فصل: باب: ما لم يوجف عليه من الأرضين بخيلٍ وركاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: ما لم يوجف عليه من الأرضين بخيلٍ وركاب:

7798- ظاهر المذهب أنّ الإمام لا يقسم ذلك العقار من الفيء، بل يستغله لأهل الفيء، ويصرف مستغلاتها إلى المصارف المقدمة.
وقيل: العقارات كالمنقولات، فإذا قلنا: هي مملوكة لأهل الفيء، كان سبيلها سبيل المنقولات.
وقيل: إنّ الإمام إذا أحب أن يصرف رقابها إلى مصارف المنقول صرف، وإن أحب، وقفَها وسبّلها على تلك الجهات، فأمّا سواد العراق، فله بابٌ.
فصل:
7799- إذا أراد الإمام أن يتخذ ديواناً للعساكر يجمع أصنافهم، وأسماءهم، كان حسناً، وينصب صاحبَ الجيش، وهو ينصب نقباء، وكل نقيب ينصب عُرفاء، وكل عريفٍ يحيط بأسماء معروفين مخصوصين به، فالإمام يدعو عند حاجته صاحبَ الجيش، وصاحبُ الجيش يدعو النقباء، وكل نقيب يدعو عرفاء تحت رايته، وكل عريف يدعو مسمَّين تحت ضبطه وأمره، فيسهل الأمر في جمعهم وتفرقهم، وفضِّ الأعطية عليهم، وندب كل فريق إلى ناحية.
وحسنٌ أن يكون لكل فريق علامة يعرفون بها في الحرب، فقد كان ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7800- وأوّل من دوّن الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب؛ لمّا كثر المال، وانتشر الجند، واتسعت الخِطَّة، وتعذّر الضبط، قيل له: إن مَلِك الشام كان يدون الدواوين، فرآه رأياً، فقيل له: ابدأ بنفسك، فقال: بل أقرّ نفسي حيث كنتُ؛ أبدأ برهط رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أجراهم في سهم ذوي القربى مجرى بني هاشم، فكان رضي الله عنه إذا وجد السن في بني هاشم قدّمه، وإذا وجده في بني المطلب قدمه، وجعل رأس الديوان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم استوت له عبد شمس ونوفل، وكان هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل بني عبد مناف، فقدم عبد شمس؛ لأنه والمطلب إخوة هاشم لأبيه وأمه، ونوفل كان أخاه لأبيه؛ فرأى تقديم عبد شمس؛ لمكان عثمان وسابقته وفضله، ثم أعطى نوفلاً.
ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار، ابنا قصي أخوا عبد مناف، فقدّم عبد العزى لمكان خديجة منهم؛ فإنها بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ولمكان الزبير بن العوام منهم؛ فإنّ العوام هو ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى أخو خديجة.
ثم أعطى عبد الدار، وذكر من فَضْل عبد العزى أنهم شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف المطَّيبين، وهو حلفٌ جمع طوائف، وتحالفوا وتمسحوا بطيبٍ كان معهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فحلفوا ألا يُقروا ظالماً بمكة، ولا يتركوا نصرة مظلومٍ، وكان ذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم انفردت له زُهرة بن كلاب بن مرة فدعا بها تتلو عبد الدار.
ثم استوت له مخزوم بن يقظة بن مرة، ويقظة وتيم هما أخوا كلاب بن مرة، فقدم تيماً على مخزوم، لمكان أبي بكر الصديق، ثم دعا مخزوماً.
ثم استوت له عديٌّ بنُ كعب بن لؤي أخو مرة، وسهمُ وجُمحُ، فكان الواجب أن يقدم عديّاً لمكان عمر ومكانة ابنته حفصة، ولم يفعل، فقدّم جمحاً على سهم، وخلط عدياً بسهم فلما وصل إلى سهمه، كبّر تكبيرة عالية وقال: الحمد لله الذي أوصل إلي حقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم دعا عامرَ بنَ لؤي أخا كعب بن لؤي، قبيلة أبي عبيدة بن الجراح، فقال أبو عبيدة: أكل هؤلاء يُدْعَون أمامي. فقال: يا أبا عبيدة اصبر كما صبرتُ، أو كلّم قومك-يعني قريشاً- فمن قدمك منهم على نفسه قدمتك عليه، وإن شئتَ قدمتك على نفسي.
ولما انتهى إلى معاوية جعل الحارث بنَ فهر بين أسد بن عبد العزى وبين نوفل، وقدمهم على سائر قريش، سوى عبد مناف.
7801- ثم لما فرغ عمر من قريش، دعا بالأنصار لمكانهم من الإسلام، ثم وضع قبائل العرب على الترتيب. ثم أثبت العجم، وكان معتمده في الديوان شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه.
ذكرنا هذا تيمناً.
فصل:
7802- قال صاحب التلخيص: "من أخذ شيئاً من الغنيمة غالاًّ، مالوا إلى أن يحرق عليه رحله، إذا لم يكن فيه مصحف، وروى فيه خبراً".
فذهب معظم الأصحاب إلى تضعيف الخبر، وأنه غير معمول به، وإن صحّ، فهو منسوخ؛ لأنه لم يعمل به الخلفاء، ومنهم من وافقه، وهو بعيد.
وإن كان في الرحل مصحف، فقد قالوا: "لا يحرق-وإن أمكن إخراج المصحف وإحراق الباقي- ولكن يباع رحله ويتصدق بثمنه"، وذلك في الخبر.
وهذا مما لم يُساعد عليه.
قال: "وإنما هذا إذا كان الوالي عدلاً".
وكل ذلك خبطٌ لا أصل له، وعندي أنّ الخبر إن صحّ، فهو محمول على المنافقين الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ورد في الإحراق عليهم أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن الجماعة.
فصل:
7803- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصطفي من المغنم شيئاً، ومنه سميت صفية، فقال بعضهم: لم يكن ذلك محسوباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان محسوباً عليه من السهم الذي كان يعده للمصالح، وكان تخصيصه بالاصطفاء ليتميز ما كان يَرْفده له.

. مختصر قَسْم الصَّدقات:

7804- قال الشافعي: "الأصل فيه من الكتاب قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...} [التوبة: 60]. ومن السنة: "أنه جاء رجلان إلى النبي عليه السلام، فسألاه الصدقة، فصعّد نظره فيهما وصوب، ثم قال: أعطيكما إن شئتما، ولا حظّ فيها لغني، ولا لذي مِرَّة سوي".
وأجمع المسلمون على أن الصدقات وظائف موظفة في أموال الأغنياء ومن في معناهم، والغرض الكلي منها صرف قسط من أموال الأغنياء إلى محاويج المسلمين.
7805- ولا يجب على ملاّك الأموال الباطنة صرف زكواتها إلى الولاة، بل يتولَّوْن تفرقتها على المستحقين.
وأما الأموال الظاهرة، ففي زكواتها قولان:
أحدهما: يفرّقها الملاك كالباطنة، وهو المختار في الجديد.
والثاني-وهو مذهب أبي حنيفة- وهو القديم: أنه يجب دفعها إلى الوالي لسيرة الصديق في مانعي الزكاة؛ لأن تولي الآحاد لا يؤخذ منه بسطها على المستحقين، وإذا جمعها الإمام تأتى له ذلك؛ ولأنها وظيفة كلية. أعدت للحاجات العامة، فكأنها في السَّنَة تحل محل النفقات الدّارّة يوماً يوماً لمن يمونه.
واختصّ ذلك بما يظهر؛ لأن للناس أغراضاً في إخفاء الأموال، وظاهرها لا يمكن إخفاؤه.
ووجه الأول أنها أحد أركان الدين، فيختصّ بأدائها من اختصّ بالتزامها؛ ولأن في منع الشافعي نقلها-في قولٍ- قصد التعميم؛ لأن أهل كل بلد إذا فرّق أغنياؤهم على محاويجهم قربت من التعميم بتولِّي الإمام، إلا أنه لم يربط أحد جواز الدفع بمنع النقل، بل يجري الخلاف في النقل وإن لم يوجب دفعها إلى الأئمة.
7806- والأموال الظاهرة: المواشي، والمعشَّرات. والباطنةُ: النقدان، وعروض التجارة. والمعادنُ إن قلنا: "واجبها صدقة"- ملحقةٌ بالظاهرة. والركازُ ألحقه بعضهم بالباطنة؛ لأنها لخفاءٍ وضعاً ورفعاً، وقيل: تلحق بالمعادن.
وصدقة الفطر قيل: هي من الظاهرة؛ لأن وجوبها بيّن، ومتعلّقها تواصل الوقت، وقيل: تلحق بالكفارات، ولهذا لم يتعرض السعاة لجمعها، ولو جُمعت عظمت مبلغُها.
وقيل: إن صدقات الأموال الباطنة كانت تسلم إلى الخليفتين، وصح أن عمر طلب من حِمَاس صدقة التجارة من أُهب كانت عنده، ثم رأى عثمان أن يكل زكاة الأموال الباطنة إلى أربابها. والذي يغلب على الظن أن الخليفتين كانا يقبلان زكاة الأموال الباطنة إذا جيء بها إليهما، ولا يطلبانها، ولو كان في حق الولاة أخذ جميع الزكوات، لما حطّه عثمان، وصحّ أن السعاة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمن الخليفتين كانوا يطلبون زكوات الأموال الظاهرة، ولم يصح بحثهم عن الأموال الباطنة، وندب عثمان إلى توليها أربابها لعلمه بما يؤول الزمان إليه.
وإذا أوجبنا دفع زكوات الأموال الظاهرة إلى الإمام، فلو فرّقها ربها، لم تقع موقعها. وإذا قلنا: يجوز لربّ المال أن يفرقها بنفسه، فلو صرفها إلى الإمام، لجاز.
فصل:
7807- في جواز نقل الصدقات قولان:
أحدهما: يجوز؛ لعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ...} [الآية التوبة: 60]، من غير تخصيص بأهل بلد، وإنما دلّت على اعتبار صفات استحقاق الآخذين.
والثاني: لا يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم". وقال معاذ "من نقل صدقته وعُشرَه من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته، فصدقته وعُشره مردودان إلى مخلاف عشيرته".
وقيل: منع النقل يجري إذا كان مُلاّك الأموال يتعاطَوْن تفرقة زكاواتهم، فأمّا إذا تولاها الإمام، فلا يتجه القول بمنع النقل؛ لأن نظر الإمام في جميع أرباب الأموال، وجميع أهل الاستحقاق في جميع خِطة الإسلام، فيشقّ منعه من النقل.
ويتجه أن يقال: يرتب الإمام في كل قطر نائباً يأمره بذلك، فهو متيسّر، وإليه يشير قوله عليه السلام لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ في فقرائهم".
فإن قلنا: يجوز النقل، فلا كلام. وإن منعناه، فنقلَها وصرفَها إلى الموصوفين، ففيه قولان:
أحدهما: لا تقع موقعها، وهو القياس.
والثاني: تقع موقعها، لمصادفتها أهلَ الاستحقاق.
قال صاحب التقريب: من قال بهذا يُعصِّيه ويُبرىء ذمته، ولا يمنع أن يرجع الأمر إلى كراهة، ولا تُناقض المعصيةُ التبرئةَ.
فعلى هذا من كثرت زكاة أمواله، وإذا بسطها، قاربت محاويج القطر من الكفاية، فلو اقتصر على ثلاثة من كل صنف، فقد تبرأ ذمته إذا لم يكن في القطر من يرعى المحاويج غيره، لكن يعصي بتضييع أكثرهم؛ فتجتمع له المعصية والبراءة.
والحضري إذا استوطن بلدة أو قرية وماله فيها، وقلنا: لا يجوز النقل، فالمذهب أنه لا يجوز نقلها إلى قرية قريبة من بلده، منفصلةٍ عن وطنه لا يستبيح الخارج إليها الترخّص. وقيل: يجوز النقل إلى ما دون مسافة القصر، وهو بعيد، وفيه رفع هذا القول؛ لأنه إذا جاز النقل إليها، فهي محل الصدقة، فيجوز أن ينقل منها إلى مثلها، ويتسلسل، ويرتفع هذا القول. والصحيح هو الوجه الأول.
أمّا البدوي إذا استقر في موضع من البادية، لا يبرح منه إلا براح الحضري من وطنه، فإذا منعنا النقل، فلهؤلاء النقلُ إلى ما دون مسافة القصر؛ لأنه ليس في البادية مراسم بلدة وخِطة، فهذا أقرب معتبر.
وقيل: لا يجوز أن ينقلوا الصدقة بحيث يتميز مخيمهم عن مخيم الحلّة الأخرى كتميز القرية عن القرية الأخرى. وهذا لا بأس به، والأول أشهر.
7808- فإن لم يجد في بلده إلا بعض الأصناف، فيصرف إليهم حقهم، ثم ينقل حق الباقين إليهم، أو جوزنا النقل، وجب في هذه الصورة صرف فاضل الموجودين إلى من وجد منهم في بلد آخر.
وإن قلنا: لا يجوز النقل إذا وجد المستحقين في بلده، فعلى هذه قولان:
أحدهما: يتعين صرف حصص الغائبين إلى الحاضرين ولا ينقل أصلاً.
والثاني: يتعين النقل إلى بقية الأصناف؛ لأن الأصل رعايتهم، ولأنه لو لم يجد في بلد المال مستحقاً أصلاَّ، تعيّن النقل، فكذلك إذا فُقد البعض.
فإن قلنا: لا ينقل، ويفضّ على الموجودين، فلا كلام. وإن قلنا: ينقل هذه، فعلى قول منع النقل تداخل قول منع النقل وقول جوازه في الأصل، لكن إذا جوزنا في هذه النقل في هذه الصورة، نقله إلى أي موضع شاء. وإن قلنا: لا يجوز النقل في الأصل وإنما ينقل في هذه الصورة لعدم بعض المستحقين، فإنه ينقلها إلى أقرب المواضع إلى بلده، فإن وجدهم دون مسافة القصر، لم يزد عليها، وإن لم يجدهم دون مسافة القصر، فالجمهور على أنه ينقلها إلى مرحلتين، ولا يبلغ ثلاثة مراحل، ويراعي الأقرب فالأقرب، وإن زادت على مسافة القصر.
وقيل: إذا جاز النقل إلى مسافة القصر، فلينقُل إلى أين شاء. والأول أصح.
هذا إذا وجد في بلد الصدقة من كل صنف ثلاثة فصاعداً، وفقد بعض الأصناف جملةً.
فأما إذا وجد من كل صنف واحداً أو اثنين، فقد قيس هنا على ما إذا وجد بعض الأصناف كاملاً، وفقد بعضهم، فإن قلنا ثَمَّ يفضّ على الموجودين، فهاهنا أولى، وإن قلنا ثَمّ يجب النقل، ففي هذه قولان؛ فجعلوا فقدان الأصناف أدعى إلى النقل من فقدان كمال العدد في كل صنف.
7809- والمعتبر وطن المال لا وطن المالك، قال العراقيون: ينبني على هذا أن من أهلّ عليه شوال في بلدٍ وماله في غيره، ففيه وجهان:
أحدهما: أن فطرته لبلده دون بلد ماله؛ لأنه حق يجب عن البدن، وليست في حقوق الأموال.
والثاني: تصرف الفطرة في مستقرّ ماله؛ لأنه يعتبر فيها المال. وبيان هذا الوجه الأخير إذا كان معه مقدار الواجب وهو في وطنه، وقلنا: لا يجوز النقل، لزمه إخراجه، وإن لم يجد قدر الواجب في وطنه، ففيه يخرج الوجه الذي ذكرناه في اعتبار وطن المال.
7810- ومصرف الفطرة مصرف الزكوات عند الجمهور، وقيل: تجري مجرى الكفارات، فيكفي صرفها إلى ثلاثة من الفقراء أو المساكين.
فإن قلنا: تصرف إلى الأصناف، جاء التفصيل الذي قدمناه في النقل، وإن قلنا: تجري مجرى الكفارات المالية، فمنهم من قال: هي كالزكاة في منع النقل، ومنهم من جوّز نقلها؛ لأنها ليست من الوظائف الراتبة، فلا يتطرق إليها الحكمة التي راعيناها في منع نقل الزكاة من الانبساط على جميع البلدان؛ لأن ذلك يحسب في الوظائف الراتبة.
والوصايا المطلقة للفقراء وغيرهم هل يجوز نقلها إذا منعنا نقل الزكاة؟ وكذلك الخلاف فيما يلزم بالنذر المطلق؟
قلت: العجب من قوله: الفطرة ليست من الوظائف الراتبة. وهل الوظيفة الراتبة إلا ما لازمت وقتاً لا تنفك عنه، وإن لم يجب في السنة إلا مرة كزكاة المال، بل الفطرة ألزم في الترتب من زكاة المال؛ فأكثر الخلق لا تلزمهم الزكاة؛ لعدم النصاب، والفطرة لازمة لمن هو من أهل العبادة.
قال: ومن لا يستوطن موضعاً ولا يستقر ماله، فلا يعتبر النقل في حقه، وجميع الأرض في حقه كالبلدة الواحدة.
ولو كان يتردد في إقليم فسيح، فالظاهر أن له أن ينقل الصدقة من ذلك الإقليم، وإن كان لا يخرج منه، وفيه احتمال.
ولو وجبت الزكاة وهو في بعض النواحي فقد قيل: الأولى أن يخرجها في محل وجوبها، ولم يوجب ذلك أحد من الأصحاب؛ لأن حكم الاستيطان غير ثابت للمال.
ولو كانت ماشية رجل تتردد بين قريتين شتاءً وصيفاً، ولا تتعداهما، فإن لم يكن بينهما مسافة القصر، فالذي أراه على قول المنع من النقل القطع بأنه لا يجوز إخراج الزكاة إلى غير القريتين. وإن كان بينهما مسافة القصر، ففيها احتمال ذكرناه في التردد في الإقليم. ولو اتفق وجوب الزكاة، والماشية في إحدى القريتين المتقاربتين، وقلنا: يمنع النقل، لم تتعين القرية التي وجبت الزكاة فيها لتفرقتها على الظاهر.
ومن وجبت عليه الزكاة في بلد ولا يجد فيه أحداً من أهل الاستحقاق، وربما احتاج في نقلها إلى قدرها أو زيادة عليه، فقد قال بعضهم: يلزمه النقل ومؤونته وإن عظمت. ولا تحتسب من الزكاة، قال: وهذا بعيد، والأصح أنه لا يجب، ويخالف الساعي إذا جمع الزكوات، واحتاج في نقلها إلى مؤونة، حيث قلنا: تكون من نفس الزكاة.
ورب المال مخير بين أن ينقلها ويلتزم مؤونتها، وبين الصبر إلى أن يجد مستحقها، ولا تنزل الزكاة في يد من وجبت عليه منزلة الوديعة حتى يقال: إن وصل إليه مستحقها سلمها إليه، بل يجب عليه أن يفضها على المستحق إذا لم تلزمه مؤونة، وإن وجبت مؤونة، فعلى الاحتمال الذي ذكرناه.
ذكر العراقيون حِلَّة ينتجعون في البادية ومعهم أصناف أهل الاستحقاق لا يفارقونهم، فيجب صرف زكاتهم إليهم؛ لأنهم بمنزلة المقيمين معهم. هذا على قول منع النقل. قال: وفيها احتمال يُشير كلامهم إليه؛ لأن منع النقل في حكم البعيد الذي لا يستقيم على السبر، والأخبار وردت في المقيمين، وهؤلاء مسافرون.
فصل:
7811- قال: ويجمع أهل الاستحقاق أنهم أهل الحاجة، ولكن منهم من هو محتاج إلى أخذها، كالفقراء، ومنهم من يحتاج إلى دفعها إليه كالعاملين ونحوهم، فنبدأ منهم بمن بدأ الله تعالى بذكره فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، فللفقراء سهم، وللمساكين سهم، ولو جرى ذكر الفقراء في وصية، فهم والمساكين بمثابة، وكذلك لو جرى ذكر المساكين كانوا والفقراء بمثابة واحدة. فإذا اشتمل الكلام على الفقراء والمساكين، فلابد من مغايرة بينهما.
والفقير عند الشافعي أشد حالاً من المسكين، فالفقير الذي لا يجد شيئاً وراء الضرورة مثلاً في الملبس والمسكن، ولا يمنع أن يملك شيئاً لا موقع له من كفايته.
وأما من لا يفي دخله بخَرْجه، فهو المسكين. فهما يشتركان في أنّ كل واحد منهما لا يملك كَفافاً أو سِداداً من عيش، وفي القدرة على الكسب الذي يردّ القوت الكافي وغيرَه من الضرورات، ولا يخرجه من الاستحقاق بصفة الفقر أو المسكنة، فالفقير الذي لايملك شيئاً ولا له كسب يرد بعض كفايته، فإن رد بعضها، فهو مسكين.
وأما الصحيح الذي لا حرفة له، فمنهم من قال: يشترط في الفقر الزمانة؛ لأن الصحيح لا يخلو من نوع من الكسب يسد مسداً، ويخرجه عن كونه فقيراً، وإن لم يفِ دخله بخرجه، فهو مسكين.
فإن لم نشترط الزمانة، فلا كلام، وإن شرطناها، ففي اشتراط العمى تردد؛ فإن الزَّمِن البصير يكون ناطوراً.
وهذا سرفٌ، وحق الناظر في الجزئيات أن لا يغفل عن الكليات ونحن نعلم أن السلف لم ينتهوا إلى هذا الحد في التضييق.
وقد قال الشافعي في موضعٍ: "الفقير الذي يتعفف عن السؤال". فمن الأصحاب من شرط عدم السؤال، وجعله متمسكه، وقيل: لا تعويل على السؤال؛ فإنّ السائل قد يُعطى، وقد يصرف، وأيضاً؛ فإن المعروف بالفقر إذا تعفف، قصده أرباب الأموال بالكفاية، والأول يقول: السائل المضطرب أوسع معيشة من المتعفف، والمسكنة لا تُنافي ضرباً من المال إذا لم يفِ الدخل بالخرج.
7812- ومن صرف سهم الفقراء والمساكين إلى الفقراء، وظن أن ما أضيف إلى المساكين اكتفاء بالأقل درجة من الفقر من طريق التخفيف، وطلبُ الفقر تمسكٌ بالأشدّ الأشق، فهذا ظن باطل؛ لأن مقصود الشرع إزالة الحاجات بالزكوات؛ فقد يكون من غرضه أن يصرف إلى المساكين سهماً ليتماسكوا، ولا يصيروا فقراء؛ فلو وجد المسكين نصاباً، وكان لا يفي بمؤونته، لم يمنع صرف الزكاة إليه-وإن التزم إخراج الزكاة- فجواز صرف الزكاة إليه ينبني على تحقق مسكنته، فيجوز الصرف إليه إلى الاستكفاء.
وإن كان محترفاً بحرفةٍ تحتاج إلى آلات وهو لا يملكها، وإذا ملكها رددت عليه كفافه، فله الأخذ إلى أن يُحَصِّل آلة الصنعة. وكذلك لو كان يكتسب بالتجارة ولا يتأتى منه الاتجار إلا بألفٍ، فله أخذ الألف من الزكاة.
ولو كان يفتقر إلى عبدٍ يخدمه، لم يحتسب عليه إذا لم يكن العبد نفيساً، وكذلك لا يحسب عليه مسكنه اللائق بحاله، ولا يكلّف بيعه؛ فإن الحاجة إليه شديدة. وأما العبد، فإن كان المسكين يُخدم لمروءته ورتبته، فعدمه شاق على ذوي المروءات؛ فلا يمتنع أن يفرق بين هذا وبين العتق في الكفارة المرتبة؛ لأن الكفارات تتطرق إليها توسعات؛ منها أنها ليست على الفور، وليس في الانتقال من أصلٍ إلى بدلٍ إسقاطُ الكفارة، والزكاة وجبت لسدّ حاجةٍ حاقة.
فإن كان يتضرر بترك الخدمة لضعفه أو لنقص بصره، فإن العبد لا يحسب عليه، فهذا متجه، فأما الفقير، فلا يحتمل حاله ملك مسكن ولا عبد.
ولو سلّم من عليه الزكاة إلى عبد المسكين بإذن سيده وقعت موقعها، والعبد آلةٌ، وإن لم يكن بإذنه، ففيه خلاف ذكرناه في قبول العبد الوصية والهبة بغير إذن سيده، فإن لم يكن سيد العبد من أهل الاستحقاق، لم تقع الموقع؛ لأن العبد وسيده ليسا من أهل الزكاة، وإن كان العبد محتاجاً؛ لأنّا نشترط مع الحاجة كونه أهلاً للملك، العبد وإن قلنا: يملك بتمليك سيده، فملكه ضعيف لا يكتفى به في التمليك المشروط في تأدية الزكاة، كما لو قال لعبده: ملكتك ما تحتشه، أو تحتطبه، أو تصطاده، أو تتهبه؛ فإنه إذا وُجد شيء من هذه الأسباب، لم يملك بها العبد-وإن قلنا: يملك بتمليك سيده- لأن الملك لا يحصل إلا من جهة السيد في ملكٍ حاصل، وتمليكُ الأسباب لا يملّك العبد ما يَحصل بها.
ولا يجوز صرف شيء من سهم المساكين إلى المكاتب؛ لما ذكرناه من ضعف الملك.
ولا يجوز صرف الزكاة إلى صبي، وإن كان فقيراً أو مسكيناً، إلا أن يقبلها له وليه، أو منصوبٌ من جهة الحاكم.
7813- وإن كان للمسكين من تلزمه نفقتُه، ففي جواز صرف سهم المساكين وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه مكفيٌّ بنفقة قريبه؛ فهو كالكسب الدارّ بقدر حاجته، وهو القياس.
والثاني: يجوز؛ لأن النفقة تجب عليه لمسكنته؛ فهي توجب الاستحقاق من الوجهين على البدل، فإن سبقت الزكاة إليه، فلا نفقة له، وإن سبقت النفقة، فقد اكتفى، لكنه لا يستغني بنفقة يومه، وقد يستغني بما يأخذه من الزكاة.
والوجهان في زوجته المكفيّة بنفقته. ونفقةُ الزوجية أولى بمنع صرف سهم المساكين؛ لأنها لا تسقط بالغنى، فهو كريع وقف عليها، ومن له ما يكفيه من ريْع عقار لا يصرف إليه من سهم المسكنة؛ فعلى هذا لو نشزت، سقطت نفقتها، ولم تستحق من سهم المساكين لقدرتها على العود إلى الطاعة؛ فتعود نفقتها، فهو كقدرتها على الكسب.
ولو سافرت في شغلها بإذن الزوج، فإن قلنا: تسقط نفقتها، جاز أن تأخذ من سهم المساكين-حيث نجوِّز نقل الزكاة-؛ لأن نفقتها سقطت ما دامت مسافرة.
قال: وفيه نظر؛ لأنها قادرة على الرجوع، فيظهر في زمان قدرتها على العود تردد، وما ذكروه أظهر؛ لأنه يجوز لها المكث، فإذا مكثت، لم تكن قادرة على العود في ذلك اليوم، وكذلك كل يوم يتجدد؛ ولأنها وإن خرجت بالإذن، فهي المتسببة إلى إسقاط نفقتها؛ لأنها وإن أذن لها، فسقوط نفقتها لتقلّبها في حظ نفسها.
قلت: وفيما ذكره وحكاه نظر؛ فإنها استحقت نصيباً بالمسكنة فسفرها وإقامتها سواء؛ فإنه بأخذها نصيب المسكنة، لا تمنع من السفر.
قال: ولو نشزت في غيبة زوجها، وقلنا: لا تعود نفقتها بعودها إلى الطاعة ما لم ينته الخبر إلى الزوج، ففي جواز صرف شيء من سهم المساكين إليها احتمال، لانتسابها إلى النشوز أولاً.
قلت: ولا ينبغي أن يكون في جواز صرف شيء من سهم ابن السبيل إليها خلاف؛ لأن نفقة الزوجية تسقط بسفرها على قول.
ولا ينبغي أن يجري خلاف في جواز أخذها من سهم الغارمين إذا ثبت غُرمها؛ لأن نفقة الزوجية للكفاية لا لقضاء الدين.
7814- أما صرف الأب الزكاة إلى ولده المسكين أو ولده الفقير من سهم الفقراء أو المساكين، فلا يجوز اتفاقاً؛ لأنه إذا صرفه إليه اكتفى في يوم أو أيام، فتسقط نفقته، فيصير المال الواحد محتسباً من الزكاة، مسقطاً للنفقة.
ويجوز أن يصرف إليهما من سهم الغارمين إذا كان عليهما دين؛ لأن القرابة لا توجب قضاء الدين، فتغسله الزكاة، فيكون القريب كالأجنبي فيه، وسهم الفقر والمسكنة للكفاية، وهي واجبة على القريب.
أما الزوج إذا أراد أن يصرف إلى زوجته من سهم المسكنة، فهو كالأجنبي في ذلك؛ لأن نفقة الزوجية لا تسقط بوقوع الكفاية.
7815- ولا يجوز لرب المال أن يصرف من زكاته إلى واحدٍ من سهمين بأن يكون غارماً ومسكيناً. هذا ظاهر المذهب؛ لأنا فهمنا اعتناء الشارع ببث الصدقات على الأشخاص، فلابد من رعاية ذلك، كما لا يجوز أن يرث الإنسان بقرابتين اجتمعتا فيه، وإن لم تحجب إحداهما الأخرى.
وقيل: يجوز الصرف إلى واحدٍ من سهمين بسبب الاستحقاق للصفات، وقد تجمعت. وقيل: يجوز الجمع بين سهم المسكنة وسهم الغرم لإصلاح ذات البين، وإن كان لمصلحة نفسه، لأنهما جميعاً يرجعان إلى الكفاية.
ولا يجوز الجمع بين سهم الفقر وسهم المسكنة بحال؛ لأنهما يتناقضان، فلا يتصور الجمع بينهما في شخص واحد، وإذا أجزنا الجمع بين سهمين، أجزناه بين ثلاثة وأربعة إذا اجتمعت أسبابها.
ولا يجوز صرف سهم المساكين إلى مسكين واحد؛ لأن اللفظ ينبىء عن العدد مقصوداً؛ لأنه جرى ذكر كل صنفٍ بلفظ الجمع، فلابد من رعايته.
7816- للمسكين أن يأخذ قدر كفايته بحيث يفي دخله بخرجه، ولا يتقدّر بمدة سنة؛ فإن الذي يملك عشرين ديناراً يتَّجر بها، ولا يفي دخله بخرجه مسكين في الحال، وإن كان ما في يده يكفيه لسنة، فالمعتبر أن يتموّل مالاً يحصل له منه دخل يفي بخرجه على ممرّ الزمان.
وإن كان لا يحسن تصرفاً، فالأقرب فيه أن يملَّك ما يكفيه في العمر الغالب، وفيه نَبْوة؛ فإنه إذا كان ابنَ خمسَ عشرةَ سنة ويحتاج في السنة إلى عشرة، يؤدي إلى أن نجمع له مالاً جمّاً لا يليق بقواعد الكفايات في العادة.
والقريبُ من الفقه: إن كان يحسن التجارة، ملكناه مالاً يردُّ عليه التصرفُ فيه ما يكفيه، ولا يحطّه من الكفاية شيئاً، بل يكتفي بما هو أدنى درجات الكفاية.
وإن لم يحسن التجارة، فقد نقيم له قائماً يتَّجر له، وإن عسر ذلك، قال:
فالظاهر عندي أنه لا يزاد على نفقة سنة؛ فإنه لا ينضبط، وللسنة اختصاص بالزكاة؛ فإنها تجب في السنة مرة، فنزلت في كفاية المحتاجين منزلة النفقة الخاصة في كفاية من ينفق عليه، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنة.
7817- وأما الفقير، فلو صرفنا إليه مقداراً، فيخرج به عن حد الفقراء، لم يكن للغير أن يصرف إليه من سهم الفقراء، نعم من سهم المساكين.
فأما الدافع الأول، فلو دفع إليه ما ينافي المسكنة دفعةً، ففيه تردد، فيجوز أن يقال: له ذلك، فالمنتَهى المرعيُّ في حق الفقير الكفايةُ، وإن كان ابتداء الدفع من سهم الفقراء، فتُرعى غايةُ الضر، ويجوز أن يقال: لا يدفع من سهم الفقراء إلا ْأقل القليل، والمرعي أن يخرج عن حد الفقر، وهو كأكل الميتة؛ فإنه يراعى غاية الضرورة في الإقدام عليها، ويتردد في الزيادة على سدّ الرمق، قال: والأشبه عندي جواز الدفع إلى الفقير إلى الكفاية والاستقلال، فعلى هذا لو صَرَفَ إليه من سهم الفقراء ما أخرجه عن حد الفقر، ثم أراد هو بعينه أن يزيده من سهم الفقراء مرة أخرى، فيه ترددٌ و التفريع على جواز الدفع إلى حد الكفاية مرة واحدة، ويجوز أن يمتنع في دفعتين، لتعدد الفعل، وتميز الآخر عن الأول، ويجوز أن ينظر إلى اتحاد الدافع.
هذا كله في زكاة السنة الواحدة. فإذا تعددت السنة وفي يد الفقير بقية مما كان أخذه يخرجه عن حدّ الفقر، فلا يعطيه ذلك الشخص بعينه إلا من سهم المسكنة.
فرع:
7818- إن بني هاشم وبني المطلب لا يصرف إليهم شيء من الزكاة، وقال عليه السلام: «إن الله أغناكم عن أوساخ أموال الناس بخمس الخمس». فإن لم يكن في يد الإمام فيء وافتقرت طائفة من ذوي القربى، فالجمهور أنه لا يجوز أن يصرف إليهم من سهم المساكين، وقال الإصطخري: يجوز إذا لم يكن فيء؛ لأنهم حرموا الصدقة، وأقيم الفيءُ في حقهم مقامها، فإذا لم يكن فيء، حلّوا محل الأجانب الذين لا قرابة لهم. وهذا بعيد.
وكما لا يصرف إليهم من سهم الفقراء والمساكين لا يصرف إليهم شيء من سهم الزكاة، وإن اتصفوا بصفات الاستحقاق.
فإن كانوا عاملين، فالأصح أنه يصرف إليهم؛ لأن نصيب العامل بمثابة الأجر. وقيل: لا يصرف إليهم.
وكانت الزكاة محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقة التطوع، ويشهد له حديثٌ: فإنه عليه السلام دخل بيته، فرأى بُرْمة تغلي، فخرج وعاد، فاستطعم، فقدم إليه خبز قفار؛ فقال عليه السلام: «البرمة تفور باللحم»، فقيل: يا رسول الله إنه لحم تُصدق به على بريرة-والظاهر أنها كانت صدقة تطوع- فلم يردّ عليه السلام ذلك القول، لكنه قال: «هو عليها صدقة، ولنا منها هدية».
وفي تحريم صدقة التطوع على بني هاشم وبني المطلب وجهان:
أحدهما: التحريم قياساً على المصطفى، والجامع استواؤهما في الصدقة المفروضة.
قلت: والاستدلال بقوله عليه السلام: «نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة» أولى من القياس.
والوجه الثاني- أن النبي صلى الله عليه وسلم يختص بتحريم صدقة التطوع. وفقه ذلك أنه عليه السلام كان مكفياً ببيت المال، وهو يُطعِم ويسقي، فلا يليق بمنصبه العلي أن يُمتن عليه بالصدقة. وأما الفقير من ذوي القربى، فيجب كفايته، ويبعد صرف كفايته عن جهة القربة إلى الله تعالى، فلا معنى للصدقة إلا تحلّة يتقرب بها لله تعالى.
وفي الصدقة المنذورة خلافٌ، منهم من أنزلها منزلة الزكاة، فحرمها على ذوي القربى، ومنهم من أحلها محل صدقة التطوع، وفيها الخلاف المقدَّم.
فصل:
7819- قال سبحانه: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] فأثبت للعامل سهماً في الصدقات. والعامل: الساعي الذي يجبي الصدقات، ومنهم الحُسّاب والكتّاب، ومن لابد من استعماله؛ لأن الساعي لا يستقل بذلك. فإن كان ثُمن الصدقة مثل أجور أمثالهم من غير زيادة ولا نقصان، فلا كلام، وإن فضل عن أجورهم شيء، فهو مردود على بقية الأصناف، ولو نقص عن أجورهم، فلابد من تكميلها، ففي قول: تكمل من الصدقة، فيقدم سهم العاملين رأساً، ثم يُفضّ الباقي على بقية السهام بالسوية. والقول الثاني: يكمل من سهم المصالح، ولا يعطَوْن من الصدقة زيادة على الثمن.
وقيل: ليس للعامل إلا الثُّمن، فإن نقص عن أُجرة مثله، لم يكمل من موضعٍ آخر، ويلزم على هذا إذا زاد على أجرة مثله أن يأخذه بالغاً ما بلغ، وهذا بعيد، لم يبح به من قال بالأول، ويشهد لإمكانه تحريم هذا السهم على الهاشمي، وقد قيل: هي على اختلاف حالين، فإن بدأ بسهم العامل، فنقص، تممه من الصدقة، ثم يفض الباقي على السهام الباقية، وإن بدأ بسهام غير العاملين، ثم نقص سهام العاملين، لم تُنْقَض القسمة، وتمّم سهم العاملين من المصالح. قال: وليس فيه فقه، فإن اتفق هكذا، فلا يبعد ذلك، ويليق أنه إذا اتسع سهم المصالح، فرأى الإمام أن يجعل مؤونة العاملين منه، فالظاهر جوازه، وهذا يدل على أن ما يأخذه العامل مؤونة على الصدقة، وليس من عين الصدقة، لكنها مؤونة محسوبة على مستحق الصدقة.
وللساعي أن يبذل شيئاً من الصدقة لنقلها إلى المستحقين.
ويدلّ فحوى كلام الأصحاب على أنه لا يجوز حرمان العاملين من الصدقة بالكليّة، ويدل على أن ما يأخذونه صدقة؛ ولذلك حرم على الهاشمي. والمذهب ما قدمناه.
7820- وإذا تولى رب المال تفرقة زكاة ماله، سقط سهم العامل عنه، وإن احتاج إلى مؤونة لنقلها، لم يلزمه؛ لأنها غرامة زائدة على الزكاة، ولا عدوان منه، فيُغلَّظ عليه، فإما أن يمسكها حتى يطرقه المستحقون، وإما أن يَحْتسب من الزكاة، ما يجوز للساعي أن يحتسبه منها، ويعارض هذا أن الساعي قابض للمساكين وغيرهم، ناظر لهم نظر الولي للمَوْليّ عليه، أو نظر القاضي في أموال الغُيب، أو نظر الوكيل للموكل. ولو تلف ما يأخذه الساعي في يده، كان محسوباً على المساكين، والزكاة ما بقيت في يد ملتزمها، فهي من ضمانه. فهذا وجه التردد.
وإذا احتاج إلى كيال يكيل العشر، فهل مؤنته من سهم العاملين؟ ذكر الأئمة فيه وجهين؛ أحدهما- أنها من سهم العاملين؛ لأن ذلك من العمل في الزكاة، وقد زُيِّف؛ وصححنا أن مؤونة الكيال على رب المال، وقد بيّنّا أن من اشترى طعاماً مكايلة، فمؤونة الكيال على البائع. وسهم هؤلاء على قدر أجور أعمالهم، ولا يقسم عليهم بالسوية.
وليس لوالي البلد، ولا للإمام الأعظم من سهم العاملين شيء، وما كان الخلفاء يأخذون من الصدقات شيئاً، إنما حقهم في سهم المصالح إذا لم يتطوع بالعمل، فكان الصّدّيق والفاروق يأخذان من سهم المصالح قدراً دَرَراً ثم ردّاه في آخر أعمارهما إلى بيت المال، وروي أن عمر بن الخطاب أرصد لنفسه ناقة من الفيء تحلب كل ليلة، فيفطر على لبنها، فأبطأت ليلة: فلم تعد من مرعاها، فحلب له من نَعَم الصدقة، وأتي به، فشربه، فأعجبه ذلك، فسأله عنه، فقيل: إنه من نعم الصدقة، فأدخل أصبعه، فاستقاءه، وغرم قيمته للصدقات.
فصل:
7821- قال الله عز وجل: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم} [التوبة: 60] فمنهم الكفار إذا بدا لنا حسن نياتهم، ورجَوْنا إسلامهم، وقد كانوا يُعَدون من المؤلفة، والذي استقر الشرع عليه أنهم لا يعطَوْن من الصدقات شيئاً، وهل يعطَوْن من المصالح؟ قولان:
أحدهما: يعطَوْن؛ لاتساع وجوه المصالح وعَوْد الفائدة إلى الإسلام.
والثاني: لا يعطَون؛ لأن سهم المصالح يُعدّ للمسلمين وهؤلاء كفار.
ومنهم من هو حديث عهد بالإسلام، وهم أشرافٌ، ولم تصدق نياتهم، وفي ثبوتهم مسلمين إسلامُ أتباعهم، ففيهم قولان:
أحدهما: يعطَوْن من المصالح.
والثاني: من الصدقات.
ومنهم بطرف بلاد الإسلام يليهم كفار، إذا أعطوا، قاموا بجهادهم، ولو لم يجاهدوهم، نحتاج إلى مؤنة مجحفة في تجهيز جيش إليهم، فيجوز الصرف إليهم بلا خلاف، لأنه مُهمٌّ من مهمات الإسلام.
وكذا لو كان وراءهم قوم من المسلمين، إذا صرف إليهم شيء جَبوْا صدقاتهم، وأوصلوها إلى الإمام، وامتثلوا أمره، ولو أنفذ إليهم ساعياً، عظمت مؤونته؛ لأن ذلك بذل مال في مقابلة عمل، وتسميتهم مؤلفة تجوّزٌ؛ فإن قلوبهم مطمئنة بالإيمان.
ومن أين يصرف إليهما؟ فيه أربعة أقوال: أحدها: من المصالح.
والثاني: من سهم المؤلفة من الصدقات. والثالث: من سهم سبيل الله. والرابع- من سهم سبيل الله و من سهم المؤلفة. وعلى الرابع قيل: يخرج على الوجهين فيمن فيه سببان يستحق بهما. وقيل: يجمع للمؤلفة لحاجتنا إليهم، ولا يجمع لفقير غارم، لأنه محتاج إلينا، فيجوز الجمع للمؤلفة وجهاً واحداً، والوجهان في غيرهم.
قلت: ويتجه في هذين الصنفين أن يقال: يُعطى من يُرجى جبايته الصدقة من سهم العاملين؛ لأنهم قائمون بالعمالة حقيقة، وللمجاهدين من سهم سبيل الله؛ لأنهم غزاة حقيقة، ولا يعطَوْن من سهم المؤلفة. إلا أني لم أره للعراقيين.
وذكر العراقيون في الأشراف هل يعطون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قولين. وإذا قلنا: يعطَوْن، فمن أين؟ فيه قولان. فإن قلنا: من الصدقات فقد أجرى صاحب التقريب الأقوال التي ذكرناها فيمن في أطراف خِطة الإسلام. وإذا قلنا: يجمع بين السهام، فهل يتعين؟ قيل: يتعين. وقيل: يفوّض إلى رأي ولي الأمر، ولعله الأصح.
فصل:
7822- الرقاب: هم المكاتبون عند الشافعي، وأبي حنيفة. فيعطَوْن سهماً يستعينون به على أداء مال الكتابة، فيدفع إليه مقدار ما عليه من النجوم إذا لم يكن في يده وفاء بها. فإن كان في يده بعض ما عليه، أُعطي تمامَه، كما يُعطى الغارم بقدر ما عليه. وفي جواز أخذه قبل حلول النجم عليه وجهان: أظهرهما- لا يجوز؛ لأنه غير مطالب.
والثاني: يجوز؛ لأن له تعجيله قبل محله، ويلزم السيد قبوله، فإن رضي المكاتب بتسليم الصدقة إلى سيده، جاز تسليمها. ولو دفعت إلى السيد بغير إذنه، لم تقع الموقع؛ لأنه لا يتعين عليه صرفها إليه، بل يجوز أن يؤدي من كسبه ويستبقي الصدقة لنفسه.
وإذا قبض قسطاً من الصدقة، ثم أبرأه المولى، أو نجّز عتقه، قال صاحب التقريب: نرجع فيما قبضه إن كان باقياً؛ لأنه لم يحصل به المقصود، وهو الإعتاق، ولو كان أتلفه قبل الإبراء أو العتق، ففيه وجهان: يغرم؛ لأنه يلزمه الرد، لو بقيت.
والثاني: لا يغرم؛ لأن القصد بالدفع إليه إرفاقه، وقد حصل. وقيل: إن فاتت العين، فلا غرم، وإن بقيت، ففي استردادها وجهان.
وجميع ما ذكرناه يجري فيما إذا أداه أجنبي عنه، ثم أُعتق عنه، أو أبرىء.
ولو لم يدفع ما قبضه إلى سيده، فعجّزه السيد، استرد منه بلا خلاف، إن كان باقياً، أو قيمته إن كان فائتاً، بخلاف ما تقدم؛ لأن الغرض حصول العتق، فإذا نفذ، لم نتبعه.
وقيل: إذا دفع ما قبضه إلى سيده وعجز عن باقي النجوم، وعاد إلى الرق ففي استرداده من السيد طريقان:
أحدهما: لا يسترد منه؛ لأنها بلغت محلها.
والثاني: هي على وجهين. هذا إذا كانت العين باقية في يد السيد، أما إذا كانت فائتة، فالأمر على خلاف ذلك، وهذه أولى بأن لا يغرم السيد، وقطع الشيخ أبو محمد بالرد مهما كانت العين باقية، وإن فاتت، غرم، وهو منقاس حسن؛ لأنه خرج عن كونه مكاتباً بانقلابه رقيقاً.
ولو فاتت العين في يد المكاتب، تعلق عينها برقبته؛ لأنها تلفت مضمونة تحت يده، كما لو استعار عيناً، فتلفت في يده، بخلاف ما لو اشترى عيناً، فتلفت في يده كان بائعها رضي بذمته، وما قبضه من الصدقة لم يكن عوضاً، بل موقوفاً، وقد تبين أنه لم يقع منه موقعه.
فصل:
7823- قال تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] فإن لزمه الغرم لحاجته الخاصة فيُرعى فيه أن يستدين في إباحةٍ كحاجته إلى نفقته، أو نفقة عياله، فهذا يقضى من الصدقة.
فإن كان لزمه في جهة معصية هو مقيم عليها، لم يصرف إليه من الصدقة؛ لأنّ في قضائه إعانةً له على المعصية. ولو تاب منها، فوجهان:
أحدهما: لا يقضى، زجراً عن الاستدانة على المعاصي؛ لأن التوبة لا اطلاع على حقيقتها، ولا يؤمن إظهارها توصلاً إلى أخذ المال والمعاودة إليها. وقيل: يقضى؛ لأن المعصية زالت ومحتها التوبة، وتبقى الذمة مرتهنة.
ونعني بالاستدانة في المعصية أن يقترض مثلاً، أو يشتري بعقد صحيح، لا أنه يعقد عقداً فاسداً.
ومن استدان غير قاصد للفساد، ثم بدا له، فصرفه في الفساد، فإذا تحقق ذلك، قُضي من سهم الغارمين. لكن إذا اقترض وقبض وصرفه في الفساد، وادّعى أنه لم يكن قاصداً للفساد، لم نصدقه. ولو اقترض بقصد به الفساد، ثم عصمه الله، فصرفه في جهةِ خيرٍ، قُضي دينه؛ لأن النية إنما تعتبر إذا صدَّقها العمل. وعلى مقتضى هذا، إذا اقترض للطاعة، ثم أنفقه في المعصية أنه لا يقضى دينه، لأن نيته موقوفة على عمله.
قال الشيخ أبو بكر: الاقتراض في جهة الإسراف كالاقتراض في المعصية.
والسَّرف هو الخروج عن المعتاد، فيما لا يُكسب أجراً، ولا يُسْمي شرفاً و ليس محرّماً.
ويشترط لقضاء دين الخاصة من الصدقة ألا يكون في يده ما يقضي به الدين، فأما من تحمَّل ديةً في تسكين فتنة لولا تحملها، لثارت، فإذا طلب قضاء ذلك عنه، لزمت إجابته؛ وإن كان غنياً بعقاره ومنقولاته، متمكناً من قضاء تلك الحَمالة من غير عسر يلحقه.
وإن كان غنياً بالنقدين أو بأحدهما، ففيه قولان:
أحدهما: يؤدى عنه دينه، كما لو كان غنياً بعقاره وعروضه تحريضاً لسادات القبائل على تطفئة ثائرة الفتن؛ فإنه تكثر منهم، فلذلك لا يكلّفون بقضائها من أموالهم.
والقول الثاني- لا يقضى من الصدقة إذا كان له وفاء من نقد؛ لأن صرفه في هذا الوجه لا يثقل على المقتعِدين للرياسة بخلاف بيع العقار والمنقولات، فإنها تصدّ المتحمل؛ فإنه يعد قريباً من الخروج من منصب المروءة في العرف، وهذا وإن لم نرضه في القياس، فهو لائق بالمعاني الكلية.
ولو تحمّل الغرامة في إتلاف مال جرَّ فتنةً، ففيه طريقان:
أحدهما: أنه كمتحمل الدية. وقيل: إن كان معه وفاء من النقد، لم يعط من الصدقة قولاً واحداً، وإن كان له غير النقد، فقولان على عكس الترتيب المقدّم.
7824- ولو ضمن عن رجل ديناً في معاملة من غير خوف فتنة؛ فإن كان المضمون عنه موسراً والرجوع عليه ممكناً، لم يعط من الصدقة؛ لأنه ليس بدين؛ فإنه يجد به مرجعاً.
وإن كان المضمون عنه معسراً، ولا يجد الضامن مالاً يقضي به الدين، فله قضاؤه من الصدقة.
وإن كان موسراً بالنقد أو بغيره، فقد قيل: هو كتحمل الدية، وقيل: كتحمل بدل متلف لخوف الفتنة. ومنهم من قطع بأن ضمان دين المعاملات كالاقتراض لخاصة نفسه، فالذي يلتزمه الإنسان لخاصة نفسه قطع المراوزة باشتراط الفقر في قضائه من الصدقة، وقيل: يجوز أداؤه مع الغنى، وهو ضعيف.
قال: وفي هذا المقام نظر، فإن كان الغارم لا مال له، لم تتجه مطالبة غريمه له، والصدقة تصرف لسد خَلة، أو كفاية أذى مستَحِقِّ الدين، وإنما شرطنا الإعسار؛ لأنه لا يمتنع أن يكون للإنسان مستنض، فيصرفه إلى قضاء دينه، فيصير مفتقراً إلى الصدقة، فإن كان ينتهي بأدائه إلى المسكنة، فله أخذه من الصدقة، وهذا نوع غنى يكفي في دفع المفسدة، فإن زاد الغنى عن الكفاية، لم يقض دينه. ويجوز أن يقال: لا نهجم على قضاء دينه وهو ذو كفاف، فيرتدّ الفرض إلى مسكين عليه دين، فلا يؤدى من الصدقة إلا دين مسكين.
ويجوز أن يقال: إذا لم يملك ما يقضي به دينه فلا يتهنَّى بعيشه، وهو مكتسب قدر الكفاف، فينازع في قدره وينحو إلى المحاكمة، ولأنه إذا قضيت الديون من الصدقات استرسل الناس في إقراض المعسرين واثقين بالصدقات؛ فإنها أثبت من الأغنياء المعتدّين.
علم أن للشرع على الحَمالات حث ظاهر، لصلتها بالمصالح العامة، حتى كأن المتحمل مستناب من جهة الشرع في الاقتراض على الصدقة.
7825- وفي قضاء الدين المؤجل من الصدقة ثلاثة أوجه: أحدها: لا يقضى؛ لأنه لا مطالبة به.
والثاني: أنه يقضى الذي سيطالب به، فيليق بالشرع أن يكفي المطالَب توقع المطالبة. والثالث: إن كان الأجل ينقضي في وسط السنة المستقبلة قُضي دينه؛ فإنه سيؤدَّى قبل محل الصدقة الأخرى، وإن كان الأجل سنة فصاعداً، فيؤخر قضاء هذا الدين إلى صدقة السنة القابلة.
والغارم على أي وجه كان يستحق الأخذ من الصدقة بسبب الغرم، فلو أخذ الصدقة ثم أبرأه غريمه، فحكمه في رد ما أخذه إن كان تلف، حكم المكاتب إذا قبض حصته، ثم أُعتق أو أبرىء.
واحتج الشافعي في فصل الحَمالة بما روي أن قَبيصة بن مخارق الهلالي قال: "تحملت حَمالة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نؤديها عنك، أو نخرجها عنك إذا قدم إبل الصدقة، ثم قال: يا قَبِيصة: المسألة حرمت إلا في ثلاث: رجل تحمل بحَمَالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابه فاقة أو حاجة-شك الراوي- حتى يشهد أو يتكلم-وهذا أيضاً من الراوي- ثلاثة من ذوي الحجا أن أصابته فاقة، أو حاجة، حتى يصيب سِداداً، من عيش أو قَواماً من عيش-وهذا من الراوي أيضاً- ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة. الحديث".
يعرض في الأول لحلال السؤال مع الفقر، ومعنى آخره أن من كان على كفاية برأس مال يتعفف عن التكفف، فإن حُطّ بجائحة عنه، فله السؤال إلى عود الكفاف.
وفي أحاديث من الوعيد الذي يلحق الملحف في السؤال، قال عليه السلام: «الملحف في السؤال يحشر يوم القيامة وليس على وجهه مُزعة لحم» ويروى «يحشر وفي وجهه خدوش».
ومتى انتهى السؤال إلى الإيذاء فهو ممنوع. ولو آثر المرء الصمت في الضرورت مع قيام الدواعي، فهو ممنوع، قال عليه السلام: «من صمت وقد حقّ عليه النطق، فهو شيطان أخرس».
وإذا مست الحاجة، فالسؤال مسوّغ، والتعفف حسن، وإن لم يكن حاجة و لم ينته السؤال إلى الإيذاء، فهو مكروه، إلا أن يُباسط صديق صديقاً، فلا كراهة في هذا، وقد يدخل المسرة.
فصل:
7826- والمعني بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] سهم من الصدقة يصرف إلى الغُزاة المطّوعة، ولا يشترط فيه كونُه محتاجاً، بل لو كان من أغنى الناس إذا طلب، يُسعف بكفايته في مركبه وسلاحه ونفقته: فالمركب ما يبلِّغه إلى محل القتال، فارساً كان يقاتل أو راجلاً، كما لا تجب حجة الإسلام على من لا يجد راحلة أو نحوها، فإن كان حصّل له فرساً يقاتل عليه، إما أن يشتريه ويسبّله، فإذا اتفقت الحرب كان عتيداً للغزاة. وإما أن يستأجره، وإما أن يستعيره، وإن رأى أن يملّكه الفرس لعلمه ببلائه، فعل، ويعطيه نفقة الذهاب ومدة الإقامة على القتال والحصار، ونفقة الإياب؛ لأن استشهاده ليس ضربة لازم، فهذا لأن الغرض من الدفع إليهم تحريضهم على الجهاد، فاعتبر ذلك مع كونهم أغنياء، كالمرتزقة من مال الفيء.
ولو عدم الفيء في بيت المال، وجاء وقت عطاء المرتزقة، ففي الصرف إليهم من الصدقة وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن حقهم في الفيء لا يسَاهمون فيه، فيبغي أن يختص المطوعة بسهم الصدقة، وعليه تدلّ سيرةُ السلف من الأئمة والخلفاء الراشدين، فإنهم ما كانوا يمزجون الفيء بالمطوعة.
والثاني: يجوز أن يصرف إليهم؛ لأنه مرصد للغزاة، وهم منهم وأولى من المطوعة.
وإذا نحونا بالفيء نحو مال المصالح ورأى الإمام أن يصرف ما فضل من كفاية المرتزقة إلى المطّوعة، جاز، وإن قلنا أربعة أخماس الفيء ملك المرتزقة، لم يجز أن يصرف منه شيء إلى المطوّعة. نعم، يجوز أن يصرف إليهم من خمس الخمس المرصد للمصالح، وقال الصيدلاني: يجوز أن يصرف إلى المرتزقة من سهم سبيل الله إذا احتاجوا إلى قتال مانعي الزكاة، قال: فيعطَوْن مما يأخذون من الممتنعين، قال: ولا تحقيق فيه؛ لأن ما يؤخذ من الممتنعين ومن المطيعين سواء، فلا تختلف مصارفها وهم مترصدون لأمر الإمام في كل قتال، فأي أثر لتخصيص قتال مانعي الزكاة؟ وإذا قلنا يجوز أن يصرف سهم المرتزقة إلى المطوّعة، جاز أن يصرف إليهم جميع ما يحتاجون إليه من أصل النفقة، وما يزيد بسبب السفر على أحد الوجهين، كالمقارض إذا سافر.
فصل:
7827- قال الله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] وهو مريد السفر، ولا يجد ما يبلغ به إلى مقصده، فيُدفع إليه من سهم الزكاة، إذا كان سفره طاعة. وإن كان سفر معصية، لم يُدفع إليه، وكذلك الهائم على وجهه، ومن يهمّ بالعود إلى وطنه يستحق باتفاق، وطالب التجارة غرضه صحيح وسفره مباح، وهل يصرف إليه منه إذا كان ماله غائباً، وهو يبغيه ليتجر فيه؟ قطع شيخه بجواز الصرف إليه. وقال الصيدلاني: من سافر إلى بلدةٍ، فقصده صحيح. قال: وفيه نظر ظاهر، فيجوز أن يقال: هذا ليس من الأغراض المعتبرة، وأكثر الأئمة على أن السفر من غير غرض مكروه؛ لأنه إتعاب النفس بغير فائدة.
وإذا أجزنا نقل الصدقة، أجزنا صرف هذا السهم إلى الطارقين، وإلى المنشئين من وطن المال، وإن لم نُجز النقل، فيجوز صرفه إلى المنشئين، فأمّا الطارقون، فظاهر النص لا نجيز الدفع إليهم؛ لأنهم ليسوا من أهل هذه البلدة.
وقيل: إن أبناء السبيل الملازمون للأسفار، وهو بالطارقين ألْيق، فيجوز صرفه إليهم. وقال أبو حنيفة: ابن السبيل هو الطارق دون المنشىء.
وإذا منعنا نقل الصدقة وفي البلد غرباء من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم، لم يجز الصرف إلى الغرباء؛ لأن تحريم النقل يقتضي أن يختص كل فريق بما عنده، وإذا علم الغرباء أن الصدقة تصرف إليهم، أمّوا البلد، وضيقوا على القاطنين في البلد، فيفسد به الغرض الذي قدمناه في أول الكتاب من بسط الصدقات على جميع الجهات، وقد ذكرنا أن لحوم الهدايا تفرّق في الحرم، فلو حضره الغرباء قُسّطت عليهم جميعاً، بخلاف الزكاة إذا منعنا النقل، والفرق أن الغرض من تفريق لحوم الهدايا في الحرم تشريف مكانه لشرفه. والغالب المرعي في الزكوات تعميم جميع أهل البلاد؛ ولأنها كثيرة تفضل عمّن هم أهل الحرم؛ فهي بالغرباء الواردين أليق، وقد تضيق عليهم أطعمة الحرم لضيق خِطته.
فأما صدقات أهل الحرم، فإنها كصدقات سائر البلاد.
وإذا فارق وطنَ المال بعضُ أصناف أهل الزكاة، فنقل من عليه الزكاة نصيبَهم إليهم حيث كانوا، جاز؛ تعويلاً على الآخذ دون المكان، وهو جارٍ على القياس الذي ذكرناه، ويتضح به إذا انتقل جملة المستحقين مثلاً، أما إذا كان في المقيمين في وطن المال كفاية، وإنما انتقل طائفة منهم، فالقياس جواز الإخراج إلى الخارجين، وجَبُن بعضُ الاْصحاب في هذه الصورة على الخصوص؛ فلم يجيزوا النقل، فقد قيل: يجوز إخراج حصصهم إليهم؛ لأنهم من أهل النفقة، وقيل: لا يجوز حتى يحضروا وطنَ المال في سنة الزكاة، فلو حضروا بعضَ السنة، وغابوا قبل انقضائها، فهو مرتب على الصورة الأوّلة، وهذه أولى بجواز الإخراج.
ولو غابوا معظم السنة، ثم أتَوْا وقت وجوب الصدقة، جاز صرفها إليهم باتفاق، ولا حكم للغيبة السابقة، ولو غابوا بعد انقضاء السنة، صرفت صدقة تلك السنة إليهم، وتعليله بيّن.
ولو خرجوا على قصد قبل وجوب الصدقة، لم يجز نقل الصدقة إليهم إذا فرعنا على منع النقل، وإن انتقلوا بعد وجوب الصدقة، فإن اتسعت الخِطة، ولم ينحصر أهلها، فالأصح جواز الإخراج، وإن كانوا محصورين وقد غابوا بعد الاستحقاق، فلهم حصصهم.
ويشترط في استحقاق ابن السبيل الحاجةُ الناجزة: ألا يكون معه ما يبلغه مقصده وإن كان له مال غائب، فلو قصد بلدة بعيدة، وله في منتصف طريقها مال، لم يأخذ إلا ما يبلغه إلى ماله، بخلاف سهم سبيل الله، فإنا نصرفه إلى الموسرين؛ لأن الغرض استحثاثهم على الغزو، وهذا يقتضي أن يُكفَوْا من الصدقة؛ حتى لا يتخاذلوا؛ ضِنةً بأموالهم، وابن السبيل يعطى للحاجة؛ فاعتبر وجودها.
فصل:
7828- من ادعى الغرم لم يصدق إلا ببيّنة؛ لأنه دعوى باطنٍ، لا يعسر إثباته.
وكذا إذا ادعى العبد أنه مكاتب. ومن ادعى الفقر، أو المسكنة، لم يكلّف بيّنة على ذلك؛ لأنه يعسر ذلك على آحاد المساكين، ويتضح ذلك بسيرة الأولين؛ ولما جاء الرجلان يطلبان الصدقة، فلم يردهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن قال: "لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة سوي". وأُلحق به عدمُ الكسب، وإن أشعر ظاهر البِنْية بقوةٍ وتمكّنٍ من اكتساب بجهةٍ؛ لأنا نرى كثيراً من أصحاب القوة يعرون عن عمل مع قوتهم فلا يطالب بالبينة. نعم، إن كذبه شاهد الحال، كذبناه.
وكذلك إن اشترطنا الزمانة في سهم الفقراء.
وإذا ادعى أن عليه ألفاً لزيد، فصدقه على ذلك، ففيه وجهان:
أحدهما: يقبل تصديقه؛ ويُعطى من سهم الغارمين؛ لأنه ثبت بالإقرار.
والثاني: لا يقبل؛ لأنه لا تؤمن المواطأة بينهما، وكذلك إذا صدق السيد أنه عبده على الكتابة، وهذا أقوى من تصديق المدين.
ولو أقرّ بدين لغائب، وقبلنا إقراره للحاضر، ففيه وجهان.
ولو قال: أنا عازم على سفر، أو أريد الغزو، لم يطالب بحجة على عزمه، وجاز الدفع إليه من السهم الذي طلبه.
وحيث لا يطالب بالبينة، ففي تحليفه إذا اتهمه المطلوب وجهان، وهل هي مستحقة أو مستحبة؟ وجهان: فإن قلنا: هي استحباب استظهاراً، فنكل، فلا حكم لنكوله. وإن قلنا هي مستحقة، فإن نكل عن اليمين، لم يستحق شيئاً.
وقيل: إن طلب من سهم المساكين، فذكر أنه غير مكتسب، فإن شهد له ضَعفُه، لم يحلّف، و إن بعُد بشاهد الحال صدقُه، ففي تحليفه وجهان.
فإن قيل: فقد قضيتم بالنكول، إذا رأيتم التحليف مستحقاً كل، قلنا: لابد من شرط قيام حجة لائقةٍ بالحال، وهي اليمين، فإذا عدمت، صار كأن لم تكن بينة على الغرم والكتابة، ونحن تشترط قيامها.
ومن طلب من الغزاة أو ابن السبيل لم نحلفه، بل إن انتهض غازياً أو مسافراً.
وحلفه، ولا نجد مرجعاً لفقره، وهل هي استحقاق أو استظهار، على ما تقدّم.
وقيل: من ادّعى حَمالة، وأشكل علينا حاله، طولب بالبينة، على قياسٍ بيِّن. فإن استفاض أمرها، اكتُفي بالاستفاضة فيها، وقيل: هذا إذا انتهت إلى حدٍّ يفيد العلم كأخبار التواتر؛ لأنها أقوى من البينة، وإذا لم تُفد إلاّ غلبة ظن، فلا أثر لها، وعليه البينة، وفيما ذكره فقه.
وإذا انتهت الاستفاضة إلى إفادة العلم، فإنها تفيد القاضي علماً في الخصومات.
فإن قلنا: يجوز أن يحكم بعلمه، قضى بها، وإن منعنا القضاء بالعلم، فقد منع بعضهم القضاء بها؛ بناء على الأصل، ومنهم من أجازه؛ لأن المحذور من القضاء بعلمه تعرضه للتهمة، وقد زالت بالاستفاضة. والاكتفاء بها إذا أفادت ظناً فيما نحن فيه أفقه؛ لأن الأحكام فيه مبنية على الظن، بخلاف مفاصل الخصومات؛ فإنها منوطة بالعدد والتعبدات، ولا أظن بمن لم يكتف اشتراطه إقامة بينة في مجلس القضاء، فإن طرد قياسه، فهو بعيد من وضع الباب، مخالف لسيرة السلف؛ فإنهم ما أخرجوا مستحقي الصدقة إلى مجلس الحكم. وإن اكتفى بقولٍ في غير مجلس القضاء، فالاستفاضة أقوى. ولعل المعتبر أن يشيع التحمل إشاعة يكتفى بمثلها في إثبات النسب، وتنبني الشهادة عليها.