فصل: كتاب التدبير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب التدبير:

12451- التدبير في وضع الشريعة اسم لتعليق العتق بالموت. كقول الرجل لعبده: أنت حر بعد موتي، أو أنت حر دُبُرَ موتي.
وهذا اللفظ شائع في اللسان في إرادة ذلك، فما زالت العرب تعرف التدبير، وتنطق به وتعتاده.
والتدبير في الأمر هو النظر في عواقبه وأدباره وما يُفضي إليه منتهاه؛ وأصل التدبير متفق عليه.
والذي يجب تقعيده في صدر الكتاب بيان اللفظ، ثم بيان حكمه على الجملة، ثم بيان حقيقته إذا أضيف إلى عقود العَتاقة:
12452- فأما الكلام في اللفظ، فإذا قال لعبده: دبّرتك أو أنت مدبر، أو إذا مت فأنت حر، أو محرر، أو عتيق، على حسب اختلاف العبارات عن العتق، فهذه الألفاظ هي المستعملة.
ثم النص أنه إذا قال لعبده: دبرتك، فهذا صريحٌ مغنٍ عن النية ومزيد تقييد في اللفظ، وإذا قاله السيد، وأطلقه، كان مقتضاه وقوعَ العتق عند الموت. ولو قال لعبده" كاتبتك " وذكر النجوم، فالنص أن مجرد لفظ الكتابة ليس صريحاً في موضوع العقد، حتى يقولَ معه: فإذا أديت النجوم، فأنت حر، فإن لم يقله، فَلْيَنْوِه بالقلب.
قال العراقيون: اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج:
أحدهما: أن التدبير والكتابة كلاهما صريحان، وتوجيه ذلك في التدبير ظاهر، ووجهه في الكتابة أن لفظها اشتهر في الشرع اشتهار البيع والهبة وغيرهما من العقود.
والقول الثاني- أن التدبير والكتابة كنايتان في العقدين؛ لأنهما لا يستعملان إلا مع التقييد بالتعرض للحرية في منتهى الأمر، فلئن غلب اللفظ، فإنما غلب كذلك.
والطريقة الثانية: أن لفظ التدبير صريح مستغنٍ عن النية، ولفظ الكتابة كناية على ما اقتضاه النصان. وهذا هو الذي قطع به المراوزة، ولم يذكروا طريقة القولين، والفرق أن التدبير لم يزل مستعملاً على الإشاعة في الجاهلية، ثم ورد الشرع موافقاً لمقتضاه من غير تغيير في أصل المعنى، فتطابق فيه عرف اللسان والشرع.
أما الكتابة، فلم تكن مستعملة، ولم يشع في الشريعة شيوع الألفاظ المنقولة إلى عرف الشريعة، وكانوا قد يطلقونها في مخارجة المماليك وما يقدّرون عليهم من الوظائف، وإذا أرادوا صرفها إلى مقصود الكتابة، تعرضوا للحرية.
وما ذكرناه من تردد العراقيين في لفظ التدبير. فأما إذا قال:"إذا مت فأنت حر"، فهذا تصريح بالمقصود، لا شك فيه. وفي لفظ التدبير مسائل، ستأتي على ترتيب الكتاب إن شاء الله.
والذي ذكرناه في حكم التمهيد.
12453- فأما حكم التدبير، فالمدبَّر يعتِق عند موت المدبِّر إن وفَّى ثلثه، وإن ضاق الثلث عن احتماله، عَتَق منه مقدار الثلث من غير مزيد، ولو لم يخلف غير العبد عَتَقَ ثلثه، ورق للورثة ثلثاه.
وقد يخطر للفطن في هذا شيء. وهو أنه إذا لم يخلف غير العبد، وحكمنا بعتق ثلثه، والباقي للورثة ثلثاه بالجزئيّة، ولكن التبعيض يعيّب العبد، فلا يبلغ ثلثاه ثلثي ثمنه لو بيع كله، فكأنا لم نبق للورثة ثلثي التركة من طريق المالية، وإنما دخل عليهم هذا النقصان بسبب الوصية.
ولو قيل: يبقى للورثة من جزئية العبد ما يساوي ثمنه لو بيع كله، فإذ ذاك تتحقق التجزئة المقصودة في المالية. ولكن هذا غير معتبر باتفاق الأصحاب، بل باتفاق العلماء، ويجري مثلُ ما ذكرناه في الوصية بثلث العبد وثلث الدار، فكان ما ينتقص بالجزئية من رأس المال تعلقاً بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم»، ثم لو حططنا الوصية، لكان ذلك على القطع أقل من الثلث بالجزئية والمالية، فكان هذا محتملاً وفاقاً.
ثم إذا تبيّن احتسابُ عتق المدبر من الثلث، فلا شك أن الدَّين مقوم عليه؛ وِبالجملة عتقُ المدبر ينفذ نفوذ الوصايا قدراً ومحلاً، ثم مذهب الشافعي أن التدبير لا يمنع السيد عن شيء من التصرفات التي كانت مسوغة له قبل التدبير، فله البيع، والهبة، والرهن وغيرها من أنواع التصرفات.
وسر المذهب أن التدبير ليس عقدَ عَتاقة، حتى يفرض مقصوداً في نفسه مُوقِعاً حكماً ناجزاً إلى وقوع منتهى المقصود، بخلاف الكتابة؛ فإنها توقع حيلولة في الحال من جانب السيد، وآية ذلك أن الكتابة لو جرت في الصحة، لزمت واحتسب العتق المترتب عليها من رأس المال، فلو جرت في مرض الموت، كانت إذ ذاك تبرعاً محسوباً من الثلث.
وأما التدبير فسواء قُدّر صدوره من الصحيح أو المريض، فالعتق الواقع به عند الموت محسوب من الثلث، وهذا جارٍ في قياس مذهب الشافعي، لا يميل المذهب فيه عما ذكرنا، إلا أن الشافعي قال: لو أصدق الرجل امرأته عبداً، فدبّرته، ثم طلقها قبل المسيس، لم يرتد إليه النصف منه، بل يرجع إلى نصف القيمة.
وهذا لا يخرم القاعدة التي ذكرناها؛ فإنا ذكرنا أن التدبير لا يؤثر في منع التصرفات التي كانت تسوغ قبل التدبير، وارتداد نصف العبد ليس مأخوذاً من تصرف ينشئه مالكٌ، ولكن تشطر الصداق بدْع في جهات انتقاض الأملاك؛ من حيث إنه ليس فسخاً، والمرأة متسلطة على التصرف في جميع الصداق قبل الطلاق، فلا يقف شيء من تصرفاتها على تأكد النكاح بالمسيس، فلما تحقق الشافعي ذلك، لم ير أن يبطل على المرأة غرضها في عين الصداق وعَوّض الزوجَ عنها نصف القيمة، حتى قال: لو زادت عين الصداق زيادة متصلة، فللمرأة الاستمساك بالعين، وغرامة نصف القيمة، فقد أتى هذا من خاصيةٍ في الصداق، وهذا إلى خبط عظيم للأصحاب تقصيناه في موضعه.
هذا مقدار غرضنا في حكم التدبير ومقصوده.
12454- فأما القول في حقيقة التدبير إذا نُسب إلى سائر التصرفات، فقد قال الأئمة: للشافعي قولان- في أن التدبير وصية أو تعليق عتق بصفة؟ أحد القولين- أنه وصية، وإليه ميل المزني، ووجهه أن مقصوده يقع بعد الموت، قياساً على سائر الوصايا، ولو كان في حقائق التعليق، لانقطع بالموت، ولبعُد أن يتعلق بالموت؛ فإن الرجل إذا قال لعبده: إذا دخلت الدار، فأنت حر، فدخل الدار بعد موت المعلق، لم يعتق، وإن وفّى الثلث.
والقول الثاني- أنه تعليق. ووجهه أن حكم الألفاظ يؤخذ من صيغها في التقسيم الأولي، والمعنيّ بالتعليق ربط العتق بصفة ماضية أو مرتقبة، والتدبير بهذه المثابة، والوصية تنشأ إيقاعاً بعد الموت لو يفرض فيها قبول، والتدبير بخلاف ذلك.
ثم على القولين لا يمتنع من تصرفات المولى شيء، وإنما فائدة القولين أنا إن جعلنا التدبير وصية، فيصح الرجوع عنه من غير تصرف، قياساً على الرجوع عن الوصايا. ثم في تفصيل ما يكون رجوعاً عن الوصايا باب في كتابها.
وإن قلنا: التدبير تعليق، فلا يمتنع فيه تصرف أيضاً، والمدبر كالعبد المعلق عتقه بالصفة، ولكن لو أراد الرجوعَ عن التدبير من غير تصرف في عين المدبر، لم يصح ذلك منه، كما لو أراد معلِّق العتق بالصفة أن يرجع عن التعليق، ويرد الأمر إلى ما كان قبل التعليق، فلا يجد إلى ذلك سبيلاً، فهذا ما رأينا تقعيده وتمهيده في أصل الكتاب.
12455- ثم قسم الأئمة التدبير إلى المطلق والمقيد.
فالتدبير المطلق هو ما يقتضي حصولَ العتق بموت المدبِّر مطلقاً، من غير تخصيص. ثم للشرع حكمُه بالحصر في الثلث، فإذا قال: دبّرتك أو إذا مت فأنت حر، فهذا تدبير مطلق.
والمقيد ما يتضمن تخصيصاً، مثل أن يقول: إن مت من مرضي هذا، أو إن قتلت، أو إن مت بحتف أنفي، فأنت حر. فهذه تقييدات ضمها إلى الموت، ثم الحكم عندنا لا يختلف بالتقييد والإطلاق، وكذلك تردد القول في حقيقة التدبير، وأنه وصية أو تعليق لا يختلف بالإطلاق والتقييد.
وقد يجوز أن يقال: تدبير المرأة العبد المُصْدَق إن كان مطلقاً يؤثر في منع الارتداد إلى الزوج عند الطلاق، وإن قيّدته، فقد أخرجت التدبير عن مقتضى إطلاقه، ولم تأت به مقصوداً في نفسه على المعتاد فيه، فسبيلها كسبيل المعلِّق أو الموصي. وغالب الظن أني أشرت إلى ذلك في الصداق. والأمر فيه قريب.
12456- ثم قال الشافعي:"فإذا قال الرجل لعبده: أنت مدبر متى دخلت الدار... إلى آخره".
التدبير مقتضاه ما ذكرناه، فإن عُلق، تعلّق، ومقتضى تعليقه أن يقول: إن دخلت الدار، فأنت مدبر، وإنما ساغ هذا لأنه بين أن يكون وصية أو تعليقاً، فإن كان وصية فالوصية قابلة للتعليق، وإن كان تعليقاً، فالتعليق جارٍ في التعليق.
فإن السيد إذا قال لعبده: إن دخلت الدار، فأنت حر إذا كلمتَ زيداً، فهذا صحيح، وحاصله تعليق العتق بصفتين. ثم إذا علق التدبير بصفة في حياة المدبِّر، فوجدت الصفة، حصل التدبير، والتحق بالتدبير المطلق إن كان يختلف بهذا غرض.
فصل:
قال:"ولا يعتق في مالٍ غائب حتى يحضر... إلى آخره".
12457- صورة المسألة: إذا كان الثلث وافياً بقيمة المدبر، ولكن مات السيد، ولم يحضر من ماله غيرُ المدبر، وكان سائر ماله غائباً غيبة يُحتفل بها، فلا يُقْضى بتكميل العتق في المدبر؛ فإن هذا تنجيزُ الوصية، وإضافةُ حقوق الورثة إلى مالٍ قد يحول بينهم وبينه خطر، ووضع الشرع ألا تنفذ الوصية في مقدار حتى يَسْلَمَ للورثة ضعفه، ولكن هل يحكم بأنه يُعتق من المدبر ثلثُه وينتظر في تكميل العتق حضورُ المال الغائب؟
نص الشافعي على أنه لا يعتق من المدبر شيء في الحال، واختلف أصحابنا: فمنهم من قال بظاهر النص، ووجهه أنا لو حكمنا بتنفيذ العتق في جزء فيه، لأدّى هذا إلى تحيّفٍ على الورثة؛ فإنا إذا عجلنا العتق في ثلث المدبر، ولم نطلق يد الورثة في ثلثيه، كان ذلك تعجيلاً للوصية مع تأخير حق الورثة، ولا سبيل إلى ذلك، وليس كما لو لم يخلّف إلا العبد المدبر؛ فإنا نعتق الثلث، ونرق الثلثين، ونطلق فيهما حق الورثة.
ومن أصحابنا من قال: يعتِق الثلثُ في الحال؛ فإنه لا توقف فيه، ويستحيل تأخير الوصية فيما يستيقن نفوذها فيه، وأيضاً غيبة المال ينبغي أن لا تزيد على عدم المال، ولو لم يخلف إلا المدبر، لنفذنا العتق في الثلث.
فانتظم في المسألة إذاً قول منصوص، وآخر مخرج.
12458- ثم بنى الأصحاب على ذلك مسألة، وهي أن رجلاً لو مات عن ابنين، ولم يخلّف شيئاً من الأعيان، إلا أن له ألفَ درهم على أحد الابنين، فالذي يقتضيه قياس القسمة أن يبرأ من عليه الدين من الابنين عن نصف الدين.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك على وجهين مبنيين على القولين اللذين ذكرناهما الآن:
أحدهما: أنه لا يبرأ عن شيء مما عليه؛ فإنا لو حكمنا ببراءته عن جزء، لكان مختصاً بحقه قبل أن يتوفر على شريكه مثلُ ما برِىء عنه، وإيجاب التسوية بينهما ينافي ما ذكرناه.
ومنهم من قال: يبرأ عن حصته؛ فإنه يملك مقداراً منه، ويستحيل أن يملك على نفسه ديناً، وإن قيل: إنه لا يملك، فيجب أن لا يملك شريكه عليه شيئاً، وهذا يؤدي إلى تعلق التركة من غير إجراء ملك فيها، ومذهب الشافعي لا يحتمل هذا الفن.
12459- ثم حكى الصيدلاني عن صاحب التقريب تفريعاً، ونحن نسوقه على وجهه، ثم نبحث عنه. قال صاحب التقريب حكاية عن ابن سريج: إذا مات المولى، وخلف المدبَّر ومالاً، يخرج المدبر معه عن ثلث التركة، ولكن لم يحضر إلا المدبر-كما صورناه- قال ابن سريج: لو أعتق الورثة هذا العبد واستكمل العتق فيه، ثم حضر المال-والتفريع على النص في أنه لا يعتق من المدبر الحاضر شيء- فإذا أعتقه الورثة، قال: ينفذ العتق عن الورثة، وينصرف الولاء فيه إليهم، فلو حضر المال، لم يتغير ما حكمنا به من قبل؛ فإنا نفذنا العتق عن الورثة، فلا نصرفه عنهم، فإذا كان كذلك، فالولاء لهم.
ثم قال الصيدلاني: يُخَرَّج في المسألة وجهٌ آخر: أن الولاء للميت تخريجاً على أن الوارث إذا أجاز الوصية، فإجازته تنفيذ للوصية وليس بابتداء عطية؛ فيكون الولاء للميت.
هذا مساق ما حكاه، ولم يردّ عليه، وهو في نهاية الإشكال؛ بل ما أرى له وجهاً في الصحة؛ فإن التدبير لا سبيل إلى ردّه بسبب غيبة المال، وإعتاق الورثة عن أنفسهم ردٌّ للتدبير، ويتضح هذا بصرف الولاء إلى الورثة، ثم عتق التدبير لو نفذ، فلا حاجة لإنشائه، فلا وجه إذاً إلا التوقف إلى عَوْد المال؛ فإن تحقق عودُه، فالوجه أن نقول: نتبيّن نفوذَ العتق عند الموت؛ إذ لا سبيل إلى تنفيذه بعد الموت، وإن تلف المال، نتبيّن نفوذَ العتق في ثلثه عن جهة التدبير، فإذا كان أنشأ الورثة إعتاقاً، فنتبين أيضاً-عند تلف المال- نفوذ إعتاقهم عن أنفسهم في الثلثين.
وإنما التباس المسألة في شيء، وهو أن المال الغائب إذا حضر، فالتعذر الذي كان أمس لا نتبين زوالَه، والقدرة على المال في الحال لا تعطف قدرة على ما مضى، فلو قلنا: يتبين وقوع العتق حالة الموت، لكنا نفذنا العتق مع تحقق التعذر في الثلثين، فإن احتملنا هذا، فالجواب ما قدمناه، وإن ترددنا فيه، فموجبه حصول العتق يوم القدرة.
ثم وإن قلنا بذلك، فتصرّف الورثة قبل هذا يجب أن يكون مردوداً؛ فإن العتق وإن لم ينفذ، فهو موقوف، وما استحق عن جهة الوصية لا ينفذ فيه تصرف الورثة، وإن لم تتم الوصية بعدُ، والدليل عليه أن من أوصى بوصية يفي الثلث بها لإنسان، وقلنا ملك الموصَى له يتوقف على قبوله، فلو تصرف الوارث في الموصى به قبل القبول، لم ينفذ تصرفهم وإن كان قبول الموصى له متردداً، وكان ردّه ممكناً.
ومما يتصل بذلك أن المدبِّر إذا مات وخلف العبد المدبر وتركةً يفي ثلثها بقيمة العبد لولا دين مستغرِق، فلا يحكم بنفوذ العتق ما لم يبرأ من الدين، فلو مرت أيام من موت المولى، فأبرأ مستحق الدين، فنتبين عتق المدبر عند الموت استناداً، أم نحكم بأنه يتنجز من وقت سقوط الدين؟ هذا فيه التردد الذي ذكرناه، والأظهر في هذه الصورة أن لا يستند العتق، بل يتنجز من وقت سقوط الدين.
فصل:
قال:"ولو قال: إن شئتَ، فأنت حرّ متى ما متّ... إلى آخره".
12460- إذا قال لعبده: أنت حر إن شئت، فالمذهب الذي عليه التعويل-وهو مقتضى النصوص- أن هذا يستدعي مشيئةً عاجلة، وكذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت.
وذكر صاحب التقريب والشيخُ أبو علي أن هذا تعليق مجرد، لا يقتضي وجودَ الصفة في الحال، وهو كقوله: أنتَ حر إن دخلتَ الدار، أو أنتِ طالق إن كلمت فلاناًً، وإنما يقتضي الخطاب تعجيلَ الجواب فيما يتعلق بالمعاوضات.
وهذا الوجه غريب، وإن كان منقاساً؛ إذْ أقصى ما قيل في تعليل تعجيل المشيئة: إن ذلك يقتضي تمليكَها أمرها، أو تمليكَ العبد أمره، فيلتحق هذا بتمليك الإنسان الشيء في معاوضة أو تبرع. وهذا ضعيف، ثم لو قال الرجل لامرأته: ملكتك نفسك، أو طلقي نفسك، ففي اقتضاء ذلك تعجيلَ الجواب قولان ذكرناهما.
وإذا قال لعبده: أنت مدبر إن شئت، أو دبرتك إن شئت، فلابد من المشيئة، ثم القول في التعجيل والتأخير على ما ذكرناه.
ولو قال: أنت مدبر متى شئت، فهذا لا يشترط فيه تعجيل الجواب، ولكن لو مات المولى، فشاء بعد موته، فالذي أراه أن الموت يقطع هذا التعليق، وهو كما لو قال لعبده: إن دخلتَ الدار، فأنت حر، فمات السيد، ثم دخل الدار، لم يَعتِق، كذلك التدبير أمر يتممه المولى في حياته تنجيزاً، وقد يعلّقه، فتتحقق الصفة في حياته.
ولو قال: إذا مت، فأنت حر إن شئت، فهذا اللفظ فيه تردد، يحتمل أن يقال: معناه إن شئت بعد موتي، ويحتمل أن يقال: يطلب مشيئته في الحال، كما لو قال: دبرتك إن شئت، أو أنت مدبر إن شئت، فإذا تردد اللفظ بين هذين المعنيين، رجعنا إلى نيته، فإن قال: أردت تعليق التدبير بمشيئته في الحياة، فالرجوع إلى قوله، ثم يشترط تعجيل المشيئة، أم يجوز تأخيرها؟ فيه الكلام الذي قدمناه.
وإن قال: أردت تأخير المشيئة إلى ما بعد الموت، فقوله مقبول، ثم لا أثر للمشيئة في حياة المولى.
وإن قال: أطلقت اللفظ، ولم أرد به شيئاً، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يحكم بالعتق أصلاً، حتى يشاء في حياته، ويشاء بعد الموت؛ فإن اللفظ متردد بين المعنيين جميعاً، فما لم يتحققا، لم تحصل الثقة بالعتق.
ومن أصحابنا من قال: مطلق ذلك محمول على المشيئة بعد الموت، وهو الذي صححه العراقيون؛ فإنه لما قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، فقد ذكر المشيئة بعد وقت الحرية، فلتقع بعد الموت.
ومن أصحابنا من قال: يحمل اللفظ المطلق على المشيئة في الحال، وهذا متجه، لا بعد فيه؛ فإن قول القائل أنت حر بعد موتي عبارة عن قوله دبرتك، ولو قال: دبرتك إن شئت، فالمشيئة مطلوبة في حالة الحياة.
12461- وقد نشأ من هذا المنتهى إشكال في شيء، وهو أن الرجل لو قال لعبده: إن رأيت عيناً، فأنت حر، والعين لفظ مشترك بين مسميات: منها العين الباصرة، وعين الماء، وعين الركبة، والدينار، وأحد الأخوين من أب وأم، فلو رأى العبد شيئاً مسمىً بالعين، فهل يعتق إذا لم يعين المعلِّق مسمىً بقلبه؟ والتفريع في مسألتنا على أن العبد لا يعتق ما لم يشأ في الحياة، وبعد الموت هذا فيه تردد.
والوجه: الحكم بأن الحرية تحصل في مسألة العين وما في معناها إذا رأى مسمىً واحداً ينطلق عليه اسم العين، وهذا يُضعف-فيما نرى- الوجه الأول في المشيئة.
ومن تمام الكلام في المسألة أنه إذا قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، وزعم أنه أراد المشيئة بعد الموت، فلا خلاف بين الأصحاب أنا لا نشترط وصل المشيئة بالموت، ولكن لو انفصلت، جاز؛ فإنها إذا استأخرت عن الخطاب، ووجب وقوعها بعد الموت، فلا معنى لاشتراط اتصالها بالموت، وليست جواباً، والدليل عليه أن قبول الوصية في معنى قبول الهبة والبيع، ثم لما وقع بعد الموت، لم يشترط اتصاله بالموت.
ولو قال: إذا متُّ، فشئتَ، فأنت حر، فهذه الصيغة تقتضي وقوع المشيئة بعد الموت؛ فإنه ذكر الموت وعقّبه بالمشيئة، واختلف أصحابنا في أنا هل نشترط- والصيغة هذه- أن تتصل المشيئة بالموت: فمنهم من قال: لا يشترط ذلك، كما لو قال: أنت حر بعد موتي إن شئت، وزعم أنه أراد إيقاع المشيئة بعد الموت.
والوجه الثاني- أنه لابد من اتصال المشيئة بالموت إذا قال: إذا مت فشئتَ؛ لأن العطف إذا وقع بالفاء، اقتضى ذلك تعقيباً، ومن ضرورة التعقيب الاتصال. وقد ذكر الوجهين القاضي.
والذي أراه أنهما يجريان فيه إذا قال: إن دخلتِ الدار، فكلمتِ زيداً، فأنت طالق، فلو كلمته على الاتصال، طلقت، ولو انفصل التكليم عن دخول الدار انفصالاً معتداً به، ففي وقوع الطلاق وجهان.
فصل:
قال:"ولو قال شريكان في عبد: متى متنا، فأنت حر... إلى آخره".
12462- إذا كان بين رجلين عبد مشترك، فقالا له: إذا متنا، فأنت حر. فإذا مات أحدهما، لم يعتِق أصلاً؛ فإن كل واحد منهما علق عتق نصيبه بموته وموت شريكه، فلا يحصل العتق بموت أحدهما، وكل عتق أو طلاق علّق بوصفين، لم يقع بأحدهما، كما لو قال لعبده: إذا دخلتَ الدار، وكلمتَ زيداً، فأنت حر. فلا تحصل الحرية ما لم يوجد الشرطان: الدخول والكلام؛ فإذا مات أحد الشريكين، فللذي لم يمت بيع نصيبه؛ فإن ملكه باقٍ كما كان، وغايته أن يكون مدبراً، أو معلق العتق، والتصرف نافذ في كل واحد منهما.
وأما الذي مات، فلا يجوز لورثته بيع نصيبه، وإن لم يعتِق بعدُ؛ لأن الوصية انعقدت في نصيبه بموته، غير أن نفوذها معلَّق بمعنىً يحدث من بعدُ، وكل وصية تثبت بالموت، ونفوذها موقوف على معنىً منتظر، فالوارث لا يملك قطعها، وإن لم يوجد ذلك المعنى المنتظر.
وهذا كما إذا أوصى لواحدٍ بمال-والثلث وافٍ به- ومات الموصي، فنفوذ الوصية موقوف على قبول الموصى له، ثم الوارث لا يملك إبطال الوصية قبل القبول، وعلى هذا الأصل إذا قال لعبده: إذا متُّ، ودخلتَ الدار، فأنت حر، فإذا مات، لم يملك الورثة بيعه على هذا القياس الذي مهدناه، والتحقيق فيه أنه يصير بالموت مستحق العتاقة لو دخل الدار.
ولو قال المالك لعبده: إن دخلتَ الدار، فأنت حر، لم يمتنع عليه التصرف بسبب التعليق، وإن كان التعليق لا يتأتى رفعه مع دوام الملك، ولكن معنى التعليق: أن المالك يقول: أنا على سلطاني ما لم يدخل، فإذا وقع التعليق بعد الموت، فليس للوارث أن يقطع عليه ما بناه، وهذا يقرب من العارية والوصية بالمنفعة، فمن أعارَ مَلك الرجوع في العارية.
وإذا قال: أعيروا من فلان بعد موتي داري شهراً، لزم تنفيذ أمره، ولا يملك الوارث الرجوع، وإلا فالوصية بالمنفعة على صورة العارية. هذا منتهى ما جرى به الفكر.
وليس يخلو تعليق عتق العبد بالدخول بعد الموت عن احتمالٍ من طريق المعنى، وقد رمز إليه القاضي، فإن كان لهذا ثبات، فيلزم طرده في مسألة الشريكين، بل هو أولى؛ من جهة أنه ينتظر في عتقه موت الشريك الآخر، وليس ارتقابه مما يستغرب، وليس من الحزم إفساد قاعدة المذهب بمثل هذا، فالأصل ما ذكرناه.
ومما يتصل بذلك أن الشريكين إذا قالا: إذا متنا، فأنت حر، فليس واحد منهما مدبراً في الحال، بل كل واحد معلِّق. فإذا مات أحدهما، فقد صار الشريك الثاني بحيث يعتِق نصيبُه بموته؛ فيثبت لنصيبه الآن حكم التدبير، كما تقدم مقتضى التدبير وموجب التعليق.
فصل:
قال:"ولو قال سيد المدبر: قد رجعت... إلى آخره".
12463- مضمون هذا الفصل قد سبق في تمهيد أصول الكتاب عند ذكرنا حقيقة التدبير، والقول الوجيز فيه أنا إن جعلنا التدبير وصيةً، فالرجوع عنه ممكن، وكل ما يكون رجوعاً عن الوصية، فهو رجوع عن التدبير إلا في واحدٍ نرمز إليه الآن ونستقصيه في باب بعد هذا، إن شاء الله.
وذلك أن من أوصى لإنسان بجاريةٍ، ثم استولدها، أو وطئها، ولم يعزل، فنجعله راجعاً، وهذا الفن لا يكون رجوعاً عن التدبير؛ لما سنوضحه من بعدُ.
وإن قلنا: التدبير تعليق، فالرجوع عنه غير ممكن مع استمرار الملك، فإن باع المولى، جاز له ذلك، فلو عاد إليه، ففي عَوْد التدبير من الكلام ما في عَوْد الحنث في اليمين المعقودة على الطلاق أو العتَاق. فإذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم أبانها، ثم نكحها، ففي وقوع الطلاق قولان، لو دخلَتْ الدار في النكاح الثاني، وكذلك لو علّق عتق عبده، ثم باعه، وعاد إلى ملكه، ففي عود الحنث القولان المشهوران. وإذا عاد المدبَّر إلى ملك المولى بعد الزوال، فهو بمثابة ما لو باع العبد المعلَّق عتقُه، ثم عاد.
فصل:
قال:"وجناية المدبر كجناية العبد... إلى آخره".
12464- إذا جنى المدبّر تعلَّقَ الأرش برقبته، والسيد بالخيار بين فدائه وتسليمه للبيع، ولا اختصاص للمدبر بمزية في هذا الحكم، مع الحكم بأن المولى يبيعه من غير جناية.
والذي يتعلق بهذا الفصل أنه إن بيع، ثم عاد، ففيه التفصيل الذي ذكرناه في عَوْد التدبير على قول التعليق، وقد ذكرناهما.
ولو جنى المدبر، ولم يتفق فداؤه ولا بيعه في الجناية حتى مات السيد، وكان التركة يفي ثلثها بالفداء، وقيمة الرقبة بعد الفداء؛ فقد ذكر العراقيون طريقةً وذكر صاحب التقريب أخرى. فنسوقهما ثم نذكر ما فيهما.
قال العراقيون: هذا يخرّج على القولين في أن العبد إذا جنى، وتعلق الأرش برقبته، فأعتقه سيده، فهل ينفذ فيه عتقه؟ وفيه قولان. قالوا: فإذا مات السيد، والمدبرُ جانٍ، فيخرّج على هذين القولين. فإن قلنا: ينفذ إنشاء العتق في الجاني، فإذا مات السيد والمدبر جانٍ، فيعتق المدبر، ويجب فداؤه. وإن قلنا: لا ينفذ إعتاق الجاني، فإذا مات السيد، لم يعتِق المدبر، والورثة بالخيار عند اتساع التركة، فإن فَدَوه، عَتَقَ، وإن سلّموه للبيع، كان لهم ذلك، وإن أدى إلى إبطال العتق واتسع الثلث. هذا طريق العراقيين.
فأما صاحب التقريب، فإنه قطع جوابه بأنه يجب على الورثة تحصيل العتق فيه إذا وفى الثلث بالفداء، بقيمة الرقبة، من غير فصلٍ وبناءٍ على إعتاق الجاني.
والذي ذكره العراقيون أمثل وأحسن.
ومما ذكره الأئمة أن المدبرة لو جنت، وأراد السيد بيعها في الجناية، وكان لها ولد صغير-قد حكمنا بتعدي التدبير إليه على قولٍ، كما سيأتي من بعدُ إن شاء الله- فإذا منعنا التفريق بين الأم والولد في البيع، فلو بعنا الولد، كان ذلك تسبباً إلى إبطال التدبير فيه؛ والجناية إنما وجدت من أمه، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنا نبيع الولد مع الأم ولا نفرق.
والثاني: أن نبيع الأم دون الولد؛ استبقاءً للتدبير في الولد، ويجوز التفريق بين الوالدة وولدها في هذه الصورة للضرورة.
وعلى نحو هذا اختلف أئمتنا في أن من رهن جارية دون ولدها الصغير، ومست الحاجة إلى بيع الجارية في الدَّين، فيجب في وجبما بيع الولد معها، ويجوز في وجه بيعها دون الولد، ولا يحرم التفريق في هذه الصورة للضرورة الداعية إليه، وقد ذكرنا هذا في كتاب الرهون.
فصل:
قال:"ولو أن سيده ارتد... إلى آخره".
12465- إذا دبر عبداً، ثم ارتد المولى، فاختلاف الأقوال في زوال ملكه معروف، وقد أوضحناها في كتاب المرتدّ توجيهاً وتفريعاً.
ونحن نقول هاهنا: إن قلنا: لا يزول ملك المرتد بالردة، فالتدبير يبقى. وإن قلنا: يزول ملكه، فلو عاد إلى الإسلام، فيعود ملكه، وهل يعود التدبير؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فقال بعضهم: هذا بمثابة ما لو باع المدبَّر، ثم عاد إلى ملكه، وقد مضى التفصيل فيه. ومن أصحابنا من قال: يعود التدبير عَوْدَ الملك، فإن الملك عاد لأن الزوال لم يكن زوالَ انبتات؛ إذ لو كان زوال انبتات، لما عاد بالإسلام.
وهذا بمثابة العصير يشتد، والغرض من صب العصير الخل، فإذا استحالت الخمر خلاًّ، فالملك قائم كما كان، ولو رهن عصيراً، فاستحال خمراً، ثم استحالت الخمر خلاًّ، فالخل مرهون، ونجعل كان تخلّل الشدة لم يكن، وهذا قد قررناه في كتاب الرهون.
وكذلكَ لو رهن شاة، فماتت، فيخرج إهابُها عن الاتصاف بكونه مرهوناً؛ فإن إهاب الميتة نجس العين، فإذا دبغ الجلد، فالرهن قائم، وإن لم يجدد بعد الدباغ، وقد ذكرنا محل الخلاف والوفاق في ذلك في كتاب الرهن.
وقال قائلون: لئن زال ملك المرتد، فإذا عاد، فنجعل كأنه لم يزل، والتدبير مطرد، كما ذكرناه في العصير والجلد في حكم الرهن.
ومما يتصل بذلك أنا إذا قلنا: التدبير لا يزول، والملك لا يزول، فلو قتل على الردة، أو مات عليها فماله فيء، فإن وفى الثلث، نفذ عتق المدبر.
فإن قيل: إنما يفرض الثلث حيث يفرض الورثة، والمرتد ليس موروثاً؟ قلنا: نعم. ولكن ماله مصروف إلى جهة مستحِقه، فلا فرق بين أن يكون إرثاً وبين أن لا يكون إرثاً، والتدبير قد أنشأه في إسلامه، وثبت استحقاق العتاقة في ثلثه، فلئن شقي بالردة ومات عليها، فذلك الاستحقاق لا يزول.
ولو أنشأ المرتد التدبير في حالة الردة، فإن قلنا: لا ملك له، فتدبيره مردود، وإن قلنا: ملكه غير زائل، وقد يفرض عليه ضرب حجر من جهة القاضي، كما ذكرناه في كتاب أهل الردة، فإن دبر قبل الحجر، نفذ تدبيره، وإن دبر بعد الحجر، فهو كالمفلس يدبِّر أو يُعتِق، وقد ذكرنا تصرفاتِه في كتاب التفليس.
فصل.
قال الشافعي:"ولو قال لعبده: متى قدم فلان، فأنت حر... إلى آخره".
12466- مضمون الفصل أن السيد إذا علق عتق عبده في حالة الصحة، ثم وجدت الصفة في حالة المرض، فالعتق محسوب من الثلث، أم هو نافذ من رأس المال؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن الاعتبار بحالة التعليق، وقد كان صحيحاً فيها، فالعتق من رأس المال، كما لو نجَّز العتقَ في الصحة.
والثاني: أن الاعتبار بحالة وقوع العتق؛ فإن زوال الملك يحصل يومئذ.
وعلى هذا النحو اختلف الأصحاب في أن من علق طلاق امرأته في حالة الصحة، ووجدت الصفة في مرض موت المعلَّق، فهل نجعله فارّاً؛ فيه الوجهان المذكوران.
وعن هذا الأصل اختلف الأصحاب في أن شاهدين لو شهدا على تعليق العَتاق بصفة، وشهد آخران على وجود الصفة، وجرى القضاء بنفوذ العتق، ثم رجع الشهود بعد القضاء، فمن أصحابنا من قال: يجب الغرم عليهم بأجمعهم، ومنهم من قال: يختص بالغرم شهود التعليق، وليس على شهود الصفة شيء؛ فإن التعليق هو الموقع للعَتَاق، وأما الصفةُ محلُّ وقوعه، فهي بمثابة المحل، والتعليق بمثابة العلّة، والحكم للعلة.
وكذلك جرى اختلاف القول في أن شهود الإحصان والزنا إذا رجعوا بعد نفوذ القضاء وإقامة الحد، فالغرم على من؟ فعلى قولين:
أحدهما: أنه على شهود الزنا، والثاني: أنه على شهود الزنا والإحصان جميعاً، وقد ذكرنا هذا في باب الرجوع عن الشهادة.
فإن قيل: من قال من الأصحاب: الاعتبار بحالة وقوع العتق، ولهذا يحتسب من الثلث، فلو قال قائل على هذا: إذا رجع شهود التعليق وشهود الطلاق، فهلا أوجبتم الغرم على شهود الصفة فحسب، كما أنكم اعتبرتم الصفة الواقعة في مرض الموت، وجعلتم كأن العتق أنشىء في مرض الموت.
قلنا: هذا السؤال متجه، والجواب عنه عسر. ولكن لم يصر أحد من الأصحاب إلى أن شهود الصفة يختصون بالغرم، فهذا مما يجب فهمه وتعدّيه، والاقتصار على ما قطع به الأصحاب.
فصل:
12467- إذا ادعى العبد على سيده أنه دبره، فهل تسمع دعواه؛ ظاهر النص هاهنا أن الدعوى مسموعة، وهذا مشكل؛ لأن المدبَّر لا يستحق في الحال على مولاه شيئاً، وعماد الدعوى أن يستحق المدعي على المدعى عليه حقاً في الحال يملك المطالبةَ به، وليس يملك المدبَّر على مولاه شيئاً في الحالة الراهنة، وقد نص الشافعي على أن صاحب الدين المؤجل لو أراد أن يدعيَه على المدعى عليه، لم يكن له ذلك، والتدبير كالدين المؤجل؛ من حيث إنه لا يثبت في الحال طلبه، ولكن التدبير عُلقة تُفضي إلى العتق في المآل، كما أن الدين المؤجل إذا انقضى أجله، توجهت الطلبة به، فاتفق الأصحاب على إجراء الخلاف في المسألتين، وإن لم يكن في الحال طلبٌ ناجز.
ثم هذا الذي أطلقناه منتظم في الدَّيْن المؤجل، وفيه غموض في التدبير من وجهين:
أحدهما: أن السيد إذا أنكر-على قولنا بإثبات الرجوع فيه مع استمرار الملك- فهل يكون إنكاره بمثابة الرجوع؟ فنذكر هذا الطرف. ونقول: إن لم نثبت الرجوع، فلا سؤال من هذه الجهة، وإن أثبتناه، فهاهنا مسائل، نذكرها ونوضح تباينها واتفاقها:
فإذا ادعت المرأة على زوجها طلاقاً رجعياً، فأنكره، لم يكن إنكاره له رجعةً فيه؛ لأن الرجعة في حكم عقد مبتدأ مفيد لِحلٍّ جديد، ورَفْع تحريم واقعٍ، فلا يكون نفي موجَبه متضمناً إنشاءه. هذا متفق عليه.
ولو ادعى رجل على رجل آخرَ بيعاً فيه خيار للمدعى عليه، فأنكره فإنكاره له لا يكون فسخاً منه للبيع، وسينعطف على هذا ضرب من الاحتمال.
فأما إذا ادعى رجل وصيةً على الموصي، أو ادعى العبد عليه تدبيره، أو ادعى الوكيل على رجل أنه وكَّله، فأنكر هؤلاء الوصية، والتدبير، والتوكيل، فهل يكون إنكارهم رفعاً منهم لما ادُّعي عليهم؟ حاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها: أن هذه العقود بجملتها تنفسخ لو كانت ثبتت في علم الله تعالى؛ فإنها معرضة ليفسخ والرفع من جهة المدعى عليه.
ولو قال الموكل-بعد ثبوت التوكيل لوكيله-: لست وكيلي، وجب القطع بالخروج عن كونه وكيلاً، وفي قوله: ما وكلتك أمس هذا المعنى الذي ذكرناه؛ فإنه إذا لم يكن وكيله أمس، فليس الآن؛ وهذا جارٍ في الوصية والتدبير.
والوجه الثاني- أن هذه العقود لا تنفسخ بالإنكار؛ فإن الإنكار إخبار عن ماضٍ لا تعلق له بالحال، فإذا كان كذباً، لم يؤثر في رفع العقود، والدليل عليه أن إنكار الأصل موجبه استحالة الرفع، فإن ما لم يقع لا يرفع، فنفي الأصل مع الرفع ضدان.
والوجه الثالث: أن الوكالة ترتفع من بينهما، ولا يرتفع التدبير والوصية؛ فإنهما عقدان يتعلق مقصودهما بغرضين ظاهرين لغير المنكر، فلم نجعل الإنكار فيهما رفعاً، وأما التوكيل، فالغرض الأظهر منه يرجع إلى الموكِّل، فإذا أنكر التوكيل، انقطعت الوكالة.
فإذا لاح ما ذكرناه، وجرى الحكم بكون الإنكار قطعاً للوصية والتدبير، فليس يبعد توجيه احتمالٍ إلى البيع الذي فيه خيار للمنكر، ولكنه بعيد.
12468- فإذا ثبت هذا الأصلُ، عدنا إلى غرض الفصل: فإن لم نجعل الإنكار رجوعاً، فالقول في سماع الدعوى في التدبير والوصية والوكالة على التردد الذي ذكرناه.
والأوجه ردُّ الدعوى، وقبولُها في الدين المؤجل أقربُ؛ لأنه حق، وكيف لا؟ ونحن نكتفي به ركنا في عقد المعاوضة.
وإن حكمنا بأن الإنكار يكون رجوعاً في الأصول التي ذكرناها، فالذي ذكره الأئمة أن الدعوى لا تسمع على ذلك.
وهذا فيه نظر؛ فإن الدعوى إن كانت منساغة في الأصل، فليست مبنية على إنكار المدعى عليه لا محالة، فربما يقرّ، وربما يسكت ولا يقرّ ولا ينكر، فليس يمتنع إجراء الخلاف، ثم المصير إلى أنه إذا أنكر، انقطعت الدعوى، والدعوى في أصلها فيها ضعيفة.
ومما يتم به البيان أن شهادة الحسبة في الطلاق والعتَاق مسموعتان-كما مهدناه في كتاب الدعاوي- وهل تسمع شهادة الحسبة على التدبير؟ هذا يخرج على الخلاف الذي ذكرناه في قبول الدعوى. فإن لم نقبلها لتحليف المدعى عليه، فلا نصغي إلى شهادة الحسبة من غير دعوى، فرد شهادة الحسبة أولى من ردّ الدعوى، فإن محل الحسبة فيه إذا ثبت لله حق وهو مجحود، فينتهض من يشهد محتسباً في إثبات حق مجحود.
وقد ينقدح للفقيه فصلٌ بين شهادة الحسبة في غيبة المشهود عليه وبين الشهادة في حضوره، حتى يقال: الشهادة في الغيبة أولى بالقبول؛ من جهة تقدير مماتٍ أو فوات. وهذا بالحسبة أَلْيقُ، ولهذا. جوّز بعضُ الأصحاب استرجاعَ العين المغصوبة حسبةً في غيبة المغصوب منه، ولا ينبغي أن يجوز بحضرته مع قدرته على الاسترجاع أو الأمرِ به.
والأصح أن دعوى الاستيلاد مقبولة؛ فإنها تتضمن-لو ثبتت- عُلقةَ ناجزة لازمة.
ومن أصحابنا من ذكر خلافاً في دعوى الاستيلاد من غير مسيس حاجة إليها، وإن باع المستولِد أم الولد؛ فإذ ذاك لا خلاف في قبول الدعوى وشهادة الحسبة.