فصل: باب: الشهادة في اللعان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الشهادة في اللعان:

9737- مذهب الشافعي أن الزوج لو شهد على زنا زوجته، فشهادته مردودة، وخلاف أبي حنيفة مشهور في ذلك، ثم اعتمد الأئمة نكتتين: إحداهما- أن الزنا تعرّضٌ لمحل حقِّ الزوج؛ فإن الزاني منتفع بالمنافع المستحَقة له، فشهادته في صيغتها تتضمن إثباتَ جناية الغير على ما هو مستحَقٌّ له، وهذا يخالف صيغَ الشهادات.
والنكتة الثانية- أن من شهد بزنا زوجته، فنفس شهادته دالّة على إظهار العداوة، فلا شيء يستثيرُ المغيظةَ مثلُ تلطيخِ الفراش، فإذا كنا نرد شهادة العدوّ، فالشهادة التيِ صيغتُها إظهارُ العداوة لا تُقبل.
ولو شهد أَبُ الزوج بزنا زوجة ابنه، فهذه المسألة لم يتعرض لها أئمة المذهب إلا شيخي فيما حكاه لي عنه بعضُ الثقات، فإنه ذكر وجهين، وقربهما من النكتتين: إن عوّلنا في رد شهادة الزوج على إشعار شهادته بإظهار عداوته، فهذا المعنى قد لا يتحقق في شهادة الأب، وإن عولنا على النكتة الأخرى، وهي التعرض لمحل الحق المستحَق فطرْد هذه النكتة يتضمن رَدّ شهادة أبيه؛ فإن شهادة الأب للابن في حقه مردودة، كما أن شهادة الرجل لنفسه مردودة.
وهذا غريبٌ لا تعويل عليه، فالوجه القطع بقبول شهادة أب الزوج.
ولو شهد ثلاثة على زنا الزوجة، فشهد الزوج معهم، فشهادته مردودة على ما ذكرناه.
9738- ثم شهود الزنا إذا نقص عددهم، فقد اختلف القولُ في أنهم قَذَفَة يُحدّون، أم شهودٌ لا يتعرض لهم؟ وسيأتي ذلك في كتاب الحدود، إن شاء الله تعالى.
ولهذا إذا جاء الزوج وثلاثة يشهدون، فكيف نفرّع قوله، أنجعله قاذفاً أم كيف سبيله؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع القول بأنه قاذف؛ لأنه ليس من أهل الشهادة على هذا الزنا، ومنهم من أجرى فيه القولين، وجعل نقصان الصفة بمثابة نقصان العدد، وعلى هذا خرّج الأصحابُ شهادةَ الفسقة على الزنا إذا تبين فسقُهم بعد إقامتهم الشهادة، وسيأتي ذلك.
9739- ثم ذكر الشافعي: "أن حدّ الزنا إذا توجه عليها وهي حامل؛ فلا سبيل إلى إقامة الحدّ إلى أن تضع ثم تَفْطِم... إلى آخره " ولسنا نخوض في هذا الفصل، فإنه مستقصًى في كتاب الجراح، وفيه تفصيلٌ بين الحد والقصاص، وتبيين ترتيب المذهب.
9740- ثم ذكر الشافعي قيام شاهدين على الإقرار بالزنا، وهذا من كتاب الحدود، والمقدارُ المقيمُ لرسم الترتيب أن القول اختلف في أن الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة عدلين؟ فإن قلنا: يثبت فيتعلّق به وجوب الحد.
فإن قال المشهودُ عليه: رجعت عن إقراري، سقط الحد، وقُبل الرُجوع، وإن قال في معارضة شهادة العدلين: ما أقررتُ وأنتما كاذبان، فلا يكون ذلك رجوعاً منه، والحدّ يقام عليه على القول الذي عليه نفرّع.
فإن قال لما شهد العدلان أو العدول: ما زنيتُ. فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن هذا رجوع عن الإقرار، وذهب شرذمةٌ إلى أن ذلك في حكم التكذيب، ولا يصح الرجوع ما لم يعترف بالإقرار، ثم ينشىء الرجوعَ إن أراد.
وإن قلنا: لا يثبت الزنا بشهادة عدلين على الإقرار بالزنا، فلو قذف رجلاً أو قذف الزوج زوجته، ثم أقام عدلين، فشهدا على الإقرار بالزنا، فهل يسقط حدُّ القذف والحالة هذه عن القاذف والتفريعُ على أن الزّنا لا يثبت؟ فعلى وجهين.
9741- ثم قال: "ولو قذفها، وقال: كانت أمةً أو مشركةً... إلى آخره".
لا اختصاص لهذه المسألة وكثيرٍ من المسائل التي نُجريها بالزوج والزوجة.
فإذا قذف الرجل شخصاً، ثم قال: أنت عبد أو مشرك، وكان مجهول الحال، فقال المقذوف: بل أنا مسلم حُرٌّ، فقد اختلف نص الشافعي في ذلك، وهذا مما استقصيناه في أحكام اللقيط، وفرضنا فيه أنه لو قُذف-ثم فرض النزاع على هذا الوجه- ففيمن يصدَّق قولان:
أحدهما: أن المصدَّق هو المقذوف؛ فإن الأصل الحرية والدار تُثبت الإسلام.
والقول الثاني- أن المصدَّقَ القاذفُ، فإن الأصل براءةُ ذمته، وهذا مما ذكرناه مستقصًى، فألحقناه بتقابل الأصلين، والقولان مفروضان في اللقيط إذا بلغ وقُذف، والأمر على الاستبهام.
فأما إذا فرض ذلك في رجلٍ مجهول لم يعهد لقيطاً، ولكن ليس يعرف نسبه ودينُه، فقد ذكر الصيدلاني طريقتين فيه: إحداهما- طردُ القولين، كما ذكرناه في اللقيط، والأخرى- القطع بأن القول قولُ القاذف؛ فإنا إنما صدقنا اللقيط في قولٍ؛ من حيث تؤكّد الدّار ما يدعيه من الحرية والإسلام، وهذا المجهول إذا لم يكن لقيطاً في دار الإسلام لا تعلق له بمقتضى حكمٍ من الدار.
ولو قال القاذف: قذفتك وأنت مرتد، فأنكر المقذوف، فإن لم يُعهد له ردة، فقد قدمنا أنّ القول قول المقذوف، وعلى القاذف إثباتُ ما ادّعاه، وقد سبقت نظائر هذه المسألة.
ولو قال: كنتُ مرتداً فأسلمت، وجرى قذفُك بعد إسلامي، فلا يقبل ذلك منه.
نعم، له أن يحلّف القاذف.
وكل هذا مما تمهدت أصوله فيما سبق.
9742- ولو قال: قذفتكِ وأنت صغيرة، وأقام على قذفها في الصغر بينةً، وقالت: بل قذفتني وأنا كبيرة، وأقامت بينةً على حسب قولها، فإن كانت البينتان مطلقتين أو مؤرختين بتاريخين مختلفين، فقد ثبت قذفان، ويتوجّه الحد بالقذف الثابت في حالة الكبر.
وإن وقع التعرضُ لوقتٍ واحد، وآل النزاع إلى كونها صغيرةً في ذلك الوقت أو بالغة، فلو أقامت المرأة بيِّنة على أنها كانت بالغةً في ذلك الوقت، وأقام القاذف شاهدين على أنها لم تكن بالغةً في ذلك الوقت، فهذه شهادة على النفي، فإن وقع التعرض لإثبات الحيض، فنفيه مردود والتعويل على الإثبات.
وقد يعترض في هذه المسألة سؤال، وهو أن قائلاً لو قال: كيف يمكن إثبات الحيض، ولا اطلاع على ذلك إلا من جهتها، إذ لو فرض اطلاع على ظهور الدّم من منفذه على صفة الحيض، فقد تعلم تلك أنه دمُ فسادٍ راجعةً إلى ترتيب أدوارٍ، وهي أعرف بها من غيرها، فكيف سبيل تصور الشهادة على الحيض؟
قلنا: ليس يبعد ذلك؛ فإن نسوة لو رأين نفوذ الدم في أول وقت إمكان البلوغ، ثم تمادى الدم إلى انقضاء أقل الحيض، فيمكن فرض العِيان على عُسرٍ فيما ذكرناه، ويمكن حمل الشهادة على إقرارها بالحيض في ذلك الوقت، والنزاع مفروض بعد انقضاء زمانٍ من تاريخ الإقرار. هذا وجه التصوير.
ومما نجريه في ذلك: أنها لو أقامت بينة على أنها كانت بالغة في ذلك الوقت، وأقام القاذف بينة على أنها كانت صغيرة في ذلك الوقت، فالصغر في ظاهر الأمر صفةٌ ثابتة، ولكنه يكاد يرجع في هذا المقام إلى النفي؛ إذ المقصود منه عدم البلوغ.
هذا وجه.
ويجوز أن يُحمل ثبوتُ الصغر على أمرٍ يتعلق بالسن، وتاريخ الولادة، فيرجع ذلك إلى الإثبات، والأصل حمل شهادة الشهود على الصحة، فإذا تعارضت بينتان في الصغر والكبر، على التأويل الذي ذكرناه، والوقت متعيَّنٌ باتفاق القاذف والمقذوف، فإن حكمنا بتهاتر البينتين، فلا كلام، فإن رأينا استعمال البينتين ففي الاستعمال في غير هذا الموضع أقوال، وقد زعم الأصحاب أنه لا يجري هاهنا إلا قولُ القرعة.
والذي أراه وقد تلقيتُه من مرامز كلام المحققين أن قول الاستعمال لا جريان له في العقوبات، وكما يتعطل قول الوقف، وقولُ القسمة، يتعطل قول القرعة أيضاً؛ لامتناع إقامة عقوبة لقرعةٍ وِفاقيّة، فلا وجه إلا المصير إلى التهاتر.
9743- قال: "ولو شهد عليه شاهدان أنه قذفهما وقذف امرأته... إلى آخره".
إذا شهد شاهدٌ أنّ فلاناً قذفني وقذف فلاناً، فقوله مردود فيما يتعلق به؛ فإن شهادة الإنسان لنفسه مردودة، فأما شهادته على قذفه لغيره، فهي مقبولة لو تجرّدت، ولكنها أتت مقترنةً بشهادته لنفسه، فالذي صار إليه الجمهور ردُّ الشهادة للغير أيضاًً؛ لأنه بذكره قَذْفَ نفسه أقام نفسه خصماً وعدوّاً، وشهادة الخصم والعدو مردودة.
ولو قال الشاهد: قذف زوجتي وفلاناً، أو قال: أشهد أنه قذف أمي وفلاناً، فشهادته لأمه غير مقبولة، وهل تقبل شهادته لغيرها والشهادتان مذكورتان في قَرَنٍ.
هذا مما تردد فيه الأصحاب أيضاًً، على ما سينتظم المذهب بعد إرسال المسائل.
فأما شهادة الرجل بقذف زوجته، فيبتني أولاً على شهادة الزوج هل تقبل لزوجته؟ وفيه اختلاف قولٍ، سيأتي في الشهادات، إن شاء الله.
فإن قبلنا شهادة الزوج لزوجته، فهل تقبل شهادته بقذفها؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إنها مقبولة، كما لو شهد لها بقصاص، أو مال.
ومنهم من قال: لا تقبل؛ فإن الشهادة بقذفها تتضمن إظهار عداوة القاذف.
والرجل يتعيّر بقذف زوجته كما يتعير بقذف نفسه.
وعن هذا الأصل نشأ الاختلاف في الجمع بين الشهادة بقذف الأم وقذف أجنبي، فإذا تبينت المسائل، حان ترتيبها:
9744- فأما إذا شهد بقذف نفسه وقذْف أجنبي، فشهادته لنفسه مردودة، وفي ردّ شهادته للغير طريقان: من أصحابنا من قطع بالرد؛ لإظهار العداوة.
ومنهم من أجرى قولين مأخوذين من أن الشهادة إذا اشتملت على شيئين رُدّت في أحدهما، فهل تُردّ في الثاني ولو قدِّر مُفرَداً، لقبلت الشهادة فيه؟ وفيه قولان.
فأما إذا شهد بقذف أمه وقذف أجنبي، فهل نجعل قذف الأم إظهاراً للعداوة؟ فيه اختلاف: منهم من لم يجعله إظهاراً للعداوة، فيتجرّد إذاً البناء على قولي تبعض الشهادة.
ومنهم من جعل ذكر قذف الأم إظهاراً للعداوة.
وأما قذف الزوجة إذا شهد به، وضمَّ إليه قذفَ أجنبي، ففي شهادته لزوجته الكلام الذي ذكرناه، ولكن هل نجعل هذا إظهار عداوة؟ فيه اختلافٌ: فإن جعلنا ذلك عداوة، فالشهادة للأجنبي مردودة، وإن لم نجعله إظهار عداوة، فهي شهادة متبعّضة وفيه القولان.
وهذا بيان قاعدة الفصل وترتيب المسائل فيه.
وربما قال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من قطع بأن شهادته بقذف الأجنبي مردودة، إذا اقترنت بشهادته بقذف نفسه قولاً واحداً، وإذا اقترنت بشاهدته بقذف أمه فطريقان.
ومنهم من قلب، وقال: إذا قرن بين ذكر الأم والأجنبي، فالشهادة للأجنبي تخرّج على قولي التبعيض لا غير، فإذا جمع بين الشهادة للأجنبي وبين الشهادة لنفسه، فطريقان.
وقد نعلم أن القناعة قد تقع ببعض ما نُردِّده، ولكنا نقلّب العبارات، حتى يظهر المُدرَكُ، ويستبين الغرضُ.
9745- ومما يتعلق بتمام الفصل أن من شهد على غيره بمال أو غيره، فقذفَه المشهود عليه، فلا يصير الشاهد خصماً بذلك؛ فإنه قد لا يبغي مخاصمةَ القاذف، ولو جعلنا هذا ذريعة إلى إسقاط الشهادة، لما عجز عن ذلك مشهودٌ عليه في أمرٍ خطيرٍ يهون احتمالُ حد القذف عن مقابلة اندفاعه.
ولو سبق القذفُ، فشهد المقذوف على القاذف بحقٍّ من الحقوق، ولم يبد مخاصمةً في الحد وطلباً له، فشهادته مقبولة أيضاً، وِفاقاً كما لو طرأ القذف.
والقول في العداوة والخصومة وما يوجب ردّ الشهادة منهما وما لا يوجب لا مطمع في استقصائه هاهنا، وموضع ذلك في كتاب الشهادات.
فصل:
9745/م- نقل المزني في الجامع الكبير عن الأم: أن ابنين لو شهدا على أبيهما أنه قذف ضَرّة أمهما، ففي قبول شهادتهما قولان: أظهرهما- القبول، والثاني: أنها لا تقبل؛ لتمكن التهمة، فإنهما يقصدان إثبات القذف على أبيهما، فيضطر إلى اللعان، وتبينُ الضَّرّة، وتنتفع أمهما، وهذا إبعادٌ في التهمة، لا يجوز رد الشهادة بمثله.
وألحق العراقيون بذلك ما لو شهد الابنان على أبيهما على أنه طلق ضَرَّة أمهما، ولا شك أن المسألة كالمسألة، والطلاق أوقع إن كان لهذه التهمة موقعٌ في رد الشهادة، فإن الطلاق يُنجِّز الفراق، ولا أصل لقول رد الشهادة في المسألتين؛ فإن الزوج لا ينحسم عليه مسلك التزوّج.
فصل:
9746- إذا شهد شاهدان على القذف، ولكن قال أحدهما: إن فلاناً قذف فلاناً بالعربية، وشهد الآخر أنه قذف بالعجمية، فالقذف لا يثبت باتفاق الأصحاب؛ لأن المشهود عليه قذفان لا يجتمع على واحد منهما شاهدان.
وكذلك لو فُرض الاختلاف في المكان والزمان بأن شهد أحدهما أنه قذف فلاناً في الدار، وشهد الثاني أنه قذفه في السوق.
وكذلك لو فرض القذفان في زمانين، فلا ثبوت.
وكذلك لو شهد أحدهما على إنشاء القذف، وشهد الثاني على الإقرار بالقذف، فلا تلفّق الشهادة والإقرار بها، وهو بمثابة ما لو شهد أحد الشاهدين بأنه باع من فلان، وشهد الثاني أنه أقر بالبيع، فلا يثبت البيع، ولا يلفق الإنشاء والإقرار.
ولو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية بالقذف، وشهد الآخر أنه أقر بالقذف بالعجمية لفقنا وأثبتنا أصل القذف، ومعنى ذلك أن يكون لفظه في الإقرار بالعربية وبالعجمية والمقر به لا اختلاف فيه، ويفرض في لك بأن لا يتعرض للغة القذف، أو يتعرض على الاتحاد والاتفاق، وهذا من الأصول، فالأقارير مجموعة ملفقة.
ولو شهد شاهد على إقراره يوم السبت وشهد آخرُ على إقراره يوم الأحد، ثبت الإقرار بالشهادتين، وكذلك لو فرض الاختلاف في المكان، إذا اتحد المخبَر عنه، فتعدد الأخبار غير ضائر؛ فإن الإقرار يُعْنَى للمخبَر عنه، فلا نظر إليه اختلفَت صيغتُه ومكانُه وزمانُه أو اتفقت هذه الخصال، فالقذف في حقيقته خبرٌ، فهو مقصود في عينه وبه الجناية على العِرض؛ فلم يعتبر فيه الاختلاف والاتفاق.
ولو شهد شاهد أنه أقر أنه قذف بالعربية، وشهد الآخر أنه أقر أنه قذف بالعجمية، قال المراوزة: يلفق، وقال العراقيون: لا يلفق؛ فإنه أخبر عن قذفين مختلفين، وهذا أوفق وأجرى على القياس المرتضى، والله أعلم.
9747- ثم ذكر الشافعي إن كتاب القاضي إلى القاضي، والشهادة على الشهادة هل يتطرقان إلى حدّ القذف، وفيه اختلافُ قولٍ لا وجهَ للخوض فيه، فإنه يُستقصى في كتابه.
وتعرض الشافعي للتوكيل، وهو مما سبق، فالتوكيل بإثبات القذف جائز، وفي التوكيل باستيفاء الحد واستيفاء القصاص اختلاف نصوص وأقوال، وقد مضى ذكرهما في كتاب الوكالة، وسيجرى ذكرها في الجراح، إن شاء الله عز وجل.

.باب: الوقت في نفي الولد:

9748- إذا ثبت للزوج حقٌّ نفي الولد، فقد اختلف القول في أنه على الفور أم فيه مَهَل؟ فالقولُ الصحيح المنصوص عليه في الجديد أنه يثبت على الفور؛ لأنه لدفع الضرر كالرد بالعيب، وقال في القديم يتقدّر بثلاثة أيام؛ فإنّ خطر النسب عظيم في النفي والاستلحاق، وما يعظم خطره يليق بالمراشد مَهَلٌ فيه للرّويّة، ثم الثلاث تقدّر بها مددٌ شبيهة في مقاصدها بما نحن فيه.
وحكى الشيخ أبو علي قولاً ثالثاً: أن النفي على التراخي، لا يبطله إلا الاستلحاق، وهذا قول ضعيف، لا تفريع عليه، ولا عودَ إليه، والتفريعُ على الإمهال ثلاثةَ أيام بيّنٌ، وأما الفور ومعناه، فقد ذكرناه في كتاب الشفعة على أبلغ وجه في البيان، وذكرنا فيه الإشهادَ وبلوغَ الخبر في الغَيْبة؛ فلسنا نعيد شيئاً مما مضى؛ إذ لا فرق بين البابين.
والذي نذكر هاهنا: أنه لو أخبره مخبر بأن زوجتك ولدت، فأَخَّر، ثم لما روجع قال: لم أصدقه، فهو مصدَّقٌ.
ولو أخبره عدلان، كان يعرفهما بالعدالة، فلا يقبل قوله: لم أصدقهما، ولو أخبره عدل واحد، كان يعرفه بالعدالة، فهذا فيه تردد مأخوذ من قول الأصحاب؛ من جهة أن الغرض الثقة، وذلك يحصل بقول الشخص الواحد؛ إذ يجب التعويل على روايته، ويجوز أن يرعى في ذلك عددٌ يتعلّق بالخصومات، وهذا كالتردد في عدد المترجم والخارص، وما في معناهما، مما يتعلق بأطراف الخصومات، فلا تكون شهادةً محضة.
ولو قال: لم يبلغني خبر أصلاً، فإن كان غائباً، صُدِّق، وإن كان حاضراً والولادة في الدار أو المحِلّة-وما جرت حالةٌ تقتضي المكاتمة- فإذا ادعى عدمَ بلوغ الخبر-والحالة هذه- لم يصدق.
9749- ولو كانت حاملاً، فقد ذكرنا في أصول الكتاب أنا وإن جوّزنا نفي الحمل باللعان، فليس على الفور؛ لأنه ليس مستيقناً، فلو قال: أؤخر اللعان، فلعله ريحٌ تنفُش، لم يبطل حقه.
ولو قال: أعلم أنها حامل، ولكني أؤخر اللعان، فعساها تُجْهِض وتُلقي جنينها ميتاً، قال الأصحاب: التأخير على هذا الوجه مع الاعتراف بالعلم ثَمَّ بالحمل يُبطل حقه من اللعان على قول الفور، وإنما يكون معذوراً في التأخير إذا حُمل الأمر فيه على أن لا يكون الحمل أصلاً، ويَفْرِض ريحاً غليظة تنفشُ.
ورأيت في كلام الأصحاب ما يدل على وجهٍ آخر: وهو أن الحق لا يبطل؛ لأن الحمل لا يُستقين قط، فقوله: "أعلم الحملَ"، لا حقيقة له؛ فإن المظنون يعتقد ولا يعلم.
وهذا متجه، والأظهر ما حكيناه عن الأصحاب.
9750- ولو أخبره مخبر بمولودٍ أتت به امرأته على الفراش، وهنأه به فقال: متعك الله به، أو قال: ليهنك الفارس، أو ما جرى هذا المجرى من الألفاظ المعتادة في التهنئة عند الولادة، فإن قابل الدعاء بدعاء، ولم يصدر منه ما يتضمن تقريراً، فلا يكون مقابلة الدعاء بالدعاء إسقاطاً لحق النفي، وهذا مثل أن يقول للمخبر: جزاك الله خيراً، أو أسمعك الله ما تُسرّ به، أو ما أشبه هذا، فهذه الدعوات لا تعلق لها بالتهنئة، وإنما جاءت مُقابَلةً للدعاء بالدعاء، ولأجل هذا لم نجعله مستلحِقاً، ولا مبطلاً حقَّ النفي.
وبمثله لو قال على أثر دعوة المهنّىء: آمين، مثل أن يقول المبشر: بارك الله لك في المولود الجديد، أو ليهنك الفارس، فإذا قال: آمين، فهذا تقريرٌ للدعاء، ومساعفَةٌ في مقتضاه، وهذا متضمَّنُه الاستبشارُ والرضا بمعنى التهنئة، فيبطل به الحق في النفي.
فهذا القدر هو الذي رأينا أن نذكره.
وغائلةُ الفصل في معنى الفور، والتأخير، والإشهاد، وما يتصل بهما، وقد تقدم هذا مستقصًى في كتاب الشفعة، وسبق طرفٌ صالح منه في الرد بالعيب.
ولو قال: بلغني خبر المولود، ولكني لم أعلم أنه يَثبتُ لي حقُّ نفيه، وأخرت لذلك؛ فإن كان فقيهاً أو أنِساً بالفقه بحيث لا يخفى عليه مثل هذا، فلا يصدق فيما ادعاه.
وإن أمكن صدقه، في دعواه، فقد ذكر أصحابنا وجهين في أنه هل يبطل حقه، وبنوهما على القولين في أن الأمَةَ، إذا عَتَقَت تحت زوجها القنّ، وفرّعنا على أن خيارها في الفسخ على الفور، فلو أخرت الفسخ، ثم زعمت أنها لم تشعر بثبوت الخيار لها، ففي المسألة قولان مع ظهور الإمكان.
فصل:
قال: "فأما ولد الأمة لا يلحق المولى... إلى آخره".
9751- مضمون الفصل التفصيلُ في النسب الذي يَلْحق في ملك اليمين بالمَوْلى، وذِكْرُنا ما يوجب اللحوقَ، فنقول أولاً:
لا خلاف أن الإمكان بمجرده لا يتضمّن إلحاق النسب في ملك اليمين بخلاف النكاح؛ فإن الإمكان فيه كافٍ في الحكم بلحوق النسب، وإن لم يوجد من الزوج إقرارٌ بالوطء، بل يلحق النسب والظاهرُ عدم الوطء، فإن من نكح عذراءَ كريمةً من بيتٍ رفيع النسب، ثم أتت بولد قبل الزفاف لزمان يحتمل أن يكون العلوق به واقعاً في النكاح، فالولد يلحق الزوج، والأصلان ثابتان، ولعل المعنى الفاصل بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش» أن النسب مما اعتنى الشرع بإلحاقه وتغليب أسبابه، كما سبق تقريره، ثم وقع القضاء بهذا في الجهات التي تُعنى وتُطلب لأجل النسب، وهي المناكح.
فأما المملوكة، فالنسب في الغالب لا يُطلب منها، وكان المعتبرون في الأعصار يتعيّرون بإيلاد الإماء، ويذكرون في أوائل مفاخرهم أنهم بنو الحرائر، ومن الكلام الشائع للعرب: "لستُ بابن حرة إن كان كذا وكذا"، فيعدّون هذا من الألايا التي يُقسم بها، ولهذا المعنى لم يُقم الشرع للإماء وزناً في القَسْم، فلم يُثبت لهن حقّاً، ولم يقع الاحتفال بمزاحمة الحرائر بهن، فهذا عُقر الباب.
9752- ثم لا شك أن ملك اليمين وإن تقاعد فيما ذكرناه عن النكاح، فيتصور لحوق النسب فيه، واختلف العلماء فيما يتضمن لحوقَ النسب: فقال أبو حنيفة: لا يلحق النسب إلا بالاستلحاق والدِّعوة الصريحة، فلو اعترف المولى بوطء جاريته وأتت بمولود، فلا يلحقه نسبه عند أبي حنيفة ما لم يقل هذا ولدي، ثم قال: إذا لحقه نسب مولودٍ واحد، ثم أتت بعد ذلك بأولادٍ، لحقوه من غير احتياج إلى الدِّعوة، أو سبب من الأسباب غير هذا.
وقال الشافعي رضي الله عنه: إذا اعترف المولى بالوطء، وأتت الجارية بالولد، لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من الوطء، فقاعدة الباب أن الولد يلحق وإن لم يوجد دِعوةٌ صريحة واستلحاقٌ ناصٌّ على الاعتراف بالوطء.
فإن أتت الجاريةُ بالولد لزمانٍ لا يُحتَملُ أن يكون العلوق به من ذلك الوطء المقَرّ به، فذلك الولد لا يَلْحق؛ فإن معتمد اللحوق الوطءُ المقرّ به، فقد خرج ذلك الوطء عن كونه مستنِداً للولد الذي جاءت به.
وإن أقر بالوطء، وادّعى أنه استبرأها بعد الوطء: أي حاضت بعد الوطء، فالوجه أن نطرد أصل المذهب، ثم نُلحق به وجوهاً حائدة عن القانون، والإحاطةُ بمضمون هذا الأصل موقوفةٌ على نجازه.
9753- فنقول: إذا اعترف بالوطء، وزعم أنه استبرأها بعد الوطء المقرّ به، فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر فصاعداً من وقت الاستبراء المدّعَى، فالولد يلحق استناداً إلى الوطء المقرِّ به؛ فإنا تبيّنا أن الذي جرى لم يكن استبراءً للرحم، وأنها رأت الدم على الحمل.
وإن أتت بالولد لستة أشهر، فصاعداً من وقت الاستبراء، فالمذهب الذي عليه التعويل أن الولد ينتفي.
ومرجع المذهب أنا لم نُلحق النسبَ في ملك اليمين بالإمكان المحض، بخلاف النكاح، ولم نشترط التصريحَ بالاستلحاق، بل اكتفينا بذكر سبب العلوق، وهو الوطء.
ثم كما اكتفينا بما لا يكون تصريحاًً بالاستلحاق نُجري ما يناقض ذلك على حسبه، فالوطء ظاهر في الإعلاق، وجريان الاستبراء ظاهر في براءة الرحم، فيصير الواطىء- بعد الاستبراء، وقد تعارض ظاهرٌ في الإلحاق، وظاهرٌ في البراءة- في حكم المتعلق بالإمكان المحض، وقد ذكرنا أن الإمكان المحض لا يُلحق النسبَ في ملك اليمين، بل النفيُ مترجِّحٌ لتأخر الاستبراء، فهو في حكم الناسخ لما مضى.
9754- ولو ادعى المولى الاستبراء مطلقاً بعد الوطء، وأنكرت الأمة، وزعمت أنها لم تحض بعد الوطء، فقد أطلق الأصحاب أن الرجوع إلى قول المولى.
وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن الاستبراء وقوعُ الحيض، والرجوع في ثبوت الحيض ونفيه إلى النسوة؛ إذ لا مطّلع على ذلك إلا من جهتهن، فقد ذكرنا أن الزوج إذا علّق طلاق امرأته بحيضها، ثم زعمت أنها حاضت، صُدّقت مع يمينها، وجرى القضاء بوقوع الطلاق، والأصل استمرار النكاح، فكيف صُدِّق المَوْلى فيما نحن فيه؟
والجواب عن هذا يُفصّل المسألةَ ويوضح الغرضَ منها، فنقول: هذه المسألة فيه إذا كانت الأمة لا تنكر جريان الحيض عليها، وأن الزوج اعترف بالوطء، فإذا قالت: لم أحض بعد الوطء، فكأنها تدّعي وطأً بعد آخر حيض منها، والزوج ينكر ذلك الوطء، وإنما يعترف بوطء سابق على الحيض، فيؤول الاختلاف إلى دعوى الوطء ونفيه؛ إذ أقر المولى بوطءٍ في وقتٍ عيّنه، وادعى بعد ذلك جريان حيض عليها، وأنكرت الأمة، فهذا محل النظر.
والظاهر أنه يُرجع إلى قولها؛ بناء على ما قدمناه من أن الرجوع إلى قولها في الحيض، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن الرجوع إلى قول المولى في هذا المقام-وإن أرّخ الوطء كما صورناه- لأنه لم يعترف بالنسب، ولا اكتفاء بالإمكان، وكأن الشافعي يشترطُ أن يعترف بوطءٍ ويعترفَ بانتفاء الاستبراء، فإن لم يعترف بانتفاء الاستبراء فلا يدّعيه.
9755- ثم أطلق الأئمة القولَ بأنها تحلِّف المولى في دعوى الاستبراء، وليس هذا لمخاصمتها في النسب، وإنما هو لتعلق حقها بأمية الولد، ثم ذكر الشيح أبو علي وجهين في كيفية التحليف:
أحدهما: أنه يحلف بالله لقد حاضت بعد الوطء، ولم يطأها بعد الحيض حتى أتت بالولد، فإذا حلف هكذا، انتفى عنه الولد.
والوجه الثاني- وهو أن اختيار الإصطخري-أنه يحتاج أن يحلف بالله لقد استبرأها بعد الوطء، ولم يطأها بعد الاستبراء، وليس الولد منه، فلا ينتفي النسب بعد الإقرار بالوطء إلا على هذا الوجه.
وقد يعنّ هاهنا إشكال، وهو أن الأمة لو لم تتعرض للتحليف وطلبِ الحلف، فكيف الوجه، ولا يخفى أن للشرع حقاً في تأكيد لحوق الأنساب، فلو أقر بالوطء وادعى الاستبراء ومات، فالنسب لاحق أو منتفٍ؟ الوجه عندنا الحكمُ بثبوت النسب؛ فإنه ذكر سببَ ثبوته، ولم يؤكد ما يناقضه، والاستبراء على حالٍ متعلقٌ بالأمة، فلا يعارض الإقرارَ بالوطء، ما لم يؤكَّد.
ويخرج من هذا أنه لا حاجة إلى دعواها، ولو حلف دونها، كفى.
وما ذكرناه من أميّة الولد صحيح في غرضها، ولكن لا حاجة إليه فيما يتعلق بالنسب.
9756- ولو زعمت الجارية أنه وطئني فأنكر الوطء، فقد حكى القاضي أن الأمة لا تملك تحليفه، بل ليس لها التعرض لذلك، ثم قال: والوجه عندي أنها تملك تحليفه، وهذه الصورة ليست في معنى الأولى؛ فإن النسب في الصورة الأولى لا ينتفي بعد الإقرار بالوطء إلا إذا حلف على الاستبراء، كما فصلناه، وهاهنا لا حاجة إلى الحلف حتى ينتفي النسب، وهذا هو الذي أراده الأصحاب. نعم، إذا طلبت الأمة أمّية الولد، وقد ولدت، فلا يجوز أن يُتوهم خلافٌ في أنها تملك تحليفه.
9757- ولو قال السيد: وطئتها وعزلت عنها، فالذي قطع به المحققون أن دعوى العزل لا أثر لها، ومن ادعاه بمثابة من اعترف بالإنزال.
وكان شيخي يحكي وجهاً أن النسب لا يثبت إذا ادعى العزلَ، وهذا بعيد، لم أره إلا له، وما رأيتُ في كتاب، ولست واثقاً بنقلي فيه.
نعم، إذا اعترف السيد بإتيانها دون المأتى مع الإنزال، فهل يكون هذا بمثابة الإقرار بالوطء؟ فعلى وجهين: أظهرهما- أنه لا يكون كالإقرار بالوطء.
والوجه الثاني- أنه كالإقرار بالوطء؛ فإن الماء يسبق.
وهذا ضعيف لا أصل له.
9758- فإذا أتت الأمة بولد بعد الاعتراف بالوطء وجرى الحكم بلحوق نسبه وثبتت أمية الولد، فإن أتت بولد بعد ذلك لأقلَّ من ستة أشهر، فهذا الولد يلحق لا محالة؛ فإن الأول إذا لحق-والثاني من ذلك الحمل- وقد ذكرنا أن الحمل الواحد لا يتبعض لحوقاً ونفياً.
ولو أتت بالولد الثاني لستة أشهر فصاعداً، فلا شك أن العلوق به بعد انفصال الأول، فهل يلحق من غير اعتراف بوطء بعد الولادة؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمن أصحابنا من قال: لا حاجة إلى ذلك؛ فإن المستولدة مستفرشة، وقد تأكد الفراش فيها بالولد، فيكفي الإمكان؛ فإنها خرجت عن الرّق المطلق، وانتهت إلى حالة يستفرشها المولى على ضعف ملكه فيها- مع أن حِلّ الوطء يستدعي ملكاً كاملاً، فيظهر من هذا أن للشرع غرضاً في تثبيت حرمة الفراش للتي ولدت نسيباً، وأبو حنيفة مع مصيره إلى أن الولد الأول لا يلحق إلا بالدعوة والتصريحِ بالاستلحاق لم يعتبر هذا في سائر الأولاد بعد الأول.
ولكن لا يجري على مذهب الشافعي ما أجراه أبو حنيفة في إثبات خواصّ الفراش، فإنه قال: المستولدة إذا عتَقَت، فاستبراؤها بثلاثة أقراء كالمطلقة الحرة، والشافعي يكتفي في استبراء المستولدة إذا عتَقَت بحيضة واحدة.
ومن أصحابنا من قال: لا يلحق الولد الثاني إذا تحقق أنه ليس من البطن بالأول ما لم يعترف المولى به أو بوطء جديد بعد انفصال الولد الأول؛ فإنها مملوكة وليست ملتحقة بالمنكوحات، والدليل عليه أن استبراءها إذا عَتَقَت بحيضة، ولا حق لها في القَسْم، كما لاحق للرقيقة، فلا يثبت لها حكم الفراش حتى يكتفى بالإمكان المجرد.
9759- ثم قال الأئمة: هذا الاختلاف ينبني على الاختلاف في مسألةٍ، وهي أن السيد إذا زوّج أم ولده، فألم بها زوجُها، ثم طلقها، فانقضت عدتها، فهل تعود فراشاً للمولى كما تصرّمت العدة؟ فعلى قولين:
أحدهما: بلى تعود، حتى لو مات، أو أعتقها، يلزمها الاستبراء.
والثاني: لا تعود، ولو أعتقها، لم يلزمها الاستبراء.
فإن حكمنا بأنها تعود فراشاً من غير إقرار بوطء جديد، فهذا قضاء منا بان أمية الولد تُغني عن الاعتراف بالوطء، وتقتضي الاكتفاء بالإمكان.
وإن قلنا: لا تعود فراشاً، فلابد بعد التخلي من اعترافٍ بوطء.
فعلى هذا إذا أتت المستولدة بولدٍ، فلحق، ثم أتت بولدٍ يقع العلوق به بعد الولادة، فلابد من الاعتراف بوطء جديد.
هذا حاصل قول الأصحاب في ذلك.
فإن قلنا: لا حاجة إلى الاعتراف بوطءٍ، فقد ذكر بعض الأصحاب أنه لو ادعى الاستبراء، لانُتفى النسب، وهذا خرقٌ عظيم، لا يلحق بالمذهب؛ فإذا كان الولد الثاني يلحق من غير اعترافٍ بوطء، فلا حاصل لذكر الاستبراء.
وقد انتجز ما نقلناه عن الأصحاب.
9760- ووراء ذلك كلِّه أمرٌ هو الأهم، فنعود على ما رسمنا مباحثين، ونقول: إذا اعترف بوطء مملوكةٍ، وادعى استبراءها بعد الوطء، أو جرى حيضُها حقاً، فإذا أتت بالولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فهو منتفٍ على النص وظاهرِ قول الأصحاب.
ومن أصحابنا من قال: يلحق النسب لأن الموطوءة صارت فراشاً في قضية لحوق النسب، والتحقت في هذا المعنى على الخصوص بالمنكوحة.
والسبب فيه أن حرمة النسب في ملك اليمين كحرمة النسب في النكاح، غيرَ أنّا لم نؤاخذ بالإمكان المجرد في ملك اليمين؛ من حيث إن الوطء ليس مقصوداً فيه، فإذا اعترف به، لم يغادر شيئاًً يُطْلِع عليه، والذي يستلحق النسبَ لا يعرف منه إلا الوطء، وهذا واقع في المعنى، فإذاً دعوى الاستبراء بعد جريان الوطء كدعوى الاستبراء في النكاح.
ومن هذا المنتهى نقول: النسب على هذا الوجه تعرض للثبوت، ولا يتصور تقدير نفيه بدعوى الاستبراء على الرأي الذي أظهرناه، فنُجري فيه القولَ القديم المحكي عن أبي عبد الله في أن النسب في ملك اليمين ينفى باللعان، ونحن نعلم أن النسب إذا أمكن نفيه بجهةٍ سوى اللعان لا ينتفي باللعان.
9761- ومما ذكره الأصحاب أن المولى إذا اعترف بالوطء، فأتت الأمة بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوطء المعترف به، فهل يلحق بالنسب؟ ذكروا وجهين مرسلين، والوجه فيه عندنا أنا إذا قلنا: النسب ينتفي بدعوى الاستبراء، فينتفي في هذا المقام، بل هو بالانتفاء أولى؛ فإنا على قطعٍ نعلم أن الولد الذي أتت به لأكثرَ من أربع سنين بعد الوطء، ليس من الوطء، وهذا القطع لا يحصل بالاستبراء، فإن الحامل قد ترى دماً، فسبيل ذكر هذين الوجهين أن نقول:
إن حكمنا بأن دعوى الاستبراء تقطع أثر الاعتراف بالوطء، فالإتيان بالولد لأكثرَ من أربع سنين بذلك أولى.
وإن قلنا: دعوى الاستبراء لا تقطع أثر الاعتراف، فإذا أتت بالولد لأكثر من أربع سنين، لحق الولد، كما لو أتت المرأة بولد لأكثرَ من أربع سنين من وقت النكاح مع الإمكان.
ثم على هذا لابد من إجراء قول اللعان.
وإذا قلنا: لا حاجة إلى الإقرار بوطء جديد بعد أُميّة الولد في سائر الأولاد فأنسابهم لا ينفيه إلا اللعان.
فهذا وجه إجراء اللعان في نسب ملك اليمين.
وكنا أطلقنا قول اللعان وأحلنا تفصيله على هذا الفصل، وقد وفّينا بالموعود، وعلى فضل الله التكلان.
9762- ثم إن الشافعي رضي الله عنه أخذ يستبعد مذهب أبي حنيفة في ملك اليمين والنكاح ويقول: "لا يُلْحِقُ النسبَ في ملك اليمين مع الإقرار بالوطء، ويُلْحِقُ النسبَ في النكاح مع انتفاء إمكان الوطء، وهذا تناقضٌ بيّن " وقد قررنا ذلك في (الأساليب) و(المسائل) والله أعلم.