فصل: باب: الاستبراء من كتابي الاستبراء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الاستبراء من كتابي الاستبراء:

قال الشافعي: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أَوْطَاس... إلى آخره".
9960- الباب المتقدم كان مقصوراً على طريان العتق على أمهات الأولاد أو الإماء الرقيقات، ومضمونُ هذا الباب في الاستبراء الذي يجب على من يتملك جارية، ويحاول استباحتَها بملك اليمين، وقد تجري مسائلُ يمتزج فيها مضمون البابين.
والأصل الذي عليه التعويل في هذا الباب أن من يثبت له ملك على رقبة جارية بشراء، أو اتهابٍ، أو وصية، أو إرثٍ، أو بسبي واسترقاق، فإنها لا تحل له حتى يستبرئَها، ثم ما يجري الاستبراء به قد مضى مستقصًى في الباب الأول، فلا حاجة إلى إعادته.
والأصل في الاستبراء نداءُ منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المسبيات، ثم أجمع العلماء قاطِبةً على أن كلَّ مِلكٍ متجدد-في اقتضاء الاستبراء- ينزل منزلة الملك الثابت على رقبة المسبية، ثم الاستبراء الثابت في هذا الفن يجبُ سواءٌ كانت المملوكةُ بكراً أو ثيباً، صغيرةً أو كبيرة، حاملاً أو حائلاً، وسواء ترتب الملك على شُغل سابق، أو حصل غيرَ مرتبٍ على شغل، فمن اشترى جارية من امرأة، أو من صبي لا يطاُ مثلُه، أو من رجل وما كان وطىء فعليه الاستبراء.
فإن جرى استبراء قبل البيع، فذلك الاستبراء لا أثر له في الاستبراء الواجب بسبب الاستباحةِ بملك اليمين، وقد قدّمنا في الباب الأول أن الاستبراء الجاري بالملك السابق هل يسلِّط المشتريَ على التزويج؟ فذاك الخلاف في التزويج، ولا خلاف بين الأصحاب في أن المشتري لو أراد استباحتها بملك اليمين، فالاستبراء الذي مضى قبل البيع لا يغني عنه شيئاًً، فليمثِّل الناظر الفرقَ بين البابين في نفسه؛ فإن التزويجَ مبناه على الشغل والبراءة، والاستبراءُ الواجب على المستبيح بملك اليمين مبناه على تجددِ الملك لا غير.
ومن هذا الوجه يتأكد التعبدُ في هذا النوع من الاستبراء؛ فإنه غير مربوط بشغلٍ سابق، بخلاف العدة المترتبة على فراق يجري في الحياة؛ فإنها لا تجب إلا بوطء، كما تمهد موضوع العدة.
ثم أوضح الأصحاب هذا الأصل بتصوير أملاك متجددة قد يستبعد المبتدىء وجوبَ الاستبراء عندها، فلو اشترى رجل جارية واستبرأها، ثم باعها، واستقال البيعَ بعد زوال الملك، فعليه أن يستبرئها مرةً أخرى، سواء قلنا: الإقالةُ فسخ أو بيع، فكل ما يجدد الملكَ، سواء كان بيعاً أو فسخاً؛ فإنه يوجب على من يبغي الاستباحة بالملك استبراءً جديداً، وسنعود إلى تقرير ذلك من بعدُ، إن شاء الله.
9961- فإن قيل: هل يُتصورمسلك يسقط الاستبراء ويسلّط على الوطء دونه؟ قلنا: نذكر حكايةً مستفادة جرت للرشيد مع أبي يوسف، ونستاق الحكاية على وجهها، ثم نأخذ في أصلٍ من أصول الباب يشتمل على الجواب عن إمكان إسقاط الاستبراء.
قيل: عُرضت جوارٍ على الرشيد، فوقعت واحدة منهن الموقعَ، فحَرَص على الإلمام بها قبل الاستبراء، فراجع العلماء في إمكان ذلك، فلم ير واحدٌ منهم مسلكاًَ يُسقط الاستبراءَ، وكان أبو يوسف في أخريات القوم، فقال: يا أمير المؤمنين لو رُفع مجلسي، فرفع على الكل، فقال: يا أمير المؤمنين، سيدها يزوّجُها، ثم تشتريها مزوَّجةً، فيطلقها الزوج، فتحل لأمير المؤمنين من غير استبراء.
وروي أنه قال: يزوجها أمير المؤمنين من بعض خدمه، ثم يأمره بتطليقها، فتحل له من غير استبراء، وقد شَهرَ أصحابُ أبي حنيفة الهارونية بين أظهرهم، واختلفوا فيها، فقال بعضهم: الهارونية هذه، ومضمونها التسبُّبُ إلى إسقاط الاستبراء.
وقيل: الهارونية مسألة أخرى، وهي أن الرشيد غاظه شيء من بعض حظاياه، وكانت في بيتٍ، فحلف لا تخرج منه، وراجع العلماءَ، فلم يجدوا للبرّ موضعاً، فقال أبو يوسف: الوجه أن تضرب عليها خيمةً تسترها عن الغِلمة، ثم تنقض البيتَ، فتخرج، ولا يحنث أمير المؤمنين، فإنها لا تكون خارجة من البيت المشار إليه.
وقيل: الهارونية مسألة أخرى، وهي أنه نظر إلى الجواري اللواتي خلّفهن عليه أبوه، فمال إلى واحدة منهن، فذكرت أن أباه كان أصابها، فازداد حرصاً عليها، ولم يؤْثر اقتحام الحرمة، فقال أبو يوسف: لا يقبل قولُها فيما ادّعته من الإصابة.
قال أئمتنا: أما مسألة اليمين المعقودِ على المنع من الخروج من البيت، فجوابنا فيها جوابُ أبي يوسف والسبب فيه أن الحنث والبرّ معقودان على البيت، وفي هذه انعدامُ متعلّقِ اليمين برّاً وَحِنثاً، فلا وجه إلا ما قاله أبو يوسف.
وأما ادعاء الجاريةِ إصابةَ الأب، فجوابنا يوافق جوابَ أبي يوسف؛ فإن الأصل عدمُ الإصابة، والملك على الجملة مسلّط، فلا يقبل قولُها.
ولا يخفى سبيل الورع على من يحاوله، ثم للتورع درجات مأخوذة من غلبات الظنون، فمهما اقتضى ظاهر الشرع رفعَ الحظر، وغلب على الظن بسببٍ خفيٍّ محرِّمٌ، فلا حظر، ولكن الورع الاجتناب.
ثم ترتب الدرجات في الورع على حسب ترتب الظنون، وإلى هذا أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إذْ قال عليه السلام في القصة التي ستأتي في كتاب الرضاع: "كيف وقد زعمت السوداء أنها أرضعتكما "؟ والذي يمهد ما ذكرناه في الورع تأصيلاً وتفصيلاً قول المصطفى عليه السلام: «استفت قلبك وإن أفتاك المفتون» وهذا منه صلى الله عليه وسلم إحالةٌ للمتورّع على غلبات الظنون.
9962- وأما مسألة إسقاط الاستبراء، فإنها عسرة الخروج على مذهبنا؛ فإن اشترى الرجل جارية، لم يملك تزويجها؛ حتى نبني عليه سقوطَ الاستبراء، وقد قدمنا في الباب قاعدةَ المذهب، في أن التزويج يستدعي ترتباً على استبراء، ثم ذلك الاستبراء هل يشترط جريانه في ملك المزوّج، أم يكفي جريانه في ملك البائع؟ فيه تردد مهدنا أصلَه، وأوضحنا تفريعه.
وأبو حنيفة يجوّز للذي يطأ مملوكة نفسه أن يزوجها عقيب الوطء، وهذا من فَضَحات مذهبه. وإن صورنا التزويج من ملك الجارية قبل بيعها، فشرط تصحيح التزويج تقدم الاستبراء منه أيضاًً.
ثم لو كان تَقَدَّم الاستبراء منه، ثم زوج، واشتراها مَنْ طلبها مزوّجةً، وطلقها الزوج، ففي هذا اختلاف نصوص، واضطراب الأصحاب في الترتيب، وهو من أقطاب الباب.
وإن قال من يريد البيع والتزويج: قد استبرأتُها، فينقدح قبولُ قوله، ومن هذا الطرف ينتصب حيلةً على قولٍ سنصفه في إسقاط الاستبراء.
9963- ونحن الآن نخوض مستعينين بالله تعالى في هذا الأصل، وننقل ما فيه من النصوص، ونذكر اختلاف الأقوال، ولا يصفو الأصلُ ما لم نُجرِ وجوهاً من الانعطاف عليها عوداً على بدء، فنقول: نص الشافعي في الأم على مسألتين، وأجاب فيهما بجوابين ظاهرهما الاختلاف والتناقض.
ونص عليهما في الإملاء، وأجاب فيهما بجوابين على الضدّ من جوابيه في الأم.
قال في الأم: "من اشترى جارية معتدة عن زوج، أو اشتراها وهي مزوجة، ثم طلّقها زوجُها، فاعتدت إن كانت ممسوسة، أو تخلّت من غير عدة إن لم تكن ممسوسة، فليس على المشتري استبراء مقصود؛ فإذا انقضت بقية عدة الزوج، حلّت للمشتري، وإن تخلّت عن النكاح من غير عدة، حلت له من غير استبراء " هذا نصه في إحدى المسألتين.
وقال في الأم أيضاً: "لو زوج السيد أمته حيث يصح تزويجها، فطلقها الزوج بعد المسيس، واعتدت، فعلى السيد أن يستبرئها بعد العدة، لا تحل له إلا باستبراء مقصود، يفرض جريانُه بعد انقضاء العدة عن الزوج".
هذا بيان المسألتين، ونَقْلُ جوابي الأم فيهما.
وقال في الإملاء: "من اشترى معتدة عن زوج، فانقضت عدتها، لم تحلّ للمشتري إلا باستبراءٍ جديد مقصودٍ بعد انقضاء العدة". وقال في الإملاء: "إذا زوّج السيد أمته، فمسها، ثم طلقها، واعتدت عن زوجها، حلت للسيد من غير استبراء على العدة " فجرى جواباه في الإملاء مضاداً لجوابيه في الأم.
هذا نقل النصوص، وأول ترتيب نبتديه أن نذكر في كل مسألة من المسألتين قولين على الإطلاق، ونوجههما، ونفرع عليهما، فإذا نجز الغرض من ذلك، انعطفنا على أول المسألة، وتصرفنا على مأخذ النصوص، ثم ننظر بعده فيما يكون.
فنقول أولاً: من اشترى جارية معتدة عن زوج، فانقضت العدة، فهل تحل للمتملّك من غير استبراء مقصود بعد العدة؟ فعلى قولين:
أحدهما: وهو المنصوص عليه في الأم أنها تحل من غير استبراء.
والثاني: وهو المنصوص عليه في الإملاء أنها لا تحل إلا باستبراء مستفتَحٍ بعد العدة.
9964- توجيه القولين: من قال: لا حاجة إلى الاستبراء بعد مضي العدة، احتج بأن قال: علة وجوب الاستبراء ثبوت الملك على الرقبة، وقد جرى ذلك والجارية مشغولة بالعدة، والعدةُ تُحرِّمها على مالك الرقبة من غير فرض استبراء مقصود في حق المالك، فكأن العلّة في اقتضاء الحكم استدعت محلاً، وهي فراغُ الجارية عن كل محرِّم سوى الاستبراء، وإذا كانت مشغولة، فقد فقدت العلة محلّها، وسقط أثرها، ثم الأثر الساقط لا يعود بفراغها؛ فإن العلة إذا لم تقتضِ حكمَها مقترناً بها، فقد خرجت عن كونها علة، وإذا هي فرغت، فقد مضت العلة، ولم يثبت تجددُ ملكٍ عند الفراغ.
هذا وجه قول الأم.
ومن قال بالقول الثاني احتج بأن قال: تجدد الملك يوجب استبراءً، فإن كانت الجارية مشغولةً، فقد تنجز بالعلة وجوب الاستبراء، وإنما تأخر أداؤه وإجراؤه، وهذا غير ممتنع، فإن من وطىء معتدة عن الزوج بشبهة ولم يحبلها، فالوطء يوجب العدة، ولكن تأدية عدة الوطء بالشبهة تتأخر إلى الفراغ من عدة الزوج.
وهذا القول أفقه وأوجه، وفيما ذكرناه انفصال عما وجهنا به القولَ الأول.
التفريع على القولين:
9965- إن قلنا بقول الأم، فلو اشترى مزوَّجة ثم طلقها الزوج قبل الدخول، فلا استبراء أيضاً؛ تعويلاً على أنها كانت مشغولةً بحق الزوج عند حصول تجدد الملك، فإذا طلقها الزوجُ قبل المسيس، حلت للمشتري من غير استبراء، وعليه يُخرَّج جواب أبي يوسف موافقاً لهذا القول من مذهبنا، وليس فيه ما يخرِم أصلاً كلياً؛ فإن النكاح ترتب انعقاده على استبراء، ثم لم يوجد في النكاح شُغل رحم، فليس في إسقاط الاستبراء تسليطٌ على شغل رحم مشغول، وإنما فيه إسقاط استبراء ثبت أصله بعارضٍ اضطربت الظنون فيه.
وإذا فرعنا على قول الأملاء: فلو اشترى معتدةً، فالجواب ما تقدم، ولو اشترى مزوّجةً، فحق الزوج في وضعه على التأبّد، وتجددُ الملك إن أوجب الاستبراء، فتقديرُه وقوفُ أدائه على ارتفاع النكاح يوماًً من الدهر، ولا يرتبط ارتفاع النكاح بمدة ينتظر انقضاؤها، فيعترض في هذه الصورة ما نبهنا عليه.
ولكن إن كان كذلك، فمهما خلت عن حق الزوج، لم تحلّ للمشتري إلا باستبراء مفتتحٍ مقصود، وذلك الاستبراء لا ينقضي وهي تحت الزوج، بخلاف ما لو وطئت الزوجة بالشبهة، فإن العدة عن الواطىء تعقب الوطءَ، والسبب فيه أن تسلط الزوج بعد اشتغال الرحم بماء الواطىء بالشبهة محال، فلا وجه إلا أن تشتغل بالتربص عقيب الوطء. وإذا انقضت مدةُ العدة، عادت مستحَلّة للزوج.
فأما الاستبراء الثابت على المشتري، فيستحيل انقضاؤه في دوام التزويج؛ فإنه لو فرض ذلك، لم يستعقب حِلاً للمشتري، ووضعُ الاستبراء على أن يستعقب انقضاؤه الحِلَّ لمن عليه الاستبراء، فإذاً إذا اشترى مزوّجةً ومسها الزوج، ثم طلقها، فإنها تعتد عن الزوج، ثم يستبرئها المشتري، وإن لم يكن الزوج مسها، فكما طلقها يستبرئها المشتري، وتحل له.
هذا بيان أصل القولين والتنبيه على التفريع عليهما في مسألة واحدة.
9966- فأما المسألة الثانية وهي إذا زوج السيد أمته، فمسها الزوج، وطلقها، واعتدت عن الزوج، فهل يتوقف استحلال السيد إياها على استبراء مقصود بعد العدة؟ فعلى قولين:
أحدهما: وهو المنصوص عليه في الأم أنه لابد من استبرائها.
والقول الثاني- أنه لا يجب استبراؤها، بل تحل للمولى بعد انقضاء العدة من غير استبراءٍ جديد، وهذا هو المنصوص عليه في الإملاء.
9967- توجيه القولين: من قال لا يتوقف الاستحلال على استبراءٍ بعد العدة، احتج بأن الملك المطرد على الرقبة لم يطرأ عليه زوالٌ وتجدُّدٌ، ولكن جرى من جهة الزوج شغلٌ، ثم انقضى ما هو استبراء عنه، وهو العدة، فوقع الاكتفاء به، واطرد الحِل بعد مضيّه، وصار بمثابة ما لو وطئت زوجة الإنسان بالشبهة، فإذا انقضت عدة الشبهة، فالحل مستمر بحكم النكاح.
ومن قال بالقول المنصوص عليه في الأم، احتج بأن التزويج أثبت استحقاقَ حِلِّ البضع للزوج، ثم لا يعود استحقاق السيد إلا بانقضاء العدة، فينبغي أن يقتضي تجدد الاستحقاق في حل البضع استبراءً، وهذا أخصُّ باقتضاء الاستبراء من تجدد الملك على الرقبة.
هذا بيان توجيه القولين.
9968- ويتفرع عليهما ارتفاعُ التزويج من غير فرض مسيس، فإذا فرعنا على قول الأم، فطلّق الزوج الأمةَ قبل المسيس، لم يستحلّها المالك من غير استبراء لما أشرنا إليه من عَوْد الاستحقاق بعد زواله.
وإذا فرعنا على قول الإملاء، لم يجب على المالك استبراءٌ؛ لاطراد الملك على الرقبة، ولم يوجد من جهة الزوج شُغل يقتضي الاستبراءَ عنه.
9969- وإذا ثبت ما ذكرناه من إجراء القولين في كل مسألة، رجعنا بعد ذلك إلى الكلام على النص، فنقول: النصان المنقولان عن الأم في المسألتين ظاهرهما التناقض؛ من جهة أنه أوجب الاستبراء على المالك إذا زال التزويج الطارىء على الملك بناءً على تجدّد الاستباحة بعد زوالها، وهذا التعليل يقتضي أن يقال: إذا اشترى مزوّجة، ثم تخلت عن الزوج، تعيّن الاستبراء، لأنه يستحق استباحتها بتخلّيها عن الزوج، فلئن لم يقتضِ تجددُ الملك على الرقبة استبراء، لأنه صادفها مشغولة بحق الغير، فليقتضِ تخلّيها استبراءً لثبوت حق الاستباحة.
وكنت أود أن يكون تصرف الأصحاب في مسألتي الأم وجوابي الشافعي فيهما من طريق النقل والتخريج كما أشرت إليه من اختلاف الجوابين، ولم يصح عندي أن الشافعي ذكر المسألتين في الأم متواليتين، فيعسر لذلك طريق النقل والتخريج.
فإن والى الشافعي بين جوابيه في المسألتين، فالممكن في ضبط الجوابين بمسلكٍ واحد أن يقال في إيجاب الاستبراء: تجدُّدُ الملك على الرقبة، وتجدُّدُ الاستحقاق في الحِلّ في حكم البيع الملحق بتجدد ملك الرقبة لو تجدد، فإذا اشترى الرجل جارية مزوّجة، وقد جرت العلة الظاهرة عادمةً محلَّها، ومحلُّها فراغ الجارية، فإذا تعطّلت العلة الظاهرة، لم يكن لثبوت الحِل بعدها حكمٌ، وإذا زال الاستحقاق في استمرار الملك ثم تجدد، فهذا متجدد، فلا يمتنع أن يقتضي استبراءً، وهذا يناظر من أصل الشافعي تعطيله التوريث بالقرابة البعيدة بسبب القرابة القريبة إذا هما اجتمعتا لشخص واحد، وكانتا بحيث لا يجوز التوصّل إلى تحصيلهما، فالقرابة البعيدة كالمعدومة، وكأنْ لا قُرب بها مع القرابة القويّة القريبة، ولو تجرّدت القرابة البعيدة، لوقع التوريث بها. وهذا تكلُّفٌ.
9970- فأما الجوابان المنقولان عن الإملاء، فلا تنافيَ بينهما، ولا يلتفتان على اختلافٍ، بل هما مأخوذان من أصلين؛ فإنه لم يوجب الاستبراءَ إذا زال التزويج الطارىء على أصلٍ بيّن، وهو استمرار الملك، وأوجب الاستبراء إذا اشترى المزوّجة، وانقطع التزويج وعلاقته؛ لأنه رأى تجدد الملك على الرقبة موجباً استبراء، ثم أخره عن الزوجية وحقها.
9971- وينشأ من هذا المنتهى فصلٌ في تداخل الاستبراء، وقد قدمنا قولاً بالغاً في تداخل العدتين من شخصٍ واحد، وعدمِ تداخلهما من شخصين، ونحن نذكر ما يليق بالاستبراء من هذا الحكم، ونعتمد تصوير تعدد السبب، وفيه عسرٌ؛ من جهة أن السبب الأظهر في إيجاب الاستبراء تجدد الملك على الرقبة، ومن ملك جارية ثم باعها قبل الاستبراء، انقطع وجوب الاستبراء عن الأول وفاقاً، وتجدد بملك الثاني سببٌ في اقتضاء الاستبراء، وليس ذلك كوطء الشبهة يطرأ على العدة؛ فإنه لا يتضمن قطع وجوب العدة الأولى، فلا جرم لا نقضي بتداخل العدتين، ونُقدِّم
منهما ما يقتضي الشرعُ تقديمَه.
فلا يتصور إذاً من هذه الجهة اجتماع سببين من شخصين مقتضيين للاستبراء، بل السبب المتأخر ينسخ المتقدمَ، ويقطعه ويستأصلُ موجَبه، فإذاً لا يتأتى فرضُ اجتماع السببين من شخصين إلا في صورةٍ واحدة، وهي أن يكون لرجلين جارية مشتركة، فلو وطئاها، فلا شك في تحريم الوطء، فلو أرادا تزويجها وقد وُجد من كل واحد منهما ما يشغل الرحم، ولو كانت مستخلصة لواحد، ورام تزويجها بعد الوطء، لم يجد إلى ذلك سبيلاً ما لم يستبرئها، فإذا تعدد الشاغل، فهل يقع الاكتفاء بحيضة، حتى إذا مضت يسوغ تزويجُها، أم لابد من الاستبراء بحيضتين: حيضة عن هذا وحيضة عن الآخر؟ فعلى وجهين: من أصحابنا من قال: لابد من استبراءين لتعدد السبب والشخص، قياساً على العدتين إذا وَجَبَتَا عن شخصين.
ومن أصحابنا من اكتفى بحيضة واحدة؛ فإن الغرض من هذا النوع من الاستبراء قيام علامة براءة الرحم، وهذا المعنى يحصل بالحيضة الواحدة.
وقرَّب أئمة المذهب هذا الاختلافَ من تردد الأصحاب في أصل الاستبراء وما هو المعتبر منه، فمن زعم أن الاستبراء بالطهر، كان ذلك منه تغليباً لمعنى التعبد، وذلك يقتضي التعددَ إذا تعدد الشخص والسببُ، ومن صار إلى أن المعتبر في الاستبراء الحيضُ دون الطهر، لم يبعُد عنده الاقتصار على الحيضة الواحدةِ؛ فإن سبيل دلالة الحيضةِ الواحدةِ إذا جرت على ترتب الأدوار كسبيل دلالة حيضتين فصاعداً.
هذا قولنا في تداخل الاستبراءين وامتناعِ تداخلهما.
9972- وأما القول في تداخل الاستبراء والعدة، فإذا اشترى الرجل جاريةً معتدة، فانقضت العدة، فقد ذكرنا جوابي الأم والإملاء، في أنه هل يجب بعد العدة استبراءٌ على المستبيح بالملك.
وقد يخطِر للفطن أن هذا يتنشأ من اندراج الاستبراء تحت العدة نفياً وإثباتاً، حتى إن حكمنا بالاندراج، لم نوجب استبراءً مقصوداً بعد مدة العدة، وإن لم نحكم بالاندراج، أوجبنا الاستبراء بعد العدة.
وهذا ليس على وجهه؛ فإن الأئمة طردوا القولين في المشتراة المعتدة سواء بقي من عدتها مقدار الاستبراء أو كان الباقي أقلَّ من مقدار الاستبراء، ولو كان ذلك مأخوذاً من التداخل، لاعتبرنا بعد الشراء مدة استبراء كامل؛ فإنا لما حكمنا بتداخل العدتين من شخص واحد، ثم فرضنا منه وطئاً، وقد بقي من العدة لحظة، فنعتبر من وقت الوطء عدة كاملة، فذلك الاختلاف مأخذه أن المشغولة إذا اشتريت، فالشراء هل يوجب الاستبراء فيها أم لا؟ والقولان جاريان أيضاًً في المنكوحة إذا لم يمسها زوجها، ثم تخلّت عن الزوجية من غير مسيس.
نعم، إن أردنا تصوير التداخل بين الاستبراء والعدة، فرضنا أَمةً مطلقة جارية في العدة، وقد وطئها السيد بالشبهة، فهي لا تزوج ما لم تتخلّ، فلو كان بقي من العدة مقدار استبراء فهل يقع الاكتفاء به أم نقول: تنقضي العدة ونعتبر استبراءً عن السيد بعدها ثم تزوج؟ فعلى وجهين مأخوذين من تداخل الاستبراءين في الصورة التي قدمناها.
9973- هذا بيان نصوص الأم والإملاء على كماله، وقد لاح مخرج جواب أبى يوسف على قول النص عليه في الأم، كما قدمناه.
ونحن بعد ذلك نعقد فصلاً يحوي مقاصد الاستبراء، ونرسم فيه أنواعاً شاملة لا نغادر فيها غرضاً، وإن انسل عن الضبط مسألة أو مسائل، رسمنا فروعاً، إن شاء الله تعالى.

.فصل: في بقية الاستبراء يشتمل عليها أنواع:

9974- النوع الأول- في بيان ما يوجب الاستبراء وقد قدمنا في صدر الباب الأول أن ما يوجب الاستبراء ينقسم إلى ما يزيل الملكَ وإلى ما يثبت الملك، واستقصينا القولَ فيما يزيل الملك.
ونحن الآن نذكر التفصيلَ فيما يجدّد الملك، فنقول: السبب الأظهر، والمعنى المعتبر في ذلك ثبوتُ الملك على الرقبة ممن يتصور منه الاستحلال، فمن ملك-وهو ممن يستحل- جاريةً بمعاوضةٍ، أو تبرعٍ، أو إرث، أو عقدٍ، أو فسخٍ، أو سببي واسترقاقٍ جاريةً، تعيّن عليه استبراؤها، ولا تحل له دونه.
قيدنا الكلام بمن يتصور منه الاستحلال؛ فإن المرأة لو اشترت جاريةً، لم يلزم الاستبراءُ، وإذا اشترى الرجل واحدة من محارمه، فلا معنى للحكم بوجوب الاستبراء؛ فإن الاستبراء في معنى الأجل الذي إذا انقضى أفضى إلى الحلّ، فإذا لم يكن الحِلّ متوقعاً، لم يكن لتقدير الاستبراء معنى.
ثم مهما تجدد الملك، فحكم وجوب الاستبراء ما ذكرناه، حتى لو اشترى جاريةً واستبرأها، ثم باعها، وانتقل الملك إلى اللزوم، ورُدّت عليه، وكل ذلك في لحظة، فعليه أن يستبرئها مرة أخرى، وإن لم يطرأ شاغل؛ نظراً إلى التجدد المتأخر، ولا التفات للاستبراء على سابق، وليس يجب لأجل شغل متقدم، وإنما وجوبه يتعلق بتجدد الملك في نفسه، ثم لا فرق بين أن يكون تجدده بفسخٍ، أو بعقد كما ذكرناه.
ولو فرض التّقايل، فعلى الذي ترتد إليه الجاريةُ الاستبراءُ، سواء قلنا: الإقالة فسخ، أو قلنا: إنها بيع.
9975- وإذا باع الرجل الجاريةَ، وفرعنا على أن الملك يزول إلى المشتري في زمان الخيار، فلو فسخ البائع البيع، وارتدت الجارية إلى ملكه، فقد زال ملكه، ثم تجدد، فهل يلزمه الاستبراء، أم يشترط أن يكون زوال الملك على حكم اللزوم، والتجدُّدُ مترتبٌ عليه؟
ذكر طوائف من أئمتنا أن الاستبراء يجب؛ طرداً لما ذكرناه من النظر إلى تجدد الملك.
وهذا عندي يُخرَّج على أصلٍ، وهو أن من باع الجارية ووقع التفريع على زوال ملكه، وكان الخيار ثابتاً للبائع، فهل يحل الإقدام على وطء الجارية؟ فيه كلام قدمناه في أول البيع، والمذهب الأصح أنه يحلّ للبائع وطؤها، ثم يقع الوطء فسخاً.
وذهب بعض أئمة المذهب إلى أن الإقدام على الوطء لا يحل، ولست أعيد تلك التفاصيل.
والغرض مما ذكرناه أنا إن حكمنا بأن الوطء يحرم على البائع، فإذا فسخ البيع، لم يمتنع وجوب الاستبراء عليه لمكان تجددِ الملك وترتبِه على تحريم الوطء.
فأما إذا حكمنا بأن الوطء مباح للبائع لوقوعه فسخاً، فهذا يخرج على أصل مقصود في نفسه، وهو أن من نكح جارية واشتراها، ففي وجوب الاستبراء عليه خلاف، والأصح أنه لا يجب؛ لأنه نقلها من حلٍّ إلى حل. ومن أصحابنا من أوجب الاستبراء؛ نظراً إلى تجدد الملك، ثم إلى اختلاف الجهة.
ونقول بعد ذلك: إذا فسخ البائع البيع، فهذا يترتب على الخلاف الذي ذكرناه في شراء المزوّجة، فإن لم نوجب على الزوج الاستبراء، لم نوجبه على البائع إذا فسخ؛ فانتفاء الاستبراء في حقه أولى.
وإن أوجبنا الاستبراء على الزوج إذا اشترى زوجته، ففي البائع إذا فسخ-والتفريع على أنها مستحلةٌ له قبل الفسخ- وجهان مبنيان على المعنيين اللذين أشرنا إليهما في مسألة الزوج: فإن اعتمدنا النقلَ من جهة إلى جهة، فلا استبراء على البائع؛ فإنه نقلها من ملك إلى ملك، وإن اعتبرنا ثَمَّ تجدد الملك، فهذا المعنى متحقق في البائع.
هذا منتهى كلامنا في إيضاح تجدد الملك على الرقبة وبيان اقتضائه للاستبراء.
9976- ومما يتعلق بموجبات الاستبراء أن الرجل إذا كاتب جاريته، ثم إنها عجزت ورَقَّت أو أرقت نفسها اختياراً، فقد أجمع الأصحاب على أنه يجب على السيد أن يستبرئها وإن لم يزل ملكه عن الرقبة بالكتابة، والسبب فيه أن الكتابة أثبتت لها حق الاستقلال، حتى إنها تُعامِل سيدَها معاملةَ الحرائر، ولو وطئت، فالمهر لها، فإذا تجدد احتكام السيد عليها بالعَوْد إلى الرق، كان ذلك بمثابة تجدد الملك على الرقبة في إيجاب الاستبراء.
ولهذا قال الأصحاب: إذا وطىء الرجل جاريةً بملك اليمين، وحرمت عليه أختها، فلو ماتت التي وطئها، حلّ له وطء الأخرى، كما تحل له لو باع الأولى.
ولو زوج الرجل جاريته، ثم تخلّت عن الزوج، وما كان جرى مسيس، فهل يجب على السيد أن يستبرئها، فعلى القولين المنقولين عن الأم والإملاء، ويمكن تخريجهما على أن الزوج استحق الحل منها، وانقطع ذلك من السيد، ثم إذا تخلت وعاد استحقاق السيد فهل يكون هذا التجدد في الاستحقاق بمثابة التجدد في ملك الرقبة بالتجدد في الرق بعد الكتابة؟ فعلى قولين.
9977- ولو ارتدت الجارية وحرمت لردتها، ثم أسلمت، ففي وجوب الاستبراء خلاف، والأولى ترتيبه على القولين في ارتفاع الزوجية.
والأوجه في المرتدة انتفاءُ وجوب الاستبراء؛ فإن الردة وإن حرمتها؛ فإنها ما حلت لغير المولى، والزوجة حلت للزوج، وثبوت استحقاقه الحل في معنى الأملاك المحققة، والردة لا تقطع الملك، وإنما تنافي الحلّ. نعم، أثرها ظاهر في قطع النكاح كما سبقت مسائله.
ولو أحرمت الجارية، ثم تحللت، فقد ذكر الأصحاب خلافاًً في وجوب الاستبراء اعتباراً بالردة؛ فإن المرتدة محرمةٌ كالمُحرِمة، فلا أثر للإحرام والردة في قطع ملك اليمين وإنهاء تصرف المالك، والأصح أن الاستبراء لا يجب إذا أسلمت المرتدة، أو تحللت المحرمة.
ولست أرى لترتيب المُحْرِمة على المرتدة وجهاً-وإن كان شيخي يتولع به- لأن الإحرام يترتب على الردة في أحكام النكاح، فأما في ملك اليمين، فلا فرق بينهما، وليس الإحرام فيما ذكرناه كالصوم؛ إذ لا خلاف أن الصائمة إذا أفطرت، استحلت للمولى؛ فإن الصوم لا يحرم وجوه الاستمتاع، وإنما يحرم الوطء والتلذذ المفضي إلى الإنزال، والإحرام يحرم جميعَ وجوه الاستمتاع، فجرى الخلاف فيه على بُعدٍ، كما ذكرناه.
9978- ومما نلحقه بهذا النوع أن الرجل إذا أسلم في جارية ووصفها، ثم سلمت إليه جارية، فلم يجدها على الصفات؛ فإن رضي بها، استمر ملكه فيها، وإن ردها، وعاد إلى المطالبة بالجارية على الصفات المطلوبة، فهل يجب على المسلَم إليه استبراء الجارية التي رُدّت عليه إذا لُقيت غيرَ مستجمعةٍ للصفات المذكورة؟
فعلى قولين مبنيين على أن ملكه هل زال عنها إذا سلمها ثم عاد، وفيه قولان ذكرناهما في كتاب البيع في مسائل الصرف، وكلُّ مقبوض عن جهة الديون إذا لم يكن على الصفات المستحقة، فردّ فهل نقول: زال الملك فيه وعاد؟ فعلى القولين، والشرط أن يكون بحيث لو رضي القابض به، لاستمر ملكه فيه؛ إذ لو لم يكن كذلك، فلابد في تصوير ملكه من عقدٍ واعتياضٍ إن كان الدين مما يصح الاعتياض عنه.
ومن المغالطات في السؤال أن يقول قائل: لو أقرض رجلٌ جارية، ثم استردها في عينها، فهل عليه أن يستبرئها إذا لم يوجد من المستقرض وطء، والجواب أن ذلك يجب.
فإن قيل: هلا خرجتم هذا على أن المستقرض متى يملك ما استقرض؟ قلنا: إقراض الجواري لا يصح إلا على قولنا: إن المستقرض ملك بنفس الاستقراض القرضَ.
ومن أحاط بالأصول السابقة، كفته هذه المرامز، فإن لم يقف عليها المنتهي إليها، فليطلب أصولها من مواضعها.
وقد نجز الكلام في هذا النوع، وهو تفصيل ما يوجب الاستبراء.
9979- النوع الثاني- في بيان ما ينافي الاعتداد بالاستبراء، فنقول: من ملك جارية، وتم ملكه فيها على اللزوم، وثبتت يده عليها، فإذا كانت بحيث تحل له لولا الاستبراء، فإذا مرت بها حيضة، كانت استبراء.
ولو اشتراها على ما صورنا وكانت مجوسية، فمرت بها حيضة، ثم أسلمت، فهل يقع الاعتداد بتلك الحيضة؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنها استبراء كافٍ بجريانها في الملك التام.
والثاني: أنها ليست باستبراء؛ فإن الاستبراء هو الذي يوجب تحريم المستبرأة، ولم تكن الحيضة في حق المجوسية كذلك؛ فإنها كانت محرمةً بدينها، وقد ذكرنا أن الاستبراء بالإضافة إلى الحل بعده يضاهي الآجال في الديون؛ من حيث إنها تحل بانقضائها، وتتوجه الطلبة بها عند انتهائها، والمجوسية محرمة ما دامت متمسكة بدينها، وحالها بعد الحيضة كحالها في زمان مضيها.
9980- وطرد أصحابنا هذا الاختلاف على هذا النسق في تملك المرتدة، ومضي الحيضة في زمن الردة.
وطردوه أيضاً في تملك المحرمة وانقضاء الحيضة في دوام الإحرام.
ومنشأ الخلاف في هذه المسائل من قيام التحريم بسببٍ غيرِ الاستبراء.
ولا خلاف أن هذه المعاني لا تنافي انقضاء العدة ومضيَّها، والفرق أن العدة تتعلق بشغلٍ سابق أو حرمةٍ متقدّمة، والاستبراء لا يتعلق بسابق، وإنما يتعلق باستجلابِ مطلوبٍ في الاستقبال.
ثم ذكر بعض الأصحاب في الردة إذا طرأت على الملك، والإحرامِ إذا طرأ ثم زال خلافاًً في أنه هل يجب الاستبراء؟ وقد أشرنا إلى ذلك في النوع الأول من الفصل.
والذي اختاره المحققون أن طريان هذه الأشياء ثم زوالها لا يتضمن إيجاب الاستبراء؛ فإنه لا يتحقق بزوالها تجدد ملك واستقلال، وتجدد الحِلّ لا يوجب استبراءً لتحل، وإنما يثور من فرض هذه المعاني خلافٌ في الاعتداد بالاستبراء معها، كما ذكرناه.
ومما يتعين على الناظر في حقائق المذهب أن يميز الأصولَ ومثارَ الفروع منها، إذا التفّت في المضايق.
ولو اشترى الرجل جارية وبقيت في يد البائع حتى مرت عليها حيضة، فالأصح أنها تقع استبراء.
وذكر الأصحاب وجهاً آخر مشهوراً في أنها لا تقع استبراء، ووجهوه بأن الملك غيرُ مستقر عليها قبل القبض، والعقدُ عرضةُ الانفساخ، وإنما يقع الاعتداد بالاستبراء إذا جرى في ملك مستقر.
وهذا غير سديد مع الحكم بلزوم الملك للمشتري.
9981- ولو اشترى جارية على شرط الخيار وقبضها، فمرت بها حيضة، فإن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع، فلا تقع الحيضة استبراء، وإن قلنا: الملك في زمان الخيار للمشتري، ففي الاعتداد بتلك الحيضة استبراءً وجهان:
أحدهما: أنها تقع استبراء لمصادفتها ملكَ المشتري.
والثاني: لا تقع استبراء لضعف ملكه.
وهذا قريب من مأخذ الخلاف في الجارية قبل القبض؛ فإنْ خطر لمرتِّبٍ أن يجعل مسألة الخيار أولى بأن لا نعتد فيها بالحيضة؛ من جهة جواز الملك، لم يبعد ذلك، على شرط أن نقول: لو تلفت الجارية في يد المشتري، انفسخ البيع، فتستوي المسألتان في التعرض للانفساخ، وتختص مسألة الخيار بالجواز.
وإن قلنا: لا ينفسخ البيع بالتلف في يد المشتري في زمان الخيار، اعتدلت المسألتان ولم يلح فرقٌ به مبالاة.
وإن مرت الحيضة في زمان الخيار في يد البائع، ففي وقوع الاستبراء خلاف مرتب لا يخفى إيضاحه، وإن قبض المشتري الجارية، وكان منفرداً بالخيار-والتفريع على أن الملك له- فيجب القطع بالاعتداد بالاستبراء، فإن الملك لازم للمشتري بمعنى أن الغير لا يَنْقُضُ عليه، والخيار مزيد سلطنة له.
وإذا مرت الحيضة بالجارية الموهوبة في يد الواهب، فلا اعتداد بها؛ فإن الملك في الجارية للواهب قبل الإقباض، وإن قلنا: إذا حصل الإقباض، استند الملك تبيُّناً إلى الهبة، فالوجه عندنا القطع بأن الحيضة لا يعتد بها.
وقد ينقدح على بُعْدٍ الاعتدادُ بها إذا جرت في الملك المتبيَّن.
ومن أُوصي له بجارية ونفذت الوصيةُ وقبلها الموصى له، فجرت الحيضة في يد الورثة قبل قبض الموصى له وبعد قبوله، فالحيضة استبراء صحيح؛ فإن الملك في الوصية لا يتوقف على القبض.
وحكى صاحب التقريب وجهاً بعيداً أن الحيضة لا تقع استبراء، وبالغ في تزييفه، وليس هذا عندنا في رتبة الوجوه الضعيفة، بل هو خطأ قطعاً من قائله. وقد نجز هذا النوع.
9982- النوع الثالث في بيان ما يحرم من المستبرأة في زمان الاستبراء فنقول: جميع وجوه الاستمتاع محرمة في زمان الاستبراء، وهذا يطَّرد في كل مستبرأة.
والمسبيةُ محرمة الوطء في زمان الاستبراء، وفي تحريم سائر وجوه الاستمتاع اختلاف مذكور في الطرق: من أصحابنا من طرد القولين بوجوب التحريم في جميع وجوه الاستمتاع؛ قياساً للمسبية على المستبرآت جُمَع، وهذا قياس واضح.
ومنهم من لم يُحرّم من المسبية جميعَ وجوه الاستمتاع، واعتلّ بأن سبب تحريم الاستمتاعات من المستبرآت تجويزُ أن تكون أمَّ ولد لغير المشتري، ولو قدر ذلك، لكانت محرمة على غير المستولد، والحربيةُ المسبية لو تبين أنها حامل، لكان الرق جارياً عليها وعلى حملها، وإذا كانت الحرة تسبى، فالمستولدة تسبى.
والاستبراء في المسبية في حكم التطهير لها، حتى تنتفض عن ماءٍ إن كان، وهذا يوجب التخصيصَ بالوطء، والذي يؤيد الكلام أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بأمره في سبايا هوازن، وقال: "ألا لا توطأ حاملٌ حتى تضع، ولا حائلٌ حتى تحيض"، فاقتضى النداء الاقتصارَ على تحريم الوطء، وكانت السبايا مختلطات بالمسلمين، ويغلب على الظن امتداد الأيدي إليهن، فلما لم يحرم الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلا الوطءَ، مع الحال التي وصفناها، اقتضى ذلك تخصيصَ الوطء بالحظر.
9983- ثم ينقدح عندنا في التفريع على هذا الوجه أمر بدعٌ، وهو تنزيل المسبية منزلة الحائض، حتى يجوزَ الاستمتاع بما فوق السرة وما تحت الركبة، وترددَ المذهبُ في الاستمتاع بما دون الإزار مع توقِّي الوطء، ولو كان لا يجري هذا لحق الاستبراء يجرى لحق الحيض.
ثم إذا قلنا: الاستبراء بالحيض، ولا يَحْرُمُ إلا الوطءُ؛ والاستمتاعُ بما تحت الإزار، فلست أرى لإيجاب الاستبراء معنى إلا إذا كانت حاملاً، أو سُبيت في بقيةٍ من الطهر، أو قلنا الاستبراء بالطهر.
فأما إذا صادف السبيُ أولَ الحيضة، وفرعنا على أن الاستبراء بالحيض، فلا يكاد يظهر في حق السابي لوجوب الاستبراء معنى.
واتفق الأصحاب على طرد وجوب الاستبراء في الأبكار من الجواري، وحكى صاحب التقريب في البكر المسبية وجهاً بعيداً أنه لا يجب استبراؤها، وخصص هذا الوجه بالمسبية، وهو مطَّرحٌ مزيّف لا اعتداد به.
ثم إذا جرينا على الأصح، وحكمنا بأن الاستبراء بالحيض، فإذا انقضت حيضة كاملة، فتحريم الوطء يدوم عندنا بسبب الحيض إلى الاغتسال، فلا تحل الحائض إذا طهرت ما لم تتطهر، وسائر وجوه الاستمتاع إن كان التحريم منوطاً بالحيض حكمها حكم دوام الحيض.
وإذا حرمنا وجوهَ الاستمتاع لأجل الاستبراء، ثم انقضت الحيضة، فالمذهب أن ما حرم لأجل الاستبراء يحل، ولا يبقى التحريم إلا فيما يقتضي الحيض تحريمه.
وفي بعض التعاليق المعتمدة عن القاضي حكاية وجه بعيد منسوب إلى بعض الطرق المعتمدة أن تحريم وجوه الاستمتاع لأجل الاستبراء يدوم إلى الاغتسال، وهذا ليس بشيء، وقد بحثت عن الطرق، فلم أجد لهذا الوجه ذكراً في شيء منها.
فرع:
9984- إذا ملك جارية من ذوات الأقراء والتفريع على أن الاستبراء بالحيض، فتباعدت حيضتها، كان القول فيها كالقول في المعتدة إذا تباعدت حيضتها، وقد مضى ذلك مفصلاً.
ولو قالت الجارية: قد حضت، فللمولى تصديقها، ولو أراد أن يحلفها لم يكن له ذلك؛ فإن الأيْمان إنما تجري في الخصومات، ولا سبيل إلى الإجبار على اليمين، ولو نكلت لم يتجدّد بنكولها حكم، فلا معنى لتحليفها.
ولو قالت: لم أحض، وقال المولى: لقد حضت، فالقول قولها؛ فإنه لا اطلاع على الحيض إلا من جهتها، فلو أراد السيد أن يحلّفها، فلست أرى لذلك وجهاً أيضاً؛ فإنها لو نكلت لم يستمكن المولى من الحلف، لما ذكرناه من أنه لا اطلاع على الحيض إلا من جهتها، فإذا استحال الإجبار على اليممن، والنكولُ لا يفيد أمراً، فلا معنى للتحليف.
ولو قال المولى: قد أخبرتني أنها حاضت، فمثل هذه الواقعة لا ترتفع إلى مجلس الحكم، فإن ارتفعت الأمة متحرّجة فيما زعمت، وذكرت أن السيد يغشاها من غير استبراء، وقال السيد؛ قد استبرأتها، فهذا مشكل عندي، والأوجه تصديق السيد؛ إذ لو لم يكن كذلك، لحال الشرع بين المستبرأة وبين المولى، كما يحول بين المعتدة وبين مَنْ منه العدّة؛ وهذا يبين أن الاستبراء بابٌ من التقوى، وظّفه الشرع على المولى، ولم يُثبت للأمة فيه خصاماً.
وفي المسألة احتمال.
وحقيقة القول في هذا ترجع إلى أن الجارية هل لها حق المخاصمة في ذلك أم لا؟ وقد ذكر القاضي في مسألة تقترب من هذه تردداً، وذكر أنه ذكره أصلاً، ونحن نصف ما قاله رضي الله عنه:
إذا ورث الرجل جاريةً من أبيه أو ابنه، وزعمت الجارية أن المتوفَّى كان أصابها في الحياة، فللوارث ألاّ يصدقها، والورع أن يجتنبها، وقد ذكرنا هذا في مسائل أبي يوسف، فلو أرادت الجاريةُ أن تحلِّف الوارث، فهل لها ذلك؟
تردد القاضي فيه، ثم بنى تردده على أصلٍ، وهو أن الأبرص إذا اشترى جارية، فهل لها الامتناع عن تمكينه من الوطء؟ فيه اختلاف. فإن قلنا: لها ذلك، فقد أثبتنا لها طرفاً من الحق في الوطء، إذا ساغ لها أن تتخيّر السليم عن المعيوب، وتمتنع عن قربان المعيب، فلا يبعد على ذلك أن يثبت لها حق الخصام إذا كانت تعتقد خطراً.
وهذا المسلك يجرى حيث انتهى الكلام إليه في الاستبراء. والله أعلم.
فرع:
9985- إذا اشترى الرجل جارية حاملاً من نكاح، فوضعت، فإن كان النكاح قائماً، أو كانت مطلقة، فهذه مسألة الأم والإملاء، وقد مضت على الاستقصاء.
وإن كانت حاملاً من الزنا، فوضعت الحملَ، فالمذهب الظاهر أن الاستبراء يحصل بوضعها الحمل، وإن كانت العدة لا تنقضي بوضع ولد الزنا؛ وذلك أن العدة منسوبة إلى مَنْ منه العدة، فليكن الولد منسوباً إليه، وهذا المعنى لا يتحقق في الاستبراء، فليقع الاكتفاء فيه بصورة وضع الحمل.
ومن أصحابنا من قال: لا يحصل الاستبراء بوضع الحمل من الزنا؛ فإن الغالب على الاستبراء التعبد لا البراءة، وولد الزنا لا حرمة له.
ولا خلاف أن المسبية إذا وضعت الحمل، حلّت للسابي، ولا نبحث عن سبب علوقها تعلقاً بظاهر نداء المصطفى عليه الصلاة والسلام: «ألا لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض».
فرع:
9986- المستبرىء إذا وطىء المستبرأة لم يلتزم بوطئها إلا المأثم ولم ينقطع الاستبراء، وليس كالعدة، فإنا قد ذكرنا من مذهب بعض الأصحاب على تفاصيلَ أوضحناها أن الانعزال شرط في الاعتداد بالعدة.
ثم إذا وطىء الجاريةَ وهي في أثناء الحيضة، فعلقت، فإن كان مضى من الحيض يوم وليلة، فالذي نراه أن الاستبراء تَمَّ، وإن كان يغلب على الظن أن الحيض انقطع بسبب العلوق؛ فإن الذي مضى حيض تامٌّ، فلا نظر إلى السبب الذي أوجب انقطاعه، وفائدة ما ذكرناه أنه يستحلّ وطأها في زمن الحمل، وقد انقضى الاستبراء.
ولو لم يمضِ من الحيض يوم وليلة، فوطئها، فعلقت، واحتبس الحيض بسبب العلوق فيما يظن، فلا يعتد بما مضى من الدم؛ فإنه أقل من الأقل، والاستبراء إنما يقع بحيضٍ تام.
ونقول في مثل هذه الصورة: لو كانت تركت الصلاة، فهي مأمورة بإعادتها، وإن كنا نظن أن سبب احتباس الحيض العلوقُ؛ فإن هذه الأمور مظنونة، ونظرُنا إلى مقدار الدم، وأسبابُ الاحتباس مغيّبة لا تُحيط العلومُ بها، فخرج من ذلك أن الاستبراء فيها إذا وضعت هذا الحمل. والذي أراه أن وضع الحمل استبراء؛ فإن هذا لا ينقص عن حيضة، والعلم عند الله.
9987- وقد جمعنا في الزوائد كلاماً لابن الحداد في الاستبراء، وقد فَضَضْنا جميعه على القواعد، ولم يَشذّ منه إلا فرعان لا يتعلقان بالاستبراء:
أحدهما- أن من نكح أَمةً ثم اشتراها، ووقع الحكم بانفساخ النكاح، فمضت ستةُ أشهر من وقت الانفساخ، وأتت الجارية بولد يمكن أن يكون العلوق به من النكاح، فالولد يلحق السيد الذي كان زوجاً، وإن لم يوجد منه إقرار بالوطء في ملك اليمين؛ وذلك أن النسب يلحق بإمكان العلوق من النكاح، والمملوكة لا تنحط عن البائنة، ولو أبان الرجل زوجته، فأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، للحق النسبُ لا محالة، ثم إذا لحقه النسب، لم تصر الجارية أم ولد له؛ لأنه لم يعترف بوطء في ملك اليمين، ونحن إنما ألحقنا النسب لاحتمال كون العلوق في النكاح، وهذا لا يُثبت أميةَ الولد.
وحكى القفال وجهاً بعيداً أن الجارية تصير أم ولد؛ لأنه لحقه منها ولد في ملك اليمين، لزمان يحتمل أن يكون العلوق منه في ملك اليمين، وهذا ضعيف لا أصل له.
9988- وإذا فرعنا على الأصح، وهو أنها لا تصير أم ولد، فلو أقر بوطءٍ في ملك اليمين، واحتمل أن يكون الولد منه، واحتمل أن يكون من النكاح، والتفريع على أن أمية الولد لا تثبت لو لم يقر بالوطء في ملك اليمين، فهل تثبت أمية الولد إذا أقر بالوطء في الملك؟
هذا فيه تردد عندنا؛ من جهة أن ثبوت النسب ليس متوقِّفاً على الوطء في ملك اليمين؛ إذ لو لم يقر بالوطء، للحق أيضاًً، وأميةُ الولد تبعُ الولد، ويجوز أن يقال: تثبت أمية الولد؛ فإن الإقرار بالوطء يُثبت فراش ملك اليمين، والفراش اللاحق ينسخ حكم الفراش السابق وإن شملهما الاحتمال.
ولذلك قلنا: إذا تزوجت المرأة وأتت بولدٍ لزمان يحتمل أن يكون من الثاني، ويحتمل أن يكون من زوج قبله، فالولد يلحق الثاني، حتى لو نفاه الثاني باللعان، لم يلحق الأول أيضاً، والأولى أن نقول: لا يقوى الافتراش بملك اليمين على فسخ أثر فراش النكاح؛ من جهة أن الإمكان كافٍ في فراش النكاح، ولا حاجة إلى الاعتراف بالوطء، بخلاف ملك اليمين، وأيضاً فالناكح والمالك واحد، والتناسخ في حقه أبعد.
ولو نكح الرجل أمة، ثم طلقها قبل المسيس، فوطئها السيد، فأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون من النكاح، ويحتمل أن يكون من الوطء الجاري من السيد، فهذا فيه احتمال عندنا: يجوز أن نلحقه بالسيد، ويجوز أن نعتقده متردداً بين السيد وبين الزوج، وهذا لما أشرت إليه من تخلف ملك اليمين في النسب عن النكاح، والله أعلم.
9989- والثاني الذي أجراه في أثناء الكلام فيما نظن أنا لم ننص عليه في مسائل العِدد: أن الرجل إذا خالع امرأته الممسوسة، وجرت في العدة، ثم جدد النكاح عليها، فلو طلقها من غير مسيس، فقد تمهد أنها تعود إلى بقية العدة، فلو جدد النكاح عليها، ثم مات عنها، فعليها عدة الوفاة، وهل تكتفي بها أم يعتبر معها حصول بقية العدة التي كانت تعود إليها لو طلقت؟
هذا يخرج على الخلاف في أن العدتين هل تتداخلان من شخصٍ واحد إذا اختلفتا، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك وصورناه في الحمل والأقراء، وهذا الاختلاف محقق فيما به الاعتداد، وفي الجهة التي عنها الاعتداد.
فإن قيل: كيف تجوّزون على أحد الوجهين الاكتفاء بالأربعة الأشهر والعشر، مع جواز أنها مشغولة الرحم بالوطء الأول في النكاح السابق؟ قلنا: هذا كما لو وطىء الرجل زوجته ومات عنها، فقد اكتفى الشرع بأربعة أشهر وعشر، وإن كانت هي من ذوات الأقر اء. والله أعلم وأحكم.