فصل: فصل: يجمع مسائل على نسقٍ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب




.فصل: يجمع مسائل على نسقٍ:

5347- فإذا استأجر من يذبح له شاةً، ويسلخها، فجعل أجرة الأجير جلدَ الشاة، لم يجز له ذلك؛ لأنه جعل الأجرة جزءاً من الحيوان، وذلك ممتنع.
ويجوز أن يقال: الفساد بعلةٍ أخرى، وهي أن الجلد إنما ينفصل عن الشاة المذكّاة بعمل السلخ، فعمله المذكور في الإجارة يتصل بالأجرة المسماة ويقع عملاً فيها، وهذا ممتنع، والشرط أن يقع عمل الأجير في خالص ملك المستأجر.
5348- وإذا استأجر من يحمل ميتة إلى المزبلة، ويسلخها، وجعل الأجرة جلدَها، فهذا ممتنع للمعنيين المقدّمين، ولمعنى ثالث أجلى منهما، وهو أنه جعل الأجرة جلدَ الميتة، وهو قبل الدباغ نجسُ العين، غيرُ متقوّم، إلى أن يدبغ.
5349- ولو استأجر من يجني ثماراً له، وجعل أجرة الأجير جزءاً من تلك الثمار، فالإجارةُ فاسدةٌ عند الأصحاب؛ لأن عمله يقع فيما سُمي أجرةً، وقد ذكرنا أن الشرط أن يقع عملُ الأجير في خالص ملك المستأجر؛ فإذا وقع بعضٌ من عمله فيما قُدّر أجرة، فكأنه عمل فيما هو ملكه.
5350- وإذا استأجر من ينخل دقيقاً، وجعل أجرته النخالة، لم يجز، وكذلك إذا استأجر من يطحن حنطةً بقفيزٍ من الطحين، فالإجارة فاسدة.
5351- والعلل وإن كانت ظاهرةً في إفساد الإجارة في هذه المسائل، فالمعتمد الأظهر فيها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن قفيز الطحان»، ومراده صلى الله عليه وسلم استئجارُ الطحان بقفيزٍ من الطحين.
5352- ولو استأجر مالكُ الجاريةِ مرضعةً لترضع الجاريةَ الرضيعةَ، وشرط أجرتها جزءاً من الجارية إذا فُطمت، فالإجارة فاسدة، تخريجاً على قفيز الطحان.
ولو قال: استأجرتُكِ على إرضاعها، وأجرتُك ثلثُ رقبتها في الحال، فهذا يخرّج على مسألةٍ نُقدّمها، ونذكر ما فيها: وهي أنه إذا كان بين رجلين جاريةٌ رضيعةٌ، فلو استأجر المالكان مُرضعة، جاز ذلك، ويقع العمل على نصيبهما، والأجرةُ عليهما، ولو أراد أحدُهما أن يستأجر مرضعةً، ولم يساعده شريكه، فالإجارة لا تنتظم في بعض الجارية؛ من جهة أن إيقاع العمل في البعض غيرُ ممكن، وإيقاع العمل في الجميع يتضمن إيقاعَ عملٍ في ملك الغير، من غير إذنه، وهذا مما لا يسوغ من الشريك الانفرادُ به. نعم، لو ظهرت الضرورة، فالحاكم يستأجر على الممتنع، والطالب.
ولو كانت الجارية الرضيعة مشتركةً بين رجلٍ ومرضعته، فاستأجر الرجل المرضعة على الإرضاع، فعملها يقع على ملكها وملك الشريك المستأجِر، فتفسد الإجارة.
فإذا ثبت ما ذكرناه، فنعود، ونقول: إذا كانت الجارية الرضيعة خالصةً لإنسانٍ، فاستأجر مرضعةً، وجعل أجرتها جزءاً من الجارية، فعملها لو صحت الإجارة يقع على ملكها وملك المستأجر، فتفسد الإجارةُ بناء على القاعدة التي مهدناها.
فرع:
5353- إذا استأجر حلياً من ذهبٍ بذهب، أو فضة، فلا بأس، ولا نظر إلى جوهر الحلي، وإلى الأجرة المذكورة، فإن الأجرة في مقابلة منفعة الحلي، لا في مقابلة جوهره، فلا يثبت شيءٌ من أحكام الربا على هذا الوجه.
5354- ولو أتلف الرجل حُليّاً قيمته تزيد على زنته، وكانت الصنعة فيه محترمة، فللأصحاب فيه اضطراب، فيما يغرَمه المتلف، قدمنا ذكره. وسببُ الاختلاف أن ما يبذله المتلف بدل المتلَف؛ فامتنع بعضُ الأصحاب من مقابلة حلي الذهب بما يزيد على مقدار وزنه من الذهب، على التفصيل الذي سبق، وليست الإجارة من هذا بسبيل.
فرع:
5355- إذا استأجر الرجل صباغاً، ووصف العملَ المطلوبَ منه، فالعادة جاريةٌ-على الطرد- بكون الصِّبغ من جهة الصباغ، فإذا جرت الإجارة على الصبغ، ففي دخول عين الصبغ تبعاً من التفصيل ما ذكرناه في دخول الحبر في عمل الورّاق، وقد ذكرنا ثَمَّ التفصيلَ في اطراد العادة واختلافها، فمسألة الصبغ ملحقةٌ بما إذا اطرد العرف في كون الحبر من جهة الورّاق، وقد مضى ذلك مشبَعاً.
فصل:
5356- قد ذكرنا أنه لا يجوز للمرأة وهي في حياة زوجها أن تؤاجر نفسَها للإرضاع، ولا يختص ذلك بهذا النوع، بل لا تؤاجر نفسَها في عملٍ من الأعمال، كالغَسْل، والخَبز، والغزل والخياطة، وما في معناها، وليس ذلك لاستحقاق الزوج هذه المنافع منها، ولكن لكونها مزحومة بحق الزوج؛ فإن حق الزوج في الحرة المنكوحة على الاستغراق.
ولو كانت الزوجة أمةً، فقد ذكرنا أن للسيد أن يستخدمها نهاراً، في المدة التي كان يستخدمها فيها إذا كانت خَلِيَّة عن حق الزوج. فلو أراد أن يكريها في تلك المدة، جاز؛ لأن منفعة الأمة لا تكون مزحومةً بحق الزوج.
5357- ولو أذن الزوج لزوجته الحرة في أن تؤاجر نفسَها، صح ذلك منها، ثم يجب الوفاء بموجَب الإجارة.
ولو كانت آجرت نفسَها للإرضاع، قبل أن نَكَحت، ثم نَكَحت، فطريان النكاح لا يغير أمرَ الإجارة، ويجب عليها الوفاء بمقتضى الإجارة، حتى قال الأصحاب: لو كنا نخشى من وطء الزوج إياها أن تعلَق، وتحبَل، فإذا حبِلت، قلّ اللبن، وفسد، فالزوج ممنوعٌ عن وطئها؛ فإن حقَّ الإجارة تأكد أولاً، ثم طرأ النكاح، ومنع الزوج من الوطْء المؤثر في مقصود الإجارة بمثابة منع الراهن من وطْء الجارية المرهونة.
ولو فرضنا الإجارة بعد النكاح واردةً على ذمة المرأة، لصحت؛ فإن ذلك لا ينافي حقَّ الزوج؛ من جهة أنها لو أرادت تحصيلَ ما التزمته بأن تستاجر، كان لها ذلك، وهذا لا يزاحم حقَّ الزوج.
ثم إذا انعقدت الإجارة على ذمتها، فوجدت في خَلَل الأيام فرصة، واستمكنت من توفية بعض العمل بنفسها، فلها ذلك؛ فإن معتمد الإجارة الذمة. وهذا واضحٌ.
5358- ومما يتعلق بهذا الفصل أن المرأة إذا آجرت نفسها لإرضاع ولدٍ، ولم تكن ذات زوج، أو كانت ذاتَ زوج، وقد جرت الإجارة بإذن الزوج، فيجب عليها توفيةُ المنفعة بكمالها، فلو مات ذلك المولود الذي استؤجرت المرضعة لإرضاعه، فتفصيل القول في هذا يستدعي تقديمَ أصلٍ مقصودٍ في الإجارة، فنقول:
5359- من استأجر دابةً معينةً لمنفعة معلومة، فلو تلفت الدابة، ترتب على تلفها انفساخُ الإجارة لا محالة؛ فإن المعقودَ عليه قد مات، ولو مات المستأجر للدابة أو مُكريها، لم يؤثر موتُ واحدٍ منهما في الإجارة، وقد مهدنا هذا في صدر الكتاب، إذ قلنا: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين، والجملة المرعية فيه أن المكتري مستحِقٌ مستوفٍ، والحقوق يرثها الورثةُ، وتبدُّلُ المستوفي غيرُ ضائر، وقد قدمنا أن المستأجر لو أجر ما استأجره، جاز ذلك، ولو أقام غيره مقام نفسه، لم يمتنع.
5360- ولو استأجر أجيراً ليعمل في عينٍ من الأعيان عملاً، مثل أن يقول: استأجرتك لتخيط هذا الثوبَ، فلو تلف ذلك الثوبُ المعيّن، فقد ذكر العراقيون في انفساخ الإجارة وجهين: أصحهما- أنها لا تنفسخ؛ فإن العمل لا يتعذّر، ومن الممكن الإتيانُ بثوبٍ آخر يضاهي ذلك الثوبَ، وليس الثوب معقوداً عليه في نفسه.
والوجه الثاني- أن العقد ينفسخ بتلف محل العمل، فإنه كان متعيَّناً في بقائه، فإذا فات، انقطع العقد. وهذا وجهٌ ضعيف.
وينبني على ما ذكرناه تمامُ التفريع.
5361- فنقول: إن حكمنا بانفساخ الإجارة، فلا كلام، وإن حكمنا ببقائها، فلو أتى المستأجر بثوبٍ آخر، وأمر الأجير أن يُوقع العملَ المستحَقَّ عليه في الثوب الثاني، جاز ذلك.
ولو قال المستأجر: ليس عندي ثوبٌ آخر، أو قال: لست آتي بثوبٍ آخر، والثياب عتيدةٌ عندي، فكيف السبيلُ فيه؟ ذكر العراقيون وجهين وأطلقوهما، ثم فصلوهما على أحسن وجهٍ في البيان: قالوا: من أصحابنا من قال: إن لم يأت المستأجر بعينٍ أخرى عن عجزٍ، أو عن امتناع، ومضت المدة التي يتأتى في مثلها العملُ لو صادف محلاً، استقرت الأجرة المسماة؛ فإن الأجير مسلِّمٌ نفسَه، لا امتناع منه.
والوجه الثاني- أن الأجرة لا تستقر، وإذا مضت المدةُ، انفسخت الإجارةُ.
ويتأتى أن نعبر عن هذين الوجهين بتخير المستأجر في وجهٍ وعدم تخيّره في وجه.
5362- ولا يتضح الغرض ما لم نكشف الأصلَ فيه، فالأجير الحر إذا سلّم نفسه إلى المستأجر، والإجارة واردةٌ على عينه، فلم يستعمله المستأجر حتى انقضت المدة، ففي استقرار الأجرة وجهان:
أحدهما: أنها تستقر، كما لو سلم مكري الدار الدارَ إلى المستأجر، فلم ينتفع بها، وانقطعت المدة، والدار تحت يده.
والوجه الثاني- أن الأجرة لا تستقر في مسألة الحر؛ فإن منفعته إن ضاعت في مدة التمكين، فإنما ضاعت تحت يده؛ فإن اليد لا تثبت على الحر، وعلى هذا يخرّج القول في حبس الحر قهراً ظلماً حتى تتعطل منافعه، فهل يجب على حابسه أجرته؟ فيه كلام قدمناه في كتاب الغصوب.
5363- وإذا ثبت ما ذكرنا، عدنا إلى غرضنا، وقلنا: إذا لم يأت المستأجر بثوب آخر بعد تلف الثوب المعين، فنقدر أولاً كأن الأجير مسلِّم نفسَه إلى المستأجر، ولو فعل ذلك، ففي استقرار أجرته الخلاف، فإن رأينا أن نقول: لا تتقرر أجرته، فينشأ من هذا المنتهى شيء، وهو أن الثوب المعيَّنَ للقطع والخياطة لو كان باقياً، فلم يسلِّمه إلى الأجير المعيّن، فالقول في أن أجرته لا تستقر على ما ذكرناه. ولكن لو بدا له في قطع ذلك الثوب، فهل نقول: يجب عليه الإتيان به أم كيف السبيل فيه؟ فالذي يتجه عندنا أنه لا يجب عليه الإتيان بذلك الثوب ليقطع، وقد سنح له غرضٌ ظاهر في الامتناع من قطعه، ولكن إذا كنا نفرع على أن أجرة الأجير تستقرّ، فلو ترك الإجارة حتى انقضى زمانُها، استقرت الأجرة.
ولو قال: أفسخ الإجارة، أو بدا لي لم يكن له فسخها؛ إذ لو أثبتنا له الفسخ، لكان ذلك فسخاً بالمعاذير، ونحن لا نرى ذلك، وإنما قال به أبو حنيفة رحمة الله عليه.
وإن قلنا: أجرة الأجير لا تستقر بانقضاء زمان الإجارة، ولا يجب-على ما ذكرناه- الإتيانُ بالثوب ليقطع، فيثبت حق الفسخ للأجير لا محالة، فإن فسخ تخلَّصَ، وسلمت منافعُه، وإن تمادى الأجير، ولم يفسخ، فهو الذي تسبب إلى تضييع منفعة نفسه. وإذا أثبتنا للأجير حقَّ فسخ الإجارة على الوجه الذي نفرّع عليه، فلو أراد المستأجر الفسخَ، فلست أرى له ذلك، ولست أعلم في فسخه غرضاً؛ فإنه لو لم يفسخ، لم يلتزم شيئاًً، وغرض الأجير ظاهرٌ في الفسخ. وإذا ترك الأجير الحظ لنفسه، فلا يجب على المستأجر تحصيلُه له.
ولو شبب مشبب بإثبات الخيار للمستأجر، كان ذلك وقوعاً في مذهب أبي حنيفة، على أن أبا حنيفة إنما يفسخ بعذر ظاهر، ولا عذر للمستأجر، حيث انتهى الكلام إليه.
فإذا ظهر ما ذكرناه في امتناع المستأجر عن قطع ذلك الثوب المعيّن، مع بقائه، قلنا بعده: إن تلف ذلك الثوب، وقلنا تنفسخ الإجارة بتلفه، فلا كلام. وإن قلنا: لا تنفسخ بتلفه، وفرعنا على أن أجرة الأجير تستقر بانقضاء زمان الإجارة، فالظاهر عندنا أن المستأجر له أن يفسخ الإجارةَ؛ فإنه قد لا يجد ثوباً، وإن وجده، فقد يظهر غرضُه في أن لا يقطعه، وليس كما إذا بقي الثوب المعيّن الذي أوْرد العملَ عليه.
5364- وعن هذا الخبط صار من صار من أصحابنا إلى انفساخ الإجارة بتلف الثوب المعيّن. وقد ظهر لي من كلام طوائفَ من أصحابنا أن الإجارة لا يفسخها المستأجر إذا قلنا: إنها لا تنفسخ، وإن حكمنا بأن الأجرة تستقر بانقضاء زمان الإجارة.
فهذا إذاً واقعةٌ تلتحق بتوابع العقود، ومَغَبَّاتها، فالأمر في تخيّر المستأجر، وقد تلف الثوب المعيّن على التردد الذي ذكرناه.
5365- ومما يتصل بتمام القول في هذا الفصل، ما قدمناه من الاستئجار على قلع الضرس، والذي سبق ذكره لا نعيده، فإن صححنا الاستئجار، فسكن الوجع، امتنع القلع. والأصح في هذه الحالة انفساخ الإجارة؛ فإن محل العمل قد انتهى إلى حالة يمتنع إيقاع العمل فيه، ولا بدل له.
وكان شيخي يحكي عن بعض الأصحاب أن الإجارة تبقى، والأجير يستعمل في
قلع وتدٍ أو مسمار، مع تقريب القول في تداني العملين. وهذا عندي كلامٌ سخيف لا حاصل له، فليس قلعُ الوتد من قلع السن في شيء، ومن كان له في قلع السن
غرض؛ لم يقع قلعُ الوتد من غرضه بسبيل، فلا وجه إلا الحكم بانفساخ الإجارة.
5366- وإذا ثبت ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى المرضعة واستئجارها لإرضاع الولد المعيّن، فنقول: إذا مات ذلك الولد، فالقول في انفساخ الإجارة على ما تفصّل، والتفريعاتُ تنتظم على ما مضى.
فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة، فذلك فيه إذا كانت تُرضع ولداً ليس منها.
5367- وإن وقع استئجارها لترضع ولد الزوج منها، فمات ذلك الولد، والتفريع على أن الإجارة لا تنفسخ بموت الولد الأجنبي منها، لو كانت الإجارة واردةً عليه، فإذا كان الولد ولدها، وقد مات، فهل تنفسخ الإجارة أم يأتيها المستأجر بولد رضيع أجنبي؟
فعلى قولين منصوصين:
أحدهما: أن الإجارة لا تنفسخ؛ بناء على المنتهى الذي انتهينا إليه، وذلك لأن إرضاع الولد الأجنبي ممكن، ويجوز الاستئجار عليه ابتداء، فيجب بقاء العقد بإمكانه انتهاءً.
والقول الثاني- أن الإجارة تنفسخ؛ فإن لبنها لا يدرّ على الأجنبي درورَه على ولدها، ولا تترأم الأجنبيَّ حسب ما كان تترأم على ولدها.
وهذا قولٌ ضعيف، لا أصل له. والذي عندي فيه أن المصير إلى الانفساخ باطلٌ على الأصل الذي نفرّع عليه، وإنما الذي يخيل على بُعدٍ ثبوتُ الخيار لها لما أشرنا إليه؛ فإن الانفساخ ينبني على تعذر العمل بالكليّة، ثم الخيار أيضاًً فاسد من جانبها؛ من جهة أن المستأجر لو قال: رضيت بما يحصل من اللبن على نقصانٍ، فلا عذر لها.
نعم قد يتجه ثبوت الخيار للمستأجر؛ من حيث يقدّر أن لبنها يقل على الأجنبي، وحضانتها لا تصدر عن ترأُّمٍ وشفقة، وكلّ ذلك خبطٌ، وسببه ضعف القول الذي عليه التفريع.
والوجه القطع بأن ولده منها كالولد الأجنبي منها في التفريعات.
فصل:
5368- إذا استأجر الرجل قميصاً ليلبسه، جاز ذلك على شرطِ الإعلام بالمدة، ثم يرعى المستأجرُ العادةَ في اللُّبس، فيلبس بالنهار، وبالليل في اليقظة، ولا ينام فيه؛ فإن ذلك مما يؤثر أثراً زائداً على اللّبس، ويتجه أن يقال: إنه غير معتاد، وإن كان يعتاده بعض الناس، فهو من احتكامه على ملكه، فإذا تعلق الكلام بالمضايقة في الانتفاع، فالعرف حاكم بالتوقّي من مثل هذا في ملك الغير.
وقال بعض الأصحاب: لا يلزم نزع القميص للقيلولة بالنهار؛ فإن العادة جارية بأن الرجل لا يتجرد للقيلولة، ويتجرد لنوم الليل، وقد يتطرق إلى وجوب النزع بعضُ الاحتمال في حق من يعتاد القيلولة.
ولو استأجر قميصاًً ليلبسه فوق قميصٍ، فقد يظهر وجوب النزع للقيلولة؛ إذ هكذا العادة.
ولو استأجره للّبس، فاتّزر به، لم يجز؛ فإن الاتزار أضرُّ بالثوب من اللُّبس على الوجه المعتاد.
ولو ارتدى به، فقد ذكر العراقيون وجهين في جواز ذلك:
أحدهما: أنه لا يجوز؛ فإنه انتفاعٌ مخالف للمعتاد، والوجه الثاني- أنه يجوز؛ لأنه أقلُّ ضرراً من اللُّبس.
فصل:
5369- إذا دفع ثوباً إلى غسالٍ ليغسله، فإن ذكر أجرةً مسماةً، فلا كلام، وإن لم يذكر الأجرةَ، ولكن عرّض بها، فقال: اغسله، وأنا أُرضيك، أو أعرف حقك، فإذا غسل، استحق أجرة المثل.
ولو لم يتعرض للأجرة لا بتصريع ولا بتعريض، فالمنصوص عليه، وهو ما عليه عامة الأصحاب أنه لا يستحق شيئاً؛ لأن المنافع غايتها أن تكون كالأعيان في المالية، بل هي دونها.
ولو أتلف رجل مال رجل برضاه، لم يضمن شيئاًً، فكذلك إذا أتلف الأجير منفعة بدنه برضا صاحب الثوب.
ومن أصحابنا من قال: يستحق العاملُ أجر مثل عمله، وهذا اختيار المزني.
ومن أصحابنا من قال: إن كان ذلك الرجل معروفاً بالغسل بالأجرة، استحق الأجرة بحكم العادة، ونزلت منزلة النطق، وإن لم يكن معروفاً بهذا، لم يستحق لعمله أجراً.
ومن أصحابنا من قال: إن التمس الغسال دَفْع الثوب إليه فأسعفه صاحبُ الثوب، لم يستحق الأجرة؛ فإنه الذي ورّط نفسه في هذا، ورضي بتلف منفعته، فلا يستحق شيئاًً، وإن التمس صاحب الثوب منه الغسلَ، فيستحق حينئذ أجر عمله؛ فإن المالك هو الذي أوقعه في العمل، فكان بمثابة المتلِف لمنفعته.
والقول في أمثال ذلك كثير، ونحن نذكر مجامع المذهب فيها.
5370- فإذا دخل الرجل الحمّام، ولم يَجْرِ للأجرة ذكرٌ، فنقول: أما قيمة الماء الذي سكبه، فواجبة، وقد يتجه إثبات المثل؛ فإنه من ذوات الأمثال، ويجب أجرة منفعة الحمام؛ فإنه أتلفها، وعلى المتلف قيمةُ ما أتلف، وإن جرى الإتلاف بمشهدٍ من المالك، فإذا كان كذلك، فما الظن، والعرف جارٍ بالتزام الأجرة.
فأما أجرة الدلاّك، والمزيّن، فتُخرّج على القاعدة التي ذكرناها في الاستعمال من غير ذكر أجرة، ومهما غلبت العادة، ظهر وجوب اتباعها.
ويبعد أن نقول: إذا تقدم الغسّال إلى ثوب إنسان، فرفعه وغسله أنه يستحق الأجر إلا أن يُفرضَ في رجل معروف بذلك، وقد جرت عادته بهذا، واستمرت عادة الناس معه ببذل الأجرة. والمزيّن في الحمام يتقدم من غير استدعاء في الغالب، وكذلك الدّلاك، ولكن اطرد به العرف، وهو في نهاية الظهور، فَقَوِي إيجابُ الأجر مع العلم، بتطرق الخلاف.
5371- ومما يتعلق بهذا أن الماء وإن كان مثلياً، فقد جرى العرف بأنه يُتلف بالقيمة، فللعرف في هذا أثر، ووجه الخلاف في هذا المقام لائح، فكأنا في وجهٍ نجعل عموم العرف، كبيع الماء، وقد ذكرنا في المعاطاة الغالب، وأنها هل تكون بيعاً، خلافاًً للأصحاب، وسنذكر في الضيافة، وتقديمِ الطعام إلى الضيفان كلاماً بالغاً، من الفن الذي نحن فيه في باب الوليمة، ونلحق بها فصولاً في النَّثر واللقط، إن شاء الله عز وجل.
5372- ونختم هذا الفصلَ بأمرٍ، وهو أن العادة تفسَّر اللفظَ المجملَ في العقود وفاقاً، وعلى هذا تحمل الدراهم المطلقة على غالب النقود يوم العقد، فلا يمتنع ذلك من حكم الحرف، وإن لم يجر لفظ أصلاً، ففي إقامة العرف الغالب مقام اللفظ التردُّدُ الذي ذكرناه.
فصل:
5373- يتعلق بالاستئجار في القصارة، وتلف الثوب مقصوراً، وما يتعلق به، وهو فصلٌ عويص، يجب إلاعتناء بفهم ما فيه.
5374- فنقول أولاً: إذا استأجر الرجل قصَّاراً حتى يقصُر الثوبَ، فعليه أن يقتصد ويقتصر على ما يُحصّل الغرض، فإن جاوز الحدّ، وعدّه أهلُ الصناعة زائداً في الدق وغيره من الأعمال المؤثرة على قدر الحاجة، ثم ترتب عليه تلفُ الثوب أو تعيّبُه، وجب الضمان. وهذا العدوان لو فرض من الأجير المشاهَد، لأوجب الضمان عليه؛ فإنه إتلافٌ، والإتلاف يستقلّ بإيجاب الضّمان من غير فرض يد.
ولو اقتصر على القدر المطلوب في مثل الغرض المستدعَى، لم يتعلّق الضمان بفعله، وإن أدّى إلى التلف.
5375- وينشأ الاختلاف من اليد، وقد ذكرنا تردّدَ القول في يد الأجير المنفرد، ويدِ الأجير المشترك، وقد ذكرتُ ما في النفس من هذا، وهو إشكالٌ على المذهب لا يُحلّ، فإني قلتُ: إن كان التلف بآفةٍ سماوية، فيخرّج هذا على اليد، وأنها يدُ أمانة، أو يدُ ضمان قريب، ويؤول الكلام إلى تقوية قولٍ، وتضعيفِ قولٍ، كما قدمتُه في تضمين الأجراء.
ثم إن جعلنا يدَ الأجير يدَ ضمان، فيده كيد المستعير، وفي كيفية الضمان على المستعير القولان المشهوران:
أحدهما: أنه كضمان الغصب، والثاني: أنه ليس كضمان الغصب.
5376- فأما إذا كان سببُ العيب أو التلف الفعلُ، وهو مقتصدٌ مأذون فيه، فلست أرى لإيجاب الضمان وجهاً. ولو أذن المغصوب منه للغاصب في إتلاف العين، فأتلفها، لم يلتزم الضمان، ولكن الذي ذكره الأصحاب في الطرق تخريج التلف بالفعل على التلف بآفة سماوية.
والأجير المشاهَد إذا قَصَر، وما فرّط وما قصّر، فإن الأصحاب لم يصرِوا إلى إيجاب الضمان عليه؛ إذ لا يدَ له، والفعل مأذون فيه، وانفرد أبو سعيد الإصطخري بإيجاب الضمان على الأجير المشاهَد إذا عمل، واقتصد وأدى عملُه إلى التلف، أو التعيُّب، على ما حكاه العراقيون عنه، وهذا متروكٌ عليه، وليس معدوداً من المذهب، وهو كثير الهفوات في القواعد، ولا شك أنه لم يوجب الضمان على المشاهَد بسبب اليد؛ فإن اليد للمالك الكائن معه، وإنما أوجبه للفعل، وهذا ينافي قاعدةَ الشافعي؛ فإن الفعل مأذون فيه، وقد صوّرناه مقتصداً، وضمان الأجراء يأتي على قول التضمين من جهة اليد؛ لا من جهة الفعل. وإنما ربط الضمان بالفعل أبو حنيفة، لما قال: لو تلفت العين في يد الأجير بآفةٍ، لم يلزم الضمان، ولو تلفت بسبب الفعل المستدعى يجب الضمان.
5377- ومما يتعلق بمضمون الفصل أن الأجيرَ لو قصَرَ الثوبَ، كما رُسم له، ثم جحد الثوبَ، وتلف في يده، فضمان الثوب واجبٌ، لمكان الجحود؛ فإنه عُدوان يناقض الأمانة، ويضمنُ به المودَع.
5378- والكلامُ في استحقاق الأجرة، فنقول: إن قَصَر أولاً، ثم جحد، استحق
الأجرة، فلو اعترف بعد الجحود، وردَّ الثوب مقصوراً، طلب الأجرَ. ولو جحد أولاً، وقصر الثوبَ جاحداً، ثم اعترف، ورد الثوبَ، ففي استحقاق الأجرة وجهان:
أحدهما: أنه يستحق الأجرة لإيفائه العمل المعقودَ عليه، ووقوعه على حسب الاستدعاء.
والوجه الثاني- أنه لا يستحق الأجرة، فإنه أضمر أن يعمل لنفسه لمّا جحد، ثم قصر، فلا يستحق لذلك أجراً. والوجهان في ذلك كالقولين فيه إذا نوى الأجيرُ على الحج الحجَّ عن مستأجِره أولاً عند العقد، ثم صرف النية إلى نفسه، ظاناً أن الحج ينصرف إليه، فنقول: الحج يقع عن المستأجِر، وفي استحقاق الأجير الأجرةَ قولان، مأخوذان من الأصل الذي ذكرناه.
5379- ومما يتعين تجديد العهد به، وعليه تتفرع مسائل مهمّة أن القِصارة إذا وقعت من القصَّار، فهي أثرٌ أم هي نازلةٌ منزلةَ الأعيان؟ وفيه قولان مشهوران، ذكرناهما في كتاب التفليس، وتناهينا في تقريرهما، وبيانهما، ونبهنا على غلطاتٍ لبعض المفرّعين فيهما، ونحن الآن نذكر في هذا المقام ما يليق بالتفريع عليهما، فنقول أولاً:
5380- إذا صبغ الأجير الصبّاغُ الثوبَ بصِبغٍ من عند نفسه، وظهرت قيمةُ الصبغ زائدةً على عين الثوب، فللأجير أن يحبس الثوبَ حتى يستوفي الأجرة؛ لأن له فيها عينُ مالٍ. هكذا أطلقه الأئمة.
5381- وإن كان الأجير قصَّاراً، فقَصَر، فهل يستمسك بالثوب إلى أن تتوفر الأجرةُ عليه؟ فعلى قولين مبنيَّيْن على أنَّ القِصارة أثرٌ أو عين، فإن جعلناها عيناً، جوزنا للأجير التمسكَ بالثوب حتى تتوفر الأجرةُ عليه؛ فإن حقَّه على هذا القول يتعلق بالقِصارة تعلّق استيثاق، كما تقدم إيضاحه في التفليس، ولا يتصور التمسك بالقصارة وحدَها، فيثبت التمسك بالثوب.
5382- وإن قلنا: القصارة أثر، فليس للأجير التمسك بالثوب، فليتعيّن عليه ردُّه، وطلبُ الأجرة حقّه لا تعلق له بالثوب.
5383- وما أطلقه الأصحاب من حبس الثوب المصبوغ فيه مستدرَكٌ للناظر؛ فإنا ميَّزنا في التفليس بين الصِّبغ، وبين عمل الصابغ، فيجب أن يقال: ما يقابل قيمةَ الصبغ يجوز إمساك الثوب لتسلّمه، وما يزيد على قيمة الصبغ، فهو في مقابلة العمل، فيُبنى على القولين في أنه أثر أم عين.
5384- ومما يجب التنبّه له في هذا المقام أنا ذكرنا اختلافَ القول في أن بائع العين هل يثبت له حق حبسها إلى استيفاء الثمن، ولم يتعرض الأصحاب لذلك في الصبغ، ولم يُشيروا إلى الاختلاف، بل قطعوا بجواز الحبس، وفيه توقُّفٌ وتردد، فيجوز أن يقال: جرى قطعهم بذلك تفريعاً على ثبوت حق الحبس، وكثيراً ما يُجري الأصحابُ التفريع على قول الحبس من غير تعرض لذكر الخلاف، والظاهر الذي يشير إليه فحوى كلام الأصحاب أن حق الحبس في هذا غيرُ مختلَفٍ فيه، وليس من قبيل حبس المبيع، ولعل السببَ فيه أن الأجير إذا تمم العمل، فقد وفّى ما عليه كَمَلا، وفات المعوَّضُ من جانبه، وهذا يوجب له حقَّ استمساكٍ واستدراكٍ، ثم الصبغ جرى على منهاج المنافع، ولذلك لم يُشترط إعلامه على الصباغ، وانبثاثه في الثوب المملوك للمستأجِر مشابهٌ لحصوله في يد مالك الثوب.
وحق الفقيه أن يتفطّن للأصول ويميّزَ بعضَها عن البعض، فلا يعتقد انسحابَ حكمٍ
واحدٍ على القواعد، فهذا إذن قاعدة أطلقها الأئمة في الصبغ، لم يشبّبوا فيها بخلاف.
5385- فإذا تمهّد ما ذكرناه، رتّبنا عليه أصلاً، ينْشعِب عنه أربعُ مسائل.
والأصل أن القصارَ إذا قصرَ الثوبَ، ثم تلف في يده، وفات، فلا يخلو إما أن يتلف بآفةٍ سماوية.
أو يتلف بإتلاف أجنبي.
أو يتلف بإتلاف المالك.
أو يتلف بإتلاف القصار.
5386- فإن تلف الثوب بآفةٍ سماويةٍ، أُثبتت المسألة أولاً على القولين في أن القصارة أثرٌ أو عين.
فإن حكمنا بكونها أثراً، وهو الأصح، الذي لا يستدّ على القياس غيره، فالحكم الآن يُبتنى على أصلٍ آخر، وهو أن يد الأجير يدُ أمانة أو يدُ ضمان، إن قلنا: يده يدُ أمانة، فلا شيء للمالك على القصَّار، وللقصَّار عليه الأُجرة، ومن حُكم هذا القول ثبوتُ الأجرة، مهما ثبت العمل، والأصل أنا نقدره في حكم المسلَّم الموفّر، فنقضي بالأجرة، ثم ننظر فيما وراءها من الأحكام.
وإنّ حكمنا بأن يدَ الأجير يدُ ضمان، ألزمناه ضمان الثوب مقصوراً، وله حقُّ الأجرة، ثم يجري التقاصّ بعد الأجرة ومقدارِها، مما يلتزمه الأجير للمالك.
فهذا إذا فرعنا على أن القِصارَة أثر.
5387- فإن حكمنا، بأنها عينٌ أو حالّة محل العين، فحكم هذا القول يتفرع أيضاًًً على قولي الضمان والأمانة.
فإن حكمنا بأن يد القصار يدُ أمانة، لم يضمن الأجير شيئاًً للمالك، ولم يستحق الأجرَ أيضاًً، وكأنا نقول: ضَرباً للمثل: القصارةُ قبل تسليم الثوب إلى المالك، تحت يد الأجير، بمثابة المبيع تحت يد البائع، فإذا فات الثوبُ، وفاتت القِصارة، سقط عِوض القِصارة سقوطَ الثمن بتلف المبيع، وهذا تمثيلٌ. والتحقيق فيه أنا نقدر القِصارَة جزءاً من عمل الأجير، فإذا لم يصل إلى المالك، قدّرنا كأن العمل لم يكن.
وقول العين في نهاية الضعف، وتضمين الأجير بالغٌ في الضعف أيضاًًً، فإذا اجتمعا تفرَّعَ عليهما تفريعٌ ملفقٌ أضعفُ منهما، فإن حكمنا على قول العين بأن يدَ الأجير يدُ ضمان، فيتفرع أولاً سقوطُ الأجرة لفوات القِصارة، ونزوله منزلةَ تلف المبيع، والنظر وراء ذلك فيما يضمنه الأجير.
والصور تتشعب، وقد أتيْتُ على أطرافها في كتاب التفليس، وأنا أرتاد الآن منها صورةً تقع وسطاً، وننبّه على طرفها، فأقول:
5388- كان الثوب على البت يساوي عشرة، فصار يساوي مقصوراً خمسةَ عشرَ، والأجرة المسماة درهمٌ.
أما الأجرة، فتسقط لفوات القِصارة، وأما ما يضمنه الأجير، فالذي أشار إليه كلامُ الأصحاب، وصرّح به المحققون أن الأجير يغرَم قيمةَ الثوب على البت، ونجعل كأن القصارة لم تكن، فإذا اعتقدنا القِصارةَ من طريق التقدير كالعين المبيعة وبائعها الأجير، فإذا فات المبيع قبل القبض، لم يلتزم البائع شيئاً إلا سقوطَ الثمن، فكذلك الأجير، تسقط أجرتُه ويغرَم قيمةَ الثوب غيرَ مقصور، وكأن القصارة لم تقع.
5389- وهذا يتطرّق إليه إشكال من كتاب التفليس، وذلك أنا إذا فرعنا على أن القِصارة عينٌ، وقد اشترى الرجل ثوباً قيمتُه عشرة، واستأجر من يقْصُره بدرهم، فبلغت قيمةُ الثوب خمسةَ عشرَ، ثم أفلس المشتري، وأجرة الأجير وثمن الثوب في ذمته، فإذا فرّعنا على أن القصارة عينٌ، وفسخ البائع البيع وآثر الأجير التعلّقَ بالقصارة، حتى لا يضارب، فالثوب يُباع ولا يُصرف من ثمنه إلى الأجير إلا درهمٌ. وباقي التفصيل مذكور في موضعه.
5390- ووجه التعلّق بالمسألة أنا لم نجعل الأجير راجعاً إلى تمام قيمة القصارة ولم يزد على أجرته، وما ذكرناه قبلُ من أن القِصارة إذا فاتت في يد الأجير، فكأنها فاتت له، يناقضُ هذا الذي ذكرناه الآن، والمصير إلى قصر حقه على الأجرة يوجب أن يضمن الأجيرُ لمالك الثوب أربعةَ عشرَ درهماً. هذا بيّنٌ، فإذاً ينقدح في الصورة التي ذكرناها وجهان:
أحدهما: وهو ظاهر كلام الأصحاب أن القصارة تسقط بجملتها من حساب الضمان، ووجهه ما نبهنا عليه.
والوجه الثاني- أنه لا يسقط إلا قدر الأجرة من القِصارة، والباقي يضمنه الأجير ضمّاً إلى قيمة أصل الثوب.
5391- وذكر شيخنا أبو علي وجهاً غريباً، عن بعض الأصحاب: أنا إذا حكمنا بتضمين الأجير، وجرينا على أن القصارة أثرٌ، فإذا قَصَر، وتلف الثوب المقصور في يده، لم يستحق الأجرَ، وإن حكمنا بكون القصارة أثراً؛ فإنَّ تغليظ التضمين ينافي استحقاق الأجر. وهذا الوجه ضعيفٌ جداً بالغ الشيخُ في تزييفه، وحكم بكونه غلطاً، ولهذا أخّرتُه عن ترتيب المذهب وسياقِه.
هذا كله كلامٌ فيه إذا تلف الثوبُ المقصور في يد الأجير بآفةٍ سماوية.
5392- فأما إذا تلف بتلاف أجنبي، فذلك يتفرع على الأصلين:
أحدهما: أن القِصارة أثر، أو عين، والآخر أن يد الأجير يدُ أمانة، أو يدُ ضمان، وترتيب التفريع أن نقول: إن صرنا إلى أنها أثر، فللقصار الأجرة المسماة؛ فإنه قد أتم العمل، واستحق الأجرة، ثم إن قلنا: يدُ الأجير يدُ أمانة، فلا تبعةَ على الأجير، والأجنبي يغرَم الثوبَ مقصوراً لمالكه.
وإن قلنا: يد الأجير يد ضمان، فلا شك أن قرار الضمان على الأجنبي المتلِف، ولكن الأجير طريقٌ في الغرم، فالمالك يُغرِّم أيَّهما شاء، فإن غرَّم الأجنبيَّ طلب منه قيمةَ الثوبِ مقصوراً، واستقر الضمان.
وإن اختار تغريمَ الأجير غرَّمه قيمةَ الثوب مقصوراً أيضاً، ثم إنه يرجع بما يغرَم على الأجنبي، وللأجير أجرتُه على قولِ الأثر سواء ضَمَّنَّاه، أو لم نضمِّنه.
5393- وإن جعلنا القصارة عيناً، فليقع التفريع على الأصح، وهو أن الأجنبيَّ إذا أتلف المبيعَ قبل القبض، لم نحكم بانفساخ العقد، فنقول على موجَب هذا: إذا جعلنا القصارةَ عيناً، وقد أتلف الأجنبيُّ الثوب، وفوّت القِصارة، فلا ينفسخ العقد بين الأجير والمالك المستأجِر، لكن يثبت للمستأجر الخيارُ في فسخ العقد المعقود على القصارة، وهكذا القول في المشتري، وتخيُّره إذا أتلف الأجنبيُّ المبيعَ قبل القبض، فإن اختار المستأجرُ فسخَ العقد في القصارة، سقطت الأجرة للقصار عن المستأجر، ثم نقول وراء ذلك:
5394- إن جعلنا يده يدَ أمانة، فلا تبعة، ولا طَلِبَة للمالك عليه، ثم لا يحبَط حقُّه؛ فإن القصارة في حكم عين متلفة عليه، ونصور في هذا المنتهى الصورة التي ذكرناها قبلُ، فالثوب على البت عشرة، والأجرة المسماة درهمٌ، والثوب المقصور خمسةَ عشرَ، ونزيد، فنقول: أجرة مثل القصار نصف درهم، فيرجع الأجير على الأجنبي المتلِف. والذي قطع به الأئمة قاطبةً أنه لا يغرِّمه قيمةَ القِصارة خمسة، بل يرجع بمقدار أجرته، ثم المسألة محتملة، فيجوز أن يقال: إنه يستحق مقدار الأجرة المسماة من القصارة، وكأن ذلك القدر ارتدّ إليه بفسخ المستأجر، فيطالِب بقيمة ذلك المقدار المتلِف المفوّت. ويجوز أن يقال: لا يطالب المتلِف إلا بأجر مثله؛ فإنَّ فسخ المستأجر، أسقط اعتبار الأجرة المسماة، فلا يستحق الأجير إلا مقدارَ قيمة عمله من القصارة، وقيمةُ عمله أجرُ مثله. فإن قيل: هلا جعلتم جميع القصارة له؟ قلنا: هذا أصلٌ مهدناه في كتاب التفليس، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا.
5395- وتمام الكلام في ذلك أن المالك إن غرّم الأجنبيَّ، غرَّمه قيمةَ الثوب إلا ما غرّمه الأجير، فإنه لو غرمه القيمة التامة وغرمه الأجير ما ذكرناه لتثنَّى الضمان عليه في ذلك المقدار.
5396- وإن جعلنا يد الأجير يدَ ضمانٍ، فإنه يضمّنه إن أراد ما يضمّن المتلِف، ثم إنه يرجع بما يغرَمه على الأجنبي المتلِف.
5397- وإذا بأن الحكم في الصورة التي ذكرناها، لم يخف ما سواها، فلو كان الثوب على البت عشرة، وهو مقصور أحدَ عشرَ، والأجرةُ درهمٌ، فينتظم في هذه الصورة أن نقول على قول العين، وعلى تضمين الأجير: إن أراد المالك تضمينَ الأجنبي، ضمّنه قيمةَ الثوب على البت، وكذلك إن أراد تضمين الأجير، ولانطلق هذا الحد في الصورة الأولى، فإنا صوّرنا القِصارة زائدةً على الأجرة في الصورة الأولى، ورأينا قصرَ حق الأجير على مقدار أُجرته، فنظمنا في تلك الصورة ما يليق بها ولا يحيط الناظر بهذه المسائل علماً، ما لم تكن قاعدةُ التفليس على ذُكرٍ.
5398- وما ذكرناه فيه إذا اختار المالك في مسألة إتلاف الأجنبي فَسْخَ العقد المعقود على القِصارة، فإن أجازَ العقدَ فيها، غرم للقصار الأجرة المسماة، ثم إن قلنا: يد الأجير يدُ أمانة، فلا تبعة للمستأجر على الأجير، فيغرِّم الأجنبيَّ قيمةَ الثوب مقصوراً، بكمالها. وإن قلنا: الأجير ضامن تخيَّر المالك، فإن شاء غرّم الأجير القيمةَ التامة والثوب مقصور، ثم إنه يرجع بما يغرَمه على الأجنبي المتلِف، وإن غرّم الأجنبيَّ، استقر الضمان عليه، فيغرّمه قيمةَ الثوب مقصوراً، ولا تعلّق للأجير بالثوب؛ فإنه استوفى أجرته من المستأجر؛ إذْ أجاز العقد، فلم يبق له طَلِبة.
5399- فأما إذا تلف الثوبُ بإتلاف المالك، فالأجرة تتقرر على كل قول؛ فإنها مستقرة على قول الأثر، وإن جعلنا القِصارة عيناً، فقد أتلفها مستحقُّها، فصار بإتلافها قابضاً، كالمشتري يُتلف المبيعَ، فإن الثمنَ يتقرر عليه.
5405-وأما إذا تلف الثوبُ بإتلاف الأجير، فينبني هذا على القولين في أن البائع إذا أتلف المبيع، فكيف حكمه. وفيه قولان:
أحدهما- أنها كآفةٍ سماوية.
والثاني: أنها كجناية أجنبي.
5401- فإن جعلناها كآفة سماوية، وجعلنا القصارة أثراً، فللأجير أجرته، ويغرَم هو قيمةَ الثوب مقصوراً للمالك. وإن قلنا: القصارة عين، فتسقط الأجرة بسبب إتلاف الأجير الثوبَ، وتفويته القصارةَ، ويغرَم للمالك ما يزيد على حقه من الأجرة، كما فصّلته في الصورة المقدّمة.
5402- وإن جعلنا إتلافَه كجناية أجنبي، وقلنا: القِصارةُ أثر، فله أَجْرُه، وعليه قيمةُ الثوب مقصوراً.
5403- وإن قلنا: القصارة عين مالٍ، فللمالك الخيار في فسخ العقد المعقود على القصارة، فإن فسخ، سقطت الأجرة، وطالب الأجيرَ بما يطالب به الأجنبي المتلِف، ولا شك أن حق الأجير محطوطٌ من القيمة كما ذكرنا وجهَ الكلام فيه على أبلغ سبيل في البيان.
ثم لا شك أنه لا يستحق الأجرة؛ فإنا حططناها له، والقول في أجرة المثل، والأجرة المسماة على ما تفصل. وإن اختار المالك الإجارة، استحق الأجير الأجرة، وغرم قيمة الثوب مقصوراً.
وقد نجزت المسائل على أحسن مساق، والله المشكور.