فصل: باب: النفاس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: النفاس:

626- والنفاس في اللغة يتناول الحيضَ، والدمَ الذي يخرج على أثر خروج الولد، وفي حديث عائشة أنها قالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة، فحضت، فانسللتُ فقال عليه السلام: «مالكِ؟ أَنَفَستِ؟»، فَعبّر بالنفاس عن الحيض، والنّفْسُ في اللسان هو الدم نفْسُه كيف فرض، ولكن العلماء يعبّرون بالنفاس عن الدم الذي يخرج عقيب الولادة. وهذا غرضُ الباب ومضمونه، والدم يحتوي عليه الرحم إذا علق بالولد، ثم يُزجيه إذا انفصل الولدُ. وحكم دم النفاس حكم الحيض؛ فإنه الحيضُ بعينه اجتمع، ثم استرخى وانسل.
ومضمون الباب تحصره ثلاثة فصول:
أحدها: في ذكر أقلِّ النفاس، وأغلبِه، وأكثرهِ.
والثاني: أن الحامل هل تحيض؟ وإن حاضت، فكيف يجري حساب دورها الأخير مع النفاس؟
والثالث: في فرض ولدين توأمين بينهما دم، كيف حكمه؟ وعلى أي وجه ينزل حسابه؟
فإذا نجزت هذه الفصول، ذكرنا بعدها حكمَ اتّصال الاستحاضة بالنفاس.
الفصل الأول
627- فأما الفصل الأول: فأكثر النفاس ستّون يوم عند الشافعي، ومعتمدهُ فيه الوجودُ، كما سبق في الحيض. وأغلب النفاس أربعون يوماًً، وأقل النفاس لحظةٌ واحدة.
وعلل بعض أصحابنا ذلك بأن المرأة قد تلد، ولا ترى دماًً أصلاًً، وهي التي تسمى ذات الجفاف، فإذا تُصوّر ذلك، لم يبعد أن ترى الدمَ لحظة.
وهذا التعليل باطلٌ ويُلزَم مثله في الحيض، فلا زمان تحيض المرأة فيه إلا ويتصوّر أن يستمر بها الطهر فيه. ثم هذا لا يدل على أن أقل الحيض لحظة، فالمتبع الوجودُ إذاً في قاعدة المذهب.
وذهب المزني إلى أن أقل النفاس أربعةُ أيام؛ مصيراً إلى أن أكثر النفاس مثلُ أكثر الحيض أربع مرّات، فليكن أقله مثل أقل الحيض أربع مرّات.
وهذا الفن غير لائق بفقه المزني، وعلوِّ منصبه؛ فإن المقادير لا تبنى على الخيالات الشبهية، ولست أرى لهذه الأصول مستنداً غير ما تقدَّم في أعصار الأولين من الوجود.
الفصل الثاني
628- فأما الفصل الثاني، فلا شك أن الحامل ترى الدمَ على ترتيب أدوار الحيض، واختلف قول الشافعي في أنه دم حيض، أو دم فساد، والأصح أنه دم حيضٍ.
وتوجيه القولين، وذكْرُ مأخذهما مستقصىً في كتاب العِدَّة، فإن جرينا على أنه دمُ حيضٍ، فحكمه حكمُ الحيض، في كل تفصيل، غيرَ أنه لا يتعلق بتلك الأقراء انقضاء العِدة.
والذي يتعلق بأمر النفاس من ذلك أنها إذا كانت ترى أدواراً مستقيمةً في زمان الحمل، والتفريعُ على أنّ الحامل تحيض، فإذا كانت تحيض خمسةً وتطهر خمسة وعشرين، فرأت خمستها، وطهرت عشرة أيام، ثم ولدت ونُفست، ولم يتخلل بين الخمسة التي رأتها قبل الولادة وبين دم النفاس طهر كامل.
فأما دم النفاس، فهو على حكمه، ونقصان الطهر قبله لا يؤثر فيه، واختلف أئمتنا في تلك الخمسة، فذهب بعضهم إلى أنها دم فساد؛ لأنها لم تستعقب طهراً كاملاً، والأصح أنها دم حيض، على القول الذي عليه التفريع؛ فإنّ الدم إنّما يضعف إذا لم يتقدمه طهرٌ كامل، والخمسة مسبوقة بطهر كامل، ونقصان الطّهر يؤثر فيما بعده، ولا ينعكس أثره على الدم السابق، وإذا لم يؤثر نقصان الطهر في النفاس بعده، لم يؤثر في الدّم قبله، والذي يوضّح ذلك أن الولادة إذا تخللت، فهي أقوى في فصل الدم من الطهر الكامل.
ولو رأت خمستها، ثم اتصلت الولادة بها ونُفِست من غير طُهرٍ، فالخلاف في الدم المتقدّم على الولادة كما تقدم، وإن لم يتخلل نقاءٌ أصلاً.
الفصل الثالث
629- فأما " الفصل الثالث " فمضمونه ولادة توأمين بينهما دمٌ، فإذا ولدت ولداً، ورأت دماًً أياماً، ثم ولدت ولداً آخر من ذلك البطن، فالذي رأته من الدم على أثر الولد الأول نفاسٌ أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه ليس بنفاس؛ فإنه متقدم على فراغ الرحم من الولد.
والثاني أنه نفاس؛ فإنه على أثر الولادة.
فإن قلنا: إنه ليس بنفاس، فهل نجعله دمَ حيض أم لا؟ فعلى قولين مرتبين على أن الحامل هل تحيض؟ فإن قلنا: إن ما تراه من الدم يكون حيضاً، فهذا بذلك أولى، وإن قلنا: إنه لا يكون حيضاًً، ففيما نحن فيه قولان.
والفرق أنّ الغَالبَ في الحامل أنها لا ترى دماً؛ لانسداد فم الرحم، فإن رأته، فقد يُقَدَّر ذلك دم فسادٍ لندوره، وينزل ذلك منزلة ما لو رأت الصبيّةُ، وهي ابنة ثمانٍ دماًً.
فأمَّا إذا ولدت ولداً، وانفتح الرحم، فاسترخاء الدم من الرحم ليس بدعاً، بل النادر ألا ترى دماًً إذا ولدت، ثم إذا جعلنا ما رأته دمَ حيضٍ، فيلزم على هذا الوجه رعاية قضايا الحيض فيه، حتى إذا زاد على خمسة عشر يوماً، كان الزائد دمَ فساد، والترتيب فيه كالترتيب في دم الحيض إذا زادت نوبته.
ثم يترتب على هذا الوجه أنه إذا تقدم على ولادة الولد الأول دمٌ، وتخلّل بينه وبين الدم بعدَ الولد الأول أقلُّ من أقلِّ الطهر، فيلزم من هذا القياس أن نجعل ذلك الدمَ دمَ حيضٍ؛ لأنه لم يتقدمه طهر كامل، وليس ذلك الدم دمَ نفاس حتّى ينفرد بحكمه، كما تقدم في الصورة الأولى، وهذا بعيد عن التحصيل.
وباختباط هذه التفريعات يتضح ضعف هذا الوجه.
630- وإن قلنا: إن ما رأته بين الولدين دمُ نفاسٍ، وهو الصحيح، فإن ولدت الولد الثاني، فرأت على أثره الدمَ أيضاً، فقد ذكر الأئمة اختلافاً في ذلك: وحاصل القول فيها يؤول إلى أن ما رأته على أثر الولدين في حكم نفاسٍ واحد، أو في حكم نفاسين، وفيه الاختلاف. ومنه ينشأ ما سنذكره.
فمن أصحابنا من قال: إنهما في حكم نفاسين؛ لمكان الولدين، وانفصال إحدى الولادتين عن الأخرى.
ومنهم من قال: إنهما في حكم نفاسٍ واحدٍ؛ فإن الرحم اشتمل على الولدين اشتمالا واحداً، فالفراغ عنهما في حكم ولادةٍ واحدةٍ.
فإن قلنا: إنهما نفاسان، فإن ولدت ولداً، ورأت الدمَ ستين يوماً، ثم ولدت آخر، ورأت على أثره ستين يوماًً دماً فالدماء كلها نفاسٌ.
ولو ولدت أولاداً من بطنٍ واحدٍ، ورأت على أثر كل واحدٍ ستين يوماًً دماًً، فالجواب كما سبق، ولكل ولدٍ حكمُ نفاسٍ، ولا يتعلّق حكم نفاسٍ في حسابٍ بنفاسٍ.
وإن قلنا: الدماء كلها في حكم نفاسٍ واحدٍ، فينبغي ألا يزيد الدمان جميعاًً على ستين يوماًً، ويحتسب أول الستين من أول الدم الذي رأته على أثر الولد الأول.
ويتفرع عليه أنها لو ولدت ولداً، ورأت على أثر الولد الدمَ ستين يوماً، ثم ولدت الثاني، ورأت دماًً، والتفريع على اتحاد النفاس- فقد قال الصيدلاني: اتفق أئمتنا في هذه الصورة أن الولد الثاني ينقطع عن الأول، ويستعقب نفاساً؛ فإن الذي تقدّمه نفاسٌ كامل، ويستحيل أن يقال: إذا ولدت ثانياً، ورأت دماًً على أثره، فلا يكون ذلك نفاساً.
وقد سمعت شيخي يقول في هذه الصورة: إذا فرّعنا على اتحاد النفاس، فالذي رأته بعد الولد الثاني دمُ فسادٍ، وهذا ولدٌ تقدّمه النفاس.
ويلزم على قياس هذه الطريقة أن يقال: إذا رأت على أثر الولادة الأولى ستين يوماً دماًً، ثم تمادى اجتنان الولد الثاني أشهراً، ثم أتت به، ورأت دماًً، فيلزم أن يقال: إنه دمُ فسادٍ. وهذا بعيد جداًً.
وبهذا يتبين أنّ كلَّ ولدٍ يستتبع نفاساً، ولا يعتبر حساب نفاسٍ بحساب نفاسٍ.
631- ومما يتعلق بما نحن فيه، أن الحامل إذا كانت ترى دماًً، وجرى التفريع على أنه حيض، وإن لم يتخلل بينه وبين الولد طهرٌ كامل، فلو رأت الدم خمسةَ أيامٍ، واتصل الولد بها، فلا يكون ذلك الدم المتقدم محسوباً من النفاس أصلاًً.
ولو طُلِقت المرأة، وبدأت مخايل الولادة، وانحلّ الدم، فالذي قطع به الأئمة أنه ليس من النفاس، وإن أمكن أن يقال: هذا من آثار الولادة.
وذكر صاحبُ الإفصاح وجهاً بعيداً: أن ما كان كذلك، فهو محسوب من النفاس، حتى يعتبرَ ابتداؤه منه، وهذا غير معتدٍّ به في المذهب. نعم، ظهر اختلاف أصحابنا في أنّ الولد إذا بدا، وظهر مع ظهوره الدمُ، فهل يعدُ ذلك من النفاس أم لا يثبت حكمُ النفاس ما لم ينفصل الولد؟ هذا فيه خلاف مشهور، ووجه الاحتمال فيه ظاهر.
فرع:
632- ذكر الشيخ أبو حامد: أن الدم إذا رأته الحامل، ووقع الحكم بكونه حيضاًً، وإن اتصلت الولادة والنفاس به تفريعاً على أحد الوجهين، فلو رأت النفاس بعد الولد ستين يوماًً، ولم ينقطع الدم، قال: فأحسب الدمَ بعد الستين حيضاً، وإن لم يتخلل بين منتهى النفاس، وبين الحيض طهرٌ، قياساً على ما لو تقدّم الحيضُ على النفاس واتصل به، ولم يتخلل بينهما طهر كامل، فجعل تقدُّم الحيض على النفاس من غير تخلل طهرٍ كتأخر الحيض واتصاله بآخر النفاس.
وهذا متروك عليه. والقياس الذي ذكره غير منتظم؛ فإن الدم المتقدم يتقوّى بتخلل الولادة، واعتقاد أن الولادة إذا تخللت، فهي أقوى من الطهر يتخلّل، وهذا المعنى لا يتحقق في اتصال الدّم بآخر النفاس؛ فإنّ جريان النفاس الكامل يتضمن فراغَ الرحم عن دم الحيض، فإذا كان تقدّمُ الحيضِ الكامل ثَمَّ يستدعي تخللَ طهر، فتقدم النفاس الكامل لأنْ يقتضي ذلك أولى وأحرى.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر ضعيفاً، قد يرجع إلى ما ذكره أبو حامد، و ذلك أنه قال: إذا كانت تحيض خمسةً، وتطهر خمسةً وعشرين، فرأت خمسةً دماًً، ثم ولدت، فنحسب لها من أول النفاس خمسة وعشرين في تقدير الطهر، وإن لم يكن طهراً، ثم نُقدِّرُ خمسةً دمَ حيض، وإن كانت نفاساً، وقد انقضى في هذين التقديرين ثلاثون يوماًً من النفاس، ثم نحسب خمسة وعشرين في تقدير الطهر، ثم نحسب خمسة حيضاًً تقديراً، وقد تمّ أكثر النفاس. ثم نحسب بعد ذلك خمسة وعشرين طهراً تحقيقاً، ثم يعود الحيض المحقق.
وهذا تقدير لا مُستندَ له ولا ثَبَت.
ثم قد تؤدي بعض الصور في قياسه إلى عين مذهب أبي حامد، وذلك بأن يفرض حيضَ المرأة خمسة، وطهرها خمسةً وعشرين، ويقدّر أمَدَ النفاس المعتاد خمسةً وأربعين، ثم يفرض رؤية الخمسة قبل الولادة بعشرة أيام، فيحسب تلك العشرة، ويحسب من مدة النفاس خمسة عشر، ثم يحسب خمسة في تقدير الحيض، وقد مضى من أمد النفاس عشرون يوماًً، ثم يحسب الطهر خمسة وعشرين، وقد مضى زمان النفاس. وهذا هو المحكي عن أبي حامدٍ، وهو مزيّف متروك عليه.
فرع:
633- إذا ولدت المرأة، ولم تر على أثر الولادة دماًً أياماً، ثم استرسل الدمُ، فابتداء مدّة النفاس يحسب من وقت الولادة، أو من وقت رؤية الدم؟ اختلف فيه الأئمة: فمنهم من قال: هو محسوب من وقت رؤية الدم؛ فإنه النفاس حقاً، ومنهم من قال: هو محسوبٌ من وقت الولادة، وهذا الخلاف فيه إذا لم يتخلل بين الولادة وبين الدم طهرٌ كامل، فإن تخلل، فسيأتي ذلك بعد هذا.
فهذا تمام المراد في إيضاح مضمون الفصول الثلاثة. مع ما يتعلق بها ويتشعب عنها.
اتصال الاستحاضة بالنفاس
ونحن الآن نذكر تفصيل القول في اتصال الاستحاضة بالنفاس، ونشير إلى المستحاضات الأربع، في حكم النفاس
ونبدأ بالمعتادة.
المعتادة
634- فنقول: إذا ولدت المرأة مرتين فصاعداً، وكانت تُنفَس أربعين يوماً، فولدت مرة ونُفست، وكان يتوقع انقطاع الدم على الأربعين، فزاد الدمُ وتمادى، فهي مأمورة بالتربّص، وترك ما يتركه الحُيّض، فإن انقطع على الستين، فالكل نفاس، وإن زاد على الستين، فقد بان أنها مستحاضة، ونردّها إلى عادتها القديمة، تبيناً واستناداً ونستبين أن ما رأته وراء الأربعين دمَ فساد، كما سبق تقرير ذلك في أحكام المعتادة في أدوار الحيض، ثم نحسب وراء الأربعين طهرها المعتاد في أدوار الحيض، ثم نحيّضها المقدارَ المعتاد، وندير عليها أدوارها، ويرجع ترتيب الكلام إلى القول في المستحاضة المعتادة، ونقدّر النفاس في أمده بمثابة حيضةٍ من الحيض، ثم نعتبر بعده الطهرَ، كما ذكرناه.
ويليق بمذهب أبي حامدٍ أن يقول: أحتسب بعد أمد النفاس حيضةً ثم طهراً؛ إذ لا يبعد عنده اتصال الحيض بالنفاس، كما سبق، وهو باطل غيرُ معتدٍّ به، وهذا إذا كان ثبت لها أمد النفاس قديماً، وتكررت الولادة.
فإن ولدت مرة واحدة، ونُفست أربعين وطهرت، ثم اتصلت الاستحاضة بالولادة الثانية، فهذا يخرّج على أن العادة هل تثبت بالمرة الواحدة؟ وهاهنا الأصح ثبوتها بها، فإن الاستمساك بالمرة الواحدة أولى من ردّها إلى عماية الظنون، ونقدرها مبتدأة، كما سنذكر الآن.
المبتدأة
635- فأما المبتدأة، فهي التي كما ولدت ونُفست استحيضت، وفيه قولان، كالقولين في أمر الحيض:
أحدهما: أنها مردودة عند زيادة الدم على الستين إلى أقل النفاس بطريق التبيّن، وهو لحظة واحدة، وما وراءها استحاضة
والثاني: أنها مردودة إلى الغالب، وهو أربعون يوماًً.
ثم إن كانت معتادة في أدوار الحيض مبتدأة في النفاس، فإذا انقضى ما رددناها إليه من النفاس، حسبنا بعده طهراً من أطهارها، وعادت إلى أدوارها المعتادة. وإن كانت مبتدأة في الحيض، حسبنا نفاسها لحظةً، وجرينا على قياسنا في أمر طهر المبتدأة، كما مضى مقرراً.
وذهب المزني إلى أن المبتدأة في النفاس مردودة إلى الأكثر، وهو ستون يوماً.
وهذا مما انفرد به، وليس له أصل؛ فإنّه وافق أن المبتدأة في الحيض لا تردّ إلى أكثر الحيض، ولا فرق بين النفاس والحيض، ولم يخالف أن المعتادة في النفاس إذا استحيضت، فهي مردودة إلى العادة قياساً، وليست مردودة إلى الأكثر.
فرع:
636- إذا ولدت مرةً أو مراراً، ولم تُنفَس أصلاًً، ولم تر دماًً، ثم ولدت ونُفست، واستحيضت، فلسنا نرى ما مضى من حالها فيما تقدم عادةً، حتى نقول: لا نفاس لها، ردّاً إلى ما عُرف من أمرها مرةً أو مراراً، بل نجعلها إذا نُفست، واستحيضت، بمثابة مبتدأة تُنفس وتستحاض؛ فإنها مبتدأة في الصورة التي ذكرناها في النفاس، وإن لم تكن مبتدأة في الولادة، ونحن إنما نتبين النفاس وجريانه على اعتيادٍ أو ابتداء.
المميزة
637- فأما المميزة، فهي التي تُنفَس وترى دماًً قوياً، ثم ترى دماًً ضعيفاً، ويستمرُّ ويزيد على الستين، فيتبيّن بالأَخَرة أن نفاسَها الدمُ القوي، ثم إن اجتمع التمييز والعادة، ففيه الخلاف المشهور في أدوار الحيض.
فرع:
638- المميزةُ في أحكام الحيض إذا رأت مرة الدم القويَّ، وبلغ أقلَّ الحيض، فصاعداً، ولم يزد على أكثر الحيض، وضعف الدم، وتحقّق أنها مستحاضة، ثم تمادى الدم الضعيف سنةً مثلاً، ولم يعد الدم القوي أصلاً، فالذي يقتضيه قياس التمييز والرد إليه أنها طاهرةٌ، وإن تمادى الدم سنين.
وقد يختلج في النفس استبعادٌ في الحكم بطهارتها، وهي ترى الدمَ دائماً. وسببُ أنّا لا نحيّضها أنها رأت السواد يوم وليلة مرة واحدة، و لو لم تره، لم تكن مميزة، وكان استمرار الدم بها يوجب أن يدور عليها الحيض على ترتيبٍ وأدوار رسمناها للمبتدأة، ولو تشوّفنا-وقد طال أمرُ الدم الضعيف- إلى تحييضها، فليس معنا مردٌ ضَابط في ذلك ننتهي إليه، وليس لأكثر الطهر ضبطٌ، فنتعلّقَ به. فهذا وجه التنبيه على إشكال الفرع.
وأنا أراه ملتفتاً على مسألة ذكرناها من كلام القفّال، في أن المرأة إذا حاضت، ثم طهرت، وتباعد حيضُها سنة أو سنتين، ثم عاودها الدمُ، وقلنا: العادة تثبت بالمرّة الواحدة، فلا نردها إلى الأمد الطويل في الطهر آخراً، إذا طَبَّق الدم عليها، بل نعتبر ثلاثة أشهر، وهو مدة العدة في حق الآيسة. وقد فصلتُ هذا وألحقته بالحاشية؛ فلا يبعد أن نقول: إذا تمادى الدمُ الضعيفُ، فلا نُخلي ثلاثة أشهرٍ عن حيض، فظاهر القياس أنها طاهرة، وإن بلغ أمد الطهر الضعيف ما بلغ. والله أعلم.
المتحيرة
639- فأما المتحيرة في النفاس، فهي التي سبقت لها عاداتٌ قديمة فنسيتها، ثم ولدت ونُفست، واستحيضت قال الأئمة: هي في قولِ كالمبتدأة، وقد تفصّل حكمها. وفي قولٍ نأمرها بالاحتياط، وذلك كلّه بعد أن يزيد الدمُ على الستين، فإذ ذاك ننعطف بالحكم، ونخرِّج الأمر على القولين. ثم إذا كان تحيرُها في النفاس، وكانت ذاكرةً لعادتها في أدوار الحيض، فليس عليها ترتيب أدوار الحيض؛ فإنها لا تدري أنّ طهرها متى يقدر عودُه بعد منقرض النفاس، وينجرّ عليها من هذا إشكالٌ، لا يكاد يخفى تفريعه؛ فإن ترتيب الطهر والدور وإن أعضل، فإذا كانت ذاكرةً لمقدار الحيض، فتستفيد بذلك أحكاماً بيّنةً.
قلت: الصحيح في المتحيرة في أحكام الحيض الردُّ إلى الاحتياط، كما تقدم.
والسبب فيه أنا لا ندري مبتدأ دورها ولا سبيل إلى التحكم بإثبات مبتدأ لدورها من غير ثبت، فهذا هو الذي ورّط في الاحتياط.
وإذا ولدت ونُفست، فابتداء النفاس معلوم، فيظهر عندي جعلُها كالمبتدأة في النفاس، وإن كان يضعف ذلك في الحيض.
فهذا منتهى القول في ذلك.
640- ومما يتعلق بأحكام النفاس أنه لو تقطّع الدم على النفساء، فكانت ترى يوماًً دماًً، ويوماًً نقاءً، فحكم التلفيق قد مضى مفصلاً.
والذي نجدده في أمر النّفاس أنّها لو طهرت في أيام النفاس خمسة عشر يوماًً، ثم عاد الدم في الستين، فقد اختلف أئمتنا في أن العائد نفاسٌ أم لا؟ فمنهم من قال: ليس بنفاس؛ لأنه انقطع وجرى طهرٌ كامل، ومنهم من قال: هو دم نفاس؛ لأنه في الستين.
فإن قلنا: إنه ليس بنفاس، فنقدّر الدم العائد حيضاًً.
وإن جعلنا الدمَ العائد نفاساً، وكنا نرى ترك التلفيق، فالذي صار إليه الأكثرون أن زمان النقاء حيضٌ، وإن بلغ خمسةَ عشر.
ومن أصحابنا من قال: وإن كنا نرى ترك التلفيق، فنقضي بأنها طاهرة في الخمسة عشر ونستثني هذه الصورة في التفريع على هذا القول.
641- ومما يتصل بذلك أن المرأة إذا ولدت، ولم تر الدم خمسة عشر يوماً، ثم رأت الدمَ، فهذا يخرّج على الخلاف المذكور.
ففي وجهٍ نقول: هي نفساء؛ لوقوع الدم في الستين.
وفي وجهٍ نقول: هي ذاتُ جفاف، لم تُنفس، والذي رأته من الدم حيض.
فهذا تمام البيان في ذلك.
642- وقد ذكر الصيدلاني في تخللِ طهرٍ كامل في الستين تفصيلاً حسناً، فقال: إن عاد الدم في الستين، ثم انقطع على الستين، فالوجهان في أنّ العائد نفاسٌ أم لا في هذه الصورة، فأمّا إذا جاوز الدمُ الستينَ، وصارت مستحاضة، فالذي يعود بعد الخمسةَ عشَر ليس بنفاس وجهاً واحداً، وإنما هو حيضٌ.
ولا وجه عندي إلا ما ذكره، وما أطلقه الأئمة منزل على هذا التفصيل قطعاً.
والله أعلم.