فصل: باب وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب غَزْوَةُ سِيفِ الْبَحْرِ

وَهُمْ يَتَلَقَّوْنَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَأَمِيرُهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب غزوة سيف البحر‏)‏ هو بكسر المهملة وسكون التحتانية وآخره فاء، أي ساحل البحر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهم يتلقون عير لقريش‏)‏ هو صريح ما في الرواية الثانية في الباب حيث قال فيها‏:‏ ‏"‏ نرصد عير قريش ‏"‏ وقد ذكر ابن سعد وغيره‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى حي من جهينة بالقبلية بفتح القاف والموحدة مما يلي ساحل البحر، بينهم وبين المدينة خمس ليال، وأنهم انصرفوا ولم يلقوا كيدا، وأن ذلك كان في رجب سنة ثمان‏.‏

وهذا لا يغاير ظاهره ما في الصحيح لأنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيرا لقريش ويقصدون حيا من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما عند مسلم من طريق عبيد الله بن مقسم عن جابر قال ‏"‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا إلى أرض جهينة ‏"‏ فذكر هذه القصة، لكن تلقى عير قريش ما يتصور أن يكون في الوقت الذي ذكره ابن سعد في رجب سنة ثمان لأنهم كانوا حينئذ في الهدنة، بل مقتضى ما في الصحيح أن تكون هذه السرية في سنة ست أو قبلها قبل هدنة الحديبية، نعم يحتمل أن يكون تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا، بل فيه أنهم قاموا نصف شهر أو أكثر في مكان واحد، فالله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَهُمْ ثَلَاثُ مِائَةٍ فَخَرَجْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ الْجَيْشِ فَجُمِعَ فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ فَكَانَ يَقُوتُنَا كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلٌ قَلِيلٌ حَتَّى فَنِيَ فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ فَقُلْتُ مَا تُغْنِي عَنْكُمْ تَمْرَةٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا حُوتٌ مِثْلُ الظَّرِبِ فَأَكَلَ مِنْهَا الْقَوْمُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلَعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَا ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ ثُمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن وهب بن كيسان عن جابر‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قبل الساحل‏)‏ بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهته، ووقع في رواية عبادة بن الوليد بن عبادة ‏"‏ سيف البحر ‏"‏ وسأذكر من أخرجها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأمر عليهم أبا عبيدة‏)‏ في رواية أبي حمزة الخولاني عن جابر بن أبي عاصم في الأطعمة ‏"‏ تأمر علينا قيس بن سعد بن عبادة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات الصحيحين أنه أبو عبيدة وكأن أحد رواته ظن من صنيع قيس بن سعد في تلك الغزوة ما صنع من نحر الإبل التي اشتراها أنه كان أمير السرية، وليس كذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فخرجنا فكنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع فكان مزود تمر‏)‏ المزود بكسر الميم وسكون الزاي ما يجعل فيه الزاد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكان يقوتنا‏)‏ بفتح أوله والتخفيف من الثلاثي، وبضمه والتشديد من التقويت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كل يوم قليلا قليلا حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة‏)‏ ظاهر هذا السياق أنهم كان لهم زاد بطريق العموم وأزواد بطريق الخصوص‏.‏

فلما فني الذي بطريق العموم اقتضى رأي أبي عبيدة أن يجمع الذي بطريق الخصوص لقصد المساواة بينهم في ذلك ففعل، فكان جميعه مزودا واحدا، ووقع عند مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر ‏"‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة، فتلقينا لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، وكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة ‏"‏ وظاهره مخالف لرواية الباب، ويمكن الجمع بأن الزاد العام كان قدر جراب، فلما نفد وجمع أبو عبيدة الزاد الخاص اتفق أنه أيضا كان قدر جراب ويكون كل من الراويين ذكر ما لم يذكره الآخر، وأما تفرقة ذلك تمرة تمرة فكان في ثاني الحال‏.‏

وقد تقدم في الجهاد من طريق هشام بن عروة عن وهب بن كيسان في هذا الحديث ‏"‏ خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا، ففني زادنا، حتى كان الرجل منا يأكل كل يوم تمرة ‏"‏ وأما قول عياض يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور فمردود لأن حديث الباب صريح في أن الذي اجتمع من أزوادهم كان مزود تمر، ورواية أبي الزبير صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم زودهم جرابا من تمر، فصح أن التمر كان معهم من غير الجراب‏.‏

وأما قول غيره يحتمل أن يكون تفرقته عليهم تمرة تمرة كان من الجراب النبوي قصدا لبركته، وكان يفرق عليهم من الأزواد التي جمعت أكثر من ذلك، فبعيد من ظاهر السياق بل في رواية هشام بن عروة عند ابن عبد البر ‏"‏ فقلت أزوادنا حتى ما كان يصيب الرجل منا إلا تمرة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقلت‏:‏ ما تغني عنكم تمرة‏)‏ ‏؟‏ هو صريح في أن السائل عن ذلك وهب بن كيسان فيفسر به المبهم في رواية هشام بن عروة التي مضت في الجهاد فإن فيها ‏"‏ فقال رجل يا أبا عبد الله - وهي كنية جابر- أين كانت تقع التمرة من الرجل ‏"‏‏؟‏ وعند مسلم من رواية أبي الزبير أنه أيضا سئل عن ذلك فقال‏:‏ ‏"‏ لقد وجدنا فقدها حين فنيت ‏"‏ أي مؤثرا‏.‏

وفي رواية أبي الزبير ‏"‏ فقلت كيف كنتم تصنعون بها‏؟‏ قال‏:‏ نمصها كما يمص الصبي الثدي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم انتهينا إلى البحر‏)‏ أي إلى ساحل البحر، وهو صريح الرواية الثانية‏.‏

وفي رواية أبي الزبير ‏"‏ فانطلقنا على ساحل البحر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا حوت مثل الظرب‏)‏ أما الحوت فهو اسم جنس لجميع السمك، وقيل هو مخصوص بما عظم منها، والظرب بفتح المعجمة المشالة، ووقع في بعض النسخ بالمعجمة الساقطة حكاها ابن التين‏.‏

والأول أصوب، وبكسر الراء بعدها موحدة‏:‏ الجبل الصغير‏.‏

وقال القزاز‏:‏ هو بسكون الراء إذا كان منبسطا ليس بالعالي‏.‏

وفي رواية أبي الزبير ‏"‏ فوقع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم‏:‏ فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر ‏"‏ وفي الرواية الثانية ‏"‏ فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر ‏"‏ وفي رواية الخولاني ‏"‏ فهبطنا بساحل البحر فإذا نحن بأعظم حوت ‏"‏ قال أهل اللغة‏:‏ العنبر سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلدها الترسة، ويقال إن العنبر المشموم رجيع هذه الدابة‏.‏

وقال ابن سيناء‏:‏ بل المشموم يخرج من البحر، وإنما يؤخذ من أجواف السمك الذي يبتلعه‏.‏

ونقل الماوردي عن الشافعي قال‏:‏ سمعت من يقول رأيت العنبر نابتا في البحر ملتويا مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله وهو سم لها فيقتلها فيقذفها، فيخرج العنبر من بطنها‏.‏

وقال الأزهري‏:‏ العنبر سمكة تكون بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسين ذراعا يقال لها بالة وليست بعربية‏:‏ قال الفرزدق‏:‏ فبتنا كأن العنبر الورد بيننا وبالة بحر فاؤها قد تخرما أي قد تشفق‏.‏

ووقع في رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار في أواخر الباب ‏"‏ فألقى لنا البحر حوتا ميتا ‏"‏ واستدل به على جواز أكل ميتة السمك، وسيأتي البحث فيه في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأكل منه القوم ثمان عشرة ليلة‏)‏ في رواية عمرو بن دينار ‏(‏فأكلنا منه نصف شهر‏)‏ وفي رواية أبي الزبير ‏"‏ فأقمنا عليها شهرا ‏"‏ ويجمع بين هذا الاختلاف بأن الذي قال‏:‏ ثمان عشرة ضبط ما لم يضبطه غيره، وأن من قال نصف شهر ألغى الكسر الزائد وهو ثلاثة أيام، ومن قال شهرا جبر الكسر أو ضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها، ورجح النووي رواية أبي الزبير لما فيها من الزيادة‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ إحدى الروايتين وهم‏.‏

انتهى‏.‏

ووقع في رواية الحاكم ‏"‏ اثني عشر يوما ‏"‏ وهي شاذة، وأشد منها شذوذا رواية الخولاني ‏"‏ فأقمنا قبلها ثلاثا ‏"‏ ولعل الجمع الذي ذكرته أولى‏.‏

والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا‏)‏ كذا فيه، واستشكل لأن الضلع مؤنثة، ويجاب بأن تأنيثه غير حقيقي فيجوز فيه التذكير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم أمر براحلة فرحلت ثم مرت تحتهما فلم تصبهما‏)‏ وفي الرواية الثانية ‏"‏ فعمد إلى أطول رجل معه فمر تحته ‏"‏ وفي حديث عبادة بن الصامت عند ابن إسحاق ‏"‏ ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فخرج من تحتهما وما مست رأسه ‏"‏ وهذا الرجل لم أقف على اسمه، وأظنه قيس بن سعد بن عبادة فإن له ذكرا في هذه الغزوة كما ستراه بعد، وكان مشهورا بالطول، وقصته في ذلك مع معاوية لما أرسل إليه ملك الروم بالسراويل معروفة، فذكرها المعافي الحريري في الجليس وأبو الفرج الأصبهاني وغيرهما، ومحصلها أن أطول رجل من الروم نزع له قيس بن سعد سراويله فكان طول قامة الرومي، بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها بالأرض، وعوتب قيس في نزع سراويله في المجلس فأنشد‏:‏ أردت لكيما يعلم الناس أنها سـراويل قيس والوفود شهود وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه سراويل عادي نمته ثمود وزاد مسلم في رواية أبي الزبير ‏"‏ فأخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه ‏"‏ والوقب تقدم ضبطه وهو حفرة العين في عظم الوجه، وأصله نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء والجمع وقاب بكسر أوله، ووقع في آخر صحيح مسلم من طريق عبادة بن الوليد ‏"‏ أن عبادة بن الصامت قال‏:‏ خرجت أنا وأبي نطلب العلم - فذكر حديثا طويلا وفي آخره - وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فقال‏:‏ عسى الله أن يطعمكم، فأتينا سيف البحر فزخر البحر زخرة فألقى دابة فأورينا على شقها النار فاطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا‏.‏

قال جابر‏:‏ فدخلت وفلان وفلان حتى عد خمسة في حجاج عينها وما يرانا أحد، حتى خرجنا وأخذنا ضلعا من أضلاعها فقوسناه ثم دعونا بأعظم رجل في الركب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب فدخل تحته ما يطأطأ رأسه‏"‏‏.‏

وظاهر سياقه أن ذلك وقع لهم في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يمكن حمل قوله فأتينا سيف البحر على أنه معطوف على شيء محذوف تقديره‏:‏ فبعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأتينا إلخ، فيتحد مع القصة التي في حديث الباب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الَّذِي حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مِائَةِ رَاكِبٍ أَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ نَرْصُدُ عِيرَ قُرَيْشٍ فَأَقَمْنَا بِالسَّاحِلِ نِصْفَ شَهْرٍ فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهِ حَتَّى ثَابَتْ إِلَيْنَا أَجْسَامُنَا فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ فَعَمَدَ إِلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ مَعَهُ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ وَأَخَذَ رَجُلًا وَبَعِيرًا فَمَرَّ تَحْتَهُ قَالَ جَابِرٌ وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ نَهَاهُ وَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لِأَبِيهِ كُنْتُ فِي الْجَيْشِ فَجَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ قَالَ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ قَالَ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نَحَرْتُ ثُمَّ جَاعُوا قَالَ انْحَرْ قَالَ نُهِيتُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط‏)‏ بفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة هو ورق السلم، في رواية أبي الزبير ‏"‏ وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله ‏"‏ وهذا يدل على أنه كان يابسا، بخلاف ما جزم به الداودي أنه كان أخضر رطبا‏.‏

ووقع في رواية الخولاني ‏"‏ وأصابتنا مخمصة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى ثابت‏)‏ بمثلثة أي رجعت، وفيه إشارة إلى أنهم أصابهم هزال من الجوع السابق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وادهنا من ودكه‏)‏ بفتح الواو والمهملة أي شحمه‏.‏

وفي رواية أبي الزبير ‏"‏ فلقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ونقطع منه الفدر كالثور‏"‏‏.‏

والوقب بفتح الواو وسكون القاف بعدها موحدة هي النقرة التي تكون فيها الحدقة، والفدر بكسر الفاء وفتح الدال جمع فدرة بفتح ثم سكون وهي القطعة من اللحم ومن غيره‏.‏

وفي رواية الخولاني ‏"‏ فحملنا ما شئنا من قديد وودك في الأسقية والغرائر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه‏)‏ كذا للأكثر، وللمستملي ‏"‏ من أعضائه ‏"‏ والأول أصوب لأن في السياق ‏"‏ قال سفيان مرة ضلعا من أعضائه ‏"‏ فدل على أن الرواية الأولى ‏"‏ من أضلاعه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر‏)‏ أي عندما جاعوا، ووقع في رواية الخولاني ‏"‏ سبع جزائر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان عمرو‏)‏ هو ابن دينار، وأبو صالح هو ذكوان السمان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن قيس بن سعد قال لأبيه‏:‏ كنت في الجيش فجاعوا، قال‏:‏ انحر‏)‏ وهذا صورته مرسل لأن عمرو بن دينار لم يدرك زمان تحديث قيس لأبيه، لكنه في مسند الحميدي موصول أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريقه ولفظه ‏"‏ عن أبي صالح عن قيس بن سعد بن عبادة قال‏:‏ قلت لأبي وكنت في ذلك الجيش جيش الخبط فأصاب الناس جوع، قال لي‏:‏ انحر‏.‏

قلت‏:‏ نحرت ‏"‏ فذكره وفي آخره ‏"‏ قلت نهيت ‏"‏ وذكر الواقدي بإسناد له أن قيس بن سعد لما رأى ما بالناس قال‏:‏ من يشتري مني تمرا بالمدينة بجزور هنا، فقال له رجل من جهينة‏:‏ من أنت‏؟‏ فانتسب له، فقال‏:‏ عرفت نسبك‏.‏

فابتاع منه خمس جزائر بخمسة أوسق وأشهد له نفرا من الصحابة، فامتنع عمر لكون قيس لا مال له، فقال الأعرابي‏:‏ ما كان سعد ليجني بابنه في أوسق تمر، فبلغ ذلك سعدا فغضب ووهب لقيس أربع حوائط أقلها يجذ خمسين وسقا‏.‏

وزاد ابن خزيمة من طريق عمرو بن الحارث عن عمرو بن دينار وقال في حديثه ‏"‏ لما قدموا ذكروا شأن قيس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت ‏"‏ وفي حديث الواقدي أن أهل المدينة بلغهم الجهد الذي قد أصاب القوم، فقال سعد بن عبادة إن يك قيس كما أعرف فسينحر للقوم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ غَزَوْنَا جَيْشَ الْخَبَطِ وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ فَأَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ كُلُوا فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ أَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ فَأَكَلَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأمر أبو عبيدة‏)‏ كذا لهم يضم الهمزة وتشديد الميم على البناء للمجهول‏.‏

وفي رواية ابن عيينة عند مسلم ‏"‏ وأميرنا أبو عبيدة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأخبرني أبو الزبير‏)‏ القائل هو ابن حريج، وهو موصول بالإسناد المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أطعمونا إن كان معكم منه، فآتاه بعضهم‏)‏ بالمد أي فأعطاه ‏(‏فأكله‏)‏ ووقع في رواية ابن السكن ‏"‏ فأتاه بعضهم بعضو منه فأكله ‏"‏ قال عياض‏.‏

وهو الوجه‏.‏

قلت‏:‏ في رواية أحمد من طريق ابن جريج التي أخرجها منه البخاري ‏"‏ وكان معنا منه شيء، فأرسل به إليه بعض القوم فأكل منه ‏"‏ ووقع في رواية أبي حمزة عن جابر عند ابن أبي عاصم في كتاب الأطعمة ‏"‏ فلما قدموا ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لو نعلم أنا ندركه لم يروح لأحببنا لو كان عندنا منه ‏"‏ وهذا لا يخالف رواية أبي الزبير لأنه يحمل على أنه قال ذلك ازديادا منه بعد أن أحضروا له منه ما ذكر، أو قال ذلك قبل أن يحضروا له منه وكان الذي أحضروه معهم لم يروح فأكل منه، والله أعلم‏.‏

وفي الحديث من الفوائد أيضا مشروعية المواساة بين الجيش عند وقوع المجاعة، وأن الاجتماع على الطعام يستدعي البركة فيه، وقد اختلفوا في سبب نهي أبي عبيدة قيسا أن يستمر على إطعام الجيش، فقيل‏:‏ لخشية أن تفنى حمولتهم، وفيه نظر لأن القصة أنه اشترى من غير العسكر، وقيل‏:‏ لأنه كان يستدين على ذمته، وليس له مال فأريد الرفق به، وهذا أظهر‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب حَجُّ أَبِي بَكْرٍ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حج أبي بكر بالناس في سنة تسع‏)‏ كذا جزم به، ونقل المحب الطبري عن صحيح ابن حبان أن فيه عن أبي هريرة ‏"‏ لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من حنين اعتمر من الجعرانة وأمر أبا بكر في تلك الحجة ‏"‏ قال المحب‏:‏ إنما حج أبو بكر سنة تسع والجعرانة كانت سنة ثمان، قال‏:‏ وإنما حج فيها عتاب بن أسيد، كذا قال، وكأنه تبع الماوردي فإنه قال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عتابا أن يحج بالناس عام الفتح، والذي جزم به الأزرقي في ‏"‏ أخبار مكة ‏"‏ خلافه فقال‏:‏ لم يبلغنا أنه استعمل في تلك السنة على الحج أحدا، وإنما ولي عتابا إمرة مكة فحج المسلمون والمشركون جميعا وكان المسلمون مع عتاب لكونه الأمير‏.‏

قلت‏:‏ والحق أنه لم يختلف في ذلك، وإنما وقع الاختلاف في أي شهر حج أبو بكر، فذكر ابن سعد وغيره بإسناد صحيح عن مجاهد أن حجة أبي بكر وقعت في ذي القعدة، ووافقه عكرمة بن خالد فيما أخرجه الحاكم في ‏"‏ الإكليل‏"‏، ومن عدا هذين إما مصرح بأن حجة أبي بكر كانت في ذي الحجة - كالداودي وبه جزم من المفسرين الرماني والثعلبي والماوردي وتبعهم جماعة - وإما ساكت‏.‏

والمعتمد ما قاله مجاهد وبه جزم الأزرقي‏.‏

ويؤيده أن ابن إسحاق صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعد أن رجع من تبوك رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، فهو ظاهر في أن بعث أبي بكر كان بعد انسلاخ ذي القعدة، فيكون حجه في ذي الحجة على هذا والله أعلم‏.‏

واستدل بهذا الحديث على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع، والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة، وذهب جماعة إلى أن حج أبي بكر هذا لم يسقط عنه الفرض بل كان تطوعا قبل فرض الحج ولا يخفى ضعفه‏.‏

ولبسط تقرير ذلك موضع غير هذا‏.‏

وقال ابن القيم في الهدي‏:‏ ويستفاد أيضا من قول أبي هريرة في حديث الباب ‏"‏ قبل حجة الوداع ‏"‏ أنها كانت سنة تسع لأن حجة الوداع كانت سنة عشر اتفاقا، وذكر ابن إسحاق أن خروج أبي بكر كان في ذي القعدة، وذكر الواقدي أنه خرج في تلك الحجة مع أبي بكر ثلاثمائة من الصحابة، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بدنة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في رهط يؤذن في الناس أن لا يحج بعد العام مشرك ‏"‏ هكذا أورده مختصرا، وسيأتي في تفسير سورة براءة تام السياق، ويأتي تمام شرحه هناك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةٌ وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ

الشرح‏:‏

حديث البراء ‏"‏ آخر سورة نزلت كاملة براءة ‏"‏ الحديث، وسيأتي شرحه في التفسير أيضا وبيان ما وقع فيه من الإشكال من قوله‏:‏ ‏"‏ كاملة ‏"‏ والغرض منه الإشارة إلى أن نزول قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا‏)‏ الآية كان في هذه القصة، أشار إلى ذلك الإسماعيلي ودقق في ذلك على خلاف عادته من الاعتراض على مثل ذلك‏.‏

وقد ذكر ابن إسحاق بإسناد مرسل قال‏:‏ ‏"‏ نزلت براءة وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا على الحج، فقيل لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال‏:‏ لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا عليا فقال‏:‏ اخرج بصدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر بمنى إذا اجتمعوا ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

وروى أحمد من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال‏:‏ ‏"‏ كنت مع علي بن أبي طالب، فكنت أنادي حتى صحل صوتي ‏"‏ الحديث‏.‏

ومن طريق زيد بن يشيع قال‏:‏ ‏"‏ سألت عليا بأي شيء بعثت في الحجة‏؟‏ قال‏:‏ بأربع لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ‏"‏ وأخرجه الترمذي من هذا الوجه وصححه‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع هنا ذكر حجة أبي بكر قبل الوفود، والواقع أن ابتداء الوفود كان بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة في ‏"‏ أواخر سنة ثمان وما وبعدها، بل ذكر ابن إسحاق أن الوفود كانوا بعد غزوة تبوك‏.‏

نعم اتفقوا على أن ذلك كله كان في سنة تسع‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ‏"‏ حدثني أبو عبيدة قال‏:‏ كانت سنة تسع تسمى سنة الوفود ‏"‏ وقد تقدم في غزوة الفتح في حديث عمرو بن سلمة ‏"‏ كانت العرب تلوم بإسلامها الفتح ‏"‏ الحديث‏.‏

فلما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، ولعل ذلك من تصرف الرواة كما قدمته غير مرة، وسيأتي نظير هذا في تقديم حجة الوداع على غزوة تبوك، وقد سرد محمد بن سعد في الطبقات الوفود، وتبعه الدمياطي في السيرة التي جمعها، وتبعه ابن سيد الناس، ومغلطاي، وشيخنا في نظم السيرة ومجموع ما ذكروه يزيد على الستين‏.‏

*3*باب وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفد بني تميم‏)‏ أي ابن مر بضم الميم وتشديد الراء ابن أد بضم الهمزة وتشديد الدال المهملة ابن طابخة بموحدة مكسورة ثم معجمة ابن إلياس بن مضر بن نزار، وذكر ابن إسحاق أن أشراف بني تميم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم منهم عطارد بن حاجب الدارمي والأقرع بن حابس الدارمي والزبرقان بن بدر السعدي وعمرو بن الأهتم المنقري والحباب بن يزيد المجاشعي ونعيم بن يزيد بن قيس بن الحارث وقيس بن عاصم المنقري، قال ابن إسحاق‏:‏ ومعهم عيينة بن حصن، وكان الأقرع وعيينة شهدا الفتح ثم كانا مع بني تميم، فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته، فذكر القصة‏.‏

وسيأتي بيان ذلك في تفسير سورة الحجرات إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي صَخْرَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَتَى نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا فَرُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ فَجَاءَ نَفَرٌ مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ قَالُوا قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ

الشرح‏:‏

حديث عمران بن حصين في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اقبلوا البشرى يا بني تميم ‏"‏ الحديث وقد تقدم شرحه في أول بدء الخلق‏.‏

*3*باب

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ غَزْوَةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَأَغَارَ وَأَصَابَ مِنْهُمْ نَاسًا وَسَبَى مِنْهُمْ نِسَاءً

الشرح‏:‏

‏(‏باب قال ابن إسحاق غزوة عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر‏)‏ يعني الفزاري ‏(‏بني العنبر من بني تميم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأغار وأصاب منهم ناسا وسبي منهم سباء‏)‏ انتهى‏.‏

وذكر الواقدي أن سبب بعث عيينة أن بني تميم أغاروا على ناس من خزاعة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عيينة بن حصن في خمسين ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري، فأسر منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا‏.‏

فقدم رؤساؤهم بسبب ذلك‏.‏

قال ابن سعد‏:‏ كان ذلك في المحرم سنة تسع‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهَا فِيهِمْ هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ وَكَانَتْ فِيهِمْ سَبِيَّةٌ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمٍ أَوْ قَوْمِي

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكانت فيهم‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ منهم‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سبية‏)‏ بفتح المهملة وكسر الموحدة وتشديد التحتانية وتخفيفها ثم همزة، أي جارية مسبية فعيلة بمعنى مفعولة، وقد تقدم الكلام على اسمها وتسمية بعض من أسر معها وشرح هذه القصة من هذا الحديث في كتاب العتق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وجاءت صدقاتهم فقال‏:‏ هذه صدقات قوم، أو قومي‏)‏ كذا وقع بالشك وقوم بالكسر بغير تنوين‏.‏

وفي رواية أبي يعلى عن زهير بن حرب شيخ البخاري فيه ‏"‏ صدقات قومي ‏"‏ بغير تردد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ عُمَرُ بَلْ أَمِّرْ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي قَالَ عُمَرُ مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا حَتَّى انْقَضَتْ

الشرح‏:‏

قوله في حديث عبد الله بن الزبير ‏(‏قدم ركب من بني تميم فقال أبو بكر‏:‏ أمر القعقاع‏)‏ سيأتي شرح هذا الحديث مستوفى في أول تفسير سورة الحجرات إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب وفد عبد القيس‏)‏ هي قبيلة كبيرة يسكنون البحرين ينسبون إلى عبد القيس بن أفصى بسكون الفاء بعدها مهملة بوزن أعمى ابن دعمي بضم ثم سكون المهملة وكسر الميم بعدها تحتانية ثقيلة ابن جديلة بالجيم وزن كبيرة ابن أسد بن ربيعة بن نزار، والذي تبين لنا أنه كان لعبد القيس وفادتان‏:‏ إحداهما قبل الفتح، ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بيننا وبينك كفار مضر ‏"‏ وكان ذلك قديما إما في سنة خمس أو قبلها، وكانت قريتهم بالبحرين أول قرية أقيمت فيها الجمعة بعد المدينة كما ثبت في آخر حديث في الباب، وكان عدد الوفد الأول ثلاثة عشر رجلا، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان فيهم الأشج وقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن فيك خصلتين يحبهما الله‏:‏ الحلم والأناة ‏"‏ كما أخرج ذلك مسلم من حديث أبي سعيد، وروى أبو داود من طريق أم أبان بنت الوازع بن الزارع عن جدها زارع وكان في وفد عبد القيس قال‏:‏ ‏"‏ فجعلنا نتبادر من رواحلنا يعني لما قدموا المدينة - فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏، وانتظر الأشج واسمه المنذر حتى لبس ثوبيه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له‏:‏ ‏"‏ إن فيك لخصلتين ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي حديث هود بن عبد الله بن سعد العصري أنه سمع جده مزيدة العصري قال‏:‏ - بينما النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قال لهم‏:‏ سيطلع عليكم من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق، فقام عمر فتوجه نحوهم فلقي ثلاثة عشر راكبا فبشرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مشى معهم حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فرموا بأنفسهم عن ركائبهم فأخذوا يده فقبلوها، وتأخر الأشج في الركاب حتى أناخها وجمع متاعهم ثم جاء يمشي، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن فيك خصلتين الحديث أخرجه البيهقي، وأخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ مطولا من وجه آخر عن رجل من وفد عبد القيس لم يسمه‏.‏

ثانيتهما كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ أربعين رجلا كما في حديث أبي حيوه الصناحي الذي أخرجه ابن منده، وكان فيهم الجارود العبدي، وقد ذكر ابن إسحاق قصته وأنه كان نصرانيا فأسلم وحسن إسلامه‏.‏

ويؤيد التعدد ما أخرجه ابن حبان من وجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ ‏"‏ ما لي أرى ألوانكم تغيرت ‏"‏ ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغير‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّ لِي جَرَّةً يُنْتَبَذُ لِي نَبِيذٌ فَأَشْرَبُهُ حُلْوًا فِي جَرٍّ إِنْ أَكْثَرْتُ مِنْهُ فَجَالَسْتُ الْقَوْمَ فَأَطَلْتُ الْجُلُوسَ خَشِيتُ أَنْ أَفْتَضِحَ فَقَالَ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا النَّدَامَى فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُضَرَ وَإِنَّا لَا نَصِلُ إِلَيْكَ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ حَدِّثْنَا بِجُمَلٍ مِنْ الْأَمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهِ دَخَلْنَا الْجَنَّةَ وَنَدْعُو بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغَانِمِ الْخُمُسَ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ مَا انْتُبِذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت لابن عباس إن لي جرة تنتبذ لي نبيذا‏)‏ أسند الفعل إلى الجرة مجازا، وقوله‏:‏ ‏"‏ في جر ‏"‏ يتعلق بجرة وتقديره أن لي جرة كائنة في جملة جرار، وقوله ‏"‏خشيت أن أفتضح ‏"‏ أي لأني أصير في مثال حال السكارى، وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى في الكلام على ‏"‏ باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في الأوعية ‏"‏ وقدم حديث الباب في أواخر كتاب الإيمان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو وَقَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرٍ أَنَّ كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَرْسَلُوا إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالُوا اقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنَّا جَمِيعًا وَسَلْهَا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَإِنَّا أُخْبِرْنَا أَنَّكِ تُصَلِّيهَا وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكُنْتُ أَضْرِبُ مَعَ عُمَرَ النَّاسَ عَنْهُمَا قَالَ كُرَيْبٌ فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا وَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي فَقَالَتْ سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ فَأَخْبَرْتُهُمْ فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهُمَا وَإِنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَصَلَّاهُمَا فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الْخَادِمَ فَقُلْتُ قُومِي إِلَى جَنْبِهِ فَقُولِي تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَمْ أَسْمَعْكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي فَفَعَلَتْ الْجَارِيَةُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِنَّهُ أَتَانِي أُنَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏أخبرني عمرو‏)‏ هو ابن الحارث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال بكر بن مضر إلخ‏)‏ وصله الطحاوي من طريق عبد الله بن صالح عن بكر بن مضر بإسناده، وساقه هنا على لفظ بكر بن مضر، وتقدم في سجود السهو في الصلاة من الوجهين، وساقه على لفظ عبد الله بن وهب وتقدم شرحه هناك‏.‏

والغرض منه ما فيه من ذكر وفد عبد القيس

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى يَعْنِي قَرْيَةً مِنْ الْبَحْرَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أبو عامر عبد الملك‏)‏ هو ابن عمرو العقدي‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏بجواثى‏)‏ بضم الجيم وتخفيف المثلثة، وقد تقدم ذلك مع شرح الحديث في كتاب الجمعة‏.‏

*3*باب وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ وَحَدِيثِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال‏)‏ أما حنيفة فهو ابن لجيم بجيم ابن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وهي قبيلة كبيرة شهيرة ينزلون اليمامة بين مكة واليمن، وكان وفد بني حنيفة كما ذكره ابن إسحاق وغيره في سنه تسع، وذكر الواقدي كانوا سبعة عشر رجلا فيهم مسيلمة‏.‏

وأما ثمامة بن أثال فأبوه بضم الهمزة خفيفة ابن النعمان بن مسلمة الحنفي، وهو من فضلاء الصحابة، وكانت قصته قبل وفد بني حنيفة بزمان، فإن قصته صريحة في أنها كانت قبل فتح مكة كما سنبينه، وكان البخاري ذكرها هنا استطرادا‏.‏

ثم ذكر المصنف فيه أربعة أحاديث‏:‏ الحديث الأول حديث أبي هريرة في قصة ثمامة، وقد صرح فيه بسماع سعيد المقبري له من أبي هريرة‏.‏

وأخرجه ابن إسحاق عن سعيد فقال‏:‏ ‏"‏ عن أبيه عن أبي هريرة ‏"‏ وهو من المزيد في متصل الأسانيد فإن الليث موصوف بأنه أتقن الناس لحديث سعيد المقبري، ويحتمل أن يكون سعيد سمعه من أبي هريرة، وكان أبوه قد حدثه به قبل، أو ثبته في شيء منه فحدث به على الوجهين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَالَ عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ فَقَالَ مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ فَقَالَ عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ فَقَالَ أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ صَبَوْتَ قَالَ لَا وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد‏)‏ أي بعث فرسان خيل إلى جهة نجد، وزعم سيف في ‏"‏ كتاب الزهد ‏"‏ له أن الذي أخذ ثمامة وأسره هو العباس بن عبد المطلب، وفيه نظر أيضا لأن العباس إنما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان فتح مكة، وقصة ثمامة تقتضي أنها كانت قبل ذلك بحيث اعتمر ثمامة ثم رجع إلى بلاده ثم منعهم أن يميروا أهل مكة، ثم شكا أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ثم بعث يشفع فيهم عند ثمامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ماذا عندك‏)‏ أي أي شيء عندك‏؟‏ ويحتمل أن تكون ‏"‏ ما ‏"‏ استفهامية و ‏"‏ ذا ‏"‏ موصولة ‏"‏ وعندك ‏"‏ صلته، أي ما الذي استقر في ظنك أن أفعله بك‏؟‏ فأجاب بأنه ظن خيرا فقال‏:‏ عندي يا محمد خير، أي لأنك لست ممن يظلم، بل ممن يعفو ويحسن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن تقتلني تقتل ذا دم‏)‏ كذا للأكثر بمهملة مخففة الميم، وللكشميهني ‏"‏ ذم ‏"‏ بمعجمة مثقل الميم، قال النووي‏:‏ معنى رواية الأكثر إن تقتل تقتل ذا دم أي صاحب دم لدمه موقع يشتفي قاتله بقتله ويدرك ثأره لرياسته وعظمته، ويحتمل أن يكون المعنى أنه عليه دم وهو مطلوب به فلا لوم عليك في قتله‏.‏

وأما الرواية بالمعجمة فمعناها ذا ذمة، وثبت كذلك في رواية أبي داود، وضعفها عياض بأنه يقلب المعنى لأنه إذا كان ذا ذمة يمتنع قتله‏.‏

قال النووي‏:‏ يمكن تصحيحها بأن يحمل على الوجه الأول، والمراد بالذمة الحرمة في قومه، وأوجه الجميع الوجه الثاني لأنه مشاكل لقوله بعد ذلك‏:‏ ‏"‏ وإن تنعم تنعم على شاكر‏"‏، وجميع ذلك تفصيل لقوله عندي خير؛ وفعل الشرط إذا كرر في الجزاء دل على فخامة الأمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ عندي ما قلت لك‏)‏ أي إن تنعم تنعم على شاكر؛ هكذا اقتصر في اليوم الثاني على أحد الشقين‏.‏

وحذف الأمرين في اليوم الثالث، وفيه دليل على حذفه وذلك أنه قدم أول يوم أشق الأمرين عليه وأشفى الأمرين لصدر خصومه وهو القتل، فلما لم يقع اقتصر على ذكر الاستعطاف وطلب الأنعام في اليوم الثاني، فكأنه في اليوم الأول رأى أمارات الغضب فقدم ذكر القتل، فلما لم يقتله طمع في العفو فاقتصر عليه، فلما لم يعمل شيئا مما قال اقتصر في اليوم الثالث على الإجمال تفويضا إلى جميل خلقه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد وافق ثمامة في هذه المخاطبة قول عيسى عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏)‏ لأن المقام يليق بذلك قوله‏:‏ ‏(‏فقال‏:‏ أطلقوا ثمامة‏)‏ في رواية ابن إسحاق ‏"‏ قال قد عفوت عنك يا ثمامة وأعتقتك ‏"‏ وزاد ابن إسحاق في روايته أنه لما كان في الأسر جمعوا ما كان في أهل النبي صلى الله عليه وسلم من طعام ولبن فلم يقع ذلك من ثمامة موقعا، فلما أسلم جاءوه بالطعام فلم يصب منه إلا قليلا‏.‏

فتعجبوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، وإن المؤمن يأكل في معي واحد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فبشره‏)‏ أي بخيري الدنيا والآخرة، أو بشره بالجنة أو بمحو ذنوبه وتبعاته السابقة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما قدم مكة‏)‏ زاد ابن هشام قال‏:‏ ‏"‏ بلغني أنه خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبي، فكان أول من دخل مكة يلبي‏.‏

فأخذته قريش فقالوا‏:‏ لقد اجترأت علينا، وأرادوا قتله، فقال قائل منهم‏:‏ دعوه فإنكم تحتاجون إلى الطعام من اليمامة فتركوه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال‏:‏ لا ولكن أسلمت مع محمد‏)‏ كأنه قال‏:‏ لا ما خرجت من الدين، لأن عبادة الأوثان ليست دينا، فإذا تركتها لا أكون خرجت من دين، بل استحدثت دين الإسلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ مع محمد ‏"‏ أي وافقته على دينه فصرنا متصاحبين في الإسلام أنا بالابتداء وهو بالاستدامة‏.‏

ووقع في رواية ابن هشام ‏"‏ ولكن تبعت خير الدين دين محمد‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا والله‏)‏ فيه حذف تقديره‏:‏ والله لا أرجع إلى دينكم ولا أرفق بكم فأترك الميرة تأتيكم من اليمامة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ زاد ابن هشام ‏"‏ ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل إليهم‏"‏‏.‏

وفي قصة ثمامة من الفوائد ربط الكافر في المسجد، والمن على الأسير الكافر وتعظيم أمر الغفور عن المسيء لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبا في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل‏.‏

وفيه الاغتسال عند الإسلام وأن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب، وأن الكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم شرع له أن يستمر في عمل ذلك الخير‏.‏

وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه، وفيه بعث السرايا إلى بلاد الكفار، وأسر من وجد منهم، والتخيير بعد ذلك في قتله أو الإبقاء عليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطْعَةُ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ أُرَى الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أَرَيْتُ فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنْ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعْدِي أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبد الله بن أبي حسين‏)‏ هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث النوفلي، تابعي صغير مشهور نسب هنا لجده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي المدينة، ومسيلمة مصغر بكسر اللام ابن ثمامة بن كبير بموحدة ابن حبيب بن الحارث من بني حنيفة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ادعى النبوة سنة عشر، وزعم وثيمة في ‏"‏ كتاب الردة ‏"‏ أن مسيلمة لقب واسمه ثمامة، وفيه نظر لأن كنيته أبو ثمامة، فإن كان محفوظا فيكون ممن توافقت كنيته واسمه، وسياق هذه القصة يخالف ما ذكره ابن إسحاق أنه قدم مع وفد قومه، وأنهم تركوه في رحالهم يحفظها لهم، وذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأخذوا منه جائزته، وأنه قال لهم إنه ليس بشركم وأن مسيلمة لما ادعى أنه أشرك في النبوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم احتج بهذه المقالة، وهذا مع شذوذه ضعيف السند لانقطاعه، وأمر مسيلمة كان عند قومه أكثر من ذلك، فقد كان يقال له رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم، وكيف يلتئم هذا الخبر الضعيف مع قوله في هذا الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع به وخاطبه وصرح له بحضرة قومه أن لو سأله القطعة الجريدة ما أعطاه، ويحتمل أن يكون مسيلمة قدم مرتين الأولى كان تابعا وكان رئيس بني حنيفة غيره ولهذا أقام في حفظ رحالهم، ومرة متبوعا وفيها خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم، أو القصة واحدة وكانت إقامته في رحالهم باختياره أنفة منه واستكبارا أن يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وعامله النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الكرم على عادته في الاستئلاف، فقال لقومه‏.‏

إنه ليس بشركم أي بمكان، لكونه كان يحفظ رحالهم، وأراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل، فلما لم يفد مسيلمة توجه بنفسه إليهم ليقيم عليهم الحجة ويعذر إليه بالإنذار والعلم عند الله تعالى‏.‏

ويستفاد من هذه القصة أن الإمام يأتي بنفسه إلى من قدم يريد لقاءه من الكفار إذا تعين ذلك طريقا لمصلحة المسلمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن جعل لي محمد الأمر من بعده‏)‏ أي الخلافة؛ وسقط لفظ ‏"‏ الأمر ‏"‏ هنا عند الأكثر وهو مقدر، وقد ثبتت في رواية ابن السكن وثبتت أيضا في الرواية المتقدمة في علامات النبوة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقدمها في بشر كثير‏)‏ ذكر الواقدي كما تقدم أن عدد من كان مع مسيلمة من قومه سبعه عشر نفسا، فيحتمل تعدد القدوم كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولن تعدو أمر الله‏)‏ كذا للأكثر، ولبعضهم لن تعد بالجزم وهو لغة، أي الجزم بلن، والمراد بأمر الله حكمه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ ولئن أدبرت ‏"‏ أي خالفت الحق، وقوله‏:‏ ‏"‏ ليعقرنك ‏"‏ بالقاف أي يهلكك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني‏)‏ أي لأنه كان خطيب الأنصار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم فاكتفى بما قاله لمسيلمة وأعلمه أنه إن كان يريد الإسهاب في الخطاب فهذا الخطيب يقوم عني في ذلك، ويؤخذ منه استعانة الإمام بأهل البلاغة في جواب أهل العناد ونحو ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أريت‏)‏ بضم أوله وكسر الراء من رؤيا المنام، وقد فسره ابن عباس عن أبي هريرة وهو الحديث الثالث، وسيأتي شرحه في تعبير الرؤيا إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من ذهب‏)‏ من لبيان الجنس لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏وحلوا أساور من فضة‏)‏ ووهم من قال الأساور لا تكون إلا من ذهب فإن كانت من فضة فهي القلب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأهمني شأنهما‏)‏ في رواية همام التي بعدها ‏"‏ فكبرا علي‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أحدهما العنسي‏)‏ بالمهملة ثم نون ساكنة ثم سين مهملة وهو الأسود، وهو صاحب صنعاء كما في الرواية الثانية، وسأذكر شأنه في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى، ويؤخذ من هذه القصة منقبة للصديق رضي الله عنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى نفخ السوارين بنفسه حتى طارا، فأما الأسود فقتل في زمنه، وأما مسيلمة فكان القائم عليه حتى قتله أبو بكر الصديق فقام مقام النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويؤخذ منه أن السوار وسائر آلات أنواع الحلي اللائقة بالنساء تعير للرجال بما يسوؤهم ولا يسرهم، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ مَهْدِيَّ بْنَ مَيْمُونٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ يَقُولُ كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا مُنَصِّلُ الْأَسِنَّةِ فَلَا نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلَا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلَّا نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا أَرْعَى الْإِبِلَ عَلَى أَهْلِي فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا الصلت بن محمد‏)‏ أي ابن عبد الرحمن الخاركي بالخاء المعجمة يكني أبا همام، بصري ثقة، أكثر عنه البخاري، وهو بفتح المهملة وسكون اللام بعدها مثناة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏هو أخير منه‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أحسن ‏"‏ بدل أخير، وأخير لغة في خير‏.‏

والمراد بالخيرية الحسية من كونه أشد بياضا أو نعومة أو نحو ذلك من صفات الحجارة المستحسنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏جثوة من تراب‏)‏ بضم الجيم وسكون المثلثة هو القطعة من التراب تجمع فتصير كوما وجمعها الجثا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم جئنا حدثنا بالشاة نحلبها عليه‏)‏ أي لتصير نظير الحجر، وأبعد من قال‏:‏ المراد بجلبهم الشاة على التراب مجاز ذلك وهو أنهم يتقربون إليه بالتصدق عليه بذلك اللبن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏منصل‏)‏ بسكون النون وكسر الصاد، وللكشميهني بفتح النون وتشديد الصاد، وقد فسره بنزع الحديد من السلاح لأجل شهر رجب إشارة إلى تركهم القتال، لأنهم كانوا ينزعون الحديد من السلاح في الأشهر الحرم، ويقال‏:‏ نصلت الرمح إذا جعلت له نصلا، وأنصلته إذا نزعت منه النصل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وألقيناه شهر رجب‏)‏ بالفتح أي في شهر رجب‏.‏

ولبعضهم ‏"‏ لشهر رجب ‏"‏ أي لأجل شهر رجب‏.‏

وأخرج عمر بن شبة في ‏"‏ أخبار البصرة ‏"‏ في ذكر وقعة الجمل هذا الخبر من طريق عبد الله بن عون عن أبي رجاء أنه ذكر الدماء فعظمها وقال‏:‏ كان أهل الجاهلية إذا دخل الشهر الحرام نرع أحدهم سنانه من رمحه وجعلها في علوم النساء ويقولون‏.‏

جاء منصل الأسنة، ثم والله لقد رأيت هودج عائشة يوم الجمل كأنه قنفذ، فقيل له‏:‏ قاتلت يومئذ‏؟‏ قال‏:‏ لقد رميت بأسهم‏.‏

فقال له‏:‏ كيف ذلك وأنت تقول ما تقول‏؟‏ فقال‏:‏ ما كان إلا أن رأينا أم المؤمنين، فما تمالكنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسمعت أبا رجاء يقول‏)‏ هو حديث آخر متصل بالإسناد المذكور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كنت يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم غلاما أرعى الإبل على أهلي، فلما سمعنا بخروجه فررنا إلى النار، إلى مسيلمة الكذاب‏)‏ الذي يظهر أن مراده بقوله‏:‏ ‏"‏ بعث ‏"‏ أي اشتهر أمره عندهم، ومراده بخروجه أي ظهوره على قومه من قريش بفتح مكة، وليس المراد مبدأ ظهوره بالنبوة ولا خروجه من مكة إلى المدينة لطول المدة بين ذلك وبين خروج مسيلمة‏.‏

ودلت القصة على أن أبا رجاء كان من جملة من بايع مسيلمة من قومه بني عطارد بن عوف بن كعب بطن من بني تميم، وكان السبب في ذلك أن سجاحا بفتح المهملة وتخفيف الجيم وآخره حاء مهملة وهي امرأة من بني تميم ادعت النبوة أيضا فتابعها جماعة من قومها، ثم بلغها أمر مسيلمة فخادعها إلى أن تزوجها واجتمع قومها وقومه على طاعة مسيلمة‏.‏