فصل: فصل: يشتمل على مسائل لفظية في جزئية الأرباح أو نسبة جملتها إلى أحد الجانبين، نراها شذت عن الضوابط المذكورة في أول الكتاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: يشتمل على مسائل لفظية في جزئية الأرباح أو نسبة جملتها إلى أحد الجانبين، نراها شذت عن الضوابط المذكورة في أول الكتاب:

4963- فنقول: أولاً- إذا قال: قارضتك على هذه الدراهم، ولم يَجْر للربح ذكرٌ، فهذا قراضٌ فاسد، وحكمه أن الأرباح لرب المال، وللعامل أجرُ عمله.
وليس هذا كما لو قال: قارضتك على أن جميع الربح لي، على ما تقدم بيانه؛ وذلك أنه لم يتعرّض لإضافة الربح فيما ذكرناه الآن بنفي ولا إثبات.
فليفصل الفاصل بين الصورتين، وهما يناظران صورتين في البيع: إحداهما- أن يقول: بعتك عبدي هذا، ويقول المخاطب: اشتريتُ، ولا يقع للثمن تَعرض بنفيٍ ولا إثبات، فهذا بيعٌ فاسد، ولا يحمل على الهبة، جواباً واحداً، والقبض المترتب عليه يتضمن الضمان. وهذا يناظر ذكرَ القراض مع السكوت عن جزئية الربح.
والصورة الثانية في البيع- أن يقول: بعتك عبدي هذا بلا ثمن، فللأصحاب تردد في أن هذا يحمل على الهبة. وإن لم يحمل على الهبة، فهل يتضمن ضماناً إذا اتصل القبض به؟ وقد يناظر هذا في بعض الوجوه ما لو صرَّح بإضافة الربح إلى العامل.
والغرض مما ذكرناه التنبيهُ على الفصل بين السكوت عن الربح، وبين إضافته بكماله إلى أحد الجانبين.
4964- ولو قال: قارضتك على هذه الدراهم على أن الربح بيننا، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن القراض فاسد لعروّه عن جزئيةٍ معلومةٍ في قسمة الربح. والوجه الثاني- أنه يصح، ويحمل قولُه: "والربح بيننا" على نسبة التنصيف والتشطير، وكل ما أضيف إلى جهتين، أو شخصين بهذه الصيغة فمقتضاه التنصيف؛ فإن من قال: هذه الدار لزيد وعمرو، حمل مُطلق قوله على الإقرار لكل واحد منهما بنصف الدار.
ولو قال: قارضتك على أن كل الربح لك، أو على أن كل الربح لي، فهذا مما تقدّم استقصاءُ القول فيه، فلا نُعيده.
وفي المساقاة لو قال: ساقيتُك على هذه النخيل على أن الثمار لك، فهذه مساقاة فاسدة، ولا يتجه إلا هذا الوجه. وليس كما لو قال للمقارَض: كل الربح لك؛ فإنا في وجهٍ نجعل ذلك إقراضاً. وهذا لا يتأتى في المساقاة؛ فإن صرف جميع الثمار مع العلم بأنها متميزةٌ عن النخيل، لا يتضمن إقراض رقاب النخيل.
ولو قال: ساقيتُك على أن جميع الربح لي، فلا يبعد التسوية بينهما في هذا الطرف.
وقال بعض أصحابنا: إذا شرط جميع الثمار لنفسه في المساقاة، كانت مساقاة فاسدة وجهاً واحداً، ولا يجري فيه الاختلاف الذي ذكرناه فيه إذا قال في القراض: على أن جميع الربح لي. والفرقُ لا يظهر في هذا الطرف، وإنما يظهر في الطرف الآخر، كما تقدم.
ولو قال: خذ هذه الدراهم، وتصرف فيها على أن جميع الربح لك، فقد قال قائلون: هذا قرضٌ وجهاً واحداً، وإنما الوجهان فيه إذا قال: قارضتك على أن جميع الربح لك، ففيه التردد الذي مضى. والفارق عند هذا القائل، أنه لم يجر اللفظ المختص بالمعاملة، بل قال: خذ، وتصرّف.
وكان شيخي لا يُفرّق بين هذه الصورة، وبين ما إذا قال: قارضتك على أن كلَّ الربح لك.
4965- فإن قيل هل تُعيّنون في المعاملة التي نحن فيها ألفاظاً؟ قلنا: القراضُ، والمضاربة، والمعاملة، ألفاظٌ مختصة بهذا النوع.
وإن لم تجر هذه الألفاظ، بل جرت عبارات تُشعر بمقاصد المعاملة، كفت، والضابط فيه إذا وقع التصريح بالمقصود من التسليط على التصرف وقسمة الربح، كفى. وإذا جرت الألفاظ المشهورة، أغنى جريانُها عن ذكر التسليط على التجارة؛ لأنها صرائحُ شائعةٌ في مقاصد العقد.
وإن جرى لفظُ القراض مع ما يُناقض الموضوعَ، فقد نقول بالفساد، وقد نرى الحيدَ عن موضوع المعاملة، وذلك مثل أن يقول: على أن كل الربح لك، أو يقول: على أن كل الربح لي.
وإن لم يجر لفظ صريح، وجرى حيدٌ عن مقصود المعاملة، مثل أن يقول: خذ، وتصرف، ولك الربح كله. فمن أصحابنا من يقطع بأن هذا حائد عن القراض، لعروّه عن صريح لفظه، وعن مقصوده الشرعي. ومن أصحابنا من جعل هذا وقولَ القائل: قارضتك على أن كلّ الربح لك بمثابةٍ.
ومما ذكره القاضي أنه لو قال: قارضتك أو ضاربتك، فلابد من القبول المتصل، على ما لا يكاد يخفى وجه اتصال الإيجاب بالقبول.
ولو قال: خذ هذه الدراهم، واتّجر فيها، ولك نصف الربح، فلا حاجة إلى القبول. قال القاضي: وهذا بمثابة ما لو قال لمن يخاطبه: بع عبدي، فلا حاجة إلى القبول.
4966- ولو قال: وكلتك ببيعه، فقد نقول: لابد من القبول. أما الوكالة، فقد قدمنا ما فيها، وأما مصير هؤلاء إلى أن المعاملة إذا عريت عن لفظها الصريح، وفُرضت بمثل قول القائل: خذ هذا، وتصرف، فلا حاجة إلى القبول، فبعيدٌ، لا أصلَ له.
وقد قطع شيخي والطبقة العظمى من نقلة المذهب أنه لابد من القبول، وكيف لا يكون كذلك، وهذه معاملة مختصة بمعيّنٍ، فيها استحقاق العوض والمعوّض، فكيف تثبت من غير قبول؟ وإن ظن ظانٌّ أن ذلك يلتحق بالجعالات، فقد أبعد؛ فإن وضع القراض يخالف وضع الجعالة؛ إذ وضعُ الجعالة على إبهام العامل، مثل قول القائل: من رد عليّ عبدي الآبق، فله كذا، ومصلحة تيك المعاملة تقتضي هذا. ثم شرط صحة الجعالة إعلامُ الجعل تقديراً، أو تعييناً، والقراض معاملةٌ برأسها بعيدةُ المأخذ من الجعالات.
ولا خلاف أن لفظ المقارضة يستدعي القبول، فإذا جرى ذكر مقصود المقارضة، وجب الافتقار إلى القبول؛ فإن المقارضة لا تُعْنى لصيغتها، وإنما هي لفظة دالّةٌ على مقصود، وهذا إن احتمل في الوكالة من حيث إنه إذنٌ، لم يتجه مثلُه فيما يتضمن عوضاًً، ومعوضاً، وأحكاماً وأركاناً.
فرع:
4967- رأس مال القراض يجب أن يكون معلوم المقدار، ولا يكفي في الإعلام الإشارة؛ فلو قال: قارضتك على هذه الدراهم، وأشار إلى صُرَّةٍ منها، مجهولةِ المقدار، فالمعاملة فاسدة جواباً واحداً.
وقد اختلف قول الشافعي في أنا هل نشترط إعلام رأس المال في السّلم؟ والفرق بين الأصلين أن مال القراض يؤول إلى تنضيض رأس المال، وكيف يتصور المصير إلى هذا من غير إعلام رأس المال، وليس كذلك السَّلَم؛ فإن استبهام الأمر فيه بسبب جهالة رأس المال موهومٌ، وذلك بأن يُفرض انقطاعُ المسْلَم فيه، ومسيسُ الحاجة إلى الرجوع إلى رأس المال. وأمر القراض مبناه على تمييز رأس المال عن الربح.
فصل:
4968- فيما يتّفق في مال القراض من الزوائد المنفصلة، كالثمار والنِّتاج، وما في معناهما، ويتصل بذلك القولُ في منافع مال القراض، وهذا أصلٌ لم يعتن الأصحاب بجمع قولٍ فيه، ونحن تكلفنا تلقِّي حقيقة المذهب من النص، وأقوال الأئمة في هذا الفصل، فنقول:
إذا اشترى العامل مواشيَ، وكان يتربص بها ليبيعها، فاتفق نتاجٌ في مدة التربّص، أو اشترى نخيلاً، فاتفقت ثمارٌ في مدة التربص، فالذي نحققه من مذهب الأئمة أن هذه الزوائد تلحق بمال القراض، وتُعدّ منها، وكان من الممكن في طريق القياس أن يقال: هذه الزوائد فوائدُ عينية ليست مستفادةً من قبل التجارة، وإنما يشارك العامل ربَّ المال في الأرباح؛ فإن هذه المعاملة موضوعة لتحصيل الأرباح، ولكن لم يقل بهذا أحدٌ، والسبب فيه أن العامل إذا اشترى برأس المال نخيلاً أو مواشي، فقد استبهم من هذا الوقت أمرُ الربح ورأس المال؛ فإن المتقوّمات لا ثقة بقيمتها حتى تنض. وإذا كان يثبت للعامل حقٌّ في الربح، بل يثبت له حق في العروض، وإن لم يبدُ ربحٌ، فما يتفق شراؤه يجب أن تشيع فوائده وزوائده.
وكان شيخي يقول: حصول الفوائد محمولٌ على تسبب العامل إلى شراء الأصل؛ إذ لولا شراؤه له، لما حصلت الزوائد. والأرباحُ إنما تحصل على تحصيله من هذه الجهة أيضاً، فيجب أن يعتقد التحاقُ الزوائد بمال القراض، ثم لا نحكم فيها بأنها أرباح أو زوائد، ولكن هي من مال القراض، وجملة مال القراض لا تميُّزَ فيها من طريق التعيين، ولكن رأس المال والربح شائعان، وإنما يتميز رأس المال عن الفوائد الزائدة بالمفاصلة آخراً، كما ذكرناه.
4969- ومما يتعلق بتحقيق هذا الفصل حكمُ المنافع. أولاً: قال الأصحاب: لو كان في مال القراض جاريةٌ، فوطئها أجنبيٌّ بالشبهة، والتزم مهر المثل، فهو مأخوذٌ منه، مضموم إلى مال القراض، شائعٌ فيه؛ ولا نقول: إنه متجدد في نفسه، ويلحق بالفوائد تعييناً وتخصيصاً، وإذا ذكروا ذلك في عوض منفعة البُضع، فأعواض سائر المنافع بذلك أولى؛ فإنها إلى المالية أقرب، وهي مضمونة بيد العدوان، كالأعيان، بخلاف منافع البُضع.
ويخرج من ذلك أن المقارض لو أراد ألا يعطل منافع الأعيان المنتفع بها، بأن يعقد في زمان التربص بالبيع-على ما يرى- فيها إجارةً، فلا بأس. ثم ما يحصل ينضم إلى مال القراض.
وليس للعامل أن يزوج الجارية؛ لأن التزويج ينقص قيمة العين، بخلاف الإجارة.
وقد نص الشافعي على أن المالك لو أراد أن ينتفع ببعض أعيان القراض، لم يكن له ذلك، حتى لو شرط ركوب دابة تتّفق، أو استخدام عبد يقع في مال القراض، كان الشرط فاسداً مفسداً.
وقد ذكر الأصحاب أن المأذون له في التجارة لا يكري، ولا يؤجر، وصرحوا بأن الإجارة ليست من التجارة.
وقد يبتدر الفقيه إلى أن المقارَض متجرٌ في المال، فينبغي ألا يزيد على التجارة.
وهذا فيه نظر؛ فإنا في المسلك الذي نُجريه نعتقد أن العامل من وجهٍ متجرٌ، ومن وجهٍ متصرّفٌ في ملك نفسه؛ من جهة أنه يملك جزءاً شائعاً، أو يملك أن يملكه، ولا نُطلق القولَ بنفي الربح، ولا بإثباته. والأمر مبهم مشتبه. هذا وضع القراض.
ولو كان يتصور لرأس المال منفعة، ربما كان يغمض النظر فيها، ولكن لا منفعة للنقد، و إذا صرفه إلى العروض، التبس الأمر، كما قررناه، ولذلك يستحق البيع، أو يجب عليه البيع، كما فصلنا القول في ذلك.
4970- ثم ذكر القاضي أمراً بدعاً لا يهجم على مثله إلا صؤولٌ في الفقه جوّالٌ في معاصاته: وذلك أنه قال: لو وطىء رب المال جارية القراض، فنقول: هو بالوطء متلف منافع البضع، فنجعله كما لو أتلف عيناً من أعيان مال القراض، ولو فعل ذلك، لكان مسترداً لذلك القدر من مال القراض. ثم المسترد وفي المال ربحٌ يقع شائعاً من رأس المال والربح، كما قدمنا تفصيل ذلك، فيجعل رب المال بالوطء مسترداً لمقدارِ مَهْر المثل، وذلك بأن يقدر ثبوت مهر المثل أولاً منضمّاً إلى المال، ثم نقدرُ استرداده وبمثل هذا لو وجب مهر المثل بوطء أجنبي، ثم فرض الاسترداد فيه.
وهذا قد يستبعده الناظر على البديهة، فإذا أحاط بما مهدناه قبلُ، ثابت إليه نفسُه، واستمر مريره وعلم من خاصية القراض ما نبهنا عليه.
ومن بديع ما نذكره: أنا لا نوجب على العامل أن يكري ويؤاجر، وكيف نوجب عليه ذلك، ولا نلزمه أن يتجر، ولو ضيّع متاجرَ رابحةً، وجهاتٍ في المكاسب لائحةً، لم يتعرض للضمان، ولكن يكفيه أن يخيب مع خَيْبة رأس المال.
ولو وطىء رب المال الجاريةَ الواقعة في مال القراض، وأولدها، صارت أمْ ولد له، ويصير مستردّاً لقيمتها، ثم حكم الاسترداد ما ذكرناه.
ولم يتعرض القاضي في هذه المسألة لثبوت المهر تقديراً، ثم لثبوت القيمة بعد المهر، والذي يقتضيه قياس مذهب الشافعي، تميز المهر عن القيمة، وثبوتهما جميعاً؛ ولهذا نقول: إذا استولد الأب جارية ابنه، التزم مهرها، وقيمتَها: المهرُ بالتغييب والقيمةُ بحصول العلوق.
وهذا محتمل جداً في حق رب المال؛ فإنه إذا أفضى أمره إلى الاستيلاد، حُمل أول فعله وآخرُه على استرداد الجارية، وهذا لا يتحقق في جارية الابن مع الأب؛ فإنه فيها بمثابة المتلف، وهذا مشكل جداً، والقياس الجمع بين المهر والقيمة، ولم يتعرض القاضي لذكر المهر مع جريان الاستيلاد، وقرن به ذكرَ المهر إذا تجرد الوطء.
فليتأمل الناظر هذه المعاصات.
فرع:
4971- من غصب دراهمَ، ثم إن مالكها قارض الغاصب عليها، فالقراض صحيحٌ. وفي براءة الغاصب عن ضمان الغصب، وجهان ذكرهما الأصحاب.
ولم يسمح أحدٌ بذكر خلافٍ في زوال ضمان الغصب بسبب رهن المغصوب من الغاصب، مع أن الرهن أمانةٌ كأموال القراض، والقراض والرهن لا يعقدان للائتمان المجرد، وهما متعلقان بغرض الغاصب، بل الغرض في القراض أظهر؛ فإنه حق تملك.
وأقصى ما أقدر عليه في مثل ذلك ذكر وجه الإشكال.
فإن قلنا: لا يزول ضمان الغصب بطريان القراض، فلو صرف تلك الدراهم المغصوبة إلى جهات التجارة، وقبض أعواضها، انقطع الضمان عنه في الدراهم؛ فإنه بتسليمها جرى على موجب الإذن فيها، وزالت يدُه عنها. ثم ما يقتضيه من أعواضها، فهو أمين فيها؛ فإنه لم يتقدم منه فيها سببُ ضمان، وهذا لائح.
فرع:
4972- إذا دفع إلى رجل ألفاً قراضاً على الشرط المرعي، فلو خلطه بمال نفسه، فقد أساء، وصار ضامناً؛ فإن من الأسباب المضمنة للأمناء أن يخلطوا الأمانة بغيرها.
ثم مع هذا قال الأصحاب: لا ينعزل من التصرف، بل ينفذ تصرفه في المال حتى إذا خلط ألفاً بألفٍ، وأخذ يتجر، فرأس مال القراض من الألفين ألفٌ، والألف الآخر للعامل، وما يتفق من ربحٍ يُنصّف بين الألفين، وللعامل النصف على مقابلة ألفه، والذي يخص ألفَ القراض يقسم بين المالك وبين العامل، على موجب التشارط.
وهذا إذا جرى من غير شرط، فحكمه ما ذكرناه.
ولو عامل رجل رجلاً على ألفٍ، على أن يخلطه بألفٍ آخر لنفسه، فالشرط على هذا الوجه فاسدٌ مفسدٌ؛ فإنه مخالفٌ لوضع الشرع في تصوير القراض، وآيةُ ذلك أنه إذا وقع، صار ضامناً لمال القراض، وإن كان لا ينقطع التصرف به.
فرع:
4973- إذا اختلف العاملُ وربُّ المال في شرط الربح وجزئيته، فقال العامل: شرطت لي النصف، وقال رب المال: بل الثلث، قال الأصحاب: يتحالفان، ثم حكم تحالفهما أن يرتدّ الربحُ بكماله إلى رب المال، ويثبت للعامل أجر مثله، وهذا في ظاهر الأمر قياسٌ. وفيه فضل نظر سنذكره على أثر هذا، إن شاء الله تعالى.
ولو قال رب المال: رأس المال كان ألفاً، وقال العامل: بل كان خمسمائة، فالذي ذهب إليه المحققون أن هذا ليس من صور التحالف، بل القول فيه قول العامل؛ فإنه مؤتمن، وأدنى درجات الائتمان أن يصدَّق في مقدار المقبوض. وإذا لم يجر التحالف في هذه الصورة، حلّفنا العاملَ، وميزنا رأس المال أخذاً بقوله، وقسمنا الفاضل على موجب التشارط.
وذكر العراقيون وجهاًً في أن الاختلاف في رأس المال يوجب التحالف، ثم أثره ارتداد الربح بكماله إلى المالك، ورجوع العامل إلى أجر المثل، وهذا ضعيفٌ مزيف.
وليس ما ذكرناه كالاختلاف في جزئية الربح؛ فإن ذلك تنازعٌ في صفة العقد.
فصل:
4974- قد ذكرنا القراض الفاسد، وهذا أوان بيان حكمه، فنقول: القراض الفاسد هو الذي يجري قراضاً، ويختل شرط صحته. والحكم فيه انقطاع المسمى من الربح في مقابلة العمل، ومقتضى ذلك رجوع الربح بجملته إلى المالك، ثم لا يخيب العامل، فله قيمةُ عمله، وهو أجر المثل، وهذا جارٍ على قياس ترادّ الأعواض.
ثم إن حصل ربحٌ بالعمل-وإن قلّ- فالحكم ما ذكرناه. وإن لم يحصل شيء من الربح، وقد فسد القراض، فهل يستحق العامل أجر المثل؟ فعلى وجهين. ذكرهما شيخي:
أحدهما: وهو الظاهر- أنه يستحق أجر مثل عمله، ولا نظر إلى الربح، حصل أو لم يحصل؛ فإنّ موجب القراض الفاسد تقويم عمل العامل.
والوجه الثاني- أنه لا يستحق أجر المثل إذا لم يكن ربحٌ؛ فإن القراض لو كان صحيحاً، لكان يتعطل في هذه الصورة حقُّ العامل، فمبناه إذاً على أنه لا يستحق شيئاً، إذا لم يكن ربحٌ.
وهذا ضعيفٌ لا اتّجاه له.
وقد يجري في صور الفاسد حيْدٌ عن جهة القراض بالكلية، عند بعض الأصحاب، ولم يقع تصرفهم فيه على حسب ذلك.
وهو إذا جعل الربحَ بكماله لنفسه، أو جعله بكماله للعامل، وقد قدمنا تصرف الأصحاب في ذلك، و ذكرنا مصير بعضهم إلى أن هذا إقراضٌ في صورة، وإبضاع في أخرى.
والجملة في ذلك أن القراض إذا فسد والمقارَض فيه على طمعِ استحقاق جزء من الربح بموجب القراض، فهذا هو القراض الفاسد، الذي يقال فيه: للعامل أجر عمله، ولرب المال الربح. وإن لم يكن خوض العامل على قصد استحقاق جزء من الربح؛ فيختبط النظر حينئذ.

.فصل: في مقارضة الرجل رجلين، وفي مقارضة رجلين رجلاً:

فنقول: أطلق الأصحاب القول في تجويز ذلك كله. فإن قارض رجلان واحداً على مالٍ مختلط بينهما، على نسبة معلومة، وشرط أحدهما للعامل من نصيبه النصف، وشرط آخر له من نصيبه الثلث، فهذا جائز، وهو كما لو أفرد هذا قراضاً معه على النصف وهذا قراضاً آخر على الثلث.
ولو شرطا نصف جميع الربح له من المالين، فجائزٌ حسن، فلو أنهما قالا للعامل: النصفُ. وقالا: ما بقي من الربح بعد نصيبه مقسومٌ بيننا، لا على ما يقتضيه مقدارُ المِلكين. فإن استويا في الملك، وشرطا أن يكون بقيةُ الربح أثلاثاً بينهما، فهذا فاسدٌ، مخالف لوضع الشرع، ثم قال الأصحاب: هو مفسدٌ للقراض، وقد يخطر للفقيه أن هذا تشارط وراء مقصود القراض، فيجب ألا يؤثر فيه، وليس الأمر كذلك.
والمسألة شبيهةٌ بما لو شُرط في القراض جزء من الربح لثالثِ، ليس عاملاً، ولا مالكاً، وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك، فشرط مزيد الربح لأحد المالكين على خلاف ما يقتضيه قدرُ ملكه يضاهي شرطَ الربح لثالث، وهو لا يستحقه في وضع الشرع.
4975- ولو قارض رجل رجلين وشرط لأحدهما النصف، وللآخر الثلث، فجائز لتعدد المالك، وحكم التعدّد تعددُ العقد.
ويعترض في هذا إشكالٌ، وهو أن مقارضة الرجل رجلين إن كان على أن يستبد كل واحد منهما بالتصرف، إذا اتفق متجرٌ من غير أن يحتاج إلى مراجعة صاحبه، فهذا على هذا الوجه انبساط في التصرف، فيُخيّل انتفاء الحجر.
لكن فيه إشكال؛ من جهة أن أحدهما لا يثق بتصرف نفسه، ولا يأمن أن يكون تصرفه مسبوقاً بتصرف صاحبه.
وقد يتفرع عليه أنه إذا لم يتفق من أحدهما عمل أصلاً، وجرى العمل كله من الثاني، فيستحيل أن يستحق من لم يعمل شيئاً، ويجب أن يكون المشروط من الربح للعامل، وهذا فيه إشكال؛ فإنه لم يشترط الربحَ له وحده، ثم يلزمه منه إذا قبل بذلك أن يختلف الأمر بمقدار العملين، وهذا أمر لا ينضبط.
هذا إذا جرى القراض على أن يستقل كل واحد منهما بالتصرف.
ولو كان القراض على ألا ينفرد أحدهما بالتصرف ما لم يطابقه الثاني، فهذا يجرُّ إشكالاً آخر؛ فإن ذلك يتضمن حجراً على كل واحد منهما، وقد قدمنا فيما سبق أن المالك لو شرط على المقارض ألا يمضي أمراً حتى يشاور رجلاً عيّنه، أو حتى يراجع ربَّ المال، فالقراض يفسد بذلك. هذا وجه الإشكال.
4976- ونحن نقول بعده: مقارضة رجلين على أن يستقل كل واحد منهما بالتصرف في جميع المال فاسدٌ، لا شك فيه؛ فإن هذا وإن كان يُخيل انبساط أمر كل واحد منهما، فهو في التحقيق أعظم تضييق، وفيه سقوط ثقة كل واحد منهما بما يكون عليه. ثم يجر من الخبل في التفريع ما ذكرناه من اتفاق انفراد أحدهما بالعمل، أو تفاضلهما فيه؛ فلتخرج هذه الصورة عن إرادة الأصحاب للحكم بالصحة.
فأما إذا قارض رجلين على ألا ينفرد واحد منهما بالتصرف، فهذا فيه ما أشرنا إليه من إشكال الحجر، ولكن يعارضه التعاون والتناصر، وهذا يزيد أثره على ما ينحسم بالحجر.
وينفصل رجوع أحد العاملين إلى الثاني عن مسألتين: إحداهما- اشتراط مراجعة ثالث، لا خوض له في القراض، والأخرى- اشتراط مراجعة المالك. أما اشتراط مراجعة ثالث، فتثير حجراً ظاهراً؛ فإنه ليس في ذلك الثالث ما يستحثه على تنفيذ التصرف، والاتساع في المتاجر، وإذا لم يكن له غرض، فقد يتبرّم بالمراجعة، ويبغي الإفلات منها، ثم يجرّ ذلك عسراً بيّناً. والعاملان إذا تناصرا فكل واحد منهما يستحثه ماله من الحظ على السعي في تحصيل المتاجر. هذا وجه بيّن.
وأما مراجعةُ المالك؛ فإنها تُحبط استقلال العامل بالكلية، ويتشوّف المتصرفون إلى المالك، وما يُسقط استقلال العامل ينافي وضعَ القراض، فهذا ما أردناه.
وقد يتجه في مقارضة الرجل رجلين أن يحمل على كون كل واحد من العاملين مقارضاً في قسطٍ من المال، وقد أوضحنا أن الشيوع غير ضائر، وكلام الأصحاب في التفريع يشير إلى ذلك؛ فإن مما ذكروه: أنه لو قارض رجلين، وجعل نصيب أحدهما من الربح أقلَّ جاز، وهذا إنما يفرض بأن يقدّرَ كلُّ واحدٍ منهما مقارضاً في قسط، وهو منفرد بمعاملة المالك فيه، ثم المالك إن أثبت في كل معاملة نسبةً أخرى، على حسب التوافق، فلا معترض.
ولو قدرنا القولَ بصحة مقارضة رجلين على التناصر، فهما كالعامل الواحد في جميع المال، فلا يبقى لرب المال مقامُ الاحتكام بتفضيل أحدهما على الآخر.
4977- فخرج من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقارض رجلين على أن يتصرف كل واحد منهما في جميع المال، وهذا باطل، لا شك فيه؛ فإن في استقلال كل واحد منهما عدمُ استقلال صاحبه، وهو في التحقيق شَغْلُ مال واحد بقراضين. هذا قسم.
والقسم الثاني- أن يتعاونا على العمل في الجميع، هذا محتملٌ، كما رددنا القول فيه. والأظهر البطلانُ لما ذكرنا آخراً من إضافةِ مالٍ واحدٍ إلى حقَّي عاملين، وهذا لا وجه له. وحق المقارَض عظيمُ الوقع في الشرع.
والقسم الثالث: أن يقع مقارضةُ الرجلين، على أن يكون كل واحد منهما عاملاً في شطر المال. وهذا جائزٌ لا يرده راد. وقد قال الشافعي: تعدد المقارض يتضمن تعددَ القراض، ولا محمل لهذا إلا ردَّ تصوير مقارضة الرجلين إلى ما ذكرناه آخراً؛ فإنا لو فرضنا متناصرين على العمل في جميع المال، لكانا كالعاقد الواحد.
فهذا منتهى الكلام في ذلك، وقد نبهنا في أول الكتاب على الإشكال، ولم نفصله.
4978- وقد بأن الآن ومما أُجريه في هذا المجموع-ولا شك في تبرم بني الزمان به- أني كثيراً ما أُجري المسائل على صيغة المباحثة، ثم هي تُفضي إلى مقر المذهب آخراً، ويعلم المسترشد طريق الطلب، والنظر، وهذا من أشرف مقاصد الكتاب؛ فلست أخل به لجهل من لا يدريه.