فصل: باب: جزاء الطائر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: جزاء الطائر:

2830- أوجب طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في الحمامة في حق المحرم، والحمامةِ الحرميّة شاةً، روي ذلك عن عمرَ، وعثمانَ، وابنِ عباس، وابنِ عمرَ، وغيرِهم.
ثم الطيور تنقسم-بعد الحمام- إلى قسمين: قسم هو أصغر من الحمام، كالعصفور وغيرِه، فالواجب قيمتُه مصروفةً إلى الطعام. والقسم الثاني- ما هو مثلُ الحمام في الجثة، أو أكبرُ منه، ففيه قولان:
أحدهما: أن الواجب شاةٌ كالحمامة.
والثاني: أن الواجب القيمة، كما ذكرناه في العصافير، وغيرِها؛ فإنّ إيجاب الشاة لا يُحمل إلاّ على الاتباع الذي لا مجال للقياس فيه، ثم الحمام صغار وكبار، فكل ما عبّ وهَدَرَ، فهو حمام، منها: اليمام، والفواخت، والقُمريّ، والدُّبْسي والقطا، وغيرُها.
والجرادُ تعتبر قيمته، وهو ملحق بصغار ما يطير، وروي أن عمر سأل كعبَ بنَ عُجْرة عن جرادةٍ قتلها: ما جعلتَ في نفسك قال: درهم. فقال عمر: "بخٍ درهمٌ خيرٌ من مائة جرادة"، وروي عن عمرَ أنه قال: "في جرادة تمرةٌ". وقال ابن عباس: "تصدق بقبضةِ طعامٍ، إذا أخذتَ قبضةً من جرادات".
وقد روي خبر يدل على إسقاط الضمان في الجراد، قال أبو هريرة: "كلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبلنا سرب من الجراد، فكنا نضربه بالسوط، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو من صيد البحر " وهذا دليل على أنه لا يُضمن.
ولكن لم يصر إلى ظاهر هذا الحديث أحد من أصحابنا.
ولو طمّ الجرادُ المسالكَ، واضطررنا إلى وطئها، فما يتلَف منها هل يُضمن أم لا؟ فعلى وجهين وقد قدمنا ذكرَ هذا، ويمكن حملُ حديث أبي هريرةَ على الوجهين. والأشبه أنه صلى الله عليه وسلم كان يُجري في خلقة الجراد حديثاً، فأنبأهم أن أصل الجراد من صيد البحر، وقيل إنها من خرء السمك.
ولو صال صيد على محرم، فدفعه، وأتى دفعُه عليه، فلا ضمان عليه أصلاً.
فرع:
2831- المحرم إذا قصده لص على حمار وحش، ولم يتأت له دفعُ اللص إلا بقتل مركوبه، فهل يضمنه؟ ذكر القفال قولين:
أحدهما: أن الغرامة تتوجه على اللص، ولا يطالَب بها المحرم.
والثاني: أن الطَّلِبَة تتوجه على المحرم ثم إذا غرم يرجع بما غرم؛ فإن الحلال يبعد أن يغرَم صيداً ابتداء.
وكذلك ذكر قولين في أن من ركب دابةً مغصوبة، وقصد إنساناً فقُتلت الدابةُ في ضرورة الدفع، فأحد القولين أن الغرامة تتوجه على راكب الدابة، ولا طَلِبَة على الدافع.
والثاني: أن الطَّلِبَة تتوجه على الدافع أيضاً، ثم إذا غَرِم يرجع بما غَرِم، وبين ما ذكره في المحرم، وبين ما ذكره في الغاصب فرقٌ ظاهر في الحكم؛ فإن الحلال على أحد القولين لا يغرَم الصيدَ، ولكن يرجع المحرم عليه إذا غرم. وفي مسألة الغصب تتوجه الطَّلِبةُ على الغاصب قولاً واحداًً. وإنما الكلام في قرار الضمان كما سبق.
فرع:
2832- إذا نحّى المحرم من هوامّ رأسه شيئاً، فلا يلزمه شيء في ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من قال: يلزمه؛ ولا محمل له إلا إزالة الشعث.
ثم لا مقدار لما يخرجه. وكان شيخي يقول: أقل ما يسمى طعاماً، ولا يجب في إزالته من الثوب شيء، لما ذكرناه من معنى الشعث.
فصل:
2833- إذا كسر المحرمُ بيضةً مأكولة، فلا يلتزم قيمتَها، فإن كانت مَذِرة، فاسدة، فلا قيمة لها، ولا ضمان. ولو كسر بيضةً للنعامة مذِرة، فلا شيء، ولو قدرت قيمة، فهي لنقشر، وليس ذلك مضموناً، كما لا يضمن الرّيش المنفصل من الطائر.
وإن كان قد ظهر فرخٌ ذو روح، ضمنه بطريقه كما يُضمن الفرخ.
ولو نفّر المحرم طائراً عن بيضه الذي كان يحضُنه، ففسد البيض، ضمن البيضَ بما ذكرناه.

.باب: ما للمحرم قتله:

2834- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس من الفواسق يُقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب، والحدأة، والعقرب، والكلب العقور». ووردت الفأرة بدلاً من العقرب. أما القول فيما يُضمن، وفيما لا يُضمن، فقد مضى، وأوضحنا أن ما كان حراماً في جنسه، لم يضمن بالإحرام، ولا بالحرم، ومقصود هذا الباب بيان ما يجوز قتلُه، وما لا يجوز قتله.
فأما المؤذيات، فهي مقتولة أين صودفت، ومنها السباع، وقال أبو حنيفة لا يحل قتل الأسد والذئب والنَمِر ما لم يَصُل، وعنده يجب الجزاء بقتله على المحرم.
وأما ما لا يؤذي من الطيور المحرّمة، فمن أصحابنا من حرّم قتلها، فإن ذا الروح لا يقتل إلا لغرضٍ ظاهر أو دفع أذى. ومن أصحابنا من لم يزد على الكراهية في قتلها.
والحشرات المؤذية مقتولة، وما لا يؤذي منها، فلا تجريم، وأقصى ما يذكر فيها الكراهية. وكان شيخي يقول: لا كراهية في دفعها للتعذر، وإن أدى إلى هلاكها.
والأمر في ذلك قريب.
2835- وقد نجز في القول الصيد. وأغفلنا صورتين اختلفنا فيهما وأبو حنيفة:
أحدهما- إذا اشترك جماعة في قتل صيد، فلا تلزم إلا فدية واحدة مفضوضة عليهم خلافاً لأبي حنيفة. والغالب عندنا في جزاء الصيد مَشَابِه الغرامات والدليل عليه أنه يجب في بعض الصيد بعضُ الجزاء؛ اعتباراً بالقيمة والأبدال، بخلاف الكفارات، ولو قتل جماعة رجلاً، وجب على كل واحد منهم كفارة. فإن الكفارة لا تتبعض، ولا تتعلق بالأبعاض.
2835/م- المسألة الأخرى- عندنا لا يجب على القارن إذا قتل صيداً إلا دم واحد، خلافاً لأبي حنيفة. والخلاف جار بيننا في جميع المحظورات.

.باب: الإحصار:

2836- المحرم إذا صدّه العدوّ على ما سنصف الصدَّ، تحلل، قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [البقرة: 196].
ومضمون الباب تحويه فصول:
أولها- في السبب الذي يثبت التحللَ.
فإذا اعترض للحجيج الأعداء، وصدوهم عن الكعبة، من جميع الجهات، فهذا هو الصدّ المتفق عليه، ثم إذا كان المانعون مسلمين، واقتدر الحجيج على مكاوحتهم، فلا يلزمهم ذلك. وإذا كانوا لا يتخلصون إلا بقتالٍ، فهم مصدودون.
وإن كانوا لا يتخلصون إلا ببذل مالٍ، فهم محصورون مصدودون. قال الشافعي: لو احتاج الحجيج إلى بذل درهم، وهو صاحب آلاف، وكان لا ينجلي الحصر إلا ببذل شيء، فلا يجب بذلُه، ويجوز التحلل.
ولو كان الذين لقوا الحجيج مشركين، فقد قال بعض المصنفين: إذا كان المسلمون على الحد الذي لا يجوز الفرار معه، ولم يزد الكفار على الضعف، يجب مصادمة الكفار، ولا يجوز التحلل.
وهذا كلام مختلط، وقد نص الأئمة في الطرق، على جواز التحلل، سواء كان الأعداء مسلمين أو مشركين؛ فإن الحجيج لا يكونون على أُهَب القتال، في أغلب الأحوال، فلا يجب القتال لذلك، وقد لا يسوغ؛ إذا منعنا الاستقتال، كما سيأتي في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى.
فإن كان الحجيج متأهبين للقتال، وقد صدمهم الكفار، فلا فرار إذاً، إذا تجمعت الشرائط المعتبرة في تحريم الفرار. وإذا تعين الاشتغال بالقتال، فلا معنى للانصراف، ولا سبيل إلى التحلل إذا امتنع الانصراف.
هذا التفصيل لابد منه.
ولو أحاط الأعداء بالحجيج من الجوانب، فهل يجوز التحلل والحالة هذه، فعلى قولين:
أحدهما: لا يجوز، فإنهم لا يستفيدون بالتحلل أمراً، وإذا لم يكن من لُقيان العدوّ بدّ، فمصابرة الإحرام محتومة.
والقول الثاني- يجوز التحلل؛ فإنهم ممنوعون عن صوب الكعبة، والحصر متعلق بالمنع منها، فإن فرضت محنة في جهة أخرى، فلا التفات إليها.
2837- وأما المرض فليس من أسباب التحلل عند الشافعي. ولو أحرم المرء، وشرط أنه إذا مرض مرضاً ثقيلاً تحلل، ففي جواز التحلل عند المرض قولان: المنصوص عليه في الجديد أنه لا يجوز التحلل؛ فإن ما لا يفيد التحلل بنفسه، فيبعد أن يُفيد الشرط فيه تحللاً، مع اختصاص الحج عن العبادات بمزيد التأكد، والبعد عن التحلل.
ونص في القديم على أنه يجوز التحلل إذا جرى الشرط كذلك، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضُباعة الهاشمية، لما ذكرت ما بها من سقم، ورامت التخلف عام حجة الوداع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهلي واشترطي أن مَحِلّي حيث حبستني» ويتجه حمل الحديث على أمرها بالإهلال، وإعلامها أن مَحِلَّها حيث تتوفى، فكأنه قال لها: أهلي فإن حبسك أجلُك، فكل نفس تذوق الموت.
ثم إذا جوزنا التحللَ عند المرض بسبب الشرط، فلو جرى هذا الشرطُ في سببٍ آخر، مثل أن يقول: إن ضللت الطريق، أو بلغني أمر مهم، واقتضى الحال تداركَه بالانصراف، تحللت، فالذي كان يقطع به شيخي أن الشرط لاغٍ، ولا يجوز التحلل، والقول القديم مختص بالمرض؛ فإن المتبع فيه الخبر، والأقيسة لا تجول في هذه المضايق.
وقطع العراقيون أقوالهم: إن الشرط في كل مُهِمٍّ يحل مَحَلَّ المرض الثقيل، يخرّج على القولين المذكورين في المرض.
ولو قال الذي يُحرم: إذا مرضت، انحل إحرامي، فلم يشترط إنشاء التحلل، بل شرط الانحلال، والتفريع على القول القديم، فقد اختلف أئمتنا في ذلك، فمنهم من ألغى هذا الشرط؛ فإنه ليس على مضاهاة التحلل الثابت عند الإحصار.
والإحرامُ بالحج لا يقبل التأقيت.
فإذا كان الحج لا يفسد، فليفسد الشرط، وليسقط أثره.
ومن أصحابنا من قال: يثبت هذا الشرط كما شرط، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «واشترطي أن مَحِلِّي حيث حبستني» هذا مشعر في ظاهره بالانحلال، من غير إنشاء.
2838- ومما يتعلق بذكر الأسباب أن الحصر إذا كان عامَّاً، فهو الذي يُثبت التحلل، وليس المعنيُّ بالعموم أن يعم الأقطار، وجميعَ الآتين من جميع الجهات، ولكن إذا تحقق الحصر في طائفةٍ ذوي عددٍ، فهذا حصرٌ مثبت للتحلل وفاقاً.
والحصر الخاص هو أن يتعرض ظالمٌ لواحد، أو لشرذمةٍ من جميع الحجيج، فيمنعهم، فإذا تُصوّر الحصر الخاص، فالذي ذكره الأئمة من المراوزة أن القول مختلِف في ثبوت حكم التحلل.
وذكر العراقيون طريقة هي أمثل من ذلك، فقالوا: كل حصر يُثبت التحللَ، خاصّاً كان أو عاماً. ولكن إن كان عاماً، سقط القضاء، وإن كان التحلل بسبب خاص، ففي سقوط القضاء قولان.
فإن قيل: كيف يطّرد للمراوزة ذكر القولين في جواز التحلل، مع إجماع الأصحاب على أن العبد إذا أحرم بغير إذن مولاه، فمنعه المولى، فله التحلل. وهذا حصرٌ خاص؟ قلنا: الانفصال من هذا ممكن، وهو أن العبد اقترن بإحرامه ما يسلّط المولى على حَلّه، وهذا المعنى لا يتحقق في منعٍ يطرأ من ظالمٍ على المحرم؛ فإن ذلك مسبوق بتأكد الإحرام، وليس العام عام الصد، والآية نزلت في الصد على الحجيج. والأوجه طريقة العراقيين.
2839- ومما يتعلق بهذا أن من جوز التحلل عند المرض إذا تقدم الشرط، ذكر وجهين في أن الدم هل يلزم عند التحلل؟ أحد الوجهين- يلزم كما يلزم المصدود بالعدوّ.
والثاني: لا يلزم؛ فإنَّ تحلل المريض وفاءٌ بالشرط، فلا نوجب الدمَ، وتحلل المصدود بالعدوّ ليس مرتباً على حكم شرط، بل هو طارئ بعد لزوم الإحرام مطلقاً.
فإن قيل: لو شرط المحرم أن يتحلل عن صد العدو، فما القول فيه؟ فهل يؤثر الشرط؟ قلنا: اختلف الأصحاب، فمنهم من قال: يُؤثِّر؛ حتى يُخرَّجَ لزوم الدم على أحد الوجهين. ومنهم من قال: لا يؤثر؛ وهو الأصح، لأن ما ذكره بالشرط ثابت، فلا أثر للشرط. وإذا سقط أثره، لغا.
فإذا لاح أسباب التحلل.
فالفصل الثاني
بعده وهو استفتاح كلام وإتمام ما مضى.
2840- فنتكلم في سقوط القضاء عن المحصر، ونذكر صورَ الوفاق والخلاف.
فإذا أحرم الرجل، ولم يأت بنسك سوى الإحرام، فصُدّ على ما تُصوّر الصدّ، فإن تحلل، فلا قضاء. وإنما يظهر هذا إذا كان الحج تطوعاً، فإنه إن كان فرضاً، عاد إلى ما كان عليه قبل الشروع، ووضوح ذلك مغنٍ عن كشفه.
ولو صُدّ عن طريقٍ، وأمكنه سلوك طريقٍ آخر على الشرط المرعي في الاستطاعة، وكان لا ييئس من إدراك الحج، فليس له التحلل، والحالة هذه؛ فإنه غير مصدود عن الكعبة، وإنما صدّ عن طريق، فإذا مال إلى الطريق الآخر، ولم يأل جهداً، ففاته الحج، والحجّ تطوّع، فقد تقدم أن من فاته الحج، يلزمه أن يلقَى البيتَ؛ فإن ذلك ممكن.
ثم في وجوب القضاء قولان:
أحدهما: يجب القضاء لمكان الفوات.
والثاني: لا قضاء؛ فإنَّ سبب الفوات ما جرى من الصد عن الطريق القاصد. ولا شك أن هذه المسألةَ مفروضةٌ فيه إذا كان السبيلُ الذي مال إليه أطولَ وأشطَّ، أو أعسرَ وأشقَّ. وإذا كان الطريقان متساويين في كل معنى، فهذا فوات محض، ويجب القضاء فيه لا محالة.
ولو وقف الحاج بعرفة، فصدّ عن البيت، فله التحلل، ولا نقول له: صابر؛ فإن ما بعد الوقوف لا يفوت.
فإذا تحلل، ذكر صاحب التقريب قولين في وجوب القضاء، وإن لم يتحقق فواتٌ. وقطع العراقيون بأن القضاء لا يجب.
والذي راعاه صاحب التقريب في طرد القولين، وتمييز صور القطع، أن قال: إذا لم يجر قبل الحصر إلا الإحرام المحض، ثم تحلل المحصر، فلا قضاء، وإن جرى مع الإحرام نسك، ثم فرض الصدّ والتحلل، ففي القضاء قولان.
وقال العراقيون: المصدود عن البيت إذا تحلل بعذر الإحصار، لم يقضِ قولاً واحداًً. ومن قدر على لُقيان البيت، وصُدَّ عن عرفة، ولم يُتمّ-لأجل الصد- حجَّه، ففي القضاء قولان. والواقف بعرفة إذا صُدّ عن البيت ممنوع عن لقاء البيت، فإذا تحلل، لم يلزمه القضاء لكونه مصدوداً.
2841- ولا يحصل عندي شفاء الصدر بهذا. والوجه أن نقول:
الفوات في وضعه يوجب القضاء، والإحصار لا يوجب. فإذا تجرد الفوات، ولم يكن الإحصار سبباً فيه، وجب القضاء. وإذا كان التحلل بمحض الإحصار ولم يتقدّمه سبب يوجب القضاء، فلا قضاء.
وبيان ذلك أنه لو أفسد الحج، فأمرناه بالمضي في الفاسد، فلقيه العدو، وصدّه، فله التحلل، وعليه القضاء بالفساد المتقدم.
والمسائل كلها في حج التطوع، حتى يظهر القول في القضاء.
و في هذه المسألة يتصور وجوب القضاء، وإقامةُ القضاء في سنةٍ واحدة، فإن من أفسد الحج قبل الوقوف، فصد، فتحلل، وانجلى الحصر، فلو أحرم وقضى أمكن ذلك. ولولا تخلل الحصر، وما ترتب عليه، لما تُصور هذا.
ولو جرى فوات سببه الحصر، فقد اشترك الفوات والحصر، فيختلف القول.
2842- ومما يتم به الغرض أن المحصرَ لو لم يتحلل، وصابر، ودام الحصر، حتى فات الحج، فلأصحابنا طريقان في هذه المسألة:
منهم من قطع بأن الحج إذا فات بمصابرته، يلزمه القضاء قولاً واحداًً؛ فإنه كان يمكنه ألا يصابر، ولو تحلل، لما تصوّر الفوات، فكأنه قصد التسبب إلى الفوات، وليس كما لو سلك طريقاً بعيداً؛ فإن الصد عن جميع الطرق لم يتحقق في تلك الصورة، والصد في هذه الصورة عمّ الطرقَ، فكانت مصابرتُه سبباً في جلب الفوات.
ومن أصحابنا من قال: في المسألة قولان، فإنه يمكن حمل مصابرته على رجاء انجلاء الحصر، فعُذِر لذلك، والحصر قائم، وصاحب الفوات إنما يلتزم القضاء لانتسابه إلى طرف من التقصير، الذي ينسب إلى مثله كل مخطىء.
فهذا بيان ما أردناه.
2843- ومما يتصل بذلك أن من وقف بعرفة، ثم صُدّ بعده، فتحلل، ثم انجلى الحصر، ففي البناء وإمكانه ما قدمناه. فإن لم نره، فهذا من المسائل المقدّمة، فالعراقيون يقطعون بنفي القضاء. وصاحب التقريب يجعل المسألة على قولين لتأكد الإحرام بالنسك الأعظم.
وما ذكره العراقيون أمثل؛ فإن هذا تحلل بالحصر المحض. وإن رأينا البناء، فلْيَبْن، فلو لم يبن، ولم يعد مع إمكانه، ففي القضاء وجهان:
أحدهما: لا قضاء؛ فإن الحج كان تطوعاً، وقد تحلل.
والثاني: يلزمه القضاء؛ فإنه في التمكن من البناء إذا قصر منتسبٌ إلى ترك الممكن. وقد يتجه أن نقول: هل يجب البناء أم لا؟ أخذاً مما ذكرناه.
2844- ومما نصوره أن المحرم بالحج إذا فاته الحجة، ثم اعترض له من يصده، فله التحلل بعذر الصدّ، ويستفيد بذلك قطعَ الإحرام في الحال، حتى لا يحتاج إلى لقاء البيت، وقطعِ المسافةِ إليه. ثم القضاء لازم في هذه الحالة؛ من جهة أن الفوات الموجب للقضاء تقدم على الحصر، ولم يقع بسبب الحصر؛ فكان تقدّم الفوات بمثابة تقدم الفساد.
وقد ذكرنا أن من أفسد حجه بالجماع، وألزمناه المضي، فإذا أحصر تحلل، ثم القضاء واجب، كما مضى.
2845- ثم حكى صاحب التقريب عن ابن سريج أنه قال: إذا فاتت الحجةُ، ثم تحقق الإحصار والتحلل بسببه؛ فيلزمه دمان:
أحدهما: دم الفوات، والثاني: دم الإحصار. وهذا الذي ذكره منقاس؛ فإن سببي الدَّمَيْن قد تحققا، أما الفوات، فلا شك فيه، والتحلل بالإحصار وقع، وأفاد الخلاص من ربط الإحرام، وهما مختلفان، وأثرهما يجري على مقتضى التناقض؛ فإن من فاته الحج لا يتخلص من الإحرام ويقضي. ومن أُحصر يتخلص ولا يقضي.
وذكر صاحب التقريب خبطاً في كتابه مشعراً بأنه لم يقف على كلام ابن سريج، فلا معنى لذكره، وقد يحمل ما في الكلام من الخبط على خلل النسخة.
2846- واختلف أئمتنا في أن دم القِران هل يندرج تحت دم الإفساد؟ وسبب ذلك أن القارن لم يستفد من تخفيف القِران أمراً إذا أُفسد عليه، فكان ذلك محمولاً على هذا. على أن الأصح وجوبُ الدمين أيضاً، ولست أرى لمخالفة ابن سريج وجهاً فيما صورته.
فأمّا الفصل الثالث
فمضمونه الكلامُ في صفة دم الإحصار، والقولُ في بدله، وإبداءُ حقيقته ووضعه. وهذا الفصل يتعلق منتهاه ببيان ما تقدم، كما سَننبّه عليه.
2847- فأما دم الإحصار، فدم شاةٍ، قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي} [البقرة: 196]. هذه الصيغة منزلة على دم شاة؛ فإنها أقل مراتب الهدايا. ثم اختلف قول الشافعي في أن دمَ الإحصار هل له بدل أم لا؟ فقال في أحد القولين: له بدل اعتباراً بجميع دماء الجبرانات. وقال في القول الثاني: لا بدل له، فإن الدماء التي جرى لها ذكر في كتاب الله تعالى-وهي ذات أبدال- اشتمل الكتاب على ذكر أبدالها جملة، وتفصيلاً، وهي جزاء الصيد، وفدية الأذى، ودم التمتع. ولما ذكر الله تعالى دم الإحصار، لم يذكر له بدلاً، وسنبين في تفصيل الكلام مخالفةَ دمِ الإحصار لما عداه من الدماء.
التفريع على القولين:
2848- إن قلنا: لا بدل لدم الإحصار، فلا كلام. وإن قلنا: له بدل، ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن بدله كبدل دم الإساءة، فإنه في مقابلة ترك النسك، ودم الإحصار في مقابلة التحلل عن النسك قبل أوانه.
والقول الثاني- أن بدله كبدل دم الحِلاق، من حيث إن الحالق يكفّ الأذى، والمحصر بالتحلل يؤثر الخلاصَ مما هو فيه، إن علم أن الإحرام ليس يفيده المقصودَ مع جريان الصد.
والقول الثالث: أن بدله كبدل دم التمتع.
فهذا بيان القول في كيفية الدم وبدلِه.
2849- ثم نذكر وراء ذلك تحقيقاً مطلوباً، وفيه بيان أصلٍ مستقل، وهو منعطِفٌ على تمام البيان فيما تقدم، فنقول:
المحصر يتحلل، فإن كان يريق الدمَ، فمتى يريقه؟ وبماذا يحصل التحلل؟ للشافعي أولاً قولان: أحد القولين- أنه لا يتحلل قبل الإراقة. والقول الثاني- إنه يتحلل قبل الإراقة إن أراد ذلك.
والذي يجب التنبه له أن دم الإحصار إذا أجريناه على قياس الدماء، فهو دم جبران، وسببه التحلل عن الإحرام قبل أوانه، فإذا كان كذلك، تعذر ربط التحلل بإراقة الدم؛ فإن الإراقة موجَبُ التحلل، فليتصور تحلّلٌ موجِب لها اعتباراً بكل موجِب وموجَب في الكفارات، ثم لو وفَّيْنا هذا الأصلَ حقَّه، لجعلنا تقديمَ الإراقة على التحلل، بمثابة تقديم فدية الأذى على الحلق. وفي جواز ذلك وجهان، ذكرناهما فيما سبق.
فهذا على تشبيه دم الإحصار بدماء الجبرانات.
ولكن التحلل عن الإحرام من غير سببٍ مشكلٌ، وأسباب التحلل كلُّها ممتنعة في حق المحصر، فأُثبت الدمُ في إفادة التحلل حالاًّ محلَّ أسباب التحلل، في حق المستمر على نظم النسك من غير صدّ.
ولا ينبغي أن يُعتقد أن دم الإحصار بدلٌ عما صُدَّ المحصرُ عنه؛ فإنه مصدود عن الأركان في الحج، والأركان لا بدل لها. ولو كان الدم بدلاً، لوجب أن يقال: الشارع في حج الإسلام إذا صدّ، فتحلل، يسقط عنه فرض الإسلام؛ لأنا نحل الدم محل ما تعذر. وليس الأمر كذلك.
فالوجه على هذا القول أن نقول: الدم سبب تحلّل في حق المحصر المضطر، يفيد ما تفيده أسباب التحلل، فإذا وقع التنبه لما ذكرناه، ولأجله غمض القول في بدل الدم، فيجب وراء ذلك تنزيل القولين على ما ذكرناه. فمن ألحق دم الإحصار بدماء الجبرانات، قال بتقدم التحلل عليه، وإنما يجب لسبب التحلل، فعلى هذا التحلُّلُ السابقُ على إراقة الدم لا يحصل بفعلٍ من الأفعال.
2850- وقد يبتدر فهمُ بعض الناس إلى أن التحلل يقع بالحلق، وليس الأمر كذلك؛ فإن القول وإن اختلف في أن الحلق هل هو نسك أم لا في أوان التحلل في النسك الجاري على النظام، لم يختلف القول في أنه ليس نسكاً في حق المحصر. وإذا كان كذلك، فلا تحلل إلا بالقصد الجازم، شبّب بما ذكرناه أئمتنا، وصرح به العراقيون، فإذا تحلل بالنية أراق الدم.
ولكن مع هذا لم يختلفوا في أن تقديم الإراقة جائز، وخالفوا قياس دماء الجبرانات، حتى لم يذكروا خلافاً في إيجاب تأخير الإراقة على قياس دماء الجبرانات.
وبالجملة إذا أعضل شيء و خرج عن قياس الباب، لم يتمحض للمضطربين فيه قول. هذا بيان هذا القول.
2851- ومن لم يحصّل التحلّلَ دون الإراقة، في حق المتمكن منها، جعل إراقة الدم سببَ التحلل في هذا المقام؛ من حيث بَعُدَ عنده التحلل بمجرد القصد من غير فعل، فالدم يفيد من التحلل ما يفيده أسباب التحلل في التخلص من الإحرام في حق المستمر على نظم النسك.
ثم السَّبْر التام في هذا القول: أن نفسَ الإراقة لا تكون تحللاً بلا خلاف؛ فإن المحصرَ لو أراق الدمَ، ولم يقصد التحلّلَ، لم يتحلل، فالقصد بمجرده لا يحلّل، والإراقة بمجردها لا تحلّل، فهي إذن مخالفةٌ للتحلل الذي يقع على نظم النسك، في حق من ليس مصدوداً، من جهة أن تيك الأسباب إذا جرت، كان التحلل في حكم انتهاء العبادة نهايتَها، وبلوغها تمامَها. وهذا المعنى لا يتحقق في دم الإحصار؛ فإن التحلل هاهنا قاطعٌ لدوام الإحرام، على خلاف نظام التمام، فلابد من الجمع بين الإراقة والقصد.
هذا حقيقة القولين.
2852- ثم نقول وراء ذلك: إن لم يجد المحصر دماً، فكيف التحلل؟ وما الوجه؟ هذا يتفرع على أن دمَ الإحصار هل له بدل أم لا؟ فإن قلنا: لا بدل له، فرّعنا الأمر على أن التحلل في حق واجد الدم، يقع بماذا؟ فإن قلنا: يقع التحلل بالقصد المجرد، والإراقة بعد التحلل تقع، فليتحلل إذا لم يجد بالقصد، ثم لينتظر وجدان الدم.
وإن قلنا: لا يحصل التحلل دون الإراقة في حق واجد الدم، فهل يحصل التحلل بالقصد المجرد في حق الفاقد؟ فعلى قولين: أحدُ القولين- لا يحصل التحلل دون إراقة الدم، فليصابر المحرم إحرامَه إلى أن يجد دماً. والقول الثاني- أنه يتحلل بالقصد المجرد عند فقد الدم.
وإن فرعنا على أنه لابد من الإراقة عند التمكن منها؛ لأن مبنى تحلل الإحصار على التخفيف، وتكليفُه مصابرةَ الإحرام إلى وجدان الدم تكليف عسر، يناقض وضع الشرع في التحلل المرتب على الإحصار.
هذا إذا قلنا: لا بدل لدم الإحصار.
فأما إذا جعلنا له بدلاً، فما كان مالاً منه على بعض الأقوال، فترتيب المذهب فيه في الوجود والعدم، كترتيبه في الدم، غيرَ أن المرعي في الدم الإراقة، والمرعيُّ في الصدقات التسليم إلى المستحق.
فإن قدرنا بدل الدم صوماً، فإن قلنا: لا يتوقف التحلل على الإراقة مع إمكانها، فلأن لا يتوقف على الصوم مع امتداد الزمان فيه أولى. وإن قلنا: يتوقف التحلل على الإراقة عند الإمكان، فهل يتوقف على الصوم؟ فعلى قولين. والفاصل في نظم الترتيب أن الإراقة لا يطول زمانها في حق المتمكن منها، والصوم يطول زمانه، ويعسر استصحاب الإحرام معه.
فهذا تمام القول في الحصر وحكمه وما يتعلق به من فدية، وتنزيلُ الفدية منزلتها، وبيان سقوط القضاء عند تمحض الإحصار، وتفصيل القول في امتزاج الفوات بالإحصار. والآن نذكر بعد ذلك تفصيلَ القول في حصر السيد عبدَه المحرم، وحصرِ الزوج زوجتَه. وقد عقد الشافعي باباً فيه.