء مثل قوله والله لئن ركبت مثلا هذا البعير لأفعلن كذا لبعير لا يملكه أنه لو ملكه وركبه حنث وليس هذا من تعليق اليمين على الملك، قلت‏:‏ وما قاله محتمل، وليس ما قاله ابن بطال أيضا ببعيد بل هو أظهر، وذلك أن الصحابة الذين سألوا الحملان فهموا أنه حلف وأنه فعل خلاف ما حلف أنه لا يفعله، فلذلك لما أمر لهم بالحملان بعد قالوا ‏"‏ تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه ‏"‏ وظنوا أنه نسى حلفه الماضي، فأجابهم أنه لم ينس ولكن الذي فعله خير مما حلف عليه، وأنه إذا حلف فرأى خيرا من يمينه فعل الذي حلف أن لا يفعله وكفر عن يمينه، وسيأتي واضحا في ‏"‏ باب الكفارة قبل الحنث ‏"‏ ويأتي مزيد لمسألة اليمين فيما لا يملك في ‏"‏ باب النذر فيها لا يملك ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ح و حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ قَالَ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا فِي بَرَاءَتِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا

الشرح‏:‏

ذكر طرفا من حديث الإفك، وعبد العزيز شيخه هو ابن عبد الله الأويسي، وإبراهيم هو ابن سعد، وصالح هو ابن كيسان، وحجاج شيخه في السند الثاني هو ابن المنهال، وقد أورده عن عبد العزيز بطوله في المغازي، وأورد عن حجاج بهذا السند أيضا منه قطعة في الشهادات تتعلق بقول بريرة ‏"‏ ما علمت إلا خيرا ‏"‏ وقطعة في الجهاد فيمن أراد سفرا فأقرع بين نسائه، وقطعة في تفسير سورة يوسف مقررنا أيضا برواية عبد العزيز في قول يعقوب ‏(‏فصبر جميل‏)‏ ، وقطعة في غزوة بدر في قصة أم مسطح وقول عائشة لها ‏"‏ تسبين رجلا شهد بدرا ‏"‏ وقطعة في التوحيد في قول عائشة ‏"‏ ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى ‏"‏ ومجموع ما أورده عنه لا يجيء قدر عشر الحديث، والغرض منه قوله فيه ‏"‏ قال أبو بكر الصديق وكان ينفق على مسطح والله لا أنفق على مسطح ‏"‏ وهو موافق لترك اليمين في المعصية لأنه حلف أن لا ينفع مسطحا لكلامه في عائشة فكان حالفا على ترك طاعة فنهى الاستمرار على ما حلف عليه فيكون النهي عن الحلف على فعل المعصية بطريق الأولى، والظاهر من حاله عند الحلف أن يكون قد غضب على مسطح من أجل قوله الذي قاله‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ لا مناسبة لهذا الحديث بالجزءين الأولين إلا أن يكون قاسهما على الغضب، أو المراد بقوله وفي المعصية وفي شأن المعصية لأن الصديق حلف بسبب إفك مسطح والإفك من المعصية؛ وكذا كل ما لا يملك الشخص فالحلف عليه موجب للتصرف فيما لا يملكه قبل ذلك أي ليس له أن يفعله شرعا انتهى، ولا يخفى تكلفه، والأولى أنه لا يلزم أن يكون كل خبر في الباب يطابق جميع ما في الترجمة‏.‏

ثم قال الكرماني‏:‏ الظاهر أنه من تصرفات النقلة من أصل البخاري فإنه مات وفيه مواضع مبيضة من تراجم بلا حديث وأحاديث بلا ترجمة فأضافوا بعضا إلى بعض‏.‏

قلت‏:‏ وهذا إنما يصار إليه إذا لم تتجه المناسبة وقد بينا توجيهها والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ فَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا أبو معمر‏)‏ هو عبد الله بن عمرو، وعبد الوارث هو ابن سعيد، وأيوب وهو السختياني، والقاسم هو ابن عاصم، وزهدم هو ابن مضرب الجرمي والجميع بصريون، وقوله ‏"‏فوافقته وهو غضبان ‏"‏ مطابق لبعض الترجمة، وفي القصة نحو ما في قصة أبي بكر من الحلف على ترك طاعة، لكن بينهما فرق، وهو أن حلف النبي صلى الله عليه وسلم وافق أن لا شيء عنده مما حلف عليه، بخلاف حلف أبي بكر فإنه حلف وهو قادر على فعل ما حلف على تركه‏.‏

قال ابن المنير‏:‏ لم يذكر البخاري في الباب ما يناسب ترجمة اليمين على المعصية إلا أن يريد بيمين أبي بكر على قطيعة مسطح وليست بقطيعة بل هي عقوبة له على ما ارتكب من المعصية بالقذف، ولكن يمكن أن يكون أبو بكر حلف على خلاف الأولى، فإذا نهى عن ذلك حتى أحنث نفسه فعل ما حلف على تركه، فمن حلف على فعل المعصية يكون أولى‏.‏

قال‏:‏ وكذلك قوله ‏"‏ فأرى خيرا منها ‏"‏ يقتضي أن الحنث لفعل ما هو الأولى يقتضي الحنث لترك ما هو معصية بطريق الأولى، قال‏:‏ ولهذا يقضي بحنث من حلف على معصية من قبل أن يفعلها انتهى‏.‏

والقضاء المذكور عند المالكية كما سيأتي بسطه في ‏"‏ باب النذر في المعصية ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ في حديث أبي موسى الرد على من قال إن يمين الغضبان لغو

*3*باب إِذَا قَالَ وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ فَصَلَّى أَوْ قَرَأَ أَوْ سَبَّحَ أَوْ كَبَّرَ أَوْ حَمِدَ أَوْ هَلَّلَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَرْبَعٌ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَلِمَةُ التَّقْوَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا قال‏:‏ والله لا أتكلم اليوم فصلى أو قرأ أو سبح - إلى أن قال - فهو على نيته‏)‏ أي إن أراد إدخال القراءة والذكر حنث إذا قرأ أو ذكر وإن أراد أن لا يدخلهما لم يحنث، ولم يتعرض إذا أطلق، والجمهور على أنه لا يحنث‏.‏

وعن الحنفية يحنث، وفرق بعض الشافعية بين القرآن فلا يحنث به ويحنث بالذكر، وحجة الجمهور أن الكلام في العرف ينصرف إلى كلام الآدميين وأنه لا يحنث بالقراءة والذكر داخل الصلاة فليكن كذلك خارجها، ومن الحجة في ذلك الحديث الذي عند مسلم ‏"‏ إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءه القرآن ‏"‏ فحكم للذكر والقراءة بغير حكم كلام الناس‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ معنى قول البخاري ‏"‏ هو على نيته ‏"‏ أى العرفية، قال‏:‏ ويحتمل أن يكون مراده أنه لا يحنث بذلك إلا إن لغوى إدخاله في نيته فيؤخذ منه حكم الإطلاق؛ قال‏:‏ ومن فروع المسألة لو حلف لا كلمت زيدا ولا سلمت عليه فصلى خلفه فسلم الإمام وسلم المأموم التسليمة التي يخرج بها من الصلاة فلا يحنث بها جزما بخلاف التسليمة التي يرد بها على الإمام فلا يحنث أيضا لأنها ليست مما ينويه الناس عرفا، وفيه الخلاف انتهى‏.‏

وهو على مذهبهم، ويأتي نظيره عندنا في التسليمة الثانية إذا كان من حلف لا يكلمه عن يساره فلا يحنث إلا إن قصد الرد عليه‏.‏

قوله ‏(‏وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أفضل الكلام أربع سبحان الله إلخ‏)‏ هذا من الأحاديث التي لم يصلها البخاري في موضع آخر، وقد وصله النسائي من طريق ضرار بن مرة عن أبي صالح عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا بلفظه، وأخرجه مسلم من حديث سمرة بن جندب لكن بلفظ ‏"‏ أحب ‏"‏ بدل ‏"‏ أفضل ‏"‏ وأخرجه ابن حبان من هذا الطريق بلفظ ‏"‏ أفضل ‏"‏ ولحديث أبي هريرة طريق أخرى أخرجها النسائي وصححها ابن حبان من طريق أبي حمزة السكري عن الأعمش عن أبي صالح عنه بلفظ ‏"‏ خير الكلام أربع لا يضرك بأيهن بدأت ‏"‏ فذكره، وأخرجه أحمد عن وكيع عن الأعمش فأبهم الصحابي، وأخرجه النسائي من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن السلولي عن كعب الأحبار من قوله، وقد بينت معاني هذه الألفاظ الأربعة في ‏"‏ باب فضل التسبيح ‏"‏ من كتاب الدعوات‏.‏

قوله ‏(‏وقال أبو سفيان‏:‏ كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏)‏ هذا طرف ذكره بالمعنى من الحديث الطويل وقد شرحته بطوله في أول الصحيح وفي تفسير آل عمران، والغرض منه ومن جميع ما ذكر في الباب أن ذكر الله من جملة الكلام وإطلاق ‏"‏ كلمة ‏"‏ على مثل سبحان الله وبحمده من إطلاق البعض على الكل‏.‏

قوله ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ كلمة التقوى لا إله إلا الله‏)‏ وصله عبد بن حميد من طريق منصور بن المعتمر عن مجاهد بهذا موقوفا على مجاهد، وقد جاء مرفوعا من أحاديث جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وأبو هريرة وابن عباس وسلمة بن الأكوع وابن عمر أخرجها كلها أبو بكر بن مردويه في تفسيره، وحديث أبي عند الترمذي وذكر أنه سأل أبا زرعة عنه فلم يعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وأخرجه أبو العباس البريقي في جزئه المشهور موقوفا على جماعة من الصحابة والتابعين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ

الشرح‏:‏

حديث سعيد بن المسيب عن أبيه لما حضرت أبا طالب الوفاة الحديث مختصر، وقد تقدم بتمامه وشرحه في السيرة النبوية، والغرض منه قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏قل لا إله إلا الله كلمة أحاج ‏"‏ بضم أوله وتشديد أخره وأصله أحاجج والمراد أظهر لك بها الحجة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ

الشرح‏:‏

وحديث أبي هريرة ‏"‏ كلمتان خفيفتان على اللسان ‏"‏ الحديث وقد تقدم في الدعوات ويأتي شرحه مستوفى في آخر الكتاب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى مَنْ مَاتَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ النَّارَ وَقُلْتُ أُخْرَى مَنْ مَاتَ لَا يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ

الشرح‏:‏

وحديث عبد الله وهو ابن مسعود قال ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أخرى ‏"‏ الحديث وقد مضى، الكلام عليه في أوائل كتاب الجنائز، وذكرت ما وقع للنووي فيه، ووقع في تفسير البقرة بيان الكلمة المرفوعة من الكلمة الموقوفة؛ قال الكرماني‏:‏ المتجه أن يقول من مات لا يجعل لله ندا لا يدخل النار، لكن لما كان دخول الجنة محققا للموحد جزم به ولو كان آخرا‏.‏

*3*باب مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ شَهْرًا وَكَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من حلف أن لا يدخل على أهله شهرا وكان الشهر تسعا وعشرين‏)‏ أي ثم دخل فإنه لا يحنث، هذا يتصور إذا وقع الحلف أول جزء من الشهر اتفاقا، فإن وقع في أثناء الشهر ونقص هل يتعين أن يلفق ثلاثين أو يكتفي بتسع وعشرين‏؟‏ فالأول قول الجمهور‏.‏

وقالت طائفة منهم ابن عبد الحكم من المالكية بالثاني، وقد تقدم بيان ذلك في آخر شرح حديث عمر الطويل في آخر النكاح، ومضى الكلام على تفسير الإيلاء وعلى حديث أنس المذكور في هذا الباب في باب الإيلاء، واحتج الطحاوي للجمهور بالحديث الصحيح الماضي في الصيام بلفظ ‏"‏ الشهر تسع وعشرون فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإذا غم عليكم فأكملوا ثلاثين ‏"‏ قال فأوجب عليهم إذا أغمى ثلاثين وجعله على الكمال حتى يروا الهلال قبل ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وهذا إنما يحتج به على من زعم أنه إذا وقعت يمينه في أثناء الشهر أن يكتفي بتسع وعشرين سواء كان ذلك الشهر الذي حلف فيه تسعا وعشرين أو ثلاثين، وقد نقل هو هذا المذهب عن قوم، وأما قول ابن عبد الحكم فإنما يصلح تعقبه بحديث عائشة قالت ‏"‏ لا والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشهر تسع وعشرون، وإنما والله أعلم بما قال في ذلك أنه قال حين هجرنا لأهجرنكن شهرا ثم جاء لتسع وعشرين فسألته فقال إن شهرنا هذا كان تسعا وعشرين ‏"‏ قال الطحاوي بعد تخريجه‏:‏ يعرف بذلك أن يمينه كانت مع رؤية الهلال، كذا قال وليس ذلك صريحا في الحديث، والله أعلم‏.‏

*3*باب إِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ نَبِيذًا فَشَرِبَ

طِلَاءً أَوْ سَكَرًا أَوْ عَصِيرًا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَنْبِذَةٍ عِنْدَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا حلف إن لا يشرب نبيذا فشرب طلاء‏)‏ في رواية ‏"‏ الطلاء ‏"‏ بزيادة لام‏.‏

قوله ‏(‏أو سكرا‏)‏ بفتح المهملة وتخفيف الكاف‏.‏

قوله ‏(‏أو عصيرا لم يحنث في قول بعض الناس وليست هذه بأنبذة عنده‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ وليس ‏"‏ وقد تقدم تفسير الطلاء والسكر والنبيذ في كتاب الأشربة، قال المهلب‏:‏ الذي عليه الجمهور أن من حلف أن لا يشرب النبيذ بعينه لا يحنث بشرب غيره، ومن حلف لا يشرب نبيذا لما يخشى من السكر به فإنه يحنث بكل ما يشربه مما يكون فيه المعنى المذكور، فإن سائر الأشربة من الطبيخ والعصير تسمى نبيذا لمشابهتها له في المعنى، فهو كمن حلف لا يشرب شرابا وأطلق فإنه يحنث بكل ما يقع عليه اسم شراب، قال ابن بطال‏:‏ ومراد البخاري ببعض الناس أبو حنيفة ومن تبعه فإنهم قالوا إن الطلاء والعصير ليس بنبيذ لأن النبيذ في الحقيقة ما نبذ في الماء ونقع فيه، ومنه سمى المنبوذ منبوذا لأنه نبذ أي طرح، فأراد البخاري الرد عليهم، وتوجيهه من حديثي الباب أن حديث سهل يقتضى تسمية ما قرب عهده بالانتباذ نبيذا وإن حل شربه، وقد تقدم في الأشربة من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له ليلا فيشربه غدوة وينبذ له غدوة فيشربه عشية، وحديث سودة يؤيد ذلك فإنها ذكرت أنهم صاروا ينتبذون في جلد الشاة التي ماتت وما كانوا ينبذون إلا ما يحل شربه ومع ذلك كان يطلق عليه اسما نبيذ، فالنقيع في حكم النبيذ الذي لم يبلغ حد السكر والعصير من العنب الذي بلغ حد السكر في معنى النبيذ من التمر الذي بلغ حد السكر، وزعم ابن المنير في الحاشية أن الشارح بمعزل عن مقصود البخاري هنا قال‏.‏

وإنما أراد تصويب قول الحنفية ومن ثم قال لم يحنث ولا يضره قوله بعده ‏"‏ في قول بعض الناس ‏"‏ فإنه لو أراد خلافه لترجم على أنه يحنث، كيف يترجم على وفق مذهب ثم يخالفه انتهى‏.‏

والذي فهمه ابن بطال أوجه وأقرب إلى مراد البخاري‏.‏

والحاصل أن كل شيء يسمى في العرف نبيذا يحنث به إلا إن نوى شيئا بعينه فيختص به، والطلاء يطلق على المطبوخ من عصير العنب وهذا قد ينعقد فيكون دبسا وربا فلا يسمى نبيذا أصلا، وقد يستمر مائعا ويسكر كثيره فيسمى في العرف نبيذا، بل نقل ذلك ابن التين عن أهل اللغة أن الطلاء جنس من الشراب، وعن ابن فارس أنه من أسماء الخمر، وكذلك السكر يطلق على العصير قبل أن يتخمر، وقيل هو ما أسكر منه ومن غيره، ونقل الجوهري أن نبيذ التمر والعصير ما يعصر من العنب فيسمى بذلك ولو تخمر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَلِيٌّ سَمِعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي حَازِمٍ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَسَ فَدَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُرْسِهِ فَكَانَتْ الْعَرُوسُ خَادِمَهُمْ فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ هَلْ تَدْرُونَ مَا سَقَتْهُ قَالَ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِي تَوْرٍ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ

الشرح‏:‏

حديث سهل وقد مضى شرحه في الوليمة من كتاب النكاح، وعلى شيخه هو ابن المديني‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا

الشرح‏:‏

حديث سودة فهي بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية من بني عامر بن لؤي القرشية زوج النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت خديجة وهو بمكة ودخل بها قبل الهجرة‏.‏

قوله ‏(‏أخبرنا عبد الله‏)‏ هو ابن المبارك‏.‏

قوله ‏(‏فدبغنا مسكها‏)‏ بفتح الميم وبالمهملة أي جلدها‏.‏

قوله ‏(‏حتى صار شنا‏)‏ بفتح المعجمة وتشديد النون أي باليا، والشنة القربة العتيقة، وقد أخرج النسائي من طريق مغيرة بن مقسم عن الشعبي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا دباغ جلد الشاة الميتة غير هذا، وأشار المزي في ‏"‏ الأطراف ‏"‏ إلى أن ذلك علة لرواية إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي التي في الباب، وليس كذلك بل هما حديثان متغايران في السياق وإن كان كل منهما من رواية الشعبي عن ابن عباس، ورواية مغيرة هذه توافق لفظ رواية عطاء عن ابن عباس عن ميمونة وهي عند مسلم، وأخرجها البخاري من رواية عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس بغير ذكر ميمونة ولا ذكر الدباغ فيه، ومضى الكلام على ذلك مستوفي في أواخر كتاب الأطعمة، قال ابن أبي جمرة‏:‏ في حديث سودة الرد على من زعم أن الزهد لا يتم إلا بالخروج عن جميع ما يتملك لأن موت الشاة يتضمن سبق ملكها واقتنائها، وفيه جواز تنمية المال لأنهم أخذوا جلد الميتة فدبغوه فانتفعوا به بعد أن كان مطروحا، وفيه جواز تناول ما يهضم الطعام لما دل عليه الانتباذ، وفيه إضافة الفعل إلى المالك وإن باشره غيره كالخادم ا هـ ملخصا‏.‏