فصل: باب: اخْتلاَفِ المُتَبايِعَيْنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: اخْتلاَفِ المُتَبايِعَيْنِ:

قواعد الباب يجمعُها فصول، ونحن نذكرُها على ترتيبها، ثم نتعرض لما يشذُّ منها
الفصل الأول
في الاختلاف ومعناه
3253- فليعتقد المنتهي إلى الباب أن المتبايعين إذا اختلفا في صفةِ العقدِ على ما سنصف اختلافَهما، فإنهما يتحالفانِ، ثم يفسخ العقد بينهما أو ينفسخ.
والذي يقتضيه الترتيبُ وصفُ اختلافِهما، ثم وصفُ أيمانهما، ثم بيان الحكم إذا تحالفَا.
3254- فأمَّا الاختلاف؛ فإن اتفقا على المبيع، واختلفا في مقدار الثمن، فقالَ البائع: بعتُه بألف. وقال المشتري بل بخمسمائةٍ، أو اختلفا في جنس الثمن، فذكر أحدُهما الدراهم، وذكر الآخر الدنانير، فالاختلاف على هذه الوجوه يتضمن التحالف.
وكذلك لو اتفقا على المبيع، كما ذكرناه، واختلفا في عين الثمن، فقال البائع: بعتك داري هذه بهذا الثوب، وقال المشتري: بل بعتنيها بهذا العبد، فهذا يتضمن التحالف.
ولو قال البائع: بعتك داري هذه بعبدك هذا. و قال صاحبه: بعتَني بستانَك هذا بثوبي هذا، فما اجتمعَا على ثمنٍ ولا مُثمّنٍ، فليسَ هذا من مقصود الباب؛ فإن غرض الباب يستدعي اتحادَ العقد واختلافَهما في الصفة، حتى إذا فرض التحالف ابتنى عليهِ التفاسخ في العقد الواحد بينهما، وإذا ذَكر أحدُهما ثمناً ومثمناً مُعيَّنين، وذكر الآخر ثمناً ومثمناً آخرين، فقولاهما راجعان إلى عقدين، فالوجه فيهِ أن يدعي كل واحدٍ العقدَ الذي يذكرُه وصاحبُه إذا استمرَّ على نفيه، فالبينةُ على المدعي، واليمين على من أنكر.
وكذلك لو ادّعَى مالك الدار أنه باعها بألفٍ من زيد، فقال زيد: بل وهبتنيها، فليس هذا من الباب؛ فإنهما تَدَاعَيا عقدين، فكل واحد منهما منكر لما يدعي صاحبُه.
ولو اختلفا في عين المبيع واتفقا في عَين الثمن، وكان الثمن مُعَيّناً، فهذا موضع التخالف المقصود في الباب؛ فإنهما اتفقَا على أحد العوضين وارتبط العقد به، ورجع الاختلاف بعده إلى تفصيل العقد. وبمثله لو اختلفا في عين المبيع، وذكرا ثمناً في الذمة لم يختلفا فيه مقداراً وجنساً. مثل أن يقول أحدُهما: بعتُك عبدي هذا بألفٍ، ويقول المشتري: بل بعتني جاريتكَ هذه بألف. فكيف السبيل والاختلاف كذلك؟ ذكر العراقيون أن هذا من باب التَّداعِي في عقدين، فإن المبيع مختلَفٌ فيه، والثمن ليس بمتعيَّن حتى يعتقد مرتَبطاً للعقد.
فالطريق على مذهبهم فصلُ الخصومةِ عن الخصومةِ، فبينهما عقدان يتداعيانهما كما تقدَّم نظائر هذا.
وفي طُرق المراوزة ما يدل أن التحالف يجري في هذا؛ فإنَّ الألْفَ متفقٌ عليه.
والكلام في جهة ثبوته والعِوضُ الثابت ديناً مملوك، كالعوض المسمى عيناً.
وللعراقيين أن يقولوا: الألف الذي يدَّعيه أحدُهما غيرُ الألف الذي يعترف به الثاني، ويتصور التزام ألفين من جهتين، فالتعيين لا يتحقق في الألف، وليس كالعين يتعين ملكاً.
وهذا الذي ذكَرُوه مع ما ذكرهُ المراوزة بلتفت على أصلٍ سيأتي في الدعاوى، وهو أن رجلاً لو اعترفَ بألف لإنسان عن جهةِ ضمان، وأنكر المقَرُّ لهُ الضمانَ، وادَّعى عليه ألفاً عن جهةٍ أخرى أنكرها المقِر، ففي وجوب الألف على المقر خلافٌ مشهورٌ.
ولو اعترف رجل بالملكِ في عَينٍ لإنسانِ عن جهةِ، فأنكر المقَرّ له تلكَ الجهة، وادَّعى الملكَ بجهةٍ أخرى، فلا خلاف في وجوب تسليم العين إلى المقرّ له.
فهذا مضطرب للفريقين. والمسألةُ محتملةٌ، ويظهر فائدةُ ما ذكرناه في الفسخ.
فإن اعتقدنا الألف في حكم العين المتَّحدة، فإذا جرى التحالف، فسخنا العقدَ، وقد نقول ينفذ الفسخُ باطناً، كما سيأتي شرحه، إن شاء اللهُ. فيثبت ما بينهما. وإن لم نر هذا تَحالُفاً في مقصود الباب، فتُفصلُ الخصومتان بطريق فَصلِهما، ولا فسخ ولا انفساخَ، والمبطل منهما في علم الله مطالبٌ بما عليهِ، طرداً لقياس الخصومات.
3255- وممَّا يتعلق بصفة الاختلافِ أن الزوائد التي تثبت بالشرط إذا فرض النزاع فيها، فالحكمُ التحالف عندنا، مثل أن يدعي البائع شرطَ الرَّهن أو الكفيل، أو شرط البراءة إذا رأينا صحتَه، أو يدعي المشتري شرطَ الأجل في الثمن، أو شرطَ الكتابة وغيرِها في العبد المشترى، فإذا جرى الدعوى والإنكار، فحكم الحال التحالف عندنا، ثم الفسخُ أو الانفساخ بمثابةِ الاختلاف في الثمن والمثمن.
وأبو حنيفة لا يثبت التحالف إلا عند فرضِ الاختلاف في الثمن أو المثمن. فإذا صار إلى أن الأصل عدمُ الشرائط المدّعاة، فليكن القولُ قولَ نافيها مع يمينهِ. قلنا: لا ننكر أن هذا قياس جَليٌّ في وضعه، ولكن هذه الشرائط بمثابة مزيد الثمن إذا ادّعاه البائع على المشتري؛ فإن الأصل عدمُ التزامه وبَراءةُ ذمّةِ المشتري عنه، ثم جرى التحالفُ فيه مع قيام السلعة وفاقاً. فإن كان التعويل على الخبر، فذكر الاختلاف في الخبر مطلقٌ لا تعرض فيه للثمن والمثمن. وإن كنا نتكلف تقريب القول من جهةِ المعنى، فنقول: العقد متفق عليه، والمتعاقدان مختلفان في صفته، فكل واحدٍ منهما يدّعي صفةً وينكر صفةً، وهذا متحقق والتداعي في الشرائط يحققه والتداعي في زيادةِ الثمن والمثمن.
3256- ومما خالف أبو حنيفة رحمه الله فيه الأجلُ، مع العلم بأن التداعي فيه تداعٍ في المالية؛ فإن الألف المؤجل دون الألف الحالّ.
ولو اختلف المتعاقدان، فادعى أحدُهما جريانَ شرطٍ مفسدٍ للعقد، وأنكر الثاني، فاختلف أصحابنا: فمنهم من قالَ: القول قول من ينفي الشرطَ؛ لأن الأصل عدمه، ومنهم من قال: القول قول من يثبته؛ فإن في إثباته نفيَ العقدِ.
وبالجملة ليست هذه الصورة من صور التحالف لما ذكرنا الآن من أن التحالف يترتب على الاختلاف في صفةِ العقدِ، مع الاعتراف بأصلهِ، والنزاع في الصورة التي نحن فيها راجع إلى أصل العقد؛ فإن أحدهما يدَّعيه، والثاني ينفيه.
وهذا الاختلاف قريبُ المأخذ من مسألة في الأقارير: وهي أن الرجل إذا أقرَّ بألفٍ من ثمن خمرٍ، فهل نلزمهُ الألف تعلُّقاً بصَدَرِ الإقرار، أم نقول: الكلام بآخرِه، وليس في منتهاه ما يوجب ثبوتَ الألف.
3257- وذكر القاضي مسألةً، ونحن ننقل جوابَه فيها أولاً، ونذكر وجهَ الرأي: وهو أن البائع لو قال: بعتُك هذا العبدَ بهذَا الثوبِ، وثوبٍ آخر تلف في يدك. وقال المشتري بل اشتريتُه بهذا الثوب لا غير. قال القاضي: هذا يبتني على تفريق الصفقة في الانتهاء، وما يقابل القائمَ من الثمن. فإن قلنا: ينفسخ العقد في القائم أيضاً، فليس يدّعي البائع عقداً في الحال. وإن قلنا: جميع العِوَض يقف في مقابلةِ القائم، فلا معنى للتحالف أيضاً؛ لأن البائع يلزمُه تسليم العبد على هذا القول، فلا يستفيد بما ذكره شيئاً. وإن قلنا: القائم الباقي يقابله قسطٌ من الثمن، فهذا يُفضي إلى الخلاف في القدر المستحق من العبد، فيترتب عليه التحالف حينئذٍ؛ فإنه تنازع في مقدار الثمن أوّلاً، مقتضاه دوام النزاع في مقدار البدل آخراً.
وهذا الذي ذكرهُ حسنٌ سديد في أطرافه. ولكن يتطرق الكلام إلى شيء منه: وهو أنا إذا قلنا: البدل في مقابلة الباقي القائم، فهذه الحالةُ لو جرت، تضمّنت خيار البائع، والمشتري ينكره، فقد أدَّى التنازعُ إلى تناكُرٍ في الخيار، وهو مستند إلى نزاع في المعقود عليه. وإذا ظهرت فائدة وقد استند النزاع إلى صفة العقد في الأصل، اتَّجه التحالفُ؛ فإنهما لو تنازعا في شرط الخيار، تحالفا مع كون الخيار زائداً مائلاً عن مقصود العقد، فما الظن بخيار يقتضيه النزاع في أصل المقصودِ.
هذا منتهى نظرِنا الآن. والرأي بعد ذلك مشتركٌ بين الفقهاء.
وقد نجز بما ذكرناه القولُ في صفة الاختلاف الذي يبتني عليه التحالف.
ونحن نقول بعد ذلك:
3258- الاختلاف في العقود المشتملة على الأعواض يتضمن التحالف، فلا اختصاصَ لما ذكرنا بالبيع، فإذا تنازعَ المتكاريان تحالفا، وكذلك المتصالحان والمتكاتبان، وكذلك إذا اختلف الزوج والزوجة في الصداق، تحالفا، ثم يتأثر بتحالفهما الصداق، كما سيأتي في كتابه- إن شاء اللهُ.
وكذلك التحالف جارٍ في المساقاة، ومعاملة القراض. والجامع له أن التحالف يجري في كل عقد يشتمل على عوض.
ثم العقود تنقسم: فمنها ما يؤثِّر الفسخ في رفعها، ومنها ما لا يرتفع مقصودُها، ويرجع التأثر إلى العوض، كالصداق، والخلع، والمصالحة عن الدم، وعقد العتاقة. وليست الكتابة كذلك؛ فإن العتق لا يتأكد فيها إلا بعد وقوع العتق.
فإن قيل: أي معنىً للتحالف في القِراض، وهو عقد جائز في الجانبين يتمكن كل واحدٍ من المتعاقدَيْن من فسخه؟ قلنا: هذا غفلةٌ عن مقصود الباب؛ فإن التحالف لم يوضع في الباب للفسخ، ولكن الأَيْمان تُعرض على رجاء أن ينكفّ عنها الكاذب، ويستقل العقد بيمين الصادق. والتفاسخ أمرٌ ضروري رآه الشرع بعد جريان التحالف.
ولا شك في جريان التحالف في الكتابة، وإن كانت جائزة من جهةِ المكاتَب.
3259- ونقل بعض من يوثق به عن القاضِي أن التحالف في البيع لا يجري في زمان الخيارِ ومكانه؛ لأن كل واحدٍ منهما في الفسخ بالخيار، فلا حاجة بهما إلى التحالف في ثبوت الفسخ.
وهذا غير سديدٍ؛ لما ذكرته من أن التحالف ليس موضوعاً للتفاسخ. وقد صرح القاضي بثبوت التحالف في القراض مع جوازه، ونصَّ الشافعي في الكتابة على التحالف، مع جواز العقد في جانب المكاتَب.
والذي يتأتى به توجيه كلام القاضي أن توجيه الطلب مع الجواز بعيدٌ، فلو طولب باليمين، وما فيه اليمينُ في أصله ليس بلازمٍ، لكان بعيداً. ولو جاز هذا، لجاز أن يقال: يطالب المشتري بالثمن في زمان الخيارِ، ويُحبس فيه، ويقال له: إن أردت الخلاص، فافسخ، وهذا لا قائل به. ويلزم على مساق كلام القاضي أن يقال: من ادعى على إنسانٍ بيعاً بشرط الخيارِ له، فلا يتوجه اليمينُ على المدعَى عليه توجُّهاً محققاً. ولا يلزم على هذا مطالبةُ السيّد مكاتَبَه بالنجم؛ فإنه يستفيد به فسخَ عقدِ الكتابة إذا امتنع المكاتَب، فعاقبةُ مطالبته رفعُ حقٌ واجبٍ.
والوجه عندي في زمان الخيار أن القاضي لا يلزمهما أن يتحالفا، لو ادَّعَيا ورأيا أن يتحالفا، عَرَض الأيمانَ عليهما، ونظرنا إلى ما يكون من أمرهما.
وهذا مشكل أيضاًً؛ فلا عهد لنا بيمين يتخيَّر المرءُ فيها. فهذا منتهى الأمر.
وقصاراهُ موافقةُ القاضي.
ولستُ أخلي هذا الكتابَ عن طريق المباحثة-مع التمكن من الاقتصار على نتيجة- حتى يتدرَّب الناظر في مسالك البحث.
ثم الذي يقتضيه مساق هذا الأمر أن تحالف المتعاملَيْن في القِراض قبل الخوض في شيءٍ من العمل لا معنى له. ويعن فيه شيء آخر، هو أن نجعل نفس التناكر تفاسخاً. وستأتي نظائر ذلك؛ فإن الشافعي نص على أن دعوى الرجعة من الزوج في مدَّة الرجعة رجعة، وهذا كلام يطول. وسيأتي في موضعه، إن شاء الله.
نعم إذا عمل المقارض، فيعود النزاع إلى مقصود الأخير في دفعه من أجرِ مثل أو ربح.
فهذا غايةُ القول في ذلك.
ثم نختتم الفصلَ ونقولُ: جريانُ التحالف في البيع لا يتوقف على قيام المبيع، بل يجري بعد تلفه، فإن معتمدَهُ العقد، والعقد لا يزول بتلف المبيع في يد المشتري، والخلاف مشهور مع أبي حنيفة رحمه الله.
وكما لا يتوقف التحالف على بقاء المبيع، لا يتوقف على بقاء المتعاقدَيْن، فلو ماتا، أو مات أحدُهما، خلف الوارثُ المورُوثَ، وجرى التحالفُ. والتعويل على ما ذكرناه من بقاء العقد؛ فإنه باقي في حقوق الورثة.
الفصل الآخر
في كيفية التحالف
3260- والذي نرى تقديمَه أن تحالفَ المتعاقدَيْن لا يهتدي إليه القياسُ الجلي على الاستقلال في بعض الصور، وقد يجري بعضَ الجريان في بعضِها.
فإن كان المبيع متفقاً عليه، ومقدار الثمن متنازعاً فيه، فقد يظهر أن ملك المبيع لا نزاع فيه، وكذلك المُتَّفقُ من قدر الثمن، والزائد على ذلك يدّعيه البائع وينفيه المشتري، والأصل براءةُ ذمّته عنه. هذا وجه.
ومعتمد الباب إما الخبر على ما قررناه في الخلافِ، وإما مصلحة ناجزة حاقَّة خصيصَةٌ بالباب، هي أولى بالاعتبارِ من الأمر الكلِّي، وهي أن المتعاقدَيْن يعم اختلافُهما، وكل واحدٍ منهما جالبٌ باذلٌ، فلو خصَصنا بالتصديق أحدهما، جرَّ ذلك عُسراً عظيماً، فرعاية مصلحة العقد أولى من النظر إلى عموم القول في براءة الذمَّة.
فإن فرضت بيّنة، فهي متبعة، وإن تعارضت بيّنتان، لم يخفَ حكمُ التَّهاتر والاستعمال. وإن لم تكن بيّنةٌ، فلا وجه إلا التسوية بين المتعاقدَيْن فيما يعم وقوعه.
فهذا أصل الباب.
3261- ثم الكلام يتعلق بأمرين:
أحدهما: فيمن يُبدأ به من المتعاقدين، والآخرُ في عدد اليمين وصيغتِها.
فأما الكلام في البداية، فظاهر نصوص الشافعي أن البدايةَ بالبائع، ومن ينزل منزلتَه في العقود، ونص في البيع نفسِه أن البداية بالبائع. وقالَ في السلم: البدايةُ بالمسلم إليه. وهو في مقام البائع.
ونص في الكتابة أن البداية بالسيِّد، وهو في التقدير في رتبة البائع.
ونصُّه في النكاح يخالف هذه النصوص؛ فإنه قال: البدايةُ بالزوج. وهو في التقدير في منزلة المشتري إذا أُضيف إلى المقصود بالعقد، وهو استحقاق حِل البُضعِ، فنظر الأصحاب في النصوص، فرأوها مخالفة لما نص عليه في النكاح، واختلفوا على طرقٍ، فذهب بعضهم إلى إجراء القولين، وضربَ النصوصَ بعضَها ببعض. فينتظم في كل مسألةٍ ذكرناها قولان:
أحدهما: أن البداية بالبائع؛ فإن قولَه يدور على مقصود العقد، وهو المبيع، والشرع يَعتَني بإثباتِ العقدِ إذا ثبت أصلُه، فهذا يقتضي تقديمَ من يتلقَّى مقصودَ العقد من جهتِه.
والقول الثاني- أن البداية بالمشتري وبمن يحل محلَّه؛ فإن القياس الكلي يقتضي تصديقَ المشتري؛ من جهة أن البائعَ معترفٌ له بالملك في المبيع، لكنَّه يدعي عليهِ مزيداً، وهو يُنكره، فالقياس أن القولَ قولُ المشتري؛ فإن الأصل بَراءةُ ذمّتِه عن المزيد الذي ادُّعي عليه، فلئن لم نكتف بقوله، فلا أقل من البداية به.
ثم ما طرَدْناه في البائع يجري في كل من يحل محلَّهُ وهو المسلَمُ إليه في السلم، والمكري في الإجارة، والسيد في الكتابة، والزوجة في النكاحِ. وما أطلقنَاهُ في المشتري يجري في كل من يحل محله في العقود التي ذكرناها.
3262- ومن أصحابنا من أجرى النصوص على حقائقها في محالّها؛ فقال: البدايةُ بالبائع والمسلَمِ إليه والمكري والسيّد في الكتابة، والبداية بالزوج، وإن كان في مقام المشتري إذا أضيف إلى مقصود النكاح.
والسبب في ذلك كُلِّه تقديمُ من يقوى جنبتُه في المسائل. والزوجُ في مقام الاختلاف أقوى؛ من جهة أن مقصودَ العقد يبقى عليه، وإن بلغ التحالف منتهاه؛ فإن النكاح لا ينفسخ، ولا يُفسخ، وهو مقصودُه، فكان جانبه أقوى لذلك. وجانب البائع ومن يحل محله في المسائل أقوى؛ من جهة أن مقصود العقد ينقلب إليه في نهاية التحالف فكان جانبه أقوى، والمستحق على الزوجة لا ينقلب إليها في نهاية التحالف.
والوجه عندي في تقرير هذه الطريقَةِ أن النكاح في وضع الشرع في حكم المستثنى عن مضطرب الاختلاف، حتى كأنّ الصداقَ ليس في حكم الأعواض المقابلة، وإنما هو مُتعة معجلة للمرأة من جانب الزوج. وهذا المعنَى هو الذي أوجب للزوج الحكمَ ببقاء النكاح في نهاية التحالف، فكأنَّ الاختلافَ منحصرٌ في الصداق، فالزوج إذاً هو الذي يُتلقى ملكُ عين الصداق منه، كما أن البائعَ يتلقى ملك المبيع منه، فهذا هو الذي اقتضى البدايةَ بالزوج في الصداق.
3263- وذكر صاحبُ التقريب طريقين سوى ما ذكرناهما: إحداهما- أن القاضي يبدأ بمن شاء، فلا احتكام عليهِ، والأمر في ذلك مفوّض إليه. وهذا القائل يحمل نصوصَ الشافعيّ على حكم الوفاق في إجراء الكلام، فإنه إذا لم يكن من البداية بأحدِهما بُدُّ، فقد يتفق للخائضِ في الكلام أن يستفتحَ تقديرَ البداية بأحدهما، ثم لا ضَبط للوِفاقِ، فتارةً يَتّّفقُ ذكرُ جانبٍ، وتارة يتفق ذكر جانبٍ آخر.
والطريقة الثانيةُ- وهي تداني هذه في مأخذها، أن القاضي يُقرع بينهما إذا تنازعا البداية، كما يُقرع بين متساوقين إلى مجلسهِ، وكل يبغي أن يقدّم خصومَته.
والطريقتان صادرتان على قياس؛ فإن المتبايعين إذا كانا يتحالفان، ولا يقدم أحدهما بالتصديق مع اليمين، فلا فرقَ. وما يتكلّفه الفقهاء من تقوية جانبٍ على جانبٍ إذا كان لا يفيد التصديقَ، فلا معنى له. وإذا كان كذلك، فلا ينقدح إلا مسلكان:
أحدهما: ردُّ الأَمْر إلى خِيَرةِ القاضي، والآخر- الإقراع.
فإن قيل: قطعتم بالإقراع بين المتساوقين إلى مجلس القاضي، ولم تردُّوا الأمرَ إلى اختيار القاضي، فما الفرق؟ قلنا: ذاك مفروض في خصومتين، وللمتقدّم غرضٌ ظاهر في تنجُّزِ مقصوده وانقلابه، والخصومةُ واحدةٌ في مسألتنا لا تنفصل بأحدِ الجانبين، فَذَكَرْنا الخِيَرَة في الاختلاف لهذا.
ونقل بعضُ من يوثقُ به طريقةً أخرى معزيّةً إلى طريقة القاضي، وهي أن القاضي يقدّم منهما من يؤدي اجتهادُهُ إلى تقديمه.
وهذا كلام في ظاهرهِ ركيك، من جهة أن القُضاة في الوقائع كلِّها يقضون باجتهادِهم وإنما الكلام كلّه في ذكر وجوه الاجتهادِ. فإذا تعدّينا تقديمَ جانب، فذكر اجتهاد القاضي لا معنى له. والظن أن المراد بهذا تخيّر القاضي، ولكن المعلِّق عنه لم يرَ التّخيُّرَ في الوقائع، فحمل هذا على الاعتقاد في ردَّ الأمر إلى الاجتهادِ.
فهذا استقصاءُ أقوال الأصحاب في البداية.
3264- ووراء ذلك نظر وبحثٌ عندنا. فنقول: إذا تبايع رجلان عبداً بجاريةٍ، واشتمل العقدُ على عوضين من الجانبين، فلا ينبغي أن يظن ظانٌّ أن جانباً يقدَّم على جانبٍ، وقد تبادل المتبايعان عوضين، وآلَ النزاعُ إلى زيادةٍ يدَّعِيها كلُّ واحدٍ على صاحبه، والمدعَى عليه ينفيها، ويدعي زيادةً. وإنما الكلام في البداية. وموقعُ النصوص فيه إذا كان الثمنُ في الذمّة، وكان المبيع عيناً أو جنساً مقصوداً، كالمسلَم فيه؛ فإنّ منشأَ الكلامِ في البدايةِ ما قدَّمناه في توجيهِ القولين على طريقةِ من يُجري النصوصَ على قولين.
وإذا فرض الكلام في مبيع مقابَلٍ بثمنٍ في الذمَّة، فميل النص إلى البدايةِ بالبائع.
والتسويةُ بين الجانبين- وإن كان منقاساً، فهو إضرابٌ عن النص بالكليّة، والتخريج على خلاف النص يبعد إلحاقُه بالمذهب، فما الظنُّ بالإعراض عن النص بالكلية.
والذي أراه في ذلك أن التحكم بالتقديم بعيدٌ. وإذا كنا نقرعُ عند التَّساويَ، فالاستمساكُ بمتعلَّقٍ أولى من تحكيم القُرعة.
ثم نص الشافعي يشير إلى تثبيت مقصود العقد، كما قدمناه وهذا النص، ينطبق على ما سنَذكرُه في الفصل الثاني، وهو الاكتفاءُ بيمين واحدة تشتمل على النفي والإثبات. هذا نصُّ الشافعي على ما سنذكرُه.
ثم من نفى وأثبت ونَكل صاحبُه، قضينا للحالف. فإن سبق إثباتُه في يمينهِ، تبيَّن نكولُ خصمِه عن يمين النفي.
وهذا يخالف قياسَ الخصومات، ولكنْ وَضعُ الشرعِ على الميل إلى إثبات العقدِ. ثم رأى الشافعي صدَرَ العقدِ من البائع، فبنى عليه البدايةَ.
هذا منتَهى النظر في ذلك.
والذي نجز، فهو أهون الفصلين الموعودين. ونحن الآن نتكلم في صفة اليمين واتحادها وتعَدُّدِها، وهو غمرة الباب، وفيه اختباطُ الأصحاب على ما سننبّه عليه، ونوضح الحقَّ، إن شاء الله عز وجل.
فصل في صفة اليمين
3265- فنقول: كل واحدٍ من المتعاقدين مُثبتاً نافٍ، وهو متصوّر بصُورة مدّعٍ ومدعىً عليه، فالبائع يقول: بعتُ العبد بألفٍ، وما بعتُه بخمس مائةٍ. والمشتري يقول: اشتريتُه بخمس مائة وما اشتريتُه بألفٍ. وكل واحد في جهة الإثبات مدّعٍ، وفي جهة النفي مدَّعىً عليه.
وإذا كان كذلك، فلتقع البدايةُ بالقولِ في عدد اليمين واتحادِها.
ظاهر نص الشافعي رحمه الله: الاقتصارُ على يمينٍ واحدةٍ تشتمل على النفي والإثبات، كما سنصفها في التفريع. وخرج الأئمة قولاً آخر أن اليمينَ تتعدَّدُ، وزعمُوا أنّهم أخذوا هذا من اختلاف الرجلين في دارٍ تحت أيديهما، كل واحدٍ يدعي أن جميعها له، فالمنصوصُ أنه يتعرَّض كل واحدٍ ليمينين في محالهما؛ إذ يد كل واحدٍ منهما ثابتة على نصف الدارِ، وهو فيه مدعىً عليه، فالقول قولهُ فيه مع يمينه، على نفي دعوى المدَّعي، ولو فُرض نكول من أحدِهما عن اليمين على ما هو مدعىً عليه فيه، رُدّت اليمينُ على صاحبه، فيأتي بيمين الردِّ على صيغة الإثبات، فيدور في الخصومة إمكان يمينين؛ فقال المخرجون: اختلاف المتبايعين بمثابة اختلاف المختلفين في الدار الكائنةِ تحت اليدَينِ؛ من جهة اشتمال الخصومتين في الموضعين على التعرض لمقام المدعي والمدعَى عليهِ.
وهذا مُخرجٌ والنص ما قدَّمناه من الاكتفاء بيمين. ومسألة الدار لا خلاف فيها، وليس هذا مما ينقل فيه الجوابُ من كل جانب إلى الجانب الآخر، حتى نفرضَ جَريان القولين في الجانبين نقلاً وتخريجاً. لكنْ مسألةُ الدار متفق عليها. وخرَّج المخرجون منها قولاً في اختلاف المتعاقدَيْن.
3266- توجيه القولين: من قال بالقول المخرَّج اعتمد قياس الخصومات، ولا يكاد يخفى أن منصبَ المدعي يخالف منصبَ المدَّعَى عليه مخالفةً بينةً، والجمعُ بين مقامين مختلفين بعيدٌ ناءٍ عن القياس.
والذي نحققه أن الجمع بين الإثبات والنفي يتضمن تحليفَ المدعي ابتداءً في جهةِ دعواه من غير تقدّم نكولٍ من الخصم عن اليمين فيما هو مدعىً عليه. وهذا بعيدٌ جداً. وبيانه أن البائع إذا قال: ما بعتُ العبدَ بألفٍ، ولقد بعتُه بألفين، فقوله: بعتُ بألفَينِ إثباتُ ما يَدَّعيه، ونحن اعترفنا بخروج البداية بالمدعي في أيمان القسامة عن قياس الخصومات، مع ظهور اللوث والتأكّد بالعدد، ومسيس الحاجة إلى رفع غوائل المغتالين في خلواتٍ وأحيانٍ يَبعُد الإشهاد فيها. ولا ضرورة إلى الاقتصار على يمين واحدة هاهنا. هذا وجهُ هذا القول.
وأمَّا وجه القول المنصوص عليه أن البيع بين المتعاقدين في النفي والإثبات في حكم الخَصْلةِ الواحدة.
هذا وضعُ الباب، وهو مضمون الأخبار، وهو اللائق بمصلحة هذا العقد، كما سبق تقريره في صدرِ الفصول؛ فإنَّ الاختلافَ بيْن المتبايعين عامُّ الوقوع، ولا حاجةَ لتخصيص جَانب عن جانبٍ، ولو فصلنا النفيَ عن الإثبات، وأقمنا خصومتين تنفصل إحداهما عن الأخرى، لما انتظمت حكمةُ الشريعة في التسوية بين المتعاقدين، ولما أفضى الأمرُ إلى الفسخ والانفساخ.
ولكنّا نقول: القول قولُ المشتري في نفي المزيد الذي يُدعى عليهِ في الثمن، والقول قول البائع في أنه لا يجب عليهِ تسليمُ المبيع لو كنا نؤاخذه بمطلق إقراره للمشتري بالمِلك في المبيع، ونراه مدَّعياً في الجهة التي نذكرُها؛ فإذاً وضعُ الباب على الاستواء، حتى كأنهما يتنازعان نفياً واحداً، وإثباتاً واحداً، ولكن لما اشتملت الخصومةُ على النفي والإثبات، اشتملَت اليمين الواحدةُ عليهما كما سنصفها، ولا يطلع الناظر على حقيقة التوجيه إلا بالتفريع عليهما.
التفريع على القولين:
3267- إن رأينا الاقتصارَ على يمين واحدةٍ، فاتفقت البدايةُ بالبائع مثلاً؛ فإنا نقول له: احلف بالله ما بعتُ العبد بألفٍ ولقد بعتُه بألفين. فإن حلف، عرضنا اليمينَ على المشتري، وقلنا له: احلف بالله ما اشتريت بالفين، ولقد اشتريت بألفٍ. فإن حلف كذلك، فقد تحالفَا.
ويقع الكلام وراء ذلك في الفسخ والانفساخ، كما سنصف القولَ فيه، إن شاء الله عز وجل- بعد نجاز صفة التحالف.
ولو حلف البائع وكنا بدأنا به، ونكل المشتري، قضَينا للبائع. وهذا خروج بيِّنٌ عن القياس الكُلِّي، وإن كان لائقاً بمصلحةِ الباب؛ فإنا قضينا له بالإثبات سابقاً على النكول من خصمه.
ولو عرضنا اليمين على البائع أولاً، فنكل، نعرضُ اليمينَ على المشتري، فإن حلف، قضينا له بالعقد على موجب قوله. وهذا منقاسٌ فإن القضاء جرى بعد تقدّم النكول.
ولو حلف البائع على النفي والإثبات، فحلف المشتري على النفي، ولم يتعرض للإثبات، فالذي ذكرهُ الأئمة أنه يُقضى عليه، ويمضي العقدُ على موجب قول البائع.
وهذا في نهاية الإشكال؛ فإنا كنا نُبعد القضاء بالإثبات قبل النكول، وهذا قضاء بالإثبات مع تقدير اليمين على النفي.
وسبيلُ الجواب عنه أن صيغة اليمين على هذا القول التعرض للنفي والإثبات، واليمين تُعرض كذلك، فإذا لم يأت المشتري باليمين المعروضة عليه لا نحلّفُه على النفي، وإنما يتحقق النكول عن يمينِ تُعرض، فيأباها المعروض عليه.
3268- ومما يتعلق ببيان التفريع على هذا القول أن الأئمةَ قالوا: حق من نحلّفه من المتعاقدَيْن أن يذكر صيغة الإقسام باللهِ ويبتدىء بعد ذكر المقسم به بالنفي، ثم يُعْقِب النفيَ بالإثبات؛ فيقول: باللهِ ما بعتُه بألفٍ، ولقد بعتُه بألفين. والغرضُ من ذلك تأصيل اليمين على النفي وإتباع الإثبات إياه؟ من جهة أن القائل قائلان، فيقع الإثبات تابعاً، والتبعية تقتضي تأخير ذكر التابع، وتقديمَ المتبوع.
والذي رأيتُ طُرقَ الأصحاب متفقةً عليهِ أن هذا الترتيب مستحقٌّ، وليس ترتيباً مستحبّاً. ولو فُرض قلب ذلك، لم يُعتدّ باليمين.
وحكى العراقيون عن الإصطخري أنه قال: ينبغي أن يُقدَّمَ الإثباتُ، ورأى ذلك فيما نُقلَ عنه حتماً. واعتمدَ أن الإثبات هو المقصود وفيهِ يقعُ التناقض المحقق.
وهذا متروك عليه؛ فإنه خالفَ الفقهَ الذي ذكرناه من استتباع النفي الإثباتَ. ثم غلا فرأى استحقاقَ تقديم الأثبات. ولو قال: لا يُستحقُّ ترتيبٌ في المقصودين إذا كنا نقضي بالنكول عند ترك أحدِهما، لكان هذا منسلكاً في الاحتمال بعضَ الانسلاك.
هذا كُلّه تفريع على الحكم باتحاد اليمين.
3269- فأما إذا فرَّعنا على القول الآخر، وهو أنا لا نجمع بين النفي والإثبات في يمينٍ واحدةٍ، فالتفريع على هذا القول مزِلّةٌ، وفيه الخبطُ الذي وعدناه، ونحن نأتي على ما يفصّل الأمر، إن شاء الله عز وجل.
فنقول أولاً: إذا بدأنا بتحليف أحدهما، فلا نجمع في حقّهِ بين يمينين في العرض الأول، ولكنا نعرض على المبدوء به يمينَ النفي، ثم ننظر إلى ما يُفضي إليه الحال، فنقول للبائع: احلف بالله ما بعت بالألف، فإن حلف، عدنا إلى المشتري. والسبب فيهِ أن المحذورَ في هذا القول التحليفُ على الإثبات، قبل تبيّن النكول من الخصم عن يمين النفي. فإذا حلفَ من بدأنا به أولاً على النفي، عرضنا اليمينَ على صاحبهِ.
وكانت اليمينُ المعروضةُ على النفي أيضاً. ثم ننظر فإن حلف المشتري على النفي أيضاً، فهذا مبتدأ اختباط الطرق.
ونحن نبدأ بما كان يذكرُه شيخنا في دروسهِ، ونستتمّها، ثم نذكر ما ذكره بعضُ الأصحاب، ثم نحكم بما يحضرنا في التصحيح والتزييف.
قالَ شيخي: إذا حلف الأولُ على النفي، وحلف الثاني على النفي أيضاً، فقد تحالفا؛ فإنَّ يمينيهما تناقضا في المقصود، وليس أحدُهما أولى بالتصديق، فنكتفي بما جرى، ونقضي بالانفساخ، أو يَنْشَأُ الفسخ.
وإن حلف الأول يمين النفي، فعرضنا اليمينَ على الثاني، فنكل، ردَدنا اليمين إلى الأول الحالف، فإن حلف على الإثبات، قضَيْنا له بمُوجَب يمينهِ، وقطعنا الخصومةَ على هذا المقتضى. وقد حلفَ هذا البادىء أولاً وآخراً يمينين، أولاهما على النفي، والثانيةُ على الإثبات.
وإن عرضنا اليمين على الأول، فنكل، نعرض اليمين على الثاني، ونكتفي بيمينٍ واحدةٍ تجمع النفي والإثباتَ، ونقضي له بموجَب يمينه.
فخرج مما ذكرناه أنهما لو حلفا على النفي، كان ذلك كافياً، ولا نعرِض بعده يمين الإثبات.
وإن حلف الأول ونكل الثاني، رددنا اليمين على الحالِف أولاً، فيحلف على الإثبات المجرد؛ فإنه قد حلف على النفي من قبل، ولا يجتمع يمينانِ في حق أحدهما إلا في هذه الصورة في طريقة شيخي؛ فإنهما لو حلفا على النفي ترادَّا، ولو نكل الثاني، حلف الأول، فيجتمع اليمينان. ولو نكل الأول، حلف الثاني يميناً واحدة على النفي والإثبات.
فهذا حاصِلُ الطريقةِ التي تلقيناها من شيخنا، ولم أجد لنكولهما عن اليمينين ذكراً. وإني سأذكره بعد نجاز الطرق، إن شاء الله تعالى.
3270- وذهبت طائفةٌ من أصحابنا إلى سلوك مسلكٍ آخر في التفريع على قول اليمينين، فنأتي به على وجههِ.
قالُوا: يحلف أحدُهما على النفي، ونعرض اليمينَ على الثاني، فإن حلف على النفي، لم يتم التحالف بهذا؛ فإنهما لم يتعرضا للإثبات بعدُ، وإنما يتمّ التحالفُ إذا تناقضا في يمينيهما في النفي والإثبات جميعاً، فيحلف بعدَ يميني النفي على الإثبات.
ونبدأ بمن بدأنا به أول مرة، فإن حلف على الإثبات، حلّفنا صاحبه، فإن حلف هو أيضاً على الإثبات، فقد تم التحالُف، وحان الحكم بانفساخه أو إنشاء الفسخ، وإن نكل الثاني عن يمين الإثبات، قضينا لمن بدأنا به بموجب يمين الإثبات، وقررنا العقد بينهما على ذلك الموجَب.
ومن تمام هذه الطريقة أن الأولَ إذا حلف على النفي، فلما عرضنا اليمينَ على الثاني نكل، فيحلف الأول على الإثبات، ونكتفي، ونقضي له بموجَب اليمينين.
ولو نكل الأول عن يمين النفي، عرضنا اليمين على الثاني، واكتفينا منه بيميني واحدةٍ، تجمع النفيَ والإثباتَ، ونزَّلنا العقدَ على موجَبها.
وإنما اكتفينا بيمين واحدة، لأن المستحلَف في ترتيب الخصومات في مقام يمين الرد، فوقع الاكتفاءُ بيمين واحدة.
ولا ينبغي أن يعتقد الناظر في هذا الفصل الاطلاع على كل ما انتهينا إليه؛ فإن تمام البيان في آخِره.
وهذه الطريقةُ تُباين طريقةَ شيخنا مباينةً ظاهرةً في قاعدة التفريع؛ فإن شيخنا كان يحكم بالتحالف إذا حلَفَا يميني النفي، وهؤلاء لم يحكموا بالتحالف بجريان يميني النفي، بل عرضوا يمينَ الإثبات على الجانبين، فلا تحالف عندهم، إلا بيمينين من كل جانبٍ: إحداهما- على النفي، والأخرى على الإثبات. ولكنهما لا يُجمَعانِ في دفعةٍ بشخصٍ، بل يعرَضانِ في دفعتين، فإذا تَمّ يمينا النفي، أعيد يميناً الإثبات.
هذا وإن كان فيه بعضُ البعدِ فلا يَبعُد احتماله على حالٍ.
3271- وأما إشكال هذا الفصل في شيء: وهو أن هؤلاء يقولون: إذا حلفا يميني النفي، وحلف الأول يمينَ الإثبات، ونكل الثاني عن يمين الإثبات، فقُضي للحالف على الإثبات بمُوجَب إثباته.
وهذا مشكل، فإنَّ الذي حلف على الإثبات يمينه معارِضة يمينَ الأول على النفي على المضادّة المحققة، فالقضاءُ بيمين الإثبات مع جَريان يمينٍ على نفي هذا الإثبات مشكل. ووضعُ الخصومة على أنا إنما نحكم باليمين المثبتة للمدعي إذا نكل خصمُه عن يمين النفي.
ومثلُ هذا التفريع لا يجري في طريقة شيخنا؛ فإنه يجعل التحالفَ على النفي تاماً في اقتضاء الفسخ، أو الانفساخ، فلا يتفرع بعد التحالف على النفي عرضُ يمينِ الإثبات.
فإن قيل: قد ذكرتم الطريقتين، فما الذي يصح على السَّبرِ منهما؟ قُلنا: الأصح طريقةُ شيخنا؛ فإنه لما فزَعَ على اليمينين، ردَّ الأمرَ إلى قياس الخصومات، واكتفى في إثبات التحالف بالتناقضِ والتحالفِ في النفي، فاستدَّ التفريع جارياً على القياس.
ولا يتطرق إلى طريقته إلا شيءٌ واحدٌ، وهو أنهُ قال: إذا نكل البادىء، حلف الثاني يميناً واحدة. وهذا حسنٌ منقاس؛ فإن الثاني واقفٌ في مقام من يحلف يمين الرد.
ولكني كنتُ أحب أن يقول: يقتصر هذا الثاني على الإثبات، ولا يتعرضُ للنفي جَرياً على قياس الخصومات؛ فإن من ادّعى شيئاً على إنسان، فأنكره، ثم انتهت الخصومةُ إلى ردَّ اليمين إلى المدّعي. فإنه لا يزيد على إثبات دعواه.
ولكن كان شيخُنا يقول: نجمع في يمين واحدة بين النفي والإثبات.
وأما أصحاب الطريقة الأخرى، فإنهم بنَوْا ما رتَّبوه على أن النفي والإثباتَ لابد منهما، ولا يتتم الأمر دونهما، وزعموا أنا وإن قلنا بتردد اليمين، فلسنا نعدد الخصومةَ، ولكن نقول: التَنازعُ في قضيّةٍ واحدة مشتملةٍ على النفي والإثبات، فاليمين متعددةٌ، والخصومة متّحدةٌ، وقالوا على حسب ذلك: إذا حلفا على النفي، ثم عرضنا يمين الإثبات على البادىء، فحلف، فعرضناها على الثاني، فنكل، فنكوله عن يمين الإثبات آخراً رجوعٌ منه عن اليمين على النفي أولاً؛ فإن الخصومة متَّحدة، فيقع القضاءُ للحالف على الإثبات، بعد بطلان يمين الثاني في النفي والإثبات.
ومساقُ كلامهم أن تعدد اليمين كاتحاد اليمين على القول الأول، فلو نكل أحدُهما عن الإثبات، وحلف على النفي، كان نكولُه عن معنى الإثبات نكولاً عن معنى النفي. كذلك القولُ في النفي والإثبات المدرجين في اليمينين.
وهذا الذي ذكرناه لهؤلاء تكلّفٌ؛ فإن اليمينين مشعرتان بمقصودين. فهؤلاء المفرعون على قول اليمينين طَمِعُوا أن يستصحبوا سرَّ قولِ اتّحادِ اليمين، فإن ذلك القولَ في اتحاد اليمين مأخوذ من اتحاد الخصومة. فإذا فرضنا غرضينِ ويمينين ونكولاً عن النفي، ويميناً ممحَّضَةً للإثبات، فلا يستدُّ عليه إلا طريقةُ شيخنا.
وقد نجز القولان وتفريعهما، واختلافُ الطرق في مأخذ الكلام.
3272- فإن قيل: ذكرتم التفصيل فيه إذا تحالفا، وبينتم حلف أحدهما ونكولَ الثاني، فبيّنوا الحكم فيه إذا ارتفعا إلى مجلس القاضِي وتداعَيا على التناقض، وآل الأمرُ إلى اليمين، فنكلا جميعاً. كيف السبيل فيه؟ قلنا: لم يتعرض أئمة المذهب في مصنَّفاتهم للتنصيص على هذا. والقول في ذلك بَيْن احتمالين: يجوز أن يقال: نكولهما عن اليمينين بمثابة تحالفهما؛ فإنا نجعل نكولَ كل واحد منهما عن اليمين التي ترتد إليه بمثابة حَلِف صاحبه، وينتظم منه تنزيلُ الأمر منزلة ما لو حلفا. وهذا يعتضد بمعنى فقهي يختص بما نحن فيه، وهو أن سبب إنشاء الفسخ أو الانفساخ تعذُّرُ إمضاءِ العقد في استواء المتداعيين على التناقض. وظُهورُ ذلك في مجلس الحكم، وهذا يتحقق بنكولهما كما يتحقق بتحالفهما. وكان لا يبعد أن يقال: إذا تحالفَا، وقفت الخصومةُ، وحُمِلا على الوقف إلى أن يتقارَّا، فإذْ لم نقل هذا، دَلَّ على أنّا لا نتركُ الخصومةَ ناشبة، ولا ندعهما على التخاصم.
وقد ذكر شيخي في طريقه صورةً تعضد ما ذكرناه، وهي أنه قال: لو حلف أحدُهما على النفي تفريعاً على قول تعدد اليمين، وعرضنا اليمين على الثاني، فنكل، فرددنا اليمينَ على البادىء ليحلف على الإثبات يمينَ الردّ، فنكل. قال: نجعل هذا بمثابةِ التحالف، فإن نكولَ البادىء عن اليمين بمثابة حَلِف صاحبه. وهذا أصل ممهَّد في الدعاوي عندنا، وهو أن نكول المردود عليه عن يمين الردّ بمثابة حَلِف الناكل أولاً.
فإذا كان ما ذكرنا في طريق شيخنا كالتحالف، فلا يبعد أن نجعل نكولهما كتحالفهما، ولا نعدَم أمثلةَ هذا على بُعدٍ. فالنكاح على قولٍ يرفعه الحكمان إذا أعضل فصلُ الخصومة. وإذا تداعى رجلان مولوداً يحتمل أن يكون من أحدهما أريناه القائف، ولو تناكراه، أريناه القائف كما لو تداعياه.
هذا وجه.
ويجوز أن يُقال: لا فسخ، ولا انفساخ إذا لم تجرِ يمينٌ فإن التعويل في الباب على ألفاظ الرسول عليه السلام، وجُملة ما نقله الرواة مقيَّدٌ بالتحالف، فإذا لم تجر يمين أصلاً، فكأنَّهما تركا الخصومةَ ولم يُنهياها نهايتَها والفسخ منوط بنهايةِ الخصومة. وقد رأيتُ ذلك في بعض تصانيف المتقدمين. والعلم عند الله.