فصل: باب: الأمة تغرّ من نفسها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: الأمة تغرّ من نفسها:

8241- قد ذكر الأصحاب حكم الغرور بالنسب فيما تقدم، ونحن أخرناه إلى هذا الباب؛ حتى نأتي بأحكام الغرور مجموعة، والرأي أن نذكر حكم التغرير بالحرية ونستوعب ما فيه، ثم نذكر التغرير بالدين مع ما يتعلق به، ثم نذكر التغرير بالنسب وما يتعلق به من الصفات المرعية في الكفاءة.
8242- فإذا غُرَّ أحد الزوجين بحرية صاحبه، فلا يخلو إما أن يُغر الرجل بحريتها، أو تغر المرأة بحرية الرجل، فإن غُرّ الرجل بحريتها، ولا يتصور ذلك، أولاً من جهة المولى؛ لأن المولى إذا ذكر حرية أمته، عَتَقَت، فالوجه فرض التغرير من وكيل الولي، بأن يزوّج وكيلُ الولي بأمر المولى، فيذكر الوكيل من تلقاء نفسه أن المزوّجة حرة. فهذا الأصل لا تتضح الأغراض فيه إلا بتقاسيم، وإذا رتبنا التقسيم في حقه، أَحْوَجَنا الترتيبُ إلى إعادة أحكام؛ حتى تجري الأقسام على انتظام، فليحتملها الناظر؛ فإنا لا نُخلي معاداً مما هو مستجد مستفاد، إن شاء الله تعالى.
8243- والذي نرى تصدير الفصل به-قبل الخوض في التفاصيل- الاعتناءُ بتصوير التغرير؛ فإنه لم يهتم بهذا أئمة المذهب، ولعل الأولين عولوا على فِطَن الطلبة وأبهموا، ثم تناسخت الأعصار، فصار ما استهانوا به معضلةً في صدور أهل الزمان، ونحن لا نجد بداً من تقرير الإشكال، وتوجيه فنونٍ من السؤال، ومعارضتها بما يمكن من طريق الانفصال، حتى تنفتح نواظر البصائر، وإذ ذاك نأتي بالحق المبين، والله ولي الإعانة.
فنقول أولاً: التغرير في ظاهره شرط حرية الزوجة، وقد تمهد في أحكام العقود، ومقتضى المعاملات أن الشرائط إنما تؤثر إذا ذكرت في صلب العقود، فلو أجرى المتعاقدان شرائط قبل الإقدام على العقد، ثم لما عَقدا العقد بالإيجاب والقبول، عرّياه عن التعرض عما كانا تفاوضا فيه من الشرط فيما تقدم، فالشرط لاغٍ، والعقد مجرى على الإطلاق بالاتفاق.
وموجب هذا الأصل يقتضي أن يجري شرط الحرية بين الإيجاب والقبول في النكاح، ولكن لا سبيل إلى القول بذلك، وقد نص الشافعي على أن الأمة إذا كانت هي الغارّة، فيثبت الحكم بتغريرها، ويترتب على ذلك من أحكام الغرور ما سنصفه، إن شاء الله عز وجل.
وإذا كان يتصور التغرير منها وليست عاقدةً، ولا يتعلق بها من شِقّي العقد شيء، فيتبين بهذا أن التغرير ليس مما يجري إجراؤه في صلب العقد؛ إذ لو كان ذلك مرعياً، لما صدر التغرير إلا من عاقد.
وإن تكلف متكلف وفرض ذكرَ الوكيل في التزويج تغريرها في معرض الحكاية، كان ذلك هذياناً؛ فإنه وكيل من جهة المالك بحق الملك، فكيف ينتظم منه ذكر الحرية حكايةً؟ وقول الأمة-وهي مجبرة على النكاح- كيف يغيّر العقد، وليس إليها من العقد شيء؟ أفلا يتضح لكل ذي فهم أن تصوير التغرير من الأمة والمكاتبة، يُبيِّن أنا لا نقف صورة التغرير على إجرائه بين الإيجاب والقبول؟ ويجوز أن يذهب ذو الذكاء والفطانة من طريق المعنى إلى أن اشتراط كون العبد المبيع كاتباً لا يرعى فيه الإقرار بالعقد، وذلك أن الغرض من شرط كون العبد كاتباً إعلام المشتري بذلك؛ فإن العقود مبنية على ظاهر العلم بالسلامة، فكفى ذلك، وكان سبباً في إثبات الخيار عند ظهور نقيض السلامة، والفضائل ليست تنضبط بعادة مطردة، فيصير ذكر البائع لها بمثابة اطراد العادة في حِسْبان السلامة من العيوب، وإذا كان كذلك فقد يخطر في مجاري فكر الفطن أن ذكر مَنْقبةٍ في العقد على الاتصال بالعقد قبل الإقدام على شقيه يثبت الخيار إذا تحقق الخُلف فيه، وقد يشهد لذلك التصريةُ والتحفيل؛ فإن ما ترتب عليه من ظن غزارة اللبن يضمن الخيار إذا أخلف الظن، والتصرية متقدمة إنشاءً وفعلاً.
ثم من أساليب الكلام في هذا الفن أن يقول الفقيه: الشرط الذي يُرعى اقترانه بالعقد هو الشرط المفسد؛ فإنه إذا قرن بالعقد، صار كيفيةً في العقد وصفةً فيه، وليس هو من قبيل الإعلام حتى يُكتفى فيه بسابق يغلب على الظن تحققه. هذا مسلكٌ. وقد يتصل به أنا إذا منعنا شراء الغائب؛ ثم أقمنا تقدم الرؤيةٌ مقام الرؤية المقترنة، وقلنا: لو تقدمت رؤيةٌ وتخلل بينها وبين العقد زمن لا يغلب فيه تغير المبيع، ثم اتفق أن المشتري الباني على الرؤية المتقدمة صادف المبيع متغيراً؛ فله الخيار، وإن لم يكن التغير إلى عيب، ونزّل المحققون الرؤية المتقدمة منزلة اشتراط المناقب والفضائل مع اختلاف الشرط، فهذه رؤية تقدمت، وهي مشبّهةٌ بالشرط، فأشعر هذا الترتيب بما ذكرناه من حِسبان تقدم الشرط في مناقب المبيع مؤثراً. هذا نجاز هذا النوع من الكلام.
8244- وقد يعارض هذا كلامٌ أفقهُ منه، وهو أن الفضيلة المشروطة لا تنزل منزلة السلامة الغالبة المعتقدة في المبيع؛ فإنَّ التعويل في هذه المنقبة على قول المخبر، وقوله متردد بين الصدق والكذب، ولو كان سمع مشتري العبدِ عُدولاً يُخبرون عن كتابة عبدٍ، فبنى الشراء عليه، ثم تبين اختلاف الظن؛ فلا خلاف أنه لا يملك الفسخ.
وقول العدول الذين لا غرض لهم في ملك الغير أحرى بتغليب الظن من قول الفاسق البائع المتهم بأنه يُروِّج متاعَه، وهو على شفا وغارّ، فلا يحصل الإعلام بهذا، وإن قال القائل: ألسنا نعتمد في صحة البيع قولَ البائع في أن المبيع ملكُه، وقولَه في أن ما يبيعه لحم مُذَكَّاةٍ، قلنا: لأجل هو كذلك، وليس هو لإثارة قوله علماً وظناً، ولكن اضطررنا إلى تنزيل العقود على أقوال العاقدين؛ فإنا لو كُلِّفنا غير ذلك في العقود؛ لعظم الأمر، وشقَّ المأخذ.
والذي يقتضيه الفقه أن الفضيلة إنما تصير مشروطة بالتزامها وإنما يتحقق التزام صفة المبيع حالة البيع، فسبيل اقتضاءِ الشرطِ الخيارَ هذا لا غير.
8245- فإذا تنبه الناظر لهذه المسالك، جاز أن نقول بعدها: أما الشرط المفسد للعقد، فإنما يؤثر إذا اقترن بالعقد لما ذكرناه، ولو قُدِّم على الاتصال، فالمذهب أنه لا يؤثر، وفيه وجه بعيد: إنه يؤثر؛ أخذاً من مسألة مهر السر والعلانية. وشرطُ الخيار في العقد، وكذلك شرط الأجل وقتها وقت الشرط المفسد، فأما شرط فضيلة في المبيع، فالذي قدمناه من الإعلام ترديد القول فيه توطئةً لطرق الكلام، والمذهب المبتوت أنه لابد من الالتزام، ولو قدم شرط الفضيلة في النكاح، انقدح فيه الوجه الضعيف المذكور في مهر السر والعلانية.
وأما ما مهدنا به في تمهيد الكلام من التصرية، فلا متمسك به من وجهين:
أحدهما: أن مسألة المصراة خبرية، فلا ينبغي للقياس أن يبسط فيها، والآخر أن كثرة اللبن محسوس في الحال، والنظر مَزْوِيّ مطوي عما يفرض من تحفيل وتصرية، وأما مسألة تقدم الرؤية في تفريع الغائب؛ فسبب الخيار ضعف الرؤية وانحطاطها عن إفادة العلم حالة العقد بسبب ما طرأ من التغير، فَلْيُقرَّرْ كل أصل على موضوعه. هذا قولنا في البيع وما شرط فيه، وكذلك ما في معناه من عقود المعاملات.
8246- وأما النكاح؛ فالقول في الشرائط المفسدة له كالقول في الشرائط المفسدة للبيع، لا يختلف وقت الشرطين في العقدين. وأما الغرور، فلست أراه-أحسن اللهُ إرشادكم- من باب الشرائط. ومن وُفِّقَ لرُشده، تبين له من ترجمة الباب ذلك؛ فإنَّ الباب مترجم بالغرور، فلا ينبغي أن يلحق في وضعه بالشرائط وأحكامها ومواقيتها، ويجب أن يقال: إذا جرى التغير قبل العقد متصلاً، ارتبط به حكم الغرور، وسأصف الاتصال ومعناه. ويخرّج على ذلك صدَرُ التغرير من الأمة والمكاتبة.
ثم ليعلم الناظر أن أجنبياً لو ذكر حرية أمة، وابتنى العقد عليه، فلا يتعلق بقول ذلك الأجنبي مرجع في غرم، وإنما يثبت حكم التغرير على الكمال إذا صدر من عاقدٍ أو معقود عليه، أما العاقد، فهو الذي غرر، ثم أوقع المغرور في العقد، وكان محقِّقاً تغريرَه، وأما المنكوحة فبها اتصال العقد، فلها حظ في مستمتع العقد، فظهر تصديها للتغرير من حيث دعت إلى نفسها.
والذي يحقق ذلك أنا قدّرنا قولين في باب العيوب في الرجوع على الأولياء، ولم يصدر منهم شرط والتزامه، وقاعدة التغرير مشهورة، ومن صورها أن يقول صاحب اليد في الطعام لمن يقدمه إليك: "دونك فكُلْه"، أو "هذا طعامي فتناوله"، فهذا تغرير ولا عقد. ثم إذا وجهنا قولاً على قول في التغرير بتقديم الطعام، استمسكنا بالتغرير في النكاح. هذا تمام ما أردناه.
ولو أنصفنا لقلنا: الرأيُ لا يُسلّطُ على الرجوع على الغارّ في النكاح، ولكن إنما صرنا إلى ما صرنا إليه لقضاء عمر واتفاق الناس على اتباعه، والنكاح أيضاً على حال مُخطرٍ، وهو معقود للأبد، معدود من أسباب النسل، فخُصّ في الشرع بالتغليظ على المغرِّر فيه، وأمّا البياعات؛ فإنها معاملات تجري يداً بيد، فمدارها على الالتزامات.
والذي يحقق الغرض من ذلك أن الوكيل مُزوِّجَ الأمة إذا ذكر حريتها من عند نفسه، فقوله هذا لغو ولا يتحقق منه التزام، على خلاف إذن المالك، ففي مُقرَنه من الإشكال ما في متقدمه، فهذا في غاية البيان.
8247- وتمامه بذكر الاتصال وشرحه، فإذا ذكر الرجل أن فلانة حرة، ولم يقصد بهذا تحريضَ سامعٍ على نكاحها، ثم اتفق من ذلك السامع نكاحها بعد أيام، وقد تعاطى تزويجَها من كان يذكر حريتها بتوكيل المالك إياه؛ فلست أرى هذا تغريراً، والرجوع فيه إلى العُرف.
ولو جرى ذكر الحرية في معرض الترغيب في النكاح، ثم اتصل به التزويج، بحكم الوكالة من المغرِّر، فهذا هو التغرير في حقه.
وإن اقترن ذكر الحرية، وشرطُها بالعقد، فهو الذي لا كلام فيه؛ فإنه على أقصى نهايات الاتصال.
ولو جرى ذكر الحرية لا في معرض تحريض الحاضر على الزواج، ثم اتفق على القرب العقدُ، فهذا فيه تردد. وكذلك لو جرى ذكر الحرية في معرض التحريض، ثم جرى عقد النكاح بعد تخلل زمان يُعدّ مثله فاصلاً لما مضى عما أتى به من العقد؛ فهذا على تردد. ومهما نيط الأمر بمجاري العادات، فمحل القطع فيها على النفي والإثبات بيّن، ومحل التردد فيها يفضي إلى التردد في الحكم، والأمة إذا ذكرت حرية نفسها، فالقول في اتصال كلامها وانفصالها على ما ذكرناه.
وقد انتجز المقصود في تصوير الغرور، ولم يبق منه شيء إلا أمر واحد، وهو أن الأئمة ذكروا قولين في أن شرط الحرية إذا أخلف، هل يوجب فساد النكاح؛ على ما سنذكره-إن شاء الله تعالى- وهذا مخصوص بالشرط المقترن لا محالة؛ لما مهدناه من أن الشرائط المؤثرة في الإفساد لابد وأن تفرض مقترنة بالعقد؛ فإنهم ذكروا التغرير وقرنوه بإجراء القولين في فساد العقد، ولكن يمكن حمل هذا على ما إذا جرى التغرير مقترناً. وإن جرى متقدماً، لم ينقدح فيه الفساد إلا على الوجه الضعيف في مهر السر والعلانية، وهذا التردد لا يعارض ما ذكرناه من تغرير الأمة بنفسها، وليست عاقدة.
هذا مضطربي في تصوير التغرير، وقد نبهت للنظر في ذلك كلَّ فطن، فمن عثر على مزيد، فليلحقه بحاشية كتابنا مأجوراً، إن شاء الله عز وجل.
8248- وقد عاد بنا الكلام إلى حكم التغرير فإذا غرّ وكيلُ المولى في تزويج الأمة بحريتها، فلا يخلو المزوَّج بها إما أن يكون حراً أو عبداً، فإن كان حراً، نُظر إن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء؛ فالنكاح باطل، وإن كان ممن يحل له نكاح الإماء، وقد جرى التغرير شرطاً؛ ففي انعقاد النكاح قولان إذا تحقق الخُلف في الشرط. وهذان القولان يجريان في كل خُلف يفرض في حقه مشروطاً من الناكح أو المنكوحة، ولا فرق بين أن يتفق الخُلف من كمال إلى نقصان، وبين أن يتفق الخلف من نقصان إلى كمال، أو من صفة إلى أخرى تماثلها في مراتب الفضائل.
توجيه القولين: من قال: يصح النكاح-وهو الأصح- وإليه صار أبو حنيفة واختاره المزني، احتج بأن اختلاف الشرط لا يثبت فساد البيع مع تعرضه لقبول الفساد بكل شرط فاسد متعلق ببعض مقاصد البيع، ثم لم يفسد باختلاف الشرط؛ فلأن لا يفسد النكاح أولى، وفقه التوجيه أن المعقود عليه متعيَّن في البابين، فالمنكوحة متعينة وهي ذات صفات، والعين لا تتبدل بفرض خُلف في الصفة، وكذلك العبد متعيَّن في البيع لا يفرض تبدله باختلاف شرط متعلق بصفة.
ومن قال بفساد النكاح استدل بأن مدار النكاح في العادات على الصفات؛ فإن المرأة لا تُعايَن عرفاً، وإنما يَتوصَّل طالبُ الحظ منها إلى غرضه بالوصف، فإذا فرض الخُلف في الوصف، كان ذلك اضطراباً في الطريق المعتاد في درك الأغراض من المعقود عليه، وإن كان مورد العقد المرأة، ذات صفات، ولكن التعويل في العادات على الصفات؛ فإذا اضطربت، جرَّ اضطرابها فساداً.
وقرّب بعض الأئمة اختلاف القولين في ذلك من الإتيان باسمٍ يخالف اسمَ المبيع مع الإشارة إليه، مثل أن يقول: "بعتك هذه الرّمَكَة والمبيع بقرة: من أصحابنا من حكم بإفساد العقد لاضطراب اللفظ، ومنهم من صححه تغليباً للإشارة والتعيين.
وهذه المسألة بعيدة عما نحن فيه؛ من جهة أن الرَّمَكة لفظة تشعر بموصوف وصفات، وليس تعرضاً لصفة فحسب، فإذا خالف اللفظ بالكلية محلَّ الإشارة، اتجه فيه خلاف على بعد، وآية ذلك أن الجنس يختلف في المفهوم من اللفظ المشار إليه، والمنكوحة متعينة، وإنما المذكور صفة من صفاتها، اختلف الشرط فيها أو لم يختلف، فليس عند الفقيه لإفساد النكاح توجيهٌ عليه معوّل.
وقد يقال لموجه هذا القول: إنما يستقيم التعويل على فصل الصفات لو كان شرط ذكرها في النكاح، فإذا لم يشترط ذكرها و كفى التعيين، فيبعد أن يؤثر الخلف في الإفساد.
غايةُ الإمكان في ذلك أنا قد لا نشترط ذكر شيء، وإذا فرض ذكره اشترطنا الاستداد والإصابة فيه. وهذا كما أنا لا نشترط في المبيع المشار إليه ذكر اسم جنسه، بل يكفي أن نقول: بعتك هذا؛ فلو وقع التعرض لذكر جنسه، فلابد من الإصابة فيه عند بعض الأصحاب.
هذا بيان القولين والتفريع عليهما.
8249- فإن حكمنا ببطلان النكاح، فسد النكاح، وألحق التفريع بما إذا كان الحر الخاطب ممن لا يحل له نكاح الإماء.
فإن لم يكن دخول، فرقنا بينهما، وإن جرى دخول على الظن، فوطء شبهة يتعلق به وجوب مهر المثل، والعدّة، ولا نفقة إن كانت حائلاً، وإن علقت منه بمولود، ففي وجوب النفقة قولان مبنيان على أن النفقة إذا وجبت مضافة إلى المطلقة البائنة الحامل، هي للحامل أو للحمل، وقد مضى ذلك.
8250- وإن فرّعنا على القول الصحيح، وهو قول تصحيح العقد، فأول ما نذكره في التفريع على هذا القول، الخيار الذي ذكره أئمة المذهب أن الزوج المغرور يثبت له خيار فسخ النكاح إذا كان حراً.
وذكر صاحب التقريب والعراقيون في الزوج الحر المغرور، وفيه إذا كان الزوج عبداً وقد غُرّ ثلاثة أقاويل: أحدها: إنه لا خيار للزوج أصلاً، فليطلق إن شاء، وهذا القائل يقول: إنما يثبت الخيار للزوج بسبب عيوب المرأة فحسب، فإن النكاح على الجملة بعيد عن قبول الخيار، وجانب الزوج أبعد عن قبول الخيار من جانب الزوجة، فإنَّ الخيار إن ثبت، فالذي يليق به ألا يثبت إلا عند الضرورة لمضطر، وإنما يتحقق نعتُ الاضطرار في حق المرأة، فإنها في ربقةٍ لا تملك حلها اختياراً، والزوج ممكَّن من الطلاق؛ وبهذا المسلك لم يُثبت أبو حنيفة للزوج حق الفسخ بجب الزوج وعنته.
والقول الثاني- إنه يثبت الخيار بالتغرير في الحرية، سواء كان الزوج حراً أو عبداً، وهو الذي تدل عليه الآثار وأقضية الصحابة رضي الله عنهم.
والقول الثالث: إنه يُنظر، فإن كان الزوج حراً، فله الخيار، وإن كان عبداً، فلا خيار له؛ فإن العبد وإن كان مغروراً، فالأمة مع رقها مثله، وسنذكر في خُلف الشرائط في الأنساب أن الزوج إذا بان في نسبه أحط مما شرط، ولكن كان مع ما هو عليه أعلى نسباً من المرأة، أو كان مثلها، فهل يثبت الخيار للمرأة؟ فعلى قولين، فالزوجة إذا جرى شرط حريتها، فبانت رقيقة، فهي وإن بانت دون ما شرط مماثلة لزوجها العبد، فشابه ذلك الصورة التي ذكرناها الآن في اختلاف الشرط في النسب مع التساوي في المنصب.
8251- فهذا أصل الكلام في الخيار، والتفريع في الزوج الحر. فإنَّا فيه نتكلم على الأصح وهو أن الخيار يثبت، ثم الزوج لا يخلو إمَّا أن يفسخ أو يُجيز، فإن أجاز النكاح، استمر ولا رجوع، وعليه المهر المسمى.
ولو فرض بعد البيان علوق بأولاد، فهم أرقاء لمالك الأمة.
8252- وإن فسخ، فلا يخلو إما أن يفسخ قبل الدخول، أو بعده، فإن جرى الفسخ قبل الدخول، فلا نصف مَهر ولا متعة، وحكم العدة والنفقة والسكنى بيِّن، فإن العدة منفية، فلا تُتوقع نفقة ولا سكنى.
وإن جرى الفسخ بعد الدخول، فالمنصوص عليه للشافعي أن المسمى يسقط، ويجب لها مهر المثل على زوجها. وفي المسألة القول المخرج المنقاس، وهو أن الواجب هو المسمى؛ فإن النكاح تأكد بالمسيس، وشابه تقرير المهر. وهذا بقية ما تقدم في باب العيوب. وحكم العدة والسكنى والنفقة على ما ذكرنا.
وأما الأولاد الذين انعقدوا في زمان الغرور، فإنهم أحرار، وانعقادهم على الحرية، وهذا متفق عليه، وعلى المغرور قِيَمُهم يوم ينفصلون أحياء، وسبب ذلك مع الوفاق المغني عن البحث أن اتصاف الزوج بظن حرية زوجته هو الذي اقتضى انعقاد الأولاد على الحرية، فكان في حكم السبب إلى منع جريان الرق عليهم، فصار منع الرق بمثابة قطع الرق، وهذا يناظر إيجاب الغرة على الجاني، فإنا بين أن ننسبه إلى منع انسلاك الروح بهدم بنية الجنين، والتسبب إلى إجهاضه أو إلى منع اكتمال خَلْقه بإحراضه.
ثم الاعتبار بقيمته يوم الانفصال على صفة الحياة، ولو فرض التمكن من اعتبار حالة العلوق، لاعتبرناها، ولكن لا قيمة للجنين في ذلك الوقت، ولا وصول إليه، وهو أيضاًً على أحكام من البعضية، فاعتبرنا وقت الخروج؛ لأنه أول حالة لاقاها إمكان التقويم وأبو حنيفة يعتبر قيمته يوم الترافع، ثم إذا غرم المغرور قيمة الولد رجع بها على الغارّ إجماعاً، وقد نطق بذلك قضاء عمر.
والمهر الذي يلتزمه بالوطء في زمن الغرور هل يرجع به على الغارّ؟ فيه قولان مشهوران:
أحدهما: إنه يرجع به كما يرجع بقيمة الولد، والثاني: لا يرجع به، وهو الأصح؛ لأنه شرع في عقد النكاح على أن يتقوم البضع عليه، ثم استوفى منفعة البضع بجهةٍ وطّن نفسه على التقوّم فيها، فكان كما لو اشترى طعاماً مغصوباً وأتلفه، فإذا غرِم قيمة الطعام لمستحقه، فلا يرجع بما غرمه على الغاصب.
8253- ثم إذا ثبت أنه يرجع بالقيمة قولاً واحداً، أو بالمهر على أحد القولين؛ فالمذهب الذي عليه التعويل: أنه لا يرجع ما لم يغرَم، وكذلك إذا شهد الشهود على أن فلاناً قتل فلاناً خطأ، ونفذ القضاء بشهادتهم، وضرب القاضي العقلَ على عاقلة المشهود عليه، فإذا رجع الشهود عن الشهادة، فإنهم يغرَمون للعاقلة ما غرِمته العاقلة، فلو أراد العواقل أن يغرّموا الشهود قبل أن يغرموا ما ضرب عليهم، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
ولذلك إذا ضمن رجل عن رجل ديناً على وجهٍ يُثبت له حقَّ الرجوع على المضمون عنه، فليس له الرجوع قبل أن يغرم للمضمون له، هذا أصل المذهب.
وقد ذكرنا في رجوع الضامن على المضمون عنه قبل أن يغرم وجهاً في كتاب الضمان ليس بالقوي، وذلك الوجه يجري في مسألتنا وفي مسألة الشهود، وفي كل من يجد مرجعاً إذا غرم، إذا كان الغرم ديناً مستحقاً على من له حق الرجوع إذا غرم.
ثم الحكم بيّن إذا كان الغار وكيل سيد الأمة.
8254- فأما إذا صدر الغرور منها-كما سبق تصوير ذلك- فالغرور منها يثبت حق الرجوع عليها، والكلام في متعلّق الحق. ومتعلقُ الحقوق المالية في العبيد الكسب أو الذمة أو الرقبة، فأما الكسب، فلا مطمع في تعلّق حق الرجوع به؛ من جهة أن التعلق بالكسب إنما يثبت في الحقوق التي تثبت بإذن المولى في المعاملات والضمان والاستدانة ونحوها، ولم يوجد من السيد في ذلك إذن.
وأمّا الرقبة، فلا يتعلق بها حق الرجوع؛ من جهة أنه إنما يتعلق بالرقبة موجَب الإتلافات وأروش الجنايات، والإتلاف والجناية يردان على مملوك أو مستحق مضمون شرعاً، كالحر المحترم. والغارَّة ليست متلفة رقّاً، ولكنها متسببه إلى إثبات ظن في نفس الزوج، فيترتب عليه اندفاع الرق، فيبعد عن قياس الجنايات، ثم اندفاع الرق بظن يعتري الزوج ليس إتلافاً، بل هو متعلق بموجب معاملة ومعاقدة، وإذا كان كذلك، فالغارّة تسببت إلى ما ليس جناية، فلا يكون تسبّبها جناية، والطرق متفقة على هذا، وكأن الغرور منها بمثابة ضمان، إن صححنا الضمان من المملوك بغير إذن المولى، فإذا لم يتعلق حق المرجع بكسبها ولا برقبتها، لم يبق إلا أن يتعلق بذمتها. وسبيل ما يتعلق بالذمة الاكتساب بعد زوال الرق بالعتق.
ثم إن كان الغرور من الوكيل، وأثبتنا للمغرور الرجوع بالمهر، فإنه يرجع بكمال المهر على الوكيل، ولا يدع إليه شيئاًً، وإن كان الغرور من الأمة، وقد عتقت، فيرجع عليها بتمام المهر على القول الذي فرعنا عليه؛ فإنه غرِم المهر لمستحقه، وهو المولى، وإنما رجوعه الآن على من لم يكن مستحقاً للمهر.
8255- وإن صدر الغرور من المُكاتبة، وأثبتنا الرجوع بالمهر، فهل يترك إليها شيئاًً من المهر، يجوز أن يكون صداقاً؟ فعلى الوجهين المذكورين من قبل، وسبب هذا التردد، أنها المستحقة للمهر، وعليها الرجوع على القول الذي نفرع عليه، فلو وقع الرجوع بتمام المهر؛ لخلا وطؤها عن استحقاق المهر، ولاقتضى ذلك اشتباه وطء النكاح بالسفاح؛ إذ هي المستحقة وعليها الرجوع.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المغرور حراً.
8256- فإن كان المغرور عبداً، ففي انعقاد النكاح القولان، فإن قلنا: لم ينعقد، نظر: فإن كان قبل الدخول، فلا نِصْفَ مهر ولا متعة، وإن كان بعد الدخول، فيجب مهر المثل. وفي محله أقوال: أحدها: إن محله الكسب، وهذا قول ضعيف، وخروجه على أن النكاح الفاسد يدخل تحت مطلق الإذن في النكاح، وقد ذكرنا فيه قولاً ضعيفاً فيما تقدم.
والثاني: إنه يتعلق بالذمة.
والثالث: إنه يتعلق بالرقبة، وكل ذلك فيما سبق مفصلاً في صدر النكاح.
وإن فرعنا على القول الصحيح، وهو أن نكاح المغرور منعقد، ففي ثبوت الخيار للعبد قولان، حكاهما الأئمة بأجمعهم، وهما مندرجان تحت الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في صدر التفريع على الغرور.
فإن قلنا: لا خيار للعبد، أو قلنا: له الخيار، فاختار الإجازة، فعليه المهر المسمى في الكسب. وإن اختار الفسخ، فهذا يتفرع على المنصوص و المخرّج. فإن فرعنا على القول المخرج، وهو أن المسمى يجب بعد الدخول؛ فإنه يتعلق بالكسب أيضاً؛ فإنه دين ثابت على موجب إذن المولى في معاقدةٍ، فأشبه ما ذكرناه من المسمى في بقاء النكاح.
وإن فرّعنا على النص، وهو أن الواجب مهر المثل، فإذا فسخ، ثبت مهر المثل، وفي محله الأقوال الثلاثة التي ذكرناها فيه إذا نكح نكاحاً فاسداً، وقد أذن له في النكاح مطلقاً، وإنما التحقت هذه الصورة بتيك؛ لأن مهر المثل يجب في النكاح الفاسد على موجب إذن المولى، ويجب مهر المثل على خلاف موجب الإذن أيضاًً؛ فإن العقد المأذون فيه قد زال، وزال بزواله أثر الإذن، فبقي مهرُ مثلٍ متعلق بوطء محترم.
وكان شيخي يقوي في هذه الصورة قول التعلّق بالكسب؛ لأن المهر الواجب مهر نكاح صحيح مأذون فيه، ولكن أقمنا مهر المثل فيه مقام المسمى لحالة اقتضت ذلك، وإلا فالأصل أن النكاح وقع مأذوناً فيه، وانعقد على الصحة، وجرى الوطء في اطراد الإذن، والفسخ ليس ينعكس يقيناً على الأوقات المتقدمة على الفسخ.
8257- ثم إذا كان المغرور هو العبد كما صورناه، فإذا علقت المرأة بمولود منه مع اطراد الإشكال، فمذهب الشافعي أن الولد حر، وإن كان الوالدان رقيقين، وذلك أن المغرور إذا كان حراً، فولده إنما ينعقد على الحرية لمكان الغرور، لا لحرية المغرور، إذ لو كانت حريته تقتضي حرية الولد، لكان ولد الحر من زوجته الرقيقة حراً، مع العلم بحقيقة الحال، فإذا ثبت الحال، فإذا ثبت أن المتبع هو الغرور، فالغرور في العبد كالغرور في الحر.
8258- ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن المنكوحة لو كانت مكاتبة، وقد جرى الغرور بحريتها، نظر؛ فإن لم يكن الغرور منها، وإنما كان من الوكيل المزوّج، فالرجوع على الوكيل على نحو ما ذكرناه، غير أن الذي نزيده هاهنا تفصيلُ القول في ولد المكاتبة لو لم يكن غرور.
وقد اختلف قول الشافعي في ولد المكاتبة من سفاح أو نكاح عري عن الغرور: أحد قوليه- إن ولدها في الموضعين قِنٌّ.
والقول الثاني- إنه بمثابة الأم يعتِق بعتقها إذا عَتَقَت، ويرِق برقها، فإن قلنا: إنه رقيق، فهو للمولى أم هو بمثابة سائر مالها تستعين به على أداء النجوم؟ فعلى قولين.
وسيأتي شرح الأقوال توجيهاً وتفريعاً في كتابها، إن شاء الله عز وجل.
ثم إذا فرضنا الغرور، فالولد حر من الزوج المغرور في دوام الغرور، وينتظم مما ذكرناه من الأقوال قولان في أن المغرور يغرَم قيمة ولد المكاتبة للمكاتبة أو لمولاها، فإذا كان الغارّ وكيل المولى، فيغرم الزوج القيمة للمولى والمكاتبة، وذلك غُرمٌ على الوكيل الغار.
وإن كان الغرور صادراً من جهة المكاتبة، فإن جعلنا القيمة للمولى غرم المغرور له، ورجع على المكاتبة، وإن قلنا حق القيمة للمكاتبة، فلا معنى للغرم لها؛ من جهة أنها الغارّة، ولو غرم لها، لرجع عليها، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
8259- وأما المهر، فإنه للمكاتبة قولاً واحداً. وفي الرجوع بالمهر القولان، فإن لم نثبت رجوعاً به، فلا كلام، وإن أثبتنا الرجوع به، فتقدير الرجوع على المكاتبة.
وهل يجب أن نترك لها مقداراً من المهر؟ فعلى الخلاف المقدم. ولا شك أن مثل ذلك لا يجري في قيمة الولد إذا جعلناها حقاً للمكاتبة، وإيضاح ذلك يغني عن مزيد البسط.
ثم حيث نثبت الرجوع على المكاتبة مثلاً إذا أثبتنا القيمة للمولى، وكانت هي الغارّة، فإذا أراد الرجوع عليها، طالبها بما يرجع به عليها من المال الذي في يديها، فإن لم يصادف في يديها شيئاًً، تعلق بكسبها، فإن فضل فضل، ففي ذمتها، يتبعها به بعد العتق، وجاء في لفظ الشافعي تشبيه ما يرجع به على المكاتبة بالجناية، ولم يشبهه بالجناية من جميع الوجوه؛ لأنها تتعلق بالرقبة إذا لم يف الكسب بها، وهذا الدين الذي نحن فيه لا يتعلق بالرقبة بحال. وإنما شبهه بالجناية من حيث إنه يؤدى من الكسب بعد العجز.
والقول في متعلق الديون على أقسامها غمرة كتاب الجناية؛ فلا سبيل إلى الخوض في بيانها الآن، وإنما غرضنا هاهنا أن سبيل ما يرجع به عليها لكونها غارّة كسبيل ديون المعاملات في أنه يتعلق تعلقَ ديون المعاملات. ولفظ الشافعي في التشبيه بدين الجناية محمول على ما ذكرناه.
فصل:
قال: "فإن ضربها أحد فألقت جنيناً... إلى آخره"
8260- مضمون هذا الفصل من بقية أحكام التغرير بالحرية، وليقع فرضه فيه إذا كانت الزوجة مملوكة فيه، وقد قدمنا أن الولد على حكم الغرور حر. ثم ذكرنا أنه يجب على المغرور قيمة الولد للمولى يوم انفصاله حياً، ولو انفصل ميتاً، لم يغرَم بسببه شيئاًً اعتباراً بحالة الانفصال، وتعليله أن سبب تغريم المغرور انتسابه إلى تفويت حق الرق على المولى بسبب ظنه الذي اتصف به، ولو قدرنا الولد رقيقاً وانفصل ميتا من غير جناية جانٍ، فيكون حق المولى في هذه الصورة فائتاً بسبب انفصال الولد ميتاً؛ فلا ينتسب المغرور إذاً إلى تفويتٍ في هذه الحالة.
8261- ولو انعقد الولد بسبب الغرور حراً، ثم جنى جانٍ على الأم، فألقت الجنين المحكوم بحريته؛ فهذا الطرف مما يجب الاعتناء بفهمه، والاطلاع على حقيقته، فلا تخلو الجناية إما أن تكون من أجنبي وإما أن تكون من المغرور نفسه، وإما أن تكون من مولى الأمة ومالكها.
فإن كانت الجناية من أجنبي، فلا شك أن الغرة تجب، وهي عبدٌ أو أمة، ثم الغرة مضروبة على عاقلة الجاني لا محالة؛ إذ لا يتصور تعمد الجنين بالجناية عليه، وشبه العمد مضروب على العاقلة كالخطأ المحض.
ثم إذا تبين أن الجنين لم ينفصل ميتاً هدراً، بل انفصل مضموناً، فالضمان فيه يثبت على المغرور لا محالة، وليس كما لو انفصل ميتاً من غير جناية جانٍ، ثم الغرة إلى من تصرف؟ وما القدر الواجب على المغرور لسيّد الأمة بسبب انفصال الجنين مضموناً؟ فأما مصرف الغرة، فإن لم يكن للجنين وارث سوى أبيه المغرور، فالغرة بكمالها مصروفة إليه، وإن كان للجنين وارث غيرُه، صرف قسط من الغرة إلى من يرث معه على ما تقتضيه قسمة المواريث، ولا يتصور أن ترث معه الأم، فإنها رقيقة، فلا يرث معه إلا جدة حرة هي أم أم الجنين، فلها السدس من الغرة والباقي للأب. هذا بيان مصرف الغرة وذكر مستحقها.
فأما القول فيما يغرمه المغرور لسيد الأمة، فنقول: حاصل ما ذكره الأئمة وجهان:
أحدهما: إنه يغرم لسيد الأمة أقل الأمرين من عُشر قيمة الأم أو قيمة الغرة، فإن كان عشرُ قيمة الأم أقلَّ، غرِمه للمولى، وربما يفضل من الغرة إذا لم يكن للغرة وارث غيره، وإن كانت قيمة الغرة أقلَّ من عُشر قيمة الأم، لم يلتزم المغرور إلا قيمةَ الغرة، هذا أجد الوجهين.
والوجه الثاني- إن المغرور يغرَم للمولى عُشر قيمة الأم بالغاً ما بلغ، وإن كانت قيمة الغرة أقل منه. ولا يخفى أن ما ذكرناه من عُشر قيمة الأم هو واجب الجنين الرقيق عند الشافعي، على ما سيأتي موضحاً في موضعه، إن شاء الله عز وجل. وكأن أحد القائلَيْن يَعتبر الأقلَّ من واجب جنين رقيق أو قيمة الغرة، والقائل الثاني يعتبر واجب الجنين الرقيق بالغاً ما بلغ.
ثم زعم الأئمة أن هذا الاختلاف يقرب من القولين في أن العبد الرقيق إذا جنى وأراد المولى أن يفديه فبكم يفديه؟ ففيه قولان:
أحدهما: إنه يفديه بأقل الأمرين من الأرش أو قيمة العبد الجاني. والقول الثاني- إنه يفديه بأرش الجناية بالغاً ما بلغ إن أراد أن يسلم له العبد، وإن أبى بيع العبد في الجناية.
ثم أصح القولين: أن السيد يفديه بأقل الأمرين، فقال الأصحاب في مسألة المغرور والغرة: أصح الوجهين أنه يغرم للمولى أقلَّ الأمرين من عُشر قيمة الأم أو قيمة الغرة. واختار القاضي أنه يغرَم للمولى عُشر قيمة الأم بالغاً ما بلغ، وإن كانت قيمة الغرة أقل منه. ولا شك أن القاضي يختار في مسألة الفداء أنه يفدي السيد العبد بأقل الأمرين. والأصح عندنا ما اختاره القاضي، وسيتضح بتوجيه اختياره، وما يذكره الأصحاب في مقابلته حقيقة الفصل ومداره.
8262- فنقول: المعتبر فيما يغرمه المغرور للمولى تفويته عليه، فإنا قلنا: إذا انفصل الجنين الحر حياً، فيجب على المغرور قيمته يوم الانفصال، والسبب فيه أنه لو كان رقيقاً، لكان يسلم للمولى، فإذا قلنا: صار العبد يسبب الغرور حراً، وقد انفصل الجنين الحر حياً، فقد فوت المغرور الرِّق على السيد.
فإذا بان أن معوّل الضمان ما ذكرناه من التفويت، فنعود ونقول: إذا انفصل الجنين بجناية الأجنبي الجاني، فلو كان رقيقاً، لكان الجاني يغرم عُشر قيمة الأم، فالغرور فَوّت في هذه الحالة عُشرَ قيمة الأم؛ فليجب هذا المقدار على المغرور للسيد، ولا ننظر إلى الغرة. كما أنّا عند انفصاله حياً نوجب قيمته، وإن زادت على مقدار الدية؛ نظراً إلى ما صار المغرور سبباً في تفويته.
وهذا القائل يقول: أَخْذ هذا من فداء العبد الجاني محال؛ فإنَّ ذلك مفروض في عبد يتعلق الأرش برقبته، والسيد يبغي أن يستبقيَه، فيتجه ألا نلزمه أكثر من قيمته؛ فإنه لو سلمه للبيع، لم يتحصل المجني عليه إلا على ثمنه، وما يضمنه المغرور في مسألتنا ليس مأخوذاً من مأخذ الفداء، وإنما هو مأخوذ من التفويت الذي قررناه.
ومن نصر الوجه الثاني وهو المشهور، وإليه ميل جمهور الأصحاب، احتج بأن، سبب تغريم المغرور ما وجب على الجاني من الغرة؛ إذ لو انفصل ميتاً من غير جناية، فلا ضمان، و ما ضمن المغرور للسيد شيئاًً، فإذا كان سبب التضمين ما يجب على الجاني، فيبعد أن يزيد ما يضمنه المغرور على ما يضمنه الجاني له؛ إذ لو زاد، لكان المسبَّب زائداً على السبب.
وهذا ليس على وجهه، فإنا إذا اخترنا الوجه الأول، فمعولنا فيه أنه جرت في الجنين حالة لولا الغرور، لكان يسلم للمولى عُشر قيمة الأم، فقد صار الغرور سبباً في تفويت ذلك. والتعويل في النفي والتثبيت على التفويت، فإن الجاني غرم الغرة، وقد جرت جنايته بعد تحقق الحرية، فينبغي أن يكون النظر إلى الحالة التي جرت الجناية فيها؛ فإن من قتل جاريةً مزوّجة، لم يلزمه قيمتُها خليّة عن الزوج، وإن كان تقدير ذلك فيها ممكناً لو بقيت، ولكنا نعتبر الصفة التي كانت الجارية عليها حالة الإتلاف.
وهذا الكلام عري عن التحصيل، فإنه مقبول في حق الجاني على هذا النسق، ولكن لا وقع له، ولا أثر في حق المغرور، مع ما قررناه من تركه التفويت.
8263- فإذا تبين الوجهان ومأخذُهما، وما صار إليه الجمهور، واتجه ما اختاره القاضي، وانفصال هذا الأصل عن مأخذ فداء العبد الجاني.
فما نفرعه على هذا المنتهى أنا إن قلنا: يغرم المغرور للسيد أقلَّ الأمرين، فإنه لا يغرمه له ما لم تسلم له الغرة؛ فإنا نأخذ تضمينه من الغرة السالمة، ثم نعتبر الأقل بناء عليها.
وإن سلكنا المسلك الآخر، غرّمنا المغرور عُشرَ قيمة الأم في الحال، ولم ننتظر حصول الغرة له اعتماداً على التفويت، ونظراً إليه.
فعلى هذا لو كان للجنين وارث سوى الأب المغرور، فقد ذكرنا أنه لا يتصور أن ترثها الأم مع الأب إذا كانت الأم رقيقة، أما الجدة أم الأم فترث، فإذاً للجدة السدس والباقي للأب.
وإذا لاح ذلك؛ بنينا على هذا الغرض، وقلنا: إن أوجبنا على المغرور أقلَّ الأمرين، فنعتبر مع الجدة الأقل من عُشر قيمة الأم، أو خمسة أسداس الغرة، فإنه لم يسلم للأب إلا خمسة أسداس الغرة، والسدس الذي تستحقه الجدة غير محسوب على الأب المغرور.
وإن فرعنا على أنه يجب على المغرور عُشر قيمة الأم بالغاً ما بلغ، وإن زاد أضعافاً على قيمة الغرة، ثم قلنا: لا يتوقف تغريم المغرور على سلامة الغرة له، فنقول على موجب هذا: على المغرور عُشر قيمة الأم، وإن كان السالم له من الغرة خمسة أسداسها؛ فلا ننظر إلى المقدار الذي يسلم له، ولا نجعل ذلك من بالنا، وإنما ننظر إلى التفويت. وهذا بيّن.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الجاني هو الأجنبي.
8264- فأما إذا كان الجاني هو المغرور المستولد، فأول ما نذكره أنه لا يرث الجنينَ في هذه الحالة؛ لأنه قاتِل، وليس للقاتل من الميراث شيء. ثم إذا حجبه القتل، فيتصور للجنين ورثة مع الجدة، كالأخ والعم ونحوهما؛ فإن القاتل كما لا يرث، لا يحجب.
وإذا اتضح هذا، عدنا إلى غرضنا، وقلنا: لا شك أن هذا المغرور إذا كانت له عاقلة، لم يغرم بنفسه الغرة، بل هي مضروبة على عاقلته، وأما الذي يغرَمه المغرور للسيد، والحالة ما وصفناها. نقل بعض الأصحاب المعتمدين عن القاضي أنه قال: ما تغرمه عاقلةُ المغرور من الغرة مصروف إلى ورثة الجنين سالمٌ لهم، وعلى المغرور في نفسه أن يغرَم عُشر قيمة الأم لسيد الأمة.
ثم قال هذا الناقل: هذا غلط منَّا في النقل أو سهوٌ جرى على لسان ذلك الإمام.
والوجه أن يقال: يصرف من تلك الغرة مقدارُ عُشر القيمة إلى السيد، وما فضل، فهو مقسوم على الورثة، على فرائض الله تعالى.
وفي هذا وقفة وتأمل على الناظر، ونحن وراء التنبيه عليه، فإن كان هذا الاستدراك على القاضي رداً عليه وتغليطاً له، ونسبةً إلى الخروج عن قياس ما اختاره في قاعدة المسألة، فالغلط من المستدرِك، والقاضي مستدٌّ على اختياره تعويلاً على نكته التفويت.
فنقول: اجتمع في هذه المسائل تفويتٌ من المغرور، وهو سببٌ يضمّنه، والمقدار المفوَّت في صورة الجناية عُشر قيمة الأم، وحصل في المسألة جناية المغرور في نفسه على جنين حرّ، فخرج عن كونه وارثاً، فاقتضى التفويتُ تغريمه عشرَ قيمة الأم للسيد، واقتضت جنايته الناجزة تغريمَ عاقلته غرة الجنين، وإذا تعدد السبب لا يبعد تعدّد المتسبَّب، فهذا توجيه ما ذكره القاضي.
والذي يوضح ذلك أنا على موجب هذه الطريقة نُلزم المغرور إذا كان الجاني أجنبياً تمامَ عُشر قيمة الأم، وإن كان لا يسلم له إلا خمسة أسداس الغرة، فاتجه ما أردناه.
وقياس مذهب الجمهور المستدرِك على القاضي ما ذكره، فإنَّا نتخذ ما يحصل من الغرة أصلاً فيما يغرمه المغرور للسيد، والذي تغرمه عاقلةُ هذا المغرور الغرة، فلا مزيد على مقدارها، ولا يجمع بين وجوبها للورثة وبين تغريم المغرور، بل نجعل رجوعنا إلى الغرة، فنؤدي منها حق السيد، فإن لم يفضل شيء، أو كانت الغرة أقل، فلا مزيد، وليس للورثة شيء، وإن كانت الغرة أكثر من عُشر قيمة الأم، فالفاضل مصروف إلى الورثة.
ولم يذكر الصيدلاني في كتابه إلا هذا الوجه على النسق الذي ذكرناه، فتكون الغرة ممثلة بالدّية في صورة نذكرها الآن، وهي أن الجاني إذا جنى على عبد مملوك بقطع يديه، ثم عتقَ العبد المجني عليه، ومات حراً، فالواجب على الجاني الدية؛ فإن الاعتبار في المقدار المغروم وجنسه بالمآل، ثم يصرف من الدية إلى السيد حقه، وفيه تفصيل عظيم في مسألة منعوتة من كتاب الجراح، وقدرُ غرضنا-الآن- منها أنا نصرف قسطاً من الدية إلى السيد. هذا مسلك الأصحاب.
وفي الاستشهاد بما ذكرنا بعض النظر؛ من جهة أن الجناية اتصلت بالعبد وهو رقيق، ثم تلك الجناية بعينها سرت، وليست مسألة الغرور كذلك؛ فإن سبب غرمه للسيد منفصل عن سبب غرم العاقلة للغرة، ولكن من حيث إن الجماهير يعتبرون الغرة قدراً ولا يوجبون الغرم قبل حصولها يتجه ما ذكره الأصحاب.
فهذا بيان تصويب القاضي على موجب اختياره، والرد على من استدرك عليه.
وإن كان الاستدراك على القاضي؛ من جهة أنه لم يحك في المسألة خلافاً، وقطَعَ الجواب بأن المغرور يلتزم عُشر قيمة الأم للسيد، وعاقلتُه يغرمون الغرة بكمالها للورثة، فإن حكى في ذلك إجماع الأصحاب، ففي حكاية الإجماع نظر؛ فإنَّ قياس الجماهير ما ذكرناه من ربط الغرم بالغرة، وما ذكره القاضي صحيح على قياسه.
ثم الأصحاب يقولون: إتلاف المغرور الجنين في حكم استيفائه الغرة إذا حصلت الغرة لمستحقها.
وكل ما ذكرناه إيضاح لما قبلُ، والأصح في المسألة وتفريعها ما اختاره القاضي، وقد نجز الكلام في جناية الأجنبي، وفي جناية الأب المغرور.
8265- فأما إذا علقت الجارية بالولد الحر، فجنى السيد، وأجهضت الأمةُ الجنين، فعلى عاقلته الغرة لا محالة، ثم يتفرع في هذه الصورة مذهب القاضي وطريقة الجماهير.
فأما ما اختاره القاضي، فمقتضاه في هذه المسألة أن ما تغرمه عاقلة المالك-وهو الغرة- مصروف إلى ورثة الجنين. ولا يتصور في هذه الحالة للجنين ورثة إلا الأب والجدة، ثم يغرَم المغرور للسيد عُشرَ قيمة الأم.
وفي هذا الموضع عندي نظر؛ فإنا نعوّل في طريقة القاضي على التفويت، والسيد هو الذي فوّت الجنين، فلو كان الجنين رقيقاً، لكان التفويت منسوباً إلى مالك الرق في الجنين، فيبعد أن يكون المفوت من طريق إتلاف المالك، ويجب الضمان على المغرور؛ فينبغي أن يقال: انفصاله بجناية المالك، كانفصاله من غير جناية، غير أن الغرة وجبت لمكان حرية الجنين، فالسيد يقول للمغرور: لولا تفويتك عليَّ، لما وجبت على عاقلتي، فينقدح والحالة هذه أن يصرف إليه من الغرة شيء، والأوجه عندنا على قياس القاضي أن تصرف الغرة إلى الورثة، ولا يغرم له المغرور شيئاًً. والعلم عند الله تعالى.
وهذا مشكل في النهاية بسبب كون الغرة على غير الجاني مع انتساب الجاني إلى الإتلاف.
وأما قياس جماهير الأصحاب، فهو ما ذكرناه أن المغرور لا يغرم للسيد شيئاًً قبل حصول الغرة، فإذا حصلت، اعتبرت الغرة كما تقدم، فإن كانت مقدار عُشر القيمة أو أكثر، صُرف عُشر القيمة إلى السيد، ولا تخفى الطرق الأُخر، وهو إذا كانت الغرة أقل، وفي القلب من هذه المسألة حسيكة، وإن فرعناها على قياس الأصحاب؛ من جهة أنَّا لو صرفنا الغرة، وكانت مقدار عُشر قيمة الأم إلى المالك الجاني، لكان هذا الحكم مؤدياً إلى إيجاب مال على عاقلة الجاني للجاني، وهذا قبيح مضطرب، والذي يتجه عندنا في كل قياس أن لا يغرم المغرور شيئاًً للسيد.
وقد انتجز القول على أقسام الجناة.
8266- فإن قال قائل: لو كان الجاني على الجارية الحامل بالولد الحر عبدَ الزوج المغرور، فنقول: الغرة في رقبته في وضع المسألة، والمقدار الذي يرثه المستولد لا يتعلق برقبة عبده، حتى لو لم يكن وارثٌ سواه، فلا يتعلق برقبة العبد شيء، ولكن يجعل كأنه استوفى الغرة؛ فإنّا رأينا.... لمكان ملكه في رقبته، وكان هذا كاستيفاء الغرة.
ثم ينقدح بعد ذلك سؤال وجواب عنه، وهو أن قائلاً لو قال: هلا جعلتم إتلاف عبد المستولد بمثابة إتلاف المستولد، قلنا: إذا كان الجاني هو المستولد، فليس له في الميراث نصيب، والجنين حر، فلا نجعله جانياً على حقه، وإذا كان الجاني عبدَه، فحق المستولد من طريق التقدير قائم، وقد أثبتناه له، ثم إنا حططناه عن ملكه، فانفصلت المسألة عن المسألة. وما عندي أن باحثاً يزيد على هذا، ليتقرر الذي ذكرناه.
8267- ومن صور المسألة أن المغرور لو كان عبداً، وهو الذي جنى، فالغرة تتعلق برقبته للورثة، هذا قياس واضح. وأما حق سيد الجارية، فإنه يتعلق بذمة العبد، فإنَّا أوضحنا أنَّ المغرورَ إذا كان عبداً وانفصل الولد حيّاً، فقيمةُ الولدِ يوم الانفصال تتعلّق بذمة العبد، لا تتعلق بكسبه، ولا برقبته. فنفذ ذلك القياس على قانونه.
ونحن نقول: حقُ السيدِ عُشْر قيمةِ الأم، وهو المتعلق بذمة العبد. وهذا إذا لم يلتفت على مقدار الغرة، فإنْ نظرنا إلى مقدارها، لم يخف قياسُ سائر الأصحاب.
وهذا مُنتهى القول في التغرير بالحرية في حق الحر والعبد. ونحن نعقد وراء ذلك فصلاً في الاغترار بالحرية ظناً من غير تغرير. وأمَّا تغرير المرأة بحرية الزوج، فسنذكره في آخر الباب، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
8268- نقل الأئمةُ عن الشافعي أنه قال: "إذا نكحَ المسلمُ امرأةً حسبها مسلمةً، فبانت يهودية أو نصرانية؛ فللزوج الخيار في فَسْخِ النكاحِ.
ونصَّ أنَّ من نكح امرأةً ظنَّ أنها حرةٌ، فبانت أَمَةً، فلا خيارَ للزوج... إلى آخره".
واختلف الأئمة على طُرق، فمنهم من جعل في المسألتين قولين، نقلاً وتخريجاً: أحد القولين- إنَّ الخيار يثبت في الموضعين؛ لأنَّ الغالبَ في الزوجةِ الإسلامُ والحرية؛ فصار اطراد العادة فيهما بمثابة الشرط المصرح به.
والقول الثاني- إنه لا يثبت الخيار فيهما لبعد النكاح عن الخيار، وعروّ العقد في الموضعين عن الشرط.
ومن أئمتنا من قطع بنفي الخيار في ظن الرق كما ذكرناه، وحَمَلَ نصَّ الشافعي في مسألة الكتابية على نقل مذهب الغير.
وقد تكرر ذلك في نصوص الشافعي في مسائل النكاح.
ومن أصحابنا من أقرَّ النصين قرارهما وحكم بموجبهما، وفرَّق بأنَّ الرقَّ ليس له علامة حتى يُنَزَّل ظهورها منزلة ذكره، وكذلك الحرية لا أمارة لها، والكافرة لا يزوجها إلاَّ وليها الكافر؛ ولا يخفى ذلك، فإن فُرض خفاؤه، فسببه تلبيس معمود، ولا يبعد أن يكون التلبيس بمثابة التصريح بالشرط. هذا ما ذكره الأصحاب.
8269- والذي أراه في ذلك أنَّ المسألتين حقهما-في إطلاق العقد- أن يؤخذا من مأخذ آخر، وهو أنَّ الكفر هل يلتحق بالعيوب التي تُثبت حق الفسخ؟ وهذا محتمل؛ من جهة أنَّ البرص والجذام إذا اقتضيا حق الفسخ لما فيهما من نفار الزوج عن الاستمتاع، فقد يتحقق مثل ذلك في الكافرة.
وليس في الرق من معنى النفار ما في الكفر، ولذلك لا يستشعر المرء تكرهاً في تسري الجواري. وإتيانُهن في النكاح كإتيانهن في ملك اليمين.
وقد ينقدح في الرق التحاقه بالبرص؛ من جهة أنَّ من المعاني المحذورة أيضاًً في الجذام والبرص-فيما قيل-التعدي إلى النسل، وقد أشار الشافعي إلى ذلك.
وهذا إن صح، فهو مظنون لا يرتبط بتحقيق، والرق يتعدى إلى الولد لا محالة.
فينتظم من الكفر والرق في المأخذ الذي ذكرته ثلاثة أوجه: أحدها: أنهما من العيوب.
والثاني: أنهما ليسا من العيوب المثبتة للفسخ.
والثالث: أنَّ الكفر عيب والرق ليس بعيب.
وإذا أجرينا الترتيب على هذا النظم، لم نتعلق بالعادة وادعاء اطرادها.
وقد بقي من سر هذه الفصول كلام لا يبين إلاَّ في نجاز الباب. وكنَّا أخرنا التغرير بالأنساب وغيرها إلى هذا الباب، وقد حان الوفاء بالموعود.