فصل: باب إِذَا قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ بِعَصًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب إِذَا قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ بِعَصًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا قتل بحجر أو بعصا‏)‏ كذا أطلق ولم يبت الحكم إشارة إلى الاختلاف في ذلك، ولكن إيراده الحديث يشير إلى ترجيح قول الجمهور، وذكر فيه حديث أنس في اليهودي والجارية، وهو حجة للجمهور أن القاتل يقتل بما قتل به، وتمسكوا بقوله تعالى ‏(‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏)‏ وبقوله تعالى ‏(‏فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ‏"‏ وخالف الكوفيون فاحتجوا بحديث لا قود إلا بالسيف، وهو ضعيف أخرجه البزار وابن عدي من حديث أبي بكرة، وذكر البزار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده‏.‏

وقال ابن عدي‏:‏ طرقه كلها ضعيفة، وعلى تقدير ثبوته فإنه على خلاف قاعدتهم في أن السنة لا تنسخ الكتاب ولا تخصصه، وبالنهي عن المثلة وهو صحيح لكنه محمول عند الجمهور على غير المماثلة في القصاص جمعا بين الدليلين، قال ابن المنذر‏:‏ قال الأكثر إذا قتله بشيء يقتل مثله غالبا فهو عمد‏.‏

وقال ابن أبي ليلى‏:‏ إن قتل بالحجر أو العصا نظر إن كرر ذلك فهو عمد وإلا فلا‏.‏

وقال عطاء وطاوس‏:‏ شرط العمد أن يكون بسلاح وقال الحسن البصري والشعبي والنخعي والحكم وأبو حنيفة ومن تبعهم‏:‏ شرطه أن يكون بحديدة‏.‏

واختلف فيمن قتل بعصا فأقيد بالضرب بالعصا فلم يمت هل يكرر عليه‏؟‏ فقيل‏:‏ لم يكرر، وقيل إن لم يمت قتل بالسيف وكذا فيمن قتل بالتجويع‏.‏

وقال ابن العربي يستثنى من المماثلة ما كان فيه معصية كالخمر واللواط والتحريق، وفي الثالثة خلاف عند الشافعية، والأولان بالاتفاق، لكن قال بعضهم يقتل بما يقوم مقام ذلك انتهى‏.‏

ومن أدلة المانعين حديث المرأة التي رمت ضرتها بعمود الفسطاط فقتلتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها الدية، وسيأتي البحث فيه في ‏"‏ باب جنين المرأة ‏"‏ وهو بعد باب القسامة‏.‏

ومحمد في أول السند جزم الكلاباذي بأنه ابن عبد الله بن نمير‏.‏

وقال أبو علي بن السكن‏:‏ هو ابن سلام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ بِالْمَدِينَةِ قَالَ فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ قَالَ فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا رَمَقٌ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُلَانٌ قَتَلَكِ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا فَأَعَادَ عَلَيْهَا قَالَ فُلَانٌ قَتَلَكِ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا فَقَالَ لَهَا فِي الثَّالِثَةِ فُلَانٌ قَتَلَكِ فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب إذا قتل بحجر أو بعصا‏)‏ كذا أطلق ولم يبت الحكم إشارة إلى الاختلاف في ذلك، ولكن إيراده الحديث يشير إلى ترجيح قول الجمهور، وذكر فيه حديث أنس في اليهودي والجارية، وهو حجة للجمهور أن القاتل يقتل بما قتل به، وتمسكوا بقوله تعالى ‏(‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏)‏ وبقوله تعالى ‏(‏فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ‏"‏ وخالف الكوفيون فاحتجوا بحديث لا قود إلا بالسيف، وهو ضعيف أخرجه البزار وابن عدي من حديث أبي بكرة، وذكر البزار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده‏.‏

وقال ابن عدي‏:‏ طرقه كلها ضعيفة، وعلى تقدير ثبوته فإنه على خلاف قاعدتهم في أن السنة لا تنسخ الكتاب ولا تخصصه، وبالنهي عن المثلة وهو صحيح لكنه محمول عند الجمهور على غير المماثلة في القصاص جمعا بين الدليلين، قال ابن المنذر‏:‏ قال الأكثر إذا قتله بشيء يقتل مثله غالبا فهو عمد‏.‏

وقال ابن أبي ليلى‏:‏ إن قتل بالحجر أو العصا نظر إن كرر ذلك فهو عمد وإلا فلا‏.‏

وقال عطاء وطاوس‏:‏ شرط العمد أن يكون بسلاح وقال الحسن البصري والشعبي والنخعي والحكم وأبو حنيفة ومن تبعهم‏:‏ شرطه أن يكون بحديدة‏.‏

واختلف فيمن قتل بعصا فأقيد بالضرب بالعصا فلم يمت هل يكرر عليه‏؟‏ فقيل‏:‏ لم يكرر، وقيل إن لم يمت قتل بالسيف وكذا فيمن قتل بالتجويع‏.‏

وقال ابن العربي يستثنى من المماثلة ما كان فيه معصية كالخمر واللواط والتحريق، وفي الثالثة خلاف عند الشافعية، والأولان بالاتفاق، لكن قال بعضهم يقتل بما يقوم مقام ذلك انتهى‏.‏

ومن أدلة المانعين حديث المرأة التي رمت ضرتها بعمود الفسطاط فقتلتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها الدية، وسيأتي البحث فيه في ‏"‏ باب جنين المرأة ‏"‏ وهو بعد باب القسامة‏.‏

ومحمد في أول السند جزم الكلاباذي بأنه ابن عبد الله بن نمير‏.‏

وقال أبو علي بن السكن‏:‏ هو ابن سلام‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ

وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى ‏(‏إن النفس بالنفس والعين بالعين‏)‏ كذا لأبي ذر والأصيلي، وعند النسفي بعده الآية إلى قوله ‏(‏فأولئك هم الظالمون‏)‏ وساق في رواية كريمة إلى قوله ‏(‏الظالمون‏)‏ والغرض من ذكر هذه الآية مطابقتها للفظ الحديث، ولعله أراد أن يبين أنها وإن وردت في أهل الكتاب لكن الحكم الذي دلت عليه مستمر في شريعة الإسلام، فهو أصل في القصاص في قتل العمد‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن عبد الله‏)‏ هو ابن مسعود‏.‏

قوله ‏(‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل‏)‏ وقع في رواية سفيان الثوري عن الأعمش عند مسلم والنسائي زيادة في أوله وهي ‏"‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ والذي لا إله غيره لا يحل ‏"‏ وظاهر قوله ‏"‏ لا يحل ‏"‏ إثبات إباحة قتل من استثنى، وهو كذلك بالنسبة لتحريم قتل غيرهم وإن كان قتل من أبيح قتله منهم واجبا في الحكم‏.‏

قوله ‏(‏دم امرئ مسلم‏)‏ في رواية الثوري ‏"‏ دم رجل ‏"‏ والمراد لا يحل إراقة دمه أي كله وهو كناية عن قتله ولو لم يرق دمه‏.‏

قوله ‏(‏يشهد أن لا إله إلا الله‏)‏ هي صفة ثانية ذكرت لبيان أن المراد بالمسلم هو الآتي بالشهادتين، أو هي حال مقيدة للموصوف إشعارا بأن الشهادة هي العمدة في حقن الدم، وهذا رجحه الطيبي واستشهد بحديث أسامة ‏"‏ كيف تصنع بلا إله إلا الله‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إلا بإحدى ثلاث‏)‏ أي خصال ثلاث، ووقع في رواية الثوري ‏"‏ إلا ثلاثة نفر‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏النفس بالنفس‏)‏ أي من قتل عمدا بغير حق قتل بشرطه، ووقع في حديث عثمان المذكور ‏"‏ قتل عمدا فعليه القود ‏"‏ وفي حديث جابر عند البزار ‏"‏ ومن قتل نفسا ظلما‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏والثيب الزاني‏)‏ أي فيحل قتله بالرجم، وقد وقع في حديث عثمان عند النسائي بلفظ ‏"‏ رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم ‏"‏ قال النووي‏:‏ الزاني يجوز فيه إثبات الياء وحذفها وإثباتها أشهر‏.‏

قوله ‏(‏والمفارق لدينه التارك للجماعة‏)‏ كذا في رواية أبي ذر عن الكشميهني، وللباقين ‏"‏ والمارق من الدين ‏"‏ لكن عند النسفي والسرخسي والمستملي ‏"‏ والمارق لدينه ‏"‏ قال الطيبي المارق لدينه هو التارك له، من المروق وهو الخروج وفي رواية مسلم ‏"‏ والتارك لدينه المفارق للجماعة ‏"‏ وله في رواية الثوري ‏"‏ المفارق للجماعة ‏"‏ وزاد‏:‏ قال الأعمش فحدثت بهما إبراهيم يعني النخعي فحدثني عن الأسود يعني ابن يزيد عن عائشة بمثله‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الطريق أغفل المزي في الأطراف ذكرها في مسند عائشة وأغفل التنبيه عليها في ترجمة عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود، وقد أخرجه مسلم أيضا بعده من طريق شيبان بن عبد الرحمن عن الأعمش ولم يسق لفظه لكن قال ‏"‏ بالإسنادين جميعا ‏"‏ ولم يقل ‏"‏ والذي لا إله غيره ‏"‏ وأفرده أبو عوانة في صحيحه من طريق شيبان باللفظ المذكور سواء، والمراد بالجماعة جماعة المسلمين أي فارقهم أو تركهم بالارتداد، فهي صفة للتارك أو المفارق لا صفة مستقلة وإلا لكانت الخصال أربعا، وهو كقوله قبل ذلك ‏"‏ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ‏"‏ فإنها صفة مفسرة لقوله ‏"‏ مسلم ‏"‏ وليست قيدا فيه إذ لا يكون مسلما إلا بذلك‏.‏

ويؤيد ما قلته أنه وقع في حديث عثمان ‏"‏ أو يكفر بعد إسلامه ‏"‏ أخرجه النسائي بسند صحيح، وفي لفظ له صحيح أيضا ‏"‏ ارتد بعد إسلامه ‏"‏ وله من طريق عمرو بن غالب عن عائشة ‏"‏ أو كفر بعد ما أسلم ‏"‏ وفي حديث ابن عباس عند النسائي ‏"‏ مرتد بعد إيمان ‏"‏ قال ابن دقيق العيد‏:‏ الردة سبب لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرجل، وأما المرأة ففيها خلاف‏.‏

وقد استدل بهذا الحديث للجمهور في أن حكمها حكم الرجل لاستواء حكمهما في الزنا، وتعقب بأنها دلالة اقتران وهي ضعيفة‏.‏

وقال البيضاوي‏:‏ التارك لدينه صفة مؤكدة للمارق أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم، قال‏:‏ وفي الحديث دليل لمن زعم أنه لا يقتل أحد دخل في الإسلام بشيء غير الذي عدد كترك الصلاة ولم ينفصل عن ذلك، وتبعه الطيبي‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ قد يؤخذ من قوله ‏"‏ المفارق للجماعة ‏"‏ أن المراد المخالف لأهل الإجماع فيكون متمسكا لمن يقول مخالف الإجماع كافر، وقد نسب ذلك إلى بعض الناس، وليس ذلك بالهين فإن المسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلا وتارة لا يصحبها التواتر، فالأول يكفر جاحده لمخالفة التواتر لا لمخالفة الإجماع، والثاني لا يكفر به‏.‏

قال شيخنا في شرح الترمذي‏:‏ الصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما يعلم وجوبه من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر ومنه القول بحدوث العالم، وقد حكى عياض وغيره الإجماع على تكفير من يقول بقدم العالم‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ وقع هنا من يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالف في حدوث العالم لا يكفر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا إن منكر الإجماع لا يكفر على الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواترا عن صاحب الشرع، قال وهو تمسك ساقط إما عن عمى في البصيرة أو تعام لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل‏.‏

وقال النووي‏:‏ قوله ‏"‏ التارك لدينه ‏"‏ عام في كل من ارتد بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، وقوله ‏"‏المفارق للجماعة ‏"‏ يتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو نفي إجماع كالروافض والخوارج وغيرهم، كذا قال، وسيأتي البحث فيه‏.‏

وقال القرطبي في ‏"‏ المفهم ‏"‏ ظاهر قوله ‏"‏ المفارق للجماعة ‏"‏ أنه نعت للتارك لدينه، لأنه إذا ارتد فارق، جماعة المسلمين، غير أنه يلتحق به كل من خرج عن جماعة المسلمين وإن لم يرتد كمن يمتنع من إقامة الحد عليه إذا وجب ويقاتل على ذلك كأهل البغي وقطاع الطريق والمحاربين من الخوارج وغيرهم، قال‏:‏ فيتناولهم لفظ المفارق للجماعة بطريق العموم، ولو لم يكن كذلك لم يصح الحصر لأنه يلزم أن ينفي من ذكر ودمه حلال فلا يصح الحصر، وكلام الشارع منزه عن ذلك، فدل على أن وصف المفارقة للجماعة يعم جميع هؤلاء‏.‏

قال‏:‏ وتحقيقه أن كل من فارق الجماعة ترك دينه، غير أن المرتد ترك كله والمفارق بغير ردة ترك بعضه انتهى‏.‏

وفيه مناقشة لأن أصل الخصلة الثالثة الارتداد فلا بد من وجوده، والمفارق بغير ردة لا يسمى مرتدا فيلزم الخلف في الحصر، والتحقيق في جواب ذلك أن الحصر فيمن يجب قتله عينا، وأما من ذكرهم فإن قتل الواحد منهم إنما يباح إذا وقع حال المحاربة والمقاتلة، بدليل أنه لو أسر لم يجز قتله صبرا اتفاقا في غير المحاربين، وعلى الراجح في المحاربين أيضا، لكن يرد على ذلك قتل تارك الصلاة، وقد تعرض له ابن دقيق العيد فقال‏:‏ استدل بهذا الحديث أن تارك الصلاة لا يقتل بتركها لكونه ليس من الأمور الثلاثة، وبذلك استدل شيخ والدي الحافظ أبو الحسن بن المفضل المقدسي في أبياته المشهورة، ثم ساقها ومنها وهو كاف في تحصيل المقصود هنا‏:‏ والرأي عندي أن يعزره الإمام بكل تعزير يراه صوابا فالأصل عصمته إلى أن يمتطى إحدى الثلاث إلى الهلاك ركابا قال‏:‏ فهذا من المالكية اختار خلاف مذهبه، وكذا استشكله إمام الحرمين من الشافعية‏.‏

قلت‏:‏ تارك الصلاة اختلف فيه، فذهب أحمد وإسحاق وبعض المالكية ومن الشافعية ابن خزيمة وأبو الطيب بن سلمة وأبو عبيد بن جويرية ومنصور الفقيه وأبو جعفر الترمذي إلى أنه يكفر بذلك ولو لم يجحد وجوبها، وذهب الجمهور إلى أنه يقتل حدا، وذهب الحنفية ووافقهم المزني إلى أنه لا يكفر ولا يقتل‏.‏

ومن أقوى ما يستدل به على عدم كفره حديث عبادة رفعه ‏"‏ خمس صلوات كتبهن الله على العباد ‏"‏ الحديث وفيه ‏"‏ ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ‏"‏ أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن حبان وابن السكن وغيرهما، وتمسك أحمد ومن وافقه بظواهر أحاديث وردت بتكفيره وحملها من خالفهم على المستحل جمعا بين الأخبار والله أعلم‏.‏

وقال ابن دقيق العيد‏:‏ وأراد بعض من أدركنا زمانه أن يزيل الإشكال فاستدل بحديث ‏"‏ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ‏"‏ ووجه الدليل منه أنه وقف العصمة على المجموع، والمرتب على أشياء لا تحصل إلا بحصول مجموعها وينتفي بانتفاء بعضها، قال‏:‏ وهذا إن قصد الاستدلال بمنطوقه وهو ‏"‏ أقاتل الناس إلخ ‏"‏ فإنه يقتضي الأمر بالقتال إلى هذه الغاية، فقد ذهل للفرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه، فإن المقاتلة مفاعلة تقتضي الحصول من الجانبين فلا يلزم من إباحة المقاتلة على الصلاة إباحة قتل الممتنع من فعلها إذا لم يقاتل، وليس النزاع في أن قوما لو تركوا الصلاة ونصبوا القتال أنه يجب قتالهم، وإنما النظر فيما إذا تركها إنسان من غير نصب قتال هل يقتل أو لا، والفرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه ظاهر، وإن كان أخذه من آخر الحديث وهو ترتب العصمة على فعل ذلك فإن مفهومه يدل على أنها لا تترتب على فعل بعضه هان الأمر لأنها دلالة مفهوم، ومخالفه في هذه المسألة لا يقول بالمفهوم، وأما من يقول به فله أن يدفع حجته بأنه عارضته دلالة المنطوق في حديث الباب وهي أرجح من دلالة المفهوم فيقدم عليها، واستدل به بعض الشافعية لقتل تارك الصلاة لأنه تارك للدين الذي هو العمل، وإنما لم يقولوا بقتل تارك الزكاة لإمكان انتزاعها منه قهرا، ولا يقتل تارك الصيام لإمكان منعه المفطرات فيحتاج هو أن ينوي الصيام لأنه يعتقد وجوبه، واستدل به على أن الحر لا يقتل بالعبد لأن العبد لا يرجم إذا زنى ولو كان ثيبا حكاه ابن التين قال‏:‏ وليس لأحد أن يفرق ما جمعه الله إلا بدليل من كتاب أو سنة، قال‏:‏ وهذا بخلاف الخصلة الثالثة فإن الإجماع انعقد على أن العبد والحر في الردة سواء، فكأنه جعل أن الأصل العمل بدلالة الاقتران ما لم يأت دليل يخالفه‏.‏

وقال شيخنا في شرح الترمذي‏:‏ استثنى بعضهم من الثلاثة قتل الصائل فإنه يجوز قتله للدفع، وأشار بذلك إلى قول النووي يخص من عموم الثلاثة الصائل ونحوه فيباح قتله في الدفع، وقد يجاب بأنه داخل في المفارق للجماعة أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله بمعنى أنه لا يحل قتله إلا مدافعة بخلاف الثلاثة، واستحسنه الطيبي وقال‏:‏ هو أولى من تقرير البيضاوي لأنه فسر قوله ‏(‏النفس بالنفس‏)‏ يحل قتل النفس قصاصا للنفس التي قتلها عدوانا فاقتضى خروج الصائل ولو لم يقصد الدافع قتله‏.‏

قلت‏:‏ والجواب الثاني هو المعتمد، وأما الأول فتقدم الجواب عنه، وحكى ابن التين عن الداودي أن هذا الحديث منسوخ بآية المحاربة ‏(‏من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض‏)‏ قال‏:‏ فأباح القتل بمجرد الفساد في الأرض قال وقد ورد في القتل بغير الثلاث أشياء‏:‏ منها قوله تعالى ‏(‏فقاتلوا التي تبغي‏)‏ وحديث ‏"‏ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه ‏"‏ وحديث ‏"‏ من أتى بهيمة فاقتلوه ‏"‏ وحديث ‏"‏ من خرج وأمر الناس جمع يريد تفرقهم فاقتلوه ‏"‏ وقول عمر ‏"‏ تغرة أن يقتلا ‏"‏ وقول جماعة من الأئمة‏:‏ إن تاب بل القدر وإلا قتلوا، وقل جماعة من الأئمة‏:‏ يضرب المبتدع حتى يرجع أو يموت، وقول جماعة من الأئمة يقتل تارك الصلاة قال‏:‏ وهذا كله زائد على الثلاث‏.‏

قلت‏:‏ وزاد غيره قتل من طلب أخذ مال إنسان أو حريمه بغير حق، ومانع الزكاة المفروضة، ومن ارتد ولم يفارق الجماعة، ومن خالف الإجماع وأظهر الشقاق والخلاف، والزنديق إذا تاب على رأي، والساحر‏.‏

والجواب عن ذلك كله أن الأكثر في المحاربة أنه إن قتل قتل، وبأن حكم الآية في الباغي أن يقاتل لا أن يقصد إلى قتله، وبأن الخبرين في اللوط وإتيان البهيمة لم يصحا وعلى تقدير الصحة فهما داخلان في الزنا، وحديث الخارج عن المسلمين تقدم تأويله بأن المراد بقتله حبسه ومنعه من الخروج، وأثر عمر من هذا القبيل، والقول في القدرية وسائر المبتدعة مفرع على القول بتكفيرهم، وبأن قتل تارك الصلاة عند من لا يكفره مختلف فيه كما تقدم إيضاحه، وأما من طلب المال أو الحريم فمن حكم دفع الصائل، ومانع الزكاة تقدم جوابه، ومخالف الإجماع داخل في مفارق الجماعة، وقتل الزنديق لاستصحاب حكم كفره، وكذا الساحر، والعلم عند الله تعالى‏.‏

وقد حكى ابن العربي عن بعض أشياخه أن أسباب القتل عشرة، قال ابن العربي‏:‏ ولا تخرج عن هذه الثلاثة بحال، فإن من سحر أو سب نبي الله كفر فهو داخل في التارك لدينه والله أعلم‏.‏

واستدل بقوله ‏(‏النفس بالنفس‏)‏ على تساوي النفوس في القتل العمد فيقاد لكل مقتول من قاتله سواء كان حرا أو عبدا، وتمسك به الحنفية وادعوا أن آية المائدة المذكورة في الترجمة ناسخة لآية البقرة ‏(‏كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد‏)‏ ومنهم من فرق بين عبد الجاني وعبد غيره فأقاد من عبد غيره دون عبد نفسه‏.‏

وقال الجمهور‏:‏ آية البقرة مفسرة لآية المائدة فيقتل العبد بالحر ولا يقتل الحر بالعبد لنقصه‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ ليس بين العبد والحر قصاص إلا أن يشاء الحر، واحتج للجمهور بأن العبد سلعة فلا يجب فيه إلا القيمة لو قتل خطأ، وسيأتي مزيد لذلك بعد باب‏.‏

واستدل بعمومه على جواز قتل المسلم بالكافر المستأمن والمعاهد، وقد مضى في الباب قبله شرح حديث علي ‏"‏ لا يقتل مؤمن بكافر ‏"‏ وفي الحديث جواز وصف الشخص بما كان عليه ولو انتقل عنه لاستثنائه المرتد من المسلمين، وهو باعتبار ما كان‏.‏

*3*باب مَنْ أَقَادَ بِالْحَجَرِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من أقاد بالحجر‏)‏ أي حكم بالقود بفتحتين وهو المماثلة في القصاص، ذكر فيه حديث أنس في قصة اليهودي والجارية وقد تقدم شرحه مستوفى قريبا، وقوله ‏"‏فأشارت برأسها أي نعم ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أن نعم ‏"‏ بالنون بدل التحتانية وكلاهما يجيء لتفسير ما يتقدمه، والمراد أنها أشارت إشارة مفهمة يستفاد منها ما يستفاد منها لو نطقت‏.‏

فقالت نعم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهَا رَمَقٌ فَقَالَ أَقَتَلَكِ فُلَانٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا ثُمَّ سَأَلَهَا الثَّالِثَةَ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ فَقَتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرَيْنِ

الشرح‏:‏

حديث أنس في قصة اليهودي والجارية وقد تقدم شرحه مستوفى قريبا، وقوله ‏"‏فأشارت برأسها أي نعم ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ أن نعم ‏"‏ بالنون بدل التحتانية وكلاهما يجيء لتفسير ما يتقدمه، والمراد أنها أشارت إشارة مفهمة يستفاد منها ما يستفاد منها لو نطقت‏.‏

فقالت نعم‏.‏

*3*باب مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين‏)‏ ترجم بلفظ الخبر‏.‏

وظاهره حجة لمن قال إن الاختيار في أخذ الدية أو الاقتصاص راجع إلى أولياء المقتول ولا يشترط في ذلك رضا القاتل‏.‏

وهذا القدر مقصود الترجمة ومن ثم عقب حديث أبي هريرة بحديث ابن عباس الذي فيه تفسير قوله تعالى ‏(‏فمن عفي له من أخيه شيء‏)‏ أي ترك له دمه ورضي منه بالدية ‏(‏فاتباع بالمعروف‏)‏ أي في المطالبة بالدية‏.‏

وقد فسر ابن عباس العفو بقبول الدية في العمد، وقبول الدية راجع إلى الأولياء الذين لهم طلب القصاص، وأيضا فإنما لزمت القاتل الدية بغير رضاه لأنه مأمور بإحياء نفسه لعموم قوله تعالى ‏(‏ولا تقتلوا أنفسكم‏)‏ فإذا رضي أولياء المقتول بأخذ الدية له لم يكن للقاتل أن يمتنع من ذلك، قال ابن بطال‏:‏ معنى قوله تعالى ‏(‏ذلك تخفيف من ربكم‏)‏ إشارة إلى أن أخذ الدية لم يكن في بني إسرائيل بل كان القصاص متحتما، فخفف الله عن هذه الأمة بمشروعية أخذ الدية إذا رضي أولياء المقتول‏.‏

ثم ذكر في الباب حديثين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا حَرْبٌ عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي أَلَا وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلَّا مُنْشِدٌ وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا يُودَى وَإِمَّا يُقَادُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ فَقَالَ اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّمَا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْإِذْخِرَ وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ شَيْبَانَ فِي الْفِيلِ قَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْقَتْلَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن أبي هريرة‏)‏ كذا للأكثر ممن رواه عن يحيى بن أبي كثير في الصحيحين وغيرهما، ووقع في رواية النسائي مرسلا، وهو من رواية يحيى بن حميد عن الأوزاعي وهي شاذة‏.‏

قوله ‏(‏أن خزاعة قتلوا رجلا‏.‏

وقال عبد الله بن رجاء‏)‏ كذا تحول إلى طريق حرب بن شداد عن يحيى وهو ابن أبي كثير في الطريقين، وساق الحديث هنا على لفظ حرب، وقد تقدم لفظ شيبان وهو ابن عبد الرحمن في كتاب العلم، وطريق عبد الله بن رجاء هذه وصلها البيهقي من طريق هشام بن علي السيرافي عنه، وتقدم في اللقطة من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة مصرحا بالتحديث في جميع السند‏.‏

قوله ‏(‏أنه عام فتح مكة‏)‏ الهاء في أنه ضمير الشأن‏.‏

قوله ‏(‏قتلت خزاعة رجلا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية‏)‏ وقع في رواية ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ إن الله حرم مكة ‏"‏ فذكر الحديث وفيه ‏"‏ ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله ‏"‏ وقع نحو ذلك في رواية ابن إسحاق عن المقبري كما أوردته في ‏"‏ باب لا يعضد شجر الحرم ‏"‏ من أبواب جزاء الصيد من كتاب الحج، فأما خزاعة فتقدم نسبهم في أول مناقب قريش وأما بنو ليث فقبيلة مشهورة ينسبون إلى ليث بن بكر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وأما هذيل فقبيلة كبيرة ينسبون إلى هذيل وهم بنو مدركة بن إلياس بن مضر، وكانت هذيل وبكر من سكان مكة وكانوا في ظواهرها خارجين من الحرم، وأما خزاعة فكانوا غلبوا على مكة وحكموا فيها ثم أخرجوا منها فصاروا في ظاهرها، وكانت بينهم وبين بني بكر عداوة ظاهرة في الجاهلية، وكانت خزاعة حلفاء بني هاشم بن عبد مناف إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بنو بكر حلفاء قريش كما تقدم بيانه في أول فتح مكة من كتاب المغازي، وقد ذكرت في كتاب العلم أن اسم القاتل من خزاعة خراش بمعجمتين ابن أمية الخزاعي، وأن المقتول منهم في الجاهلية كان اسمه أحمر وأن المقتول من بني ليث لم يسم وكذا القاتل، ثم رأيت في السيرة النبوية لابن إسحاق أن الخزاعي المقتول اسمه منبه، قال ابن إسحاق في المغازي ‏"‏ حدثني سعيد بن أبي سندر الأسلمي عن رجل من قومه قال‏:‏ كان معنا رجل يقال له أحمر كان شجاعا وكان إذا نام غط فإذا طرقهم شيء صاحوا به فيثور مثل الأسد، فغزاهم قوم من هذيل في الجاهلية فقال لهم ابن الأثوع وهو بالثاء المثلثة والعين المهملة‏:‏ لا تعجلوا حتى أنظر فإن كان أحمر فيهم فلا سبيل إليهم، فاستمع فإذا غطيط أحمر فمشى إليه حتى وضع السيف في صدره فقتله وأغاروا على الحي، فلما كان عام الفتح وكان الغد من يوم الفتح أتى ابن الأثوع الهذلي حتى دخل مكة وهو على شركه، فرأته خزاعة فعرفوه فأقبل خراش بن أمية فقال أفرجوا عن الرجل فطعنه بالسيف في بطنه فوقع قتيلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، ولقد قتلتم قتيلا لأدينه ‏"‏ قال ابن إسحاق ‏"‏ وحدثني عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع خراش بن أمية قال‏:‏ إن خراشا لقتال ‏"‏ يعيبه بذلك‏.‏

ثم ذكر حديث أبي شريح الخزاعي كما تقدم، فهذا قصة الهذلي، وأما قصة المقتول من بني ليث فكأنها أخرى، وقد ذكر ابن هشام أن المقتول من بني ليث اسمه جندب بن الأدلع‏.‏

وقال بلغني أن أول قتيل وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح جندب بن الأدلع قتله بنو كعب فوداه بمائة ناقة، لكن ذكر الواقدي أن اسمه جندب بن الأدلع، فرآه جندب بن الأعجب الأسلمي فخرج يستجيش عليه فجاء خراش فقتله، فظهر أن القصة واحدة فلعله كان هذليا حالف بني ليث أو بالعكس، ورأيت في آخر الجزء الثالث من ‏"‏ فوائد أبي علي بن خزيمة ‏"‏ أن اسم الخزاعي القاتل هلال بن أمية، فإن ثبت فلعل هلالا لقب خراش والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في رواية سفيان المشار إليها في العلم ‏"‏ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فركب راحلته فخطب‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏إن الله حبس عن مكة الفيل‏)‏ بالفاء اسم الحيوان المشهور، وأشار بحبسه عن مكة إلى قصة الحبشة وهي مشهورة ساقها ابن إسحاق مبسوطة، وحاصل ما ساقه أن أبرهة الحبشي لما غلب على اليمن وكان نصرانيا بنى كنيسة وألزم الناس بالحج إليها، فعمد بعض العرب فاستغفل الحجبة وتغوط فهرب، فغضب أبرهة وعزم على تخريب الكعبة، فتجهز في جيش كثيف واستصحب معه فيلا عظيما، فلما قرب من مكة خرج إليه عبد المطلب فأعظمه وكان جميل الهيئة، فطلب منه أن يرد عليه إبلا له نهبت فاستقصر همته وقال‏:‏ لقد ظننت أنك لا تسألني إلا في الأمر الذي جئت فيه، فقال إن لهذا البيت ربا سيحميه، فأعاد إليه إبله، وتقدم أبرهة بجيوشه فقدموا الفيل فبرك وعجزوا فيه، وأرسل الله عليهم طيرا مع كل واحد ثلاثة أحجار حجرين في رجليه وحجر في منقاره فألقوها عليهم فلم يبق منهم أحد إلا أصيب‏.‏

وأخرج ابن مردويه بسند حسن عن عكرمة عن ابن عباس قال ‏"‏ جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح ‏"‏ وهو بكسر المهملة ثم فاء ثم مهملة موضع خارج مكة من جهة طريق اليمن، فأتاهم عبد المطلب فقال‏:‏ إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحدا، قالوا لا نرجع حتى نهدمه، فكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء فلما حاذتهم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك أحد منهم جلده إلا تساقط لحمه قال ابن إسحاق ‏"‏ حدثني يعقوب بن عتبة قال‏:‏ حدثت أن أول ما وقعت الحصباء والجدري بأرض العرب من يومئذ ‏"‏ وعند الطبري بسند صحيح عن عكرمة أنها كانت طيرا خضرا خرجت من البحر لها رءوس كرءوس السباع‏.‏

ولابن أبي حاتم من طريق عبيد بن عمير بسند قوي‏:‏ بعث الله عليهم طيرا أنشأها من البحر كأمثال الخطاطيف‏.‏

فذكر نحو ما تقدم‏.‏

قوله ‏(‏وإنها لم تحل لأحد قبلي إلخ‏)‏ تقدم بيانه مفصلا في ‏"‏ باب تحريم القتال بمكة ‏"‏ من أبواب جزاء الصيد وفيما قبله في ‏"‏ باب لا يعضد شجر الحرم‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏ولا يلتقط‏)‏ بضم أوله على البناء للمجهور وفي آخره ‏(‏إلا لمنشد‏)‏ ووقع للكشميهني هنا بفتح أوله وفي آخره ‏"‏ إلا منشد ‏"‏ وهو واضح‏.‏

قوله ‏(‏ومن قتل له قتيل‏)‏ أي من قتل له قريب كان حيا فصار قتيلا بذلك القتل‏.‏

قوله ‏(‏فهو بخير النظرين‏)‏ تقدم في العلم بلفظ ‏"‏ ومن قتل فهو بخير النظرين‏:‏ وهو مختصر ولا يمكن حمله على ظاهره لأن المقتول لا اختيار له وإنما الاختيار لوليه وقد أشار إلى نحو ذلك الخطابي، ووقع في رواية الترمذي من طريق الأوزاعي ‏"‏ فإما أن يعفو وإما أن يقتل ‏"‏ والمراد العفو على الدية جمعا بين الروايتين، ويؤيده أن عنده في حديث أبي شريح ‏"‏ فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين‏:‏ إما أن يقتلوا أو يأخذوا الدية ‏"‏ ولأبي داود وابن ماجه وعلقه الترمذي من وجه آخر عن أبي شريح بلفظ ‏"‏ فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ‏"‏ أي إن أراد زيادة على القصاص أو الدية، وسأذكر الاختلاف فيمن يستحق الخيار هل هو القاتل أو ولي المقتول في شرح الحديث الذي بعده وفي الحديث، أن ولي الدم يخير بين القصاص والدية، واختلف إذا اختار الدية هل يجب على القاتل إجابته‏؟‏ فذهب الأكثر إلى ذلك، وعن مالك لا يجب إلا برضا القاتل، واستدل بقوله ‏"‏ ومن قتل له ‏"‏ بأن الحق يتعلق بورثة المقتول، فلو كان بعضهم غائبا أو طفلا لم يكن للباقين القصاص حتى يبلغ الطفل ويقدم الغائب‏.‏

قوله ‏(‏إما أن يودي‏)‏ بسكون الواو أي يعطي القاتل أو أولياؤه لأولياء المقتول الدية ‏(‏وإما أن يقاد‏)‏ أي يقتل به، ووقع في العلم بلفظ ‏"‏ إما أن يعقل ‏"‏ بدل ‏"‏ إما أن يودي ‏"‏ وهو بمعناه، والعقل الدية‏.‏

وفي رواية الأوزاعي في اللقطة ‏"‏ أما أن يفدي ‏"‏ بالفاء بدل الواو، وفي نسخة ‏"‏ وإما أن يعطي ‏"‏ أي الدية‏.‏

ونقل ابن التين عن الداودي أن في رواية أخرى ‏"‏ إما أن يودي أو يفادي ‏"‏ وتعقبه بأنه غير صحيح لأنه لو كان بالفاء لم يكن له فائدة لتقدم ذكر الدية‏.‏

ولو كان بالقاف واحتمل أن يكون للمقتول وليان لذكرا بالتثنية أي يقادا بقتيلهما والأصل عدم التعدد، قال وصحيح الرواية ‏"‏ إما أن يودي أو يقاد ‏"‏ وإنما يصح يقادي إن تقدمه أن يقتص‏.‏

وفي الحديث جواز إيقاع القصاص بالحرم لأنه صلى الله عليه وسلم خطب بذلك بمكة ولم يقيده بغير الحرم، وتمسك بعمومه من قال يقتل المسلم بالذمي وقد سبق ما فيه‏.‏

قوله ‏(‏فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه‏)‏ تقدم ضبطه مع شرحه في العلم، وحكى السلفي أن بعضهم نطق بها بتاء في آخره وغلطه وقال هو فارسي من فرسان الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن‏.‏

قوله ‏(‏ثم قام رجل من قريش فقال‏:‏ يا رسول الله إلا الإذخر‏)‏ تقدم بيان اسمه وأنه العباس بن عبد المطلب وشرح بقية الحديث المتعلق بتحريم مكة وبالإذخر في الأبواب المذكورة من كتاب الحج‏.‏

قوله ‏(‏وتابعه عبيد الله‏)‏ يعني ابن موسى‏.‏

قوله ‏(‏عن شيبان في الفيل‏)‏ أي تابع حرب بن شداد عن يحيى في الفيل بالفاء، ورواية عبيد الله المذكورة موصولة في صحيح مسلم من طريقه‏.‏

قوله ‏(‏وقال بعضهم عن أبي نعيم القتل‏)‏ هو محمد بن يحيى الذهلي جزم عن أبي نعيم في روايته عنه بهذا الحديث بلفظ ‏"‏ القتل ‏"‏ وأما البخاري فرواه عنه بالشك كما تقدم في كتاب العلم‏.‏

قوله ‏(‏وقال عبيد الله إما أن يقاد أهل القتيل‏)‏ أي يؤخذ لهم بثأرهم، وعبيد الله هو ابن موسى المذكور، وروايته إياه عن شيبان بن عبد الرحمن بالسند المذكور، وروايته عنه موصولة في صحيح مسلم كما بينته ولفظه ‏"‏ إما أن يعطي الدية وإما أن يقاد أهل القتيل ‏"‏ وهو بيان لقوله ‏"‏ إما أن يقاد‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قِصَاصٌ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمْ الدِّيَةُ فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ قَالَ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَطْلُبَ بِمَعْرُوفٍ وَيُؤَدِّيَ بِإِحْسَانٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن عمرو‏)‏ هو ابن دينار‏.‏

قوله ‏(‏عن مجاهد‏)‏ وقد تقدم في تفسير البقرة عن الحميدي ‏"‏ عن سفيان حدثنا عمرو سمعت مجاهدا‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏عن ابن عباس رضي الله عنهما‏)‏ في رواية الحميدي ‏"‏ سمعت ابن عباس ‏"‏ هكذا وصله ابن عيينة عن عمرو بن دينار وهو من أثبت الناس في عمرو، ورواه ورقاء بن عمر عن عمرو فلم يذكر فيه ابن عباس أخرجه النسائي‏.‏

قوله ‏(‏كانت في بني إسرائيل القصاص‏)‏ كذا هنا من رواية قتيبة عن سفيان بن عيينة‏.‏

وفي رواية الحميدي عن سفيان ‏"‏ كان في بني إسرائيل القصاص ‏"‏ كما تقدم في التفسير وهو أوجه، وكأنه أنث باعتبار معنى القصاص وهو المماثلة والمساواة‏.‏

قوله ‏(‏فقال الله لهذه الأمة كتب عليكم القصاص في القتلى إلى هذه الآية فمن عفي له من أخيه شيء‏)‏ قلت‏:‏ كذا وقع في رواية قتيبة، ووقع هنا عند أبي ذر والأكثر‏.‏

ووقع هنا في رواية النسفي والقابسي ‏"‏ إلى قوله فمن عفي له من أخيه شيء ‏"‏ ووقع في رواية ابن أبي عمر في مسنده ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج ‏"‏ إلى قوله في هذه الآية ‏"‏ وبهذا يظهر المراد، وإلا فالأول يوهم أن قوله ‏(‏فمن عفي‏)‏ في آية تلي الآية المبدأ بها وليس كذلك، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية أبي كريب وغيره عن سفيان فقال بعد قوله في القتلى ‏"‏ فقرأ إلى والأنثى بالأنثى فمن عفي له ‏"‏ ووقع في رواية الحميدي المذكورة ما حذف هنا من الآية وزاد في آخره تفسير قوله ‏(‏ذلك تخفيف من ربكم‏)‏ وزاد فيه أيضا تفسير قوله ‏(‏فمن اعتدى‏)‏ أي قتل بعد قبول الدية‏.‏

وقد اختلف في تفسير العذاب في هذه الآية فقيل‏:‏ يتعلق بالآخرة وأما في الدنيا فهو لمن قتل ابتداء وهذا قول الجمهور، وعن عكرمة وقتادة والسدي يتحتم القتل ولا يتمكن الولي من أخذ الدية‏.‏

وفيه حديث جابر رفعه ‏"‏ لا أعفو عمن قتل بعد أخذ الدية ‏"‏ أخرجه أبو داود وفي سنده انقطاع، قال أبو عبيد‏:‏ ذهب ابن عباس إلى أن هذه الآية ليست منسوخه بآية المائدة ‏(‏أن النفس بالنفس‏)‏ بل هما محكمتان، وكأنه رأى أن آية المائدة مفسرة لآية البقرة وأن المراد بالنفس نفس الأحرار ذكورهم وإناثهم دون الأرقاء فإن أنفسهم متساوية دون الأحرار‏.‏

وقال إسماعيل المراد في النفس بالنفس المكافئة للأخرى في الحدود لأن الحر لو قذف عبدا لم يجلد اتفاقا والقتل قصاصا من جملة الحدود، قال وبينه قوله في الآية ‏(‏والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له‏)‏ فمن هنا يخرج العبد والكافر لأن العبد ليس له أن يتصدق بدمه ولا بجرحه، ولأن الكافر لا يسمى متصدقا ولا مكفرا عنه‏.‏

قلت‏:‏ محصل كلام ابن عباس يدل على أن قوله تعالى ‏(‏وكتبنا عليهم فيها‏)‏ أي على بني إسرائيل في التوراة ‏(‏أن النفس بالنفس‏)‏ مطلقا فخفف عن هذه الأمة بمشروعية الدية بدلا عن القتل لمن عفا من الأولياء عن القصاص وبتخصيصه بالحر في الحر، فحينئذ لا حجة في آية المائدة لمن تمسك بها في قتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر، لأن شرع من قبلنا إنما يتمسك منه بما لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وقد قيل إن شريعة عيسى لم يكن فيها قصاص وإنه كان فيها الدية فقط، فإن ثبت ذلك امتازت شريعة الإسلام بأنها جمعت الأمرين فكانت وسطى لا إفراط ولا تفريط، واستدل به على أن المخير في القود أو أخذ الدية هو الولي وهو قول الجمهور، وقرره الخطابي بأن العفو في الآية يحتاج إلى بيان، لأن ظاهر القصاص أن لا تبعة لأحدهما على الآخر، لكن المعنى أن من عفي عنه من القصاص إلى الدية فعلى مستحق الدية الاتباع بالمعروف وهو المطالبة وعلى القاتل الأداء وهو دفع الدية بإحسان‏.‏

وذهب مالك والثوري وأبو حنيفة إلى أن الخيار في القصاص أو الدية للقاتل، قال الطحاوي‏:‏ والحجة لهم حديث أنس في قصة الربيع عمته فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كتاب الله القصاص ‏"‏ فإنه حكم بالقصاص ولم يخير، ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما، فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله ‏"‏ فهو بخير النظرين ‏"‏ أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضني الجاني أن يغرم الدية‏.‏

وتعقب بأن قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏كتاب الله القصاص ‏"‏ إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القود فأعلم أن كتاب الله نزل على أن المجني عليه إذا طلب القود أجيب إليه وليس فيه ما ادعاه من تأخير البيان، واحتج الطحاوي أيضا بأنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقاتل رضيت أن تعطيني كذا على أن لا أقتلك أن القاتل لا يجبر عل ذلك ولا يؤخذ منه كرها وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه‏.‏

وقال المهلب وغيره‏:‏ يستفاد من قوله ‏"‏ فهو بخير النظرين ‏"‏ أن الولي إذا سئل في العفو على مال إن شاء قبل ذلك وإن شاء اقتص وعلى الولي اتباع الأولى في ذلك، وليس فيه ما يدل على إكراه القاتل على بذل الدية، واستدل بالآية على أن الواجب في قتل العمد القود والدية بدل منه، وقيل الواجب الخيار، وهما قولان للعلماء، وكذا في مذهب الشافعي أصحهما الأول، واختلف في سبب نزول الآية فقيل نزلت في حيين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر في الشرف فكانوا يتزوجون من نسائهم بغير مهر وإذا قتل منهم عبد قتلوا به حرا أو امرأة قتلوا بها رجلا أخرجه الطبري عن الشعبي‏.‏

وأخرج أبو داود من طريق علي بن صالح بن حي عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة يودي بمائة وسق من التمر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه لنا نقتله، فقالوا بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم، فأتوه فنزلت ‏(‏وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏)‏ والقسط‏:‏ النفس بالنفس، ثم نزلت ‏(‏أفحكم الجاهلية يبغون‏)‏ واستدل به الجمهور على جواز أخذ الدية في قتل العمد ولو كان غيلة وهو أن يخدع شخصا حتى يصير به إلى موضع خفي فيقتله، خلافا للمالكية، وألحقه مالك بالمحارب فإن الأمر فيه إلى السلطان وليس للأولياء العفو عنه، وهذا على أصله في أن حد المحارب القتل إذا رآه الإمام وأن ‏"‏ أو ‏"‏ في الآية للتخيير لا للتنويع، وفيه أن من قتل متأولا كان حكمه حكم من قتل خطأ في وجوب الدية لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏فإني عاقله ‏"‏ واستدل به بعض المالكية على قتل من التجأ إلى الحرم بعد أن يقتل عمدا خلافا لمن قال لا يقتل في الحرم بل يلجأ إلى الخروج منه، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم قاله في قصة قتيل خزاعة المقتول في الحرم، وأن القود مشروع فيمن قتل عمدا، ولا يعارضه ما ذكر من حرمة الحرم فإن المراد به تعظيمه بتحريم ما حرم الله، وإقامة الحد على الجاني به من جملة تعظيم حرمات الله، وقد تقدم شيء من هذا في الموضع الذي أشرت إليه آنفا من كتاب الحج‏.‏

*3*باب مَنْ طَلَبَ دَمَ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب من طلب دم امرئ بغير حق‏)‏ أي بيان حكمه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن عبد الله بن أبي حسين‏)‏ هو عبد الله بن عبد الرحمن نسب إلى جده، وثبت ذكر أبيه في هذا السند عند الطبراني في نسخة شعيب بن أبي حمزة وكذا في مستخرج أبي نعيم، ونافع بن جبير أي ابن مطعم‏.‏

قوله ‏(‏أبغض‏)‏ هو أفعل من البغض، قال وهو شاذ ومثله أعدم من العدم إذا افتقر، قال وإنما يقال أفعل من كذا للمفاضلة في الفعل الثلاثي، قال المهلب وغيره‏:‏ المراد بهؤلاء الثلاثة أنهم أبغض أهل المعاصي إلى الله، فهو كقوله ‏"‏ أكبر الكبائر ‏"‏ وإلا فالشرك أبغض إلى الله من جميع المعاصي‏.‏

قوله ‏(‏ملحد في الحرم‏)‏ أصل الملحد هو المائل عن الحق، والإلحاد العدول عن القصد، واستشكل بأن مرتكب الصغيرة مائل عن الحق، والجواب أن هذه الصيغة في العرف مستعملة للخارج عن الدين فإذا وصف به من ارتكب معصية كان في ذلك إشارة إلى عظمها، وقيل إيراده بالجملة الاسمية مشعر بثبوت الصفة، ثم التنكير للتعظيم فيكون ذلك إشارة إلى عظم الذنب، وقد تقدم قريبا في عد الكبائر مستحل البيت الحرام‏.‏

وأخرج الثوري في تفسيره عن السدي عن مرة عن ابن مسعود قال ‏"‏ ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه، إلا أن رجلا لو هم بعدن أبين أن يقتل رجلا بالبيت الحرام إلا أذاقه الله من عذاب أليم ‏"‏ وهذا سند صحيح، وقد ذكر شعبة أن السدي رفعه لهم، وكان شعبة يرويه عنه موقوفا أخرجه أحمد عن يزيد بن هارون عن شعبة، وأخرجه الطبري من طريق أسباط بن نصر عن السدي موقوفا، وظاهر سياق الحديث أن فعل الصغيرة في الحرم أشد من فعل الكبيرة في غيره، وهو مشكل فيتعين أن المراد بالإلحاد فعل الكبيرة، وقد يؤخذ ذلك من سياق الآية فإن الإتيان بالجملة الاسمية في قوله ‏(‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم‏)‏ الآية يفيد ثبوت الإلحاد ودوامه، والتنوين للتعظيم أي من يكون إلحاده عظيما والله أعلم‏.‏

قوله ‏(‏ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية‏)‏ أي يكون له الحق عند شخص فيطلبه من غيره ممن لا يكون له فيه مشاركة كوالده أو ولده أو قريبه، وقيل المراد من يريد بقاء سيرة الجاهلية أو إشاعتها أو تنفيذها‏.‏

وسنة الجاهلية اسم جنس يعم جميع ما كان أهل الجاهلية يعتمدونه من أخذ الجار بجاره والحليف بحليفه ونحو ذلك، ويلتحق بذلك ما كانوا يعتقدونه، والمراد منه ما جاء الإسلام بتركه كالطيرة والكهانة وغير ذلك، وقد أخرج الطبراني والدار قطني من حديث أبي شريح رفعه ‏"‏ إن أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله، أو طلب بدم الجاهلية في الإسلام ‏"‏ فيمكن أن يفسر به سنة الجاهلية في هذا الحديث‏.‏

قوله ‏(‏ومطلب‏)‏ بالتشديد مفتعل من الطلب فأبدلت التاء طاء وأدغمت والمراد من يبالغ في الطلب‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ المعنى المتكلف للطب، والمراد الطلب المترتب عليه المطلوب لا مجرد الطلب، أو ذكر الطلب ليلزم الزجر في الفعل بطريق الأولى‏.‏

وقوله ‏"‏بغير حق ‏"‏ احتراز عمن يقع له مثل ذلك لكن بحق كطلب القصاص مثلا‏.‏

وقوله ‏"‏ليهريق ‏"‏ بفتح الهاء ويجوز إسكانها، وقد تمسك به من قال إن العزم المصمم يؤاخذ به، وتقدم البحث في ذلك في الكلام على حديث ‏"‏ من هم بحسنة ‏"‏ في كتاب الرقاق‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقفت لهذا الحديث على سبب فقرأت في ‏"‏ كتاب مكة لعمر بن شبة ‏"‏ من طريق عمرو بن دينار عن الزهري عن عطاء بن يزيد قال‏:‏ قتل رجل بالمزدلفة يعني في غزوة الفتح، فذكر القصة وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ وما أعلم أحدا أعتى على الله من ثلاثة‏:‏ رجل قتل في الحرم أو قتل غير قاتله أو قتل بذحل في الجاهلية ‏"‏ ومن طريق مسعر عن عمرو بن مرة عن الزهري ولفظه ‏"‏ إن أجرأ الناس على الله ‏"‏ فذكر نحوه وقال فيه ‏"‏ وطلب بذحول الجاهلية‏"‏‏.‏

*3*باب الْعَفْوِ فِي الْخَطَإِ بَعْدَ الْمَوْتِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب العفو في الخطأ بعد الموت‏)‏ أي عفو الولي لا عفو المقتول لأنه محال، ويحتمل أن يدخل، وإنما قيده بما بعد الموت لأنه لا يظهر أثره إلا فيه، إذ لو عفا المقتول ثم مات لم يظهر لعفوه أثر، لأنه لو عاش تبين أن لا شيء له يعفو عنه‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ أجمعوا على أن عفو الولي إنما يكون بعد موت المقتول، وأما قبل ذلك فالعفو للقتيل، خلافا لأهل الظاهر فإنهم أبطلوا عفو القتيل‏.‏

وحجة الجمهور أن الولي لما قام مقام المقتول في طلب ما يستحقه فإذا جعل له العفو كان ذلك للأصيل أولى، وقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة من مرسل قتادة أن عروة بن مسعود لما دعا قومه إلى الإسلام فرمي بسهم فقتل عفا عن قاتله قبل أن يموت فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عفوه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ يَعْنِي الْوَاسِطِيَّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ صَرَخَ إِبْلِيسُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي النَّاسِ يَا عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ حَتَّى قَتَلُوا الْيَمَانِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَبِي أَبِي فَقَتَلُوهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ قَالَ وَقَدْ كَانَ انْهَزَمَ مِنْهُمْ قَوْمٌ حَتَّى لَحِقُوا بِالطَّائِفِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا فروة‏)‏ بفاء هو ابن أبي المغراء‏.‏

قوله ‏(‏عن أبيه عن عائشة هزم المشركون يوم أحد‏)‏ سقط هذا القدر لأبي ذر وتحول إلى السند الآخر فصار ظاهره أن الروايتين سواء وليس كذلك، ويحيى بن أبي زكريا في السند الثاني هو يحيى بن يحيى الغساني، وساق المتن هنا على لفظه، وأما لفظ علي بن مسهر فتقدم في ‏"‏ باب من حنث ناسيا ‏"‏ من كتاب الأيمان والنذور، وقد بينت ذلك في الكلام عليه في غزوة أحد‏.‏

قوله ‏(‏فقال حذيفة غفر الله لكم‏)‏ استدل به من قال إن ديته وجبت على من حضر، لأن معنى قوله ‏"‏ غفر الله لكم ‏"‏ عفوت عنكم، وهو لا يعفو إلا عن شيء استحق له أن يطالب به‏.‏

وقد أخرج أبو إسحاق الفزاري في السنن عن الأوزاعي عن الزهري قال ‏"‏ أخطأ المسلمون بأبي حذيفة يوم أحد حتى قتلوه، فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم فزاده عنده خيرا ووداه من عنده ‏"‏ وهذه الزيادة ترد قول من حمل قوله ‏"‏ فلم يزل في حذيفة منها بقية خير ‏"‏ على الحزن على أبيه، وقد أوضحت الرد عليه في ‏"‏ باب من حنث ناسيا ‏"‏ ويؤخذ منها أيضا التعقب على المحب الطبري حيث قال‏:‏ حمل البخاري قول حذيفة ‏"‏ غفر الله لكم ‏"‏ على العفو عن الضمان وليس بصريح، فيجاب بأن البخاري أشار بهذا الذي هو غير صريح إلى ما ورد صريحا وإن كان ليس على شرطه فإنه يؤيد ما ذهب إليه‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً

وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول الله تعالى‏:‏ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ‏)‏ كذا لأبي ذر وابن عساكر، وساق الباقون الآية إلى ‏(‏عليما حكيما‏)‏ ولم يذكر معظمهم في هذا الباب حديثا‏.‏

قوله ‏(‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ‏)‏ ذكر ابن إسحاق في السيرة سبب نزولها عن عبد الرحمن ابن الحارث بن عبد الله بن عياش بتحتانية وشين معجمة أي ابن ربيعة المخزومي قال ‏"‏ قال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق‏:‏ نزلت هذه الآية في جدك عياش بن أبي ربيعة والحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي وكان يؤذيهم بمكة وهو كافر، فلما هاجر المسلمون أسلم الحارث وأقبل مهاجرا حتى إذا كان بظاهر الحرة لقيه عياش بن أبي ربيعة فظنه على شركه فعلاه بالسيف حتى قتله، فنزلت ‏"‏ روى هذه القصة أبو يعلى من طريق حماد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه فذكرها مرسلة أيضا وزاد في السند عبد الرحمن بن القاسم‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم في التفسير من طريق سعيد بن جبير أن عياش بن أبي ربيعة حلف ليقتلن الحارث بن يزيد إن ظفر به فذكر نحوه ومن طريق مجاهد نحوه لكن لم يسم الحارث، وفي سياقه ما يدل عل أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلم ثم خرج فقتله عياش بن أبي ربيعة، وقيل في سبب نزولها غير ذلك مما لا يثبت‏.‏

قوله ‏(‏إلا خطأ‏)‏ هو استثناء منقطع عند الجمهور إن أريد بالنفي معناه فإنه لو قدر متصلا لكان مفهومه فله قتله، وانفصل من قال إنه متصل بأن المراد بالنفي التحريم، ومعنى إلا خطأ بأن عرفه بالكفر فقتله ثم ظهر أنه كان مؤمنا، وقيل نصب على أنه مفعول له أي لا يقتله لشيء أصلا إلا للخطأ، أو حال أي إلا في حال الخطأ، أو هو نعت مصدر محذوف أي إلا قتلا خطأ، وقيل ‏"‏ إلا ‏"‏ هنا بمعنى الواو وجوزه جماعة، وقيده الفراء بشرط مفقود هنا فلذلك لم يجزه هنا‏.‏

واستدل بهذه الآية على أن القصاص من المسلم مختص بقتله المسلم فلو قتل كافرا لم يجب عليه شيء سواء كان حربيا أم غير حربي لأن الآيات بينت أحكام المقتولين عمدا ثم خطأ فقال في الحربي ‏(‏فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم‏)‏ ثم قال فيمن لهم ميثاق ‏(‏فما جعل الله لكم عليهم سبيلا‏)‏ وقال فيمن عاود المحاربة ‏(‏فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏)‏ وقال في الخطأ ‏(‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ‏)‏ فكان مفهومها أن له أن يقتل الكافر عمدا فخرج الذمي بما ذكر قبلها، وجعل في قتل المؤمن خطأ الدية والكفارة ولم يذكر ذلك في قتل الكافر، فتمسك به من قال لا يجب في قتل الكافر ولو كان ذميا لشيء، وأيده بقوله ‏(‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا‏)‏ وإسحاق في أول السند قال أبو علي الجياني‏:‏ لم أجده منسوبا ويشبه أن يكون ابن منصور‏.‏

قلت‏:‏ ولا يبعد أن يكون ابن راهويه فإنه كثير الرواية عن حبان بن هلال شيخ إسحاق هنا‏.‏