فصل: فصل: ذكره الأئمة في أثناء فصول العهدة، فرأينا إفراده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.فصل: ذكره الأئمة في أثناء فصول العهدة، فرأينا إفراده:

4802- ومضمونه مسائلُ، منها: أن الشفيع لو ضمن العهدة للمشتري في الثمن، لو فرض دَرَك، قال الأئمة: هذا لا يمنعه من طلب الشفعة إذا استقر العقد.
وكذلك قالوا: لو ضمن للمشتري سلامة المبيع، أو ضمن الثمنَ للبائع، فلا يبطل حقُّ طلبه بهذه الجهات.
فإن قيل: ما ذكرتموه في هذه الوجُوه يُشعر بتقرير المشتري على ما اشتراه، فهلا كان هذا رِضاً منه بأن يبقى الملك للمشتري، ويسقط حقُّه؟ قلنا: يُحمل ما يأتي في ذلك على قصدِ تمهيد سبب استحقاق الشفعة، والسعي في تحصيله؛ فإن الشفعة لا تثبت ما لم يثبت البيع.
4803- ولو وكل أجنبيٌّ شريكاً في الدار حتى يشتري له نصيبَ صاحبه، فإذا توكَّل، واشترى لموكله، فهل تبطل شفعته؟ ذكر الأصحاب وجهين:
أحدهما: لا تبطل، لما قدمناهُ من حَمْل ما صدر منه على تحصيل سبب الشفعة، فأشبه ما تقدم من ضمان العهدة، وضمان الثمن.
والثاني: يبطل حقه من الشفعة؛ لأنه تعاطى بنفسه تحصيلَ الملك للمشتري، فكان ذلك رضاً منه بدوام الملك.
وكان شيخي في غالب ظني يطرد الخلاف في الصورة المقدّمة. وهي ضمان العهدة، وضمان الثمن، والفرق على حالٍ بيّن. ولكن احتمالَ الخلاف في تلك الأسباب غيرُ بعيد.
فإن طردنا خلافاًً، رتبنا تعاطي الشراء للموكِّل على الأسباب. والذي ذكرته إن كان ينقدح في ضمان العهدة، فليس له ظهور في ضمان الثمن؛ فإن الشفيع ضامنٌ للثمن، ملتزم غير أنه يؤديه إلى المشتري، فإذا أضافه إلى البائع، فقد يُخيل ذلك شيئاًً على بعد.
وهذه التفريعات على قول الفور.
4804- ولو قال أحد الشريكين لصاحبه: بع نصيبي من فلان، فباعه منه، ففي بطلان الشفعة الوجهان المذكوران فيه إذا كان وكيلاً لذلك الأجنبي، في الشراء.
ولو عرض الشريك نصيبه على شريكه تأسياً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والحديث وارد في العرض على الجار، فاستنبط الأصحاب استحباب العرض على الشريك، واستدل الشافعي بحديث العرض على الجار على أن الجار لا شفعة له، وأن العرض غليه من مكارم الأخلاق؛ إذ لو كان يستحق الشفعة، لما كان في البيع من الغير تفويت عليه. ثم إذا اتفق العرض على الشريك، فرغب عن الابتياع وأبدى زهداً فيه، فإذا اتفق البيع، فله الشفعة، لم يختلف الأصحاب فيه؛ بناءً على أن إسقاط الشفعة قبل ثبوتها باطلٌ، غيرُ مؤثر.
وليس ما ذكرناه بمثابة ما لو كان الشريك وكيلاً في البيع من الأجنبي، وفي الشراء له؛ فإن ذلك خوض منه في عين إزالة الملك إلى الأجنبي، فانتظم فيه الخلاف، وليس في العرض هذا المعنى.
فرع يتعلق بعلائق العهدة:
4805- إذا أخذ الشفيع الشقص وبنى فيه أو غرس، فاستُحق الشقصُ، وقلعَ المستحِقُّ غراسه وبناءه، فلا شك أن الشفيع يرجع بالثمن على المشتري إذا كان وفر الثمن عليه. ثم التفصيل فيما عدا الثمن كالتفصيل المقرر في المشتري من الغاصب، وقد أوضحنا مواضع الخلاف والوفاق فيما يرجع به على البائع الغاصب، فنزل الأئمةُ الشفيعَ من المشتري، منزلة المشتري من الغاصب البائع، في كل ما تقدم.
ومما أثبت القاضي للشفيع الرجوعَ به قاطعاً قولَه، التفاوتُ الواقع بين قيمة الغراس والبناء قائماً ومقلوعاً، وهذه طريقة في المشتري من الغاصب على جهل. وكان شيخي يفتي بهذا.
والوجه عندنا إلحاقُ هذا بأحكام الغرور؛ فإنه هو الذي تعاطى البناء والغراس، ولكن اتصل فعله بتغرير من جهة غيره، فخرج على قولي تقديم الطعام المغصوب إلى الضيف.
وكان شيخي يذكر الخلاف ويميل إلى إثبات الرجوع، رعايةً للمصلحة.
4806- والذي يدور في خلد الفقيه مما ذكرناه أن المشتري لم يعاقد الشفيع اختياراً، وإنما أخذ الشفيع الشقص قهراً، فالضمان الذي يتعلق بسبب الغرور، كيف يتعلق به، وهو ما غرّ أحداً. وهذا فيه إشكال لا ننكره، ولم يتعرض له أحد من الأصحاب، ويمكن أن يُفصَّلَ القولُ فيه، فيقال: إن قبض المشتري الثمن أو طالب به، أو لم يُبدِ كراهيةً، وجرى مع الشفيع على صفة المطاوعة، فقد يقال: هذا منه بمثابة البيع. فأما إذا وقع الفرض في أَخْذ الشقص منه، وهو ممتنع محمول على تسليم الشقص بالقهر، فلا يكون مغرّراً، ولكن الفقه فيما ذكره الأصحاب: أنه في شرائه مختارٌ، وأخْذ الشفيع موجَبُ شرائه، فارتبط هذا بما يختاره وينشئه، وهذا متجه حسن.
فإن تعرض متعرض لفرض جهل المشتري بكون المشترَى مغصوباً، أشعر ذلك بعروه عن التحصيل؛ فإن أحكام الضمان في الغصوب لا تختلف بالعلم والجهل، وإنما يفارق العالمُ الجاهلَ في المأثم. نعم، شرط المغرور أن يكون جاهلاً؛ فإنه لو كان عالماً بحقيقة الحالة، لم يقع الغرور تصوُّراً، حتى يناط به حكم. فأما الواقف موقف من يغرِّر، فلا يختلف حكمه بعلمه وجهله، إذا اغتر المغرور بقوله أو بفعله.
فصل:
ثم إن المزني جمع مسائل تحرَّى فيها مذهب الشافعي.
قال المزني: "وإذا تبرّأ البائع من عيوب الشفعة... إلى آخره".
4807- جمع المزني مسائل قليلة النَّزَل، وأجراها على قواعد المذهب، ونحن نَجري على ترتيبه فيها، فمن ذلك هذه المسألة، واختلف الأصحاب في صورتها، فمنهم من قال: صورة المسألة: إذا اشترى بشرط البراءة من العيوب-وقد استقصينا القولَ في ذلك في بابٍ من كتاب البيع- ففي صحة الشراء خلاف، ثم إن صح، ففي صحة الشرط قولان، فإن صح الشرط، لم يملك المشتري الرد بالعيب؛ لأنه يبرأ البائع بحكم الشرط عن الرد بالعيب.
ولكن هذا يختص به فإذا اطلع الشفيع على عيبٍ بالشقص المشفوع، ردّه على المشتري، ولم يكن للمشتري أن يقول: إنما أخذتُ الشفعة بصفقةٍ متضمنُها البراءةُ من العيوب، فالتزمْها؛ فإن الشفيع مع المشتري بمثابة المشتري من المشتري، في هذه القضايا. والبراءة وإن صحت، فهي مختصة بالمشتري، ولا تتعدّاه.
وإذا أخذ الشفيع، لم يفرق بين أن يكون عالماً بسقوط حق المشتري، وبين أن يكون جاهلاً؛ فإن حقه في استدراك الظلامة لا يختلف بإسقاط المشتري حقَّ نفسه.
4808- ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة أن يطّلع المشتري على عيبٍ، والمراد بحصول البراءة هذا؛ فإن المزني لو أراد فرض الكلام في شرط البراءة، لذكر الخلاف، وما قيل فيه رمزاً أو تصريحاً؛ فإنه يتسرع إلى ذكر مثل ذلك، وإلى إعادة اختياراته في صور الخلاف، فالمسألة مصورة في سقوط حق المشتري من الرّد بسبب اطلاعه على العيب. وهذا مُسقط لحق الرد وفاقاً.
ثم الترتيب فيه أن الشفيع إن اطلع كما اطلع المشتري، ثم أخذ الشفعة، لم يملك الرد، وإن لم يطلع المشتري، ولا الشفيع رد الشفيع على المشتري، ثم يرد المشتري على البائع على الترتيب البيّن فيه، إذا اشترى رجل شيئاًً من مشترٍ، ثم اطلع على عيبٍ.
ولو لم يطلع المشتري واطلع الشفيع، وأخذ، لم يملك الردّ على المشتري، والمشتري لا يرجع بأرش العيب على البائع منه؛ فإن الذي لحقه من النقصان قد روّجه على غيره. وكل هذا مما سبق في البيع.
وإذا قلنا: الشفيع مع المشتري كالمشتري من المشتري في مضمون هذا الفصل، فما غادرنا من البيان شيئاً، إذا لم يكن في الفصل استثناء.
ثم ذكر المزني بعد هذا فصلاً في خروج الثمن الذي عينه المشتري مستحقاً، وقد أدرجنا هذا في فصول العهدة مبيناً، فلا نعيده.
فصل:
قال: "ولو حط البائع... إلى آخره".
4809- مقصود الفصل يتعلق بشيئين:
أحدهما: فيه إذا تبرع البائع، وحطّ عن المشتري شيئاًً من الثمن.
والثاني: فيه إذا حط عن المشتري أرش العيب. وهذا الأخير أجريناه مستقصىً في فصل العهدة.
فأما إذا تبرعّ البائع بحط شيء من الثمن، فلا يخلو إمّا أن يتفق ذلك بعد لزوم العقد، وإما أن يجري والعقدُ جائز في مكان الخيار، أو زمان الخيار، فإن جرى الحط بعد اللزوم، فهو منحة تختص بالمشتري، فلا تلحق الشفيع، وهذا فرع أصلٍ، قد أوضحناه في البيع، وهو أن الزوائد، والحط، والتغايير بعد اللزوم، لا تلحق العقد عندنا، خلافاً لأبي حنيفة، وقد خالف هاهنا في الحط، وصار إلى أن ما حُط عن المشتري محطوطٌ عن الشفيع، إذا بقي من الثمن شيء، ووافق أنه لو حُط عن المشتري تمامُ الثمن، لم يؤثر ذلك في حق الشفيع، وكان مُطالباً من جهة المشتري بتمام الثمن، ووافق أيضاًً أن البائع والمشتري لو ألحقا زيادة بالثمن، لزمت المشتري، ولم تلحق الشفيع.
هذا في الحط بعد اللزوم.
4810- فأما إذا جرى الحط في زمان الخيار، لم يخل: إما أن يُحط البعضُ أو يُحط الكل.
فإن حُط البعضُ، فأحسن ترتيب فيه أن نقول: ينبغي أن يُبنى هذا على الأقوال في أن الخيار هل يمنع نقل الملك؟ فإن قلنا: إنه لا يمنع نقل الملك، فكما يملك المشتري المبيعَ، فكذلك يملك البائع الثمن، فإذا جرى الإبراء من البائع، فهو مصافٌ ملكَه؛ فإن الثمن ملكُه، فيصح الإبراء لمصادفته ملكَ البائع. هكذا ذكره الأئمة.
وفي صحة الإبراء عندي احتمال خارج على تردد الأصحاب في إعتاق المشتري: هل ينفذ في العبد المشترَى في زمان الخيار على قولنا: إن الملك للمشتري؟ فإذا ترددوا في العتق مع سلطانه، لم يبعد التردد في الإبراء؛ فإن المبيع متعلَّق خيار البائع، فامتنع لذلك نفوذ تصرفات المشتري عند طوائفَ من الأصحاب. كذلك الثمن متعلق خيار المشتري، فلا يبعد أن يمتنع تصرفُ البائع فيه، سيّما إذا منعنا الإبراء عما لم يجب، وإن وجد سببُ وجُوبه.
فإن فرعنا على ما ذكره الأصحاب من نفوذ الإبراء، فلا شك أنه على معنى الوقف، حتى لو اختار المشتري الفسخ، وارتد المبيعُ، فلا أثر لما تقدم من الإبراء، إلا على قول ضعيفٍ في أن المرأة إذا أبرأت زوجها عن الصداق الواقع في ذمته، ثم إنه طلقها قبل المسيس، فالمذهب أنه لا يطالبها بنصف الصداق، وفيه قول غريب، وهو يخرّج على ما إذا وهبت عين الصداق من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس. فإذا حكمنا بنفوذ الإبراء، فهل يلحق هذا الحطُّ المشتري على هذا القول الذي نفرع عليه؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يلحقه، بل لا يلحق العقد، وإنما هو تغيير بعد العقد، فشابه التغيير بعد اللزوم، ومعتمد المذهب في امتناع التحاق التغايير بالعقد أن العقد إذا عقد على صيغة، فلا حاصل للإلحاق بها، إلا أن ترفع تلك الصيغة، وتستفتحَ أخرى.
والوجه الثاني- أن الحط يلحق العقد؛ فإن العقد في زمان الجواز يضاهي حالة تواجب المتعاقدين بالإيجاب والقبول، فيقبل من التغيير ما لا يقبله إذا لزم.
هذا كله إذا فرعنا على أن الخيار لا يمنع نقل الملك.
4811- فأما إذا قلنا: يمنع نقل الملك، فكما لا يملك المشتري المبيع، لا يملك البائع الثمن. فإذا أبرأ البائعُ عن بعض الثمن، فقد ذكر القاضي وجهين في صحة الحط:
أحدهما: أنه لا يصح؛ لأنه تصرفٌ من البائع فيما ليس بمملوك له، فلغا.
والثاني: يصح، ويلحق أصلَ العقد، وهذا يعتضد بتعامل الخلق في الأعصار، المنقضية.
فإن قلنا: لا يصح الحط، فلا كلام. وإن حكمنا بصحة الحط، فالأصح أن الحط على هذا القول يلحق بالعقد؛ فإنه في حكم توطئة العقد وتقريره، وما يجري من ذلك قبل اللزوم وانتقال الملك، فهو بمثابة ما يجري بين المتساومَيْن، قبل التواجب.
ومن أصحابنا من قال: في لحوق هذا الحط العقدَ وجهان. وهذا وإن كان يبعدُ بعض البعد، فله خروج على ما قدمناه، من أن تغيير العقد برفعه وابتدائه، ولا يختلف في ذلك حُكم الجواز واللزوم.
هذا بيان التفصيل في الحط في زمان الخيار.
والقفال كان لا يزيد في دروسه على أن يقول: الصحيح نفوذ الحط ملتحقاً بالعقد. وما ذكرناه من التخريج على أقوال الملك أورده العراقيون، وهو حسن لابد منه.
ثم إن ألحقنا حط البعض بالعقد، أثبتنا الحط في حق الشفيع، وإن جعلناه طارئاً على العقد، غيرَ ملتحق، فهو بمثابة الحط بعد الانبرام، فحكمه الاختصاص بالمشتري.
4812- ولو حط البائع جملة الثمن، تفرع هذا على ما ذكرناه، فإن جعلنا حط البعض في زمان الخيار، كحطه بعد الانبرام، فحط الجميع بهذه المثابة، والشفيع مُطالب بتمام الثمن، وإن ألحقنا حطَّ البعض بالعقد، وجعلنا كان الثمن المسمى ما بقي بعد الحط، فحط الجميع يُفسد العقد لا محالة؛ من حيث يتضمن تعريتَه عن الثمن، غنَيْنا بالفساد أن البيع لا يثبت.
ووراء ذلك نظرٌ آخر، وهو أن الرجل إذا قال لإنسان: بعت منك عبدي هذا بلا ثمن، فلا شك أن ما أجراه ليس بيعاًً، ولكنه هبةٌ مملِّكةٌ صحيحة، أم ليست هبةً؟ في ذلك وجهان ذكرهما القاضي وغيره:
أحدهما: أنه هبة؛ لإشعار اللفظ بالتمليك، مع التنصيص على نفي العوض، وهذا معنى الهبة.
والثاني: أنه ليس هبةً؛ فإن البيع في وضعه صريح في اقتضاء العوض، فإذا قرن بنفي العوض: كان جمعاً بين النقيضين. والعقود الصحيحة لا تنتظم من العبارات الفاسدة.
وعبر المحققون عن الوجهين بأن الاعتبار بمعنى اللفظ ومقصود اللافظ، أو بصيغة اللفظ، فإن اعتبرنا مقصود اللافظ، اقتضى ذلك تصحيحَ الهبة، وإن اعتبرنا صيغة اللفظ، فهي فاسدة، ومعتمد العقود الألفاظ.
التفريع على الوجهين:
4813- إن حكمنا بصحة الهبة، لم يخفَ حكمُها، وافتقارُها إلى القبض، وإن لم نصحح من هذا اللفظِ هبةً، فلا شك، أن ما يقبضه ملكُ البائع، ولكن اختلف أصحابنا في أنه أمانة في يده، أو مضمون: فمنهم من قال: هو مضمون؛ لأنه مقبوض عن بيع فاسدٍ. ومنهم من قال: هو أمانة؛ لأن علائق الضمان نتيجة ما في العقد الفاسد من اقتضاء العوض، وإن كان على الفساد، وإذا قال بعتك بلا ثمنٍ، فليس فيما جاء به ما يتضمن عُهدة، ولا عُلقة، من طريق العوض. وعن هذا قال الأصحاب: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق على زق خمر، فقبلت، بانت، وعليها مهر المثل. ولو قال: أنت طالق على الريح، وقع الطلاق رجعياً، ولم يقبض عوضاًً.
هذا حقيقة القول في ذلك.
فإذا فرض الحط في الجميع، وألحقنا ذلك بالعقد، وأخرجناه عن كونه بيعاً، انتظم بعد ذلك تبيُّناً ما لو قال ابتداءً: بعت منك هذا بلا ثمن.
فصل:
4814- إذا ادعى على رجل أنه اشترى شقصاً له فيه شفعة، فأنكر المدعى عليه، فالقول في حكم الاختلاف على هذا الوجه قدمناه مستقصىً في أدراج الفصول، ولكن المزني ذكره في مسائل التحري، فنعيده على الإيجاز، فنقول: للإنكار صيغتان مقبولتان: إحداهما تعرِض لمضادة الدعوى لفظاً ومعنى، مثل أن يقول المدّعي: اشتريتَ شقصاً فيه شفعة، فيقول المدعى عليه: ما اشتريت.
والثانية تعرِض لمضادة مقصود الدعوى، ولا تناقضها لفظاً. مثل أن يقول في جواب المدعي-والدعوى على ما وصفناه- لا يلزمني تسليم هذا الشقص إليك، فهذا الإنكار يُكتفى به، وسبب الاكتفاء به أن الشفعة ربما كانت تثبت، ثم سقطت بتقصير من الشفيع، أوعفوٍ. ولو اعترف المدعى عليه بصورة الحال، لكان مؤاخذاً بالإقرار بالشفعة، مدّعياً سقوطها. والقول قول الشفيع في نفي ما يُدَّعَى عليهِ، فسوَّغَ الشرعُ للمدعى عليه أن يبهم الإنكار. وهذا من أسرار الخصومات، ولا يمكن التطفل ببسط القول في ذلك هاهنا، ولا اختصاص لهذه الصورة بهذا النوع من الإنكار، فليقع الاكتفاء بنقل الوفاق في صحة هذا الإنكار، ثم يحلف على حسب إنكاره.
فإن أتى بالصيغة المصرحة بنفي الشراء، ولما عرضنا اليمين أراد أن يحلف: لا يلزمه تسليم الشقص، فهل يُقبل اليمين كذلك؟ فعلى وجهين مشهورين جاريين في نظائر هذه الصورة، وموضع استقصائهما الدعاوى.
ولو أقام المدعي بينة على الشراء، لما أنكر المشتري، وحكمنا بالشفعة، فيأخذ الشقصَ، والمدَّعى عليه لا يخلو إما أن يعترف الآن، أو يصر على إنكاره، فإن اعترف، صرفنا الثمن إليه، وإن أصر على إنكاره، ففي المسألة الأوجه الثلاثة الجارية في أمثال هذه المسألة: أحدها: أنه يجبر المدعى عليه على القبول، أو الإبراء، حتى تبرأ ذمة الشفيع؛ فإن الإنكار والإقرار لا يبرئان الذمم. والوجه الثاني- أنه يترك الثمن في ذمة الشفيع إلى أن يعترف به المدعى عليه. والوجه الثالث: أنه يؤخذ الثمن منه ويوضع حيث توضع الأموال المشكلة، ثم يرى السلطان رأيه فيها. وشفاء الغليل في ذلك يتعلق بالإيالة الكبيرة، ولكنا لا نخلي هذا المذهب عن شفاء الغليل إذا رأينا الانتهاء إلى ذكره.
فصل:
قال: "ولو أن رجلين باعا من رجلٍ شقصاً... إلى آخره".
4815- إذا اشترى رجلان من واحدٍ شقصاً، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما، ويترك نصيب الثاني، لم يختلف أصحابنا فيه. فإن قيل: أليس حكيتم قولاً في كتاب البيع أن أحد المشتريين لا ينفرد برد ما اشتراه على البائع، وجعلتم اتحاد البائع مقتضياً اتحاد الصفقة، فهلا خرّجتم هذا القولَ في منع تبعيض الشفعة؟ قلنا: ذلك القول على ضعفه له خروج؛ من قبل أن المبيع خرج جملة واحدة، من ملك البائع، فلو رجع إليه بعضه، لتضرر لا محالة، فكان سببُ منع الرد في ذلك القولِ القديم هذا، والشفعة لا تؤخذ من مأخذ الرد؛ فإنّ الشفيع يأخذ من المشتري، فينبغي ألا يتبعض على من يأخذ منه، فقلنا: إذا اشترى رجلان من رجلٍ، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما، ويترك نصيب الآخر؛ إذ لا تعلق لأحد المشتريين بالثاني، فلا تبعيض على المأخوذ منه.
ولو اشترى رجل من رجلين شقصاً، قال المزني: للشفيع أن يأخذ نصيب أحد البائعين، وقاس ذلك على الرد بالعيب؛ فإنه لو اطلع على عيبٍ بما اشتراه، كان له أن يردّ على أحد البائعين، ويُمسك ما اشتراه من الثاني.
4816- وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى موافقة المزني، وهو القياس؛ فإن تعدد البائع يتضمن تعدد العقد والصفقة، ولو اشترى رجل واحدٌ من رجل واحدٍ شقصاً، في صفقتين، فللشفيع أن يأخذ مضمون إحدى الصفقتين، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه؛ فإنهما إذا قالا: بعنا منك، فكل واحد من البائعين متميز عن الثاني، والقبول وإن اتحد من حيث الصيغة، متعدد من حيث المعنى، والمعنى أولى بالاتباع.
ومن أصحابنا من خالف المزني، وقال: ليس للشفيع أن يأخذ بعضاً، ويترك بعضاً، لأن فيه تبعيضَ الشقص على المشتري. وقد ملَكه دفعة واحدة.
ولو اشترى واحدٌ شقصين من دارين من رجلٍ واحد، وكان شفيعهما واحداً، فالصفقة متَّحدة إذا نظرنا إلى البائع والمشتري، وقد تمهد أن الصفقة لا تتعدد بتعدد المعقود عليهِ، إذا لم يكن في العقد عليهما اختلاف. فلو أراد الشفيع أخذ الشقصين من الدارين، فله ذلك. وإن أراد أخذ أحد الشقصين، وتَرْكَ الآخر، ففي المسألة وجهان مشهوران، وسبب الخلاف أنه ليس في أخذ أحدهما وترك الثاني تبعيضُ شقصٍ من دارٍ واحدة. وهذا بعينه هو الاختلاف المذكور في تفريق الصفقة بما يطرأ عليها آخراً، مثل أن يشتري الرجل عبدين، فيجد بهما أو بأحدهما عيباً، فأراد ردَّ واحد بالعيب، وإمساك الثاني بقسطٍ من الثمن، ففي ذلك قولان. ولا مأخذ لهما إلا تفريق الصفقة؛ إذْ لا ضرار من جهة التبعيض.
ولو اشترى عبداً، فوجده معيباًً، فأراد ردَّ بعضِه، لم يكن له ذلك، لما فيه من ضرار التبعيض، وهذا يناظر ما لو اشترى شقصاً في صفقة واحدةٍ، فأراد الشفيع أخْذ بعضه، وترك الباقي.
4817- ولو اشترى شخصان من شخصين شقصين من دارين، شفيعهما واحد، فهذه الصورة يلتف فيها وجوه من التفريق، فانظر كيف تجري فيها، وقد أصبتَ، فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ الشقصين، وبين أن يأخذ النصف من كل واحد منهما من واحدٍ، وبين أن يأخذ نصف أحد الشقصين من أحدهما، ومن الثاني كلا النصفين، وبين أن يأخذ نصف شقصٍ من واحدٍ، ونصف الثاني من الآخر، إذا جوزنا تفريق الصفقة في الشفعة.
ثم ذكر المزني الاختلاف في مقدار الثمن وقد مضى.
وذكر ما لو كان الثمن عبداً معيّناً فخرج مستحقاً، وهذا استقصيناه في أحكام العهدة.
وذكر بعده ما لو ثبت الشقص عِوضاً عن صلح على إنكارٍ، و بان فساد الصلح، ثم قال: فلا شفعة إذاً.
ولا حاجة إلى ذكر شيء من هذا.
فصل:
قال: "ولو أقام رَجُلان كلُّ واحدٍ منهما بينةً أنه اشترى من هذه الدار شقصاً... إلى آخره".
4818- صورة المسألة: دارٌ في يد رجلين، اعترف كل واحدٍ منهما بأنه اشترى نصفَها، ولكنهما تنازعا في التاريخ، فادعى كل واحد منهما أنه اشترى نصيبه قبل صاحبه، وله الشفعة فيما اشتراه صاحبه، فإذا تنازعا كذلك ولا بينة لواحد منهما، فالذي جاءا به خصومتان: إحداهما متميزة عن الأخرى، وليس اختلافهما بمثابة التنازع من المتبايعين، في مقدار ثمن المبيع أو جنسه.
وإذا كان كذلك، فمن ابتدر منهما، وادّعى في مجلس الحكم، فالقاضي يفصل خصومتَه، وإن جاءا وادّعيا معاً، لم يُتركا كذلك، فإن تنازعا في البداية، أقرع بينهما، فمن خرجت قرعتُه، نصبناه مدعياً، وأجرينا خصومته بطريقها. فإذا قال من تقدم وفاقاً، أو قدمته القرعة: اشتريت نصيبي قبل صاحبي، فالقول قول صاحبه مع يمينه، لا ينبغي أن يحلف على البتِ أن صاحبه ما اشترى قبله، ولكن يحلف أنه ما اشترى بعده، لتتعلق يمينه برد الدعوى على هذه القضية، فإن نَفْيَ فعل الغير بيمين باتَّة لا وجه له في صيغ الأيْمان. فإذا حلف على هذا، انتجزت الخصومة وينتصب المدعى عليه مدعياً، فيدعي أنه اشترى نصيبه قبل نصيب صاحبه، والقول قول صاحبه مع يمينه، فإن حلف صاحبه، كما حلف هو، أقررنا الدار بينهما، ونفينا الشفعة، وكلٌّ على ما اشتراه.
وإن نكل الأول لما حلّفناه، حلف صاحبه، واستحق الشفعة، فلو أراد المدعى عليه بعدما نكل، ورُدّت اليمين أن يدعي دعواه، صائراً إلى أن هذه خصومة أخرى، لم نمكنه من ذلك؛ فإن نصيبه قد أخذ بالشفعة، وحلف صاحبه يمين الرد، على أبلغ وجه في التصريح، فكيف نحلفه مرة أخرى على الإبهام؛ فإن يمين المدعى عليه تقع على النفي، كما تقدم، وإذا أخذ الشقصَ بالشفعة، فقد انقطعت الخصومة.
وهذا من لطيف أحكام الخصومات؛ فإن الخصومة متعددة، ثم وقع الاكتفاء بانتهاء إحداهما نهايتها، وأغنت عن الأخرى، لمّا كان متعلّق الخصومتين متحداً، كما ذكرناه.
4819- هذا كله إذا لم يكن بينهما بيّنة. فأما إذا كان في الخصومة بينة، لم يخل إما أن يقيم أحدهما بينة، أو يقيم كل واحد منهما بينة، فإن انفرد أحدهما بالبيّنة، فشهدت على تقدم شرائه على شراء صاحبه، قضي له بالشفعة.
وإن أقاما بينتين، فقد تقومان من غير تناقضٍ، فلا فائدة فيهما، وهو أن تشهد كل بينة أن هذا اشترى يوم الجمعة، ولم يتعرضا لتعيين الوقت، فلا أثر للبيّنتين؛ إذ ليس فيما جاءا به بيانٌ.
وإن شهدت كل بينةٍ أن تملك من يقيمها سابق على تملك الثاني، فهذا تناقض في المقصود، والأصح في مثل ذلك التهاترُ والتساقطُ، حتى نجعل كأنْ لا بينة، ونعود إلى فصل الخصومة بينهما من غير بينةٍ.
وللشافعي قول في استعمال بينتين. ثم في كيفية الاستعمال أقوال: أحدها: القرعة، والثاني: الوقف، والثالث: القسمة.
أما القسمة، فلا معنى لها؛ فإنا لو قسمنا كل شقص بينهما، عاد كلٌّ إلى النصف، وهو حيث يجري قول ضعيف، أما قول القرعة فجارٍ، وكذلك قول الوقف، وليس هذا وقفَ العقود، وإنما هو وقف حق التملك بالشفعة.
ونحن سنبين أن قول الوقف من أقوال الاستعمال قد لا يجريه بعض الأصحاب، إذا كان المدعى المتنازع بين الخصمين عقداً، بناء على أن العقود لا تحتمل الوقف.
وهذا فيه نظر.
ومما يطرأ علينا في تأليف الكلام اتصال أطرافه بأصول عظيمة، ومبنى الكتاب على طلب البيان، وهو غير ممكن في أطراف أصول، لم يجر لها ذكرٌ. فالوجه في مثل هذا الاقتصارُ على الإحالة على موضع الاستقصاء.
4820- ولو أقاما بينتين، فنصت كل بينة على وقت واحدٍ، وتبيّن وقوع الشراء منهما في ذلك الوقت، فليس هذا من تعارض البينتين، إنما يتعارضان إذا تعرضت كل واحدة لمقصود مقيمها، ومقصود كل واحدٍ من المدعيين في مسألتنا التقدم، وليس في البينة تعرض لذلك، فلا تهاتر، ولا تعارض، وإنما دقيقة الفصل في قبول البينتين، فقد قال الأكثرون: نقبلهما، وتسقط الشفعة من الجانبين؛ فإنه ثبت وقوع الملكين معاً، وإذا كان كذلك، فلا شفعة لواحد منهما.
ومن أصحابنا من قال: لم تقم بينة على وفق مراد مقيمها، فسقطت البينتان، وعاد الأمر إلى الخصومة من غير بيّنة، كما تقدم في صدر الفصل.
ووجه ما ذكره الأكثرون أن كل بينةٍ تنص على وقتٍ ليست فائدتها مأيوساً منها، فإن الأخرى قد يتأخر تاريخها، فإذا لم يتأخر تاريخ الثانية، أفادت دَفْعاً، وإن لم تُفد شُفعة.
4821- ثم ذكر المزني ما لو أقر البائع، وأنكر المشتري، وأخذ يفصل حكمَ الشفعة، وهذا مما مضى على الاستقصاء، فلا معنى لإعادته.
ثم قال: إذا كان في الشقص ثلاثة من الشفعاء، فشهد اثنان منهم أن الثالث عفا عن الشفعة، فإن عفَوَا عن الشفعة أوّلاً، وأظهرا عفوهما، ثم شهدا، قُبلت شهادتهما، وإن لم يقدما العفو، وشهدا على عفو الثالث، ردت شهادتهما؛ فإنّ مقتضى عفوِ الثالث لو ثبت، أن يأخذ نصيبه هذان اللذان شهدا، فهذه شهادة تضمنت جرّاً صريحاً.
ولو شهدا قبل العفو، ثم رددنا شهادتهما، فعفَوَا، فالشهادة المردودة لا تنقلبُ مقبولة، بطريان العفو. ولو أعادا تلك الشهادة بعد العفو، لم نقبلها؛ فإنا قد رددناها للتهمة، فلا نقبلها بوجهٍ. وقد مضى هذا في نظائرَ له فيما تقدم.
وممَّا ذكره المزني أنه إذا رأى شقصاً في يد إنسان، فقال: قد اشتريتَه من شريكي الغائب، وأقام عليه بيّنة. قال: يثبت حق الشفعة، وأبو حنيفة يقول بهذا، وإن منع القضاء على الغائب.
وذكر فصولاً تقدمت على الاستقصاء.
فصل:
قال المزني: "ولو شجه مُوضحة عمداً... إلى آخره".
4822- إذا شج رجل رجلاً شجة، لم يخل: إما أن تكون موجبةً للقود، وإما ألا تكون مُوجبة له، فإن كان لا توجب القود، وإنما توجب المال، فوقعت مصالحةٌ عن موجَب الشجة على شقصٍ، في مثله الشفعة، نظرنا في أرش الشجة، فإن كان أرشها من أحد النقدين والمقدار بيّنٌ، لا شك فيه، فالمصالحة صحيحة، وإذا صحت المصالحة، ترتب عليها استحقاق الشفعة، فيأخذ الشفيع الشقص بأرش الشجة.
وإن كان أرش الشجة من الإبل، فجرت المصالحة على شقصٍ، فإن لم يكن المتصالحان عالمين بما يعتبر في أرش تلك الجناية، في أسنان الإبل وصفاتها المرعية، في التغليظ والتخفيف، فالصلح باطلٌ.
وإن كانا عالمين بما يقتضيه الشرع من السن والصفة والمقدار، ففي صحة الصلح وجهان مشهوران:
أحدهما: أنه لا يصح؛ لأن المذكور في أروش الجناياتِ، وفي الديات الأسنانُ وطرف من رعاية نوع الإبل في كل قبيلة، ولا يقع الاكتفاء بهذا في إعلام الأعواض.
والثاني: يصح الصلح؛ فإن ما اقتضاه الشرع إعلامٌ على الجملة، وليس الأرش في حكم المصالحة واجبَ الاستيفاء، بل الغرض سقوطه إلى البدل المذكور على الإعلام المشروط، وقد تكرر هذا في مواضع.
فإن حكمنا بفساد الصلح، فلا شفعة، وإن حكمنا بصحة الصلح، ففي ثبوت الشفعة وجهان:
أحدهما: أن الشفعة تثبت بناءً على صحة الصلح.
والثاني: لا تثبت؛ فإن الأرش ساقط في الصلح مستوفىً من الشفيع، واستيفاء المجهول عسر، وقد ذكرنا أن الشفعة لا تثبت مع جهالة العوض في ظاهر المذهب؛ فإن أسقطنا الشفعة، فلا كلام، وأن أثبتناها، أخذ الشفيع الشقص بقيمة الإبل الثابتة أرشاً، ثم السبيل في قيمتها النزول على قيمة ما يجزىء في الدية، وليس يخفى على الفقيه ما يجزىء في الدية. وإلى هذه القيمة نصير عند إعواز الإبل.
فإن قيل: أليس ذكرتم قولاً أن البدل عند إعواز الإبل مقدّر شرعاً، فهلا رجعتم إليه في حق الشفيع؟ قلنا: تقديرات الشرع في الديات، لا تتبع في أحكام المعاوضات، فليس إلا ما ذكرناه في اعتبار القيمة.
4823- وكل هذا إذا كانت الشجة أو غيرها من الجناية موجبة للمال، فأما إذا كانت موجبةً للقصاص، وأرش مثلها من الإبل إذا لم يثبت القصاص، فإذا جرت مصالحة، تفرع ذلك على القولين في موجب العمد: فإن قلنا: موجبه المال أو القود، ففي صحة المصالحة الوجهان المذكوران في الجناية المالية؛ فإن الصلح بمحض المال، فيقع الصلح عن المال. ثم يعود الترتيب بسبب جهالة الإبل.
فأما إذا قلنا: موجب العمد القودُ المحض، فعلى هذا القول قولان في أن مطلق العفو هل يتضمن ثبوت المال، فإن قلنا: مطلَقه، يثبت المال، فالمصالحة تقع عن المال، ويخرج الوجهان كما تقدم. وإن قلنا: مطلق العفو لا يتضمن المالَ، فقد ذكر أصحابنا طريقين: منهم من قال: يقطع بصحة الصلح؛ فإن عوض الصلح القصاص، وهو معلوم، ومنهم من خرّج صحة الصلح على الوجهين، واحتج بفقةٍ لا يدفع، وهو أن الصلح على مالٍ عفوٌ عن القصاص على مال، فلئن كان يظن ظان أن العفو المطلق لا يوجب المال، فالصلح على مالٍ عفوٌ على مال.
ويلزم في ترتيب المذهب ردُّ الأمر إلى الخلاف في صحة الصلح وفساده.
وهذا ينشأ عندي من أصلٍ، وهو أنا إذا قلنا: موجَب العمد القودُ المحضُ، فلو صالح عن القتل على مائتين من الإبل، فقد اختلف الأصحاب في صحة المصالحة، وحقيقة الاختلاف راجع إلى أن هذا بدلُ القصاص أو بدلُ المال الذي يتضمنه سقوطُ القصاص؟ فإن قلنا: إنه بدلُ القصاص، صح بالغاً ما بلغ، وإن قلنا: إنه بدلُ المال، فمقابلة مائةٍ من الإبل بمائتين مع التساوي في الصفة محالٌ.
فنقول: إن جعلنا القصاص بدلاً، فالوجه القطع بصحة المصالحة، وإن جعلنا البدل ما يتضمنه سقوط القصاص، فالصلح واقع على الأرش، فيخرّج على الخلاف.
وإن قلنا: موجب العمد أحدهما، فلا خلاف أن المرعي معنى المال، ثم وإن قطعنا بصحة الصلح، ففي الشفعة خلاف؛ من جهة أن الشفيع يأخذ الشقص، بالأرش لا محالة، وفي الأرش من الجهالة ما قدمناه.
فصل:
ثم قال المزني: "لو اشترى ذمي من ذمي شقصاً بخمرٍ... إلى آخره".
4824- الشقص المشترى بالخمر لا يؤخذ بالشفعة؛ فإن الشراء فاسد، ولو فرض دوران العقد بين ذميين، وكان طالب الشفعة مسلماً، فلا شفعة له، ولو كان الطالب ذمياً، وارتفع إلى مجلسنا، ورضي بحكمنا، فلا نحكم له بالشفعة، بل نقضي بسقوطها؛ فإنا لا نحكم إلا بما يوافق الدين. وإن تبايعوا فيما بين أظهرهم، أعرضنا عنهم، وذلك متاركةً، وليس حكماً بتصحيح العقد، ولو جاءنا الذمي بدراهم ليوفيها في جزية أو معاملة جرت له، وذكر أن تيك الدراهم أخذها من ثمن خمرٍ أو خنزير، وربما يتحقق ذلك، ففي جواز أخذ تلك الدراهم منه وجهان مشهوران:
أحدهما: لا نأخذها؛ لأنها ثمن خمر، والثاني لا نبالي بما كان منه، وإنما ننظر إلى الدراهم الحاصلة في أيديهم.
وسيأتي جوامع أحكامهم في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل.
4825- ثم قال المزني: "ولا فرق بين المسلم والذمي" أراد بذلك أن المسلم كالذمي في استحقاق الشفعة، إذا استجمع أوصافها، وفي استحقاق الشفعة عليه، وقصد بهذا، قَطْع الوهم، حتى لا يظن ظان أن استحقاق الشفعة يختص به المسلم؛ من حيث إنه ملك قهري، والذمي لا يكون من أهل ذلك، فقطع هذا الخيال وأبان التسويةَ، ثم جرى رضي الله عنه على أن ما لا يقبل القسمة، لا تجري فيه الشفعة، وقدم عليه أن الشفعة لا تثبت في بيع بعض العبدِ ورام بهذا أن يبيّن أن استحقاق الشفعة لا يتعلق بكل شائع.
وقد نجزت المسائل المنصوصة في الباب، ونحن نرسم بعدها مسائل وفروعاً.
فرع:
4826- إذا باع المريض في مرض موته شقصاً مشفوعاً بألفٍ، وهو يساوي ألفين، والشفيع وارثُ المريض، فهذه المسألة ردد ابن سُريج فيها أجوبتَه، وحاصل ما ذكره أربعة أوجه، وزاد الأصحاب بعده وجهاًً خامساً، ونحن نذكرها على وجوهها بعد أن ننبه على الإشكال فيها.
لو أثبتنا الشفعة للوارث، لكان ذلك محاباة في مرض الموت معه، ولا يُنجي من هذا المصيرُ إلى أن الوارث يتلقى الملك من المشتري؛ فإنه إذا كان يتوصل إلى الأخذ قهراً، فبيع الموروث يُثبت له حقَّ التملك قطعاً، من غير أن يتعلق باختيار متوسط.
هذا وجه.
ولو لم نثبت الشفعةَ، لكان خروجاً عن قاعدة الشفعة، ومذهبنا الخاص، من أن الشفيع يترتب أمرُه على المشتري، فاضطرب الأصحاب لما نبهنا عليه.
وذكر ابن سريج أربعة أوجه نأتي بها وِلاءً: أحدها: أن الشفيع يأخذ نصف الشقص بتمام الثمن، لتنتفي المحاباة والوصيةُ للوارث. فإن أبعد مبعدٌ هذا؛ من جهة تغيير الثمن عن وضعه، قلنا: نحن نقدر أعواضاً نعتقد أن العقود لا تقتضيها، ولذلك نثبت على الشفيع مهرَ مثل المنكوحة، إذا كان الشقص صداقاً، وبدَلَ الدم إذا كان الشقص عوضاًً عن المصالحة، وقيمةَ العبد المعيّن المسمى ثمناً، فليكن ما ذكرناه من هذا القبيل.
وهذا الوجه بعيدٌ؛ فإن مساقه أن نسلم للمشتري نصف الشقص من غير عوض، ولا محمل لهذا؛ فإن البيع بالمحاباة إن كان يشتمل على تبرع، فهو شائع، في العقد، وليس مضمونُ العقد بيعاًً وهبة.
والوجه الثاني- في الأصل- أن الشفيع إذا أراد الشفعة، فيصح البيع في نصف
الشقص بتمام الثمن، ويبطل البيع في النصف الثاني، ثم للمشتري الخيار لتبعض الصفقة عليه. فلو قال: أفسخ، وقال الشفيع: آخذ الشفعة، فأيهما أولى؟ فعلى وجهين ذكرنا نظيرهما في الرد بالعيب. ووجه هذا الوجه أن تقرير البيع على وجهه، غيرُ ممكنٍ لوصول المحاباة إلى الوارث، وتبقية شيء من المبيع موهوباً في يد المشتري بعيدٌ جداً، فلا وجه إلا التغيير الذي ذكرناه، وبناء التخيير عليه.
والوجه الثالث في أصل المسألة- أن البيع باطل، فإنا لو صححناه، لتقابل فيه أحكامٌ متضادة، لا سبيل إلى التزام شيء منها، فالوجه إبطال البيع، لتناقض مضمونه.
والوجه الرابع- أن البيع يصح، ويثبت، ولا شفعة؛ فإنا لو أثبتناها، لزم من إثباتها تصحيحُ الوصية لوارث، وإن غيرنا البيعَ عن مضمونه، كان تحكماً بما يخالف قياسَ الأصول، فأقرب الأمور قطعُ الشفعة.
هذه أجوبة ابن سريج.
والوجه الخامس بعدها- أن البيع يصح، ويأخذ الشفيع الشفعة، مع المحاباة، ولا يكون ذلك وصيةً لوارث؛ فإنه يتلقى الملكَ من المشتري، لا من البائع المحابي، فليأخذ الشقص بكماله بألفٍ.
وهذا قد يبتدره الكيّس، ويراه قياساً، ولكنه حسيكة في صدور الفقهاء، لما نبهنا عليه، من أن هذا إثباتُ محاباةٍ في حق الوارثِ، على قهرٍ، من غير أن يتعلق باختيار المتوسط في البين. وقول القائل: إنه يتلقَى من المشتري إنما يستقيم لو طلب خيارَ الشراء، وربط الأمر برضاه.
ومع هذا كلِّه أعدلُ الوجوه هذا الخامس، فليس فيه خروج عن قانون إلا ما ذكرناه من وصول المحاباة إليهِ، وسبيل الجواب عنه أن المحاباة تثبت في حق المشتري ثبوتاً معقولاً، ثم ابتنى عليه أخذ الشفيع، فإن لم يكن بد من احتمال شيءٍ في هذه المسألة الحائدة، فما ذكرناهُ أقرب محتمل. والعلم عند الله.
فرع:
4827- إذا شهد البائعُ على عفو الشفيع عن الشفعة، قال الأصحاب: إن كان ذلك قبل قبض الثمن، فلا تقبل شهادته؛ فإنه إذا لم يقبض الثمن يبقى له عُلقه في المبيع، وهو حق الرجوع عند تقدير الإفلاس.
ولو قبض الثمن، وشهد على العفو بعد ذلك، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: لا تقبل شهادته؛ فإنه يتوقع فيه تراد ورجوع إلى العين، بسببٍ من الأسباب. والوجه الثاني- أن شهادته مقبولة؛ فإن حكم العقد إذا انتهى إلى تقابل العوضين أنه بلغ غاية المقصود، فلا تعويل بعد ذلك على تقديراتٍ من طريق التوقع، وهذا التفصيل لصاحب التقريب.
فرع:
4828- إذا شهد شاهدان أن الشفيع أخذ الشقص بالشفعة، وكان الشقص في يد الشفيع، وشهد شاهدان أقامهما المشتري أن الشفيع عفا عن الشفعة، وأبطل حقه منها، فقد ذكر شيخي وجهين:
أحدهما: أن بينة الشفيع أولى؛ لمطابقتها ظاهر اليد.
والوجه الثاني- أن بينة المشتري أولى؛ فإنها تُثبت العفوَ، ولم يعارضها في مقصودها شيء، ومعارضتها-لو قدرت- نفيٌ، ولا شهادةَ على النفي، وسبيل امتحان ذلك أن الأخَذ بظاهر الشفعة ممكن مع تقدّم العفو سراً، بحيث اطلع عليهِ شاهدان.
وهذا الوجه، لا وجه غيره، وما سواه غير معتد به.
فرع:
4829- قال صاحب التقريب: إذا كان في يد العبد المأذونِ له في التجارة شقصٌ، فبيع الشقص الثاني، فأراد المأذون أخْذَه بالشفعة، وكانت التجارة تقتضي أخْذه، فله أن يأخذه، ولا حاجة إلى إذنٍ مجدد؛ إذ يعدُّ ذلك من التجارة.
ولو عفا السيد عن الشفعة، سقطت الشفعة؛ فإن الحق في الحقيقة له، وسواءٌ كان على العبد ديون، أو لم يكن؛ فإن الشفعة تسقط بإسقاط المولى.
وإنما قلنا ذلك؛ لأن الشفعة حق اعتياض، وللسيد منع عبده من الاعتياض في المستقبل؛ إذ لو نهاه عن التصرف، لصار محجوراً عليهِ، وإن كان عليه ديون، ولو أقدم على التصرف، لاستفاد ربحاً في غالب الظن، ولكن لا نظر إلى هذا.
وليس كذلك لو أراد أن يتبرَّع بشيء ممّا في يد المأذون، وقد أحاطت به الديون؛ فإنه تبرعٌ بعين مالٍ تعلقت به ديون، والشفعة ليست عينَ مالٍ، وإنما هي حيث تثبت استحقاقُ اعتياض. وقد ذكرنا أن العبد لا يستحق ذلك أبداً، لا لنفسه ولا بسبب غرمائه.
فإن قيل: أليست الشفعة موروثة كحق الرد بالعيب، ثم المولى بعد إحاطة الديون بالعبد، لو أراد الرضا بالعيب، فقد لا يكون له ذلك على الإطلاق.
قلنا: أمّا جريان الإرث في الشفعة، فلا متعلق فيه مع إجرائنا الإرث في خيار الشرط، وغيره من حقوق العقد، وأما الرد بالعيب، فقد فصلنا القول فيه في عهدة المأذون، وبالجملة إن كان عفو السيد متضمناً احتمالَ حطيطةٍ وغبينة، فعفوه مردود، إذا كان لا يبذل للغرماء مثل ما يحط. وقد مضى في مسائل المأذون.
فرع:
4830- الشريك إذا وجد الشقص المشفوع الذي كان لشريكه في يد إنسان، فقال صاحب اليد: قد اشتريت هذا الشقص، من فلان الغائب، وسمى شريكه، فذكر صاحب التقريب فيه قولين عن ابن سريج:
أحدهما: أن الشفيع يأخذ الشقص بالشفعة، بناء على إقرار صاحب اليد، ثم الغائب إذا رجع، فهو على حجته إن أنكر، وجحد.
والقول الثاني- أنه لا يأخذ الشقص من المُقر؛ فإنه أسند البيع إلى غائبٍ، ولكن القاضي يكتب إلى البلدة التي بها البائع، ويبحث عن إقراره، فإن أقر، وثبت ذلك عنده بطريق ثبوت الأقارير في مجالس القضاة، أثبت الشفعة، وإن لم يثبت، توقف، وقرر الشقص موقوفاً، إلى أن يبين الأمر.
وهذا التردد الذي ذكره ابنُ سريج خصصه بالشفعة، ولم يصر أصلاً إلى إزالة يد من يدعي الشراء، ولا يجوز أن يكون في هذا خلاف؛ فإن الأيدي نراها تتبدل، ولا نتعرض لها، ثم كما لا نتعرض لأصحاب الأيدي كذلك لا نتعرض لانتفاعهم بما في أيديهم. وهذا أصل لا نصادمه، وهو مجمع عليه، ولا هجوم على مواقع الإجماع.
نعم، لو اعترف صاحب اليد بالشراء، ثم أراد أن يبيع ما ادعى شراءه، ففي بيعه، وهبته، ورهنه، وتصرفاته المستدعية حقيقة ملكه التردُّدُ الذي ذكره ابن سريج.
والوجه القطع بإثبات حق الشفعة بناء على ظاهر اليد في الحال، ورفعاً للخيال الذي أبداه.
ثم فرع الأصحاب على ما ذكره ابن سريج، فقالوا: إن قلنا: يأخذ الشفيع الشقص، قهراً، فلا كلام، وإن قلنا: لا يأخذه قهراً، فلو سلم صاحب اليد إلى الشفيع طوعاً، ففيه جوابان:
أحدهما: وهو الذي قطع به صاحب التقريب أنا لا نتعرض لهذا إن جرى، وإنما ثبوت التردد في فرض الطلب القهري.
والثاني: وهو الذي قطع به العراقيون أنه لا يجوز للشفيع أخذه أصلاً، على هذا القول لابن سريج، وإن طاوعه صاحب اليد، ولم يمتنع عليه.
وبالجملة إن كان لهذا القول ثبات، فلا معنى للفصل بين الطوع وبين القهر، فإن المرعي حق ذلك الغائب، وهذا لا يختلف، بأن يتطابق الشفيع والمشتري، أو يتمانعا.
فرع:
4831- قال صاحب التقريب: إذا اشترى الرجل شقصاً رآه، ولكن الشفيع لم يره، فيثبت حق الشفعة للشفيع، وإن منعنا بيعَ ما لم يره المشتري؛ فإن حق الشفعة يثبت قهراً. والحقوق القهرية لا تستدعي ما يستدعيه إنشاء العقد، كالإرث وغيره.
ثم إذا منعنا بيعَ الغائب، فالشفيع لا يأخذ الشقص حتى يراه. ولو بذل الثمن، لم يملكه؛ إذ هو مختار في التملك، وإنّما حظ القهر في أصل حق الشفعة، فقد ثبت حق الشفعة لما قدمناه، ولكن لا يجري الملك إلا على شرط العقد الذي ينشأ، وليس للمشتري أن يمنعه من الرؤية؛ فإنه قد ثبت له حق الشفعة.
هذا إذا قلنا: لا يصح بيع الغائب.
فأما إذا قلنا: يصح بيع الغائب، فإنه يملك الشقص ببذل الثمن، ثم يكون على خيار الرؤية، على هذا القول، أم كيف السبيل؟ خرّج أصحابنا هذا على الخلاف المقدم في خيار المكان، وهذا غير سديدٍ، والوجه القطع بثبوت خيار الرؤية للشفيع، إذا ملكناه قبل الرؤية؛ فإن المانع من إثبات خيار المجلس له عند بعض الأصحاب بُعْدُ ثبوتِ خيار المجلس من أحد الجانبين دون الثاني. وهذا المعنى غير مرعي في خيار الرؤية.
ويجوز أن يقال: يملك الشفيع الشقص قبل الرؤية، وإن منعنا بيع الغائب، حتى نقول: إذا بذل الثمنَ، ملك، قولاً واحداً؛ فإن ملكه يستند إلى قهرٍ، وليس فيه عقدٌ منشأ. وهذا يقرب من الخلاف في أن بيع الشفيع بعد بذل الثمن للشقص القائم في يد المشتري هل ينفذ أم يمتنع ذلك، امتناعَ بيع المبيع قبل القبض؟ وفي هذا اختلافٌ قدمناه.
ثم ذكر صاحب التقريب أن المشتري لو قال: لا أمكنك من قبض المبيع من غير رؤيةٍ، وإن جاز بيع الغائب؛ فإنك لو قبضته كنتَ على خيار الرؤية، ولم أكن واثقاً بالثمن الذي تبذله. قال: إنه يجاب إلى هذا، ويسوغ له أن يمتنع من إقباض الشفيع حتى يراه.
هكذا قال، وفيه احتمال ظاهر.
ولو فرض في الشقص عيب وكان المشتري يمنع من تسليمه حتى يطّلع الشفيع عليه، فلا معنى لهذا؛ فإن ذكر العيب كافٍ في ذلك، ولا يسد مسدَّ الرؤية المرعيّة ذكرٌ وإعلام.
فرع:
4832- إذا ثبتت الشفعة للشفيع، وعلم به، ثم إنه باع الشقص الذي به استحق الشفعة، قبل أن يستقر ملكه في الشقص المشفوع، فلا شك أن حقه يبطل من الشفعة.
وهذا يحسن تصويره على قولنا: ليس حق الشفعة على الفور، وهذا يناظر ما لو علمت الأمة بأنها عَتَقت تحت زوجها القِنّ، وعلمت ثبوتَ الخيار لها، وقلنا: إن حقها في الفسخ على التراخي، فأخرت حتى عَتَق الزوج، فلا خيار لها.
ولو باع الشفيع الشقص ولم يشعر بثبوت الشفعة، ثم علم أن الشفعةَ كانت ثابتةً وقت بيعه ملكَه، ففي ثبوت الشفعة قولان مشهوران.
وحيث قلنا: تبطل الشفعة لو باع جميع الشقص، فلو باع بعضه، فكيف حكمه؟ ذكر الشيخ أبو علي والعراقيون وجهين:
أحدهما: أن الشفعة تبطل، وتكون كما لو عفا عن بعض الشفعة، وظاهر المذهب البطلان في الجميع لو فعل ذلك، فبيع البعض إذاً بمثابة العفو عن بعض الشفعة عند هذا القائل.
والثاني: لا تبطل شفعته أصلاً؛ فإنه قد بقي من ملكه القدرُ الذي لو لم يملك في الابتداء غيرَه لاستحق الشقص بكمالهِ.
فرع:
4833- إذا وهب لعبده شقصاً من دارٍ، وقلنا: إن العبد يملك بالتمليك، فإذا باع الشقص الثاني، قال شيخي: تثبت الشفعة على الجملة. وهذا فيه احتمال ظاهر؛ من قبل أن ملك العبد ضعيف، والشفعة لا تستحق بالملك الضعيف عند كثيرٍ من أصحابنا. ثم قال رضي الله عنه: إذا ثبتت الشفعة هل يحتاج العبد في أخذ الشفعة إلى إذن جديدٍ من جهة السيد؟ فعلى وجهين حكاهما:
أحدهما: لابد من إذن، وهو القياس؛ فإن العبد، وإن قلنا: إنه يملك، فإنه لا يستبد بالتصرف، فيما ملّكه مولاه.
فرع:
4834- قال شيخي رضي الله عنه: إذا شهد سيد المكاتب على شقصٍ فيه شفعة لمكاتَبه، تُقبل شهادته.
وهذا أراه هفوةً غيرَ معتد بها؛ فإن شهادة السيد لمكاتَبه لا تُقبل. ولكن لعله أراد إذا ادعى المشتري الشراء، فجُحد، فأقام سيدَ المكاتب شاهداً، والغرض إثبات الشراء، وليس الشراء في المرتبة الأولى حق المكاتب، ففي ثبوت الشراء على هذا الوجه احتمال. ثم إن أثبتناه، لم يمتنع ترتب الشفعة عليه تبعاًً، ولا ينبغي أن يشك أنه أراد رحمة الله عليهِ غيرَ هذا.
ثم إن ثبتت الشفعة على طريق التبعية، كان ذلك شبيهاً بقضائنا بعيدِ شوَّال عند بعض الأصحاب، بناء على شهادة شاهدٍ واحدٍ على هلال رمضان-إذا رأينا قبول شهادة الشاهد الواحد- ثم استكملنا بعد ذلك العدة ثلاثين، فأصل الشراء يظهر فيه قبول شهادة السيد لمن يدعي الشراء. وفيه احتمال. وإن أثبتنا، فيظهر انتفاء الشفعة للمكاتب.
فأما إذا ادعى المكاتب شراءً في شقصٍ هو فيه شفيع، وغرضه إثبات الشفعة، فالسيد لا يشهد في مثل هذه الخصومة قط، وما ذكرناه في السيد والمكاتب، يجري في الوالد والولد، على الترتيب الذي طردناه.
فرع:
4835- المقارض إذا اشترى شقصاً بمال القراض، ولم يظهر بعدُ في المال ربحٌ، ولرب المال شقصٌ في تلك الدار، ليس من مال القراض. قال ابن سريج فيما نقله القفال عنه: لرب المال أخذ الشقص بالشفعة، قال القفال: هذا غلط؛ فإن الملك في المشترى لرب المال، وإذا وقع الشقص ملكاًً، فيستحيل، أن يأخذه بالشفعة لنفسه عن نفسه.
وهذا لم أره محكياً عن ابن سريج في التقريب وغيره من مبسوطات المذهب، وإنما كان يحكيه شيخي عن شيخه. ولعل الذي حمل ابنَ سريج على ما قاله أن مال القراض مستحَق البيع؛ إذ للمقارض أن ينضَّه بالبيع، على ما سيأتي تمهيد ذلك في كتاب القراض، إن شاء الله عز وجل. فرب المال يُثبت ملكَ نفسه بحق الشفعة، ويقطع حق العامل في التسلط على البيع.
وهذا يضاهي ما لو اشترى أحدُ الشركاء نصيبَ شريكه، فللذي لم يشترِ حقٌّ الشفعة، ثم المشتري يقول له: أنا أُثبت بشرْكي القديم الملكَ في قسطٍ مما اشتريتُه، كما تأخذ أنت قسطاً منه. وإذا كانت الشفعة تقوى على جلب ملك؛ فإنه لا يبعد أن تقوى على إثباتِ الملك وتقريره.
وهذا تكلّف. والصحيح نفي الشفعة. ثم إذا نفيناها، كان الشقص كسائر أموال القراض.
فرع:
4836- إذا اشترى شقصاً من أرضٍ، فزرعها. وتصوير الزراعة كتصوير البناء، فإذا أراد الشفيع أخذ الشفعة، فله ذلك. قال صاحب التقريب: للشفيع تأخير الشفعة-وإن فرعنا على الفور- حتى يُحصدَ الزرع؛ فإنه لا ينتفع بالأرض مزروعة، ولا سبيل إلى قلع الزرع، فلو وفر الثمن، لكان باذلاً عوضاً في مقابلة ما لا ينتفع به.
فأمّا إذا كان بالشقص أشجار مثمرة، وكانت المسألة مصورة حيث لا يستحق الشفيع الثمار، فلو أخّر الأخذ بالشفعة إلى قطاف الثمار، فهل يبطل حقه على قولِ الفور؟ فعلى وجهين:
أحدهما: لا يبطل حقه بالتأخير، كما تقدم في الأرض المزروعة.
والثاني: يبطل حقه بالتأخير؛ لأن الثمار لا تحجزه من الانتفاع بخلاف الزرع، والقائل الأول يقول: صاحب الثمار يدخل البستان لتعهد الثمار، فيتبعض الانتفاع. هذا كلام صاحب التقريب.
والوجه في مسألة الزرع أن يعجِّل طلبَ الشفعة، ثم يُعذر في تأخير توفير الثمن.
هذا منقدح.
ويجوز أن يقال: يتعين تعجيل الطلب، وتوفير الثمن، وإن لم يفعل، بطل حقه.
كما فصلناه. ولا نظر إلى استئخار منفعته إذا كان يجري ملكه في رقبة الشقص.
والدليل عليه أن الشقص المشفوع لو فرض بيعه وسط الشتاء، حيث لا يفرض الانتفاع به، لفوات وقت الانتفاع، فلا يسوغ تأخير طلب الشفعة إلى أوان إمكان الانتفاع؛ فإن منع مانع هذا، على طريق صاحب التقريب، كان بعيداً.
فرع:
4837- مشتري الشقص لو أراد بيعه، نفذ منه بيعُه، لا نعرف في ذلك خلافاًً بين الأصحاب.
ثم الذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أن من اشترى شقصاً مشفوعاً وباعه، فالشفيع بالخيار إن أحب نقض بيع المشتري، وردّ الشقص إلى حكم البيع الأول، وأخذه بالثمن المسمى فيه.
هذا إذا لم يكن عفا عن حق الشفعة في العقد الأول. فإن كان عفا أو قصر، فبطل حقه، فيتجدد له حق الشفعة بسبب البيع الذي أنشأه المشتري.
هذا مذهب الجمهور.
وحكى طوائف عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: لا سبيل إلى نقض بيع المشتري؛ فإن الأخذ بالشفعة ممكن بناءً على العقد الثاني، فلا معنى لإبطال تصرف المشتري، وجعل أبو إسحاق المنعَ من نقض بيعه بمثابة المنع من نقض بنائه مجاناً.
وهذا مزيف غيرُ سديدٍ؛ فإن في إلزام بيعه إبطالَ حق الشفعة في العقد الأول، وقد يظهر الغرض في الأخذ بموجَب العقد الأول.
ولو وهب المشتري الشقص، وأقبض، أو وقفه وقفاً حَقُّ مثله أن يلزم، فالذي ذهب إليه الجمهور أن الشفيع له أن يبطل هبته ووقفه، ليأخذ بموجب العقد الأول؛ فإن الهبة لا تُثبت حقَّ الشفعة، وكذلك الوقف.
وإذا فرعنا على مذهب المروزي، فقد اختلف أصحابنا على قياس مذهبه على وجهين: فمنهم من قال: تبطل الشفعة بالهبة، ولا سبيل إلى نقضها، فيصير هذا النوع من التصرف، قاطعاً لحق الشفعة.
ومنهم من قال: للشفيع إبطال هذا النوع بخلاف البيع؛ فإن البيع ليس قطعاً للشفعة، فإذا أمكن الجمع بين تقرير التصرف وإثبات الشفعة، تعيّن ذلك.
وليس كذلك الهبة، وما في معناها.
هذه هي الطريقة المشهورة التي رتبها الأئمة، في الطرق.
وذكر الشيخ أبو علي مسلكاً غريباً عن أبي إسحاق المروزي، لم أره لغيره، وهو أنه قال: إذا باع المشتري الشقص، نفذ البيع، وبطل حق الشفعة، ولا يتجدد للشفيع أخْذ الشفعة بالعقد الثاني.
وهذا لست أدري له وجهاً قريباً، ولا بعيداً؛ فإن البيع الثاني لو لم يجر غيرُه، لكان مثبتاً للشفعة، فلا معنى لإبطال الشفعة، والذي شبب به الشيخ أبو علي في توجيه ما نقله عن المروزي أن عقد المشتري إذا وجب تنفيذه وإلزامه، وامتنع نقضه، كان مبطلاً للشفعة، ويستحيل أن يثبت الشفعةَ ما يبطلها، وهذا كما أن من تحرم بالصلاة، ثم شك في صحة النيّة، فأتى بتكبيرةٍ تامةٍ مع النية، لم تنعقد الصلاة بها؛ لأن من ضرورة العقد الحل، وما يصلح للعقد لا يصلح للحل، ولا ثبات لمثل هذا الكلام، ولا تُتلقى حقوقُ الأملاك من أحكام النيات في العبادات.
فرع:
4838- إذا اشترى الرجل شقصاً، دونه شفيعان، فقد قدمنا أن ظاهر المذهب أنه إذا عفا أحدهما، أخذ الشفيع الثاني تمامَ الشقص، فإذا تجدد العهد بهذا، قال ابن الحداد بعده: لو ادعى المشتري على الشفيعين عفوهما عن الشفعة، فإن حلفا على نفي العفو، فهما على حقهما، وإن نكلا، رددنا اليمين على المشتري.
وإن حلف أحدهما، ونكل الثاني، فلا يرد اليمين على المشتري، فإنه لا يستفيد بيمين الرد شيئاً؛ إذ لو صح عفوُ أحد الشفيعين، لأخذ الثاني تمام الشقص.
وهذا الذي ذكره لطيف حسن، وهو من لطائف أحكام الخصومات؛ فإن دعواه تعلق بشخصين، ثم يتوقف رد اليمين على نكول الثاني، والسبب فيه ما نبهنا عليه.
ولو ادعى على أحدهما العفوَ، وصاحبه غائب، فأنكر، وِنكل عن اليمين، ففي رد اليمين على المشتري في هذه الحالة ترددٌ للأصحاب. فمنهم من قال: لا ترد اليمين، كما لو كانا حاضرين؛ فإن الرد يتوقف على نكولهما جميعاً. وهذا هو القياس، ومنهم من قال: ترد اليمين؛ فيثبت بها عفو الحاضر، ثم لا يمتنع أن يلحق الخصومات تغاييرُ من جهاتٍ. وإنما امتنعنا من الرد بنكول أحدهما عند حضورهما للتمكن من اختصار الخصومة، والوصول إلى الغرض منها.
وإذا نكل أحدهما من اليمين، وحلّفنا الثاني، فلو أراد الحالف أن يستبد بالشقص، لم يكن له ذلك؛ فإن العفو لم يثبت من صاحبه. ولو أثبتناه، لكان ذلك قضاءً بالنكول المجرّد. نعم، بين الشفيعين خصومة، فإن لم يتخاصما، فهما مشتركان في طلب الحق، وقسمة الشقص.
وإن ادعى من حلف على الناكل العفوَ، فإنا نحلفه الآن، ونكوله مع المشتري لا يمنعه من الحلف مع الشفيع، فإن حلف، فذاك. وإن نكل، ردت اليمين على الشفيع المدعي، فإن حلف، استبد بحق الشفعة، وأخذ الشقص بتمامه.
وفي كلام ابن الحداد اختلال في اللفظ، حمله الأصحاب على الغلط في المعنى، ونحن ننقله على وجهه.
لمَّا فرض دعوى المشتري على الشفيعين، وصوَّر نكول أحدهما عن اليمين، وقال: لا يحلف المشتري، بل يحلف الحاضر من الشفيعين، أن صاحبه عفا، ويأخذ جميع الشقص، وهذا في ظاهره يدل على أنه يملك أن يحلف من غير استفتاح دعوى وابتداء خصومة مع الناكل.
هذا ظاهر الكلام، وعليه حمل الأصحاب مذهب ابنِ الحداد، ثم غلطوه، وقالوا: كيف يحلف على العفو، وهو لم يدّع على صاحبه العفو، ولا يظن بابن الحداد أنه يثبت الحلف في حق الشفيع من غير دعوى واستئنافِ خصومة، وإنما أراد بتحليف الشفيع أن يحلف في أوان التحليف، ومن ضرورة ذلك أن يدعي ما ينبغي أن يحلف عليه، ثم لا يخفى حكم ابتداء الدعوى، وعرض اليمين مرة أخرى، كما ذكرناه.
ولست أشك أن ابن الحداد لم يُرد إلا ما قاله الأصحاب، ولكنه أوجز الكلام فيما لم يكن مقصوداً له. وقدْرُ غرضه ما ذكره من أن اليمين لا ترد على المشتري إذا نكل أحدهما، ثم جرى في كلامه أن الشفيع الثاني يأخذ، فقال: نعم، جميع الشقص إذا حلف. ولم يتعرض لتفصيل القول في وقت حلفه.
فرع:
4839- إذا مات رجل، وخلف داراً وابناً، وخلَّف من الدين مثلَ نصف قيمة الدار، فإذا بيع نصف الدار في الدَّيْن، فهل للابن أخْذ ما بيع بالملك الذي بقي في الدار؟ ترتيب المذهب فيه أن هذا يخرّج على أن الدَّيْن في التركة هل يمنع ثبوت الملك للوارث في عين التركة؟ فعلى قولين، سنذكرهما في الوصايا، إن شاء الله.
أصحهما-وهو الجديد- أن الملك يثبت للورثة، وإن كانت التركة مرتهنة بالدين. والمنصوص عليه في القديم أن الملك لا يثبت للورثة في جزءٍ من التركة، مع بقاء جزءٍ من الدين.
فإن قلنا: التركة ملك الورثة، فإذا بيع بعض الدار في الدين، فلا شفعة للابن الوارث. فإن الذي بيع من الدار كان ملكَه، ومَن بِيع جزءٌ من ملكه بحقٍّ، لم يملك استرجاعه بالشفعة. وإنما وضْعُ الشفعة على جلبِ ملك الغير.
وإن حكمنا بأن التركة ليست مملوكة للورثة مع الدين، وإنما هي مبقاة على ملك الميت، فالبيع يصادف ملك الميت. فهل تثبت الشفعة للوارث؟ هذا يترتب على أمرٍ، وهو أن الدين إذا كان ألفاً وقيمة الدار ألفان، فنقول: الباقي على ملك الميت مقدار الدين، أم جميع التركة، من غير نظر إلى مقدار الدين؟ وهذا مما اختلف الأصحاب فيه، وله أصل سيأتي إيضاحه، إن شاء الله في التركات، من كتاب الوصايا.
فإن قلنا: لا يملك الوارث شيئاًً من التركة؛ فلا شفعة في هذه الصورة أيضاً؛ فإن النصف الذي يبقى للورثة إنما يخلص له مع نفوذ البيع في النصف المبيع، وحق الشفعة إنما يستحق بملكٍ يتقدم على البيع الذي هو محل استحقاق الشفعة.
وإن قلنا: يبقى على ملك الميت من التركة مقدارُ الدين، ويثبت الإرث في الزائد عليه، فتثبت الشفعة للابن الوارث بسبب النصف الذي بقي له.
ولو كان للابن في هذه الدار شركٌ قديم، مثل أن كان الأب يملك فيها ثلثا، وكان للابن ثلثاها، وقيمة الثلثين ألفان، والدين ألف، فإذا فرض بيعُ بعض الدار في الدين، والتفريع على الجديد، فلا شفعة للوارث، فإن الذي بيع كان ملكاً للوارث على الجديد. وإن فرعنا على القديم، فيثبت حق الشفعة للابن بملكه القديم، من غير حاجة إلى تفصيل.
هذا هو المذهب.
وفي نقل الأصحاب كلامَ ابن الحداد خبطٌ وتخليط، لم أوثر ذكرَه؛ فإن الحق الذي لا محيد عنه ما ذكرناه، فما وافق ما قدمناه، فهو سديد، وما خالفه، فهو غلط غيرُ معتدٍّ به.
فرع:
4840- الوصي إذا باع شقصاً من دارٍ للطفل، وراعى شرطَ الغبطة، والمصلحةِ في بيع العقار، كما قدمناه في كتاب البيع. وكان للوصي شِرْكٌ في تلك الدار، فلو أراد أخْذَ ما باعه من ملك الطفل بحق الشفعة، قال الشيخ أبو علي: ليس للوصي ذلك. بإجماع الأصحاب، والسبب فيه أنه قد يتهم، فيقال: إنما باع ليأخذ، وهذا الباب محسوم، سواءٌ وافق الغبطة الظاهرة، أو لم يوافقها.
وإنما منعنا الوصي من بيع مال الطفل من نفسه، وتولِّي طرفي العقد؛ لأنه ليس متعلقاً بما يدل على الشفقة التامة، وتولي طرفي العقد يُشعر بالتهمة، فالمعنى الذي لأجله امتنع عليه بيعُ مال الطفل من نفسه، امتنع عليه أخذ ما يبيعه بالشفعة.
والأب لما تولى طرفي العقد، وملك أن يبيع مال الطفل من نفسه، فلا جرم لو باع الشقص من مال الطفل، وله شركٌ قديم، فله أخذه بالشفعة.
هذا ما حكاه الشيخ أبو علي. وقال: لو اشترى للطفل شقصاً من دارٍ، وكان له شرك قديم فيها، فله أخذ ما اشتراه بالشفعة، فإن هذا لا تهمة فيه؛ إذ هو المشتري له، وهو الآخذ، وكان يمكنه أن يشتري لنفسه، وكان لا يتمكن من بيع مال الطفل من نفسه.
وفي القلب شيء من إثبات الشفعة للوصيِّ في المسألة الأولى إذا تحققت الغبطة للطفل. وليس يكاد يخفى وجه الغبطة على أهل البصائر وامتناع تولّي طرفي العقد ليس مما يعلل.
وممَّا نقطع به أنه ليس معللاً في حق الأب بالشفقة فإن الوصي إذا نزل منزلة الأب في بيع أموال الطفل، فلا يبقى بعد ذلك مضطرب.
4841- ومما ذكره الشيخ أبو علي أن الرجل إذا وكل شريكه حتى باع شقصه من الدار، فهل لهذا الوكيل إذا نفذ البيع أن يأخذ بالشفعة ما باعه؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي:
أحدهما: ليس له أن يأخذه، كما ليس للوصي أخذ ما باعه من مال اليتيم.
والوجه الثاني- أن له أن يأخذه بملكه القديم؛ لأن الوصي هو الناظر في حق الطفل، ولا استقلال للطفل، فكان الوصي متهماً فيما يأخذه. والوكيل ليس ناظراً للموكل، وإنما يمتثل أمره، والموكل ينظر لنفسه، فلا موقع للتهمة هاهنا.
فرع:
4842- إذا ارتد أحد شركاء الدار، وقلنا الرّدّة تزيل ملكه حقيقة، ثم باع شريكه حصة نفسه في زمان ردته، فلا شفعة للمرتد؛ إذ لا ملك له، فلو عاد مسلماً، فلا شفعة له، وإن عاد ملكه؛ فإنه لم يكن له عند البيع ملك.
وبمثله لو ثبتت الشفعة للشريك أولاً، ثم ارتد، وقلنا: زال ملكه، فلو عاد هل تعود شفعته؟ قال الشيخ أبو علي: المسألة محتملة، والظاهر أن لا شفعة؛ فإنه لا يُعذر فيما جرى منه، من سبب زوال الملك. فالوجه انقطاع شفعته.
ووجه الاحتمال أنه لم يعتمد إزالة ملك نفسه، وإنما جرت عليهِ شقوتُه، فارتد.
وليس كالذي يزيل ملك نفسه بعد ثبوت الشفعة قصداً. والعلم عند الله تعالى.
فرع:
4843- لا يجوز أخذ العوض عن حق الشفعة في ظاهر المذهب. وقال الشيخ أبو إسحاق المروزي ثلاث مسائل أخالف فيها أصحابي: المصالحة عن حق الشفعة، وحدُّ القذف، ومقاعد الأسواق، منع أصحابي أخذَ العوض عن هذه الأشياء، وأنا أجوّز أخذ العوض عنها.
فإذا فرعنا على ظاهر المذهب وقلنا: لا يحل أخذ العوض عن حق الشفعة، فلو أخذه، ثم تبين لهْ، واستُرِدَّ العوض، وكان أخذه على ظن أنه يحل، فهل يبطل حقه من الشفعة؟ أم هو على حقه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، وليس يخفى نظائرهما وتوجيههما.
فرع:
4844-إذا جاء الشفيع على قول الفور، وقال: لقد اشتريتَه رخيصاً، وأنا أطلب الشفعة، قال الأصحاب: يجب أن تبطل الشفعة على قول الفور؛ لأن الذي جاء به فصول، وهذا متجه. ولو قال: بكم اشتريتَ؟ قال الأصحاب: بطل حقه؛ لأنه لم يبادر الطلب.
قال القاضي: الذي عندي أنه لا يبطل حقه بالبحث عن مقدار الثمن؛ لأن الجهل به يمنعه من الأخذ، والبحث عن المقدار إزالة للجهل المانع من الأخذ. وقد ذكرت هذا التردد فيما تقدم، وإنما أعدته لمصير القاضي إليه.
فصل:
4845- يجمع مسالك تُعسِّر الشفعةَ على الشفيع، وقد ذكر الأصحاب منها جملاً: أحدها: أن يبيع الشقصَ بأضعاف ثمنه دنانير مثلاً، ثم يأخذ عَرْضاً قيمته مثل ثمن الشقص، أو أقل عن الثمن المسمى، فلا يرغب الشفيع في الشفعة؛ لأنه لو رغب فيها، لأخذ الشقص بالثمن المسمى أوّلاً. وهذا وإن كان يعسّر الشفعة، ففيه تغرير؛ لأن البائع إذا التزم له المشتري الثمن ربما لا يرضى بالعَرْض الذي قيمته دون ذلك المبلغ.
ومن الحيل أن يقع بيع الشقص بأضعاف الثمن، ثم يحط البائع بعد لزوم العقد عن المشتري ما يزيد على ثمن المثل، فالشفيع لو أخذ بالثمن الأول؛ فإن الحط لا يلحق الشفيع. وفيه أيضاً تغرير؛ فإن المشتري إذا التزم للبائع الثمن العظيم، فربما لا يحط البائع بعد اللزوم.
ومن هذا القبيل أن يشتري عرْضاً قيمته مائة بمائتين، ثم يعطيه عن المائتين الشقص الذي قيمته مائة. وفيه غرر؛ لأنه ربما لا يرضى بالشقص بدلاً عن المائتين.
ومن الحيل أن يهب تسعة أعشار الشقص مثلاً من إنسان، ويبرم الهبة، ثم يبيع العشر بثمن الشقص، فلا يرغب الشفيع؛ لأن الموهوب لا شفعة فيه، والمبيع منه ثمنه مضعّف، ويشارك فيه المتهب، لتقدم ملكه في التسعة الأعشار، وليس يخلو هذا عن الغرر من الجانبين، مع أن الهبة مفصلة، كما سيأتي ذكرها، فمنها ما يقتضي الثواب، وهذا سهل المُدْرك، فإن تعريتها عن الثواب ممكن.
ومن أسباب التعسير اعتماد جعل الثمن مجهول المقدار، مشاراً إليه، وقد أوضحنا أن الأخذ بالشفعة مع جهالة الثمن غير ممكن، فهذا وما في معناه يتضمن تعقيد الأمر على الشفيع.