فصل: باب: العقيقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: العقيقة:

11629- العقيقة عندنا سنة، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: بدعة. وقال داود: هي واجبة. قال الشافعي رضي الله عنه: "أفرط في العقيقة رجلان رجل قال: إنها بدعة، ورجل قال: إنها واجبة " ولعله أراد رجلاً غير داود؛ فإن داود كان بعد الشافعي.
ثم لا يُرعى في العقيقة انتظار وقت التضحية، والمستحب ذبح العقيقة في اليوم السابع من الولادة. قال الأئمة: يستحب ذبح العقيقة في السابع، وفيه يستحب أن يحلق رأس الغلام، وفي السابع يسمى المولود، وفي الحديث: «يُعَقُّ عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة»، والشاة الواحدة عقيقة عن الغلام كافية، والمستحب شاتان، وروي: "عن الغلام شاتان مكافئتان " أي تكافىء كل واحدة الأخرى وتماثلها.
ومن السنن التي تقام يوم السابع أن يتصدق بزنة الشعر المحلوق فضةً أو ذهباً، وقيل العقيقة اسم لذلك الشعر الذي يكون على الصبي، فسميت الشاة باسم ذلك الشعر، فإن الحاج يحلق ويضحي، والشعر يحلق في السابع، ويتقرب إلى الله بالعقيقة.
ثم دلَّ مضمون الأخبار على أنَ الشاة تُعَضَّى، ولا تكسر عظام الأعضاء، بل تفصل من مفاصلها، وهذا كالفأل بسلامة أعضاء الصبي.
ثم يتعين القطع بإجراء العقيقة مجرى الضحية في الأكل من اللحم، والتصدق، وامتناع البيع والاستبدال، واشتراط السلامة المؤثرة في إجزاء الضحية، فلا فرق إلا أنَّ الضحية تتأقت بالأيام الأربعة، والعقيقة يدخل وقتها بولادة المولود، وهذا في التعلق بالسبب بمثابة دماء الجبرانات المتعلقة بأسبابها الموجبة، ثم دماء الجبرانات كالضحايا في اشتراط سلامتها من العيوب المؤثِّرة في الضحايا، إلا في جزاء الصّيد، فإنا نقابل المعيبة من الصّيود بالمعيبة؛ فإن مبناها على اعتبار المماثلة في الصورة.
ونعود إلى العقيقة قائلين: إذا أوجبنا التصدّق بمقدارٍ، فيجب إجراء التمليك فيه، وتنزيل الصدقة على اللحم النيَّيء، وأطلق الصيدلاني في مجموعه أنَّ الشاة تعضَّى كما ذكرنا، وتطبخ، ويفرق اللحم طبيخاً مع المرق، وهذا سديد إذا لم نُوجب التصدق، وهو مستقيم فيما لا نوجب التصدّق به.
فأما المقدار الذي يجب التصدّق به، فلا وجه فيه إلا ما ذكرته.
ومما أجراه أن تفرقة اللحم أولى من دعاء الناس إليه. هذا مقصود الباب.
ثم روى الشافعي حديث أمّ كُرز، وتكلم عليه، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله عن لحوم الأضاحي فسمعته يقول: "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، لا يضركم ذكراناً كُنَّ أو إناثاً " وسمعته يقول: "أقروا الطير على مَكِناتها".
وفي الحديث ما يدل أنها ما افتتحت سؤالها، فانها لو سألت عن لحوم الأضاحي لما كان تفسير العقيقة جواباً لها ولكن جاءت لذلك، ثم سمعت ما سمعت، فلم تبُح بسؤالها وقوله عليه السلام: «أقروا الطير على مَكِناتها» مما اختلف العلماء في تفسيره قيل: معناه النهي عن الصيد ليلاً، كأنه نهى عن ذلك نهي كراهية، وقال لا تنفروا الطير بياتاً.
وقيل: أراد النهي عما كانت العرب تفعله إذا أراد أحدهم الخروج إلى سفر، فإنه كان يبكر إلى عش طائر ويهيج الطير، فإن طار يمنة تفاءل وإن طار يسرةً تشاءم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفاؤل والتشاؤم.
ثم قال الشافعي رضي الله عنه في بعض كلامه: كانت العرب تلطخ رأس الصبي بدم العقيقة، وهذا مكروه في الدين لا أصل له. والله أعلم.

.كتاب الأطعمة:

11630- قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا...} [الآية الأنعام: 145].
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، تكلم الشافعي على الآيتين، ورأى تنزيل قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} على تحقيق الرد على المشركين الذين كانوا يُبيحون الموقوذةَ، والمذبوحةَ على أسماء الأصنام، والدمَ، ولحمَ الخنزير، فقال تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} إلا ما أحللتموه ويشهد لذلك قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ولا يخفى على المنصف أن الحشرات والقاذورات ليست من الطيبات التي أحلها الله، وتخيّرها لمطاعم عباده تكريماً لهم.
11631- ثم قال الأئمة: فيما يحل ويحرم أصول يُرجع إليها: أولاها- كتاب الله وما يصادف فيه محلَّلاً ومحرَّما.
والآخر- سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى ما يصرح بالتحريم والتحليل، وإلى ما يرشد إليه: فأما المصرح من السنن، فهو كنهيه عن أكل كلّ ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلب من الطير؛ فكان ذلك نصّاً منه على تحريم العوادي التي تسمَّى السباع كالأسد، والفهد، والنمر، والذئب، وألحق الأئمة بذلك الدبّ من الوحوش، والفيلة.
ونص بذكر ذوات المخالب على تحريم البازي، والشاهين، والعُقاب، وغيرها من جوارح الطيور، وإن كان فيها ما يصطاد سوى ما ذكرناه، فهذا ما يصرّح بالمقصود من السنن.
وأما ما يدلّ ويُرشِد، فقد قال الأئمة: إذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل حيوان، دلَّ ذلك على تحريم لحمه؛ من جهة إشعاره باستبقائه، وهذا كنهيه عن قتل النملة، والنحل، والخطاف والصُّرد، والهدهد.
ومما يُرشد أمره بقتل بعض الحيوانات. قالوا: ما أمر بقتله، فالأصل تحريمه، كأمره بقتل الفواسق، لأنه إنما يأمر بقتل المستخبثات التي لا تُقْتنى، ولو كانت مأكولة، لجاز إعدادها واقتناؤها، وتسمينها للأكل.
ومن الأصول التي يُرجع إليها في التحليل والتحريم ما يستطاب ويستخبث، وقد رأى الشافعي ذلك الأصلَ الأعظم، وأثبته بقوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}.
لكن الرجوع إلى طبقات الخلق عسر، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون يوجب اختلاف الأحكام في الحلال والحرام، وهذا يُخالف وضع الشرع في حمل الناس على متبوعٍ واحد إليه يرجعون، وبه يعتبرون، فكان الأقربُ تنزيلَ هذا على ما تستخبثه العرب وتستطيبه، ثم في ذلك متسع؛ فإنَّ العرب ليست أمة عائفة، وليس في مراجعتها ما يؤدي إلى ما يضيّق المطاعم، ولابد من حمل قوله سبحانه: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} على الاستطابة، وإلا يؤدي إلى الإجمال، ثم قد نراجَع في حيوان، فالأصل عرضه على هذه الأصول، فإن وجدنا له ثَبَتاً في أصلٍ، حكمنا فيه بموجب ذلك الأصل، وإن لم نجد ثبتاً في التحريم والتحليل، فَمَيل الشافعي إلى أنها على الإباحة إلى أن يلوح محرِّمٌ.
وميل أبي حنيفة رضي الله عنه إلى أنها على التحريم إلى أن يثبت محلّل.
هذا ذكر الأصول على الجملة.
11632- ونحن نذكر بطريق التفصيل ما يبيّن ويحوي إن شاء الله تعالى. فنقول: الكلام يقع في أقسام البهائم، والطيور، والحشرات، والجمادات. أما البهائم، فإنها تنقسم إلى الأهلي والوحشي، أما الأهلي من البهائم، فالحلال من جملتها النَّعم والخيل، فحسب. وقيل: كان لحم الحمر الأهلية في ابتداء الإسلام مباحاً فحرم، واستقرّ الشرع عليه، والأحاديث في ذلك معروفة.
وأما الوحوش، فيحرم منها كل ذي نابٍ عادٍ من السباع، والضبعُ مباحٌ بنص حديث جابر، والثعلب ملحق به عند الشافعي، وحكى العراقيون في ابن آوى خلافاً، وقطع المراوزة بتحريمه، وترددوا في ابن عرس، فحرمه محرمون تشبيهاً بجنس الفئران، وأحله الأكثرون إلحاقاً له بالثعلب.
واختلف الأصحاب في الهرة الوحشية، إن صح أنها جنس من الوحوش، فقد ظن الظانون أنها الهرة الأهلية تستوحش عند انجلاء أهل القُرى، وتتوالد، فإن كان كذلك، فلا شك في التحريم. أمَّا الدُّلدُل فقد كان شيخي يقطع بتحريمه ويلحقه بالخبائث، ولست أعرف فيه أصلاً يُرجع إليه على ثبت.
11633- أما الطيور، فيحرم كل ذي مخلب منها، ويحرم ما نهى الرسول عن قتله، كالخَطاف، والصُّرَد، وورد النهي عن قتل الهدهد، وقد نصّ الشافعي على أنه مفدّى بالجزاء في حق المحرم، وكل ما يفديه المحرم، فهو حلال الجنس، فتردد الأصحاب في تحليله لما نبهنا عليه. والبُغَاثة ألحقها الأصحاب بالحدأة، وهي ذات مخلبٍ ضعيف ولكنها حرية بأن تلحق بالحدأة. والنسور ملحقة بالعقبان، وإن قيل: إنها لا تصيد، فانها ذات مخلب.
وأما الغربان فقد عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفواسق، وقد ذكرنا أن الفواسق محرمة، فأجمع الأصحاب على تحريم الأبقع منها، وظهر التردد في تحريم غراب الزرع، والذي ذكره المعتبرون إلحاق الأسود الكبير بالأبقع، وفي طريق العراقيين طرد الخلاف فيما عدا الأبقع، وغراب الزرع منها غُبرٌ ليست كبيرة، ومنها المحمّرة المناقير والأرجل، وهي خارجة عن الخلاف.
وجنس الحمام حلال، والزرزور ملحق بالعصفور، وطير الماء حلال، والصَّعْوة من العصافير.
فهذا ما إليه الرجوع في الطائر، ولا يخفى تحليل النعام؛ فإنها مَفْديةٌ بالبُدْن، فأما اللَّقْلَق؛ فقد كان يتردد فيها شيخنا، وميله الأظهر إلى تحليلها، وإلحاقها بالكَرَاكِيّ.
11634- وأما الحشرات، فمحرمات، ما يدرج منها وما يطير، والضبُّ مستثنى من جملتها، وهو حلال أَكَلَه خالدُ بنُ الوليد على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه، وتردد الأئمة في أم حُبَيْن، وفي أخبار الجزاء أنها مفدية بحُلاّن، وما يُفْدَى محلل الجنس، وكان شيخنا يقول: ما أراها إلا ولد الضب، ولا ينبغي أن تُتَخَيَّل من العظاة؛ فإنها مستخبثة.
والفئرانُ من الفواسق، وهي محرمة: الكبير منها والصَّغير، وظاهر المذهب، تحليل اليربوع، وهو مفدَّى في أخبار الجزاء، وألحق أئمتنا السمّور والسنجاب وما في معناهما بابن عُرس، وقد ظهر ميلنا إلى إلحاقهما بالثعلب.
وذواتُ الأجنحة من الحشرات كالذباب محرمة، ولا يخفى تحليل الجراد وفي الصّرَّارة تردد، والأظهر إلحاقها بالخنافس والذِّبّان، وفي الأصحاب من ألحقها بالجراد، وهذا مزيف لا تعويل عليه.
وأما السلحفاة، فهي من المستخبثات، والقنفذ مما تردد الأصحاب فيه، وقد روي: "أن ابن عمر رضي الله عنه سُئِل عنه، فأباحه، واستدل بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، فقام شيخ في القوم، وقال أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها من الخبائث» فقال: إن قال، فهو كما قال " وهذا يشعر بتردد منه في قبول رواية ذلك الشيخ.
وقد استقصينا الكلام في الحيوانات المائية في آخر الصَّيد.
11635- أما الجمادات، فالنجس منها حرام، والطاهرات منها تنقسم إلى مستقذر وإلى غير مستقذر. فأمَّا ما لا يُستقذر، فينقسم إلى السموم وغيرها، فأما السموم؛ فإنها محرمة؛ من جهة أنها قتالة، ومتعاطيها ساعٍ في إهلاك نفسه، فلو تصوَّر شخص لا يضره تعاطي السم، فلا يحرم عليه، وغير السموم مباحة، وأما المستقذرات الطاهرة كالمني والمخاط، وما في معناهما، فالمذهب تحريمها وحكي عن أبي زيد قال: هذا استقذار، وليس بتحريم.
وقد انتهت مجامع المذهب فيما يحل ويحرم.

.فصل: معقود في الجلالة:

11636- وهو كل حيوان يتعاطى العَذِرة والأعيانَ القذرة، وهو مباح في جنسه، فإن لم يظهر أثر ما يتعاطاه على اللحم، ولا تَبينُ فيه رائحةٌ مستكرهة، فالحيوان حلال. وإن ظهرت الرائحة الكريهة على اللحمَ، فالمذهب تحريم اللحم، وفيه آثار تدل على التحريم، ولا تعويل على الاستكثار من النجاسة والاستقلال منها، وإنما التعويل على ظهور الرائحة، وذلك يبين عند الذبح.
والزروع إذا زُبِّلت بالزِّبل ودُمّلت بالعُرَّة، فقد يقدّر نمو الزرع من الأعيان النجسة، ولا أثر لذلك؛ من جهة أن أثر النجاسة لا يظهر.
وحكى الصيدلاني وجهاً عن طريقة القفال أن لحم الجلالة لا يحرم، وإنما يكره، وهذا ما قطع به العراقيون.
ثم قال الصيدلاني وغيره: إذا رأينا تحريم الجلاّلة، فلو منعت من تعاطي القاذورات، ورُدت إلى العلف النقي، فقد يزول ما بلحمها من أثر النجاسة، فإذا طاب لحمها، عادت إلى الحل باتفاق الأصحاب؛ فإن جنسها مستباح، وإنما التحريم بسبب ظهور أثر النجاسة، وإذا زال الأثر، فالحلُّ مستمر.
ولو ذبحت الجلالة، وقد نَتُن لحمها، فطبخ اللحم، وأزيلت الرائحة الكريهة، فلا تحل، وأثر الاغتذاء لا يزيله إلا الاغتذاء بالعلف الطيب في الحياة، والطرق متفقة على ذلك في التفريع على تحريم الجلالة.
ولو ذبحت الجلاّلة، ووقع الحكم بتحريم لحمها، فقد قال الصيدلاني: يطهر جلدها بالدباغ؛ فإن جلدها لا يزيد على جلد الميتة، فإن قيل: هلا حكمتم بطهارة جلدها بالذكاة قياساً على جلد الشاة المسمومة؟ قلنا: إن ظهرت الرائحة على الجلد، فهو محكوم بنجاسته على المذهب الأصح، نازل منزلة اللحم، وإن لم تظهر الرائحة على الجلد، وإنما ظهرت على اللحم-وهذا بعيد عن التصور- فإن تصوّر ذلك، احتمل أن يقال: يطهر الجلد بالذكاة، كما يطهر جلد الشاة المسمومة. ثم إن ظهرت الرائحة، ووقع الحكم بالنجاسة، فلو شمّس الجلد أو تُرِّب، فالرائحة تزول بهذه الأسباب، فلا يقع الحكم بالطهارة، كما لا يطهر اللحم بالقلي، وإن زالت الرائحة؛ فإن النجاسة التي تثبت مع الذكاة لا يزيلها إلا الدباغ الشرعي كما عرف وصف الدباغ.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أنه إذا وقع الحكم بنجاسة اللحم، نظر في الجلد، فإن ظهرت الرائحة عليه، حكم بنجاسته، ثم لا يطهره إلا الدباغ، وإن لم تظهر الرائحة على الجلد، ففيه تردد ظاهر مأخوذ من كلام الأصحاب، والأظهر الحكم بالنجاسة؛ لأنه جزء من اللحم مأكول على المسموط، فالحكم الواقع للحم ثابت له، وفيه الاحتمال الذي ذكرناه.
11637- ثم ذكر الأصحاب كلاماً في بيع الأشياء النجسة، وتفصيل الانتفاع بالنجاسات، وذكروا من جملتها الاستصباح بالزيت النجس وتصور غسله وكل ذلك مما تقصيناه في كتاب البيع والصّلاة، والقول في صحة البيع وفساده مذكور في كتاب البيع، والتعرض لكيفية غسل الزيت النجس، وتردد القول في إمكان غسله مذكور في كتاب الصلاة.

.باب: كسب الحجام:

11638- كسب الحجام حلال، ولو امتنع الاكتساب به مع مسيس الحاجة إليه، لجر ذلك ضراراً عظيماً، ولأفضى الأمر إلى احتياج ذوي المروءات إلى تعاطي ذلك لمسيس الضرورات، وتفاوت الناس في الدرجات مع اشتمال نفوسهم على القناعة بها مما منَّ الله تعالى به على عباده، في سياق قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32 الآية]. وقد صَحَّ:"أن أبا طيبة كان يحجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الرسول عليه السلام يعطيه أجرته " ونقلُ جواز ذلك تكلّفٌ، ولكن وَرَد في الخبر والأثر ما يدل على الكراهية. وروي:"أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام، فنهاه، فراجعه، فقال: أطعمه عبيدك، وأعلفه ناضحك " وروي:"أن عثمان رضي الله عنه سأل رجلاً عن معاشه، فذكر كسب حجام أو حجامين، فقال عثمان: إن كسبكم هذا لوسخ " وعن أحمد بن حنبل أنه قال:"هو حرام على الأحرار وإنما يطعم العبيد وتعلف الدواب به، كما ورد في الخبر".
وحظ الفقه من الباب أن الاكتساب بهذا وإن كان حلالاً، فلا ينبغي للإنسان أن يرغب فيه مع قدرته على نوعٍ آخر من الكسب، ولو لم يكن فيه إلا مجانبة المروءة، لكان في هذا مَقْنع في تثبيت الكراهية، وما ذكرناه لا يختص بكسب الحجام، بل تعاطي القاذورات ومخالفة المروءات كلها بهذه المثابة.

.باب: ما لا يحل أكله، وما يجوز للمضطر من الميتة:

11639- أكل الميتة حرام على المختار، وليس محرماً على المضطر. والميتة هي البهيمة التي ماتت من غير اتصال ذكاة شرعية بها، فلو ذكاها من ليس من أهل الذكاة، فهي ميتة، ومن أحاط بالأصول التي قدمناها، لم يحتج إلى تفصيلٍ في ذلك.
وإذا ذُكيت الأم ذكاةً مبيحة، وكان في بطنها جنين، فالجنين مستحَلّ، لا كراهية في أكله، والمعتمد في تحليله الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد الخدري، قال: قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة، فنجد في بطنها جنيناً، فنلقيه أم نأكله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوه؛ فإن ذكاة الجنين ذكاةُ أمه» ثم الجنين في الحل والحرمة يتبع الأم، وإن كان لا يختلف حاله: ذكيت الأم أو وُقذت. ولو بقر بطن الأم بعد الذكاة والجنين في حركة المذبوح، فهو حلال، وإن كان فيه حياة مستقرة، فلابد من ذبحه.
وكان شيخي أبو محمد يقول: لو كان الجنين لا يحل بذكاة الأم، لما جازت ذكاة الأم مع ظهور الحمل، كما لا تقتل المرأة قصاصاً وفي بطنها ولد، فأُلزم عليه ذبحَ رَمَكة في بطنها بغلة، فمنع ذبحها، وهذا محتمل. وما ذكره رضي الله عنه ظاهر.
11640- فإذا نجز هذا، خضنا بعده في تفصيل مقصود الباب، فنذكر الضرورة التي يجوز استباحة الميتة بسببها، ثم نذكر ما يستباح عند الضرورة، فلا خلاف أن الحاجة لا تكفي، والجوع المفرط، وإن انتهى إلى السغب لا يبيح المحرّمَ، وأطلق الفقهاء الضرورة، وفسّروها بخوف الموت، وهذا التفسير مستقيم حسن، ولكن الغرض لا ينكشف بهذا المقدار.
وقد فصَّل المحققون على وجه آخر، فقالوا: إن كان يخاف من ترك الأكل الموتَ، أكل، وإن كان يخاف من ترك الأكل مرضاً يخاف منه الموت لا لطوله ولكن كان جنسه مخيفاً، فيسوغ أكل الميتة، وإن كان يخاف من ترك الأكل مرضاً طويلاً، ثم طولُه وتماديه يفضي إلى الخوف، ففي استباحة الميتة-والحالة هذه- قولان، وهذا ترتيب حسن.
ويخرج من مجموعه أنا لا نشترط العلم بالموت لو ترك الأكل، بل غلبة الظن كافية، والدليل على ذلك أن المكره على أكل الميتة يأكلها إذا ظن وقوعَ ما به التخويف به، ولا يشترط أن يعلم هذا، فإنه لا مطلع على الغيب. وجملةُ جهات الإكراه مستندها ظنٌّ غالب.
فخرج منه أنه إن ظنّ الموت، أو ظنّ مرضاً يظن منه الموت، فيستحلّ، وإن خاف مرضاً طويلاً والخوف في طوله، فليس الخوف هاجماً، وإذا طال المرض، لم يبعد علاجه، وإنما المخوف الأمراض الحادة.
ولا حاجة مع ما نبّهنا عليه إلا إلى مزيدٍ به التمام، فنقول: لا يشترط أن ينتهي إلى حالة يكون فيها مشرفاً على الموت؛ إذ لو أشرف عليه، لم ينعشه الطعام، ولم ينجع فيه ما يتعاطاه، فينبغي أن نبيح له الأكل وهو على حالة لو أكل لاستبلّ وانتعش، وإذا لم يكن من هذا بد، فلا يكون المضطر مشرفاً على الموت، بل يكون مشرفاً على الإشراف على الموت لو لم يأكل، فهذا بيانٌ كامل في الضرورة ومعناها.
ثم الذي ذهب إليه المحققون أن الضرورة إذا تحققت، وجب أكل الميتة، وما ذكرناه من الاستحلال جريانٌ منا على ما يتداوله الفقهاء فيما بينهم ومن دأبهم إذا ذكروا ما يحرم، ثم طرأت حالة تناقض التحريم، عبروا عن نفي التحريم بالحل، وإلا فالواجب لا يوصف بالحل.
وذكر العراقيون ما ذكرناه، واختاروه، ثم ذكروا وجهاً غريباً أنه يجوز للمضطر أن يمتنع عن أكل الميتة، ويستسلم للمهلكة، وزعموا أن هذا يُخرَّج على أحد القولين في جواز الاستسلام.
وهذا بعيد جدّاً، ووجهه على بعده أن المضطر قد يتردد في درك حد الضرورة، فلا يأمن أنه لم ينته إليها، ولا يزال كذلك حتى يموت، أو يقع في حالة لا ينجع معها أكلُ الميتة، ولو اتفق ذلك لا يحل أكل الميتة؛ فإنه غير ناجع، وأكل الميتة إنما يحل لدفع الضرورة، فيكون تردد صاحب الضرورة في أمره كتردد من صال عليه إنسان في القدر الذي يدفعه به، مع حكم الشارع بوجوب الاقتصار على قدر الحاجة في الدفع.
11641- ثم يتنشأ من هذا المنتهى أمر تناهينا في تقريره في كتاب الأشربة، وهو الكلام في التداوي بالنجاسات، ووجه ربطها بهذا المنتهى أن الضرورة إذا وقعت وغمض مُدرك اندفاعها بتعاطي النجاسة، فهل يحل تعاطيها، أم كيف السّبيل فيها؟ فقد تقرّر هذا على أحسن وجه، والخمر حيث تستيقن لدفاع الضرر كالميتة، فإن من غُصّ بلقمةٍ، ولم يكن معه ما يُسيغها، فوجد جرعة من خمرٍ؛ فإنه يتعاطاها.
والوجه البعيد الذي حكيته عن العراقيين في أن تعاطي الميتة لا يجب، لا يخرج هاهنا عندي؛ فإني وجهت ذلك الوجه بالتردد في دفع الضرر، وإساغة اللقمة معلومة وإن كان لا تسوغ إلا بتبلع الخمر أيضاً. هذا ما أراه، ولا تفريع على الضعيف.
وإن كنا لا نستيقن اندفاع الضرر بتعاطي الخمر، فعند ذلك ذهب الجمهور إلى منع استعمال الخمر علاجاً وقد ذكرت هذا؛ فلا أعيده.
ومن انتهى به العطش إلى الضرورة، تعاطَى الخمرَ؛ فإنها تُسكِّن العطش، ولا يكون استعمالها في حكم العلاج. ومن قال: الخمر لا تُسكِّن العطش، فليس على بصيرة، ولا يعد مثل هذا مذهباً، بل هو غلط ووهم آيلٌ إلى الحس، ومعاقر الخمر يجتزىء بها عن الماء.
11642- فأما الكلام فيما يستباح عند الضرورة، فالأشياء النجسة إذا كانت تدرأ الضرورة، تستباح عندها، وإن تحققت الضرورة، ووقع النظر في اندفاعها عند استعمال النجاسة، وقع الكلام في العلاج، وقد تقدم شرحه.
ويجوز تعاطي ميتة الآدمي، وإن تُعبدنا باحترامها؛ فإن مهجة الحي أولى بالاحترام من جثة الميت.
ولا يجوز للمسلم المضطر أن يقتل ذمياً ويأكله، لأنه معصوم الدم على التحقيق، وكذلك المعاهد، ولا يجوز له أن يأخذ طعامهما في حالة الضرورة، وهما مضطران إليه، وله أن يقتل حربياً ويأكله، وكذلك القول في الزاني المحصن، والمرتد، وتارك الصلاة، ومن تعين عليه القتل، وكنا نمنعه من تعاطي قتل هؤلاء تفويضاً إلى الإمام، وتعلقاً بتعظيمه، وهذا القدر لا يستقلّ بإثارة التحريم عند تحقق الضرورة.
ولو وجد حربية، وهو مضطر، فالظاهر عندنا أنه يقتلها ويأكلها؛ فإنَّ منع قتلها في غير حالة الضرورة ليس لحرمة روحها؛ بدليل أن قاتلها لا يلتزم الكفارة، بخلاف قاتل الذمي والمعاهد.
ولا يقتل السيد المضطر عبدَ نفسه؛ لأنه يلتزم الكفارة بقتله، والعصمة ثابتة له عن السيد قطعاً.
ولو أراد المضطر أن يقطع فِلقة من نفسه ليأكلها ويسدَّ بأكلها رمقه، نظر: فإن كان يتعرض بذلك القطع لما هو متعرض له في ضرورته أو لخوفٍ أشد منه، فليس له ذلك، وإن كان لا يظهر الخوف في القطع، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز ذلك، كما لا يجوز أن يقطع فِلقة من غيره في مثل هذه الصورة، وهو معصوم.
والثاني: يجوز؛ لأن حرمة بعضه ثابتة لحرمة نفسه، فإذا قصد تداركَ الجملة بالبعض، فهو قريب من مصالح الشرع، وليس هذا كقطعه من غيره؛ فإن الغير ليس منه، وهو معصوم عنه، وما يُفرض من القطع مما يوجب القصاص لو أفضى إلى الهلاك.
وليس للإنسان أن يقطع من نفسه فِلقة ويؤثر بها رفيقَه المضطر.
11643- ومما يستبيحه المضطر مالُ الغير، فله أن يأكل عند الضرورة طعامَ الغير، إذا لم يكن صاحبه مضطراً؛ فإن منعه صاحب الطعام، فله أن يغالبه عليه، ثم ينتهي الكلام بينهما إلى الأصل المشهور في أنه في قصده محقٌّ، وصاحب الطعام في منعه مبطل، فلو تناوشا قصداً ومنعاً، فأدّى ما يجري بينهما إلى هلاك صاحب الطعام، فهو هدر؛ فإنه مقتول بحق. ولو أدى المنع إلى هلاك القاصد، فهو مضمون بالقصاص؛ من جهة أنه مقتول ظلماً.
ولو كان صاحب الطعام حاضراً، وكان لا يدفع عن طعامه، فلا شك أن الذي يقتضيه أدب الشرع أن يستأذن، وهل يشترط ذلك في الاستباحة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يشترط؛ لأنه إنما يظهر اشتراط الإذن، حيث يقدّر التحريم لو عدم الإذن، وإذا كان هذا الطعام مأخوذاً على كل حال، فلا معنى لاشتراط الاستئذان فيه.
والوجه الثاني- أنه يجب الاستئذان، ويحرم الطعام دونه، كما لو ظفر الرجل بمال من يستحق عليه الدين، فليس له أخذه ما لم يظهر له امتناعُ مَنْ عليه الدين من أدائه، فإذا امتنع أو كان غائباً، فقد يتسلّط على أخذه.
ولو قال صاحب الطعام: أنا أبيع منك طعامي هذا، نُظر: فإن باعه بثمن المثل، فلا يأخذه إلا بالبيع، وإن باع بثمن غالٍ، فهل له أن يأخذ قهراً؟ قال الأئمة: له ذلك؛ فإن الزيادة على الثمن لا تنضبط وقد يبيع-لو فتحنا هذا الباب- ما يساوي درهماً بألف أو أكثر.
ولو تمكن من سلب الطعام منه قهراً، فاشترى منه بالثمن الغالي، فالبيع صحيح، وإن لم يمكنه أن يقهره، فاشترى بالثمن الغالي، هل يكون مكرهاً، حتى لا يصح الشراء؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يكون مكرهاً، وهو الأقيس، لأنه لم يجر إكراه حقيقي على البيع، بل حَمَله على الإقدام عليه ضرورةٌ ناشئةٌ منه. والوجه الثاني- أنه مكره؛ لأنه لا محيص له من طلب الطعام، ولا وصول إليه إلا بالابتياع، فهو محمول عليه قهراً، والمصادَرُ إذا باع على الضرورة لدفع الضرار الذي يناله، ففي صحة البيع الخلاف الذي ذكرناه.
وقد يظن الظان فرقاً من جهة أن الإرهاق على المصادَر من جهة مطالبة، والضرورة في المضطر ناشئة من جبلته، وهذا قد يوجب ترتيب مسألة على مسألة، ولكن صاحب الطعام بالامتناع عن البذل بثمن المثل في حكم المصادر، ومع هذا يبقى خيالُ الفرق.
11644- ولو اضطر الإنسان، فأوجره صاحب الطعام طعامَه، فهل يستحق عليه قيمتَه، أم لا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يستحق؛ لأنه لم يوجد من الموجَر المضطر طلبٌ، ولا تناول. والوجه الثاني- أنه يرجع عليه بالقيمة، لأنه خلصه عن الهلاك، فصار كما لو عفا عن القصاص، وفي إثبات القيمة له تحريض على تدارك المضطرين، وفي إحباط طعامه منع لذلك.
11645- فأما الكلام في المقدار الذي يتعاطاه المضطر من الميتة، فالوجه أن ننقل ما ذكره الأصحاب، ثم نجري على عادتنا في البحث، ذكر الأئمة ثلاثة أقوال في المقدار الذي يتعاطاه المضطر: أحدها: أن يقتصر على سَدِّ الرمق، ومعناه أن ينتهي إلى حالة لو كان عليها في الابتداء، لما جاز له الإقدام على أكل الميتة، ووجهه أن الضرورة تزول بما وصفناه، والتمادي في أكل الميتة مع زوال الضرورة بعيد، وكل لقمة يتعاطاها في حكم أمرٍ منشأ يبتديه، والإقدام من غير ضرورة على ابتداء أكل الميتة بعيد.
والقول الثاني- أنه يجوز له أن يشبع من الميتة، وتوجيه هذا عسر على هذا الترتيب إلى أن نبيّن وجه الحق، ثم هذا القائل لا يعني بالشبع أن يمتلىء حتى لا يبقى للطعام مساغ، ولكن إذا انكسرت سورة الجوع بحيث لا يطلق عليه اسم جائع، فينتهي وينكف.
والقول الثالث: أنه إن كان في مهمهٍ بعيدٍ عن العمران، فيشبع، ليقطع المهمه، وإن كان يقرب من البلد، فيقتصر على سد الرمق.
11646- هذا ما أطلقه نقلةُ المذهب، واعتقدوا المسألة مختلفاً فيها، وجَروْا على سجيتهم في توجيه قول على قول، والذي يجب القطع به عندنا أنه إذا صار في دوام أكل إلى حالةٍ لو كان عليها في الابتداء، لما جاز له الأكل من الميتة، فلا يجوز والحالة هذه تجويز استدامة الأكل، ومن تخيّل فرقاً، فليس على حظٍّ من الفقه، وحق الإنسان أن يرد فكره وطلبه إلى المَيْز بين ما يمكن تقدير الخلاف فيه، وبين ما يجب القطع به، فالوجه أن نقول: أكلُ الميتة إنما أثبت للخلاص، وليس سبيله كسبيل الترفّه والتلذذ، أو كسبيل طلب الزيادة في الأَيْد والقوة، ثم يجب أن يتصور الناظر ما منه الخلاص؛ فإذا فهمه على وجهه، فهم الخلاص.
فلسنا ننكر أن الموت مما يتعلق به الفكر في المعنى المطلوب، وقد أوضحنا في الفصل الأول أنا لا نشترط العلم بالموت ووقوعِه لو فرض تركُ الأكل، بل يكفي الظن، فهذا ما قدمناه، وفصّلناه، ونحن نضم إلى ما تقدم ما لابد منه، ولا يتم الكلام إلا به فنقول: ظن الموت إذا وقع على وجهه، فصَدَرُه عن معرفةٍ بأسباب الموت وعلاماته، وربما لا يحصل الظن على هذا الوجه إلا لأفرادٍ يرجعون إلى حاصلٍ في الأَعْلال، وفي علامات الحال، وفيما يشير إليه من متوقّعات المآل، فما أرى الظن على هذا الوجه شرطاً، وبعد ذلك أمران يجب الإحاطة بهما:
أحدهما: أن الظن قد يستند إلى مبادىء الأمور من غير بصيرة، فإذا فرض مثله، وجب القطع بجواز تعاطي الميتة، فإنَّ البصيرة في ذلك يختص بها خواص الناس، فلا نُهْلِك عوامهم بسبب الخلو عن البصيرة. هذا أحد الأمرين.
والثاني: أنَّ الظنّ من ضرورته أن يميل فيه العقد إلى أحد المعتقدَيْن، ويترجح تعلقه به على تعلقه بالثاني، وهذا يستدعي سبباً لا محالة؛ فإنَّ الظنَّ لا يغلب من غير سبب، فلو اعترض حال، وكان صاحبها يجوّز أداءها إلى الموت، إن لم يأكل الميتة، ويجوّز السلامة، ولم يترجح أحدُ المعتَقَدين على الثاني، فالتردد مع ما جبلت النفوس عليه من حب البقاء يجرّ خوفاً، وهذا الخوف لا مستند له من ظن، فالذي أراه القطع بأنه يجوز لمن هذا وصفه أن يأكل الميتة، وهذا شخص لم يعلم إفضاء ما به إلى الموت لو ترك الأكل، ولم يظن أيضاً، والرأي إطلاق الأكل له؛ فإنا لو منعناه من الأكل حتى يعلم أو يظن، فربّما يهلك في تربّصه، وطلبِه العلمَ أو الظن، ومحاماة الشرع على المُهَج عظيمة.
فإن طلب طالب تلقِّي هذا من قول المشايخ، فهو صريح في كلامهم، فإنهم جوّزوا أكل الميتة عند الخوف من الموت، وهذا خائف حقاً، والأكل منوط بالخوف، وقد ظهر اختلاف القول في أن من رأى سواداً فحسبه عدواً، وصلى صلاة الخوف، ثم تبيَّن له أن الأمر على خلاف ما ظنه، فهل يلزمه القضاء، والذي نحن فيه ليس من ذلك القبيل؛ فإن أثر البناء على حقيقة الحال في إيجاب قضاء الصلاة، ومثل هذا لا يفرض في المُهَج؛ فإنّها إذا فاتت، لم تستدرك، بل ما نحن فيه يناظر جواز الإقدام على الصلاة راكباً إذا ظهر الخوف، وذاك لا خلاف فيه، إنما الخلاف في وجوب القضاء، وإذا جوزنا الإقدام على أمر، ولم يكن بعده مستدرك، فليس إلاَّ الحكم بالإباحة.
فإذا تبيّن ما ذكرناه، فالإقدام في الابتداء موقوف على العلم، أو على الظن، أو على الخوف؛ فإن انقطعت هذه الأسباب في دوام الأكل، فلا يجوز أن يكون في تحريم التّمادي خلاف.
11647- وقد يطرأ وراء ذلك كلِّه أمرٌ آخر، وهو أن هذه الأسباب لو انقطعت، وكان الرجل في مهمهٍ لا يملك بما أكله قدميه، ولا يستقل في جَوْب البرّية، وهذا يجر خوفاً آخر؛ فإذا كان يخاف من البقاء في البرّية الهلاكَ من وجه من الوجوه، فليأخذ من الميتة ما يقوّيه على الخلاص من الهلاك، ولا يجوز أن يكون في ذلك خلاف، ولا يجوز أن يكون في هذا فرق بين الابتداء والدوام.
ولو لم يكن عليه في المقام خوف من جهة، ولكن علم أنه لو اقتصر على ما يزيل الخوف، لما استقل، وسيعود إلى الخوف، ثم يأكل على الحد الأول، ثم يعود كذلك، حتى يستنفد الميتة، ثم يضيع، ويهلك، فهذا يُحوج إلى مزيد تفصيل: فإن كان الحاضر من الميتة بحيث يزيل خوفه مرتين، ولا يقيم أودَه، ولا يُقلّه، ولو تعاطى جميعه، لاستقلّ ومضى، فلا يجوز أن يكون في هذه الصورة خلاف أيضاً، والوجه أن يستوعب ويستقلّ وينهض.
وإن كان الحاضر من الميتة بحيث يكفي لسد الرمق مراراً، ويفضل في الكرة الأخيرة ما يفيد الإقلال والاستقلال، وكان يخطر له معونة-على بعد- وطروق طارق لو اقتصر على سد الرمق، وكان الظاهر أن يحتاج إلى عودات إلى الاستيعاب، فهل يأخذ في أول الأمر أكلةً يستقل بها ويمضي، أم يقتصر على سد الرمق حتى ينتهي إلى مقدار أكلة مقلّة؟ هذا موضع التردد: يجوز أن يقال: يأخذ أكلة ويستقل، ولا يبني على توقع طارق على بعد، ويجوز أن يقال: يقتصر على سد الرمق، فعساه يتخلص، ثم إذا لم يبق إلا أكلة مقلة، فيجب القطع بأنه يتمادى فيها؛ فإنه لو قطعها، لفاته الاستقلال، فهذا منتهى البيان في ذلك.
ولست أدري على ماذا تحمل الأقوال المطلقة المحكية عن الأصحاب، ولا يجوز أن يكون الأمر على خلاف ما رتبناه، ونزّلناه، وما نصَّ الشافعي على قولين، ولا على أقوال مجموعة، ولكن نظر الناظرون في تردُّدٍ صادفوه في كلامه، فحسبوه ترديد قول، وإنما هو ترديد حال.
11648- ثم إن الأصحاب ذكروا طرقاً في وجدان الرجل طعاماً مملوكاً للغير، فقال قائلون: نقطع بأنه يقتصر منه على سدّ الرمق؛ فإن الحق فيه للآدمي، والحق في تحريم الميتة لله تعالى، وحق الله على المساهلة. ومنهم من قلب الترتيب، وقال: يزيد على سد الرمق في الطعام المملوك للغير؛ فإنه مباح الجوهر، ولا يفوت حق الآدمي من المالية، ومنهم من أجرى الأقوال كلها. وكل ذلك تخليط ما لم يُنَزَّل على الترتيب الذي ذكرنا، حتى إذا انتهى الترتيب إلى صورةٍ قدرنا فيها خلافاً، فيجوز أن يختلف الرأي في طعام الغير على حسب ما نقلناه.
فرع:
11649- إذا وجد المضطر ميتة وطعامَ الغير، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يتعاطى طعامَ الغير.
والثاني: أنه يتعاطى الميتة، والوجهان مأخوذان من التردد الذي حكيناه للأصحاب في ترتيب المذهب، وهما مستندان إلى القول في اجتماع حق الله وحق الآدمي. والوجه الثالث: أنهما يستويان، والمضطر بالخيار فيهما، وهذا يخرج على مذهب للأصحاب في أنه إذا اجتمع دَيْنُ الله ودَيْنُ الآدمي، فهما مستويان لا يتقدم أحدهما على الثاني، وهذا يُخَرَّج على مذهب من أجرى الخلاف في طعام الغير على حسب إجرائه في الميتة.
11650- ولو كان المضطر مُحْرِماً وقد استمكن من صيد، وبالحضرة ميتة، قال الأئمة: إن قلنا: المحرِم لو ذبح صيداً يكون ميتة، وفيه قولان مشهوران، فهاهنا حق عليه أن يجتزىء بالميتة، ولا يذبح الصيد؛ فإنه لو ذبحه، لكان ميتة، وهو يحتاج في التوصل إلى تحصيل هذه الميتة إلى ارتكاب محظور القتل.
وإن قلنا: الصيد لو ذبحه المحرم، فهو ذكية، وإن كانت محرّمة على المحرِم، فقد قال الأصحاب: الميتة والصيد على هذا القول بمثابة الميتة وطعام الغير، وهذا فيه نظر؛ فإنّ التردّد أي في طعام الغير من جهة تردد النظر في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي، وهذا المعنى مفقود في هذه الصورة؛ فإن الحق في الصيد لله تعالى، ولو كان قَتَل المحرمُ قبل الضرورة صيداً، فاضطر ولحم الصَّيد عتيدٌ، وعنده ميتة، فلا يجوز أن يكون في تقديم الصَّيد على الميتة خلاف، إذا كان التفريع على أن الصَّيد ليس بميتة، فإذا كان الصَّيد حيّاً، بقي النظر في أن الميتة مجزئة سادَّة أو مقلّة، وهو يحتاج في الصيد إلى قتلٍ هو من المحظورات، فإن كان يفرض تردد، فمن هذه الجهة، وهو عندي باطل أيضاً؛ فإن قتل الصيد مع التزام الجزاء محتمل إذا كان التفريع على أنَّه ذكية وليس بميتة.
ولو وجد طعام الغير وصيداً، وهو محرِم، فقد قال الأصحاب: في المسألة وجهان:
أحدهما: أنه يتعاطى طعام الغير، ويجتنب قتل الصّيد.
والثاني: أنه يقتل الصَّيد، والتفريع على أنه لا يصير ميتة، وهذا الخلاف ينقدح تخريجه على اجتماع حق الله وحق الآدمي، ويظهر فيه التخيير تخريجاً على التسوية بين حق الله وحق الآدمي.
وإن فرعنا على أن الصيد يصير ميتة بذبح المحرِم، فيقع هذا في اجتماع الميتة وطعام الغير، مع زيادة ارتكاب القتل، ثم بعده وصول إلى الميتة، وهذا يخرج أيضاً على الأوجه الثلاثة على نسق قريب مما تقدم.
ولو وجد المحرِم صيداً وطعامَ الغير وميتةً، فلا يكاد يخفى تخريجُ هذه المسألة على الأصول التي ذكرناها، ولكن إذا انتظم في شيئين ثلاثةُ أوجه، فإذا صوّرنا اجتماع ثلاثة أشياء، جرى فيها أوجه زائدة، وقد بلغت سبعة: وأصولها أنا نقول في وجهٍ: الميتة أولى، وفي وجهٍ الصَّيد، وفي وجه طعام الغير، فهذه الأوجه هي الأصول، ثم يتفرع جهات من الخِيرة، فنقول: وفي وجه هو مخَيّر بين الميتة ومال الغير، ويترك الصَّيد، وفي وجه هو مخيّرٌ بين الصيد ومال الغير ويترك الميتة، وفي وجهٍ يتخير بين الصيد والميتة، ويترك مال الغير، وفي وجهٍ يتخير بين الكل. وهذا سهل المدرك على من أحكم الأصول.
وقد انتجز القول فيما يتعاطاهُ المضطر على مساق في الإيجاز والبيان لا يعهد مثله.