فصل: فصل: يجمع مسائل تتلقى من مقتضى ألفاظ الناذر في التضحية وما يليق بها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: يجمع مسائل تتلقى من مقتضى ألفاظ الناذر في التضحية وما يليق بها:

11862- إذا قال: عليّ أن أضحي ببدَنة، فاسم البَدَنة في اللغة ينطلق على البعير، وجمعها البُدْن. قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] هذا حكم اللسان. ثم أقام الشرع بقرة مَقام بَدَنةٍ، وكدلك أقام سبعة من الغنم مقام بدنة، وهذا واضح في قواعدَ معروفةٍ، وأقربها إلينا أن البدنة تُجزىء عن سبعة، وكذلك البقرة، والشاة الواحدة تجزىء عن واحد، ولا تقبل الشركة، فالسبع من الغنم تَعْدِل فيما ذكرناه بدنة، كل شاة في معادلة سُبعها.
فإذا نذر التضحية ببدنة، فهل له أن يقيم مقامها بقرة، أو سبعاً من الغنم؟ اختلف أئمة المذهب في ذلك، فأحسن ترتيب يجمع الغرض ويحويه أن نقول: إن لم يجد الناذر بدنة، فله العدول إلى بقرة، أو سبعٍ من الغنم، وإن وجد بدنة، ففي جواز العدول عنها إلى البقرة والسبع من الغنم قولان. وقد سبق ما يناظر ذلك في كتاب المناسك.
توجيه القولين: من لم يجوز العدول عن البدنة استمسك باللفظ، ومن جوّز العدول تعلّق بموجب الشرع في إقامة البقرة والسَّبع من الغنم مقامَ البدنةِ.
ومعظم الاختلاف في هذه المسائل يلتفت إلى أن النذر هل ينزل على موجب الشرع، أم يُتمسك فيه بمقتضى اللفظ؟
هذه طريقة وأبعد بعض الأصحاب فقلبها، وقال: لا يعدل عن البدنة مع وجودها؛ فإن لم يجدها، ففي إجزاء البقرة والسبع من الغنم قولان، وهذا غلوٌّ في التعلق باللفظ، وتشوف إلى منع إخراج الأبدال عما تعين بالنذر، كما يمتنع إخراج الأبدال عن الزكوات المتعينة بتنصيص الشارع، وهذا الذي نحن فيه اشترك فيه اتباع اللفظ، وموجَب الشرع، والالتفات على منع إخراج الأبدال.
ولو قال: لله عليّ أن أتصدق بعشرة دراهم، لم يُقبل منه صنف آخر في المال على قياس منع الأبدال في الزكوات.
ثم إذا جوزنا إخراجَ البقرة والسبعِ من الغنم، فلا يُرْعَى أن يكون المخرج على قيمة البدنة، كما لا ينظر إلى القيم في إخراج الجبرانات عند تفاوت الأسنان انخفاضاً وارتفاعاً. هذا هو المذهب.
وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من اشترط أن تكون البقرةُ والسبع من الغنم على قيمة البدنة، وهذا ضعيف، لا أصل له. ثم فرع عليه فرعاً هو أضعف منه، فقال: إذا جوزنا إخراج البدل، وشرطنا رعاية التعديل في القيمة، فلو أخرج خمساً من الغنم تَعْدِل قيمتُها بدنةً، فهل يقبل؟ فعلى وجهين، وكذلك إن تُصوِّر هذا في شاة واحدة، والمصيرُ إلى أن الخمس أو الشاة الواحدة تجزىء عن بدنة بُعدٌ عظيمٌ عن القاعدة، ولولا عظم قدر الناقل-وهو صاحب التقريب- لما استجزت ذكر هذا، ويلزمه على المساق الذي ساقه أن يصير إلى إجزاء المعيبة نظراً إلى القيمة، وهذا يجرّ أُموراً مضطربة، لا سبيل إلى احتمالها.
11863- وكل ما ذكرناه فيه إذا ذكر البدنة في نذر التضحية، وسننعطف على هذا بذكر خلاف من فنٍّ آخر:
فلو قال: لله عليّ أن أضحي ببعير، أو بشاة، أو بقرة؛ فالذي قطع به القاضي ومعظم المحققين أن مطلق اللفظ محمول على البعير المجزىء وهو الثنيُّ السليم عن العيوب المانعة من الإجزاء، وكذلك القول في البقرة التي سماها، والشاة.
وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر، وهو أن اللفظ منزّل على الاسم، فلا يشترط السن ولا السلامة، نعم، لا يجزىء الحوار، والفصيل؛ لأنه لا يسمى بعيراً، ويجزىء الحِقّ، وابن اللبون، وابن مخاض، والمتبع في كل جنس الاسمُ؛ فلا يقبل العِجْلُ، والمذكور البقرة، كما لا تقبل السَّخلة والمذكور الشاة، وهذا مأخوذ من اتباع اللفظ، والمسلك الأوضح مأخوذ من موجب الشرع، وهو متأكد في هذا المقام بذكر التضحية، والتضحية لفظة شرعية مقتضاها أن تنزل على قواعدَ مرعيةٍ في الشريعة، ولو نذر صلاة، لم تقع منه بدَعْوة، نظراً إلى أصل الوضع في اللغة. وهذا التردد في ذكر البعير والبقرة والشاة.
فأما إذا ذكر البدنة، وعبّر بالتضحية أو الإهداء، فالمذهب اعتبار حدود الشريعة في السن والسلامة؛ فإن اسم البدنة مشهور مستفيض بالقرابين، ويندر استعماله في غيرها، فلما ازداد التقييد بَعُدَ الخلاف. وذكر العراقيون في ذكر البدنة خلافاً أيضاً في اعتبار السن والسلامة، وهذا بعيد.
والحاصل من مجموع ما ذكرناه ترتيبُ الخلاف في البعير والشاة على الخلاف في البدنة، أو جمعُ الكل وإجراءُ ثلاثةِ أوجه على ما لا يكاد يخفى.
ويخرج بعد ما ذكرناه وجهٌ أن الحيوان المجزىء لا يلزم ما لم يَنُصَّ على صفاته المرعية في النذر المطلق، ولو نواها، كان كما لو صرح بذكرها، ولو قال: لله علي هديٌ، فخروج هذا على أصل القولين ظاهرٌ بيّنٌ: من اعتبر اللفظ لم يوجب حيواناً مجزئاً في الضحايا؛ بل اكتفى بأقل المَنْح من أي جنس كان من أجناس الأموال، ومن اعتبر الشرعَ وحكمَه، أَلزم بمطلق هذا اللفظ شاةً؛ فإن أقلَّ اسم الهدي الشرعي يتناول شاةً على السن المعتبر والسلامةِ المشروطة.
التفريع:
11864- إن ألزمنا الناذر ما يجزىء في الضحايا، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه يجب تبليغه الحرم؛ فإن الضحايا في البلاد لا تسمى هدياً، والهديُ المطلق هو الذي مَحِلُّه الحرم، قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
وفي كلام بعض الأصحاب على هذا القول ما يشير إلى أنه لا يجب تبليغُ المنذور الحرمَ ما لم يقع التصريحُ به؛ فإن دماء الحيوانات هي الواجبةُ شرعاً، ولا يجب تبليغُها الحرم، وهذا وهم؛ فإنا لا ننظر إلى الواجب شرعاً، وإنما ننظر إلى اللفظ الشائع في الشرع، والهدي ظاهر في ألفاظ الشرع في اقتضاء التبليغ إلى مكة.
وإن لم نُلزم بلفظ الهدي حيواناً، واكتفينا بأقل المَنْح أخذاً من الهدية، فقد قطع الأصحاب على ذلك بأنه لا يجب تبليغُه مكةَ، وكان شيخي في دروسه يقطع بأنه يجب تبليغه مكةَ، وهذا تناقض.
فأما إذا لم نعتبر جنس النَّعم في الهدي، فلأن لا نعتبر التبليغ-وهو تابع لجنس القرابين- أولى وأحرى، فلا اعتداد بهذا إذاً.
11865- ومما يليق بما نحن فيه أنه لو نذر أن يهدي ظبية، وصرح بتبليغها الحرم، وجب التبليغ، وهذا مما يجب العلمُ به على ثقة، فكل قُربة مالية التُزمت، وأضيفت إلى مكة، وجب تبليغها الحرمَ، ولا يختص ذلك بالقرابين.
ثم قال المحققون: إذا ذكر ظبية، لم يذبحها، ولكن تصدق بها حيّة؛ فإن الذبح يَنْقُصُها، وليس في ذبحها قُربة، وكذلك القول فيما عدا جنس النَّعم من الحيوانات.
وإذا قال: لله علي أن أهديَ بعيراً، وأوجبنا التبليغ، وجوزنا المعيب، فهل يكون كالظبية حتى لا يُنحر، بل يتصدق به حياً أم ينحر؟ فيه تردد للاصحاب: فمنهم من راعى الجنس؛ ورأى الذبح. وهذا رديء؛ ومنهم من قال: إذا كان لا يجزىء في الضحايا لنقصان شيء أو اتصافٍ بعيب مانع من الإجزاء، فهو كالظبية.
ولو قال: لله علي أن أُهديَ هذا، وأشار إلى ثوب، أو غيره من صنوف المال، والتفريع على وجوب التبليغ- فإن كان ما ذكره شيئاً لا يُنقل، بيع، ونقلت قيمته إلى مكة، وتصدق بها، وإن كان ذلك الشيء منقولاً في نفسه، فإن عسر نقله، كحجر الرحا وما في معناه، فهو كالعقار، وإن كان ذلك الشيء مما ينقل مثله، فينقله ويتصدق به على أهل مكة.
ولو كان ثوباًً يتأتى ستر الكعبة به، فالستر من جملة القربات، وفي اعتياد الناس ذلك في العُصر الخالية، وعدم النكير من علماء الشريعة ما يوضح ذلك، وفي بعض ألفاظ الرسول عليه السلام ما يدل عليه، وكذلك تطييبُ الكعبة من هذه الجملة.
ولكن إن نوى من جَعَلَ الثوبَ هدياً ستْرَ البيت، نُزّل لفظه على نيته- وكذلك لو صرح بهذه الجهة، ولو نوى التصدق، فلا معدل عنه.
ولو أطلق اللفظ، فالذي قطع به المحققون وجوبُ حمله على الصدقة، ومَنعْ العدول عنها؛ فإن الصدقة هي المفهومة من ظاهر لفظ الإهداء، وهي أصل القربات في الباب، فلا عدول عنها من غير لفظ أو قصد.
وفي بعض التصانيف أن الثوبَ الصالحَ للستر يحمل مطلق اللفظ فيه على الستر، وهذا كلام سخيف، لا أصل له، ولا اعتداد به.
ثم إذا كان عيّن ثوباًً أو غيره من صنوف الأموال، وبلّغه مكة، فأراد بيعه، وتفرقة ثمنه، فالذي ذكره الأئمة-وهو قياس المذهب- أن بيعه يمتنع، لتعلق لفظ الإهداء بعينه، وإمكانِ التصدق به، ومصيرِ ما عيّنه بمثابة ما يعيّنه الشارع في الزكوات، وهذا كتعيين الضحايا، أو كتعيين إهداء حيوان ليس من قبيل النَّعم، ولو كان يعسر التصدق بعينه، ولا يتأتى جَمْعُ المساكين وتسليم المعين إليهم، فهو بمثابة ما لو فرض مثل ذلك في الزكوات، فلا معدل عن المعين.
وكل ما ذكرناه من الصرف إلى الستر عند اللفظ أو القصد، والصرف إلى الطِّيب، فهو يقوي مذهب المتأخرين في التزام القربات التي لم تشرع للعبادات، ولا جواب للمتقدمين عن هذه الفنون.
ولو فرض تقييد اللفظ بتطييب مسجد المدينة أو مسجد إيلياء، أو مكان الصخرة، أو غيرهما من المساجد، فالأمر متردد عندنا: لا يمتنع ألا يلزمَ ما أشرنا إليه، ويختص ما ذكرناه بالمسجد الحرام، والكعبة، والعلم عند الله.
11866- وذكر الشيخ في شرح التلخيص كلاماًً ظاهره أن من نذر الصوم بمكة يلزمه الصوم بها، ولو صام بغيرها، لم يُجْزه، وقد قرن بين الصلاة والصوم في هذا المعنى، وقد نص الأصحاب في الطرق على مخالفته في ذلك؛ فإن الأخبار والآثار إنما وردت في الصلاة، فلا مزيد عليها، والستر والتطييب ملحق بها.
ولا خلاف أن التصدق إذا أضيف إليها، وجب الوفاء أخذاً من القرابين، فأما الصوم، فلم يَرِد فيه ثبتٌ، ثم من أوجب الوفاء بإقامة الصوم بمكة ترددوا في غيره من العبادات بعد استثناء ما استثنيناه، ولا يخفى أن الاعتكاف إذا أضيف إلى المسجد الحرام، تعين له؛ فإنا قد نعيّن بعض مساجد البلاد للاعتكاف إذا عيّنه الناذر. وقد نجز الغرض في هذا الفن.
فصل:
قال: "ولو نذر عدَدَ صومٍ، صامه متفرقاً ومتتابعاً... إلى آخره".
11867- لا خلاف أن الصيام يُلتزم بالنذر، ولو نذر صوم أيام، ولم يتعرض للتتابع، فهو بالخيار في الإتيان بها متتابعة أو متفرقة. وكذلك لو نذر صوماً إلى شهرٍ أو سنة، فإن شاء فرّق وإن شاء والى وتابع.
ومن مقاصد هذا الفصل أن من عيّن يوماً لصومه المنذور، فالمذهب الأصح أنه تتعين تلك الأوقات للصوم على حسب تعيينه، وقال بعض أصحابنا: تعيين الزمان في الصوم كتعيين المكان له، فإذا عيّن، لزمه الصومُ، كما لو أطلق النذرَ من غير التعيين، وهذا الوجه-على بعده- منقاس، ذكره طوائفُ من أئمة المذهب، منهم الصيدلاني.
ومن آثار الخلاف أنه إذا عيّن أن يصوم يوم الخميس، فأراد أن يصومَ يوماً قبله، فوقوعه عن النذر خارج على الخلاف، وإن انتهى إلى ذلك اليوم، ولم يصمه، فيلزمه صوم يوم بعده بلا خلاف، ثم هو أداء أم قضاء؟ فعلى ما ذكرناه في الخلاف.
ولا خلاف أنا وإن عيّناه، فلو أوقع فيه قضاءً أو صومَ كفارة، صح، ولا يبلغ تعيينه مبلغاً ينافي صوماً غيرَه بخلاف تعيين أيام رمضان لصيامها، ولا يثبت في اليوم المعين-تفريعاً على الأصح- خواصُّ صوم رمضان من الكفارة عند الإفطار بالوقاع، ووجوب الإمساك بعد الإفطار.
ولو نذر صوم أيامٍ وقيدها بالتفريق، ففي التزام التفريق بالنذر وجهان بناهما بعض الأصحاب على اختلاف القول في أن التفريق بين الأيام الثلاثة والأيام السبعة في صوم التمتع هل يُستَحق شرعاً، وفيه خلاف ذكرته، والأولى عندنا تقريب الوجهين-في وجوب التفريق- من تردد الأصحاب في أن الأوقات هل تتعين للصيام إذا عُيّنت له؟ فإن قلنا: إنها تتعين، فلا يبعد حمل استحقاق التفريق على هذا الأصل، كما لو قال: لله علي صوم الأثانين، فلا شك أنه يأتي بالصوم على صفة التفرق.
وهذا تكلف؛ فإن الذي يعيّن الأوقات يجرد قصدَه إلى تعيينها، والذي يذكر التفريق ليس تعيين الأزمنة من باله وعزمه؛ ولذلك كان الأصح أن التفريق لا يُلتزَم، والأصح أن الأوقات تتعين إذا عيّنت.
11868- ولو عيّن الناذر للصوم المنذور شهراً أو سنةً، وجرينا على الأصح في تعين الوقت، فالصوم يقع في الشهر تباعاً، لا لكون التتابع مستحَقاً في نفسه، ولكن تعيّن أيام الشهر يقتضي هذا المعنى لا محالة.
ولو أفطر الناذر يوماًَ من الشهر لم يَفْسُد عليه ما مضى، والقول في هذا كالقول في تعين أيام رمضان لصيامها.
ولو عين للصوم شهراً، وقضينا بتعيّنه، وضمّ إلى تعيينه ذكر التتابع، فقال: لله علي أن أصوم شهر شعبان من السنة الفلانية متتابعاً، فللأصحاب في ذكر التتابع وفي التعيين خلاف: فمنهم من يلغيه، ولا يُثبت حكمَه، ولا يُثبت إلا موجَبَ التعيين، ومنهم من يُثبت مقتضى التتابع قائلاً: لو أفطر في اليوم الأخير مثلاً، فسد عليه جميعُ ما تقدم، ولزمه القضاء على صفة التتابع، ولو التزم التتابع، ولزمه من غير تعيين، فقد ذكرنا ما يقطع التتابع، وما لا يقطعه، ومحلَّ الوفاق والخلاف في كتاب الظهار، والتتابع اللازم نذراً كالتتابع اللازم شرعاً.
11869- ولو قال: لله عليّ أن أصوم سنة، لم يخل: إما أن يعينها، أو يطلقها، فإن عيّن، وفَّى، ولم يجب عليه أيام رمضان والعيدان، وأيام التشريق، وكفاه ما سوى هذه الأيام؛ فإن الشرع قد استثنى بعضَها للصوم، وبعضَها للفطر، وإذا طرأ على السنة المعيّنة عذرٌ يجوز الإفطار بسببه في أيام رمضان، كالمرض، والحيض، فله الإفطار. وفي لزوم القضاء خلاف، ذكره الإمام وغيره.
ومن أصحابنا من أوجب القضاءَ قياساً على الصوم المفروض شرعاً، وتنزيلاً للمنذور على المشروع، ومنهم من لم يوجِب القضاء، وجعل هذه الأيام مستثناةً بالرخصة كأيام رمضان، حيث استثناه الشرع لجهة أخرى.
ولو سافر الناذر، فله الإفطار، والظاهر وجوبُ القضاء، بخلاف الأعذار المنافية للصوم، كالحيض أو المسوِّغة للفطر عن حاجة حاقّة كالمرض.
ولو نذر صومَ سنة وأبهمها، ولم يعينها، صام اثني عشر شهراً بالأهلّة، فلو استفتح الصومَ من أول المحرم من سنةٍ، ثم تمادى إلى انقضاء السنة، وصام رمضان شرعاً، وأفطر في الأيام التي يُستحق الفطر فيها، فالذي قطع به الأصحاب أنه يلزمه أن يصوم في مقابلة شهر رمضان شهراً آخر، وفي مقام أيام الفطر أياماً؛ فإن تنكير السنة يقتضي إتمامَ الصيام. وذكر الصيدلاني أنه وإن نكّر السنةَ إذا استقبل سنة، وافتتح الصوم من المحرم إلى المحرم، كفاه ما أتى به.
وهذا زللٌ وهفوة من هفوات الكتّاب. والممكن في توجيهه أن من فعل هذا يقال صام سنة، وهذا تكلف بعيدٌ لا أصل له.
فصل:
قال: "ولو قال: لله علي أن أحج عامي هذا... إلى آخره".
11870- إذا نذر حَجّةً وعيّن لها عاماً، فالقول في تعيين العام لها وفاءً بالنذر، كالقول في تعيين اليوم للصوم.
فإذا جرينا على المذهب الصحيح، ألزمناه إيقاع الحج في العام المعيّن وفاءً بالنذر؛ ولو حج قبل ذلك العام، لم يُعتَدَّ بما جاء به عن نذره، كما قررناه في الصوم، فلو صُدّ بعد الإحرام وتحلَّلَ أو امتنعَ عليه الإحرام لمكان الصدّ، فالمنصوص عليه، وهو ظاهر المذهب أنه لا يلزمه قضاءُ الحج.
وخرّج ابنُ سريج قولاً آخر أنه يلزمه القضاء، كما لو عيّن يوماًً للصوم المنذور، ثم طرأ فيه عذر، وهذا التخريج مع النص يقربان من الخلاف الذي ذكرناه في الأعذار الطارئة في أثناء السَّنَةِ المعيَّنةِ.
ولو امتنع عليه الحج للمرض، أو لعدم الاستطاعة، فقد خرّج أصحابُنا هذا على الخلاف أيضاً، وفرق فارقون بين الصد بالعدو وبين الامتناع بهذه الأسباب، وينتظم من الصد وغيرِه من الأعذار ثلاثُ طرق: أحدها: وجوب القضاء.
والثاني: نفي القضاء.
والثالث: الفصلُ بين الصد بالعدوّ، وبين غيره من المعاذير، والفارق أن للصدّ مزيدُ وقعٍ ليس لغيره، ولذلك اختص جواز التحلل به.
فصل:
قال: "ولو قال: لله علي أن أصوم يوم يَقْدَم فلانٌ... إلى آخره".
11871- نُقدِّم على مقصود الفصل تفصيلَ المذهب في تبعيض الصوم بالنذر، فإذا أصبح الرجل صائماًً متطوعاً، ونذر إتمامَ الصوم في بقية اليوم، لزمه الوفاء بالنذر وفاقاً، ولو أصبح ممسكاً، وما نوى ليلاً، فالتطوع بالصوم ممكن منه بأن ينوي قبل الزوال أو بعده، على الخلاف المشهور في ذلك، فلو نذر أن يصوم هذا اليومَ على هذا الوجه، وقيد النذرَ، ولم يُطلق التزام صوم يوم، فهل يلزمه الوفاء؟ فعلى قولين مأخوذين من تنزيل المنذور على واجب الشرع؛ فإن نزلناه عليه، لم يصحَّ النذرُ كذلك، وإن نزلناه على ما يصح-وإن لم يكن فرضاً- صح هذا ولزم.
والذي أراه أن الأصحَّ اللزومُ؛ فإني صوّرت النذرَ مقيَّداً، والقولان جاريان في لفظٍ مُطْلَقٍ على الصلاة التي تتردد بين الركعة والركعتين.
ولو قال: لله علي أن أصليَ ركعة واحدة، فقد قال الأصحاب: لا يلزمه غيرها، وقالوا: لو قال: علي صلاة أقيمها قاعداً، يلزمه القيام إذا قيدنا المنذور بواجب الشرع، وتكلفوا فرقاً، ولا فرق؛ فيجب تنزيلها على الخلاف، وكيف لا يكون كذلك- وقد ذكرنا الخلاف في نذر الصوم نهاراً، حيث يجوز التطوع بالصوم، وهذا بالإضافة إلى الصوم الواجب شرعاً بمثابة الركعة إلى أقلِّ واجبٍ في الصلاة، وانتظم الصوم والصلاة على قضية.
ولو قال: لله علي صومُ يومٍ، لم يكفه أن ينوي نهاراً لاسم اليوم-وإن قلنا: المتطوع لو نوى نهاراً، انعطفت النية- فلا يقع الاكتفاء بهذا، والمنذور يومٌ.
ولعِلّةِ مَنْعنا نذرَ صومِ بعضِ يوم، فلو قال: لله علي صومُ بعضِ يوم، فللأصحاب وجهان:
أحدهما: أن النذر يلغو؛ فإنه التزم ما لا يمكن الوفاء به. ومنهم من قال: يلزم صوم يوم كامل بنية مُبَيَّنة.
ويُخرَّج على هذا أنه لو قال: لله علي أن أركع أو أسجد-والركوع الواحد لا يلتزم بالنذر- فهل يلزمه ما يلزم ناذر الصلاة؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه آنفاً.
وكان شيخي يقطع بأن السجدة الفردة لا تلتزم بالنذر-وإن كان التالي يسجد- فإن السجدة الفردة من غير سبب ليست قربة على الرأي الظاهر كما قررته في كتاب الصلاة.
فهذا ما أردنا تقديمه.
11872- والآن نعود إلى مقصود الفصل: فإذا قال: لله علي أن أصوم يوم يَقْدَم فلان، فإن قَدِم ليلاً، لم يلتزم شيئاً؛ لأنه قيد القدوم باليوم، وإن قدم نهاراً، فالوفاء بالنذر غيرُ ممكن في يوم القدوم مذهباًً واحداً.
فإن قيل: هلاّ خرّجتموه على جواز تبعيض اليوم في نذر الصوم؟ قلنا: ما قدمناه فيه إذا خصص النذر ببعض اليوم، وهذه المسألة التي نحن فيها مفروضة فيه إذا سمى اليوم، فقال: يومَ يقَدُم فلان، فيلزم بموجب اللفظ صوم جميع اليوم، فإذا تعذر الوفاء في هذا اليوم، فلا يجب الإمساك أصلاً، ولو كان أصبح صائماًً متطوعاً، فلا يلزم إتمام الصوم؛ فإن ما يأتي به لا يقع وفاء، فلا وجه لإلزامه.
وهل يجب قضاء يوم بسبب ما تعذر؟ في المسألة قولان مشهوران، ومأخذهما مما هو متفرِّع عليهما، وهو من باب التفاف الأصل بالفرع والفرع بالأصل- وذلك أنه إذا قدم نهاراً، فتقدير وقت الوجوب يعقب القدوم أم يستند إلى أول النهار؟ فيه قولان، وعليه يخرج الأصحاب الطلاق والعَتاق إذا عُلق بيوم القدوم.
فإذا قال مالك العبد: أنت حر يوم يقدَم فلان، ثم باعه بكرةً، وقدِم فلان ضَحْوةً، فإن قلنا بالتقدم، حكمنا ببطلان البيع ومصادفته حراً، وإن حكمنا بالاستعقاب، فالبيع على نفوذه، والصفة لم تصادف محلاً، وفرض ذلك في الطلاق ظاهر.
ووجه بناء غرضنا من الصوم أننا إن أسندنا، أوجبنا قضاء يوم؛ فإن يوم القدوم يوم تبيّنا استحقاق صومه بالنذر، وقد عسر أداؤه، فلزم قضاؤه. وإن لم نقل بالإسناد، فالقدوم يستعقب تقدير الوجوب، فكأن الناذر نذر إيقاع الصوم في بعض يوم، وذلك مستحيل لا يلتزم. هذا وجه البناء.
فإن قيل: ذكرتم خلافاً بأن من نذر صوم نصف يوم هل يلزمه صومُ يوم تكميلاً لما بعّضه، وتنزيلاً للفظ البعض على الكل. قلنا: ذاك فيه إذا أطلق التزام صوم نصف يوم، وصوم نصف يوم صحيح مع نصفٍ آخر، وكان التكميل على هذا التأويل. فأما إذا نذر صومَ يوم مُوقَعاً في بعض يوم، فهذا مستحيل، والمستحيل لا يُلتزَم، وليس يُكمّل، وقد قال الأصحاب لو قال: لله علي أن أحج في هذه السنة، وقد بقي يومٌ، وهو على مائة فرسخ، فالنذر باطل، وإذا بطل هذا لِعُسْر التوصل، فلأن يبطل ما لا يتصور أولى.
ولو قال: لله علي أن أصوم يوم يقدَم فلان، وجرينا على مذهب الإسناد، فنوى صوم يوم، وبيت النية بناء على وعد كان يثق به في مقدَم ذلك الشخص، ثم صدق الموعد؛ ففي صحة الصوم عن النذر وجهان:
أحدهما: المنع لتردد النية.
والثاني: الصحة للبناء على أصل مظنون، وقد ذكرنا لهذا نظيراً في صوم يوم الشك.
فصل:
قال: "ولو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدَم فيه فلان أبداً... إلى آخره".
11873- قال الأصحاب: غرض الفصل التزام صوم يوم معيّن من الأسبوع أبداً، فلا معنى للفرض في القدوم، فإذا قال: لله علي أن أصوم يوم الإثنين أبداً، لزمه الوفاء بنذره.
والتفريع على التعيين ووجوب الوفاء به، فإن صُوّر هذا في يوم القدوم، ساغ، فيلزم صوم ذلك اليوم من كل أسبوع في المستقبل، وفي يوم قدومه التفصيلُ الذي ذكرناه.
ثم إن صادف اليومَ المعيَّنَ، عُذرٌ، ففي وجوب القضاء الخلافُ الذي ذكرته في اعتراض المعاذير في السنة المعيّنة.
ولو صادف ذلك اليومَ يومُ حيضٍ، وما كان غلبت لها عادة في ذلك اليوم، ففيه الخلاف المقدم.
ولو كانت تحيض عشرةَ أيام، فالمذهب أن ما يتعطل في نوبة حيضها لا يُلتزم قضاؤه، وإن كان الصوم في يوم الحيض مقضياً في رمضان؛ لأنه إذا غلب على الظن فساد يومٍ في نوبة، فهي في مفتتح أمرها لا تكون ملتزمةً لصوم اليومِ في تلك النوبة، ولو قدرناها ملتزمةً، لكانت ناذرةً صوم يوم من الحيض، وإذا نذرت المرأة صوم أيام الحيض، لم يلزمها قضاء.
ومن أصحابنا من أوجب القضاء؛ لأن امتداد نوبة الحيض مظنون.
ولو صادف اليومُ المعينُ يومَ العيد، ففي القضاء وجهان، وليس كما لو نذر الناذر صوم سنة معينة، فلا قضاء في مقابلة العيدين، وأيامِ التشريق، وأيامِ رمضان؛ لأن هذه الأيام تقع في السنة المعينة لا محالة؛ فهي مستثناة شرعاً، وموافقة اليوم المعين يوم عيد ليس مما يقع قطعاً.
ومن لم يوجب القضاء قال: إذا وقع، فقد تبين أنه مما لابد منه؛ فإن معلوم الله لا يتغير.
قال الأصحاب: الأثانين الواقعة في رمضان لا يقضيها؛ فإنها تقع لا محالة إلا الخامسة منها، فإنه يقِع في كل شهر كلُّ يومٍ أربعَ مرات قطعاً، والخامس على التردد، وما يقع على التردد يُخرَّج على الخلاف.
ولو نذر صوم الإثنين أبداً، ثم التزم بكفارة صوم شهرين متتابعين بعد النذر، فإذا أراد صوم الشهرين، جاز له ذلك، ووقع عما نوى، ويلزمه قضاء تلك الأيام الواقعة في الشهرين؛ فإنه أدخل على نفسه بعد النذر التزام الشهرين، ولم يكن هذا كالمعاذير التي تطرأ، ولو كان لزمه صوُم الشهرين من قبلُ، فنذر صوم الأثانين بعد ذلك، فالأصح أنه إذا صام الشهرين، لم يلزمه قضاءُ ما يقع في الشهرين من الأثانين لا محالة، كما يقع منها في شهر رمضان، والجامع تقدم الوجوب على نذر صوم الأثانين.
وأبعد بعض أصحابنا فأوجب القضاء، وإن تقدم وجوب الشهرين بخلاف رمضان، وتشوف إلى الفرق بين ما يجب بإيجاب الله تعالى، وبين ما يجب بفعل الناذر. وهذا ليس بشيء.
فصل:
11874- إذا نذر صوم يوم العيد، لم يلزمه شيء، كما لو نذرت المرأة صوم أيام حيضها، فإن الصوم لا يلزمها.
ومعتمد المذهب أن يوم العيد لا يقبل الصوم كأيام الحيض، والخلاف مع أبي حنيفة رضي الله عنه مشهور. وفي نذر صوم يوم الشك خلاف، وكذلك في نذر الصلوات في الساعات المكروهة، وقد تقدم ذلك كلُّه مع زوائدَ ومزايا.
فرع:
11875- من نذر صوم الدهر، لزمه الوفاء، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام الدهر، فلا صام " محمول على صوم العيدين، وأيام التشريق وفاءً بالاستغراق، وهذا مُحَرَّمٌ.
ثم إذا أفطر الناذر في يومٍ من غير عذر، لم يُتصور منه قضاؤه؛ فإن سائر الأيام مستحقة للنذر أداءً، فالوجه أن يبتدر، ويتصدق بمُدٍّ؛ فإن الصوم المنذور يقابَل بالفدية التي يقابل بها صوم رمضان على المذهب الظاهر.
ولو أفطر يوماً بعذر، فلا قضاء، ولا فدية. كما لو أفطر في رمضان بعذر، ومات قبل التمكن من القضاء.
ولو أفطر يوماًً من غير عذر، ثم نوى قضاء ذلك اليوم، فهل يصح-وإن كان الواجب غيرَ ما فعل-؟ الوجه أن يصح ثم يلزمه بدلُ ما تركه من الأداء في ذلك اليوم، المُدُّ الذي ذكرناه.
ولو تمادى على هذا النسق، فلا يستفيد بهذا إلا تَرْكَ الواجب، والانتسابَ إلى المعصية، والتزامَ مُدٍّ في آخر الأمر.
وإذا قلنا: يصوم عن الميت وليّه، فإذا أفطر يوماً عمداً، فهل يصوم عنه وليه في حياته؛ من جهة تعذر القضاء منه؟ الظاهر عندنا جواز ذلك، وهذا فيه احتمال؛ من جهة أنه قد يطرأ عذر يجوز ترك الصوم له ويتصور تكلف القضاء عنه.
فرع:
11876- إذا نذر فعلاً مباحاً، لم يلتزمه، مثل أن يقول: "نذرت أن أدخل الدار"، ولكن هل يَلْتزِم الكفارةَ؟ قال القاضي: يلتزمها، وتعلق بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نذر وسمّى فعليه ما سمى، ومن نذر ولم يسمّ، فعليه كفارة يمين». وهذا غير صحيح عندنا. بل قوله نذرت أن أدخل كناية في اليمين، كما ذكرته في موضعه، فإلحاق هذا بالأيمان مطلقاً لا وجه له، والخبرُ فيه إجمالٌ. وهو مردد بين الغَلَقِ وبين النذر.
ولو نذر معصيةً مثل أن يقولَ في نذره: أشرب الخمر، أو تقول المرأة: أصوم أيام حيضي، فقد ذكر القاضي وجهين في ذلك، وقطع في المباحات بلزوم الكفارة، وهذا خبطٌ. والوجه تخريج ذلك على أن النذر هل يكون كناية في اليمين؟ ولا معنى لتخصيص المباحات عن المعاصي؛ فإن المباح لا يلتزم عينُه بالنذر.
ومما يجب التنبه له أنا إذا حملنا هذا على اليمين، فالكفارة تقف على الحِنث، والقاضي ألزم الكفارة من غير حِنث؛ تمسكاً بالخبر، وقطع في المباح، وردّد الجواب في المحظور مَصيراً إلى أن لفظ النذر يناقض المعاصي، وقد رأيت لصاحب التقريب قولاً حكاه عن تخريج الربيع موافقاً لما ذكره القاضي، نقله وزيّفه.
ويخرج على ذلك ما إذا نذر أن يذبح ولده، فإنه نَذْرُ معصية، ففي الكفارة الترتيب الذي ذكرناه. وأبو حنيفة رضي الله عنه يوجب على ناذر ذبح الولد ذبحَ شاة.
فرع:
11877- إذا قال: لله علي صوم، إن شاء الله- فقد قال القاضي: لا يلزمه بالنذر شيء. وهذا صحيح.
ولو قال: لله علي صوم إن شاء زيد، فشاء زيد، قال القاضي: لا يلزمه شيء؛ فإن الناذر يجب أن يجزم النذر لله تعالى، فإذا ردد، لم يكن متقرباً.
وهذا عندي خطأ؛ فإن تقديره إن شاء، فلله علي صوم، وهو بمثابة ما لو قال: إن قدم زيد، فلله علي كذا من صوم أو غيره.